إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رجال حول الرسول

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #46
    سعد بن عبادة

    حامل راية الأنصار



    لا يذكر سعد بن معاذ الا ويذكر معه سعد بن عبادة..

    فالاثنان زعيما أهل المدينة..

    سعد بن معاذ زعيم الأوس..

    وسعد بن عبادة زعيم الخزرج..

    وكلاهما أسلم مبكرا, وشهد بيعة العقبة, وعاش الى جوار رسول الله صلى اله عليه وسلم جنديا مطيعا, ومؤمنا صدوقا..

    ولعلّ سعد بن عبادة ينفرد بين الأنصار جميعا بأنه حمل نصيبه من تعذيب قريش الذي كانت تنزله بالمسلمين في مكة..!!

    لقد كان طبيعيا أن تنال قريش بعذابها أولئك الذين يعيشون بين ظهرانيها, ويقطنون مكة..

    أما أن يتعرض لهذا العذاب رجل من المدينة.. وهو ليس بمجرد رجل.. بل زعيم كبير من زعمائها وساداتها, فتلك ميّزة قدّر لابن عبادة أن ينفرد بها..

    وذلك بعد أن تمت بيعة العقبة سرا, وأصبح الأنصار يتهيئون للسفر, علمت قريش بما كان من مبايعة الأنصار واتفاقهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم الى الهجرة الى المدينة حيث يقفون معه ومن ورائه ضد قوى الشرك والظلام..

    وجنّ جنون قريش فراحت تطارد الركب المسافر حتى أدركت من رجاله سعد بن عبادة فأخذه المشركون, وربطوا يديه الى عنقه بشراك رحله وعادوا به الى مكة, حيث احتشدوا حوله يضربونه وينزلون به ما شاءوا من العذاب..!!

    أسعد بن عبادة يصنع به هذا..!؟

    زعيم المدينة, الذي طالما أجار مستجيرهم, وحمى تجارتهم, وأكرم وفادتهم حين يذهب منهم الى المدينة ذاهب..؟؟

    لقد كان الذين اعتقلوه, والذين ضربوه لا يعرفونه ولا يعرفون مكانته في قومه..

    ولكن, أتراهم كانوا تاركيه لو عرفوه..؟

    ألم ينالوا بتعذيبهم سادة مكة الذين أسلموا..؟؟

    ان قريشا في تلك الأيام كانت مجنونة, ترى كل مقدرات جاهليتها تتهيأ للسقوط تحت معاول الحق, فلم تعرف سوى اشفاء أحقادها نهجا وسبيلا..

    أحاط المشركون بسعد بن عبادة ضاربين ومعتدين..

    ولندع سعدا يحكي لنا بقيّة النبأ:

    ".. فوالله اني لفي أيديهم اذ طلع عليّ نفر من قريش, فيهم رجل وضيء, أبيض, شعشاع من الجرال..

    فقلت في نفسي: ان يك عند أحد من القوم خير, فعند هذا.

    فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة..

    فقلت في نفسي: لا والله, ما عندهم بعد هذا من خير..!!

    فوالله اني لفي أيديهم يسحبونني اذ أوى اليّ رجل ممن كان معهم فقال: ويحك, اما بينك وبين أحد من قريش جوار..؟

    قلت: بلى.. كنت أجير لجبير بن مطعم تجارة, وأمنعهم ممن يريد ظلمهم ببلادي, وكنت أجير للحارث بن حرب بن أميّة..

    قال الرجل: فاهتف باسم الرجلين, واذكر ما بينك وبينهما من جوار, ففعات..

    وخرج الرجل اليهما, فأنبأهما أن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح, وهو يهتف باسميهما, ويذكر أن بينه وبينهما جوارا..

    فسألاه عن اسمي.. فقال سعد بن عبادة..

    فقالا: صدقا والله, وجاءا فخلصاني من أيديهم".



    غادر سعد بعد هذا العدوان الذي صادفه في أوانه ليعلم كم تتسلح قريش بالجريمة ضدّ قوم عزل, يدعون الى الخير, والحق والسلام..

    ولقد شحذ هذا العدوان, وقرر أن يتفانى في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, والأصحاب والاسلام..



    **



    ويهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة.. ويهاجر قبله أصحابه..

    وهناك سخّر سعد أمواله لخدمة المهاجرين..

    كان سعد جوادا بالفطرة وبالوراثة..

    فهو ابن عبادة بن دليم بن حارثة الذي كانت شهرة جوده في الجاهلية أوسع من كل شهرة..

    ولقد صار جود سعد في الاسلام آية من آيات ايمانه القوي الوثيق..

    قال الرواة عن جوده هذا:

    " كانت جفنة سعد تدور مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيوته جميعا"..

    وقالوا:

    " كان الرجل من الأنصار ينطلق الى داره, بالواحد من المهاجرين, أو بالاثنين, أو بالثلاثة.

    وكان سعد بن عبادة ينطلق بالثمانين"..!!

    من أجل هذا, كان سعد يسأل ربه دائما المزيد من خيره ورزقه..

    وكان يقول:

    " اللهم انه لا يصلحني القليل, ولا أصلح عليه"..!!

    ومن أجل هذا كان خليقا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له:

    " اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة"..



    **



    ولم يضع سعد ثروته وحدها في خدمة الاسلام الحنيف, بل وضع قوته ومهارته..

    فقد كان يجيد الرمي اجادة فائقة.. وفي غزواته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فدائيته حازمة وحاسمة.

    يقول ابن عباس رضي الله عنهما:

    " كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المواطن كلها رايتان..

    مع علي ابن أبي طالب راية المهاجرين..

    ومع سعد بن عبادة, راية الأنصار"..



    **



    ويبدو أن الشدّة كانت طابع هذه الشخصية القوية..

    فهو شديد في الحق..

    وشديد في تشبثه بما يرى لنفسه من حق..

    واذا اقتنع بأمر نهض لاعلانه في صراحة لا تعرف المداراة, وتصميم لا يعرف المسايرة..

    وهذه الشدة, أو هذا التطرّف, هو الذي دفع زعيم الأنصار الكبير الى مواقف كانت عليه أكثر مما كانت له..



    **



    فيوم فتح مكة, جعله الرسول صلى الله عليه وسلم أميرا على فيلق من جيوش المسلمين..

    ولم يكد يشارف أبواب البلد الحرام حتى صاح:

    " اليوم يوم الملحمة..

    اليوم تستحل الحرمة"..

    وسمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسارع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:

    " يا رسول الله..

    اسمع ما قال سعد بن عبادة..

    ما نأمن أن يكون له في قريش صولة"..

    فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليّا أن يدركه, ويأخذ الراية منه, ويتأمّر مكانه..

    ان سعدا حين رأى مكة مذعنة مستسلمة لجيش الاسلام الفاتح.. تذكّر كل صور العذاب الذي صبّته على المؤمنين, وعليه هو ذات يوم..
    وتذكر الحروب التي سنتها على قوم ودعاة.. كل ذنبهم أنهم يقولون: لا اله الا الله, فدفعته شدّته الى الشماتة بقريش وتوعدها يوم الفتح العظيم..



    **

    وهذه الشدة نفسها,أو قل هذا التطرّف الذي كان يشكل جزءا من طبيعة سعد هو الذي جعله يقف يوم السقيفة موقفه المعروف..

    فعلى أثر وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام, التف حوله جماعة من الأنصار في سقيفة بني ساعدة منادين بأن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار..

    كانت خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفا لذويه في الدنيا والآخرة..

    ومن ثم أراد هذا الفريق من الأنصار أن ينالوه ويظفروا به..

    ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلف أبا بكر على الصلاة أثناء مرضه, وفهم الصحابة من هذا الاستخلاف الذي كان مؤيدا بمظاهر أخرى أضفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أبي بكر.. ثاني اثنين اذ هما في الغار..

    نقول: فهموا أن أبا بكر أحق بالخلافة من سواه..

    وهكذا تزعّم عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الرأي واستمسك به في حين تزعم سعد بن عبادة رضي الله عنه, الرأي الآخر واستمسك به, مما جعل كثيرين من الصحابة رضي الله عنهم يأخذون عليه هذا الموقف الذي كان موضع رفضهم واستنكارهم..



    **



    ولكن سعد بن عبادة بموقفه هذا, كان يستجيب في صدق لطبيعته وسجاياه..

    فهو كما ذكرنا شديد التثبت باقتناعه, وممعن في الاصرار على صراحته ووضوحه..

    ويدلنا على هذه السجيّة فيه, موقفه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد غزوة حنين..

    فحين انتهى المسلمون من تلك الغزوة ظافرين, راح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوزع غنائمها على المسلمين.. واهتم يومئذ اهتماما خاصا بالمؤلفة قلوبهم, وهم أولئك الأشراف الذين دخلوا الاسلام من قريب, ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يساعدهم على أنفسهم بهذا التألف, كما أعطى ذوي الحاجة من المقاتلين.

    وأما أولو الاسلام المكين, فقد وكلهم الى اسلامهم, ولم يعطهم من غنائم هذه الغزوة شيئا..

    كان عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, مجرّد عطائه, شرفا يحرص عليه جميع الناس..

    وكانت غنائم الحرب قد أصبحت تشكّل دخلا هاما تقوم عليه معايش المسلمين..

    وهكذا تساءل الأنصار في مرارة: لماذا لم يعطهم رسول الله حظهم من الفيء والغنيمة..؟؟

    وقال شاعرهم حسان بن ثابت:

    وأت الرسول فقل يا خير مؤتمن

    للمؤمنين اذا ما عدّد البشر

    علام تدعى سليم, وهي نازحة

    قدّام قوم, هموا آووا وهم نصروا

    سمّاهم الله الأنصار بنصرهم

    دين الهدى, وعوان الحرب تستعر

    وسارعوا في سبيل الله واعترفوا

    للنائبات, وما جاموا وما ضجروا

    ففي هذه الأبيات عبّر شاعر الرسول والأنصار عن الحرج الذي أحسّه الأنصار, اذ أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة, ولم يعطهم شيئا.

    ورأى زعيم الأنصار سعد بن عبادة.. وسمع قومه يتهامس بعضهم بهذا الأمر, فلم يرضه هذا الموقف, واستجاب لطبيعته الواضحة المسفرة الصريحة, وذهب من فوره الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:

    " يا رسول الله..

    ان هذا الحيّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم, لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت..

    قسمت في قومك, وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب, ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء"..

    هكذا قال الرجل الواضح كل ما في نفسه, وكل ما في أنفس قومه.. وأعطى الرسول صورة أمينة عن الموقف..

    وسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    " وأين أنت من ذلك يا سعد"..؟؟

    أي اذا كان هذا رأي قومك, فما رايك أنت..؟؟

    فأجاب سعد بنفس الصراحة قائلا:

    " ما أنا الا من قومي"..

    هنالك قال له النبي:" اذن فاجمع لي قومك"..

    ولا بدّ لنا من أن نتابع القصة الى نهايتها, فان لها روعة لا تقاوم..!

    جمع سعد قومه من الأنصار..

    وجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتملّى وجوههم الآسية. وابتسم ابتسامة متألقة بعرفان جميلهم وتقدير صنيعهم..

    ثم قال:

    " يا معشر الأنصار..

    مقالة بلغتني عنكم, وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم..؟؟

    ألم آتكم ضلالا فهداكم الله..؟؟

    وعالة, فأغناكم الله..؟

    وأعداء, فألف الله بين قلوبكم..؟؟"

    قالوا:

    " بلى الله ورسوله أمنّ وأفضل..

    قال الرسول:

    ألا تجيبونني يا معشر الأنصار..؟

    قالوا:

    بم نجيبك يا رسول الله..؟؟

    لله ولرسوله المن والفضل..

    قال الرسول:

    أما والله لو شئتم لقلتم, فلصدقتم وصدّقتم:

    أتيتنا مكذوبا, فصدّقناك..

    ومخذولا, فنصرناك...

    وعائلا, فآسيناك..

    وطريدا, فآويناك..

    أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا, ووكلتم الى اسلامكم..؟؟

    ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير, وترجعوا أنتم برسول الله الى رحالكم..؟؟

    فوالذي نفسي بيده, لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار..

    ولو سلك الناس شعبا لسلكت شعب الأنصار..

    اللهم ارحم الأنصار..

    وأبناء الأنصار..

    وأبناء أبناء الأنصار"...!!

    هنالك بكى الأنصار حتى أخضلوا لحاهم.

    فقد ملأت كلمات الرسول الجليل العظيم أفئدتهم سلاما, وأرواحهم ثراء, وأنفسهم عافية..

    وصاحوا جميعا وسعد بن عبادة معهم:

    " رضينا برسول الله قسما وحظا"..



    **



    وفي الأيام الأولى من خلافة عمر ذهب سعد الى أمير المؤمنين, وبنفس صراحته المتطرفة قال له:

    " كان صاحبك أبو بكر,والله, أحب الينا منك..

    وقد ,والله, أصبحت كارها لجوارك"..!!

    وفي هدوء أجابه عمر:

    " ان من كره جوار جاره, تحوّل عنه"..

    وعاد سعد فقال:

    " اني متحوّل الى جوار من هو خير منك"..!!



    **



    ما كان سعد رضي الله عنه بكلماته هذه لأمير المؤمنين عمر ينفّس عن غيظ, أو يعبّر عن كراهية..

    فان من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا, لا يرفض الولاء لرجل مثل عمر, طالما رآه موضع تكريم الرسول وحبّه..

    انما أراد سعد وهو واحد من الأصحاب الذين نعتهم القرآن بأنهم رحماء بينهم..

    ألا ينتظر ظروفا, قد تطرأ بخلاف بينه وبين أمير المؤمنين, خلاف لا يريده, ولا يرضاه..



    **



    وشدّ رحاله الى الشام..

    وما كاد يبلغها وينزل أرض حوران حتى دعاه أجله, وأفضى الى جوار ربه الرحيم..
    إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
    نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
    جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

    تعليق


    • #47
      أسامة بن زيد

      الحبّ بن الحبّ



      جلس أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقسّم أموال بيت المال على المسلمين..

      وجاء دور عبدالله بن عمر, فأعطاه عمر نصيبه.

      ثم جاء دور أسامة بن زيد, فأعطاه عمر ضعف ما أعطى ولده عبدالله..

      وذا كان عمر يعطي الناس وفق فضلهم, وبلائهم في الاسلام, فقد خشي عبدالله بن عمر أن يكون مكانه في الاسلام آخرا, وهو الذي يرجو بطاعته, وبجهاده, وبزهده, وبورعه,أن يكون عند الله من السابقين..

      هنالك سأل أباه قائلا:" لقد فضّلت عليّ أسامة, وقد شهدت مع رسول الله ما لم يشهد"..؟

      فأجابه عمر:

      " ان أسامة كان أحبّ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك..

      وأبوه كان أحب الى رسول الله من أبيك"..!

      فمن هذا الذي بلغ هو وأبوه من قلب الرسول وحبه ما لم يبلغه ابن عمر, وما لم يبلغه عمر بذاته..؟؟

      انه أسامة بن زيد.

      كان لقبه بين الصحابة: الحبّ بن الحبّ..

      أبوه زيد بن حارثة خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي آثر الرسول على أبيه وأمه وأهله, والذي وقف به النبي على جموع أصحابه يقول:

      " أشهدكم أن زيدا هذا ابني, يرثني وأرثه"..

      وظل اسمه بين المسلمين زيد بن محمد حتى أبطل القرآن الكريم عادة التبنّي..

      أسامة هذا ابنه..

      وأمه هي أم أيمن, مولاة رسول الله وحاضنته,

      لم يكن شكله الخارجي يؤهله لشيء.. أي شيء..

      فهو كما يصفه الرواة والمؤرخون: أسود, أفطس..

      أجل.. بهاتين الكلمتين, لا أكثر يلخص التاريخ حديثه عن شكل أسامة..!!

      ولكن, متى كان الاسلام يعبأ بالأشكال الظاهرة للناس..؟

      متى.. ورسوله هو الذي يقول:

      " ألا ربّ أشعث, أغبر, ذي طمرين لا يؤبه له, لو أقسم على الله لأبرّه"..

      فلندع الشكل الخارجي لأسامة اذن..

      لندع بشرته السوداء, وأنفه الأفطس, فما هذا كله في ميزان الاسلام مكان..

      ولننظر ماذا كان في ولائه..؟ ماذا كان في افتدائه..؟ في عظمة نفسه, وامتلاء حياته..؟!

      لقد بلغ من ذلك كله المدى الذي هيأه لهذا الفيض من حب رسول الله عليه الصلاة والسلام وتقديره:

      " ان أسامة بن زيد لمن أحبّ الناس اليّ, واني لأرجو أن يكون من صالحيكم, فاستوصوا به خيرا".



      **



      كان أسامة رضي الله عنه مالكا لكل الصفات العظيمة التي تجعله قريبا من قلب الرسول.. وكبيرا في عينيه..

      فهو ابن مسلمين كريمين من أوائل المسلمين سبقا الى الاسلام, ومن أكثرهم ولاء للرسول وقربا منه.

      وهو من أبناء الاسلام الحنفاء الذين ولدوا فيه, وتلقوا رضعاتهم الأولى من فطرته النقية, دون أن يدركهم من غبار الجاهلية المظلمة شيء..



      وهو رضي الله عنه على حداثة سنه, مؤمن, صلب, ومسلم قوي, يحمل كل تبعات ايمانه ودينه, في ولاء مكين, وعزيمة قاهرة..
      وهو مفرط في ذكائه, مفرط في تواضعه, ليس لتفانيه في سبيل الله ورسوله حدود..

      ثم هو بعد هذا, يمثل في الدين الجديد, ضحايا الألوان الذين جاء الاسلام ليضع عنهم أوزار التفرقة وأوضارها..

      فهذا الأسود الأفطس يأخذ في قلب النبي, وفي صفوف المسلمين مكانا عليّا, لأن الدين الذي ارتضاه الله لعباده قد صحح معايير الآدمية والأفضلية بين الناس فقال:

      ( ان أكرمكم عند الله أتقاكم)..

      وهكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل مكة يوم الفتح العظيم ورديفه هذا الأسود الأفطس أسامة بن زيد..

      ثم رأيناه يدخل الكعبة في أكثر ساعات الاسلام روعة, وفوزا, وعن يمينه ويساره بلال, وأسامة.. رجلان تكسوهما البشرة السوداء الداكنة, ولكن كلمة الله التي يحملانها في قلبيهما الكبيرين قد أسبغت عليهما كل الشرف وكل الرفعة..



      **



      وفي سن مبكرة, لم تجاوز العشرين, أمر رسول الله أسامة بن زيد على جيش, بين أفراده وجنوده أبو بكر وعمر..!!

      وسرت همهمة بين نفر من المسلمين تعاظمهم الأمر, واستكثروا على الفتى الشاب, أسامة بن زيد, امارة جيش فيه شيوخ الأنصار وكبار المهاجرين..

      وبلغ همسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فصعد المنبر, وحمد الله وأثنى عليه, ثم قال:

      " ان بعض الناس يطعنون في امارة أسامة بن زيد..

      ولقد طعنوا في امارة أبيه من قبل..

      وان كان أبوه لخليقا للامارة..

      وان أسامة لخليق لها..

      وانه لمن أحبّ الناس اليّ بعد أبيه..

      واني لأرجو أن يكون من صالحيكم..

      فاستوصوا به خيرا"..

      وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتحرّك الجيش الى غايته ولكنه كان قد ترك وصيته الحكيمة لأصحابه:

      " أنفذوا بعث أسامة..

      أنفذوا بعث أسامة.."





      وهكذا قدّس الخليفة أبو بكر هذه الوصاة, وعلى الرغم من الظروف الجديدة التي خلفتها وفاة الرسول, فان الصدّيق أصرّ على انجاز وصيته وأمره, فتحرّك جيش أسامة الى غايته, بعد أن استأذنه الخليفة في أن يدع عمر ليبقى الى جواره في المدينة.

      وبينما كان امبراطور الروم هرقل, يتلقى خبر وفاة الرسول, تلقى في نفس الوقت خبر الجيش الذي يغير على تخوم الشام بقيادة أسامة بن زيد, فحيّره أن يكون المسلمون من القوة بحيث لا يؤثر موت رسولهم في خططهم ومقدرتهم.

      وهكذا انكمش الروم, ولم يعودوا يتخذون من حدود الشام نقط وثوب على مهد الاسلام في الجزيرة العربية.

      وعاد الجيش بلا ضحايا.. وقال عنه المسلمون يومئذ:

      " ما رأينا جيشا أسلم من جيش أسامة"..!!



      **



      وذات يوم تلقى أسامة من رسول الله درس حياته.. درسا بليغا, عاشه أسامة, وعاشته حياته كلها منذ غادرهم الرسول الى الرفيق الأعلى الى أن لقي أسامة ربه في أواخر خلافة معاوية.



      قبل وفاة الرسول بعامين بعثه عليه السلام أميرا على سريّة خرجت للقاء بعض المشركين الذين يناوئون الاسلام والمسلمين.

      وكانت تلك أول امارة يتولاها أسامة..

      ولقد أحرز في مهمته النجاح والفوز, وسبقته أنباء فوزه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرح بها وسر.



      ولنستمع الى أسامة يروي لنا بقية النبأ:

      ".. فاتيت النبي صلى الله عليه وسلم, وقد اتاه البشير بالفتح, فاذا هو متهلل وجهه.. فأدناني منه ثم قال:

      حدّثني..

      فجعلت أحدّثه.. وذكرت أنه لما انهزم القوم أدركت رجلا وأهويت اليه بالرمح, فقال لا اله الا الله فطعنته وقتلته.

      فتغيّر وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال:

      ويحك يا أسامة..!

      فكيف لك بلا اله الا الله..؟

      ويحك يا أسامة..

      فكيف لك بلا اله الا الله..؟

      فلم يزل يرددها عليّ حتى لوددت أني انسلخت من كل عمل عملته. واستقبلت الاسلام يومئذ من جديد.

      فلا والله لا أقاتل أحدا قال لا اله الا الله بعدما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم".



      **



      هذا هو الدرس العظيم الذي وجّه حياة أسامة الحبيب بن الحبيب منذ سمعه من رسول الله الى أن رحل عن الدينا راضيا مرضيّا.

      وانه لدرس بليغ.

      درس يكشف عن انسانية الرسول, وعدله, وسموّ مبادئه, وعظمة دينه وخلقه..

      فهذا الرجل الذي أسف النبي لمقتله, وأنكر على أسامة قتله, كان مشركا ومحاربا..

      وهو حين قال: لا اله الا الله.. قالها والسيف في يمينه, تتعلق به مزغ اللحم التي نهشها من أجساد المسلمين.. قالها لينجو بها من ضربة قاتلة, أو ليهيء لنفسه فرصة يغير فيها اتجاهه ثم يعاود القتال من جديد..

      ومع هذا, فلأنه قالها, وتحرّك بها لسانه, يصير دمه حراما وحياته آمنة, في نفس اللحظة, ولنفس السبب..!

      ووعى أسامة الدرس الى منتهاه..

      فاذا كان هذا الرجل, في هذا الموقف, ينهى الرسول عن قتله لمجرّد أنه قال: لا اله الا الله.. فكيف بالذين هم مؤمنون حقا, ومسلمون حقا..؟

      وهكذا رأيناه عندما نشبت الفتنة الكبرى بين الامام علي وأنصاره من جانب, ومعاوية وأنصاره من جانب آخر, يلتزم حيادا مطلقا.



      كان يحبّ عليّا أكثر الحب, وكان يبصر الحق الى جانبه.. ولكن كيف يقتل بسيفه مسلما يؤمن بالله وبرسله, وهو لذي لامه الرسول لقتله مشركا محاربا قال في لحظة انكساره وهروبه: لا اله الا الله..؟؟!!

      هنالك أرسل الى الامام علي رسالة قال فيها:

      " انك لو كنت في شدق الأسد,

      لأحببت أن أدخل معك فيه.

      ولكن هذا أمر لم أره"..!!

      ولزم داره طوال هذا النزاع وتلك الحروب..

      وحين جاءه بعض أصحابه يناقشونه في موقفه قال لهم:

      " لا أقاتل أحدا يقول لا اله الا الله أبدا".

      قال أحدهم له: ألم يقل الله: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)..؟؟

      فأجابهم أسامة قائلا:

      " أولئك هم المشركون, ولقد قاتلناهم حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله"..



      وفي العام الرابع والخمسين من الهجرة.. اشتاق أسامة للقاء الله, وتلملمت روحه بين جوانحه, تريد أن ترجع الى وطنها الأول..

      وتفتحت أبواب الجنان, لتستقبل واحدا من الأبرار المتقين.

      إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
      نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
      جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

      تعليق


      • #48
        عبدالرحمن بن أبي بكر

        بطل حتى النهاية



        هو صورة مبيّنة للخلق العربي بكل أعماقه, وأبعاده..

        فبينما كان أبوه أول المؤمنين.. والصدّيق الذي آمن برسوله ايمانا ليس من طراز سواه.. وثاني اثنين اذ هما في الغار..كان هو صامدا كالصخر مع دين قومه, وأصنام قريش.!!

        وفي غزوة بدر, خرج مقاتلا مع جيش المشركين..

        وفي غزوة أحد كان كذلك على رأس الرماة الذين جنّدتهم قريش لمعركتها مع المسلمين..

        وقبل أن يلتحم الجيشان, بدأت كالعادة جولة المبارزة..

        ووقف عبدالرحمن يدعو اليه من المسلمين من يبارزه..

        ونهض أبو أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه مندفعا نحوه ليبارزه, ولكن الرسول أمسك به وحال بينه وبين مبارزة ولده.



        **



        ان العربي الأصيل لا يميزه شيء مثلما يميزه ولاؤه المطلق لاقتناعه..

        اذا اقتنع بدين أو فكرة استعبده اقتناعه, ولم يعد للفكاك منه سبيل, اللهمّ الا اذا ازاحه عن مكانه اقتناع جديد يملأ عقله ونفسه بلا زيف, وبلا خداع.

        فعلى الرغم من اجلال عبدالرحمن أباه, وثقته الكاملة برجاحة عقله, وعظمة نفسه وخلقه, فان ولاءه لاقتناعه بقي فارضا سيادته عليه.

        ولم يغره اسلام أبيه باتباعه.

        وهكذا بقي واقفا مكانه, حاملا مسؤولية اقتناعه وعقيدته, يذود عن آلهة قريش, ويقاتل تحت لوائها قتال المؤمنين المستميتين..

        والأقوياء الأصلاء من هذا الطراز, لا يخفى عليهم الحق وان طال المدى..

        فأصالة جوهرهم, ونور وضوحهم, يهديانهم الى الصواب آخر الأمر, ويجمعانهم على الهدى والخير.

        ولقد دقت ساعة الأقدار يوما, معلنة ميلادا جديدا لعبدالرحمن بن أبي بكر الصدّيق..

        لقد أضاءت مصابيح الهدى نفسه فكنست منها كل ما ورثته الجاهلية من ظلام وزيف. ورأى الله الواحد الأحد في كل ما حوله من كائنات وأشياء, وغرست هداية الله ظلها في نفسه وروعه, فاذا هو من المسلمين..!

        ومن فوره نهض مسافرا الى رسول الله, أوّأبا الى دينه الحق.

        وتألق وجه أبي بكر تحت ضوء الغبطة وهو يبصر ولده يبايع رسول الله.

        لقد كان في كفره رجلا.. وها هو ذا يسلم اليوم اسلام الرجال. فلا طمع يدفعه, ولا خوف يسوقه. وانما هو اقتناع رشيد سديد أفاءته عليه هداية الله وتوفيقه.

        وانطلق عبدالرحمن يعوّض ما فاته ببذل أقصى الجهد في سبيل الله, ورسوله والمؤمنين...



        **



        في أيام الرسول عليه صلاة الله وسلامه, وفي أيام خلفائه من بعده, لم يتخلف عبدالرحمن عن غزو, ولم يقعد عن جهاد مشروع..

        ولقد كان له يوم اليمامة بلاء عظيم, وكان لثباته واستبساله دور كبير في كسب المعركة من جيش مسيلمة والمرتدين.. بل انه هو الذي أجهز على حياة محكم بن الطفيل, والذي كان العقل المدبر لمسيلمة, كما كان يحمي بقوته أهم مواطن الحصن الذي تحصّن جيش الردّة بداخله, فلما سقط محكم بضربة من عبدالرحمن, وتشتت الذين حوله, انفتح في الحصن مدخل واسع كبير تدفقت منه مقاتلة المسلمين..

        وازدادت خصال عبدالرحمن في ظل الاسلام مضاء وصقلا..

        فولاؤه لاقتناعه, وتصميمه المطلق على اتباع ما يراه صوابا وحقا, ورفضه المداجاة والمداهنة...

        كل هذا الخلق ظل جوهر شخصيته وجوهر حياته, لم يتخل عنه قط تحت اغراء رغبة, أو تأثير رهبة, حتى في ذلك اليوم الرهيب, يوم قرر معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد بحد السيف.. فكتب الى مروان عامله بالمدينة كتاب البيعة, وأمره ان يقرأه على المسلمين في المسجد..

        وفعل مروان, ولم يكد يفرغ من قراءته حتى نهض عبدالرحمن بن أبي بكر ليحول الوجوم الذي ساد المسجد الى احتجاج مسموع ومقاومة صادعة فقال:

        " والله ما الاخيار أردتم لأمة محمد, ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية.. كلما مات هرقل قام هرقل"..!!

        لقد رأى عبدالرحمن ساعتئذ كل الأخطار التي تنتظر الاسلام لو أنجز معاوية أمره هذا, وحوّل الحكم في الاسلام من شورى تختار بها الأمة حاكمها, الى قيصرية أو كسروية تفرض على الأمة بحكم الميلاد والمصادفة قيصرا وراء قيصر..!!



        **



        لم يكد عبدالرحمن يصرخ في وجه مروان بهذه الكلمات القوارع, حتى أيّده فريق من المسلمين على رأسهم الحسين بن علي, وعبدالله بن الزبير, وعبدالله بن عمر..

        ولقد طرأت فيما بعد ظروف قاهرة اضطرت الحسين وابن الزبير وابن عمر رضي الله عنهم الى الصمت تجاه هذه البيعة التي قرر معاوية أن يأخذها بالسيف..

        لكن عبدالرحمن بن أبي بكر ظل يجهر ببطلان هذه البيعة, وبعث اليه معاوية من يحمل مائة ألف درهم, يريد أن يتألفه بها, فألقاها ابن الصدّيق بعيدا وقال لرسول معاوية:

        " ارجع اليه وقل له: ان عبدالرحمن لا يبيع دينه بدنياه"..

        ولما علم بعد ذلك أن معاوية يشدّ رحاله قادما الى المدينة غادرها من فوره الى مكة..

        وأراد الله أن يكفيه فتنة هذا الموقف وسوء عقباه..

        فلم يكد يبلغ مشارف مكة ويستقر بها حتى فاضت الى الله روحه,, وحمله الرجال على الأعناق الى أعالي مكة حيث دفن هناك, تحت ثرى الأرض التي شهدت جاهليته..

        وشهدت اسلامه..!!

        وكان اسلام رجل صادق, حرّ شجاع...

        إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
        نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
        جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

        تعليق


        • #49
          عبدالله بن عمرو بن العاص

          القانت الأوّاب



          القانت, التائب, العابد, الأواب, الذي نستهل الحديث عنه الآن هو: عبدالله بن عمرو بن العاص..

          بقدر ما كان أبوه أستاذا في الذكاء والدهاء وسعة الحيلة.. كان هو أستاذا ذا مكانة عالية بين العابدين الزاهدين, الواضحين..

          لقد أعطى العبادة وقته كله, وحياته كلها..

          وثمل بحلاوة الايمان, فلم يعد الليل والنهار يتسعان لتعبّده ونسكه..



          **



          ولقد سبق أباه الى الاسلام, ومنذ وضع يمينه في يمين الرسول صلى الله عليه وسلم مبايعا, وقلبه مضاء كالصبح النضير بنور الله ونور طاعته..

          عكف أولا على القرآن الذي كان يتنزل منجّما, فكان كلما نزلت منه آيات حفظها وفهمها, حتى اذا تمّ واكتمل, كان لجميعه حافظا..

          ولم يكن يحفظه ليكون مجرّد ذاكرة قوية, تضمّ بين دفتيها كتابا محفوظا..

          بل كان يحفظه ليعمر به قلبه, وليكون بعد هذا عبده المطيع, يحلّ ما أحلّ, ويحرّم ما يحرّم, ويستجيب له في كل ما يدعو اليه ثم يعكف على قراءته, وتدبّره وترتيله, متأنقا في روضاته اليانعات, محبور النفس بما تفيئه آياته الكريمة من غبطة, باكي العين بما تثيره من خشية..!!

          كان عبدالله قد خلق ليكون قدّيسا عابدا, ولا شيء في الدنيا كان قادرا على أن يشغله عن هذا الذي خلق له, وهدي اليه..

          اذا خرج جيش الاسلام الى جهاد يلاقي فيه المشركين الذين يشنون عليه الحروب والعداوة, وجدناه في مقدمة الصفوف يتمنى الشهادة بروح محب, والحاح عاشق..!!



          فاذا وضعت الحرب أوزارها, فأين نراه..؟؟

          هناك في المسجد الجامع, أو في مسجد داره, صائم نهاره, قائم ليله, لا يعرف لسانه حديثا من أحاديث الدنيا مهما يكن حلالا, انما هو رطب دائما بذكر الله, تاليا قرآنه, أو مسبّحا بحمده, أو مستغفرا لذنبه..

          وحسبنا ادراكا لأبعاد عبادته ونسكه, أن نرى الرسول الذي جاء يدعو الناس الى عبادة الله. يجد نفسه مضطرا للتدخل كما يحد من ايغال عبدالله في العبادة..!!

          وهكذا اذا كان أحد وجهي العظة في حياة عبدالله بن عمرو, الكشف عما تزخر به النفس الانسانية من قدرة فائقة على بلوغ أقصى درجات التعبّد والتجرّد والصلاح, فان وجهها الآخر هو حرص الدين على القصد والاعتدال في نشدان كل تفوّق واكتمال, حتى يبقى للنفس حماستها وأشواقها..

          وحتى تبقى للجسد عافيته وسلامته..!!

          لقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبدالله بن عمرو بن العاص يقضي حياته على وتيرة واحدة..

          وما لم يكن هناك خروج في غزوة فان أيامه كلها تتلخص في أنه من الفجر الى الفجر في عبادة موصولة, صيام وصلاة, وتلاوة قرآن..

          فاستدعاه النبي اليه, وراح يدعوه الى القصد في عبادته..

          قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:

          " ألم اخبر أنك تصوم النهار, ولا تفطر, وتصلي الليل لا تنام..؟؟

          فحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام..

          قال عبدالله:

          اني أطيق أكثر من ذلك..

          قال النبي صلى الله عليه وسلم:

          فحسبك ان تصوم من كل جمعة يومين..

          قال عبدالله:

          فاني أطيق أكثر من ذلك..

          قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

          فهل لك اذن في خير الصيام, صيام داود, كان يصوم يوما ويفطر يوما..

          وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام يسأله قائلا:

          وعلمت أنك تجمع القرآن في ليلة

          واني أخشى أن يطول بك العمر

          وأن تملّ قراءته..!!

          اقرأه في كل شهر مرّة..

          اقرأه في كل عشرة أيام مرّة..

          اقرأه في كل ثلاث مرّة..

          ثم قال له:

          اني أصوم وأفطر..

          وأصلي وأنام.

          وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي

          فليس مني".

          ولقد عمّر عبدالله بن عمرو طويلا.. ولما تقدمت به السن ووهن منه العظم كان يتذكر دائما نصح الرسول فيقول:

          " يا ليتني قبلت رخصة رسول الله"..



          **



          ان مؤمنا من هذا الطراز ليصعب العثور عليه في معركة تدور رحاها بين جماعتين من المسلمين.

          فكيف حملته ساقاه اذن من المدينة الى صفين حيث أخذ مكانا في جيش معاوية في صراعه مع الامام علي..؟

          الحق أن موقف عبدالله هذا, جدير بالتدبّر, بقدر ما سيكون بعد فهمنا له جديرا بالتوقير والاجلال..



          رأينا كيف كان عبدالله بن عمرو مقبلا على العبادة اقبالا كاد يشكّل خطرا حقيقيا على حياته, الأمر الذي كان يشغل بال أبيه دائما, فيشكوه الى رسول الله كثيرا.

          وفي المرة الأخيرة التي امره الرسول فيها بالقصد في العبادة وحدد له مواقيتها كان عمرو حاضرا, فأخذ الرسول يد عبدالله, ووضعها في يد عمرو ابن العاص أبيه.. وقال له:

          " افعل ما أمرتك, وأطع أباك".

          وعلى الرغم من أن عبدالله, كان بدينه وبخلق, مطيعا لأبويه فقد كان أمر الرسول له بهذه الطريقة وفي هذه المناسبة ذا تأثير خاص على نفسه.

          وعاش عبدالله بن عمرو عمره الطويل لا ينسى لحظة من نهار تلك العبارة الموجزة.

          " افعل ما أمرتك, وأطع أباك".



          **



          وتتابعت في موكب الزمن أعوام وأيام

          ورفض معاوية بالشام أن يبايع عليا..

          ورفض علي أن يذعن لتمرّد غير مشروع.

          وقامت الحرب بين طائفتين من المسلمين.. ومضت موقعة الجمل.. وجاءت موقعة صفين.

          كان عمر بن العاص قد اختار طريقه الى جوار معاوية وكان يدرك مدى اجلال المسلمين لابنه عبدالله ومدى ثقتهم في دينه, فأراد أن يحمله على الخروج ليكسب جانب معاوية بذلك الخروج كثيرا..

          كذلك كان عمرو يتفاءل كثيرا بوجود عبدالله الى جواره في قتا, وهو لا ينسى بلاءه معه في فتوح الشام, ويوم اليرموك.

          فحين همّ بالخروج الى صفين دعاه اليه وقال له:

          يا عبدالله تهيأ للخروج, فانك ستقاتل معنا..

          وأجابه عبدالله:

          " كيف وقد عهد اليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أضع سيفا في عنق مسلم أبدا..؟؟

          وحاول عمرو بدهائه اقناعه بأنهم انما يريدون بخروجهم هذا أن يصلوا الى قتلة عثمان وأن يثأروا لدمه الزكيّ.

          ثم ألقى مفاجأته الحاسمة قائلا لولده:

          " أتذكر يا عبدالله, آخر عهد عهده رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ بيدك فوضعها في يدي وقال لك: أطع أباك؟..

          فاني أعزم عليك الآن أن تخرج معنا وتقاتل".

          وخرج عبدالله بن عمرو طاعة لأبيه, وفي عزمه الا يحمل سيفا ولا يقاتل مسلما..

          ولكن كيف يتم له هذا..؟؟

          حسبه الآن أن يخرج مع أبيه.. أما حين تكون المعركة فلله ساعتئذ امر يقضيه..!

          ونشب القتال حاميا ضاريا..



          ويختاف المؤرخون فيما اذا كان عبدالله قد اشترك في بدايته أم لا..

          ونقول: بدايته.. لأن القتال لم يلبث الا قليلا, حتى وقعت واقعة جعلت عبدالله بن عمرو يأخذ مكانه جهارا ضدّ الحرب, وضدّ معاوية..

          وذلك ان عمّار بن ياسر كان يقاتل مع عليّ وكان عمّار موضع اجلال مطلق من أصحاب الرسول.. وأكثر من هذا, فقد تنبأ في يوم بعيد بمصرعه ومقتله.

          كان ذلك والرسول وأصحابه يبنون مسجدهم بالمدينة اثر هجرتهم اليها..

          وكانت الأحجار عاتية ضخمة لا يطيق أشد الناس قوة أن يحمل منها أكثر من حجر واحد.. لكن عمارا من فرط غبطته وتشوته, راح يحمل حجرين حجرين, وبصر به الرسول فتملاه بعينين دامعتين وقال:

          " ويح ابن سميّة, تقتله الفئة الباغية".

          سمع كل اصحاب رسول الله المشتركين في البناء يومئذ هذه النبوءة, ولا يزالون لها ذاكرين.

          وكان عبدالله بن عمر أحد الذين سمعوا.

          وفد بدء القتال بين جماعة عليّ وجماعة معاوية, كان عمّار يصعد الروابي ويحرّض بأعلى صوته ويصيح.

          " اليوم نلقى الأحبة, محمدا وصحبه".

          وتواصى بقتله جماعة من جيش معاوية, فسددوا نحوه رمية آثمة, نقلته الى عالم الشهداء الأبرار.

          وسرى النبأ كالريح أن عمّار قد قتل..

          وانقضّ عبدالله بن عمرو ثائرا مهتاجا:

          أوقد قتل عمار..؟

          وأنتم قاتلوه..؟

          اذن انتم الفئة الباغية.

          أنتم المقاتلون على ضلالة..!!

          وانطلق في جيش معاوية كالنذير, يثبط عزائمهم, ويهتف فيهم أنهم بغاة, لأنهم قتلوا عمارا وقد تنبأ له الرسول منذ سبع وعشرين سنة على ملأ من المسلمين بأنه ستقتله الفئة الباغية..



          وحملت مقالة عبدالله الى معاوية, ودعا عمروا وولده عبدالله, وقال لعمرو:

          " ألا تكف عنا مجنونك هذا..؟

          قال عبدالله:

          ما أنا بمجنون ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: تقتلك الفئة الباغية.

          فقال له معاوية:

          فلم خرجت معنا:؟

          قال عبدالله:

          لأن رسول الله أمرني أن أطيع أبي, وقد أطعته في الخروج, ولكني لا أقاتل معكم.

          واذ هما يتحاوران دخل على معاوية من يستأذن لقاتل عمار في الدخول, فصاح عبدالله بن عمرو:

          ائذن له وبشره بالنار.

          وأفلتت مغايظ معاوية على الرغم من طول أناته, وسعة حلمه, وصاح بعمرو: أو ما تسمع ما يقول..

          وعاد عبدالله في هدوء المتقين واطمئنانهم, يؤكد لمعاوية أنه ما قال الا الحق, وأن الذين قتلوا عمارا ليسوا الا بغاة..

          والتفت صوب أبيه وقال:

          لولا أن رسول الله أمرني بطاعتك ما سرت معكم هذا المسير.

          وخرج معاوية وعمرو يتفقدان جيشهما, فروّعا حين سمعوا الناس جميعا يتحدثون عن نبوءة الرسول لعمار:

          تقتلك الفئة الباغية.

          وأحس عمرو ومعاوية أن هذه المهمة توشك أن تتحول الى نكوص عن معاوية وتمرّد عليه.. ففكرا حتى وجدا حيلتهما التي مضيا يبثانها في الناس..

          قالا:

          نعم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار ذات يوم:

          تقتلك الفئة الباغية..

          ونبوءة الرسول حق..

          وها هو ذا عمار قد قتل..

          فمن قتله..؟؟

          انما قتله الذين خرجوا به, وحملوه معهم الى القتال"..!!

          وفي مثل هذا الهرج يمكن لأي منطق أن يروّج, وهكذا راج منطق معاوية وعمرو..

          واستأنف الفريقان القتال..

          وعاد عبدالله بن عمرو الى مسجده, وعبادته..



          **



          وعاش حياته لا يملؤها بغير مناسكه وتعبّده..

          غير أن خروجه الى صفين مجرّد خروجه, ظل مبعوث قلق له على الدوام.. فكان لا تلم به الذكرى حتى يبكي ويقول:

          " مالي ولصفين..؟؟

          مالي ولقتال المسلمين"..؟



          **



          وذات يوم وهو جالس في مسجد الرسول مع بعض أصحابه مرّ بهم الحسين بن علي رضي الله عنهما, وتبادلا السلام..

          ولما مضى عنهم قال عبدالله لمن معه:

          " أتحبون أن أخبركم بأحب أهل الأرض الى أهل السماء..؟

          انه هذا الذي مرّ بنا الآن.. الحسين بن علي..

          وانه ما كلمني منذ صفين..

          ولأن يرضى عني أحب اليّ من حمر النعم"..!!

          واتفق مع أبي سعيد الخدري على زيارة الحسين..

          وهناك في دار الحسين تم لقاء الأكرمين..

          وبدأ عبدالله بن عمرو الحديث, فأتى على ذكر صفين فسأله الحسين معاتبا:

          " ما الذي حملك على الخروج مع معاوية"..؟؟

          قال عبدالله:

          " ذات يوم شكاني عمرو بن العاص الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له:

          " ان عبدالله يصوم النهار كله, ويقوم الليل كله.

          فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

          يا عبدالله صل ونم.. وصم وافطر.. وأطع أباك..

          ولما كان يوم صفين أقسم عليّ أبي أن أخرج معهم, فخرجت..

          ولكن والله ما اخترطت سيفا, ولا طعنت برمح, ولا رميت بسهم"..!!

          وبينما هو يتوقل الثانية والسبعين من عمره المبارك..

          واذ هو في مصلاه, يتضرّع الى ربه, ويسبّح بحمده دعي الى رحلة الأبد, فلبى الدعاء في شوق عظيم..

          والى اخوانه الذين سبقوه بالحسنى, ذهبت روحه تسعى وتطير..

          والبشير يدعوها من الرفيق الأعلى:

          ( يا أيتها النفس المطمئنة..

          ارجعي الى ربك راضية مرضية

          فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)..

          إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
          نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
          جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

          تعليق


          • #50
            أبو سفيان بن الحارث

            من الظلمات الى النور



            انه أبو سفيان آخر, غير أبو سفيان بن حرب..

            وان قصته, هي قصة الهدى بعد الضلال.. والحب بعد الكراهية..

            والسعادة بعد الشقوة..

            هي قصة رحمة الله الواسعة حين تفتح أبوابها للاجئ ألقى نفسه بين يدي الله بعد أن أضناه طول اللغوب..!!

            تصوّروا بعد عشرين عاما قضاها ابن الحارث في عداوة موصولة للاسلام..!!

            عشرون عاما منذ بعث النبي عليه السلام, حتى اقترب يوم الفتح العظيم, وأبو سفيان بن الحارث يشدّ أزر قريش وحلفائها, ويهجو الرسول بشعره, ولا يكاد يتخلف عن حشد تحشده قريش لقتال..!!

            وكان اخوته الثلاثة: نوفل, وربيعة, وعبدالله قد سبقوه الى الاسلام..

            وأبو سفيان هذا, ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم, اذ هو ابن الحارث بن عبدالمطلب..

            ثم هو أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة, اذ أرضعته حليمة السعدية مرضعة الرسول بضعة أيام..

            وذات يوم نادته الأقدار لمصيره السعيد, فنادى ولده جعفرا, وقال لأهله: انا مسافران..

            الى أين يا بن الحارث..

            الى رسول الله لنسلم معه لله رب العالمين..

            ومضى يقطع الأرض بفرسه ويطويها طيّ التائبين..

            وعند الأبواء أبصر مقدمة جيش لجب. وأدرك أنه الرسول قاصدا مكة لفتحها.

            وفكّر ماذا يصنع..؟

            ان الرسول قد أهدر دمه من طول ما حمل سيفه ولسانه ضد الاسلام, مقاتلا وهاجيا..

            فاذا رآه أحد من الجيش, فسيسارع الى القصاص منه..

            وان عليه أن يحتال للأمر حتى يلقي نفسه بين يدي رسول الله أولا, وقبل أن تقع عليه عين أحد من المسلمين..

            وتنكّر أبو سفيان بن الحارث حتى أخفى معالمه, وأخذ بيد ابنه جعفر, وسار مشيا على الأقدام شوطا طويلا, حتى أبصر رسول الله قادما في كوكبة من أصحابه, فتنحّى حتى نزل الركب..

            وفجأة ألقى بنفسه أمام رسول الله مزيحا قناعه فعرفه الرسول, وحو ل وجهه عنه, فأتاه أبو سفيان من الناحية أخرى, فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم.

            وصاح أبو سفيان وولده جعفر:

            " نشهد أن لا اله الا الله

            ونشهد أن محمدا رسول الله".

            واقترب من النبي صلى الله عليه وسلم قائلا:

            " لا تثريب يا رسول الله"..

            وأجابه الرسول:

            " لا تثريب يا أبا سفيان.

            ثم سلمه الى علي بن أبي طالب وقال له:

            " علم ابن عمّك الوضوء والسنة ورح به اليّ"..

            وذهب به علي ثم رجع فقال له الرسول:

            " ناد في الناس أن رسول الله قد رضي عن أبي سفيان فارضوا عنه"..

            لحظة زمن, يقول الله لها: كوني مباركة, فتطوي آمادا وأبعادا من الشقوة والضلال, وتفتح أبواب رحمة ما لها حدود..!!

            لقد كاد أبو سفيان يسلم, بعد أن رأى في بدر وهو يقاتل مع قريش ما حيّر لبّه..

            ففي تلك الغزوة تخلّف أبو لهب وأرسل مكانه العاص بن هشام..

            وانتظر أبو لهب أخبار المعركة بفارغ الصبر وبدأت الأنباء تأتي حاملة هزيمة قريش المنكرة..

            وذات يوم, أبو لهب مع نفر من القرشيين يجلسون عند زمزم, اذ أبصروا فارسا مقبلا فلما دنا منهم اذا هو: أبو سفيان بن الحارث.. ولم يمهله أبو لهب, فناداه:" هلمّ اليّ يا بن أخي. فعندك لعمري الخبر.. حدثنا كيف كان أمر الناس"؟؟

            قال أبو سفيان بن الحارث:

            " والله ما هو الا أن أن لقينا القوم حتى منحناهم أكتافنا, يقتلوننا كيف شاءوا, ويأسروننا كيف شاءوا..

            وأيم الله ما لمت قريشا.. فلقد لقينا رجالا بيضا على خيل بلق, بين السماء والأرض, ما يشبهها شيء, ولا يقف أمامها شيء"..!!

            وأبو سفيان يريد بهذا أن الملائكة كانت تقاتل مع الرسول والمسلمين..

            فما باله لم يسلم يومئذ وقد رأى ما رأى..؟؟

            ان الشك طريق اليقين, وبقدر ما كانت شكوك أبي الحارث عنيدة وقوية, فان يقينه يوم يجيء سيكون صلبا قويا..

            ولقد جاء يوم يقينه وهداه.. وأسلم لله رب العالمين..



            **



            ومن أولى لحظات اسلامه, راح يسابق الزمان عابدا, ومجاهدا, ليمحو آثار ما ضيه, وليعوّض خسائره فيه..

            خرج مع الرسول فيما تلا فتح مكة من غزوات..

            ويوم حنين, حيث نصب المشركون للمسلمين كمينا خطيرا, وانقضوا عليهم فجأة من حيث لا يحتسبون انقضاضا وبيلا أطار صواب الجيش المسلم, فولّى أكثر أجناده الأدبار وثبت الرسول مكانه ينادي:

            " اليّ أيها الناس..

            أنا النبي لا كذب..

            انا ابن عبدالمطلب.."

            في تلك اللحظة الرهيبة, كانت هناك قلة لم تذهب بصوابها المفاجأة

            وكان منهم أبو سفيان بن الحارث وولده جعفر..

            ولقد كان أبو سفيان يأخذ بلجام فرس الرسول, وحين رأى ما رأى أدرك أن فرصته التي بحث عنها قد أهلت.. تلك أن يقضي نحبه شهيدا في سبيل الله, وبين يدي الرسول..

            وراح يتشبث بمقود الفرس بيسراه, ويرسل السيف في نحور المشركين بيمناه.

            وعاد المسلمون الى مكان المعركة حتى انتهت, وتملاه الرسول ثم قال:

            " أخي أبو سفيان بن الحارث..؟؟"

            ما كاد أبو سفيان يسمع قو الرسول " أخي"..

            حتى طار فؤاده من الفرح والشرف. فأكبّ على قدمي الرسول يقبلهما, ويغسلهما بدموعه.

            وتحرّكت شاعريته فراح يغبط نفسه على ما أنعم الله عليه من شجاعة وتوفيق:

            لقد علمت أفناء كعب وعامر غداة حنين حين عمّ التضعضع

            بأني أخو الهيجاء, أركب حدّها أمام رسول الله لا أتتعتع

            رجاء ثواب اللهوالله راحم اليه تعالى كل أمر سيرجع



            **



            وأقبل أبو سفيان بن الحارث على العبادة اقبلال عظيما, وبعد رحيل الرسول عن الدنيا, تعلقت روحه بالموت ليلحق برسول الله في الدار الآخرة, وعاش ما عاش والموت أمنية حياته..

            وذات يوم شاهده الناس في البقيع يحفر لحدا, ويسويّه ويهيّئه.. فلما أبدوا دهشتهم مما يصنع قال لهم:

            " اني أعدّ قبري"..

            وبعد ثلاثة أيام لا غير, كان راقدا في بيته, وأهله من حوله يبكون..

            وفتح عينيه عليهم في طمأنينة سابغة وقال لهم:

            " لا تبكوا عليّ, فاني لم أتنظف بخطيئة منذ أسلمت"..!!

            وقبل أن يحني رأسه على صدره, لوّح به الى أعلى, ملقيا على الدنيا تحيّة الوداع..!!
            إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
            نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
            جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

            تعليق


            • #51
              عمران بن حصين

              شبيه الملائكة



              عام خيبر, أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعا..

              ومنذ وضع يمينه في يمين الرسول أصبحت يده اليمنى موضع تكريم كبير, فآلى على نفسه ألا يستخدمها الا في كل عمل طيّب, وكريم..

              هذه الظاهرة تنبئ عما يتمتع به صاحبها من حسّ دقيق.



              **



              وعمران بن حصين رضي الله عنه صورة رضيّة من صور الصدق, والزهد, والورع, والتفاني وحب الله وطاعته...

              وان معه من توفيق الله ونعمة الهدى لشيئا كثيرا, ومع ذلك فهو لا يفتأ يبكي, ويبكي, ويقول:

              " يا ليتني كنت رمادا, تذروه الرياح"..!!

              ذلك أن هؤلاء الرجال لم يكونوا يخافون الله بسبب ما يدركون من ذنب, فقلما كانت لهم بعد اسلامهم ذنوب..

              انما كانوا يخافونه ويخشونه بقدر ادراكهم لعظمته وجلاله,وبقدر ادراكهم لحقيقة عجزهم عن شكره وعبادته, فمهما يضرعوا, ويركعوا, ومهما يسجدوا, ويعبدوا..

              ولقد سأل أصحاب الرسول يوما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:

              " يا رسول الله, مالنا اذا كنا عندك رقت قلوبنا, وزهدنا دنيانا, وكأننا نرى الآخرة رأي العين.. حتى اذا خرجنا من عندك, ولقينا أهلنا, وأولادنا, ودنيانا, أنكرنا أنفسنا..؟؟"

              فأجابهم عليه السلام:

              " والذي نفسي بيده, لو تدومون على حالكم عندي, لصافحتكم الملائكة عيانا, ولكن ساعة.. وساعة.

              وسمع عمران بن حصين هذا الحديث. فاشتعلت أشواقه.. وكأنما آلى على نفسه ألا يقعد دون تلك الغاية الجليلة ولو كلفته حياته, وكأنما لم تقنع همّته بأن يحيا حياته ساعة.. وساعة.. فأراد أن تكون كلها ساعة واحدة موصولة النجوى والتبتل لله رب العالمين..!!



              **



              وفي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أرسله الخليفة الى البصرة ليفقه أهلها ويعلمهم.. وفي البصرة حطّ رحاله, وأقبل عليه أهلها مذ عرفوه يتبركون به, ويستضيؤن بتقواه.

              قال الحسن البصري, وابن سيرين:

              " ما قدم البصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد بفضل عمران بن حصين"

              كان عمران يرفض أن يشغله عن الله وعبادته شاغل, استغرق في العبادة, واستوعبته العبادة حتى صار كأنه لا ينتمي الى عالم الدنيا التي يعيش فوق أرضها وبين ناسها..

              أجل..

              صار كأنه ملك يحيا بين الملائكة, يحادثونه ويحادثهم.. ويصافحونه ويصافحهم..



              **



              ولما وقع النزاع الكبير بين المسلمين, بين فريق علي وفريق معاوية, لم يقف عمران موقف الحيدة وحسب, بل راح يرفع صوته بين الناس داعيا ايّاهم أن يكفوا عن الاشتراك في تلك الحرب, حاضنا قضية الاسلام خير محتضن.. وراح يقول للناس:

              " لأن أرعى أعنزا حضنيات في رأس جبل حتى يدركني الموت, أحبّ اليّ من أن أرمي في أحد الفريقين بسهم, أخطأ أم أصاب"..

              وكان يوصي من يلقاه من المسلمين قائلا:

              " الزم مسجدك..

              فان دخل عليك, فالزم بيتك..

              فان دخل عليك بيتك من يريد نفسك ومالك فقاتله"..



              **



              وحقق ايمان عمران بن حصين أعظم نجاح, حين أصابه مرض موجع لبث معه ثلاثين عاما, ما ضجر منه ولا قال: أفّ..

              بل كان مثابرا على عبادته قائما, وقاعدا وراقدا..

              وكان اذا هوّن عليه اخوانه وعوّاده أمر علته بكلمات مشجعة, ابتسم لها وقال:

              " ان أحبّ الأشياء الى نفسي, أحبها الى الله"..!!

              وكانت وصيته لأهله واخوانه حين أدركه الموت:

              " اذا رجعتم من دفني, فانحروا وأطعموا"..



              أجل لينحروا ويطعموا, فموت مؤمن مثل عمران بن حصين ليس موتا, انما هو حف زفاف عظيم, ومجيد, تزف فيه روح عالية راضية الى جنّة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين...

              إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
              نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
              جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

              تعليق


              • #52
                سلمة بن الأكوع

                بطل المشاة



                أراد ابنه أيّاس أن يلخص فضائله في عبارة واحدة.

                فقال:

                " ماكذب أبي قط"..!!

                وحسب انسان أن يحرز هذه الفضيلة, ليأخذ مكانه العالي بين الأبرار والصالحين.

                ولقد أحرزها سلمة بن الأكوع وهو جدير بها..

                كان سلمة من رماة العرب المعدودين, وكان كذلك من المبرزين في الشجاعة والكرم وفعل الخيرات.

                وحين أسلم نفسه للاسلام, أسلمها صادقا منيبا, فصاغها الاسلام على نسقه العظيم.

                وسلمة بن الأكوع من أصحاب بيعة الرضوان.



                **



                حين خرج الرسول وأصحابه عام ست من الهجرة, قاصدين زيارة البيت الحرام, وتصدّت لهم قلريش تمنعهم.

                أرسل النبي اليهم عثمان بن عفان ليخبرهم أن النبي جاء زائرا لا مقاتلا..

                وفي انتظار عودة عثمان, سرت اشاعة بأن قريشا قد قتلته,وجلس الرسول في ظل الشجرة يتلقى بيعة أصحابه واحدا واحدا على الموت..

                يقول سلمة:

                " بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت تحت الشجرة,. ثم تنحيّت, فلما خف الناس قال يا سلمة مالك لا تبايع..؟

                قلت: قد بايعت يا رسول الله, قال: وأيضا.. فبايعته".

                ولقد وفى بالبعة خير وفاء.

                بل وفى بها قبل أن يعطيها, منذ شهد أن لا اله الا الله, وأن محمدا رسول الله..

                يقول:

                " غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع زيد بن حارثة تسع غزوات".



                **



                كان سلمة من أمهر الذين يقاتلون مشاة, ويرمون بالنبال والرماح,

                وكانت طريقته تشبه طريقة بعض حروب العصابات الكبيرة التي تتبع اليوم.. فكان اذا هاجمه عدوه تقهقر دونه, فاذا أدبر العدو أو وقف يستريح هاجمه في غير هوادة..

                وبهذه الطريقة استطاع أن يطارد وحده, القوة التي أغارت على مشارف المدينة بقيادة عيينة بن حصن الفزاري في الغزوة المعروفة بغزو ذي قرد..

                خرج في أثرهم وحده, وظل يقاتلهم ويراوغهم, ويبعدهم عن المدينة حتى أدركه الرسول في قوة وافرة من أصحابه..

                وفي هذا اليوم قال الرسول لأصحابه:

                " خير رجّالتنا , أي مشاتنا, سلمة بن الأكوع"!!



                **



                ولم يعرف سلمة الأسى والجزع الا عند مصرع أخيه عامر بن الأكوع في حرب خيبر..

                وكان عامر يرتجز أمام جيش المسلمين هاتفا:

                اللهمّ لولا أنت ما اهتدينا

                ولا تصدّقنا ولا صلّينا

                فأنزلن سكينة علينا

                وثبت الأقدام ان لاقينا

                في تلك المعركة ذهب عامر يضرب بسيفه أحد المشركين فانثنى السيف في يده وأصابت ذوّابته منه مقتلا.. فقال بعض المسلمين:

                " مسكين عامر حرم الشهادة"

                عندئذ لا غير جزع سلمة جزعا شديدا, حين ظنّ كما ظن غيره أن أخاه وقد قتل نفسه خطأ قد حرم أجر الجهاد, وثواب الشهادة.

                لكن الرسول الرحيم سرعان ما وضع الأمرو في نصابها حين ذهب اليه سلمة وقال له:

                أصحيح يا رسول الله أن عامرا حبط عمله..؟

                فأجابه الرسول عليه السلام:

                " انه قتل مجاهدا

                وأن له لأجرين

                وانه الآن ليسبح

                في أنهار الجنة"..!!

                وكان سلمة على جوده المفيض أكثر ما يكون جوادا اذا سئل بوجه الله..

                فلو أن انسانا سأله بوجه الله أن يمنحه حياته, لما تردد في بذلها.

                ولقد عرف الناس منه ذلك, فكان أحدهم اذا أراد أن يظفر منه بشيء قال له:

                " من لم يعط بوجه الله, فبم يعطي"..؟؟



                **



                ويوم قتل عثمان, رضي الله عنه, أدرك المجاهد الشجاع أن أبواب الفتنة قد فتحت على المسلمين.

                وما كان له وهو الذي قضى عمره يقاتل بين اخوانه أن يتحول الى مقاتل ضد اخوانه..

                أجل ان الرجل الذي حيّا الرسول مهارته في قتال المشركين, ليس من حقه أن يقاتل بهذه المهارة مسلما..

                ومن ثمّ, فقد حمل متاعه وغادر المدينة الى الربدة.. نفس المكان الذي اختاره أبو ذر من قبل مهاجرا له ومصيرا.

                وفي الرّبدة عاش سلمة بقية حياته, حتى كان يوم عام أربعة وسبعين من الهجرة, فأخذه السوق الى المدينة فسافر اليها زائرا, وقضى بها يوما, وثانيا..

                وفي اليوم الثالث مات.

                وهكذا ناداه ثراها الحبيب الرطيب ليضمّه تحت جوانحه ويؤويه مع من آوى قبله من الرفاق المباركين, والشهداء الصالحين.
                إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                تعليق


                • #53
                  عبدالله بن الزبير

                  أي رجل وأي شهيد



                  كان جنينا مباركا في بطن أمه, وهي تقطع الصحراء اللاهبة مغادرة مكة الى المدينة على طريق الهجرة العظيم.

                  هكذا قدّر لعبدالله بن الزبير أن يهاجر مع المهاجرين وهو لم يخرج الى الدنيا بعد, ولم تشقق عنه الأرحام..!!

                  وما كادت أمه أسماء رضي الله عنها وأرضاها, تبلغ قباء عند مشارف المدينة, حتى جاءها المخاض ونزل المهاجر الجنين الى أرض المدينة في نفس الوقت الذي كان ينزلها المهلجرون من أصحاب رسول الله..!!

                  وحمل أول مولود في الهجرة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره بالمدينة مقبّله وحنّكه, وكان أول شيء دخل جوف عبدالله بن الزبير ريق النبي الكريم.

                  واحتشد المسلمون في المدينة, وحملوا الوليد في مهده, ثم طوّفوا به في شوارع المدينة كلها مهللين مكبّرين.

                  ذلك أن اليهود حين نزل الرسول وأصحابه المدينة كبتوا واشتعلت أحقادهم, وبدؤا حرب الأعصاب ضد المسلمين, فأشاعوا أن كهنتهم قد سحروا المسلمين وسلطوا عليهم العقم, فلن تشهد المدينة منهم وليدا جديدا..

                  فلما أهلّ عبدالله بن الزبير عليهم من عالم الغيب, كان وثيقة دمغ بها القدر افك يهود المدينة وأبطل كيدهم وما يفترون..!!

                  ان عبدالله لم يبلغ مبلغ الرجال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولكنه تلقى من ذلك العهد, ومن الرسول نفسه بحكم اتصاله الوثيق به, كل خامات رجولته ومبادئ حياته التي سنراها فيما بعد ملء الدنيا وحديث الناس..

                  لقد راح الطفل ينمو نموّا سريعا, وكان خارقا في حيويته, وفطنته وصلابته..

                  وارتدى مرحلة الشباب, فكان شبابه طهرا, وعفة ونسكا, وبطولة تفوق الخيال..

                  ومضى مع أيامه وقدره, لا تتغيّر خلائقه ولا تنبوبه رغائبه.. انما هو رجل يعرف طريقه, ويقطعه بعزيمة جبارة, وايمان وثيق وعجيب..



                  **



                  وفي فتح افريقية والأندلس, والقسطنطينية. كان وهو لم يجاوز السابعة والعشرين بطلا من أبطال الفتوح الخالدين..

                  وفي معركة افريقية بالذات وقف المسلمون في عشرين ألف جندي أمام عدو قوام جيشه مائة وعشرون ألفا..

                  ودار القتال, وغشي المسلمين خطر عظيم..

                  وألقى عبد الله بن الزبير نظرة على قوات العدو فعرف مصدر قوتهم. وما كان هذا المصدر سوى ملك البربر وقائد الجيش, يصيح في جنوده ويحرضهم بطريقة تدفعهم الى الموت دفعا عجيبا..

                  وأدرك عبدالله أن المعركة الضارية لن يحسمها سوى سقوط هذا القائد العنيد..

                  ولكن أين السبيل اليه, ودون بلوغه جيش لجب, يقاتل كالاعصار..؟؟

                  بيد أن جسارة ابن الزبير واقدامه لم يكونا موضع تساؤول قط..!!

                  هنالك نادى بعض اخوانه, وقال لهم:

                  " احموا ظهري, واهجموا معي"...

                  وشق الصفوف المتلاحمة كالسهم صامدا نحو القائد, حتى اذا بلغه, هو عليه في كرّة واحدة فهوى, ثم استدار بمن معه الى الجنود الذين كانوا يحيطون بملكهم وقائدهم فصرعوهم.. ثم صاحوا الله أكبر..

                  ورأى المسلمون رايتهم ترتفع, حيث كان يقف قائد البربر يصدر أوامره ويحرّض جيشه, فأدركوا أنه النصر, فشدّوا شدّة رجل واحدة, وانتهى كل شيء لصالح المسلمين..

                  وعلم قائد الجيش المسلم عبدالله بن أبي سرح بالدور العظيم الذي قام به ابن الزبير فجعل مكافأته أن يحمل بنفسه بشرة النصر الى المدينة والى خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه..



                  **



                  على أن بطولته في القتال كانت برغم تفوقها واعجازها تتوارى أمام بطولته في العبادة.

                  فهذا الذي يمكن أن يبتعث فيه الزهو, وثني الأعطاف, أكثر من سبب, يذهلنا بمكانه الدائم والعالي بين الناسكين العابدين..

                  فلا حسبه, ولا شبابه, ولا مكانته ورفعته, ولا أمواله ولا قوته..

                  لا شيء من ذلك كله, استطاع أن يحول بين عبدالله بن الزبير وبين أن يكون العابد الذي يصوم يومه, ويقوم ليله, ويخشع لله خشوعا يبهر الألباب.

                  قال عمر بن عبدالعزيز يوما لابن أبي مليكة:صف لنا عبدالله بن الزبير..فقال:

                  " والله ما رأيت نفسا ركبت بين جنبين مثل نفسه..

                  ولقد كات يدخل في الصلاة فيخرج من كل شيء اليها..

                  وكان يركع أو يسجد, فتقف العصافير فوق ظهره وكاهله,

                  لا تحسبه من طول ركوعه وسجوده الا جدارا, أو ثوبا مطروحا..

                  ولقد مرّت قذيفة منجنيق بين لحيته وصدره وهو يصلي, فوالله ما أحسّ بها ولا اهتز لها, ولا قطع من أجلها قراءته, ولا تعجل ركوعه"..!!



                  ان الأنباء الصادقة التي يرويها التاريخ عن عبادة ابن الزبير لشيء يشبه الأساطير..

                  فهو في صيامه, وفي صلاته, وفي حجه, وفي علوّ همّته, وشرف نفسه..

                  في سهره طوال العمر قانتا وعبدا..

                  وفي ظمأ الهواجر طوال عمره صائما مجاهدا..

                  وفي ايمانه الوثيق بالله, وفي خشيته الدائمة له..

                  هو في كل هذا نسيج وحده..!

                  سئل عنه ابن عباس فقال على الرغم مما كان بينهما من خلاف:

                  " كان قارئا لكتاب الله, متبعا سنة رسوله.. قانتا لله, صائما في الهواجر من مخافة الله.. ابن حواريّ رسول الله.. وأمه أسماء بنت الصديق.. وخالته عائشة زوجة رسول الله.. فلا يجهل حقه الا من أعماه الله"..!!



                  **



                  وهو في قوة خلقه وثبات سجاياه, يزري بثبات الجبال..

                  واضح شريف قوي, على استعداد دائم لأن يدفع حياته ثمنا لصراحته واستقامة نهجه..

                  أثناء نزاعه مع الأمويين زاره الحصين بن نمير قائد الجيش الذي أرسله يزيد لاخماد ثورة بن الزبير..

                  زاره اثر وصول الأنباء الى مكة بموت يزيد..

                  وعرض عليه أن يذهب معه الى الشام, ويستخدم الحصين نفوذه العظيم هناك في أخذ البيعة لابن الزبير..

                  فرفض عبدالله هذه الفرصة الذهبية,لأنه كان مقتنعا بضرورة القصاص من جيش الشام جزاء الجرائم البشعة التي ارتكبها رجاله من خلال غزوهم الفاجر للمدينة, خدمة لأطماع الأمويين..

                  قد نختلف مع عبدالله في موقفه هذا, وقد نتمنى لو أنه آثر السلام والصفح, واستجاب للفرصة النادرة التي عرضها عليه الحصين قائد يزيد..

                  ولكنّ وقفة الرجل أي رجل, الى جانب اقتناعه واعتقاده.. ونبذه الخداع والكذب, أمر يستحق الاعجاب والاحترام..



                  وعندما هاجمه الحجاج بجيشه, وفرض عليه ومن معه حصارا رهيبا, كان من بين جنده فرقة كبيرة من الأحباش, كانوا من أمهر الرماة والمقاتلين..

                  ولقد سمعهم يتحدثون عن الخليفة الراحل عثمان رضي الله عنه, حديثا لا ورع فيه ولا انصاف, فعنّفهم وقال لهم:" والله ما أحبّ أن أستظهر على عدوي بمن يبغض عثمان"..!!

                  ثم صرفهم عنه في محنة هو فيها محتاج للعون, حاجة الغريق الى أمل..!!

                  ان وضوحه مع نفسه, وصدقه مع عقيدته ومبادئه, جعلاه لا يبالي بأن يخسر مائتين من أكفأ الرماة, لم يعد دينهم موضع ثقته واطمئنانه, مع أنه في معركة مصير طاحنة, وكان من المحتمل كثيرا أن يغير اتجاهها بقاء هؤلاء الرماة الأكفاء الى جانبه..!!



                  **



                  ولقد كان صموده في وجه معاوية وابنه يزيد بطولة خارقة حقا..

                  فقد كان يرى أن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان آخر رجل يصلح لخلافة المسلمين, ان كان يصلح على الاطلاق.. هو محق في رأيه, فـ يزيد هذا كان فاسدا في كل شيء.. لم تكن له فضيلة واحدة تشفع لجرائمه وآثامه التي رواها النا التاريخ..

                  فكيف يبايعه ابن الزبير؟؟

                  لقد قال كلمة الرفض قوية صادعة لمعاوية وهو حي..

                  وها هو ذا يقولها ليزيد بعد أن صار خليفة, وأرسل الى ابن الزبير يتوعده بشرّ مصير..

                  هناك قال ابن لزبر:

                  " لا أبايع السكّير أبدا".

                  ثم أنشد:

                  ولا الين لغير الحق أساله حتى يلين لضرس الماضغ الحجر



                  **



                  وظل ابن الزبير أميرا للمؤمنين, متخذا من مكة المكرّمةعاصمة خلافته, باسطا حكمه على الحجاز, واليمن والبصرة الكوفة وخراسان والشام كلها ما عدا دمشق بعد أن بايعه أهل الأمصار جميعا..

                  ولكن الأمويين لا يقرّ قرارهم, ولا يهدأ بالهم, فيشنون عليه حروبا موصولة, يبوءون في أكثرها بالهزيمة والخذلان..

                  حتى جاء عهد عبدالملك بن مروان حين ندب لمهاجمة عبدالله في مكة واحدا من أشقى بني آدم وأكثرهم ايغالا في القسوة والاجرام..

                  ذلكم هو الحجاج الثقفي الذي قال عنه الامام العادل عمر بن عبدالعزيز:

                  " لو جاءت كل أمة بخطاياها, وجئنا نحن بالحجاج وحده, لرجحناهم جميعا"..!!



                  **



                  ذهب الحجاج على رأس جيشه ومرتزقته لغزومكة عاصمة ابن الزبير, وحاصرها وأهلها قرابة ستة أشهر مانعا عن الناس الماء والطعام, كي يحملهم على ترك عبدالله بن الزبير وحيدا, بلا جيش ولا أعوان.

                  وتحت وطأة الجوع القاتل استسلم الأكثرون, ووجد عبدالله نفسه, وحيدا أو يكاد, وعلى الرغم من أن فرص النجاة بنفسه وبحياته كانت لا تزال مهيأة له, فقد قرر أن يحمل مسؤوليته الى النهاية, وراح يقاتل جيش الحجاج في شجاعة أسطورية, وهو يومئذ في السبعين من عمره..!!

                  ولن نبصر صورة أمينة لذلك الموقف الفذ الا اذا اصغينا للحوار الذي دار بين عبدالله وأمه. العظيمة المجيدة أسماء بنت أبي بكر في تلك الساعات الأخيرة من حياته.

                  لقد ذهب اليها, ووضع أمامها صورة دقيقة لموقفه, وللمصير الذي بدأ واضحا أنه ينتظره..

                  قالت له أسماء:

                  " يا بنيّ: أنت أعلم بنفسك, ان كنت تعلم أنك على حق, وتدعو الى حق, فاصبر عليه حتى تموت في سبيله, ولا تمكّن من رقبتك غلمان بني أميّة..

                  وان كنت تعلم أنك أردت الدنيا, فلبئس العبد أنت, أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك.

                  قل عبد الله:

                  " والله يا أمّاه ما أردت الدنيا, ولا ركنت اليها.

                  وما جرت في حكم الله أبدا, ولا ظلمت ولا غدرت"..

                  قالت أمه أسماء:

                  " اني لأرجو أن يكون عزائي فيك حسنا ان سبقتني الى الله أو سبقتك.

                  اللهم ارحم طول قيامه في الليل, وظمأه في الهواجر, وبرّه بأبيه وبي..

                  اللهم اني اسلمته لأمرك فيه, ورضيت بما قضيت, فأثبني في عبدالله بن الزبير ثواب الصابرين الشاكرين.!"

                  وتبادلا معا عناق الوداع وتحيته.

                  وبعد ساعة من الزمان انقضت في قتال مرير غير متكافئ, تلقى الشهيد العظيم ضربة الموت, في وقت استأثر الحجاج فيه بكل ما في الأرض من حقارة ولؤم, فأبى الا أن يصلب الجثمان الهامد, تشفيا وخسّة..!!



                  **



                  وقامت أمه, وعمرها يومئذ سبع وتسعون سنة, قامت لترى ولدها المصلوب.

                  وكالطود الشامخ وقفت تجاهه لا تريم.. واقترب الحجاج منها في هوان وذلة قائلا لها:

                  يا أماه, ان أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان قد أوصاني بك خيرا, فهل لك من حاجة..؟

                  فصاحت به قائلة:

                  " لست لك بأم..

                  انما أنا أم هذا المصلوب على الثنيّة..

                  وما بي اليكم حاجة..

                  ولكني أحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يخرج من ثقيف كذاب ومبير"..

                  فأما الكذاب فقد رأيناه, وأما المبير, فلا أراه الا أنت"!!

                  واقدم منها عبد الله بن عمر رضي الله عنه معزيا, وداعيا اياها الى الصبر, قأجابته قائلة:

                  " وماذا يمنعني من الصبر, وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا الى بغيّ من بغايا بني اسرائيل"..!!

                  يا لعظمتك يا ابنة الصدّيق..!!

                  أهناك كلمات أروع من هذه تقال للذين فصلوا رأس عبدالله بن الزبير عن رأسه قبل أن يصلبوه..؟؟

                  أجل.. ان يكن رأس ابن الزبير قد قدّم هديّة للحجاج وعبدالملك.. فان رأس نبي كريم هو يحيى عليه السلام قد قدم من قبل هدية لـ سالومي.. بغيّ حقيرة من بني اسرائيل!!

                  ما أروع التشبيه, وما أصدق الكلمات.



                  **



                  وبعد, فهل كان يمكن لعبدالله بن الزبير أن يحيا حياته دون هذا المستوى البعيد من التفوّق, والبطولة والصلاح, وقد رضع لبان أم من هذا الطراز..؟؟

                  سلام على عبدالله..

                  وسلام على أسماء..
                  سلام عليهما في الشهداء الخالدين..

                  وسلام عليهما في الأبرار المتقين.

                  إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                  نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                  جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                  تعليق


                  • #54
                    عبدالله بن عباس

                    حبر هذه الأمة



                    يشبه ابن عباس, عبدالله بن الزبير في أنه أدرك الرسول وعاصره وهو غلام, ومات الرسول قبل أن يبلغ ابن عباس سنّ الرجولة.

                    لكنه هو الآخر تلقى في حداثته كل خامات الرجولة, ومبادئ حياته من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يؤثره, ويزكيه, ويعلّمه الحكمة الخالصة.

                    وبقوة ايمانه, وقوة خلقه, وغزارة علمه, اقتعد ابن عباس رضي الله عنه مكانا عاليا بين الرجال حول الرسول.



                    **



                    هو ابن العباس بن عبد المطلب بن هاشم, عم الرسول صلى الله عليه وسلم.

                    ولقبه الحبر.. حبر هذه الأمة, هيأه لهذا اللقب, ولهذه المنزلة استنارة عقله وذكاء قلبه, واتساع معارفه.

                    لقد عرف ابن عباس طريق حياته في أوليات أيامه وازداد بها معرفة عندما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام يدنيه منه وهو طفل ويربّت على كتفه وهو يقول:

                    " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".

                    ثم توالت المناسبات والفرص التي يكرر فيها الرسول هذا الدعاء ذاته لابن عمه عبدالله بن عباس.. وآنئذ أدرك ابن عباس أنه خلق للعلم, والمعرفة.

                    وكان استعداده العقلي يدفعه في هذا الطريق دفعا قويا.



                    فعلى الرغم من أنه لم يكن قد جاوز الثالثة عشرة من عمره يوم مات رسول الله, فانه لم يضع من طفولته الواعية يوما دون أن يشهد مجالس الرسول ويحفظ عنه ما يقول..

                    وبعد ذهاب الرسول الى الرفيق الأعلى حرص ابن عباس على أن يتعلم من أصحاب الرسول السابقين ما فاته سماعه وتعلمه من الرسول نفسه..

                    هنالك, جعل من نفسه علامة استفهام دائمة.. فلا يسمع أن فلانا يعرف حكمة, أو يحفظ حديثا, الا سارع اليه وتعلم منه..

                    وكان عقله المضيء الطموح يدفعه لفحص كل ما يسمع.. فهو لا يغنى بجمع المعرفة فحسب, بل ويغنى مع جمعها بفحصها وفحص مصادرها..

                    يقول عن نفسه:

                    " اني كنت لأسأل عن الأمر الواحد, ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".

                    ويعطينا صورة لحرصه على ادراكه الحقيقة والمعرفة فيقول:

                    " لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لفتى من الأنصار:

                    هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله, فانهم اليوم كثير.

                    فقال: يا عجبا لك يا بن عباس!! أترى الناس يفتقرون اليك, وفيهم من أصحاب رسول الله من ترى..؟؟

                    فترك ذلك, وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله.. فان كان ليبلغني الحديث عن الرجل, فآتي اليه وهو قائل في الظهيرة, فأتوسّد ردائي على بابه, يسفي الريح عليّ من التراب, حتى ينتهي من مقيله, ويخرج فيراني, فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك..؟؟ هلا أرسلت اليّ فآتيك..؟؟ فأقول لا, أنت أحق بأن أسعى اليك, فأسأله عنه الحديث وأتعلم منه"..!!

                    هكذا راح فتانا العظيم يسأل, ويسأل, ويسأل.. ثم يفحص الاجابة مع نفسه, ويناقشها بعقل جريء.

                    وهو في كل يوم, تنمو معارفه, وتنمو حكمته, حتى توفرت له في شبابه الغضّ حكمة الشيوخ وأناتهم, وحصافتهم, وحتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحرص على مشورته في كل أمر كبير.. وكان يلقبه بفتى الكهول..!!

                    سئل ابن عباس يوما:" أنّى أصبت هذا العلم"..؟

                    فأجاب:

                    " بلسان سؤول..

                    وقلب عقول"..

                    فبلسانه المتسائل دوما, وبعقله الفاحص أبدا, ثم بتواضعه ودماثة خلقه, صار ابن عباس" حبر هذه الأمة..

                    ويصفه سعد بن أبي وقاص بهذه الكلمات:

                    " ما رأيت أحدا أحضر فهما, ولا أكبر لبّا, ولا أكثر علما, ولا أوسع حلما من ابن عباس..

                    ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات, وحوله أهل بدر من المهاجرين والأنصار فيتحدث ابن عباس, ولا يجاوز عمر قوله"..

                    وتحدث عنه عبيد بن عتبة فقال:

                    " ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس..

                    ولا رأيت أحدا, أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه..

                    ولا أفقه في رأي منه..

                    ولا أعلم بشعر ولا عربية, ولا تفسير للقرآن, ولا بحساب وفريضة منه..

                    ولقد كان يجلس يوما للفقه.. ويوما للتأويل.. يوما للمغازي.. ويوما للشعر.. ويوم لأيام العرب وأخبارها..

                    وما رأيت عالما جلس اليه الا خضع له, ولا سائلا الا وجد عنده علما"..!!



                    **



                    ووصفه مسلم من أهل البصرة, وكان ابن عباس قد عمل واليا عليها للامام عليّ ابن أبي طالب, فقال:

                    " انه آخذ بثلاث, تارك لثلاث..

                    آخذ بقلوب الرجال اذا حدّث..

                    وبحسن الاستماع اذا حدّث..

                    وبأيسر الأمرين اذا خولف..

                    وتارك المراء..

                    ومصادقة اللئام..

                    وما يعتذر منه"..!!



                    **



                    وكان تنوّع ثقافته, وشمول معرفته ما يبهر الألباب.. فهو الحبر الحاذق الفطن في كل علم.. في تفسير القرآن وتأويله وفي الفقه.. وفي التاريخ.. وفي لغة العرب وآدابهم, ومن ثمّ فقد كان مقصد الباحثين عن المعرفة, يأتيه الناس أفواجا من أقطار الاسلام, ليسمعوا منه, وليتفقهوا عليه..

                    حدّث أحد أصحابه ومعاصريه فقال:

                    " لقد رأيت من ابن عباس مجلسا, لو أن جميع قريش فخرت به, لكان لها به الفخر..

                    رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق, فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب..

                    فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه, فقال لي: ضع لي وضوءا, فتوضأ وجلس وقال: أخرج اليهم, فادع من يريد أن يسأل عن القرآن وتأويله..فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت, فما سالوا عن شيء الا اخبرهم وزاد..

                    ثم قال لهم: اخوانكم.. فخرجوا ليفسحوا لغيرهم.

                    ثم قال لي: أخرج فادع من يريد أن يسأل عن الحلال والحرام..

                    فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت, فما سألوا عن شيء الا أخبرهم وزادهم..

                    ثم قال: اخوانكم.. فخرجوا..

                    ثم قال لي: ادع من يريد أن يسأل عن الفرائض, فآذنتهم, فدخلوا حتى ملؤا البيت, فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم..

                    ثم قال لي: ادع من يريد أن يسال عن العربية, والشعر..

                    فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤا البيت, فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم"!!



                    وكان ابن عباس يمتلك الى جانب ذاكرته القوية, بل الخارقة, ذكاء نافذا, وفطنة بالغة..

                    كانت حجته كضوء الشمس ألقا, ووضوحا, وبهجة.. وهو في حواره ومنطقه, لا يترك خصمه مفعما بالاقتناع وحسب, بل ومفعما بالغبطة من روعة المنطق وفطنة الحوار..

                    ومع غزارة علمه, ونفاذ حجته, لم يكن يرى في الحوار والمناقشة معركة ذكاء, يزهو فيها بعلمه, ثم بانتصاره على خصمه.. بل كان يراها سبيلا قويما لرؤية الصواب ومعرفته..

                    ولطالما روّع الخوارج بمنطقه الصارم العادل..

                    بعث به الامام عليّ كرّم الله وجهه ذات يوم الى طائفة كبيرة منهم فدار بينه وبينهم حوار رائع وجّه فيه الحديث وساق الحجة بشكل يبهر الألباب..

                    ومن ذلك الحوار الطويل نكتفي بهذه الفقرة..

                    سألهم ابن عباس:

                    " ماذا تنقمون من عليّ..؟"

                    قالوا:

                    " ننتقم منه ثلاثا:

                    أولاهنّ: أنه حكّم الرجال في دين الله, والله يقول ان الحكم الا لله..

                    والثانية: أنه قاتل, ثم لم يأخذ من مقاتليه سبيا ولا غنائم, فلئن كانوا كفارا, فقد حلّت أموالهم, وان كانوا مؤمنين فقد حرّمت عليه دماؤهم..!!

                    والثالثة: رضي عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين, استجابة لأعدائه, فان لم يكن امير المؤمنين, فهو أمير الكافرين.."

                    وأخذ ابن عباس يفنّد أهواءهم فقال:

                    " أما قولكم: انه حكّم الرجال في دين الله, فأيّ بأس..؟

                    ان الله يقول: يا أيها الذين آمنوا, لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم, ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم..

                    فنبؤني بالله: أتحكيم الرجال في حقن دماء المسلمين أحق وأولى, أم تحكيمهم في أرنب ثمنها درهم..؟؟!!

                    وتلعثم زعماؤهم تحت وطأة هذا المنطق الساخر والحاسم.. واستأنف حبر الأمة حديثه:

                    " وأما قولكم: انه قاتل فلم يسب ولم يغنم, فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول وأم المؤمنين سبيا, ويأخذ أسلابها غنائم..؟؟

                    وهنا كست وجوههم صفرة الخحل, وأخذوا يوارون وجوههم بأيديهم..

                    وانتقل ابن عباس الى الثالثة:

                    " وأما قولكم: انه رضي أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين, حتى يتم التحكيم, فاسمعوا ما فعله الرسول يوم الحديبية, اذ راح يملي الكتاب الذي يقوم بينه وبين قريش, فقال للكاتب: اكتب. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال مبعوث قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك..

                    فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله.. فقال لهم الرسول: والله اني لرسول الله وان كذبتم.. ثم قال لكاتب الصحيفة: أكتب ما يشاءون: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله"..!!

                    واستمرّ الحوار بين ابن عباس والخوارج على هذا النسق الباهر المعجز.. وما كاد ينتهي النقاش بينهم حتى نهض منهم عشرون ألفا, معلنين اقتناعهم, ومعلنين خروجهم من خصومة الامام عليّ..!!



                    **



                    ولم يكن ابن عباس يمتلك هذه الثروة الكبرى من العلم فحسب. بل كان يمتلك معها ثروة أكبر, من أخلاق العلم وأخلاق العلماء.

                    فهو في جوده وسخائه امام وعلم..

                    انه ليفيض على الناس من ماله.. بنفس السماح الذي يفيض به عليهم من علمه..!!

                    ولقد كان معاصروه يتحدثون فيقولون:

                    " ما رأينا بيتا أكثر طعاما, ولا شرابا, ولا فاكهة, ولا علما من بيت ابن عباس"..!!

                    وهو طاهر القلب, نقيّ النفس, لا يحمل لأحد ضغنا ولا غلا.

                    وهوايته التي لا يشبع منها, هي تمنّيه الخير لكل من يعرف ومن لا يعرف من الناس..

                    يقول عن نفسه:

                    " اني لآتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي أعلم..

                    واني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل, ويحكم بالقسط, فأفرح به وأدعو له.. ومالي عنده قضيّة..!!

                    واني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به, ومالي بتلك الأرض سائمة..!!"



                    **



                    وهو عابد قانت أوّاب.. يقوم من الليل, ويصوم من الأيام, ولا تخطئ العين مجرى الدموع تحت خديّه, اذ كان كثير البكاء كلما صلى.. وكلما قرأ القرآن..

                    فاذا بلغ في قراءته بعض آيات الزجر والوعيد, وذكر الموت, والبعث علا نشيجه ونحيبه.



                    **



                    وهو الى جانب هذا شجاع, أمين, حصيف.. ولقد كان له في الخلاف بين عليّ ومعاوية آراء تدلّ على امتداد فطنته, وسعة حيلته.

                    وهو يؤثر السلام على الحرب.. والرفق على العنف.. والمنطق على القسر..

                    عندما همّ الحسين رضي الله عنه بالخروج الى العراق ليقاتل زيادا, ويزيد, تعلق ابن عباس به واستمات في محاولة منعه.. فلما بلغه فيما بعد نبأ استشهاده, أقضّه الحزن عليه, ولزم داره.

                    وفي كل خلاف ينشب بين مسلم ومسلم, لم تكن تجد ابن عباس الا حاملا راية السلم, والتفاهم واللين..

                    صحيح أنه خاض المعركة مع الامام عليّ ضد معاوية. ولكنه فعل ذلك لأن المعركة في بدايتها كانت تمثل ردعا لازما لحركة انشقاق رهيبة, تهدد وحدة الدين ووحدة المسلمين.



                    **



                    وعاش ابن عباس يملأ دنياه علما وحكمة, وينشر بين الناس عبيره وتقواه..

                    وفي عامه الحادي والسبعين, دعي للقاء ربه العظيم وشهدت مدينة الطائف مشهدا حافلا لمؤمن يزف الى الجنان.

                    وبينما كان جثمانه يأخذ مستقره الآمن في قبره, كانت جنبات الأفق تهتز بأصداء وعد الله الحق:

                    ( يا أيتها النفس المطمئنة

                    ارجعي الى ربك راضية مرضية

                    فادخلي في عبادي

                    وادخلي جنتي)



                    إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                    نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                    جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                    تعليق


                    • #55
                      عباد بن بشر

                      معه من الله نور



                      عندما نزل مصعب بن عمير المدينة موفدا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ليعلم الأنصار الذين بايعوا الرسول على الاسلام, وليقيم بهم الصلاة, كان عباد بن بشر رضي الله عنه واحدا من الأبرار الذين فتح الله قلوبهم للخير, فأقبل على مجلس مصعب وأصغى اليه ثم بسط يمينه يبايعه على الاسلام, ومن يومئذ أخذ مكانه بين الأنصار الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه..

                      وانتقل النبي الى المدينة مهاجرا, بعد أن سبقه اليها المؤمنون بمكة.

                      وبدأت الغزوات التي اصطدمت فيها قوى الخير والنور مع قوى الظلام والشر.

                      وفي تلك المغازي كان عباد بن بشر في الصفوف الأولى يجاهد في سبيل الله متفانيا بشكل يبهر الألباب.



                      **



                      ولعل هذه الواقعة التي نرويها الآن تكشف عن شيء من بطولة هذا المؤمن العظيم..

                      بعد أن فرغ رسول الله والمسلمين من غزوة ذات الرقاع نزلوا مكانا يبيتون فيه, واختار الرسول للحراسة نفرا من الصحابة يتناوبونها وكان منهم عمار بن ياسر وعباد بن بشر في نوبة واحدة.

                      ورأى عباد صاحبه عمار مجهدا, فطلب منه أن ينام أول الليل على أن يقوم هو بالحراسة حتى يأخذ صاحبه من الراحة حظا يمكنه من استئناف الحراسة بعد أن يصحو.

                      ورأى عباد أن المكان من حوله آمن, فلم لا يملأ وقته اذن بالصلاة, فيذهب بمثوبتها مع مثوبة الحراسة..؟!

                      وقام يصلي..

                      واذ هو قائم يقرأ بعد فاتحة الكتاب سور من القرآن, احترم عضده سهم فنزعه واستمر في صلاته..!

                      ثم رماه المهاجم في ظلام الليل بسهم ثان نزعه وأنهى تلاوته..

                      ثم ركع, وسجد.. وكانت قواه قد بددها الاعياء والألم, فمدّ يمينه وهو ساجد الى صاحبه النائم جواره, وظل يهزه حتى استيقظ..

                      ثم قام من سجوده وتلا التشهد.. وأتم صلاته.

                      وصحا عمار على كلماته المتهدجة المتعبة تقول له:

                      " قم للحراسة مكاني فقد أصبت".

                      ووثب عمار محدثا ضجة وهرولة أخافت المتسللين, ففرّوا ثم التفت الى عباد وقال له:

                      " سبحان الله..

                      هلا أيقظتني أوّل ما رميت"؟؟

                      فأجابه عباد:

                      " كنت أتلو في صلاتي آيات من القرآن ملأت نفسي روعة فلم أحب أن أقطعها.

                      ووالله, لولا أن أضيع ثغرا أمرني الرسول بحفظه, لآثرت الموت على أن أقطع تلك الآيات التي كنت أتلوها"..!!



                      **



                      كان عباد شديد الولاء والحب لله, ولرسوله ولدينه..

                      وكان هذا الولاء يستغرق حياته كلها وحسه كله.

                      ومنذ سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول مخاطبا الأنصار الذين هو منهم:

                      " يا معشر الأنصار..

                      أنتم الشعار, والناس الدثار..

                      فلا أوتيّن من قبلكم".



                      نقول منذ سمع عباد هذه الكلمات من رسوله, ومعلمه, وهاديه الى الله, وهو يبذل روحه وماله وحياته في سبيل الله وفي سبيل رسوله..

                      في مواطن التضحية والموت, يجيء دوما أولا..

                      وفي مواطن الغنيمة والأخذ, يبحث عنه أصحابه في جهد ومشقة حتى يجدوه..!

                      وهو دائما: عابد, تستغرقه العبادة..

                      بطل, تستغرقه البطولة..

                      جواد, يستغرقه الجود..

                      مؤمن قوي نذر حياته لقضية الايمان..!!

                      وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:

                      " ثلاثة من الأنصار لم يجاوزهم في الفضل أحد:

                      " سعد بن معاذ..

                      وأسيد بن خضير..

                      وعبّاد بن بشر...



                      **



                      وعرف المسلمون الأوائل عبادا بأنه الرجل الذي معه نور من الله..

                      فقد كانت بصيرته المجلوّة المضاءة تهتدي الى مواطن الخير واليقين في غير بحث أو عناء..

                      بل ذهب ايمان اخوانه بنوره الى الحد الذي أسبغوا عليه في صورة الحس والمادة, فأجمعوا على ان عبادا كان اذا مشى في الظلام انبعثت منه أطياف نور وضوء, تضيء له الطريق..



                      **



                      وفي حروب الردة, بعد وفاة الرسول عليه السلام, حمل عباد مسؤولياته في استبسال منقطع النظير..

                      وفي موقعة اليمامة التي واجه المسلمون فيها جيشا من أقسى وأمهر الجيوش تحت قيادة مسيلمة الكذاب أحسّ عبّاد بالخطر الذي يتهدد الاسلام..

                      وكانت تضحيته وعنفوانه يتشكلان وفق المهام التي يلقيها عليه ايمانه, ويرتفعان الى مستوى احساسه بالخطر ارتفاعا يجعل منه فدائيا لا يحرص على غير الموت والشهادة..



                      **



                      وقبل أن تبدأ معركة اليمامة بيوم, رأى في منامه رؤيا لم تلبث أن فسرت مع شمس النهار, وفوق أرض المعركة الهائلة الضارية التي خاضها المسلمون..

                      ولندع صحابيا جليلا هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقص علينا الرؤيا التي رآها عبّاد وتفسيره لها, ثم موقفه الباهر في القتال الذي انتهى باستشهاده..

                      يقول أبو سعيد:

                      " قال لي عباد بن بشر يا أبا سعيد رأيت الليلة, كأن السماء قد فرجت لي, ثم أطبقت عليّ..

                      واني لأراها ان شاء الله الشهادة..!!

                      فقلت له: خيرا والله رأيت..

                      واني لأنظر اليه يوم اليمامة, وانه ليصيح بالأنصار:

                      احطموا جفون السيوف, وتميزوا من الناس..

                      فسارع اليه أربعمائة رجل, كلهم من الأنصار, حتى انتهوا الى باب الحديقة, فقاتلوا أشد القتال..

                      واستشهد عباد بن بشر رحمه الله..

                      ورأيت في وجهه ضربا كثيرا, وما عرفته الا بعلامة كانت في جسده..



                      **





                      هكذا ارتفع عباد الى مستوى واجباته كمؤمن من الأنصار, بايع رسول الله على الحياة لله, والموت في سبيله..

                      وعندما رأى المعركة الضارية تتجه في بدايتها لصالح الأعداء, تذكر كلمات رسول الله لقومه الأنصار:

                      " أنتم الشعار..

                      فلا أوتيّن من قبلكم"..

                      وملأ الصوت روعه وضميره..

                      حتى لكأن الرسول عليه الصلاة والسلام قائم الآن يردده كلماته هذه..

                      وأحس عباد أن مسؤولية المعركة كلها انما تقع على كاهل الأنصار وحدهم.. أو على كاهلهم قبل سواهم..

                      هنالك اعتلى ربوة وراح يصيح:

                      " يا معشر الأنصار..

                      احطموا جفون السيوف..

                      وتميزوا من الناس..

                      وحين لبّى نداءه أربعمائة منهم قادهم هو وأبو دجانة والبراء ابن مالك الى حديقة الموت حيث كان جيش مسيلمة يتحصّن.. وقاتل البطل القتال اللائق به كرجل.. وكمؤمن.. وكأنصاري..



                      **



                      وفي ذلك اليوم المجيد استشهد عباد..

                      لقد صدقت رؤياه التي رآها في منامه بالأمس..

                      ألم يكن قد رأى السماء تفتح, حتى اذا دخل من تلك الفرجة المفتوحة, عادت السماء فطويت عليه, وأغلقت؟؟

                      وفسرّها هو بأن روحه ستصعد في المعركة المنتظرة الى بارئها وخالقها..؟؟

                      لقد صدقت الرؤيا, وصدق تعبيره لها.

                      ولقد تفتحت أبواب السماء لتستقبل في حبور, روح عبّاد بن بشر..

                      الرجل الذي كان معه من الله نور..!!



                      إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                      نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                      جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                      تعليق


                      • #56
                        سهيل بن عمرو

                        من الطلقاء الى الشهداء



                        عندما وقع أسيرا بأيدي المسلمين في غزوة بدر اقترب عمر بن الخطاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:

                        " يا رسول الله.. دعني أنزع ثنيّتي سهيل بن عمرو حتى لا يقوم عليك خطيبا بعد اليوم"..

                        فأجابه الرسول العظيم:

                        " كلا يا عمر..

                        لا أمثل بأحد, فيمثل الله بي, وان كنت نبيا"..!

                        ثم أدنى عمر منه وقال عليه السلام:

                        " يا عمر..

                        لعل سهيلا غدا يقف موقفا يسرّك"..!!



                        **



                        ودارت نبوءة الرسول..

                        وتحوّل أعظم خطباء قريش سهيل بن عمرو الى خطيب باهرمن خطباء الاسلام..

                        وتحوّل المشرك اللدود.. الى مؤمن أوّاب, لا تكف عيناه من البكاء من خشية الله..!!

                        وتحوّل واحد من كبار زعماء قرسش وقادة جيوشها الى مقاتل صلب في سبيل الاسلام.. مقاتل عاهد نفسه أن يظل في رباط وجهاد حتى يدركه الموت على ذلك, عسى الله أن يغفر ما تقدم من ذنبه..!!

                        فمن كان ذلك المشرك العنيد, والمؤمن التقي الشهيد..؟؟



                        **



                        انه سهيل بن عمرو..

                        واحد من زعماء قريش المبرّرين, ومن حكمائها وذوي الفطنة والرأي فيها..

                        وهو الذي انتدبته قريش ليقنع الرسول بالعدول عن دخول مكة عام الحديبية..

                        ففي أخريات العام الهجري السادس خرج الرسول وأصحابه الى مكة ليزوروا البيت الحرام, وينشؤا عمرة, لا يريدون حربا, وليسوا مستعدين لقتال..

                        وعلمت قريش بمسيرهم الى مكة, فخرجت لتقطععليهم الطريق, وتصدّهم عن وجهتهم..

                        وتأزم الموقف, وتوترت الأنفس..

                        وقال الرسول لأصحابه:

                        " لا تدعوني قريش اليوم الى خطة يسألونني فيها صلة الرحم الا أعطيتهم اياها"..

                        وراحت قريش ترسل رسلها ومندوبيها الى النبي عليه الصلاة والسلام, فيخبرهم جميعا أنه لم يأت لقتال, انما جاء يزور البيت الحرام, ويعظم حرماته:

                        وكلما عاد الى قريش أحد مندوبيها, أرسلوا من بعده آخر أقوى شكيمة, وأشد اقناعا حتى اختاروا عروة بن مسعود الثقفي وكان من أقواهم وأفطنهم.. وظنت قريش أن عروة قادر على اقناع الرسول بالعودة.

                        ولكنه سرعان ما رجع اليهم يقول لهم:

                        " يا معشر قريش..

                        اني قد جئت كسرى في ملكه, وقيصر في ملكه, والنجاشي في ملكه..

                        واني والله ما رأيت ملكا قط يعظمه قومه, كما يعظم أصحاب محمد محمدا..!!

                        ولقد رأيت حوله قوما لن يسلموه لسوء أبدا..

                        فانظروا رأيكم"..!!



                        **



                        عندئذ آمنت قريش أنه لا جدوى من محاولاتها وقررت أن تلجأ الى المفاوضة والصلح.. واختارت لهذه المهمة أصلح زعمائها لها.. وكان سهيل بن عمرو..

                        رأى المسلمون سهيلا وهو مقبل عليهم فعرفوه, وأدركوا أن قريشا آثرت طريق التفاهم والمصالحة, ما دامت قد بعثت آخر الأمر سهيلا..

                        وجلس سهيل بين يدي الرسول, ودار حوار طويل انتهى بالصلح..

                        وحاول سهيل أن يكسب لقريش الكثير.. وساعده على ذلك, التسامح النبيل والمجيد الذي كان الرسول عليه الصلاة والسلام يديره في التفاوض والصلح..

                        ومضت الأيام, ينادي بعضها بعضا, جتى جاءت السنة الثامنة من الهجرة.. وخرج الرسول والمسلمون لفتح مكة بعد أن نفضت قريش عهدها وميثاقها مع رسول الله.

                        وعاد المهاجرون الى وطنهم الذين أخرجهم بالأمس كارهين..

                        عادوا, ومعهم الأنصار الذين آووهم في مينتهم وآثروهم على أنفسهم..

                        وعاد الاسلام كله, تخفق في جو السماء راياته الظافرة..

                        وفتحت مكة جميع أبوابها..

                        ووقف المشركون في ذهول.. ترى ماذا سيكون اليوم مصيرهم, وهم الذين أعملوا بأسهم في المسلمين من قبل قتلا, وحرقا, وتعذيبا, وتجويعا..؟!

                        ولم يشأ الرسول الرحيم أن يتركهم طويلا تحت وطأة هذه المشاعر المذلة المنهكة.

                        فاستقبل وجوههم في تسامح وأناة, وقال لهم ونبرات صوته الرحيم تقطر حنانا ورفقا:

                        " يا معشر قريش..

                        ما تظنون أني فاعل بكم"..؟؟

                        هنالك تقدم خصم الاسلام بالأمس سهيل بن عمرو وقال مجيبا:

                        " نظن خيرا, أخ كريم, وابن أخ كريم".

                        وتألقت ابتسامة من نور على شفتي حبيب الله وناداهم:

                        " اذهبوا...

                        فأنتم الطلقاء"..!!

                        لم تكن هذه الكلمات من الرسول المنتصر لتدع انسانا حيّ المشاعر الا أحالته ذوبا من طاعة وخجل, بل وندم..

                        وفي نفس اللحظة استجاش هذا الموقف الممتلئ نبلا وعظمة, كل مشاعر سهيل بن عمرو فأسلم لله رب العالمين.

                        ولم يكن اسلامه ساعتئذ, اسلام رجل منهزم مستسلم للمقادير.

                        بل كان كما سيكشف عنه مستقبله فيما بعد اسلام رجل بهرته وأسرته عظمة محمد وعظمة الدين الذي يتصرّف محمد وفق تعاليمه, ويحمل في ولاء هائل رايته ولواءه..!!



                        **



                        أطلق على الذين أسلموا يوم الفتح اسم الطلقاء.. أي الذين نقلهم عفو الرسول من الشرك الى الاسلام حين قال لهم:

                        " اذهبوا فأنتم الطلقاء"

                        بيد أن نفرا من أولئك الطلقاء جاوزوا هذا الخط باخلاصهم الوثيق, وسموا الى آفاق بعيدة من التضحية والعبادة والطهر, وضعتهم في الصفوف الأولى بين أصحاب النبي الأبرار ومن هؤلاء سهيل بن عمرو.



                        **



                        لقد صاغه الاسلام من جديد.

                        وصقل كل مواهبه الأولى, وأضاف اليها, ثم وضعها جميعا في خدمة الحق, والخير, والايمان..

                        ولقد نعتوه في كلمات فقالوا:

                        " السّمح, الجواد..

                        كثير الصلاة, والصوم, والصدقة, وقراءة القرآن, والبكاء من خشية الله"..!!

                        وتلك هي عظمة سهيل.

                        فعلى الرغم من أنه أسلم يوم الفتح, لا قبله, نراه يصدق في اسلامه وفي يقينه, الى مدى الذي يتفوّق فيه على كل نفسه, ويتحوّل الى عابد, زاهد والى فدائي مجاهد في سبيل الله والاسلام.

                        ولما انتقل الرسول الى الرفيق الأعلى, لم يكد النبأ يبلغ مكة, وكان سهيل يومئذ مقيما بها, حتى غشي المسلمين هناك من الهرج والذهول ما غشي المسلمين بالمدينة.

                        واذا كان ذهول المدينة, قد بدّده أبو بكر رضي الله عنه ساعتئذ بكلماته الحاسمة:

                        " من كان يعبد محمد, فان محمدا قد مات..

                        ومن كان يعبد الله, فان الله حيّ لا يموت"..



                        فسيأخذنا العجب حين نرى سهيلا رضي الله عنه هو الذي وقف بمكة, نفس موقف أبي بكر بالمدينة.

                        فقد جمع المسلمين كلهم هناك, ووقف يبهرهم بكلماته الناجعة, يخبرهم أن محمدا كان رسول الله حقا.. وأنه لم يمت حتى أدّى الأمانة, وبلّغ الرسالة. وأنه واجب المؤمنين به أن يمعنوا من بعده السير على منهجه.

                        وبموقف سهيل هذا, وبكلماته الرشيدة وايمانه الوثيق, درأ الفتنة التي كادت تقلع ايمان بعض الناس بمكة حين بلغهم نبأ وفاة الرسول..!!

                        وفي هذا اليوم أكثر من سواه تألقت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                        ألم يكن لعمر يوم استأذنه في نزع ثنيتي سهيل أثناء أسره ببدر:

                        " دعها فلعلها تسرك يوما"..؟!

                        ففي هذا اليوم.. وحين بلغ المسلمين بالمدينة موقف سهيل بمكة وخطابه الباهر الذي ثبت الايمان في الأفئدة, تذكر عمر بن الخطاب نبوءة الرسول.. وضحك طويلا, اذ جاء اليوم الذي انتفع فيه الاسلام بثنيتي سهيل اللتين كان عمر يريد تهشيمهما واقتلاعهما..!!



                        **



                        عندما أسلم سهيل يوم الفتح.

                        وبعد أن ذاق حلاوة الايمان, أخذ على نفسه عهدا لخصه في هذه الكلمات:

                        " والله لا أدع موقفا من المشركين, الا وقفت مع المسلمين مثله... ولا نفقة أنفقتها مع المشركين الا أنفقت مع المسلمين مثلها, لعل أمري أن يتلو بعضه بعضا"..!!

                        ولقد وقف مع المشركين طويلا أمام أصنامهم..

                        فليقف الآن طويلا وطويلا مع المؤمنين بين يدي الله الواحد الأحد.

                        وهكذا راح يصلي.. ويصلي..

                        ويصوم.. ويصوم..

                        ولا يدع عبادة تجلو روحه, وتقربه من ربه الأعلى الا أخذ منها حظا وافيا..

                        وكذلك كان في أمسه يقف مع المشركين في مواطن العدوان والحرب ضد الاسلام.

                        فليأخذ الآن مكانه في جيش الاسلام, مقاتلا شجاعا, يطفئ مع كتائب الحق نار فارس التي يعبدونها من دون الله, ويحرقون فيها مصاير الشعوب التي يستعبدونها. ويدمدم مع كتائب الحق أيضا على ظلمات الرومان وظلمهم..

                        وينشر كلمة التوحيد والتقوى في كل مكان.



                        وهكذا خرج الى الشام مع جيوش المسلمين, مشاركا في حروبها.

                        ويوم اليرموك حيث خاض المسلمون موقعة تناهت في الضراوة والعنف والمخاطرة..

                        كان سهيل بن عمرو يكاد يطير من الفرح, اذ وجد هذه الفرصة الدسمة لكي يبذل من ذات نفسه في هذا اليوم العصيب ما يمحق به خطايا جاهليته وشركه..



                        **



                        وكان يحب وطنه مكة حبا ينسيه نفسه..

                        ومع ذلك, فقد أبى أن يرجع اليها بعد انتصار المسلمين بالشام وقال:

                        " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مقام أحدكم في سبيل الله ساعة, خير له من عمله طوال عمره..

                        واني لمرابط في سبيل الله حتى أموت, ولن أرجع الى مكة"..!!



                        **



                        ووفى سهيل عهده..

                        وظل بقيّة حياته مرابطا, حتى جاء موعد رحيله, فطارت روحه مسرعة الى رحمة من الله ورضوان..
                        إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                        نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                        جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                        تعليق


                        • #57
                          أبو موسى الأشعري

                          الاخلاص.. وليكن ما يكون



                          عندما بعثه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الى البصرة, ليكون أميرها وواليها, جمع أهلها وقام فيهم خطيبا فقال:

                          " ان أمير المؤمنين عمر بعثني اليكم, أعلمكم كتار بكم, وسنة نبيكم, وأنظف لكم طرقكم"..!!

                          وغشي الانس من الدهش والعجب ما غشيهم, فانهم ليفهمون كيف يكون تثقيف الناس وتفقيههم في دينهم من واجبات الحاكم والأمير, أما أن يكون من واجباته تنظيف طرقاتهم, فذاك شيء جديد عليهم بل مثير وعجيب..

                          فمن هذا الوالي الذي قال عنه الحسن رضي الله عنه:

                          " ما أتى البصرة راكب خير لأهلها منه"..؟



                          **



                          انه عبدالله بن قيس المكنّى بـ أبي موسى الأشعري..

                          غادر اليمن بلده ووطنه الى مكة فور سماعه برسول ظهر هناك يهتف بالتوحيد ويدعو الى الله على بصيرة, ويأمر بمكارم الأخلاق..

                          وفي مكة, جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..

                          وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله, ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..

                          وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله, ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثر فراغه من فتح خيبر..

                          ووافق قدومه قدوم جعفر بن أبي طالب مقبلا مع أصحابه من الحبشة فأسهم الرسول لهم جميعا..

                          وفي هذه المرّة لم يأت أبو موسى الأشعري وحده, بل جاء معه بضعة وخمسون رجلا من أهل اليمن الذين لقنهم الاسلام, وأخوان شقيقان له, هم, أبو رهم, وأبو بردة..

                          وسمّى الرسول هذا الوفد.. بل سمّى قومهم جميعا بالأشعريين..

                          ونعتهم الرسول بأنهم أرق الناس أفئدة..

                          وكثيرا ما كان يضرب المثل الأعلى لأصحابه, فيقول فيهم وعنهم:

                          " ان الأشغريين اذا أرملوا في غزو, أو قلّ في أيديهم الطعام, جمعوا ما عندهم في ثوب واحد, ثم اقتسموا بالسويّة.

                          " فهم مني.. وانا منهم"..!!

                          ومن ذلك اليوم أخذ أبو موسى مكانه الدائم والعالي بين المسلمين والمؤمنين, الذين قدّر لهم أن يكونوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلامذته, وأن يكونوا حملة الاسلام الى الدنيا في كل عصورها ودهورها..



                          **



                          أبو موسى مزيج عجيب من صفات عظيمة..

                          فهو مقاتل جسور, ومناضل صلب اذا اضطر لقتال..

                          وهو مسالم طيب, وديع الى أقصى غايات الطيبة والوداعة..!!

                          وهو فقيه, حصيف, ذكي يجيد تصويب فهمه الى مغاليق الأمور, ويتألق في الافتاء والقضاء, حتى قيل:

                          " قضاة هذه الأمة أربعة:

                          " عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت"..!!

                          ثم هو مع هذا, صاحب فطرة بريئة, من خدعه في الله, انخدع له..!!

                          وهو عظيم الولاء والمسؤولية..

                          وكبير الثقة بالناس..

                          لو أردنا أن نختار من واقع حياته شعارا, لكانت هذه العبارة:

                          " الاخلاص وليكن ما يكون"..

                          في مواطن الجهاد, كان الأشعري يحمل مسؤولياته في استبسال مجيد مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلمي يقول عنه:

                          " سيّد الفوارس, أبو موسى"..!!

                          وانه ليرينا صورة من حياته كمقاتل فيقول:

                          " خرجنا مع رسول الله في غزاة, نقبت فيها أقدامنا, ونقّبت قدماي, وتساقطت أظفاري, حتى لففنا أقدامنا بالخرق"..!!

                          وما كانت طيبته وسلامة طويته ليغريا به عدوّا في قتال..

                          فهو في موطن كهذا يرى الأمور في وضوح كامل, ويحسمها في عزم أكيد..



                          ولقد حدث والمسلمون يفتحون بلاد فارس أن هبط الأشعري يجيشه على أهل أصبهان الذين صالحوه على الجزية فصالحهم..

                          بيد أنهم في صلحهم ذاك لم يكونوا صادقين.. انما ارادوا أن يهيئوا لأنفسهم الاعداد لضربة غادرة..

                          ولكن فطنة أبي موسى التي لا تغيب في مواطن الحاجة اليها كانت تستشف أمر أولئك وما يبيّتون.. فلما همّوا بضربتهم لم يؤخذ القائد على غرّة, وهنالك بارزهم القتال فلم ينتصف النهار حتى كان قد انتصر انتصارا باهرا..!!



                          **



                          وفي المعارك التي خاضها المسلمون ضدّ امبراطورية الفرس, كان لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه, بلاؤه العظيم وجهاده الكريم..

                          وفي موقعة تستر بالذات, حيث انسحب الهرزمان بجيشه اليها وتحصّن بها, وجمع فيها جيوشا هائلة, كان أبو موسى بطل هذه الموقعة..

                          ولقد أمدّه أمير المؤمنين عمر يومئذ بأعداد هائلة من المسلمين, على رأسهم عمار بن ياسر, والبراء بن مالك, وأنس بن مالك, ومجزأة البكري وسلمة بن رجاء..

                          واتقى الجيشان..

                          جيش المسلمين بقيادة أبو موسى.. وجيش الفرس بقيادة الهرزمان في معركة من أشد المعارك ضراوة وبأسا..

                          وانسحب الفرس الى داخل مدينة تستر المحصنة..

                          وحاصرها المسلمون أياما طويلة, حتى أعمل أبو موسى عقله وحيلته..

                          وأرسل مائتي فارس مع عميل فارسي, أغراه أبو موسى بأن يحتال حتى يفتح باب المدينة, أمام الطليعة التي اختارها لهذه المهمة.

                          ولم تكد الأبواب تفتح, وجنود الطليعة يقتحمون الحصن حتى انقض أبو موسى بجيشه انقضاضا مدمدما.

                          واستولى على المعقل الخطير في ساعات. واستسلم قادة الفرس, حيث بعث بهم أبو موسى الى المدينة ليرى أمير المؤمنين فيهم رأيه..



                          **



                          على أن هذا المقاتل ذا المراس الشديد, لم يكن يغادر أرض المعركة حتى يتحوّل الى أوّاب, بكّاء وديع كالعصفور...

                          يقرأ القرآن بصوت يهز أعماق من سمعه.. حتى لقد قال عنه الرسول:

                          " لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود"..!

                          كان عمر رضي الله عنه كلما رآه دعاه ليتلو عليه من كتاب الله.. قائلا له:

                          " شوّقنا الى ربنا يا أبا موسى"..

                          كذلك لم يكن يشترك في قتال الا أن يكون ضد جيوش مشركة, جيوش تقاوم الدين وتريد أن تطفئ نور الله..

                          أما حين يكون القتال بين مسلم ومسلم, فانه يهرب منه ولا يكون له دور أبدا.

                          ولقد كان موقفه هذا واضحا في نزاع عليّ ومعاوية, وفي الحرب التي استعر بين المسلمين يومئذ أوراها.

                          ولعل هذه النقطة من الحديث تصلنا بأكثر مواقف حياته شهرة, وهو موقفه من التحكيم بين الامام علي ومعاوية.

                          هذا الموقف الذي كثيرا ما يؤخذ آية وشاهدا على افراط أبي موسى في الطيبة الى حد يسهل خداعه.

                          بيد أن الموقف كما سنراه, وبرغم ما عسى أن يكون فيه تسرّع أو خطأ, انما يكشف عن عطمة هذا الصحابي الجليل, عظمة نفسه, وعظمة ايمانه بالحق, وبالناس, ان راي أبي موسى في قضية التحكيم يتلخص في أنه وقد رأى المسلمين يقتل بعضهم بعضا, كل فريق يتعصب لامام وحاكم.. كما رأى الموقف بين المقاتلين قد بلغ في تأزمه واستحالة تصفيته المدى الذي يضع مصير الأمة المسلمة كلها على حافة الهاوية.

                          نقول: ان رأيه وقد بلغت الحال من السوء هذا المبلغ, كان يتلخص في تغيير الموقف كله والبدء من جديد.

                          ان الحرب الأهلية القائمة يوم ذاك انما تدور بين طائفتين من المسلمين تتنازعان حول شخص الحاكم, فليتنازل الامام علي عن الخلافة مؤقتا, وليتنازل عنها معاوية, على أن يرد الأمر كله من جديد الى المسلمين يختارون بطريق الشورى الخليفة الذي يريدون.

                          هكذا ناقش أبو موسى القضية, وهكذا كان حله.

                          صحيح أن عليّا بويع بالخلافة بيعة صحيحة.

                          وصحيح أن كل تمرد غير مشروع لا ينبغي أن يمكّن من غرضه في اسقاط الحق المشروع. بيد أن الأمور في النزاع بين الامام ومعاوية وبين أهل العراق وأهل الشام, في رأي أبي موسى, قد بلغت المدى الذي يفرض نوعا جديدا من التفكير والحلول.. فعصيان معاوية, لم يعد مجرّد عصيان.. وتمرّد أهل الشام لم يعد مجرد تمرد.. والخلاف كله يعود مجرد خلاف في الرأي ولا في الاختيار..

                          بل ان ذلك كله تطوّر الى حرب أهلية ضارية ذهب ضحيتها آلاف القتلى من الفريقين.. ولا تزال تهدد الاسلام والمسلمين بأسوأ العواقب.

                          فازاحة أسباب النزاع والحرب, وتنحية أطرافه, مثّلا في تفكير أبي موسى نقطة البدء في طريق الخلاص..

                          ولقد كان من رأي الامام علي حينما قبل مبدأ التحكيم, أن يمثل جبهته في التحكيم عبدالله بن عباس, أو غيره من الصحابة. لكن فريقا كبيرا من ذوي البأس في جماعته وجيشه فرضا عليه أبا موسى الأشعري فرضا.

                          وكانت حجتهم في اختيار أبا موسى أنه لم يشترك قط في النزاع بين علي ومعاوية, بل اعتزل كلا الفريقين بعد أن يئس من حملهما على التفاهم والصلح ونبذ القتال. فهو بهذه المثابة أحق الناس بالتحكيم..

                          ولم يكن في دين أبي موسى, ولا في اخلاصه وصدقه ما يريب الامام.. لكنه كان يدرك موايا الجانب الآخر ويعرف مدى اعتمادهم على المناورة والخدعة. وأبو موسى برغم فقهه وعلمه يكره الخداع والمناورة, ويحب أن يتعامل مع الناس بصدقه لا بذكائه. ومن ثم خشي الامام علي أن ينخدع أبو موسى للآخرين, ويتحول التحكيم الى مناورة من جانب واحد, تزيد الأمور سوءا...



                          **



                          بدأ التحيكم بين الفريقين..

                          أبو موسى الأشعري يمثل جبهة الامام علي..

                          وعمرو بن العاص, يمثل جانب معاوية.

                          والحق أن عمرو بن العاص اعتمد على ذكائه الحاد وحيلته الواسعة في أخذ الراية لمعاوية.

                          ولقد بدأ الاجتماع بين الرجلين, الأشعري, وعمرو باقتراح طرحه أبو موسى وهو أن يتفق الحكمان على ترشيح عبدالله بن عمر بل وعلى اعلانه خليفة للمسلمين, وذلك لما كان ينعم به عبدالله بن عمر من اجماع رائع على حبه وتوقيره واجلاله.

                          ورأى عمرو بن العاص في هذا الاتجاه من أبي موسى فرصة هائلة فانتهزها..

                          ان مغزى اقتراح أبي موسى, أنه لم يعد مرتبطا بالطرف الذي يمثله وهو الامام علي..

                          ومعناه أيضا أنه مستعد لاسناد الخلافة الى آخرين من أصحاب الرسول بدليل أنه اقترح عبدالله بن عم..

                          وهكذا عثر عمرو بدهائه على مدخل فسيح الى غايته, فراح يقترح معاوية.. ثم اقترح ابنه عبدالله بن عمرو وكان ذا مكانة عظيمة بين أصحاب رسول الله.

                          ولك يغب ذكاء أبي موسى أمام دهاء عمرو.. فانه لم يكد يرى عمرا يتخذ مبدأ الترشيح قاعدة الترشيح للحديث والتحكيم حتى لوى الزمام الى وجهة أسلم, فجابه عمرا بأن اختيار الخليفة حق للمسلمين جميعا, وقد جعل الله أمرهم شورى بينهم, فيجب أن يترك الأمر لهم وحدهم وجميعهم لهم الحق في هذا الاختيار..

                          وسوف نرى كيف استغل عمرو هذا المبدأ الجليا لصالح معاوية..

                          ولكن قبل ذلك لنقرأ نص الحوار التاريخي الذي دار بين أبي موسى وعمرو بن العاص في بدء اجتماعهما:

                          أبو موسى: يا عمرو, هل لك في صلاح الأمة ورضا الله..؟

                          عمرو: وما هو..؟

                          أبو موسى: نولي عبدالله بن عمر, فانه لم يدخل نفسه في شيء من هذه الحرب.

                          عمرو: وأين أنت من معاوية..؟

                          أبو موسى: ما معاوية بموضع لها ولا يستحقها.

                          عمرو: ألست تعلم أن عثمان قتل مظلموا..؟

                          أبو موسى: بلى..

                          عمرو: فان معاوية وليّ دم عثمان, وبيته في قريش ما قد علمت. فان قال الناس لم أولي الأمر ولست سابقة؟ فان لك في ذلك عذرا. تقول: اني وجدته ولي عثمان, والله تعالى يقول: ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا).. وهو مع هذا, اخو أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم, وهو أحد أصحابه..

                          أبو موسى: اتق الله يا عمرو..

                          أمّا ما ذكرت من شرف معاوية, فلو كانت الخلافة تستحق بالشرف لكان أحق الناس بها أبرهة بن الصبّاح فانه من أبناء ملوك اليمن التباعية الذين ملكوا شرق الأرض ومغربها.. ثم أي شرف لمعاوية مع علي بن أبي طالب..؟؟

                          وأما قولك: ان معاوية ولي عثمان, فأولى منه عمرو بن عثمان..

                          ولكن ان طاوعتني أحيينا سنة عمر بن الخطاب وذكره, بتوليتنا ابنه عبدالله الحبر..

                          عمرو: فما يمنعك من ابني عبدالله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته..؟

                          أبو موسى: ان ابنك رجل صدق, ولكنك قد غمسته في هذه الحروب غمسا, فهلم نجعلها للطيّب بن الطيّب.. عبدالله بن عمر..

                          عمرو: يا أبا موسى, انه لا يصلح لهذا الأمر الا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما, ويطعم بالآخر..!!

                          أبو موسى: ويحك يا عمرو.. ان المسلمين قد أسندوا الينا الأمر بعد أن تقارعوا السيوف, وتشاكوا بالرماح, فلا نردهم في فتنة.

                          عمرو: فماذا ترى..؟أبو موسى: أرى أن نخلع الرجلين, عليّا ومعاوية, ثم نجعلها شورى بين المسلمين, يختارون لأنفسهم من يحبوا..

                          عمرو: رضيت بهذا الرأي فان صلاح النفوس فيه..

                          ان هذا الحوار يغير تماما وجه الصورة التي تعوّدنا أن نرى بها أبا موسى الأشعري كلما ذكرنا واقعة التحكيم هذه..

                          ان أبا موسى كان أبعد ما يكون عن الغفلة..

                          بل انه في حواره هذا كان ذكاؤه أكثر حركة من ذكاء عمرو بن العاص المشهور بالذكاء والدهاء..

                          فعندما أراد عمرو أن يجرّع أبا موسى خلافة معاوية بحجة حسبه في قريش, وولايته لدم عثمان, جاء رد أبي موسى حاسما لامعا كحد السيف..

                          اذا كانت الخلافة بالشرف, فأبرهة بن الصباح سليل الملوك أولى بها من معاوية..

                          واذا كانت بدم عثمان والدفاع عن حقه, فابن عثمان رضي الله عنه, اولى بهذه الولاية من معاوية..



                          **



                          لقد سارت قضية التحيكم بعد هذا الحوار في طريق يتحمّل مسؤليتها عمرو بن العاص وحده..

                          فقد أبرأ أبو موسى ذمته بردّ الأمر الى الأمة, تقول كلمتها وتخنار خليفتها..

                          ووافق عمرو والتزم بهذا الرأي..

                          ولم يكن يخطر ببال أبي موسى أن عمرو في هذا الموقف الذي يهدد الاسلام والمسلمين بشر بكارثة, سيلجأ الى المناورة, هما يكن اقتناعه بمعاوية..

                          ولقد حذره ابن عباس حين رجع اليهم يخبرهم بما تم الاتفاق عليه..

                          حذره من مناورات عمرو وقال له:

                          " أخشى والله أن يكون عمرو قد خدعك, فان كنتما قد اتفقتما على شيء فقدمه قبلك ليتكلم, ثم تكلم أنت بعده"..!

                          لكن أبا موسى كان يرى الموقف أكبر وأجل من أن يناور فيه عمرو, ومن ثم لم يخالجه أي ريب أوشك في التزام عمرو بما اتفقنا عليه..

                          واجتمعا في اليوم التالي.. أبو موسى ممثلا لجبهة الامام علي, وعمرو بن العاص ممثلا لجبهة معاوية..

                          ودعا أبو موسى عمرا ليتحدث.. فأبى عمرو وقال له:


                          " ما كنت لأتقدمك وأنت أكثر مني فضلا.. وأقدم هجرة.. وأكبر سنا"..!!

                          وتقد أبو موسى واستقبل الحشود الرابضة من كلا الفريقين.

                          وقال:

                          " أيها الناس.. انا قد نظنا فيما يجمع الله به ألفة هذه الأمة, ويصلح أمرها, فلم نر شيئا أبلغ من خلع الرجلين علي ومعاوية, وجعلها شورى يختار الناس لأنفسهم من يرونه لها..

                          واني قد خلعت عليا ومعاوية..

                          فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من أحببتم"...

                          وجاء دور عمرو بن العاص ليعلن خلع معاوية, كما خلع أبو موسى عليا, تنفيذا للاتفاق المبرم بالأمس...

                          وصعد عمرو المنبر, وقال:

                          " أيها الناس, ان أبا موسى قد قال كما سمعتم وخلع صاحبه,

                          ألا واني قد خلعت صاحبه كما خلعه, وأثبت صاحبي معاوية, فانه ولي أمير المؤمنين عثمان والمطالب بدمه, وأحق الناس بمقامه.."!!

                          ولم يحتمل أبو موسى وقع المفاجأة, فلفح عمرا بكلمات غاضبة ثائرة..

                          وعاد من جديد الى عزلته, وأغذّ خطاه الى مكة.. الى جوار البيت الحرام, يقضي هناك ما بقي له من عمر وأيام..

                          كان أبو موسى رضي الله عنه موضع ثقة الرسول وحبه, وموضع ثقة خلفائه واصحابه وحبهم...

                          ففيحياته عليه الصلاة والسلام ولاه مع معاذ بن جبل أمر اليمن..

                          وبعد وفاة الرسول عاد الى المدينة ليجمل مسؤولياته في الجهاد الكبير الذي خاضته جيوش الاسلام ضد فارس والروم..

                          وفي عهد عمر ولاه أمير المؤمنين البصرة..

                          وولاه الخليفة عثمان الكوفة..



                          **



                          وكان من أهل القرآن, حفظا, وفقها, وعملا..

                          ومن كلماته المضيئة عن القرآن:

                          " اتبعوا القرآن..

                          ولا تطمعوا في أن يتبعكم القرآن"..!!

                          وكان من اهل العبادة المثابرين..

                          وفي الأيام القائظة التي يكاد حرّها يزهق الأنفاس, كنت تجد أبا موسى يلقاها لقاء مشتاق ليصومها ويقول:

                          " لعل ظمأ الهواجر يكون لنا ريّا يوم القيامة"..



                          **



                          وذات يوم رطيب جاءه أجله..

                          وكست محيّاه اشراقة من يرجو رحمة الله وحسن ثوابه.ز

                          والكلمات التي كان يرددها دائما طوال حياته المؤمنة, راح لسانه الآن وهو في لحظات الرحيل يرددها.ز

                          تلك هي:

                          " اللهم أنت السلام..ومنك السلام"...
                          إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                          نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                          جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                          تعليق


                          • #58
                            الطفيل بن عمرو الدوسي
                            الفطرة الراشدة



                            في أرض دوس نشأ بين أسرة شريفة كريمة..

                            وأوتي موهبة الشعر, فطار بين القبائل صيته ونبوغه..

                            وفي مواسم عكاظ حيث يأتي الشعراء العرب من كل فج ويحتشدون ويتباهون بشعرائهم, كان الطفيل يأخذ مكانه في المقدمة..



                            كما كان يتردد على مكة كثيرا في غير مواسم عكاظ..

                            وذات مرة كان يزورها, وقد شرع الرسول يجهر بدعوته..

                            وخشيت قريش أن يلقاه الطفيل ويسلم, ثم يضع موهبته الشعرية في خدمة الاسلام, فتكون الطامة على قريش وأصنامها..

                            من أجل ذلك أحاطوا به.. وهيئوا له من الضيافة كل أسباب الترف والبهجة والنعيم, ثم راحوا يحذرونه لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويقولون له:

                            " ان له قولا كالسحر, يفرّق بين الرجل وابيه.. والرجل وأخيه.. والرجل وزوجته.. ونا نخشى عليك وعلى قومك منه, فلا تكلمه ولا تسمع منه حديثا"..!!

                            ولنصغ للطفيل ذاته يروي لنا بقية النبأ فيقول:

                            " فوالله ما زالوا بي حتى عزمت ألا أسمع منه شيئا ولا ألقاه..

                            وحين غدوت الى الكعبة حشوت أذنيّ كرسفا كي لا أسمع شيئا من قوله اذا هو تحدث..

                            وهناك وجدته قائما يصلي عند الكعبة, فقمت قريبا منه, فأبي الله الا أن يسمعني بعض ما يقرأ, فسمعت كلاما حسنا..

                            وقلت لنفسي: واثكل أمي.. والله اني لرجل لبيب شاعر, لا يخفى عليّ الحسن من القبيح, فما يمنعني أن أسمع من الرجل ما يقول, فان كان الذي يأتي به حسن قبلته, وان كان قبيحارفضته.

                            ومكثت حتى انصرف الى بيته, فاتبعته حتى دخل بيته, فدخلت وراءه, وقلت له: يا محمد, ان قومك قد حدثوني عنك كذا وكذا.. فوالله ما برحوا يخوّفوني أمرك حتى سددت أذنيّ بكرسف لئلا أسمع قولك..

                            ولكن الله شاء أن أسمع, فسمعت قولا حسنا, فاعرض عليّ أمرك..

                            فعرض الرسول عليّ الاسلام, وتلا عليّ من القرآن..

                            فأسلمت, وشهدت شهادة الحق, وقلت: يا رسول الله: اني امرؤ مطاع في قومي واني راجع اليهم, وداعيهم الى الاسلام, فادع الله أن يجعل لي آية تكون عونا لي فيما أدعهوهم اليه, فقال عليه السلام: اللهم اجعل له آية"..



                            **



                            لقد أثنى الله تعالى في كتابه على " الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه"..

                            وها نحن أولاء نلتقي بواحد من هؤلاء..

                            انه صورة صادقة من صور الفطرة الرشيدة..

                            فما كاد سمعه يلتقط بعض آيات الرشد والخير التي أنزلها الله على فؤاد رسوله, حتى تفتح كل سمعه, وكل قلبه. وحتى بسط يمينه مبايعا.. ليس ذلك فحسب.. بل حمّل نفسه من فوره مسؤولية دعوة قومه وأهله الى هذا الدين الحق, والصراط المستقيم..!



                            من أجل هذا, نراه لا يكاد يبلغ بلده وداره في أرض دوس حتى يواجه أباه بالذي من قلبه من عقيدة واصرار, ويدعو أباه الى الاسلام بعد أن حدّثه عن الرسول الذي يدعو الى الله.. حدثه عن عظمته.. وعن طهره وأمانته.. عن اخلاصه واخباته لله رب العالمين..

                            وأسلم أبوه في الحال..

                            ثم انتقل الى أمه, فأسلمت

                            ثم الى زوجه, فأسلمت..

                            ولما اطمأن الى أن الاسلام قد غمر بيته, انتقل الى عشيرته, والى أهل دوس جميعا.. فلم يسلم منهم أحد سوى أبي هريرة رضي الله عنه..

                            ولقد راحوا يخذلونه, وينأون عنه, حتى نفذ صبره معهم وعليهم. فركب راحلته, وقطع الفيافي عائدا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو اليه ويتزوّد منه بتعاليمه..

                            وحين نزل مكة, سارع الى دار الرسول تحدوه أشواقه..

                            وقال للنبي:

                            " يا رسول الله..

                            انه ق غلبني على دوس الزنى, والربا, فادع الله أن يهلك دوسا"..!!

                            وكانت مفاجأة أذهلت الطفيل حين رأى الرسول يرفع كفيه الى السماء وهو يقول:

                            " اللهم اهد دوسا وأت بهم مسلمين"..!!

                            ثم التفت الى الطفيل وقال له:

                            " ارجع الى قومك فادعهم وارفق بهم".



                            ملأ هذا المشهد نفس الطفيل روعة, وملأ روحه سلاما, وحمد اله أبلغ الحمد أن جعل هذا الرسول الانسان الرحيم معلمه وأستاذه. وأن جعل الاسلام دينه وملاذه.

                            ونهض عائدا الى أرضه وقومه وهناك راح يدعوهم الى الاسلام في أناة ورفق, كما أوصاه الرسول عليه السلام.

                            وخلال الفترة التي قضاها بين قومه, كان الرسول قد هاجر الى المدينة وكانت قد وقعت غزوة بدر, أحد والخندق.

                            وبينما رسول الله في خيبر بعد أن فتحها الله على المسلمين اذا موكب حافل ينتظم ثمانين اسرة من دوس أقبلوا على الرسول مهللين مكبّرين ..

                            وبينما جلسوا يبايعون تباعا..

                            ولما فرغوا من مشهدهم الحافل, وبيعتهم المباركة جلس الطفيل بن عمرو مع نفسه يسترجع ذكرياته ويتأمل خطاه على الطريق..!!

                            تذكر يوم قدوم الرسول يسأله أن يرفع كفيه الى السماء ويقول:

                            اللهم اهلك دوسا, فاذا هو يبتهل بدعاء آخر أثار يومئذ عجبه..

                            ذلك هو:

                            " اللهم اهد دوسا وأت بهم مسلمين"..!!

                            ولقد هدى الله دوسا..

                            وجاء بهم مسلمين..

                            وها هم أولاء.. ثمانون بيتا, وعائلة منهم, يشكلون أكثرية أهلها, يأخذون مكانهم في الصفوف الطاهرة خلف رسول الله الأمين.



                            **



                            ويواصل الطفيل عمله مع الجماعة المؤمنة..

                            ويوم فتح مكة, كان يدخلها مع عشرة آلاف مسلم لا يثنون أعطافهم زهوا وصلفا, بل يحنون جباههم في خشوع واذلال, شكرا لله الذي أثابهم فتحا قريبا, ونصرا مبينا..

                            ورأى الطفيل رسول الله وهو يهدم أصنام الكعبة, ويطهرها بيده من ذلك الرجس الذي طال مداه..

                            وتذكر الدوسي من فوره صنما كان لعمرو بن حممة. طالما كان عمرو هذا يصطحبه اليه حين ينزل ضيافته, فيتخشّع بين يديه, ويتضرّع اليه..!!

                            الآن حانت الفرصة ليمحو الطفيل عن نفسه اثم تلك الأيام.. هنالك تقدم من الرسول عليه الصلاة والسلام يستأذنه في أن يذهب ليحرق صنم عمرو بن حممة وكان هذا الصنم يدعى, ذا الكفين, وأذن له النبي عليه السلام..

                            ويذهب الطفيل ويوقد عليه النار.. وكلما خبت زادها ضراما وهو ينشد ويقول:

                            يا ذا الكفين لست من عبّادكا

                            ميلادنا أقدم من ميلادكا!!

                            اني حشوت النار في فؤادكا



                            وهكذا عاش مع النبي يصلي وراءه, ويتعلم منه, ويغزو معه.

                            وينتقل الرسول الى الرفيق الأعلى, فيرى الطفيل أن مسؤوليته كمسلم لم تنته بموت الرسول, بل انها لتكاد تبدأ..

                            وهكذا لم تكد حروب الردة تنشب حتى كان الطفيل يشمّر لها عن ساعد وساق, وحتى كان يخوض غمراتها وأهوالها في حنان مشتاق الى الشهادة..

                            اشترك في حروب الردة حربا.. حربا..

                            وفي موقعة اليمامة خرج مع المسلمين مصطحبا معه ابنه عمرو بن الطفيل".

                            ومع بدء المعركة راح يوضي ابنه أن يقاتل جيش مسيلمة الكذاب قتال من يريد الموت والشهادة..

                            وأنبأه أنه يحس أنه سيموت في هذه المعركة.

                            وهكذا حمل سيفه وخاض القتال في تفان مجيد..

                            لم يكن يدافع بسيفه عن حياته.

                            بل كان يدافع بحياته عن سيفه.

                            حتى اذا مات وسقط جسده, بقي السيف سليما مرهفا لتضرب به يد أخرى لم يسقط صاحبها بعد..!!

                            وفي تلك الموقعة استشهد الطفيل الدوسي رضي الله عنه..

                            وهو جسده تحت وقع الطعان, وهو يلوّح لابنه الذي لم يكن يراه وسط الزحام..!!

                            يلوّح له وكأنه يهيب به ليتبعه ويلحق به..

                            ولقد لحق به فعلا.. ولكن بعد حين..

                            ففي موقعة اليرموك بالشام خرج عمرو بن الطفيل مجاهدا وقضى نحبه شهيدا..

                            وكان وهو يجود بأنفاسه, يبسط ذراعه اليمنى ويفتح كفه, كما لو كان سيصافح بها أحدا.. ومن يدري..؟؟

                            لعله ساعتئذ كان يصافح روح أبيه..!!
                            إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                            نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                            جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                            تعليق


                            • #59
                              عمرو بن العاص
                              محرّر مصر من الرومان



                              كانوا ثلاثة في قريش, اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعنف مقاومتهم دعوته وايذائهم أصحابه..

                              وراح الرسول يدعو عليهم, ويبتهل الى ربه الكريم أن ينزل بهم عقابه..

                              واذ هو يدعو ويدعو, تنزل الوحي على قلبه بهذه الآية الكريمة..

                              ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم, فانهم ظالمون)..

                              وفهم الرسول من الآية أنها أمر له بالكف عن الدعاء عليهم, وترك أمرهم الى الله وحده..

                              فامّا أن يظلوا على ظلمهم, فيحلّ بهم عذابه..

                              أو يتوب عليهم فيتوبوا, وتدركهم رحمته..

                              كان عمرو بن العاص أحد هؤلاء الثلاثة..

                              ولقد اختار الله لهم طريق التوبة والرحمة وهداهم الى الاسلام..

                              وتحول عمرو بن العاص الى مسلم مناضل. والى قائد من قادة الاسلام البواسل..

                              وعلى الرغم من بعض مواقف عمرو التي لا نستطيع أن نقتنع بوجهة نظره فيها, فان دوره كصحابيّ جليل بذل وأعطى, ونافح وكافح, سيظل يفتح على محيّاه أعيننا وقلوبنا..

                              وهنا في مصر بالذات, سيظل الذين يرون الاسلام دينا قيما مجيدا..

                              ويرون في رسوله رحمة مهداة, ونعمة موجاة, ورسول صدق عظيم, دعا الى الله على بصيرة, وألهم الحياة كثيرا من رشدها وتقاها..

                              سيظل الذين يحملون هذا الايمان مشحوذي الولاء للرجل الذي جعلته الأقدار سببا, وأي سبب, لاهداء الاسلام الى مصر, واهداء مصر الى الاسلام.. فنعمت الهداية ونعم مهديها..

                              ذلكم هو: عمرو بن العاص رضي الله عنه..

                              ولقد تعوّد المؤرخون أن ينعتوا عمرا بـ فاتح مصر..

                              بيد أنا نرى في هذا الوصف تجوزا وتجاوزا, ولعل أحق النعوت بعمرو أن ندعوه بـ محرر مصر..

                              فالاسلام لم يكن يفتح البلاد بالمفهوم الحديث للفتح, انما كان يحررها من تسلط امبراطوريتين سامتا العباد والبلاد سوء العذاب, تانك هما:

                              امبراطورية الفرس.ز وامبراطورية الروم..

                              ومصر بالذات, يوم أهلت عليها طلائع الاسلام كانت نهبا للرومان وكان أهلها يقاومون دون جدوى..

                              ولما دوّت فوق مشارف بلادهم صيحات الكتائب المؤمنة أن:

                              " الله أكبر..

                              الله أكبر"..

                              سارعوا جميعا في زحام مجيد صوب الفجر الوافد وعانقوه, واجدين فيه خلاصهم من قيصر ومن الرومان..

                              فعمرو بن العاص ورجاله, لم يفتحوا مصر اذن.. انما فتحوا الطريق أمام مصر لتصل بالحق مصايرها.. وتربط بالعدل مقاديرها.. وتجد نفسها وحقيقتها في ضوء كلمات الله, ومبادئ الاسلام..

                              ولقد كان رضي الله عنه حريصا على أن يباعد أهل مصر وأقباطها عن المعركة, ليظل القتال محصورا بينه وبين جنود الرومان الين يحتلون البلاد ويسرقون أرزاق أهلها..

                              من أجل ذلك نجده يتحدث الى زعماء النصارى يومئذ وكبار أشاقفتهم, فيقول:

                              "... ان الله بعث محمدا بالحق وأمره به..

                              وانه عليه الصلاة والسلام, قد أدّى رسالته, ومضى بعد أن تركنا على الواضحة أي الطريق الواضح المستقيم..

                              وكان مما أمرنا به الاعذار الى الناس, فنحن ندعوكم الى الاسلام..

                              فمن أجابنا, فهو منا, له ما لنا وعليه ما علينا..

                              ومن لم يجبنا الى الاسلام, عرضنا عليه الجزية أي الضرائب وبذلنا له الحماية والمنعة..

                              ولقد أخبرنا نبينا أن مصر ستفتح علينا, وأوصانا بأهلها خيرا فقال:" ستفتح عليكم بعدي مصر, فاستوصوا بقبطها خيرا, فان لهم ذمّة ورحما"..

                              فان أجبتمونا الى ما ندعوكم اليه كانت لكم ذمة الى ذمة"...

                              وفرغ عمرو من كلماته, فصاح بعض الأساقفة والرهبان قائلا:

                              " ان الرحم التي أوصاكم بها نبيّكم, لهي قرابة بعيدة, لا يصل مثلها الا الأنبياء"..!!

                              وكانت هذه بداية طيبة للتفاهم المرجو بين عمرو أقباط مصر.. وان يكن قادة الرومان قد حاولوا العمل لاحباطها..



                              **



                              وعمرو بن العاص لم يكن من السابقين الى الاسلام، فقد أسلم مع خالد بن الوليد قبيل فتح مكة بقليل..
                              ومن عجب أن اسلامه بدأ على يد النجاشي بالحبشة وذلك أن النجاشي يعرف عمرا ويحترمه بسبب تردده الكثير على الحبشة والهدايا الجزيلة التي كان يحملها للنجاشي، وفي زيارته الأخيرة لتلك البلاد جاء ذكر لرسول الذي يهتف بالتوحيد وبمكارم الأخلاق في جزيرة العرب..

                              وسأل عاهل الحبشة عمرا, كيف لم يؤمن به ويتبعه, وهو رسول من الله حقا..؟؟

                              وسأل عمرو النجاشي قائلا:

                              " أهو كذلك؟؟"

                              وأجابه النجاشي:

                              " نعم، فأطعني يا عمرو واتبعه, فانه والله لعلى الحق, وليظهرنّ على من خالفه"..؟!

                              وركب عمرو ثبج البحر من فوره, عائدا الى بلاده، وميمّما وجهه شطر المدينة ليسلم لله رب العالمين..

                              وفي الطريق المقضية الى المدينة التقى بخالد بن الوليد قادما من مكة ساعيا الى الرسول ليبايعه على الاسلام..

                              ولك يكد الرسول يراهما قادمين حتى تهلل وجهه وقال لأصحابه:

                              " لقد رمتكم مكة بأفلاذ أكبادها"..

                              وتقدم خالد فبايع..

                              ثم تقدم عمرو فقال:

                              " اني أبايعك على أن يغفر الله لي ما تقدّم من ذنبي"..

                              فأجابه الرسول عليه السلام قائلا:

                              " يا عمرو..

                              بايع، فان الاسلام يجبّ ما كان قبله"..

                              وبايع عمرو ووضع دهاءه وشجاعته في خدمة الدين الجديد.

                              وعندما انتقل الرسول الى الرفيق الأعلى, كان عمرو واليا على عمان..

                              وفي خلافة عمر أبلى بلاءه المشهود في حروب الشام, ثم في تحرير مصر من حكم الرومان.



                              **



                              وياليت عمرو بن العاص كان قد قاوم نفسه في حب الامارة..

                              اذن لكان قد تفوّق كثيرا على بعض المواقف التي ورّطه فيها الحب.

                              على أن حب عمرو الامارة, كان الى حد ما, تعبيرا تلقائيا عن طبيعته الجياشة بالمواهب..

                              بل ان شكله الخارجي, وطريقته في المشي وفي الحديث, كانت تومي الى أنه خلق للامارة..!! حتى لقد روي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رآه ذات يوم مقبلا، فابتسم لمشيته وقال:

                              " ما ينبغي لأبي عبدالله أن يمشي على الأرض الا أميرا"..!

                              والحق أن أبا عبدالله لم يبخس نفسه هذا الحق..

                              وحتى حين كانت الأحداث الخطيرة تجتاح المسلمين.. كان عمرو يتعامل مع هذه الأحداث بأسلوب أمير، أمير معه من الذكاء والدهاء، والمقدرة ما يجعله واثقا بنفسه معتزا بتفوقه..!!

                              ولكن معه كذلك من الأمانة ما جعل عمر بن الخطاب وهو الصارم في اختيار ولاته، واليا على فلسطين والأردن، ثم على مصر طوال حياة أمير المؤمنين عمر...

                              حين علم أمير المؤمنين عمر أن عمرا قد جاوز في رخاء معيشته الحد الذي كان أمير المؤمنين يطلب من ولاته أن يقفوا عنده، ليظلوا دائما في مستوى، أو على الأقل قريبين من مستوى عامة الناس..

                              نقول: لو علم الخليفة عن عمرو كثرة رخائه، لم يعزله، انما أرسل اليه محمد بن مسلمة وأمره أن يقاسم عمرا جميع أمواله وأشيائه، فيبقي له نصفها ويحمل معه الى بيت المال بالمدينة نصفها الآخر.

                              ولو قد علم أمير المؤمنين أن حب عمرو للامارة، يحمله على التفريط في مسؤولياته، لما احتمل ضميره الرشيد ابقاءه في الولاية لحظة.



                              **



                              وكان عمرو رضي الله عنه حادّ الذكاء, قوي البديهة عميق الرؤية..

                              حتى لقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، كلما رأى انسانا عاجز الحيلة، صكّ كفيّه عجبا وقال:

                              " سبحان الله..!!

                              ان خالق هذا، وخالق عمرو بن العاص اله واحد!!

                              كما كان بالغ الجرأة مقداما

                              ولقد كان يمزج جرأته بدهائه في بعض المواطن, فيظن به الجبن أو الهلع.. بيد أنها سعة الحيلة، كان عمرو يجيد استعمالها في حذق هائل ليخرج نفسه من المآزق المهلكة..!!

                              ولقد كام أمير المؤمنين عمر يعرف مواهبه هذه ويقدرها قدرها، من أجل ذلك عندما أرسله الى الشام قبل مجيئه الى مصر, قيل لأمير المؤمنين: ان على رأس جيوش الروم بالشام أرطبونا أي قائدا وأميرا من الشجعان الدهاة، فكان جواب عمر:

                              " لقد رمينا أرطبون الروم، بأرطبون العرب، فلننظر عمّ تنفرج الأمور"..!!

                              ولقد انفرجت عن غلبة ساحقة لأرطبون العرب، وداهيتهم الخطير عمرو ابن العاص، على أرطبون الروم الذي ترك جيشه للهزيمة وولى هاربا الى مصر، التي سيلحقه بها عمرو بعد قليل، ليرفع فوق ربوعها الآمنة راية الاسلام.



                              **



                              وما أكثر المواقف التي تألق فيها ذكاء عمرو ودهاؤه.

                              وان كنا لا نحسب منها بحال موقفه من أبي موسى الأشعري في واقعة التحكيم حين اتفقا على أن يخلع كل منهما عليا ومعاوية, ليرجع الأمر شورى بين المسلمين، فأنفذ أبو موسى الاتفاق، وقعد عن انفاذه عمرو.

                              واذا اردنا أن نشهد صورة لدهائه, وحذق بديهته, ففي موقفه من قائد حصن بابليون أثناء حربه مع الرومان في مصر وفي رواية تاريخية أخرى أنها الواقعة التي سنذكرها وقعت في اليرموك مع أرطبون الروم..

                              اذ دعاه الأرطبون والقائد ليحادثه، وكان قد أعطى أمرا لبعض رجاله بالقاء صخرة فوقه اثر انصرافه من الحصن، وأعدّ كل شيء ليكون قتل عمرو أمرا محتوما..

                              ودخل عمرو على القائد، لا يريبه شيء، وانفض لقاؤهما، وبينما هو في الطريق الى خارج الحصن، لمح فوق أسواره حركة مريبة حركت فيه حاسة الحذر بشدّة.

                              وعلى الفور تصرّف بشكل باهر.

                              لقد عاد الى قائد الحصن في خطوات آمنة مطمئنة وئيدة ومشاعر متهللة واثقة, كأن لم يفرّعه شيء قط، ولم يثر شكوكه أمر!!

                              ودخل على القائد وقال له:

                              لقد بادرني خاطر أردت أن أطلعك عليه.. ان معي حيث يقيم أصحابي جماعة من أصحاب الرسول السابقين الى الاسلام، لا يقطع أمير المؤمنين أمرا دونمشورتهم، ولا يرسل جيشا من جيوش الاسلام الا جعلهم على رأس مقاتلته وجنوده، وقد رأيت أن آتيك بهم، حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت، ويكونوا من الأمر على مثل ما أنا عليه من بيّنة..

                              وأدرك قائد الروم أن عمرا بسذاجة قد منحه فرصة العمر..!!

                              فليوافقه اذن على رأيه، حتى اذا عاد ومعه هذا العدد من زعماء المسلمين وخيرة رجالهم وقوادهم، أجهز عليهم جميعا، بدلا من أن يجهز على عمرو وحده..

                              وبطريقة غير منظورة أعطى أمره بارجاء الخطة التي كانت معدّة لاغتيال عمرو..

                              ودّع عمرو بحفاوة، وصافحه بحرارة،

                              وابتسم داهية العرب، وهو يغادر الحصن..



                              وفي الصباح عاد عمرو على رأس جيشه الى الحصن، ممتطيا صهوة فرسه، التي راحت تقهقه في صهيل شامت وساخر.

                              أجل فهي الأخرى كانت تعرف من دهاء صاحبها الشيء الكثير..!!



                              **



                              وفي السنة الثالثة والأربعين من الهجرة أدركت الوفاة عمرو بن العاص بمصر، حيث كان واليا عليها..

                              وراح يستعرض حياته في لحظات الرحيل فقال:

                              ".. كنت أول أمري كافرا.. وكنت أشد الناس على رسول الله, فلو مت يومئذ لوجبت لي النار..

                              ثم بايعت رسول الله, فما كان في الناس أحد أحب اليّ منه، ولا أجلّ في عيني منه.. ولو سئلت أن أنعته ما استطعت، لأني لم أكن أقدر أن أملأ عيني منه اجلالا له.. فلو متّ يومئذ لرجوت أن أكون من أهل الجنة..

                              ثم بليت بعد ذلك بالسلطان, وبأشياء لاأدري أهي لي أم عليّ"..



                              **



                              ثم رفع بصره الى السماء في ضراعة، مناجيا ربه الرحيم العظيم قائلا:

                              " اللهم لا بريء فأعتذر, ولا عزيز فأنتصر،

                              والا تدركني رحمتك أكن من الهالكين"!!

                              وظل في ضراعاته، وابتهالاته حتى صعدت الى الله روحه. وكانت آخر كلماته لا اله الا الله..



                              وتحت ثرى مصر، التي عرّفها عمرو طريق الاسلام، ثوى رفاته..

                              وفوق أرضها الصلبة، لا يزال مجلسه حيث كان يعلم، ويقضي ويحكم.. قائما عبر القرون تحت سقف مسجده العتيق جامع عمرو، أول ميجد في مصر يذكر فيه اسم الله الواحد الأحد، وأعلنت بين أرجائه ومن فوق منبره كلمات الله، ومبادئ الاسلام.
                              إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                              نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                              جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                              تعليق


                              • #60
                                سالم مولى أبي حذيفة
                                بل نعم حامل القرآن


                                أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوما، فقال:

                                " خذوا القرآن من أربعة:

                                عبدالله بن مسعود..

                                وسالم مولى أبي حذيفة..

                                وأبيّ بن كعب..

                                ومعاذ بن جبل.."

                                ولقد التقينا من قبل بابن مسعود, وأبيّ,ومعاذ..

                                فمن هذا الصحابي الرابع الذي جعله الرسول حجّة في تعليم القرآن ومرجعا..؟؟

                                انه سالم، مولى أبي حذيفة..

                                كان عبدا رقيقا، رفع الاسلام من شأنه حتى جعل منه ابنا لواحد من كبار المسلمين كان قبل اسلامه شريفا من أشراف قريش، وزعيما من زعمائها..

                                ولما أبطل الاسلام عادة التبني، صار أخا ورفيقا، ومولى للذي كان يتبناه وهو الصحابي الجليل: أبو حذيفة بن عتبة..

                                وبفضل من الله ونعمة على سالم بلغ بين المسلمين شأوا رفيعا وعاليا، أهّلته له فضائل روحه، وسلوكه وتقواه.. وعرف الصحابي الجليل بهذه التسمية: سالم مولى أبي حذيفة.

                                ذلك أنه كان رقيقا وأعتق..

                                وآمن باله ايمانا مبكرا..

                                وأخذ مكانه بين السابقين الأولين..

                                وكان حذيفة بن عتبة، قد باكر هو الآخر وسارع الى الاسلام تاركا أباه عتبة بن ربيعة يجتر مغايظه وهموهه التي عكّرت صفو حياته، بسبب اسلام ابنه الذي كان وجيها في قومه، وكان أبوه يعدّه للزعامة في قريش..

                                وتبنى أبو حذيفة سالما بعد عتقه، وصار يدعى بسالم بن أبي حذيفة..

                                وراح الاثنان يعبدان ربهما في اخبات, وخشوع.. ويصبران أعظم الصبر على أذى قريش وكيدها..

                                وذات يوم نزلت آية القرآن التي تبطل عادة التبني..

                                وعاد كل متبني ليحمل اسم أبيه الحقيقي الذي ولده وأنجبه..



                                فـ زيد بن حارثة مثل، الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام قد تبناه، وعرف بين المسلمين بزيد بن محمد، عاد يحمل اسم أبيه حارثة فصار زيد بن جارثة ولكنّ سالما لم يكن يعرف له أب, فوالى أبا حذيفة، وصار يدعى سالم مولى أبي حذيفة..

                                ولعل الاسلام حين أبطل عادة التبني، انما أراد أن يقول للمسلمين لا تلتمسوا رحما، ولا قربى، ولا صلة توكدون بها اخاءكم، أكبر ولا أقوى من الاسلام نفسه.. والعقيدة التي يجعلكم بها اخوانا..!!

                                ولقد فهم المسلمون الأوائل هذا جيدا..

                                فلم يكن شيء أحب الى أحدهم بعد الله ورسوله، من اخزوانهم في الله وفي الاسلام..

                                ولقد رأينا كيف استقبل الأنصار اخوانهم المهاجرين، فشاطروهم أموالهم، ومساكنهم، وكل ما يملكون..!!

                                وهذا هو الذي رأينا يحدث بين أبي حذيفة الشريف في قريش، مع سالم الذي كان عبدا رقسقا، لا يعرف أبوه..

                                لقد ظلا الى آخر لحظة من حياتهما أكثر من اخوين شقيقين حتى عند الموت ماتا معا.. الروح مع الروح.. والجسد الى جوار الجسد..!!

                                تلك عظمة الاسلام الفريدة..

                                بل تلك واحدة من عظائمه ومزاياه..!!



                                **



                                لقد آمن سالم ايمان الصادقين..

                                وسلك طريقه الى الله سلوك الأبرار المتقين..

                                فلم يعد لحسبه، ولا لموضعه من المجتمع أي اعتبار..

                                لقد ارتفع بتقواه واخلاصه الى أعلى مراتب المجتمع الجديد الذي جاء الاسلام يقيمه وينهضه على أساس جديد عادل عظيم...

                                أساس تلخصه الآية الجليلة:

                                " ان أكرمكم عند الله أتقاكم"..!!

                                والحديث الشريف:

                                " ليس لعربي على عجمي فضل الا بالتقوى"..

                                و" ليس لابن البضاء على ابن السوداء فضل الا بالتقوى"..



                                **



                                في هذا المجتمع الجديد الراشد، وجد أبو حذيفة شرفا لنفسه أن يوالي من كان بالأمس عبدا..

                                بل ووجد شرفا لأسرته، أن يزوج سالما ابنه أخيه فاطمة بنت الوليد بنت عتبة..!!

                                وفي هذا المجتمع الجديد، والرشيد، الذي هدّم الطبقية الظالمة، وأبطل التمايز الكاذب، وجد سالم بسبب صدقه، وايمانه، وبلائه، وجد نفسه في الصف الأول دائما..!!

                                أجل.. لقد كان امام للمهاجرين من مكة الى المدينة طوال صلاتهم في مسجد قباء..

                                وكان حجة في كتاب الله، حتى أمر النبي المسلمين أن يتعلموا منه..!!

                                وكان معه من الخير والتفوق ما جعل الرسول عليه السلام يقول له:

                                " الحمد لله، الذي جعل في أمتي مثلك"..!!

                                وحتى كان اخوانه المؤمنين يسمونه:

                                " سالم من الصالحين"..!!

                                ان قصة سالم كقصة بلال وكقصة عشرات العبيد، والفقراء الذين نفض عنهم عوادي الرق والضعف، وجعلهم في مجتمع الهدى والرشاد أئمة، وزعماء وقادة..

                                كان سالم ملتقى لكل فضائل الاسلام الرشيد..

                                كانت الفضائل تزدحم فيه وحوله.. وكان ايمانه العميق الصادق ينسقها أجمل تنسيق.

                                وكان من أبرز مزاياه الجهر بما يراه حقا..

                                انه لا يعرف الصمت تجاه كلمة يرى من واجبه أن يقولها..

                                ولا يخون الحياة بالسكوت عن خطأ يؤدها..



                                **



                                بعد أن فتحت مكة للمسلمين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السرايا الى ما حول مكة من قرى وقبائل، وأخبرهم أنه عليه السلام، انما يبعث بهم دعاة لا مقاتلين..

                                وكان على رأس احدى هذه السرايا خالد بن الوليد..

                                وحين بلغ خالد وجهته، حدث ما جعله يستعمل السيوف، ويرق الدماء..

                                هذه الواقعة التي عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم نبأها، اعتذر الى ربه طويلا، وهو يقول:

                                " اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد"..!!

                                والتي ظل أمير المؤمنين عمر يذكرها له ويأخذها عليه, ويقول:

                                " ان في سيف خالد رهقا"..

                                وكان يصحب خالد في هذه السرية سالم مولى أبي حذيفة مع غيره من الأصحاب..

                                ولم يكد سالم يرى صنيع خالد حتى واجهه بمناقشة حامية، وراح يعدّد له الأخطاء التي ارتكبت..



                                وخالد البطل القائد، والبطل العظيم في الجاهلية، والاسلام، ينصت مرة ويدافع عن نفسه مرة ثانية ويشتد في القول مرة ثالثة وسالم مستمسك برأيه يعلنه في غير تهيّب أو مداراة..

                                لم يكن سالم آنئذ ينظر الى خالد كشريف من أشراف مكة.. بينما هو من كان بالأمس القريب رقيقا.

                                لا.. فقد سوّى الاسلام بينهما..!!

                                ولم يكن ينظر اليه كقائد تقدّس أخطاؤه.. بل كشريك في المسؤولية والواجب..

                                ولم يكن يصدر في معارضته خالدا عن غرض, أو سهوه, بل هي النصيحة التي قدّس الاسلام حقها، والتي طالما سمع نبيه عليه الصلاة والسلام يجعلها قوام الدين كله حين يقول:

                                " الدين النصيحة..

                                الدين النصيحة..

                                الدين النصيحة".



                                **



                                ولقد سأل الرسول عليه السلام، عندما بلغه صنيع خالد بن الوليد..

                                سأل عليه السلام قائلا:

                                " هل أنكر عليه أحد"..؟؟

                                ما أجله سؤالا، وما أروعه..؟؟!!

                                وسكن غضبه عليه السلام حين قالوا له:

                                " نعم.. راجعه سالم وعارضه"..

                                وعاش سالم مع رسوله والمؤمنين..

                                لا يتخلف عن غزوة ولا يقعد عن عبادة..

                                وكان اخاؤه مع أبي حذيفة يزداد مع الأيام تفانيا وتماسكا..



                                **

                                وانتقل الرسول الى الرفيق الأعلى..

                                وواجهت خلافة أبي كبر رضي الله عنه مؤامرات المرتدّين..

                                وجاء يوم اليمامة..

                                وكانت حربا رهبة، لم يبتل الاسلام بمثلها..

                                وخرج المسلمون للقتال..

                                وخرج سالم وأخوه في الله أبو حذيفة..

                                وفي بدء المعركة لم يصمد المسلمون للهجوم.. وأحسّ كل مؤمن أن المعركة معركته، والمسؤولية مسؤوليته..

                                وجمعهم خالد بن الوليد من جديد..

                                وأعاد تنسيق الجيش بعبقرية مذهلة..

                                وتعانق الأخوان أبو حذيفة وسالم وتعاهدا على الشهادة في سبيل الدين الحق الذي وهبهما سعادة الدنيا والآخرة..

                                وقذفا نفسيهما في الخضمّ الرّهيب..!!

                                كان أبو حذيفة ينادي:

                                " يا أهل القرآن..

                                زينوا القرآن بأعمالكم".

                                وسيفه يضرب كالعاصفة في جيش مسيلمة الكذاب.

                                وكان سالم يصيح:

                                " بئس حامل القرآن أنا..

                                لو هوجم المسلمون من قبلي"..!!

                                حاشاك يا سالم.. بل نعم حامل القرآن أنت..!!

                                وكان سيفه صوّال جوّال في أعناق المرتدين، الذين هبوا ليعيدوا جاهلية قريش.. ويطفؤا نور الاسلام..

                                وهوى سيف من سيوف الردة على يمناه فبترها.. وكان يحمل بها راية المهاجرين بعد أن سقط حاملها زيد بن الخطاب...

                                ولما رأى يمناه تبتر، التقط الراية بيسراه وراح يلوّح بها الى أعلى وهو يصيح تاليا الآية الكريمة:


                                ( وكأيّ من نبي قاتل معه ربيّون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)...

                                ألا أعظم به من شعار.. ذلك الذي اختاره يوم الموت شعارا له..!!



                                **



                                وأحاطت به غاشية من المرتدين فسقط البطل.. ولكن روحه ظلت تتردد في جسده الطاهر، حتى انتهت المعركة بقتل نسلمة الكذاب واندحار جيش مسيلمة وانتصار المسلمين..

                                وبينما المسلمون يتفقدون ضحاياهم وشهداءهم وجدوا سالما في النزع الأخير..

                                وسألهم:

                                ما فعل أبو حذيفة..؟؟

                                قالوا: استشهد..

                                قال: فأضجعوني الى جواره..

                                قالوا: انه الى جوارك يا سالم.. لقد استشهد في نفس المكان..!!

                                وابتسم ابتسامته الأخيرة..

                                ولم يعد يتكلم..!!

                                لقد أدرك هو وصاحبه ما كانا يرجوان..!!

                                معا أسلما..

                                ومعا عاشا..

                                ومعا استشهدا..

                                يا لروعة الحظوظ، وجمال المقادير..!!

                                وذهب الى الله، المؤمن الكبير الذي قال عنه عمر بن الخطاب وهو يموت:

                                " لو كان سالم حيّا، لوليته الأمر من بعدي"..!!
                                إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                                نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                                جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                                تعليق

                                يعمل...
                                X