إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رجال حول الرسول

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رجال حول الرسول

    رجال حول الرسول


    إن لكل مجتمع رموزًا وقادة يمثلون قِيَمَهُ، ويوجهون الأمة، ويُقَوِّون الهِمَّة؛ ليصعدوا بالناس إلى القمة. ورموز المجتمع الإسلامي هم صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وأفضلهم أهل السابقة؛ مَنْ محَّصتهم الفتنُ، ونقَّتهم المحن، من امتُحنوا بالنفس والنفيس فاسترخَصُوا كل شئ من أجل رفع راية التوحيد. رضي الله عنهم، ورحمهم، وأخرج من الأمة أمثالهم. إن المتملي والمتأمل لواقع أمتنا اليوم يجدها تكاد تفتقر إلى القدوات، وينقصها المثال؛ ولذلك فتحت باب الاستيراد القدوات من خارج الحدود، فتنَكرتْ لتاريخِها، وتَعَاظَمَ سُخْفُهَا وجهلها بسلفها وقدواتها، وتناقص عنصر الخير فيها بمرور الأيام، وخفتت قوةُ الضوء فيها؛ لأنها ابتعدت عن مصدر الضوء، وعن مركز الإشعاع فيها.


    إذا تمَثلَ ماضِينا لحَاضِرنا *** تكادُ أكبادُنا بالغَيْظِ تنفَطِرُ


    ولذا كان لابد للأمة أن ترجع لتاريخها، لا للتسلية، ولا لقتل الفراغ، ولا لاجترار الماضي ولا للافتخار بالآباء فحسب، بل لنتعظ ونعتبر ونتشبه، ونعرف ذلك الجدول الفياض الذي نَهَل منه أسلافنا؛ لنعُبَّ منه كما عبُّوا، لنعلم ماذا فعلوا، لنقتدي بهم فيما فعلوا، لنعلم كيف وصلوا لنصل كما وصلوا. ما أحوجنا إلى أن نترسَّم خطاهم، ونتلمَّس العزَّة في طريقهم، ونسير على هداهم. (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) غابت شخوصهم، فلنسمع ولنعي أخبارهم؛ فلعل ذاك يقوم مقام رؤيتهم على حد قول القائل:


    فاتَنِي أَنْ أَرَى الديارَ بطَرْفي *** فَلَعَلِّي أَعِي الدِّيَارَ بسَمْعِي
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس; الساعة 04-06-2007, 03:55 AM.
    إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
    نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
    جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

  • #2
    مصعب بن عمير

    أول سفراء الاسلام



    هذا رجل من أصحاب محمد ما أجمل أن نبدأ به الحديث.

    غرّة فتيان قريش, وأوفاهم جمالا, وشبابا..

    يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون:" كان أعطر أهل مكة"..

    ولد في النعمة, وغذيّ بها, وشبّ تحت خمائلها.

    ولعله لم يكن بين فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه بمثل ما ظفر به "مصعب بن عمير"..

    ذلك الفتى الريّان, المدلل المنعّم, حديث حسان مكة, ولؤلؤة ندواتها ومجالسها, أيمكن أن يتحوّل الى أسطورة من أساطير الايمان والفداء..؟

    بالله ما أروعه من نبأ.. نبأ "مصعب بن عمير", أو "مصعب الخير" كما كان لقبه بين المسلمين.

    انه واحد من أولئك الذين صاغهم الاسلام وربّاهم "محمد" عليه الصلاة والسلام..

    ولكن أي واحد كان..؟

    ان قصة حياته لشرف لبني الانسان جميعا..

    لقد سمع الفتى ذات يوم, ما بدأ أهل مكة يسمعونه من محمد الأمين صلى الله عليه وسلم..

    "محمد" الذي يقول أن الله أرسله بشيرا ونذيرا. وداعيا الى عبادة الله الواحد الأحد.



    وحين كانت مكة تمسي وتصبح ولا همّ لها, ولا حديث يشغلها الا الرسول عليه الصلاة والسلام ودينه, كان فتى قريش المدلل أكثر الناس استماعا لهذا الحديث.

    ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه, زينة المجالس والندوات, تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها, ذلك أن أناقة مظهره ورجاحة عقله كانتا من خصال "ابن عمير التي تفتح له القلوب والأبواب..



    ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه, يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها.. هناك على الصفا في درا "الأرقم بن أبي الأرقم" فلم يطل به التردد, ولا التلبث والانتظار, بل صحب نفسه ذات مساء الى دار الأرقم تسبقه أشواقه ورؤاه...

    هناك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن, ويصلي معهم لله العليّ القدير.



    ولم يكد مصعب يأخذ مكانه, وتنساب الآيات من قلب الرسول متألفة على شفتيه, ثم آخذة طريقها الى الأسماع والأفئدة, حتى كان فؤاد ابن عمير في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود..!

    ولقد كادت الغبطة تخلعه من مكانه, وكأنه من الفرحة الغامرة يطير.

    ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتى لامست الصدر المتوهج, والفؤاد المتوثب, فكانت السكينة العميقة عمق المحيط.. وفي لمح البصر كان الفتى الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة ما يفوق ضعف سنّه وعمره, ومعه من التصميم ما يغيّر سير الزمان..!!!



    **



    كانت أم مصعب "خنّاس بنت مالك" تتمتع بقوة فذة في شخصيتها, وكانت تهاب الى حد الرهبة..

    ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر أو يخاف على ظهر الأرض قوة سوى امه.

    فلو أن مكة بل أصنامها وأشرافها وصحرائها, استحالت هولا يقارعه ويصارعه, لاستخف به مصعب الى حين..

    أما خصومة أمه, فهذا هو الهول الذي لا يطاق..!

    ولقد فكر سريعا, وقرر أن يكتم اسلامه حتى يقضي الله أمرا.

    وظل يتردد على دار الأرقم, ويجلس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو قرير العين بايمانه, وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم خبر اسلامه خبرا..



    ولكن مكة في تلك الأيام بالذات, لا يخفى فيها سر, فعيون قريش وآذانها على كل طريق, ووراء كل بصمة قدم فوق رمالها الناعمة اللاهبة, الواشية..

    ولقد أبصر به "عثمان بن طلحة" وهو يدخل خفية الى دار الأرقم.. ثم رآه مرة أخرى وهو يصلي كصلاة محمد صلى الله عليه وسلم, فسابق ريح الصحراء وزوابعها, شاخصا الى أم مصعب, حيث ألقى عليها النبأ الذي طار بصوابها...



    ووقف مصعب أمام أمه, وعشيرته, وأشراف مكة مجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته, القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم, ويملؤها به حكمة وشرفا, وعدلا وتقى.

    وهمّت أمه أن تسكته بلطمة قاسية, ولكن اليد التي امتدت كالسهم, ما لبثت أن استرخت وتنحّت أمام النور الذي زاد وسامة وجهه وبهاءه جلالا يفرض الاحترام, وهدوءا يفرض الاقناع..

    ولكن, اذا كانت أمه تحت ضغط أمومتها ستعفيه من الضرب والأذى, فان في مقدرتها أن تثأر للآلهة التي هجرها بأسلوب آخر..

    وهكذا مضت به الى ركن قصي من أركان دارها, وحبسته فيه, وأحكمت عليه اغلاقه, وظل رهين محبسه ذاك, حتى خرج بعض المؤمنين مهاجرين الى أرض الحبشة, فاحتال لنفسه حين سمع النبأ, وغافل أمه وحراسه, ومضى الى الحبشة مهاجرا أوّابا..



    ولسوف يمكث بالحبشة مع اخوانه المهاجرين, ثم يعود معهم الى مكة, ثم يهاجر الى الحبشة للمرة الثانية مع الأصحاب الذين يأمرهم الرسول بالهجرة فيطيعون.

    ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم في مكة, فان تجربة ايمانه تمارس تفوّقها في كل مكان وزمان, ولقد فرغ من اعادة صياغة حياته على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد نموذجه المختار, واطمأن مصعب الى أن حياته قد صارت جديرة بأن تقدّم قربانا لبارئها الأعلى, وخالقها العظيم..



    خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله, فما ان بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعا شجيّا..

    ذلك أنهم رأوه.. يرتدي جلبابا مرقعا باليا, وعاودتهم صورته الأولى قبل اسلامه, حين كانت ثيابه كزهور الحديقة النضرة, وألقا وعطرا..

    وتملى رسول الله مشهده بنظرات حكيمة, شاكرة محبة, وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة, وقال:

    " لقد رأيت مصعبا هذا, وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه, ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله".!!



    لقد منعته أمه حين يئست من ردّته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة.. وأبت أن يأكل طعامها انسان هجر الآلهة وحاقت به لعنتها, حتى ولو يكون هذا الانسان ابنها..!!

    ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة. فآلى على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه..

    وانها لتعلم صدق عزمه اذا همّ وعزم, فودعته باكية, وودعها باكيا..

    وكشفت لحظة الوداع عن اصرار عجيب على الكفر من جانب الأم واصرار أكبر على الايمان من جانب الابن.. فحين قالت له وهي تخرجه من بيتها: اذهب لشأنك, لم أعد لك أمّا. اقترب منها وقال:"يا أمّه اني لك ناصح, وعليك شفوق, فاشهدي بأنه لا اله الا الله, وأن محمدا عبده ورسوله"...

    أجابته غاضبة مهتاجة:" قسما بالثواقب, لا أدخل في دينك, فيزرى برأيي, ويضعف غقلي"..!!

    وخرج مصعب من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة.. وأصبح الفتى المتأنق المعطّر, لا يرى الا مرتديا أخشن الثياب, يأكل يوما, ويجوع أياما ولكن روحه المتأنقة بسمو العقيدة, والمتألقة بنور الله, كانت قد جعلت منه انسانا آخر يملأ الأعين جلال والأنفس روعة...

    **



    وآنئذ, اختاره الرسول لأعظم مهمة في حينها: أن يكون سفيره الى المدينة, يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة, ويدخل غيرهم في دين الله, ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم..

    كان في أصحاب رسول الله يومئذ من هم أكبر منه سنّا وأكثر جاها, وأقرب من الرسول قرابة.. ولكن الرسول اختار مصعب الخير, وهو يعلم أنه يكل اليه بأخطر قضايا الساعة, ويلقي بين يديه مصير الاسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة, ومنطلق الدعوة والدعاة, والمبشرين والغزاة, بعد حين من الزمان قريب..

    وحمل مصعب الأمانة مستعينا بما أنعم الله عليه من رجاحة العقل وكريم الخلق, ولقد غزا أفئدة المدينة وأهلها بزهده وترفعه واخلاصه, فدخلوا في دين الله أفواجا..



    لقد جاءها يوم بعثه الرسول اليها وليس فيها سوى اثني عشر مسلما هم الذين بايعوا النبي من قبل بيعة العقبة, ولكنه ام يكد يتم بينهم بضعة أشهر حتى استجابوا لله وللرسول..!!

    وفي موسم الحج التالي لبيعة العقبة, كان مسلمو المدينة يرسلون الى مكة للقاء الرسول وفدا يمثلهم وينوب عنهم.. وكان عدد أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة.. جاءوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم اليهم "مصعب ابن عمير".

    لقد أثبت "مصعب" بكياسته وحسن بلائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف يختار..

    فلقد فهم مصعب رسالته تماما ووقف عند حدودها.وعرف أنه داعية الى الله تعالى, ومبشر بدينه الذي يدعوا الناس الى الهدى, والى صراط مستقيم. وأنه كرسوله الذي آمن به, ليس عليه الا البلاغ..



    هناك نهض في ضيافة "أسعد بن زرارة" يفشيان معا القبائل والبيوت والمجالس, تاليا على الناس ما كان معه من كتاب ربه, هاتفا بينهم في رفق عظيم بكلمة الله (انما الله اله واحد)..

    ولقد تعرّض لبعض المواقف التي كان يمكن أن تودي به وبمن معه, لولا فطنة عقله, وعظمة روحه..



    ذات يوم فاجأه وهو يعظ الاوس "أسيد بن خضير" سيد بني عبد الأشهل بالمدينة, فاجأه شاهرا حربته ويتوهج غضبا وحنقا على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم.. ويدعوهم لهجر آلهتهم, ويحدثهم عن اله واحد لم يعرفوه من قبل, ولم يألفوه من قبل..!

    ان آلهتهم معهم رابضة في مجاثمها واذا حتاجها أحد عرف مكانها وولى وجهه ساعيا اليها, فتكشف ضرّه وتلبي دعاءه... هكذا يتصورون ويتوهمون..



    أما اله محمد الذي يدعوهم اليه باسمه هذا السفير الوافد اليهم, فما أحد يعرف مكانه, ولا أحد يستطيع أن يراه..!!

    وما ان رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعبا مقدم أسيد ابن حضير متوشحا غضبه المتلظي, وثورته المتحفزة, حتى وجلوا.. ولكن مصعب الخير ظل ثابتا وديعا, متهللا..

    وقف اسيد أمامه مهتاجا, وقال يخاطبه هو وأسعد بن زرارة:

    "ما جاء بكما الى حيّنا, تسفهان ضعفاءنا..؟ اعتزلانا, اذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة"..!!

    وفي مثل هدوء البحر وقوته..

    وفي مثل تهلل ضوء الفجر ووداعته.. انفرجت أسارير مصعب الخير وتحرّك بالحديث الطيب لسانه فقال:

    "أولا تجلس فتستمع..؟! فان رضيت أمرنا قبلته.. وان كرهته كففنا عنك ما تكره".

    الله أكبر. ما أروعها من بداية سيسعد بها الختام..!!



    كان أسيد رجلا أريبا عاقلا.. وها هو ذا يرى مصعبا يحتكم معه الى ضميره, فيدعوه أن يسمع لا غير.. فان اقتنع, تركه لاقتناعه وان لم يقتنع ترك مصعب حيّهم وعشيرتهم, وتحول الى حي آخر وعشيرة أخرى غير ضارّ ولا مضارّ..

    هنالك أجابه أسيد قائلا: أنصفت.. وألقى حربته الى الأرض وجلس يصغي..

    ولم يكد مصعب يقرأ القرآن, ويفسر الدعوة التي جاء بها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام, حتى أخذت أسارير أسيد تبرق وتشرق.. وتتغير مع مواقع الكلم, وتكتسي بجماله..!!

    ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به أسيد بن حضير وبمن معه قائلا:

    "ما أحسن هذا القول وأصدقه.. كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين"..؟؟

    وأجابوه بتهليلة رجّت الأرض رجّا, ثم قال له مصعب:

    "يطهر ثوبه وبدنه, ويشهد أن لا اله الا الله".

    فغاب أسيد عنهم غير قليل ثم عاد يقطر الماء الطهور من شعر رأسه, ووقف يعلن أن لا اله الا الله, وأن محمدا رسول الله..

    وسرى الخبر كالضوء.. وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع, وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة, وتمت باسلامهم النعمة, وأقبل أهل المدينة بعضهم على بعض يتساءلون: اذا كان أسيد بن حضير, وسعد ابن معاذ, وسعد بن عبادة قد أسلموا, ففيم تخلفنا..؟ هيا الى مصعب, فلنؤمن معه, فانهم يتحدثون أن الحق يخرج من بين ثناياه..!!



    **



    لقد نجح أول سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم نجاحا منقطع النظير.. نجاحا هو له أهل, وبه جدير..

    وتمضي الأيام والأعوام, ويهاجر الرسول وصحبه الى المدينة, وتتلمظ قريش بأحقادها.. وتعدّ عدّة باطلها, لتواصل مطاردتها الظالمة لعباد الله الصالحين.. وتقوم غزوة بدر, قيتلقون فيها درسا يفقدهم بقية صوابهم ويسعون الى الثأر,و تجيء غزوة أحد.. ويعبئ المسلمون أنفسهم, ويقف الرسول صلى الله عليه وسلم وسط صفوفهم يتفرّس الوجوه المؤمنة ليختار من بينها من يحمل الراية.. ويدعو مصعب الخير, فيتقدم ويحمل اللواء..

    وتشب المعركة الرهيبة, ويحتدم القتال, ويخالف الرماة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام, ويغادرون موقعهم في أعلى الجبل بعد أن رأوا المشركين ينسحبون منهزمين, لكن عملهم هذا, سرعان ما يحوّل نصر المسلمين الى هزيمة.. ويفاجأ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم من أعلى الجبل, وتعمل فيهم على حين غرّة, السيوف الظامئة المجنونة..

    حين رأوا الفوضى والذعر في صفوف المسلمين, ركزا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوه..

    وأدرك مصعب بن عمير الخطر الغادر, فرفع اللواء عاليا, وأطلق تكبيرة كالزئير, ومضى يجول ويتواثب.. وكل همه أن يلفت نظر الأعداء اليه ويشغلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه, وجرّد من ذاته جيشا بأسره.. أجل, ذهب مصعب يقاتل وحده كأنه جيش لجب غزير..

    يد تحمل الراية في تقديس..

    ويد تضرب بالسيف في عنفوان..

    ولكن الأعداء يتكاثرون عليه, يريدون أن يعبروا فوق جثته الى حيث يلقون الرسول..



    لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد الخاتم في حياة مصعب العظيم..!!

    يقول ابن سعد: أخبرنا ابراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري, عن أبيه قال:

    [حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد, فلما جال المسلمون ثبت به مصعب, فأقبل ابن قميئة وهو فارس, فضربه على يده اليمنى فقطعها, ومصعب يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..

    وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه, فضرب يده اليسرى فقطعها, فحنا على اللواء وضمّه بعضديه الى صدره وهو يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..

    ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح, ووقع مصعب, وسقط اللواء].

    وقع مصعب.. وسقط اللواء..!!

    وقع حلية الشهادة, وكوكب الشهداء..!!

    وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم معركة الفداء والايمان..

    كان يظن أنه اذا سقط, فسيصبح طريق القتلة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاليا من المدافعين والحماة..

    ولكنه كان يعزي نفسه في رسول الله عليه الصلاة والسلام من فرط حبه له وخوفه عليه حين مضى يقول مع كل ضربة سيف تقتلع منه ذراعا:

    (وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل)

    هذه الآية التي سينزل الوحي فيما بعد يرددها, ويكملها, ويجعلها, قرآنا يتلى..



    **



    وبعد انتهاء المعركة المريرة, وجد جثمان الشهيد الرشيد راقدا, وقد أخفى وجهه في تراب الأرض المضمخ بدمائه الزكية..

    لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول الله يصيبه السوء, فأخفى وجهه حتى لا يرى هذا الذي يحاذره ويخشاه..!!

    أو لكأنه خجلان اذ سقط شهيدا قبلأن يطمئن على نجاة رسول الله, وقبل أن يؤدي الى النهاية واجب حمايته والدفاع عنه..!!

    لك الله يا مصعب.. يا من ذكرك عطر الحياة..!!



    **



    وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءها..

    وعند جثمان مصعب, سالت دموع وفيّة غزيرة..

    يقوا خبّاب بن الأرت:

    [هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل اله, نبتغي وجه الله, فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى, ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا, منهم مصعب بن عمير, قتل يوم أحد.. فلم يوجد له شيء يكفن فيه الا نمرة.. فكنا اذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه, واذا وضعناها على رجليه برزت رأسه, فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اجعلوها مما يلي رأسه, واجعلوا على رجليه من نبات الاذخر"..]..

    وعلى الرغم من الألم الحزين العميق الذي سببه رزء الرسول صلى الله عليه وسلم في عمه حمزة, وتمثيل المشركين يجثمانه تمثيلا أفاض دموع الرسول عليه السلام, وأوجع فؤاده..

    وعلى الرغم من امتلاء أرض المعركة بجثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم يمثل لديه عالما من الصدق والطهر والنور..
    على الرغم من كل هذا, فقد وقف على جثمان أول سفرائه, يودعه وينعاه..

    أجل.. وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند مصعب بن عمير وقال وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما ووفائهما:

    (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)

    ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي كفن بها وقال لقد رأيتك بمكة, وما بها أرق حلة, ولا أحسن لمّة منك. "ثم هأنتذا شعث الرأس في بردة"..؟!

    وهتف الرسول عليه الصلاة والسلام وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب وقال:

    "ان رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة".

    ثم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال:

    "أيها الناس زوروهم,وأتوهم, وسلموا عليهم, فوالذي نفسي بيده, لا يسلم عليهم مسلم الى يوم القيامة, الا ردوا عليه السلام"..



    **



    السلام عليك يا مصعب..

    السلام عليكم يا معشر الشهداء..

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

    إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
    نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
    جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

    تعليق


    • #3
      بلال بن رباح

      الساخر من الأهوال



      كان عمر بن الخطاب, اذا ذكر أبو بكر قال:

      " أبو بكر سيدنا وأعتق سيّدنا"..

      يعني بلالا رضي الله عنه..

      وان رجلا يلقبه عمر بسيدنا هو رجل عظيم ومحظوظ..

      لكن هذا الرجل الشديد السمرة, النحيف الناحل, المفرط الطول الكث الشعر, الخفيف العارضين, لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجه اليه, وتغدق عليه, الا ويحني رأسه ويغض طرفه, ويقول وعبراته على وجنتيه تسيل:

      "انما أنا حبشي.. كنت بالأمس عبدا"..!!

      فمن هذا الحبشي الذي كان بالأمس عبدا..!!

      انه "بلال بن رباح" مؤذن الاسلام, ومزعج الأصنام..

      انه احدى معجزات الايمان والصدق.

      احدى معجزات الاسلام العظيم..

      في كل عشرة مسلمين. منذ بدأ الاسلام الى اليوم, والى ما شاء الله سنلتقي بسبعة على الأقل يعرفون بلالا..

      أي أن هناك مئات الملايين من البشر عبر القرون والأجيال عرفوا بلالا, وحفظوا اسمه, وعرفوا دوره. تماما كما عرفوا أعظم خليفتين في الاسلام: أبي بكر وعمر...!!

      وانك لتسأل الطفل الذي لا يزال يحبو في سنوات دراسته الأولى في مصر, أو باكستان, أو الصين..

      وفي الأمريكيتين, وأوروبا وروسيا..

      وفي العراق , وسوريا, وايران والسودان..

      في تونس والمغرب والجزائر..

      في أعماق أفريقيا, وفوق هضاب آسيا..

      في كل يقعة من الأرض يقطنها مسلمون, تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم: من بلال يا غلام؟

      فيجيبك: انه مؤذن الرسول.. وانه العبد الذي كان سيّده يعذبه بالحجارة المستعرّة ليردّه عن دينه, فيقول:

      "أحد.. أحد.."



      وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الاسلام بلالا.. فاعلم أن بلال هذا, لم يكن قبل الاسلام أكثر من عبد رقيق, يرعى ابل سيّده على حفنات من التمر, حتى يطو به الموت, ويطوّح به الى أعماق النسيان..

      لكن صدق ايمانه, وعظمة الدين الذي آمن به بوأه في حياته, وفي تاريخه مكانا عليّا في الاسلام بين العظماء والشرفاء والكرماء...

      ان كثيرا من عليّة البشر, وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم, لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر به بلال العبد الحبشي..!!

      بل ان كثيرا من أبطال التاريخ لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله بلال..

      ان سواد بشرته, وتواضع حسبه ونسبه, وهوانه على الانس كعبد رقيق, لم يحرمه حين آثر الاسلام دينا, من أن يتبوأ المكان الرفيع الذي يؤهله له صدقه ويقينه, وطهره, وتفانيه..



      ان ذلك كله لم يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه أي حساب, الا حساب الدهشة حين توجد العظمة في غير مظانها..

      فلقد كان الناس يظنون أن عبدا مثل بلال, ينتمي الى أصول غريبة.. ليس له أهل, ولا حول, ولا يملك من حياته شيئا, فهو ملك لسيّده الذي اشتراه بماله.. يروح ويغدو وسط شويهات سيده وابله وماشيته..

      كانوا يظنون أن مثل هذا الكائن, لا يمكن أن يقدر على شيء ولا أن يكون شيئا..

      ثم اذا هو يخلف الظنون جميعا, فيقدر على ايمان, هيهات أن يقدر على مثله سواه.. ثم يكون أول مؤذن للرسول والاسلام العمل الذي كان يتمناه لنفسه كل سادة قريش وعظمائها من الذين أسلموا واتبعوا الرسول..!!

      أجل.. بلال بن رباح!

      أيّة بطولة.. وأيّة عظمة تعبر عنها هذه الكلمات الثلاث بلال ابن رباح..؟!



      **



      انه حبشي من أمة السود... جعلته مقاديره عبدا لأناس من بني جمح بمكة, حيث كانت أمه احدى امائهم وجواريهم..

      كان يعيش عيشة الرقيق, تمضي أيامه متشابهة قاحلة, لا حق له في يومه, ولا أمل له في غده..!!

      ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه, حين أخذ الانس في مكة يتناقلونها, وحين كان يصغي الى أحاديث ساداته وأضيافهم, سيما "أمية بن خلف" أحد شيوخ بني جمح القبيلة التي كان بلال أحد عبيدها..

      لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا, وأفراد قبيلته أحيانا عن الرسول حديثا يطفح غيظا, وغمّا وشرا..



      وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون, الصفات التي تصور له هذا الدين الجديد.. وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه البيئة التي يعيش فيها.. كما كانت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف محمد وصدقه وأمانته..!!

      أجل انه ليسمعهم يعجبون, ويحارون, في هذا الذي جاء به محمد..!!

      ويقول بعضهم لبعض: ما كان محمد يوما كاذبا. ولا ساحرا..ولا مجنونا.. وان لم يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله, حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون الى دينه..!!

      سمعهم يتحدّثون عن أمانته..

      عن وفائه..

      عن رجولته وخلقه..

      عن نزاهته ورجاحة عقله..

      وسمعهم يتهامسون بالأسباب التي تحملهم على تحديّه وعداوته, تلك هي: ولاؤهم لدين آبائهم أولا. والخوف على مجد قريش ثانيا, ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني, كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب كلها, ثم الحقد على بني هاشم, أن يخرج منهم دون غيرهم نبي ورسول...!



      **



      وذات يوم يبصر بلال ب رباح نور الله, ويسمع في أعماق روحه الخيّرة رنينه, فيذهب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويسلم..

      ولا يلبث خبر اسلامه أن يذيع.. وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح.. تلك الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور..!! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أميّة بن خلف الذي رأى في اسلام عبد من عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي والعار..

      عبدهم الحبشي يسلم ويتبع محمد..؟!

      ويقول أميّة لنفسه: ومع هذا فلا بأس.. ان شمس هذا اليوم لن تغرب الا ويغرب معها اسلام هذا العبد الآبق..!!

      ولكن الشمس لم تغرب قط باسلام بلال بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها, وحماة الوثنية فيها...!



      **



      أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفا للاسلام وحده, وان كان الاسلام أحق به, ولكنه شرف للانسانية جميعا..

      لقد صمد لأقسى الوان التعذيب صمود البرار العظام.

      ولكأنما جعله الله مثلا على أن سواد البشرة وعبودية الرقبة لا ينالان من عظمة الروح اذا وجدت ايمانها, واعتصمت بباريها, وتشبثت بحقها..

      لقد أعطى بلال درسا بليغا للذين في زمانه, وفي كل زمان, للذين على دينه وعلى كل دين.. درسا فحواه أن حريّة الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا, ولا بملئها عذابا..

      لقد وضع عريانا فوق الجمر, على أن يزيغ عن دينه, أو يزيف اقتناعه فأبى..



      لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام, والاسلام, من هذا العبد الحبشي المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير, والدفاع عن حريته وسيادته..

      لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة.. فيطرحونه على حصاها الملتهب وهو عريان, ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال, ويلقون به فوق جسده وصدره..

      ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم, حتى رقّت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه, فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله, على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم, ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم واصراره..



      ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه, ويشتري بها حياته نفسه, دون أن يفقد ايمانه, ويتخلى عن اقتناعه..

      حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلال أن يقولها..!

      نعم لقد رفض أن يقولها, وصار يردد مكانها نشيده الخالد:"أحد أحد"

      يقولون له: قل كما نقول..

      فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية كاوية:

      "ان لساني لا يحسنه"..!!

      ويظل بلال في ذوب الحميم وصخره, حتى اذا حان الأصيل أقاموه, وجعلوا في عنقه حبلا, ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها. وبلال لا يلهج لسانه بغير نشيده المقدس:" أحد أحد".



      وكأني اذا جنّ عليهم الليل يساومونه:

      غدا قل كلمات خير في آلهتنا, قل ربي اللات والعزى, لندعك وشأنك, فقد تعبنا من تعذيبك, حتى لكأننا نحن المعذبون!

      فيهز رأسه ويقول:" أحد.. أحد..".

      ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غمّا وغيظا, ويصيح: أي شؤم رمانا بك يا عبد السوء..؟واللات والعزى لأجعلنك للعبيد والسادة مثلا.

      ويجيب بلال في يقين المؤمن وعظمة القديس:

      "أحد.. أحد.."

      ويعود للحديث والمساومة, من وكل اليه تمثيل دور المشفق عليه, فيقول:

      خل عنك يا أميّة.. واللات لن يعذب بعد اليوم, ان بلالا منا أمه جاريتنا, وانه لن يرضى أن يجعلنا باسلامه حديث قريش وسخريّتها..

      ويحدّق بلال في الوجوه الكاذبة الماكرة, ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر, ويقول في هدوء يزلزلهم زلزالا:

      "أحد.. أحد.."

      وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة, ويؤخذ بلال الى الرمضاء, وهو صابر محتسب, صامد ثابت.

      ويذهب اليهم أبو بكر الصديق وهو يعذبونه, ويصيح بهم:

      (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)؟؟

      ثم يصيح في أميّة بن خلف: خذ أكثر من ثمنه واتركه حرا..

      وكأنما كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة..



      لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره اذ كان اليأس من تطويع بلال قد بلغ في نفوسهم أشده, ولأنهم كانوا من التجار, فقد أردكوا أن بيعه أربح لهم من موته..

      باعوه لأبي بكر الذي حرّره من فوره, وأخذ بلال مكانه بين الرجال الأحرار...



      وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلال منطلقا به الى الحرية قال له أمية:

      خذه, فواللات والعزى, لو أبيت الا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها..

      وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريّا بألا يجيبه..

      ولكن لأن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له, وندّا,أجاب أمية قائلا:

      والله لو أبيتم أنتم الا مائة أوقية لدفعتها..!!



      وانطلق بصاحبه الى رسول الله يبشره بتحريره.. وكان عيدا عظيما!

      وبعد هجرة الرسول والمسلمين الى المدينة, واستقرارهم بها, يشرّع الرسول للصلاة أذانها..

      فمن يكون المؤذن للصلاة خمس مرات كل يوم..؟ وتصدح عبر الأفق تكبيراته وتهليلاته..؟

      انه بلال.. الذي صاح منذ ثلاث عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن: "الله أحد..أحد".

      لقد وقع اختيار الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن للاسلام.

      وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ الأفئدة ايمانا, والأسماع روعة وهو ينادى:

      الله أكبر.. الله أكبر

      الله أكبر .. الله أكبر

      أشهد أن لااله الا الله

      أشهد أن لا اله الا الله

      أشهد أن محمدا رسول الله

      أشهد أن محمدا رسول الله

      حي على الصلاة

      حي على الصلاة

      حي على الفلاح

      حي على الفلاح

      الله أكبر.. الله أكبر

      لااله الا الله...



      ونشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم الى المدينة غازيا..

      وتدور الحرب عنيفة قاسية ضارية..وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها الاسلام, غزوة بدر.. تلك الغزوة التي أمر الرسول عليه السلام أن يكون شعارها: "أحد..أحد".



      **



      في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلاذ أكبادها, وخرج أشرافها جميعا لمصارعهم..!!

      ولقد همّ بالنكوص عن الخروج "أمية بن خلف" .. هذا الذي كان سيدا لبلال, والذي كان يعذبه في وحشيّة قاتلة..



      همّ بالنكوص لولا أن ذهب اليه صديقه "عقبة بن أبي معيط" حين علم عن نبأ تخاذله وتقاعسه, حاملا في يمينه مجمرة حتى اذا واجهه وهو جالس وسط قومه, ألقى الجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي, استجمر بهذه فانما أنت من النساء..!!!

      وصاح به أمية قائلا: قبحك الله, وقبّح ما جئت به..

      ثم لم يجد بدّا من الخروج مع الغزاة فخرج..

      أيّة أسرار للقدر, يطويها وينشرها..؟

      لقد كان عقبة بن أبي معيط أكبر مشجع لأمية على تعذيب بلال, وغير بلال من المسلمين المستضعفين..

      واليوم هو نفسه الذي يغريه بالخروج الى غزوة بدر التي سيكون فيها مصرعه..!!

      كما سيكون فيها مصرع عقبة أيضا!

      لقد كان أمية من القاعدين عن الحرب.. ولولا تشهير عقبة به على هذا النحو الذي رأيناه لما خرج..!!

      ولكن الله بالغ أمره, فليخرج أمية فان بينه وبين عبد من عباد الله حسابا قديما, جاء أوان تصفيته, فالديّان لا يموت, وكما تدينون تدانون..!!



      وان القدر ليحلو له أن يسخر بالجبارين.. فعقبة الذي كان أمية يصغي لتحريضه, ويسارع الى هواه في تعذيب المؤمنين الأبرياء, هو نفسه الذي سيقود أميّة الى مصرعه..

      وبيد من..؟

      بيد بلال نفسه.. وبلال وحده!!

      نفس اليد التي طوّقها أميّة بالسلاسل, وأوجع صاحبها ضربا, وعذابا..

      مع هذه اليد ذاتها, هي اليوم, وفي غزوة بدر, على موعد أجاد القدر توقيته, مع جلاد قريش الذي أذل المؤمنين بغيا وعدوا..

      ولقد حدث هذا تماما..



      وحين بدأ القتال بين الفريقين, وارتج جانب المعركة من قبل المسلمين بشعارهم:" أحد.. أحد" انخلع قلب أمية, وجاءه النذير..

      ان الكلمة التي كان يرددها بالأمس عبد تحت وقع العذاب والهول قد صارت اليوم شعار دين بأسره وشعار الأمة الجديدة كلها..!!

      "أحد..أحد"؟؟!!

      أهكذا..؟ وبهذه السرعة.. وهذا النمو العظيم..؟؟



      **



      وتلاحمت السيوف وحمي القتال..

      وبينما المعركة تقترب من نهايتها, لمح أمية بن خلف" عبد الرحمن بن عوف" صاحب رسول الله, فاحتمى به, وطلب اليه أن يكون أسيره رجاء أن يخلص بحياته..

      وقبل عبد الرحمن عرضه وأجاره, ثم سار به وسط المعمعة الى مكان الاسرى.

      وفي الطريق لمح بلال فصاح قائلا:

      "رأس الكفر أميّة بن خلف.. لا نجوت ان نجا".

      ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي لطالما أثقله الغرور والكبر, فصاح به عبد الرحمن بن عوف:

      "أي بلال.. انه أسيري".

      أسير والحرب مشبوبة دائرة..؟

      أسير وسيفه يقطر دما مما كان يصنع قبل لحظة في أجساد المسلمين..؟

      لا.. ذلك في رأي بلال ضحك بالعقول وسخرية.. ولقد ضحك أمية وسخر بما فيه الكفاية..

      سخر حتى لم يترك من السخرية بقية يدخرها ليوم مثل هذا اليوم, وهذا المأزق, وهذا المصير..!!

      ورأى بلال أنه لن يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين عبد الرحمن بن عوف, فصاح بأعلى صوته في المسلمين:

      "يا أنصار الله.. رأس الكفر أمية بن خلف, لا نجوت ان نجا"...!

      وأقبلت كوكبة من المسلمين تقطر سيوفهم المنايا, وأحاطت بأمية وابنه ولم يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئا.. بل لم يستطع أن يحمي أذراعه التي بددها الزحام.

      وألقى بلال على جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف القاصفة نظرة طويلة, ثم هرول عنه مسرعا وصوته النديّ يصيح:

      "أحد.. أحد.."



      **



      لا أظن أن من حقنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلال في مثل هذا المقام..

      فلو أن اللقاء بين بلال وأمية تمّ في ظروف أخرى, لجازنا أن نسال بلالا حق التسامح, وما كان لرجل في مثل ايمانه وتقاه أن يبخل به.

      لكن اللقاء الذي تم بينهما, كان في حرب, جاءها كل فريق ليفني غريمه..



      السيوف تتوهج.. والقتلى يسقطون.. والمنايا تتواثب, ثم يبصر بلال أمية الذي لم يترك في جسده موضع أنملة الا ويحمل آثار تعذيب.

      وأين يبصره وكيف..؟

      يبصره في ساحة الحرب والقتال يحصد بسيفه كل ما يناله من رؤوس المسلمين, ولو أدرك رأس بلال ساعتئذ لطوّح به..

      في ظروف كهذه يلتقي الرجلان فيها, لا يكون من المنطق العادل في شيء أن نسأل بلالا: لماذا لم يصفح الصفح الجميل..؟؟



      **



      وتمضي الأيام وتفتح مكة..

      ويدخلها الرسول شاكرا مكبرا على رأس عشرة آلاف من المسلمين..

      ويتوجه الى الكعبة رأسا.. هذا المكان المقدس الذي زحمته قريش بعدد أيام السنة من الأصنام..!!

      لقد جاء الحق وزهق الباطل..

      ومن اليوم لا عزى.. ولا لات.. ولا هبل.. لن يحني الانسان بعد اليوم هامته لحجر, ولا وثن.. ولن يعبد الناس ملء ضمائرهم الا الله الذي ليس كمثله شيء, الواحد الأحد, الكبير المتعال..

      ويدخل الرسول الكعبة, مصطحبا معه بلال..!

      ولا يكاد يدخلها حتى يواجه تمثالا منحوتا, يمثل ابراهيم عليه السلام وهو يستقسم بالأزلام, فيغضب الرسول ويقول:

      "قاتلهم الله..

      ما كان شيخنا يستقسم بالأزلام.. ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين".



      ويأمر بلال أن يعلو ظهر المسجد, ويؤذن.

      ويؤذن بلال.. فيالروعة الزمان, والمكان, والمناسبة..!!

      كفت الحياة في مكة عن الحركة, ووقفت الألوف المسلمة كالنسمة الساكنة, تردد في خشوع وهمس كلمات الآذان ورء بلال.



      والمشركون في بيوتهم لا يكادون يصدقون:

      أهذا هو محمد وفقراؤه الذين أخرجوا بالأمس من هذا الديار..؟؟

      أهذا هو حقا, ومعه عشرة آلاف من المؤمنين..؟؟

      أهذا هو حقا الذي قاتلناه, وطاردناه, وقتلنا أحب الناس اليه..؟

      أهذا هو حقا الذي كان يخاطبنا من لحظات ورقابنا بين يديه, ويقول لنا:

      "اذهبوا فأنتم الطلقاء"..!!



      ولكن ثلاثة من أشراف قريش, كانوا جلوسا بفناء الكعبة, وكأنما يلفحهم مشهد بلال وهو يدوس أصنامهم بقدميه, ويرسل من فوق ركامها المهيل صوته بالأذان المنتشر في آفاق مكة كلها كعبير الربيع..

      أما هؤلاء الثلاثة فهم, أبوسفيان بن حرب, وكان قد أسلم منذ ساعات, وعتّاب بن أسيد, والحارث بن هشام, وكانا لم يسلما بعد.



      قال عتاب وعينه على بلال وهو يصدح بأذانه:

      لقد أكرم الله اسيدا, ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث:

      أما والله لو أعلم أن محمدا محق لاتبعته..!!

      وعقب أبو سفيان الداهية على حديثهما قائلا:

      اني لا أقول شيئا, فلو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى!! وحين غادر النبي الكعبة رآهم, وقرأ وجوههم في لحظة, قال وعيناه تتألقان بنور الله, وفرحة النصر:

      قد علمت الذي قلتم..!!!

      ومضى يحدثهم بما قالوا..

      فصاح الحارث وعتاب:

      نشهد أنك رسول الله, والله ما سمعنا أحد فنقول أخبرك..!!

      واستقبلا بلال بقلوب جديدة..في أفئدتهم صدى الكلمات التي سمعوها في خطاب الرسول أول دخول مكة:

      " يامعشر قريش..

      ان الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء..

      الناس من آدم وآدم من تراب"..



      **



      وعاش بلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, يشهد معه المشاهد كلها, يؤذن للصلاة, ويحيي ويحمي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات الى النور, ومن الرق الى الحريّة..

      وعلا شأن الاسلام, وعلا معه شأن المسلمين, وكان بلال يزداد كل يوم قربا من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يصفه بأنه:" رجل من أهل الجنة"..

      لكن بلالا بقي كما هو كريما متواضعا, لا يرى نفسه الا أنه:" الحبشي الذي كان بالأمس عبدا"..!!





      ذهب يوما يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما:

      "أنا بلال, هذا أخي عبدان من الحبشة.. كنا ضالين فهدانا الله.. ومنا عبدين فأعتقنا الله.. ان تزوّجونا فالحمد لله.. وان تمنعونا فالله أكبر.."!!



      **



      وذهب الرسول الى الرفيق الأعلى راضيا مرضيا, ونهض بأمر المسلمين من بعده خليفته أبو بكر الصديق..

      وذهب بلال الى خليفة رسول الله يقول له:

      " يا خليفة رسول الله..

      اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أفضل عمل للمؤمن الجهاد في سبيل الله"..

      فقال له أبو بكر: فما تشاء يا بلال..؟

      قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتىأموت..

      قال أبو بكر ومن يؤذن لنا؟

      قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع, اني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله.

      قال أبو بكر: بل ابق وأذن لنا يا بلال..

      قال بلال: ان كنت أعتقتني لأكون لك فليكن لك ما تريد. وان كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له..

      قالأبو بكر: بل أعتقتك لله يا بلال..

      ويختلف الرواة, فيروي بعضهم أنه سافر الى الشام حيث بقي فيها مجاهدا مرابطا.

      ويروي بعضهم الآخر, أنه قبل رجاء أبي بكر في أن يبقى معه بالمدينة, فلما قبض وولي عمر الخلافة استأذنه وخرج الى الشام.



      على أية حال, فقد نذر بلال بقية حياته وعمره للمرابطة في ثغور الاسلام, مصمما أن يلقى الله ورسوله وهو على خير عمل يحبانه.



      ولم يعد يصدح بالأذان بصوته الشجي الحفيّ المهيب, ذلك أنه لم ينطق في أذانه "أشهد أن محمدا رسول الله" حتى تجيش به الذمؤيات فيختفي صوته تحت وقع أساه, وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته.

      وكان آخر أذان له أيام زار أمير المؤمنين عمر وتوسل المسلمون اليه أن يحمل بلالا على أن يؤذن لهم صلاة واحدة.

      ودعا أمير المؤمنين بلال, وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها.

      وصعد بلال وأذن.. فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله وبلال يؤذن له.. بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا.. وكان عمر أشدهم بكاء..!!



      **



      ومات بلال في الشام مرابطا في سبيل الله كما أراد.



      وتحت ثرى دمشق يثوي اليوم رفات رجل من أعظم رجال البشر صلابة في الوقوف الى جانب العقيدة والاقتناع...

      إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
      نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
      جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

      تعليق


      • #4
        عبد الله بن عمر

        المثابر, الأوّاب



        تحدّث وهو على قمة عمره الطويل فقال:

        "لقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم..

        فما نكثت ولا بدّلت الى يومي هذا..

        وما بايعت صاحب فتنة..

        ولا أيقظت مؤمنا من مرقده"..

        وفي هذه الكلمات تلخيص لحياة الرجل الصالح الذي عاش فوق الثمانين, والذي بدأت علاقته بالاسلام والرسول, وهو في الثالثة عشر من العمر, حين صحب أباه في غزوة بدر, راجيا أن يكون له بين المجاهدين مكان, لولا أن ردّه الرسول عليه السلام لصغر سنه..

        من ذلك اليوم.. بل وقبل ذلك اليوم حين صحب أباه في هجرته الى المدينة.. بدأت صلة الغلام ذي الرجولة المبكرة بالرسول عليه السلام والاسلام..



        ومن ذلك اليوم الى اليوم الذي يلقى فيه ربه, بالغا من العمر خمسة وثمانين عاما, سنجد فيه حيثما نلقاه, المثابر الأوّاب الذي لا ينحرف عن نهجه قيد أشعرة, ولا يند عن بيعة بايعها, ولا يخيس بعهد أعطاه..

        وان المزايا التي تأخذ الأبصار الى عبدالله بن عمر لكثيرة.

        فعلمه وتواضعه, واستقامة ضميره ونهجه, وجوده, وورعه, ومثابرته, على العبادة وصدق استمساكه بالقدوة..

        كل هذه الفضائل والخصال, صاغ ابن عمر عمره منها, وشخصيته الفذة, وحياته الطاهرة الصادقة..

        لقد تعلم من أبيه عمر بن الخطاب خيرا كثيرا.. وتعلم مع أبيه من رسول الله الخير كله والعظمة كلها..

        لقد أحسن كأبيه الايمان بالله ورسوله.. ومن ثم, كانت متابعته خطى الرسول أمرا يبهر الألباب..

        فهو ينظر, ماذا كان الرسول يفعل في كل أمر, فيحاكيه في دقة واخبات..

        هنا مثلا, كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي.. فيصلي ابن عمر في ذات المكان..

        وهنا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو قائما, فيدعو ابن عمر قائما...

        وهنا كان الرسول يدعو جالسا, فيدعو عبدالله جالسا..

        وهنا وعلى هذا الطريق نزل الرسول يوما من فوق ظهر ناقته, وصلى ركعتين, فصنع ابن عمر ذلك اذا جمعه السفر بنفس البقعة والمكان..



        بل انه ليذكر أن ناقة الرسول دارت به دورتين في هذا المكان بمكة, قبل أن ينزل الرسول من فوق ظهرها, ويصلي ركعتين, وقد تكون الناقة فعلت ذلك تلقائيا لتهيئ لنفسها مناخها.

        لكن عبدالله بن عمر لا يكاد يبلغ ها المكان يوما حتى يدور بناقته, ثم ينيخها, ثم يصلي ركعتين لله.. تماما كما رأى المشهد من قبل مع رسول الله..



        ولقد أثار فرط اتباعه هذا, أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت:

        "ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في منازله, كما كان يتبعه ابن عمر".

        ولقد قضى عمره الطويل المبارك على هذا الولاء الوثيق, حتى لقد جاء على المسلمين زمان كان صالحهم يدعو ويقول:

        "اللهم أبق عبدالله بن عمر ما أبقيتني, كي أقتدي به, فاني لا أعلم أحد على الأمر الأول غيره".



        وبقوة هذا التحري الشديد الوثيق لخطى الرسول وسنته, كان ابن عمر يتهيّب الحديث عن رسول الله ولا يروي عنه عليه السلام حديثا الا اذا كان ذاكرا كل حروفه, حرفا.. حرفا.

        وقد قال معاصروه..

        "لم يكن من أصحاب رسول الله أحد أشد حذرا من ألا يزيد في حديث رسول الله أو ينقص منه, من عبدالله بن عمر"..!!



        وكذلك كان شديد الحذر والتحوّط في الفتيا..

        جاءه يوما رجل يستفتيه, فلماألقى على ابن عمر سؤاله أجابه قائلا:

        " لا علم لي بما تسأل عنه"

        وذهب الرجل في سبيله, ولا يكاد يبتعد عن ابن عمر خطوات حتى يفرك ابن عمر كفه جذلان فرحا ويقول لنفسه:

        "سئل ابن عمر عما لا يعلم, فقال لا أعلم"..!

        كان يخاف أن يجتهد في فتياه, فيخطئ في اجتهاده, وعلى الرغم من أنه يحيا وفق تعاليم الدين العظيم, للمخطئ أجر وللمصيب أجرين, فان ورعه أن يسلبه ورعه كان يسلبه الجسارة على الفتيا.

        وكذلك كان ينأى به عن مناصب القضاة..

        لقد كانت وظيفة القضاء من أرفع مناصب الدولة والمجتمهع, وكانت تضمن لشاغرها ثراء, وجاها, ومجدا..

        ولكن ما حاجة ابن عمر الورع للثراء, وللجاه, وللمجد..؟!



        دعاه يوما الخليفة عثمان رضي الله عنهما, وطلب اليه أن يشغل منصب القضاة, فاعتذر.. وألح عليه عثمان, فثابر على اعتذاره..

        وسأله عثمان: أتعصيني؟؟

        فأجاب ابن عمر:

        " كلا.. ولكن بلغني أن القضاة ثلاثة..

        قاض يقضي بجهل, فهو في النار..

        وقاض يقضي بهوى, فهو في النار..

        وقاض يجتهد ويصيب, فهو كفاف, لا وزر, ولا أجر..

        واني لسائلك بالله أن تعفيني"..

        وأعفاه عثمان, بعد أن أخذ عليه العهد ألا يخبر أحدا بهذا.

        ذلك أن عثمان يعلم مكانة ابن عمر في أفئدة الناس, وانه ليخشى اذا عرف الأتقياء الصالحون عزوفه عن القضاء أن يتابعوا وينهجوا نهجه, وعندئذ لا يجد الخليفة تقيا يعمل قاضيا..



        وقد يبدو هذا الموقف لعبد الله بن عمر سمة من سمات السلبية.

        بيد أنه ليس كذلك, فعبد الله بن عمر لم يمتنع عن القضاء وليس هناك من يصلح له سواه.. بل هناك كثيرون من أصحاب رسول الله الورعين الصالحين, وكان بعضهم يشتغل بالقضاء والفتية بالفعل..

        ولم يكن في تخلي ابن عمر عنه تعطيل لوظيفة القضاء, ولا القاء بها بين أيدي الذين لا يصلحون لها.. ومن ثمّ قد آثر البقاء مع نفسه, ينمّيها ويزكيها بالمزيد من الطاعة, والمزيد من العبادة..



        كما أنه في ذلك الحين من حياة الاسلام, كانت الدنيا قد فتحت على المسلمين وفاضت الأموال, وكثرت المناصب والامارات.

        وشرع اغراء المال والمناصب يقترب من بعض القلوب المؤمنة, مما جعل بعض أصحاب الرسول, ومنهم ابن عمر, يرفعون راية المقاومة لهذا الاغراء باتخذهم من أنفسهم قدوة ومثلا في الزهد والورع والعزوف عن المناصب الكبيرة, وقهر فتنتها واغرائها...



        **



        لقد كان ابن عمر,أخا الليل, يقومه مصليا.. وصديق السحر يقطعه مستغفرا وباكيا..

        ولقد رأى في شبابه رؤيا, فسرها الرسول تفسيرا جعل قيام الليل منتهى آمال عبدالله, ومناط غبطته وحبوره..



        ولنصغ اليه يحدثنا عن نبأ رؤياه:

        "رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن بيدي قطعة استبرق, وكأنني لا أريد مكانا في الجنة الا طارت بي اليه..

        ورأيت كأن اثنين أتياني, وأرادا أن يذهبا بي الى النار, فتلقاهما ملك فقال: لا ترع, فخليّا عني..

        فقصت حفصة - أختي- على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل عبدالله, لو كان يصلي من الليل فيكثر"..

        ومن ذلك اليوم والى أن لقي ربه, لم يدع قيام الليل في حله, ولا في ترحاله..

        فكان يصلي ويتلو القرآن, ويذكر ربه كثيرا.. وكان كأبيه, تهطل دموعه حين يسمع آيات النذير في القرآن.



        يقول عبيد بن عمير: قرأت يوما على عبدالله بن عمر هذه الآية:

        (فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا.يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا)..

        فجعل ابن عمر يبكي حتى نديت لحيته من دموعه.

        وجلس يوما بين اخوانه فقرا:

        (ويل للمطففين, الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون, واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون, ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون, ليوم عظيم, يوم يقوم الناس لرب العالمين)..

        ثم مضى يردد الآية:

        (..يوم يقوم الناس لرب العالمين).

        ودموعه تسيل كالمطر. حتى وقع من كثرة وجده وبكائه..!!



        **



        ولقد كان جوده, وزهده, وورعه, تعمل معا في فن عظيم, لتشكل أروع فضائل هذا الانسان العظيم.. فهو يعطي الكثير لأنه جواد..

        ويعطي الحلال الطيب لأنه ورع..

        ولا يبالي أن يتركه الجود فقيرا, لأنه زاهد..!!



        وكان ابن عمر رضي الله عنه, من ذوي الدخول الرغيدة الحسنة, اذ كان تاجرا أمينا ناجحا شطر حياته, وكان راتبه من بيت المال وفيرا.. ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قط, انما كان يرسله غدقا على الفقراء, والمساكين والسائلبن..

        يحدثنا أيوب بن وائل الراسبي عن أحد مكرماته, فيخبرنا أن ابن عمر جاءه يوما بأربعة آلاف درهم وقطيفة..

        وفي اليوم التالي, رآه أيوب بن وائل في السوق يشتري لراحلته علفا نسيئة – أي دينا- ..

        فذهب ابن وائل الى أهل بيته وسالهم أليس قد أتى لأبي عبد الرحمن – يعني ابن عمر – بالأمس أربعة آلاف,وقطيفة..؟

        قالوا: بلى..

        قال: فاني قد رأيته اليوم بالسوق يشتر علفا لراحلته ولا يجد معه ثمنه..

        قالوا: انه لم يبت بالأمس حتى فرقها جميعها, ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره, خرج.. ثم عاد وليست معه, فسألناه عنهتا. فقال: انه وهبها لفقير..!!

        فخرج ابن وائل يضرب كفا بكف. حتى أتى السوق فتوقل مكانا عاليا, وصاح في الناس:

        " يا معشر التجار..

        ما تصنعون بالدنيا, وهذا بن عمر تأتيه الف درهم فيوزعها, ثم يصلح فيستدين علفا لراحلته"..؟؟!!



        ألا ان من كان محمد أستاذه, وعمر أباه, لعظيم, كفء لكل عظيم..!!

        ان وجود عبد الله بن عمر, وزهده وورعه, هذه الخصال الثلاثة, كانت تحكي لدى عبد الله صدق القدوة.. وصدق البنوّة..

        فما كان لمن يمعن في التأسي برسول الله, حتى انه ليقف بناقته حيث رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يوقف ناقته. ويقول" لعل خفا يقع على خف".!

        والذي يذهب برأيه في برأبيه وتوقيره والاعجاب به الى المدى الذي كانت شخصية عمر تفرضه على الأعداء, فضلا عن الأقرباء. فضلا عن الأبناء..

        أقول ما ينبغي لمن ينتمي لهذا الرسول, ولهذا الوالد أن يصبح للمال عبدا..

        ولقد كانت الأموال تاتيه وافرة كثيرة.. ولكنها تمر به مرورا.. وتعبر داره عبورا..

        ولم يكن جوده سبيلا الى الزهو, والا الى حسن الأحدوثة.

        ومن ثم. فقد كان يخص به المحتاجين والفقراء.. وقلما كان يأكل الطعام وحده.. فلا بد أن يكون معه أيتام, أو فقراء.. وطالما كان يعاتب بعض أبنائه, حين يولمون للأغنياء, ولا يأتون معهم بالفقراء, ويقول لهم:

        "تدعون الشباع. وتدعون الجياع"..!!



        وعرف الفقراء عطفه, وذاقوا حلاوة بره وحنانه, فكانوا يجلسون في طريقه, كي يصحبهم الى داره حين يراهم.. وكانوا يحفون به كما تحف أفواج النحل بالأزاهير ترتشف منها الرحيق..!



        **



        لقد كان المال بين يديه خادما لا سيدا,,

        وكان وسيلة لضروات العيش لا للترف..

        ولم يكن ماله وحده, بل كان للفقراء فيه حق معلوم, بل حق متكافئ لا يتميز فيه بنصيب..

        ولقد أعانه على هذا الجود الواسع زهده.. فما كان ابن عمر يتهالك على الدنيا, ولا يسعى اليها, بل ولا رجو منها الا ما يستر الجسد من لباس, ويقيم الأود من الطعام..



        أهداه أحد اخوانه القادمين من خراسان حلة ناعمة أنيقة, وقال له:

        لقد جئتك بهذا الثوب من خراسان, وانه لتقر عيناي, اذ أراك تنزع عنك ثيابك الخشنة هذه, وترتدي هذا الثوب الجميل..

        قال له ابن عمر: أرنيه اذن..

        ثم لمسه وقال: أحرير هذا.؟

        قال صاحبه: لا .. انه قطن.

        وتملاه عبد الله قليلا, ثم دفعه بيمينه وهويقول:"لا.اني أخاف على نفسي.. أخاف ان يجعلني مختالا فخورا.. والله لا يحب كل مختال فخور"..!!



        وأهداه يوما صديقا وعاء مملوءا..

        وسأله ابن عمر: ما هذا؟

        قال: هذا دواء عظيم جئتك به من العراق.

        قال ابن عمر: وماذا يطبب هذا الدواء..؟؟

        قال: يهضم الطعام..

        فالتسم ابن عمر وقال لصاحبه:" يهضم الطعام..؟ اني لم أشبع من طعام قط منذ أربعين عاما".!!



        ان هذا الذي لم يشبع من الطعام منذ أربعين عاما, لم يكن يترك الشبع خصاصة, بل زهدا وورعا, ومحاولة للتاسي برسوله وأبيه..

        كان يخاف أن يقال له يوم القيامة:

        (أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)..



        وكان يدرك انه في الدنيا ضيف أو عابر سبيل..

        ولقد تحدث عن نفسه قائلا:

        "ما وضعت لبنة على لبنة, ولا غرست نخلة منذ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم"..

        ويقول ميمون بن مهران:

        " دخلت على ابن عمر, فقوّمت كل شيء في بيته من فراش, ولحاف وبساط. ومن كل شيء فيه, فما وجدته تساوي مئة ردهم"..!!

        لم يكن ذلك عن فقر.فقد كان ابن عمر ثريا..

        ولا كان ذلك عن بخل فقد كان جوّدا سخيا..

        وكان عن زهد في الدنيا, وازدراء للترف, والتزام لمنهجه في الصدق والورع..

        ولقد عمّر ابن عمر طويلا, وعاش في العصر الأموي الذي فاضت فيها لأموال وانتشرت الضياع, وغطى البذخ أكث الدور.. بل قل أكثر القصور..

        ومع هذا, بقي ذلك الطود الجليل شامخا ثابتا, لا يبرح نهجه ولا يتخلى عن ورعه وزهده.

        واذا ذكّر بحظوظ الدنيا ومتاعها التي يهرب منها قال:

        "لقد اجتمعت وأصحابي على أمر, واني أخاف ان خالفتهم ألا ألأحق بهم"..

        ثم يعلم الآخرين أنه لم يترك دنياهم عجزا, فيرفع يده الى السماء ويقول:

        "اللهم انك تعلم أنه لولا مخافتك لزاحمنا قومنا قريشا في هذه الدنيا".



        **





        أجل.. لولا مخافة ربه لزاحم في الدنيا, ولكان من الظافرين..

        بل انه لم يكن بحاجة الى أن يزاحم, فقد كانت الدنيا تسعى اليه وتطارده بطيباتها ومغرياتها..

        وهل هناك كمنصب الخلافة اغراء..؟

        لقد عرض على ابن عمر مرات وهو يعرض عنه.. وهدد بالقتل ان لم يقبل. فازداد له رفضا, وعنه اعراضا..!!



        يقول الحسن رضي الله عنه:

        " لما قتل عثمان بن عفان, قالوا لعبد الله بن عمر: انك سيّد الناس, وابن سيد الناس, فاخرج نبايع لك الناس..

        قال: ان والله لئن استطعت, لا يراق بسببي محجمة من دم..

        قالوا: لتخرجن, أو لنقتلنكك على فراشك.. فأعاد عليهم قوله الأول..

        فأطمعوه.. وخوّفوه.. فما استقبلوا منه شيئا"..!!



        وفيما بعد.. وبينما الزمان يمر, والفتن تكثر, كان ابن عمر دوما هو الأمل, فيلح الناس عليه, كي يقبل منصب الخلافة, ويجيئوا له بالبيعة, ولكنه كان دائما يأبى..

        ولقد يشكل هذا الرفض مأخذا يوجه الى ابن عمر..

        بيد أن كان له منطقه وحجته.فبعد مقتل عثمان رضي الله عنه, ساءت الأمور وتفاقمت على نحو ينذر بالسوء والخطر..



        وابن عمر وان يك زاهدا في جاه الخلافة, فانه يتقبل مسؤلياتها ويحمل أخطارها, ولكن شريطة أن يختاره جميع المسلمين طائعين, مختارين, أما أن يحمل واحد لا غير على بيعته بالسيف, فهذا ما يرفضه, ويرفض الخلافة معه..

        وآنئذ, لم يكن ذلك ممكنا.. فعلى الرغم من فضله, واجماع المسلمين على حبه وتوقيره, فان اتساع الأمصار, وتنائبها, والخلافات التي احتدمت بين المسلمين, وجعلتهم شيعا تتنابذ بالحرب, وتتنادى للسيف, لم يجعل الجو مهيأ لهذا الاجماع الذي يشترطه عبدالله بن عمر..



        لقيه رجل يوما فقال له: ما أحد شر لأمة محمد منك..!

        قال ابن عمر: ولم..؟ فوالله ما سفكت دماءهم, ولا فرقت جماعتهم, ولا شققت عصاهم..

        قال الرجل: انك لو شئت ما اختلف فيك اثنان..

        قال ابن عمر: ما أحب أنها أتتني, ورجل يقول: لا, وآخر يقول: نعم.



        وحتى بعد أن سارت الأحداث شوطا طويلا, واستقر الأمر لمعاوية.. ثم لابنه يزيد من بعده. وثم ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلافة زاهدا فيها بعد أيام من توليها..

        حتى في ذلك اليوم, وابن عمر شيخ مسن كبير, كان لا يزال أمل الناس, وأمل الخلافة.. فقد ذهب اليه مروان قال له:

        هلم يدك نبايع لك, فانك سيد العرب وابن سيدها..

        قال له ابن عمر: كيف نصنع بأهل المشرق..؟

        قال مروان: نضربهم حتى يبايعوا..

        قال ابن عمر:"والله ما أحب أنها تكون لي سبعين عاما, ويقتل بسببي رجل واحد"..!!

        فانصرف عنه مروان وهو ينشد:

        اني أرى فتنة تغلي مراجلها والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا

        يعني بأبي ليلى, معاوية بن يزيد...



        **



        هذا الرفض لاستعمال القوة والسيف, هو الذي جعل ابن عمر يتخذ من الفتنة المسلحة بين أنصار علي وأنصار معاوية, موقف العزلة والحياد جاعلا شعاره ونهجه هذه الكلمات:

        "من قال حي على الصلاة أجبته..

        ومن قال حي على الفلاح أجبته..

        ومن قال حي على قتل أخيك المسلم واخذ ماله قلت: لا".!!

        ولكنه في عزلته تلك وفي حياده, لا يماليء باطلا..

        فلطالما جابه معاوية وهو في أوج سلطانه يتحديات أوجعته وأربكته..

        حتى توعده بالقتل, وهو القائل:" لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت"..!!



        وذات يوم, وقف الحجاج خطيبا, فقال:" ان ابن الزبير حرّف كتاب الله"!

        فصاح ابن عمر في وجهه:" كذبت, كذبت, كذبت".

        وسقط في يد الحجاج, وصعقته المفاجأة, وهو الذي يرهبه كل شيء, فمضى يتوعد ابن عمر بشرّ جزاء..

        ولوح ابن عمر بذراعه في وجه الحجاج, وأجابه الناس منبهرون:" ان تفعل ما تتوعد به فلا عجب, فانك سفيه متسلط"..!!

        ولكنه برغم قوته وجرأته ظل الى آخر أيامه, حريصا على ألا يكون له في الفتنة المسلحة دور ونصيب, رافضا أن ينحاز لأي فريق...

        يقول أبو العالية البراء:

        " كنت أمشي يوما خلف ابن عمر, وهو لا يشعر بي, فسمعته يقول لنفسه:

        " واضعين سيوفهم على عواتقهم, يقتل بعضهم بعضا يقولون: يا عبد الله بن عمر, أعط يدك"..؟!



        وكان ينفجر أسى وألما, حين يرى دماء المسلمين تسيل بأيديهم..!!

        ولو استطاع أن يمنع القتال, ويصون الدم لفعل, ولكن الأحداث كانت أقوى منه فاعتزلها.

        ولقد كان قلبه مع علي رضي الله عنه, بل وكان معه يقينه فيما يبدو, حتى لقد روي عنه أنه قال في أخريات أيامه:

        " ما أجدني آسى على شيء فاتني من الدنيا الا أني لم أقاتل مع عليّ, الفئة الباغية"..!!



        على أنه حين رفض أن يقاتل مع الامام علي الذي كان الحق له, وكان الحق معه, فانه لم يفعل ذلك هربا, والا التماسا للنجاة.. بل رفضا للخلاف كله, والفتنة كلها, وتجنبا لقتال لا يدور بين مسلم ومشرك, بل بين مسلمين يأكل بعضهم بعضا..

        ولقد أوضح ذلك تماما حين سأله نافع قال:" يا أبا عبد الرحمن, أنت ابن عم.. وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنت وأنت, فما يمنعك من هذا الأمر_ يعني نصرة علي_؟؟

        فأجابه قائلا:

        " يمنعني أن الله تعالى حرّم عليّ دم المسلم, لقد قال عز وجل: (قاتلوهم حتى لا تكون فتنة, ويكون الدين ..)

        ولقد فعلنا وقاتلنا المشركين حتى كان الدين لله,اما اليوم. فيم نقاتل..؟؟

        لقد قاتلت الأوثان تملأ الحرم.. من الركن الى الباب, حتى نضاها الله من أرض العرب..

        أفأقاتل اليوم من يقول لا اله الا الله".؟!

        هكذا كان منطقه, وكانت حجته, وكان اقتناعه..



        فهو اذن لم يتجنب القتال ولم يشترك فيه, لاهروبا, أو سلبية, بل رفضا لاقرار حرب أهلية بين الأمة المؤمنة, واستنكافا على أن يشهر مسلم في وجه مسلم سيفا..

        ولقد عاش عبد الله بن عمر طويلا.. وعاصر الأيام التي فتحت أبواب الدنيا على المسلمين, وفاضت الأموال, وكثرت المناصب, واستشرت المطامح والرغبات..



        لكن قدرته النفسية الهائلة, غيّرت كيمياء الزمن..!! فجعلت عصر الطموح والمال والفتن.. جعلت هذا العصر بالنسبة اليه, أيام زهد, وورع, عاشها المثابر الأواب بكل يقينه, ونسكه وترفعه.. ولم يغلب قط على طبيعته الفاضلة التي صاغها وصقلها الاسلام في أيامه الأولى العظيمة الشاهقة..

        لقد تغيّرت طبيعة الحياة, مع بدء العصر الأموي, ولم يكن ثمّة مفر من ذلك التغيير.. وأصبح العصر يومئذ, عصر توسع في كل شيء.. توسع لم تستجب اليه مطامح الدولة فحسب, بل ومطامح الجماعة والأفراد أيضا.

        ووسط لجج الاغراء, وجيشان العصر المفتون بمزايا التوسع, وبمغانمه, ومباهجه, كان ابن عمر يعيش مع فضائله, في شغل عن ذلك كله بمواصلة تقدمه الروحي العظيم.

        ولقد أحرز من أغراض حياته الجليلة ما كان يرجو حتى لقد وصفه معاصروه فقالوا:

        ( مات ابن عمر وهو مثل عمر في الفضل)



        بل لقد كان يطيب لهم حين يبهرهم ألق فضائله, أن يقارنوا بينه وبين والده العظيم عمر.. فيقولون:

        ( كان عمر في زمان له فيه نظراء, وكان ابن عمر في زمان ليس فيه نظير)..!!

        وهي مبالغة يغفرها استحقاق ابن عمر لها, أما عمر فلا يقارن بمثله أحد.. وهيهات أن يكون له في كل عصور الزمان نظير..



        **



        وفي العام الثاث والسبعين للهجرة.. مالت الشمس للمغيب, ورفعت احدى سفن الأبدية مراسيها, مبحرة الى العالم الآخر والرفيق الأعلى, حاملة جثمان آخر ممثل لعصر الوحي _في مكة والمدينة_ عبد الله بن عمر بن الخطاب. كان آخر الصحابة رحيلا عن الدنيا كلها أنس بن مالك رضي الله عنه, توفي بالبصرة, عام واحد وتسعين, وقيل عام ثلاث وتسعين.

        إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
        نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
        جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

        تعليق


        • #5
          سعد بن أبي وقاص

          الأسد في براثنه



          أقلقت الأنباء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب, عندما جاءته تترى بالهجمات الغادرة التي تشنها قوات الفرس على المسلمين.. وبمعركة الجسر التي ذهب ضحيتها في يوم واحد أربعة آلاف شهيد.. وبنقض أهل العراق عهودهم, والمواثيق التي كانت عليهم.. فقرر أن يذهب بنفسه ليقود جيوش المسلمين, في معركة فاصلة ضد الفرس.

          وركب في نفر من أصحابه مستخلفا على المدينة علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه..

          ولكنه لم يكد يمضي عن المدينة حتى رأى بعض أصحابه أن يعود, وينتدب لهذه المهمة واحدا غيره من أصحابه..



          وتبنّى هذا الرأي عبد الرحمن بن عوف, معلنا أن المخاطرة بحياة أمير المؤمنين على هذا النحو والاسلام يعيش أيامه الفاصلة, عمل غير سديد..



          وأمر عمر أن يجتمع المسلمون للشورى ونودي:_الصلاة جامعة_ واستدعي علي ابن أبي طالب, فانتقل مع بعض أهل المدينة الى حيث كان أمير المؤمنين وأصحابه.. وانتهى الرأي الى ما نادى به عبد الرحمن بن عوف, وقرر المجتمعون أن يعود عمر الى المدينة, وأن يختار للقاء الفرس قائدا آخر من المسلمين..

          ونزل أمير المؤمنين على هذا الرأي, وعاد يسأل أصحابه:

          فمن ترون أن نبعث الى العراق..؟؟

          وصمتوا قليلا يفكرون..

          ثم صاح عبد الرحمن بن عوف: وجدته..!!

          قال عمر: فمن هو..؟

          قال عبد الرحمن: "الأسد في براثنه.. سعد بن مالك الزهري.."



          وأيّد المسلمون هذا الاختيار, وأرسل أمير المؤمنين الى سعد بن مالك الزهري "سعد بن أبي وقاص" وولاه امارة العراق, وقيادة الجيش..

          فمن هو الأسد في براثنه..؟

          من هذا الذي كان اذا قدم على الرسول وهو بين أصحابه حياه وداعبه قائلا:

          "هذا خالي.. فليرني امرؤ خاله"..!!



          انه سعد بن أبي وقاص.. جده أهيب بن مناف, عم السيدة آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم..

          لقد عانق الاسلام وهو ابن سبع عشرة سنة, وكان اسلامه مبكرا, وانه ليتحدث عن نفسه فيقول:

          " .. ولقد أتى عليّ يوم, واني لثلث الاسلام"..!!

          يعني أنه كان ثالث أول ثلاثة سارعوا الى الاسلام..



          ففي الأيام الأولى التي بدأ الرسول يتحدث فيها عن الله الأحد, وعن الدين الجديد الذي يزف الرسول بشراه, وقبل أن يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم من دار الأرقم ملاذا له ولأصحابه الذين بدءوا يؤمنون به.. كان سعد ابن أبي وقاص قد بسط يمينه الى رسول الله مبايعا..

          وانّ كتب التاريخ والسّير لتحدثنا بأنه كان أحد الذين أسلموا باسلام أبي بكر وعلى يديه..

          ولعله يومئذ أعلن اسلامه مع الذين أعلنوه باقناع أبي بكر ايّاهم, وهم عثمان ابن عفان, والزبير ابن العوّام, وعبد الرحمن بن عوف, وطلحة بن عبيد الله.

          ومع هذا لا يمنع سبقه بالاسلام سرا..

          وان لسعد بن أبي وقاص لأمجاد كثيرة يستطيع أن يباهي بها ويفخر..

          بيد أنه لم يتغنّ من مزاياه تلك, الا بشيئين عظيمين..

          أولهما: أنه أول من رمى بسهم في سبيل الله, وأول من رمي أيضا..

          وثانيهما: أنه الوحيد الذي افتداه الرسول بأبويه فقال له يوم أحد:

          " ارم سعد فداك أبي وأمي"..



          أجل كان دائما يتغنى بهاتين النعمتين الجزيلتين, ويلهج بشكر الله عليهما فيقول:

          " والله اني لأوّل رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله".

          ويقول علي ابن أبي طالب:

          " ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي أحدا بأبويه الا سعدا, فاني سمعته يوم أحد يقول: ارم سعد.. فداك أبي وأمي"..

          كان سعد يعدّ من أشجع فرسان العرب والمسلمين, وكان له سلاحان رمحه ودعاؤه..



          اذا رمى في الحرب عدوّا أصابه.. واذا دعا الله دعاء أجابه..!!

          وكان, وأصحابه معه, يردّون ذلك الى دعاء الرسول له.. فذات يوم وقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم منه ما سرّه وقرّ عينه, دعا له هذه الدعوة المأثورة..

          " اللهم سدد رميته.. وأجب دعوته".



          وهكذا عرف بين اخوانه وأصحابه بأن دعوته كالسيف القاطع, وعرف هو ذلك نفسه وأمره, فلم يكن يدعو على أحد الا مفوّضا الى الله أمره.



          من ذلك ما يرويه عامر بن سعد فيقول:

          " رأى سعد رجلا يسب عليا, وطلحة والزبير فنهاه, فلم ينته, فقال له: اذن أدعو عليك, فقال ارجل: أراك تتهددني كأنك نبي..!!

          فانصرف سعد وتوضأ وصلى ركعتين, ثم رفع يديه وقال: اللهم ان كنت تعلم أن هذا الرجل قد سبّ أقواما سبقت لهم منك الحسنى, وأنه قد أسخطك سبّه ايّاهم, فاجعله آية وعبرة..

          فلم يمض غير وقت قصير, حتى خرجت من احدى الدور ناقة نادّة لا يردّها شيء حتى دخلت في زحام الناس, كأنها تبحث عن شيء, ثم اقتحمت الرجل فأخذته بين قوائمها.. وما زالت تتخبطه حتى مات"..

          ان هذه الظاهرة, تنبىء أوّل ما تنبىء عن شفافية روحه, وصدق يقينه, وعمق اخلاصه.



          وكذلكم كان سعد, روحه حر.. ويقينه صلب.. واخلاصه عميق.. وكان دائب الاستعانة على دعم تقواه باللقمة الحلال, فهو يرفض في اصرار عظيم كل درهم فيه اثارة من شبهة..

          ولقد عاش سعد حتى صار من أغنياء المسلمين وأثريائهم, ويوم مات خلف وراءه ثروة غير قليلة.. ومع هذا فاذا كانت وفرة المال وحلاله قلما يجتمعان, فقد اجتمعا بين يدي سعد.. اذ آتاه الله الكثير, الحلال, الطيب..

          وقدرته على جمع المال من الحلال الخالص, يضاهيها, قدرته في انفاقه في سبيل الله..



          في حجة الوداع, كان هناك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأصابه المرض, وذهب الرسول يعوده, فساله سعد قائلا:

          "يا رسول الله, اني ذو مال ولا يرثني الا ابنة, أفأتصدّق بثلثي مالي..؟

          قال النبي: لا.

          قلت: فبنصفه؟

          قال النبي: لا.

          قلت: فبثلثه..؟

          قال النبي: نعم, والثلث كثير.. انك ان تذر ورثتك أغنياء, خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس, وانك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله الا أجرت بها, حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك"..

          ولم يظل سعد أبا لبنت واحدة.. فقد رزق بعد هذا أبناء آخرين..



          **



          وكان سعد كثير البكاء من خشية الله.

          وكان اذا استمع للرسول يعظهم, ويخطبهم, فاضت عيناه من الدمع حتى تكاد دموعه تملؤ حجره..

          وكان رجلا أوتي نعمة التوفيق والقبول..



          ذات يوم والنبي جالس مع أصحابه, رنا بصره الى الأفق في اصغاء من يتلقى همسا وسرا.. ثم نظر في وجوه أصحابه وقال لهم:

          " يطلع علينا الآن رجل من أهل الجنة"..

          وأخذ الأصحاب يتلفتون صوب كل اتجاه يستشرفون هذا السعيد الموفق المحظوظ..

          وبعد حين قريب, طلع عليهم سعد بن أبي وقاص.

          ولقد لاذ به فيما بعد عبد الله بن عمرو بن العاص سائلا اياه في الحاح أن يدله على ما يتقرّب الى الله من عمل وعبادة, جعله أهل لهذه المثوبة, وهذه البشرى.. فقال له سعد:

          " لا شيء أكثر مما نعمل جميعا ونعبد..

          غير أني لا أحمل لأحد من المسلمين ضغنا ولا سوءا".



          هذا هو الأسد في براثنه, كما وصفه عبد الرحمن بن عوف..

          وهذا هو الرجل الذي اختاره عمر ليوم القادسية العظيم..

          كانت كل مزاياه تتألق أما بصيرة أمير المؤمنين وهو يختاره لأصعب مهمة تواجه الاسلام والمسلمين..

          انه مستجاب الدعوة.. اذا سأل الله النصر أعطاه اياه..

          زانه عفّ الطعمة.. عف اللسان.. عف الضمير..

          وانه واحد من أهل الجنة.. كما تنبأ له الرسول..

          وانه الفارس يوم بدر. والفارس يوم أحد.. والفارس في كل مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم..

          وأخرى, لا ينساها عمر ولا يغفل عن أهميتها وقيمتها وقدرها بين ألخصائص التي يجب أن تتوفر لكل من يتصدى لعظائم الأمور, تلك هي صلابة الايمان..



          ان عمر لا ينسى نبأ سعد مع أمه يوم أسلم واتبع الرسول..

          يومئذ أخفقت جميع محاولات رده وصده عن سبيل الله.. فلجأت أمه الى وسيلة لم يكن أحد يشك في أنها ستهزم روح سعد وترد عزمه الى وثنية أهله وذويه..



          لقد أعلنت أمه صومها عن الطعام والشراب, حتى يعود سعد الى دين آبائه وقومه, ومضت في تصميم مستميت تواصل اضرابها عن الطعام والشراب حتى أوشكت على الهلاك..

          كل ذلك وسعد لا يبالي, ولا يبيع ايمانه ودينه بشيء, حتى ولو يكون هذا الشيء حياة أمه..

          وحين كانت تشرف على الموت, أخذه بعض أهله اليها ليلقي عليها نظرة وداع مؤملين أن يرق قلبه حين يراها في سكرة الموت..



          وذهب سعد ورأى مشهد يذيب الصخر..

          بيد أن ايمانه بالله ورسوله كان قد تفوّق على كل صخر, وعلى كل لاذ, فاقترب بوجهه من وجه أمه, وصاح بها لتسمعه:

          " تعلمين والله يا أمّه.. لو كانت لك مائة نفس, فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء..

          فكلي ان شئت أو لا تأكلي"..!!

          وعدلت أمه عن عزمها.. ونزل الوحي يحيي موقف سعد, ويؤيده فيقول:

          ( وان جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما)..

          أليس هو الأسد في براثنه حقا..؟؟



          اذن فليغرس أمير المؤمنين لواء القادسية في يمينه. وليرم به الفرس المجتمعين في أكثر من مائةألف من المقاتلين المدربين. المدججين بأخطر ما كانت تعرفه الأرض يومئذ من عتاد وسلاح.. تقودهم أذكى عقول الحرب يومئذ, وأدهى دهاتها..

          أجل الى هؤلاء في فيالقهم الرهيبة..خرج سعد في ثلاثين ألف مقاتل لا غير.. في أيديهم رماح.. ولكن في قلوبهم ارادة الدين الجديد بكل ما تمثله من ايمان وعنفوان, وشوق نادر وباهر الى الموت و الى الشهادة..!!

          والتقى الجمعان.

          ولكن لا.. لم يلتق الجمعان بعد..

          وأن سعدا هناك ينتظر نصائح أمير المؤمنين عمر وتوجيهاته.. وها هو ذا كتاب عمر اليه يأمره فيه بالمبادرة الى القادسية, فانها باب فارس ويلقي على قلبه كلمات نور وهدى:

          " يا سعد بن وهيب..

          لا يغرّنّك من الله, أن قيل: خال رسول الله وصاحبه, فان الله ليس بينه وبين أحد نسب الا بطاعته.. والناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء.. الله ربهم, وهم عباده.. يتفاضلون بالعافية, ويدركون ما عند الله بالطاعة. فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعث الى أن فارقنا عليه, فالزمه, فانه الأمر."

          ثم يقول له:

          " اكتب اليّ بجميع أحوالكم.. وكيف تنزلون..؟

          وأين يكون عدوّكم منكم..

          واجعلني بكتبك اليّ كأني أنظر اليكم"..!!



          ويكتب سعد الى أمير المؤمنين فيصف له كل شيء حتى انه ليكاد يحدد له موقف كل جندي ومكانه.

          وينزل سعد القادسية, ويتجمّع الفرس جيشا وشعبا, كما لم يتجمعوا من قبل, ويتولى قيادة الفرس أشهر وأخطر قوّادهم "رستم"..



          ويكتب سعد الى عمر, فيكتب اليه أمير المؤمنين:

          " لا يكربنّك ما تسمع منهم, ولا ما يأتونك به, واستعن بالله, وتوكل عليه, وابعث اليه رجالا من أهل ألنظر والرأي والجلد, يدعونه الى الله.. واكتب اليّ في كل يوم.."

          ويعود سعد فيكتب لأمير المؤمنين قائلا:

          " ان رستم قد عسكر ب ساباط وجرّ الخيول والفيلة وزحف علينا".

          ويجيبه عمر مطمئنا مشيرا..

          ان سعد الفارس الذكي المقدام, خال رسول الله, والسابق الى الاسلام, بطل المعارك والغزوات, والذي لا ينبو له سيف, ولا يزيغ منه رمح.. يقف على رأس جيشه في احدى معارك التاريخ الكبرى, ويقف وكأنه جندي عادي.. لا غرور القوة, ولا صلف الزعامة, يحملانه على الركون المفرط لثقته بنفسه.. بل هو يلجأ الى أمير المؤمنين في المدينة وبينهما أبعاد وأبعاد, فيرسل له كل يوم كتابا, ويتبادل معه والمعركة الكبرى على وشك النشوب, المشورة والرأي...



          ذلك أن سعدا يعلم أن عمر في المدينة لا يفتي وحده, ولا يقرر وحده.. بل يستشير الذين حوله من المسلمين ومن خيار أصحاب رسول الله.. وسعد لا يريد برغم كل ظروف الحرب, أن يحرم نفسه, ولا أن يحرم جيشه, من بركة الشورى وجدواها, لا سيّما حين يكون بين أقطابها عمر الملهم العظيم..



          **



          وينفذ سعد وصية عمر, فيرسل الى رستم قائد الفرس نفرا من أصحابه يدعونه الى الله والى الاسلام..

          ويطول الحوار بينهم وبين قائد الفرس, وأخيرا ينهون الحديث معه اذ يقول قائلهم:

          " ان الله اختارنا ليخرج بنا من يشاء من خلقه من الوثنية الى التوحيد... ومن ضيق الدنيا الى سعتها, ومن جور الحكام الى عدل الاسلام..

          فمن قبل ذلك منا, قبلنا منه, ورجعنا عنه, ومن قاتلنا قاتلناه حتى نفضي الى وعد الله.."

          ويسأل رستم: وما وعد الله الذي وعدكم اياه..؟؟

          فيجيبه الصحابي:

          " الجنة لشهدائنا, والظفر لأحيائنا".

          ويعود الوفد الى قائد المسلمين سعد, ليخبروه أنها الحرب..

          وتمتلىء عينا سعد بالدموع..



          لقد كان يود لو تأخرت المعركة قليلا, أو تقدمت قليلا.. فيومئذ كان مرضه قد اشتد عليه وثقلت وطأته.. وملأت الدمامل جسده حتى ما كان يستطيع أن يجلس, فضلا أن يعلو صهوة جواده ويخوض عليه معركة بالغة الضراوة والقسوة..!!

          فلو أن المعركة جاءت قبل أن يمرض ويسقم, أو لو أنها استأخرت حتى يبل ويشفى, اذن لأبلى فيها بلاءه العظيم.. أما الآن.. ولكن, لا, فرسول الله صلى الله عليه وسلم علمهم ألا يقول أحدهم: لو. لأن لو هذه تعني العجز, والمؤمن القوي لا يعدم الحيلة, ولا يعجز أبدا..



          عنئذ هب الأسد في براثنه ووقف في جيشه خطيبا, مستهلا خطابه بالآية الكريمة:

          (بسم الله الرحمن الرحيم..

          ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)..

          وبعد فراغه من خطبته, صلى بالجيش صلاة الظهر, ثم استقبل جنوده مكبّرا أربعا: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر..

          ودوّى الركن وأوّب مع المكبرين, ومد ذراعه كالسهم النافذ مشيرا الى العدو, وصاح في جنوده: هيا على بركة الله..



          وصعد وهو متحاملا على نفسه وآلامه الى شرفة الدار التي كان ينزل بها ويتخذها مركزا لقيادته..وفي الشرفة جلس متكئا على صدره فوق وسادة. باب داره مفتوح.. وأقل هجوم من الفرس على الدار يسقطه في أيديهم حيا أو ميتا.. ولكنه لا يرهب ولا يخاف..

          دمامله تنبح وتنزف, ولكنه عنها في شغل, فهو من الشرفة يكبر ويصيح.. ويصدر أوامره لهؤلاء: أن تقدّموا صوب الميمنة.. ولألئك: أن سدوا ثغرات الميسرة.. أمامك يا مغيرة.. وراءهم يا جرير.. اضرب يا نعمان.. اهجم يا أشعث.. وأنت يا قعقاع.. تقدموا يا أصحاب محمد..!!

          وكان صوته المفعم بقوة العزم والأمل, يجعل من كل جندي فردا, جيشا بأسره..

          وتهاوى جنود الفرس كالذباب المترنّح. وتهاوت معهم الوثنية وعبادة النار..!!

          وطارت فلولهم المهزومة بعد أن رأوا مصرع قائدهم وخيرة جنودهم, وطاردهم الجيش المسلم حتى نهاوند.. ثم المدائن فدخلوها ليحملوا ايوان كسرى وتاجه, غنيمة وفيئا..!!



          **



          وفي موقعة المدائن أبلى سعد بلاء عظيما..

          وكانت موقعة المدائن, بعد موقعة القادسية بقرابة عامين, جرت خلالهما مناوشات مستمرة بين الفرس والمسلمين, حتى تجمعن كل فلول الجيش الفارسي ويقاياه في المدائن نفسها, متأهبة لموقف أخير وفاصل..

          وأدرك سعد أن الوقت سيكون بجانب أعدائه. فقرر أن يسلبهم هذه المزية.. ولكن أنّى له ذلك وبينه وبين المدائن نهر دجلة في موسم فيضانه وجيشانه..

          هنا موقف يثبت فيه سعد حقا كما وصفه عبد الرحمن بن عوف الأسد في براثنه..!!



          ان ايمان سعد وتصميمه ليتألقان في وجه الخطر, ويتسوّران المستحيل في استبسال عظيم..!!

          وهكذا أصدر سعد أمره الى جيشه بعبور نهر دجلة.. وأمر بالبحث عن مخاضة في النهر تمكّن من عبور هذا النهر.. وأخيرا عثروا على مكان لا يخلو عبوره من المخاطر البالغة..



          وقبل أن يبدأ الجيش عملية المرور فطن القائد سعد الى وجوب تأمين مكان الوصول على الضفة الأخرى التي يرابط العدو حولها.. وعندئذ جهز كتيبتين..

          الأولى: واسمها كتيبة الأهوال وأمّر سعد عليها عاصم ابن عمرو والثانية: اسمها الكتيبة الخرساء وأمّر عليها القعقاع ابن عمرو..



          وكان على جنود هاتين الكتيبتين أن يخوضوا الأهوال لكي يفسحوا على الضفة الأخرى مكانا آمنا للجيش العابر على أثرهم.. ولقد أدوا العمل بمهارة مذهلة..

          ونجحت خطة سعد يومئذ نجاحا يذهل له المؤرخون..

          نجاحا أذهل سعد بن أبي وقاص نفسه..

          وأذهل صاحبه ورفيقه في المعركة سلمان الفارسي الذي أخذ يضرب كفا بكف دهشة وغبطة, ويقول:

          " ان الاسلام جديد..

          ذلّلت والله لهم البحار, كما ذلّل لهم البرّ..

          والذي نفس سلمان بيده ليخرجنّ منه أفواجا, كما دخلوه أفواحا"..!!

          ولقد كان .. وكما اقتحموا نهر دجلة أفواجا, خرجوا منه أفواجا لم يخسروا جنديا واحدا, بل لم تضع منهم شكيمة فرس..



          ولقد سقط من أحد المقاتلين قدحه, فعز عليه أن يكون الوحيد بين رفاقه الذي يضيع منه شيء, فنادى في أصحابه ليعاونوه على انتشاله, ودفعته موجة عالية الى حيث استطاع بعض العابرين التقاطه..!!



          وتصف لنا احدى الروايات التاريخية, روعة المشهد وهم يعبرون دجلة, فتقول:

          [أمر سعد المسلمين أن يقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.. ثم اقتحم بفرسه دجلة, واقتحم الناس وراءه, لم يتخلف عنه أحد, فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملؤا ما بين الجانبين, ولم يعد وجه الماء يرى من أفواج الفرسان والمشاة, وجعل الناس يتحدثون وهم يسيرون على وجه الماء كأنهم يتحدثون على وجه الأرض؛ وذلك بسبب ما شعروا به من الطمأنينة والأمن, والوثوق بأمر الله ونصره ووعيده وتأييده]..!!



          ويوم ولى عمر سعدا امارة العراق, راح يبني للناس ويعمّر.. كوّف الكوفة, وأرسى قواعد الاسلام في البلاد العريضة الواسعة..

          وذات يوم شكاه أهل الكوفة لأمير المؤمنين.. لقد غلبهم طبعهم المتمرّد, فزعموا زعمهم الضاحك, قالوا:" ان سعدا لا يحسن يصلي"..!!

          ويضحك سعد من ملء فاه, ويقول:

          "والله اني لأصلي بهم صلاة رسول الله.. أطيل في الركعتين الأوليين, وأقصر في الأخريين"..

          ويستدعيه عمر الى المدينة, فلا يغضب, بل يلبي نداءه من فوره..

          وبعد حين يعتزم عمر ارجاعه الى الكوفة, فيجيب سعد ضاحكا:

          " اأتمرني أن أعود الى قوم يزعمون أني لا أحسن الصلاة"..؟؟

          ويؤثر البقاء في المدينة..



          وحين اعتدي على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأرضاه, اختار من بين أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام, ستة رجال, ليكون اليهم أمر الخليفة الجديد قائلا انه اختار ستة مات رسول الله وهو عنهم راض.. وكان من بينهم سعد بن أبي وقاص.

          بل يبدو من كلمات عمر الأخيرة, أنه لو كان مختارا لخلافة واحدا من الصحابة لاختار سعدا..

          فقد قال لأصحابه وهو يودعهم ويوصيهم:

          " ان وليها سعد فذاك..

          وان وليها غيره فليستعن بسعد".



          **



          ويمتد العمر بسعد.. وتجيء الفتنة الكبرى, فيعتزلها بل ويأمر أهله وأولاده ألا ينقلوا اليه شيئا من أخبارها..

          وذات يوم تشرئب الأعناق نحوه, ويذهب اليه ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص, ويقول له:

          يا عم, ها هنا مائة ألف سيف يروك أحق الناس بهذا الأمر.

          فيجيبه سعد:

          " أريد من مائة ألف سيف, سيفا واحدا.. اذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا, واذا ضربت به الكافر قطع"..!!

          ويدرك ابن أخيه غرضه, ويتركه في عزلته وسلامه..

          وحين انتهى الأمر لمعاوية, واستقرت بيده مقاليد الحكم سأل سعدا:

          مالك لم تقاتل معنا..؟؟

          فأجابه:

          " اني مررت بريح مظلمة, فقلت: أخ .. أخ..

          واتخذت من راحلتي حتى انجلت عني.."

          فقال معاوية: ليس في كتاب الله أخ.. أخ.. ولكن قال الله تعالى:

          (وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا, فأصلحوا بينهما, فان بغت احداهما على الأخرى, فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر الله).

          وأنت لم تكن مع الباغية على العادلة, ولا مع العادلة على الباغية.

          أجابه سعد قائلا:

          " ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول الله: أنت مني بمنزلة هرون من موسى الا أنه لا نبي بعدي".



          **



          وذات يوم من أيام الرابع والخمسين للهجرة, وقد جاوز سعد الثمانين, كان هناك في داره بالعقيق يتهيأ لقاء الله.

          ويروي لنا ولده لحظاته الأخيرة فيقول:

          [ كان رأس أبي في حجري, وهو يقضي, فبكيت وقال: ما يبكيك يا بنيّ..؟؟

          ان الله لا يعذبني أبدا وأني من أهل الجنة]..!!

          ان صلابة ايمانه لا يوهنها حتى رهبة الموت وزلزاله.

          ولقد بشره الرسول عليه الصلاة والسلام, وهو مؤمن بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام أوثق ايمان.. واذن ففيم الخوف..؟

          [ ان الله لا يعذبني أبدا, واني من أهل الجنة].



          بيد أنه يريد أن يلقى الله وهو يحمل أروع وأجمل تذكار جمعه بدينه ووصله برسوله.. ومن ثمّ فقد أشار الى خزانته ففتوحها, ثم أخرجوا منها رداء قديما قي بلي وأخلق, ثم أمر أهله أن يكفنوه فيه قائلا:

          [ لقد لقيت المشركين فيه يوم بدر, ولقد ادخرته لهذا اليوم]..!!



          اجل, ان ذلك الثوب لم يعد مجرّد ثوب.. انه العلم الذي يخفق فوق حياة مديدة شامخة عاشها صاحبها مؤمنا, صادقا شجاعا!!

          وفوق أعناق الرجال حمل الى المدينة جثمان آخر المهاجرين وفاة, ليأخذ مكانه في سلام الى جوار ثلة طاهرة عظيمة من رفاقه الذين سبقوه الى الله, ووجدت أجسامهم الكادحة مرفأ لها في تراب البقيع وثراه.



          **



          وداعا يا سعد..!!

          وداعا يا بطل القادسية, وفاتح المدائن, ومطفىء النار المعبودة في فارس الى الأبد..!!
          إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
          نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
          جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

          تعليق


          • #6
            صهيب بن سنان

            ربح البيع يا أبا يحيى!!



            ولد في أحضان النعيم..

            فقد اكن أبوه حاكم الأبلّة ووليا عليها لكسرى.. وكان من العرب الذين نزحوا الى العراق قبل الاسلام بعهد طويل, وفي قصره القائم على شاطئ الفرات, مما يلي الجزيرة والموصل, عاش الطفل ناعما سعيدا..

            وذات يوم تعرضت البلاد لهجوم الروم.. وأسر المغيرون أعدادا كثيرة وسبوا ذلك الغلام " صهيب بن سنان"..

            ويقتنصه تجار الرقيق, وينتهي طوافه الى مكة, حيث بيع لعبد الله بن جدعان, بعد أن قضى طفولته وشبابه في بلاد الروم, حتى أخذ لسانهم ولهجتهم.

            ويعجب سيده بذكائه ونشاطه واخلاصه, فيعتقه ويحرره, ويهيء له فرصة الاتجار معه.

            وذات يوم.. ولندع صديقه عمار بن ياسر يحدثنا عن ذلك اليوم:

            " لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم, ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها..

            فقلت له: ماذا تريد..؟

            فأجابني وما تريد أنت..؟

            قلت له: أريد أن أدخل على محمد, فأسمع ما يقول.

            قال: وأنا اريد ذلك..

            فدخلنا على الرسول صلى الله عليه وسلم, فعرض علينا الاسلام فأسلمنا.

            ثم مكثنا على ذلك حتى أمسينا..

            ثم خرجنا ونحن مستخفيان".!!



            عرف صهيب طريقه اذن الى دار الأرقم..

            عرف طريقه الى الهدى والنور, وأيضا الى التضحية الشاقة والفداء العظيم..

            فعبور الباب الخشبي الذي كان يفصل داخل دار الأرقم عن خارجها لم يكن يعني مجرّد تخطي عتبة.. بل كان يعني تخطي حدود عالم بأسره..!

            عالم قديم بكل ما يمثله من دين وخلق, ونظام وحياة..

            وتخطي عتبة دار الأرقم, التي لم يكن عرضها ليزيد عن قدم واحدة كان يعني في حقيقة الأمر وواقعه عبور خضمّ من الأهوال, واسع, وعريض..

            واقتحام تلك العتبة, كان ايذانا بعهد زاخر بالمسؤليات الجسام..!

            وبالنسبة للفقراء, والغرباء, والرقيق, كان اقتحام عقبة دار الأرقم يعني تضحية تفوق كل مألوف من طاقات البشر.



            وان صاحبنا صهيبا لرجل غريب.. وصديقه الذي لقيه على باب الدار, عمّار بن ياسر رجل فقير.. فما بالهما يستقبلان الهول ويشمّران سواعدهما لملاقاته..؟؟

            انه نداء الايمان الذي لا يقاوم..

            وانها شمائل محمد عليه الصلاة والسلام, الذي يملؤ عبيرها أفئدة الأبرار هدى وحبا..

            وانها روعة الجديد المشرق. تبهر عقولا سئمت عفونة القديم, وضلاله وافلاسه..

            وانها قبل هذا كله رحمة الله يصيب بها من يشاء.. وهداه يهدي اليه من ينيب...

            أخذ صهيب مكانه في قافلة المؤمنين..

            وأخذ مكانا فسيحا وعاليا بين صفوف المضطهدين والمعذبين..!!

            ومكانا عاليا كذلك بين صفوف الباذلين والمفتدين..

            وانه ليتحدث صادقا عن ولائه العظيم لمسؤولياته كمسلم بايع الرسول, وسار تحت راية الاسلام فيقول:

            " لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا قط الا كنت حاضره..

            ولم يبايع بيعة قط الا كنت حاضرها..

            ولا يسر سرية قط. الا كنت حاضرها..

            ولا غزا غزاة قط, أوّل الزمان وآخره, الا كنت فيها عن يمينه أو شماله..

            وما خاف المسلمون أمامهم قط, الا كنت أمامهم..

            ولا خافوا وراءهم الا كنت وراءهم..

            وما جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين االعدوّ أبدا حتى لقي ربه"..!!

            هذه صورة باهرة, لايمان فذ وولاء عظيم..

            ولقد كان صهيب رضي الله عنه وعن اخوانه أجمعين, أهلا لهذا الايمان المتفوق من أول يوم استقبل فيه نور الله, ووضع يمينه في يمين الرسول..

            يومئذ أخذت علاقاته بالناس, وبالدنيا, بل وبنفسه, طابعا جديدا. يومئذ. امتشق نفسا صلبة, زاهدة متفانية. وراح يستقبل بها الأحداث فيطوّعها. والأهوال فيروّعها.

            ولقد مضى يواجه تبعاته في اقدام وجسور. فلا يتخلف عن مشهد ولا عن خطر.. منصرفا ولعه وشغفه عن الغنائم الى المغارم.. وعن شهوة الحياة, الى عشق الخطر وحب الموت..



            ولقد افتتح أيام نضاله النبيل وولائه الجليل بيوم هجرته, ففي ذلك اليوم تخلى عن كل ثروته وجميع ذهبه الذي أفاءته عليه تجارته الرابحة خلال سنوات كثيرة قضاها في مكة.. تخلى عن كل هذه الثروة وهي كل ما يملك في لحظة لم يشب خلالها تردد ولا نكوص.

            فعندما همّ الرسول بالهجرة, علم صهيب بها, وكان المفروض أن يكون ثالث ثلاثة, هم الرسول.. وأبو بكر.. وصهيب..

            بيد أن القرشيين كانوا قد بيتوا أمرهم لمنع هجرة الرسول..

            ووقع صهيب في بعض فخاخهم, فعوّق عن الهجرة بعض الوقت بينما كان الرسول وصاحبه قد اتخذا سبيلهما على بركة الله..

            وحاور صهيب وداور, حتى استطاع أن يفلت من شانئيه, وامتطى ظهر ناقته, وانطلق بها الصحراء وثبا..

            بيد أن قريشا أرسلت في أثره قناصتها فأدركوه.. ولم يكد صهيب يراهم ويواجههم من قريب حتى صاح فيهم قائلا:

            " يا معشر قريش..

            لقد علمتم أني من أرماكم رجلا.. وأيم والله لا تصلون اليّ حتى ارمي كل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي حتى لا يبقى في يدي منه شيء, فأقدموا ان شئتم..

            وان شئتم دللتكم على مالي, وتتركوني وشاني"..



            ولقد استاموا لأنفسهم, وقبلوا أن يأخذوا ماله قائلين له:

            أتيتنا صعلوكا فقيرا, فكثر مالك عندنا, وبلغت بيننا ما بلغت, والآن تنطلق بنفسك وبمالك..؟؟

            فدلهم على المكان الذي خبأ فيه ثروته, وتركوه وشأنه, وقفلوا الى مكة راجعين..



            والعجب أنهم صدقوا قوله في غير شك, وفي غير حذر, فلم يسألوه بيّنة.. بل ولم يستحلفوه على صدقه..!! وهذا موقف يضفي على صهيب كثيرا من العظمة يستحقها كونه صادق وأمين..!!

            واستأنف صهيب هجرته وحيدا سعيدا, حتى أردك الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء..



            كان الرسول جالسا وحوله بعض أصحابه حين أهل عليهم صهيب ولم يكد يراه الرسول حتى ناداه متهللاا:

            " ربح البيع أبا يحيى..!!

            ربح البيع أبا يحيى..!!

            وآنئذ نزلت الآية الكريمة:

            ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله, والله رؤوف بالعباد)..



            أجل لقد اشترى صهيب نفسه المؤمنة ابتغاء مرضات الله بكل ثروته التي أنفق شبابه في جمعها, ولم يحس قط أنه المغبون..

            فما المال, وما الذهب وما الدنيا كلها, اذا بقي له ايمانه, واذا بقيت لضميره سيادته.. ولمصيره ارادته..؟؟

            كان الرسول يحبه كثيرا.. وكان صهيب الى جانب ورعه وتقواه, خفيف الروح, حاضر النكتة..

            رآه الرسول يأكل رطبا, وكان باحدى عينيه رمد..

            فقال له الرسول ضاحكا:" أتأكل الرطب وفي عينيك رمد"..؟

            فأجاب قائلا:" وأي بأس..؟ اني آكله بعيني الآخرى"..!!

            وكان جوّادا معطاء.. ينفق كل عطائه من بيت المال في سبيل الله, يعين محتاجا.. يغيث مكروبا.." ويطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا".

            حتى لقد أثار سخاؤه المفرط انتباه عمر فقال له: أراك تطعم كثيرا حتى انك لتسرف..؟

            فأجابه صهيب لقد سمعت رسول الله يقول:

            " خياركم من أطعم الطعام".



            **



            ولئن كانت حياة صهيب مترعة بالمزايا والعظائم, فان اختيار عمر بن الخطاب اياه ليؤم المسلمين في الصلاة مزية تملأ حياته ألفة وعظمة..

            فعندما اعتدي على أمير المؤمنين وهو يصلي بالمسلمين صلاة الفجر..

            وعندما احس نهاية الأجل, فراح يلقي على اصحابه وصيته وكلماته الأخيرة قال:

            " وليصلّ بالناس صهيب"..

            لقد اختار عمر يومئذ ستة من الصحابة, ووكل اليهم أمر الخليفة الجديد..



            وخليفة المسلمين هو الذي يؤمهم في الصلاة, ففي الأيام الشاغرة بين وفاة أمير المؤمنين, واختيار الخليفة الجديد, من يؤم المسلمين في الصلاة..؟

            ان عمر وخاصة في تلك الللحظات التي تأخذ فيها روحه الطاهرة طريقها الى الله ليستأني ألف مرة قبل أن يختار.. فاذا اختار, فلا أحد هناك أوفر حظا ممن يقع عليه الاختيار..

            ولقد اختار عمر صهيبا..

            اختاره ليكون امام المسلمين في الصلاة حتى ينهض الخليفة الجديد.. بأعباء مهمته..

            اختاره وهو يعلم أن في لسانه عجمة, فكان هذا الاختيار من تمام نعمة الله على عبده الصالح صهيب بن سنان..

            إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
            نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
            جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

            تعليق


            • #7
              معاذ بن جبل

              أعلمهم بالحلال والحرام



              عندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبابع الأنصار بيعة العقبة الثانية. كان يجلس بين السبعين الذين يتكوّن منهم وفدهم, شاب مشرق الوجه, رائع النظرة, برّاق الثنايا.. يبهر الأبصار بهوئه وسمته. فاذا تحدّث ازدادت الأبصار انبهارا..!!

              ذلك كان معاذ بن جبل رضي الله عنه..

              هو اذن رجل من الأنصار, بايع يوم العقبة الثانية, فصار من السابقين الأولين.

              ورجل له مثل اسبقيته, ومثل ايمانه ويقينه, لا يتخلف عن رسول الله في مشهد ولا في غزاة. وهكذا صنع معاذ..

              على أن آلق مزاياه, وأعظم خصائصه, كان فقهه..

              بلغ من الفقه والعلم المدى الذي جعله أهلا لقول الرسول عنه:

              " أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل"..

              وكان شبيه عمر بن الخطاب في استنارة عقله, وشجاعة ذكائه. سأله الرسول حين وجهه الى اليمن:

              " بما تقضي يا معاذ؟"

              فأجابه قائلا: " بكتاب الله"..

              قال الرسول: " فان لم تجد في كتاب الله"..؟

              "أقضي بسنة رسوله"..

              قال الرسول: " فان لم تجد في سنة رسوله"..؟

              قال معاذ:" أجتهد رأيي, ولا آلوا"..

              فتهلل وجه الرسول وقال:

              " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله".



              فولاء معاذ لكتاب الله, ولسنة رسوله لا يحجب عقله عن متابعة رؤاه, ولا يحجب عن عقله تلك الحقائق الهائلة المستترّة, التي تنتظر من يكتشفها ويواجهها.

              ولعل هذه القدرة على الاجتهاد, والشجاعة في استعمال الذكاء والعقل, هما اللتان مكنتا معاذا من ثرائه الفقهي الذي فاق به أقرانه واخوانه, صار كما وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام " أعلم الناس بالحلال والحرام".

              وان الروايات التاريخية لتصوره العقل المضيء الحازم الذي يحسن الفصل في الأمور..

              فهذا عائذ الله بن عبدالله يحدثنا انه دخل المسجد يوما مع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في أول خلافة عمر..قال:

              " فجلست مجلسا فيه بضع وثلاثون, كلهم يذكرون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفي الحلقة شاب شديد الأدمة, حلو المنطق, وضيء, وهو أشبّ القوم سنا, فاذا اشتبه عليهم من الحديث شيء ردّوه اليه فأفتاهم, ولا يحدثهم الا حين يسألونه, ولما قضي مجلسهم دنوت منه وسالته: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا معاذ بن جبل".



              وهذا أبو مسلم الخولاني يقول:

              " دخلت مسجد حمص فاذا جماعة من الكهول يتوسطهم شاب برّاق الثنايا, صامت لا يتكلم. فاذا امترى القوم في شيء توجهوا اليه يسألونه. فقلت لجليس لي: من هذا..؟ قال: معاذ بن جبل.. فوقع في نفسي حبه".



              وهذا شهر بن حوشب يقول:

              " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل, نظروا اليه هيبة له"..



              ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يستثيره كثيرا..

              وكان يقول في بعض المواطن التي يستعين بها برأي معاذ وفقهه:

              " لولا معاذ بن جبل لهلك عكر"..



              ويبدو أن معاذ كان يمتلك عقلا أحسن تدريبه, ومنطقا آسرا مقنعا, ينساب في هدوء واحاطة..



              فحيثما نلتقي به من خلال الروايات التاريخية عنه, نجده كما أسلفنا واسط العقد..

              فهو دائما جالس والناس حوله.. وهو صموت, لا يتحدث الا على شوق الجالسين الى حديثه..

              واذا اختلف الجالسون في أمر, أعادوه الى معاذ ليفصل فيه..

              فاذا تكلم, كان كما وصفه أحد معاصريه:

              " كأنما يخرج من فمه نور ولؤلؤ"..



              ولقد بلغ كل هذه المنزلة في علمه, وفي اجلال المسلمين له, أيام الرسول وبعد مماته, وهو شاب.. فلقد مات معاذ في خلافة عمر ولم يجاوز من العمر ثلاثا وثلاثين سنة..!!

              وكان معاذ سمح اليد, والنفس, والخلق..

              فلا يسأل عن شيء الا أعطاه جزلان مغتبطا..ولقد ذهب جوده وسخاؤه بكل ماله.

              ومات الرسول صلى الله عليه وسلم, ومعاذ باليمن منذ وجهه النبي اليها يعلم المسلمين ويفقههم في الدين..



              وفي خلافة أبي بكر رجع معاذ من اليمن, وكان عمر قد علم أن معاذا أثرى.. فاقترح على الخليفة أبي بكر أن يشاطره ثروته وماله..!

              ولم ينتظر عمر, بل نهض مسرعا الى دار معاذ وألقى عليه مقالته..



              كان معاذ ظاهر الكف, طاهر الذمة, ولئن كان قد أثري, فانه لم يكتسب اثما, ولم يقترف شبهة, ومن ثم فقد رفض عرض عمر, وناقشه رأيه..

              وتركه عمر وانصرف..

              وفي الغداة, كان معاذ يطوي الأرض حثيثا شطر دار عمر..

              ولا يكاد يلقاه.. حتى يعنقه ودموعه تسبق كلماته وتقول:

              " لقد رأيت الليلة في منامي أني أخوض حومة ماء, أخشى على نفسي الغرق.. حتى جئت وخلصتني يا عمر"..

              وذهبا معا الى أبي بكر.. وطلب اليه معاذ أن يشاطره ماله, فقال أبو بكر:" لا آخذ منك شيئا"..

              فنظر عمر الى معاذ وقال:" الآن حلّ وطاب"..

              ما كان أبو بكر الورع ليترك لمعاذ درهما واحدا, لو علم أنه أخذه بغير حق..

              وما كان عمر متجنيا على معاذ بتهمة أو ظن..

              وانما هو عصر المثل كان يزخر بقوم يتسابقون الى ذرى الكمال الميسور, فمنهم الطائر المحلق, ومنهم المهرول, ومنهم المقتصد.. ولكنهم جميعا في قافلة الخير سائرون.



              **



              ويهاجر معاذ الى الشام, حيث يعيش بين أهلها والوافدين عليها معلما وفقيها, فاذا مات أميرها أبو عبيدة الذي كان الصديق الحميم لمعاذ, استخلفه أمير المؤمنين عمر على الشام, ولا يمضي عليه في الامارة سوى بضعة أشهر حتى يلقى ربه مخبتا منيبا..

              وكان عمر رضي الله عنه يقول:

              " لو استخلفت معاذ بن جبل, فسألني ربي: لماذا استخلفته؟ لقلت: سمعت نبيك يقول: ان العلماء اذا حضروا ربهم عز وجل , كان معاذ بين أيديهم"..

              والاستخلاف الذي يعنيه عمر هنا, هو الاستخلاف على المسلمين جميعا, لا على بلد أو ولاية..

              فلقد سئل عمر قبل موته: لو عهدت الينا..؟ أي اختر خليفتك بنفسك وبايعناك عليه..

              لإاجاب قائلا:

              " لو كان معاذ بن جبل حيا, ووليته ثم قدمت على ربي عز وجل, فسألني: من ولّيت على أمة محمد, لقلت: ولّيت عليهم معاذ بن جبل, بعد أن سمعت النبي يقول: معاذ بن جبل امام العلماء يوم القيامة".



              **



              قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوما:

              " يا معاذ.. والله اني لأحبك فلا تنس أن تقول في عقب كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"..

              أجل اللهم أعنّي.. فقد كان الرسول دائب الالحاح بهذا المعنى العظيم الذي يدرك الناس به أنه لا حول لهم ولا قوة, ولا سند ولا عون الا بالله, ومن الله العلي العظيم..

              ولقد حذق معاذ لدرس وأجاد تطبيقه..

              لقيه الرسول ذات صباح فسأله:

              "كيف أصبحت يامعاذ"..؟؟

              قال:

              " أصبحت مؤمنا حقا يا رسول الله".

              قال النبي:

              :ان لكل حق حقيقة, فما حقيقة ايمانك"..؟؟

              قال معاذ:

              " ما أصبحت قط, الا ظننت أني لا أمسي.. ولا أمسيت مساء الا ظننت أني لا أصبح..

              ولا خطوت خطوة الا ظننت أني لا أتبعها غيرها..

              وكأني أنظر الى كل امة جاثية تدعى الى كتابها..

              وكأني أرى أهل الجنة في الجنة ينعمون..

              وأهل النار في النار يعذبون.."

              فقال له الرسول:

              " عرفت فالزم"..

              أجل لقد أسلم معاذ كل نفسه وكل مصيره لله, فلم يعد يبصر شيئا سواه..



              ولقد أجاد ابن مسعود وصفه حين قال:

              "ان معاذا كان أمّة, قانتا لله حنيفا, ولقد كنا نشبّه معاذا بابراهيم عليه السلام"..



              **



              وكان معاذ دائب الدعوة الى العلم, والى ذكر الله..

              وكان يدعو الناس الى التماس العلم الصحيح النافع ويقول:

              " احذروا زيغ الحكيم.. وارفوا الحق بالحق, فان الحق نورا"..!!

              وكان يرى العبادة قصدا, وعدلا..

              قال له يوما أحد المسلمين: علمني.

              قال معاذ: وهل أنت مطيعي اذا علمتك..؟

              قال الرجل: اني على طاعتك لحريص..

              فقال له معاذ:

              " صم وافطر..

              وصلّ ونم..

              واكتسب ولا تأثم.

              ولا تموتنّ الا مسلما..

              واياك ودعوة المظلوم"..

              وكان يرى العلم معرفة, وعملا فيقول:

              " تعلموا ما شئتم أن تتعلموا, فلن ينفعكم الله بالعلم حتى تعملوا"..



              وكان يرى الايمان بالله وذكره, استحضارا دائما لعظمته, ومراجعة دائمة لسلوك النفس.

              يقول الأسود بن هلال:

              " كنا نمشي مع معاذ, فقال لنا: اجلسوا بنا نؤمن ساعة"..

              ولعل سبب صمته الكثير كان راجعا الى عملية التأمل والتفكر التي لا تهدأ ولا تكف داخل نفسه.. هذا الذي كان كما قال للرسول: لا يخطو خطوة, ويظن أنه سيتبعها بأخرى.. وذلك من فرط استغراقه في ذكره ربه, واستغراقه في محاسبته نفسه..



              **



              وحان أجل معاذ, ودعي للقاء الله...

              وفي سكرات الموت تنطلق عن اللاشعور حقيقة كل حي, وتجري على لسانه ,ان استطاع الحديث, كلمات تلخص أمره وحياته..

              وفي تلك اللحظات قال معاذ كلمات عظيمة تكشف عن مؤمن عظيم.

              فقد كان يحدق في السماء ويقول مناجيا ربه الرحيم:

              " الهم اني كنت أخافك, لكنني اليوم أرجوك, اللهم انك تعلم أني لم أكن أحبّ الدنيا لجري الأنهار, ولا لغرس الأشجار.. ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات, ونيل المزيد من العلم والايمان والطاعة"..

              وبسط يمينه كأنه يصافح الموت, وراح في غيبوبته يقول:

              " مرحبا بالموت..

              حبيب جاء على فاقه"..



              وسافر معاذ الى الله...
              إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
              نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
              جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

              تعليق


              • #8
                المقداد بن عمرو

                أول فرسان الاسلام



                تحدث عنه أصحابه ورفاقه فقالوا:

                " أول من عدا به فرسه في سبيل الله, المقداد بن الأسود..

                والمقداد بن الأسود, هو بطلنا هذا المقداد بن عمرو كان قد حالف في الجاهلية الأسود بن عبد يغوث فتبناه, فصار يدعى المقداد بن الأسود, حتى اذا نزلت الآية الكريمة التي تنسخ التبني, نسب لأبيه عمرو بن سعد..

                والمقداد من المبكّرين بالاسلام, وسابع سبعة جاهروا باسلامهم وأعلنوه, حاملا نصيبه من أذى قريش ونقمتها, في شجاعة الرجال وغبطة الحواريين..!!

                ولسوف يظل موقفه يوم بدر لوحة رائعة كل من رآه تمنى لو أنه كان صاحب هذا الموقف العظيم..

                يقول عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله:

                " لقد شهدت من المقداد مشهدا, لأن أكون صاحبه, أحبّ اليّ مما في الأرض جميعا".



                في ذلك اليوم الذي بدأ عصيبا. حيث أقبلت قريش في بأسها الشديد واصرارها العنيد, وخيلائها وكبريائها..

                في ذلك اليوم.. والمسلمون قلة, لم يمتحنوا من قبل في قتال من أجل الاسلام, فهذه أول غزوة لهم يخوضونها..

                ووقف الرسول يعجم ايمان الذين معه, ويبلوا استعدادهم لملاقاة الجيش الزاحف عليهم في مشاته وفرسانه..

                وراح يشاورهم في الأمر, وأصحاب الرسول يعلمون أنه حين يطلب المشورة والرأي, فانه يفعل ذلك حقا, وأنه يطلب من كل واحد حقيقة اقتناعه وحقيقة رأيه, فان قال قائلهم رأيا يغاير رأي الجماعة كلها, ويخالفها فلا حرج عليه ولا تثريب..



                وخاف المقدادا أن يكون بين المسلمين من له بشأن المعركة تحفظات... وقبل أن يسبقه أحد بالحديث همّ هو بالسبق ليصوغ بكلماته القاطعة شعار المعركة, ويسهم في تشكيل ضميرها.

                ولكنه قبل أن يحرك شفتيه, كان أبو بكر الصديق قد شرع يتكلم فاطمأن المقداد كثيرا.. وقال أبو بكر فأحسن, وتلاه عمر بن الخطاب فقل وأحسن..

                ثم تقدم المقداد وقال:

                " يا رسول الله..

                امض لما أراك الله, فنحن معك..

                والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى

                اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون..

                بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون..!!

                والذي بعثك بالحق, لو سرت بنا الى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. ولنقاتلن عن يمينك وعن يسارك وبين يديك ومن خلفك حتى يفتح الله لك".. انطلقت الكلمات كالرصاص المقذوف.. وتهلل وجه رسول الله وأشرق فمه عن دعوة صالحة دعاها للمقداد.. وسرت في الحشد الصالح المؤمن حماسة الكلمات الفاضلة التي أطلقها المقداد بن عمرو والتي حددت بقوتها واقناعها نوع القول لمن أراد قولا.. وطراز الحديث لمن يريد حديثا..!!



                أجل لقد بلغت كلمات المقداد غايتها من أفئدة المؤمنين, فقام سعد بن معاذ زعيم الأنصار, وقال:

                " يا رسول الله..

                لقد آمنا بك وصدّقناك, وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق.. وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا, فامض يا رسول الله لما أردت, فنحن معك.. والذي بعثك بالحق.. لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك, ما تخلف منا رجل واحد, وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا..

                انا لصبر في الحرب, صدق في اللقاء.. ولعل الله يريك منا ما تقر عينك.. فسر على بركة الله"..

                وامتلأ قلب الرسول بشرا..

                وقال لأصحابه:" سيروا وأبشروا"..

                والتقى الجمعان..

                وكان من فرسان المسلمين يومئذ ثلاثة لا غير: المقداد بن عمرو, ومرثد بن أبي مرثد, والزبير بن العوّام, بينما كان بقية المجاهدين مشاة, أو راكبين ابلا..



                **



                ان كلمات المقداد التي مرّت بنا من قبل, لا تصور شجاعته فحسب, بل تصور لنا حكمته الراجحة, وتفكيره العميق..

                وكذلك كان المقداد..

                كان حكيما أريبا, ولم تكن حكمته تعبّر عن نفسها في مجرّد كلمات, بل هي تعبّر عن نفسها في مبادئ نافذة, وسلوك قويم مطرّد. وكانت تجاربه قوتا لحنكته وريا لفطنته..



                ولاه الرسول على احدى الولايات يوما, فلما رجع سأله النبي:

                " كيف وجدت الامارة"..؟؟

                فأجاب في صدق عظيم:

                " لقد جعلتني أنظر الى نفسي كما لو كنت فوق الناس, وهم جميعا دوني..

                والذي بعثك بالحق, لا اتآمرّن على اثنين بعد اليوم, أبدا"..

                واذا لم تكن هذه الحكمة فماذا تكون..؟

                واذا لم يكن هذا هو الحكيم فمن يكون..؟

                رجل لا يخدع عن نفسه, ولا عن ضعفه..

                يلي الامارة, فيغشى نفسه الزهو والصلف, ويكتشف في نفسه هذا الضعف, فيقسم ليجنّبها مظانه, وليرفض الامارة بعد تلك التجربة ويتتحاماها.. ثم يبر بقسمه فلا يكون أميرا بعد ذلك أبدا..!!

                لقد كان دائب التغني بحديث سمعه من رسول الله.. هوذا:

                " ان السعيد لمن جنّب الفتن"..

                واذا كان قد رأى في الامارة زهوا يفتنه, أو يكاد يفتنه, فان سعادته اذن في تجنبها..

                ومن مظاهر حكمته, طول أناته في الحكم على الرجال..

                وهذه أيضا تعلمها من رسول الله.. فقد علمهم عليه السلام أن قلب ابن آدم أسرع تقلبا من القدر حين تغلي..



                وكان المقداد يرجئ حكمه الأخير على الناس الى لحظة الموت, ليتأكد أن هذا الذي يريد أن يصدر عليه حكمه لن يتغير ولن يطرأ على حياته جديد.. وأي تغيّر, أو أي جديد بعد الموت..؟؟

                وتتألق حكمته في حنكة بالغة خلال هذا الحوار الذي ينقله الينا أحد أصحابه وجلسائه, يقول:



                " جلسنا الى المقداد يوما فمرّ به رجل..

                فقال مخاطبا المقداد: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى اله عليه وسلم..

                والله وددنا لو أن رأينا ما رأيت, وشهدنا ما شهدت فأقبل عليه المقداد وقال:

                ما يحمل أحدكم على أن يتمنى مشهدا غيّبه الله عنه, لا يدري لو شهده كيف كان يصير فيه؟؟ والله, لقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام كبّهم الله عز وجل على مناخرهم في جهنم. أولا تحمدون الله الذي جنّبكم مثلا بلائهم, وأخرجكم مؤمنين بربكم ونبيكم"..



                حكمة وأية حكمة..!!

                انك لا تلتقي بمؤمن يحب الله ورسوله, الا وتجده يتمنى لو أنه عاش أيام الرسول ورآه..!

                ولكن بصيرة المقداد الحاذق الحكيم تكشف البعد المفقود في هذه الأمنية..

                ألم يكن من المحتمل لهذا الذي يتمنى لو أنه عاش تلك الأيام.. أن يكون من أصحاب الجحيم..

                ألم يكون من المحتمل أن يكفر مع الكافرين.

                وأليس من الخير اذن أن يحمد الله الذي رزقه الحياة في عصور استقرّ فيها الاسلام, فأخذه صفوا عفوا..

                هذه نظرة المقداد, تتألق حكمة وفطنة.. وفي كل مواقفه, وتجاربه, وكلماته, كان الأريب الحكيم..



                **



                وكان حب المقداد للاسلام عظيما..

                وكان الى جانب ذلك, واعيا حكيما..

                والحب حين يكون عظيما وحكيما, فانه يجعل من صاحبه انسانا عليّا, لا يجد غبطة هذا الحب في ذاته.. بل في مسؤولياته..

                والمقداد بن عمرو من هذا الطراز..

                فحبه الرسول. ملأ قلبه وشعوره بمسؤولياته عن سلامة الرسول, ولم يكن تسمع في المدينة فزعة, الا ويكون المقداد في مثل لمح البصر واقفا على باب رسول الله ممتطيا صهوة فرسه, ممتشقا مهنّده وحسامه..!!

                وحبه للاسلام, ملأ قلبه بمسؤولياته عن حماية الاسلام.. ليس فقط من كيد أعدائه.. بل ومن خطأ أصدقائه..



                خرج يوما في سريّة, تمكن العدو فيها من حصارهم, فأصدر أمير السرية أمره بألا يرعى أحد دابته.. ولكن أحد المسلمين لم يحط بالأمر خبرا, فخالفه, فتلقى من الأمير عقوبة أكثر مما يستحق, أو لعله لا يستحقها على الاطلاق..

                فمر المقداد بالرجل يبكي ويصيح, فسأله, فأنبأه ما حدث

                فأخذ المقداد بيمينه, ومضيا صوب الأمير, وراح المقداد يناقشه حتى كشف له خطأه وقال له:

                " والآن أقده من نفسك..

                ومكّنه من القصاص"..!!

                وأذعن الأمير.. بيد أن الجندي عفا وصفح, وانتشى المقداد بعظمة الموقف, وبعظمة الدين الذي أفاء عليهم هذه العزة, فراح يقول وكأنه يغني:

                " لأموتنّ, والاسلام عزيز"..!!



                أجل تلك كانت أمنيته, أن يموت والاسلام عزيز.. ولقد ثابر مع المثابرين على تحقيق هذه الأمنية مثابرة باهرة جعلته أهلا لأن يقول له الرسول عليه الصلاة والسلام:

                "ان الله أمرني بحبك..

                وأنبأني أنه يحبك"...
                إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                تعليق


                • #9
                  سعيد بن عامر

                  العظمة تحت الاسمال



                  أيّنا سمع هذا الاسم, وأيّنا سمع به من قبل..؟

                  أغلب الظن أن أكثرنا, ان لم نكن جميعا, لم نسمع به قط.. وكأني بكم اذ تطالعونه الآن تتساءلون: ومن يكون ابن عامر هذا..؟؟

                  أجل سنعلم من هذا السعيد..!!



                  **



                  انه واحد من كبار الصحابة رضي الله عنهم, وان لم يكن لاسمه ذلك الرنين المألوف لأسماء كبار الصحابة.

                  انه واحد من كبار الأتقياء الأخفياء..!!

                  ولعل من نافلة القول وتكراره, أن ننوه بملازمته رسول الله في جميع مشاهده وغزواته.. فذلك كان نهج المسلمين جميعا. وما كان لمؤمن أن يتخلف عن رسول الله في سلم أو جهاد.

                  أسلم سعيد قبيل فتح خيبر, ومنذ عانق الاسلام وبايع الرسول, أعطاهما كل حياته, ووجوده ومصيره.

                  فالطاعة, والزهد, والسمو.. والاخبات, والورع, والترفع.

                  كل الفضائل العظيمة وجدت في هذا الانسان الطيب الطاهر أخا وصديقا كبيرا..

                  وحين نسعى للقاء عظمته ورؤيتها, علينا أن نكون من الفطنة بحيث لا نخدع عن هذه العظمة وندعها تفلت منا وتتنكر..

                  فحين تقع العين على سعيد في الزحام, لن ترى شيئا يدعوها للتلبث والتأمل..

                  ستجد العين واحدا من أفراد الكتيبة الامينة.. أشعث أغبر. . ليس في ملبسه, ولا في شكله الخارجي, ما يميزه عن فقراء المسلمين بشيء.!!

                  فاذا جعلنا من ملبسه ومن شكله الخارجي دليلا على حقيقته, فلن نبصر شيئا, فان عظمة هذا الرجل أكثر أصالة من أن تتبدى في أيّ من مظاهر البذخ والزخرف.

                  انها هناك كامنة مخبوءة وراء بساطته وأسماله.

                  أتعرفون اللؤلؤ المخبوء في جوف الصدف..؟ انه شيء يشبه هذا..



                  **



                  عندما عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب معاوية عن ولاية الشام, تلفت حواليه يبحث عن بديل يوليه مكانه.

                  وأسلوب عمر في اختيار ولاته ومعاونيه, أسلوب يجمع أقصى غايات الحذر, والدقة, والأناة.. ذلك أنه كان يؤمن أن أي خطأ يرتكبه وال في أقصى الأرض سيسأل عنه الله اثنين: عمر أولا.. وصاحب الخطأ ثانيا..

                  ومعاييره في تقييم الناس واختيار الولاة مرهفة, ومحيطة,وبصيرة, أكثر ما يكون البصر حدة ونفاذا..

                  والشام يومئذ حاضرة كبيرة, والحياة فيها قبل دخول الاسلام بقرون, تتقلب بين حضارات متساوقة.. وهي مركز هام للتجارة. ومرتع رحيب للنعمة.. وهي بهذا, ولهذا درء اغراء. ولا يصلح لها في رأي عمر الا قديس تفر كل شياطين الاغراء أمام عزوفه.. والا زاهد, عابد, قانت, أواب..

                  وصاح عمر: قد وجدته, اليّ بسعيد بن عامر..!!

                  وفيما بعد يجيء سعيد الى أمير المؤمنين ويعرض عليه ولاية حمص..

                  ولكن سعيدا يعتذر ويقول: " لا تفتنّي يا أمير المؤمنين"..

                  فيصيح به عمر:

                  " والله لا أدعك.. أتضعون أمانتكم وخلافتكم في عنقي.. ثم تتركوني"..؟؟!!



                  واقتنع سعيد في لحظة, فقد كانت كلمات عمر حريّة بهذا الاقناع.

                  أجل. ليس من العدل أن يقلدوه أمانتهم وخلافتهم, ثم يتركوه وحيدا..واذا انفض عن مسؤولية الحكم أمثال سعيد بن عامر, فأنّى لعمر من يعينه على تبعات الحكم الثقال..؟؟

                  خرج سعيد الى حمص ومعه زوجته, وكانا عروسين جديدين, وكانت عروسه منذ طفولتها فائقة الجمال والنضرة.. وزوّده عمر بقدر طيّب من المال.

                  ولما استقرّا في حمص أرادت زوجته أن تستعمل حقها كزوجة في استثمار المال الذي زوده به عمر.. وأشارت عليه بأن يشتري ما يلزمهما من لباس لائق, ومتاع وأثاث.. ثم يدخر الباقي..

                  وقال لها سعيد: ألا أدلك على خير من هذا..؟؟ نحن في بلاد تجارتها رابحة, وسوقها رائجة, فلنعط المال من يتجر لنا فيه وينمّيه..

                  قالت: وان خسرت تجارته..؟

                  قال سعيد: سأجعل ضمانا عليه..!!

                  قالت: فنعم اذن..

                  وخرج سعيد فاشترى بعض ضروريات عيشه المتقشف, ثم فرق جميع المال في الفقراء والمحتاجين..



                  ومرّت الأيام.. وبين الحين والحين تسأله زوجه عن تجارتهما وأيّان بلغت من الأرباح..

                  ويجيبها سعيد: انها تجارة موفقة.. وان الارباح تنمو وتزيد.

                  وذات يوم سألته نفس السؤال أمام قريب له كان يعرف حقيقة الأمر فابتسم. ثم ضحك ضحكة أوحت الى روع الزوجة بالشك والريب, فألحت عليه أن يصارحها الحديث, فقا لها: لقد تصدق بماله جميعه من ذلك اليوم البعيد.

                  فبكت زوجة سعيد, وآسفها أنها لم تذهب من هذا المال بطائل فلا هي ابتاعت لنفسها ما تريد, ولا المال بقي..

                  ونظر اليها سعيد وقد زادتها دموعها الوديعة الآسية جمالا وروعة.

                  وقبل أن ينال المشهد الفاتن من نفسه ضعفا, ألقى بصيرته نحو الجنة فرأى فيها أصحابه السابقين الراحلين فقال:

                  " لقد كان لي أصحاب سبقوني الى الله... وما أحب أن أنحرف عن طريقهم ولو كانت لي الدنيا بما فيها"..!!



                  واذ خشي أن تدل عليه بجمالها, وكأنه يوجه الحديث الى نفسه معها:

                  " تعلمين أن في الجنة من الحور العين والخيرات الحسان, ما لو أطلت واحدة منهن على الأرض لأضاءتها جميعا, ولقهر نورها نور الشمس والقمر معا.. فلأن أضحي بك من أجلهن, أحرى أولى من أن أضحي بهن من أجلك"..!!

                  وأنهى حديثه كما بدأه, هادئا مبتسما راضيا..

                  وسكنت زوجته, وأدركت أنه لا شيء أفضل لهما من السير في طريق سعيد, وحمل النفس على محاكاته في زهده وتقواه..!!



                  **



                  كانت حمص أيامئذ, توصف بأنها الكوفة الثانية وسبب هذا الوصف, كثرة تمرّد أهلها واختلافهم على ولاتهم.

                  ولما كانت الكوفة في العراق صاحبة السبق في هذا التمرد فقد أخذت حمص اسمها لما شابهتها...

                  وعلى الرغم من ولع الحمصيين بالتمرّد كما ذكرنا, فقد هدى الله قلوبهم لعبده الصالح سعيد, فأحبوه وأطاعوه.

                  ولقد سأله عمر يوما فقال: " ان أهل الشام يحبونك".؟

                  فأجابه سعيد قائلا:" لأني أعاونهم وأواسيهم"..!

                  بيد أن مهما يكن أهل حمص حب لسعيد, فلا مفر من أن يكون هناك بعض التذمر والشكوى.. على الأقل لتثبت حمص أنها لا تزال المانفس القوي لكوفة العراق...

                  وتقدم البعض يشكون منه, وكانت شكوى مباركة, فقد كشفت عن جانب من عظمة الرجل, عجيب عجيب جدا..

                  طلب عمر من الزمرة الشاكية أن تعدد نقاط شكواها, واحدة واحدة..

                  فنهض المتحدث بلسان هذه المجموعة وقال: نشكو منه أربعا:

                  " لا يخرج الينا حت يتعالى النهار..

                  والا يجيب أحدا بليل..

                  وله في الشهر يومان لا يخرج فيهما الينا ولا نراه,

                  وأخرى لا حيلة له فيها ولكنها تضايقنا, وهي أنه تأخذه الغشية بين الحين والحين"..

                  وجلس الرجل:

                  وأطرق عمر مليا, وابتهل الى الله همسا قال:

                  " اللهم اني أعرفه من خير عبادك..

                  اللهم لا تخيّب فيه فراستي"..

                  ودعاه للدفاع عن نفسه, فقال سعيد:

                  أما قولهم اني لا أخرج اليهم حتى يتعالى النهار..

                  " فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب.. انه ليس لأهلي خادم, فأنا أعجن عجيني, ثم أدعه يختمر, ثم اخبز خبزي, ثم أتوضأ للضحى, ثم أخرج اليهم"..

                  وتهلل وجه عمر وقال: الحمد للله.. والثانية..؟!

                  وتابع سعيد حديثه:

                  وأما قولهم: لا أجيب أحدا بليل..

                  فوالله, لقد كنت أكره ذكر السبب.. اني جعلت النهار لهم,والليل لربي"..

                  أما قولهم: ان لي يومين في الشهر لا أخرج فيهما...
                  " فليس لي خادم يغسل ثوبي, وليس لي ثياب أبدّلها, فأنا أغسل ثوبي ثم أنتظر أن يجف بعد حين.. وفي آخر النهار أخرج اليهم ".

                  وأما قولهم: ان الغشية تأخذني بين الحين والحين..

                  " فقد شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة, وقد بضعت قريش لحمه, وحملوه على جذعه, وهم يقولون له: أتحب أن محمدا مكانك, وأنت سليم معافى..؟ فيجيبهم قائلا: والله ما أحب أني في أهلي وولدي, معي عافية الدنيا ونعيمها, ويصاب رسول الله بشوكة..

                  فكلما ذكرت ذلك المشهد الذي رأيته وأنا يومئذ من المشركين, ثم تذكرت تركي نصرة خبيب يومها, أرتجف خوفا من عذاب الله, ويغشاني الذي يغشاني"..

                  وانتهت كلمات سعيد التي كانت تغادر شفتيه مبللة بدموعه الورعة الطاهرة..

                  ولم يمالك عمر نفسه ونشوه, فصاح من فرط حبوره.

                  " الحمد لله الذي لم يخيّب فراستي".!

                  وعانق سعيدا, وقبّل جبهته المضيئة العالية...

                  **



                  أي حظ من الهدى ناله هذا الطراز من الخلق..؟

                  أي معلم كان رسول الله..؟

                  اي نور نافذ, كان كتاب الله..؟؟

                  وأي مدرسة ملهمة ومعلمة, كان الاسلام..؟؟

                  ولكن, هل تستطيع الأرض أن تحمل فوق ظهرها عددا كثيرا من هذا الطراز..؟؟

                  انه لو حدث هذا, لما بقيت أرضا, انها تصير فردوسا..

                  أجل تصير الفردوس الموعود..

                  ولما كان الفردوس لم يأت زمانه بعد فان الذين يمرون بالحياة ويعبرون الأرض من هذا الطراز المجيد الجليل.. قليلون دائما ونادرون..

                  وسعيد بن عامر واحد منهم..

                  كان عطاؤه وراتبه بحكم عمله ووظيفته, ولكنه كان يأخذ منه ما يكفيه وزوجه.. ثم يوزع باقيه على بيوت أخرى فقيرة...

                  ولقد قيل له يوما:

                  " توسّع بهذا الفائض على أهلك وأصهارك"..

                  فأجاب قائلا:

                  " ولماذا أهلي وأصهاري..؟

                  لا والله ما أنا ببائع رضا الله بقرابة"..



                  وطالما كان يقال له:

                  " توسّع وأهل بيتك في النفقة وخذ من طيّبات الحياة"..

                  ولكنه كان يجيب دائما, ويردد أبدا كلماته العظيمة هذه:

                  " ما أنا بالمتخلف عن الرعيل الأول, بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يجمع الله عز وجل الناس للحساب, فيحيء فقراء المؤمنين يزفون كما تزف الحامائم, فيقال لهم: قفوا للحساب, فيقولون: ما كان لنا شيء نحاسب عليه.. فيقول الله: صدق عبادي.. فيدخلون الجنة قبل الناس"..



                  **



                  وفي العام العشرين من الهجرة, لقي سعيد ربه أنقى ما يكون صفحة, وأتقى ما يكون قلبا, وأنضر ما يكون سيرة..

                  لقد طال شوقه الى الرعيل الأول الذي نذر حياته لحفظه وعهده, وتتبع خطاه..

                  أجل لقد طال شوقه الى رسوله ومعلمه.. والى رفاقه الأوّابين المتطهرين..

                  واليوم يلاقيهم قرير العين, مطمئن النفس, خفيف الظهر..

                  ليس معه ولا وراءه من أحمال الدنيا ومتاعها ما يثقل ظهره وكاهله,,

                  ليس معه الا ورعه, وزهده, وتقاه, وعظمة نفسه وسلوكه..

                  وفضائل تثقل الميزان, ولكنها لا تثقل الظهور..!!

                  ومزايا هز بها صاحبها الدنيا, ولم يهزها غرور..!!



                  **



                  سلام على سعيد بن عامر..

                  سلام عليه في محياه, وأخراه..

                  وسلام.. ثم سلام على سيرته وذكراه..

                  وسلام على الكرام البررة.. أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.



                  إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                  نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                  جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                  تعليق


                  • #10
                    حمزة بن عبد المطلب

                    أسد الله وسيّد الشهداء



                    كانت مكة تغطّ في نومها, بعد يوم مليء بالسعي, وبالكدّ, وبالعبادة وباللهو..

                    والقرشيون يتقلبون في مضاجعهم هاجعين.. غير واحد هناك يتجافى عن المضجع جنباه, يأوي الى فراشه مبركا, ويستريح ساعات قليلة, ثم ينهض في شوق عظيم, لأنه مع الله على موعد, فيعمد الى مصلاه في حجرته, ويظل يناجي ربه ويدعوه.. وكلما استيقظت زوجته على أزير صدره الضارع وابتهالاته الحارّه والملحة, أخذتها الشفقة عليه, ودعته أن يرفق بنفسه ويأخذ حظه من النوم, يجيبها ودموع عينيه تسابق كلماته:

                    " لقد انقضى عهد النوم يا خديجة"..!!

                    لم يكن أمره قد أرّق قريش بعد, وان كان قد بدأ يشغل انتباهها, فلقد كان حديث عهد بدعوته, وكان يقول كلمته سرا وهمسا.

                    كان الذين آمنوا به يومئذ قليلين جدا..

                    وكان هناك من غير المؤمنين به من يحمل له كل الحب والاجلال, ويطوي جوانحه على شوق عظيم الى الايمان به والسير في قافلته المباركة, لا يمنعه سوى مواضعات العرف والبيئة, وضغوط التقاليد والوراثة, والتردد بين نداء الغروب, ونداء الشروق.

                    من هؤلاء كان حمزة بن عبد المطلب.. عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة.



                    **



                    كان حمزة يعرف عظمة ابن أخيه وكماله.. وكان على بيّنة من حقيقة أمره, وجوهر خصاله..

                    فهو لا يعرف معرفة العم بابن أخيه فحسب, بل معرفة الأخ بالأخ, والصديق بالصديق.. ذلك أن رسول الله وحمزة من جيل واحد, وسن متقاربة. نشأ معا وتآخيا معا, وسارا معا على الدرب من أوله خطوة خطوة..



                    ولئن كان شباب كل منهما قد مضى في طريق, فأخذ حمزة يزاحم أنداده في نيل طيبات الحياة, وافساح مكان لنفسه بين زعماء مكة وسادات قريش.. في حين عكف محمد على اضواء روحه التي انطلقت تنير له الطريق الى الله وعلى حديث قلبه الذي نأى به من ضوضاء الحياة الى التأمل العميق, والى التهيؤ لمصافحة الحق وتلقيه..

                    نقول لئن كان شباب كل منهما قد اتخذ وجهة مغايرة, فان حمزة لم تغب عن وعيه لحظة من نهار فضائل تربه وابن أخيه.. تلك الفضائل والمكارم التي كانت تحلّ لصاحبها مكانا عليّا في أفئدة الناس كافة, وترسم صورة واضحة لمستقبله العظيم.

                    في صبيحة ذلك اليوم, خرج حمزة كعادته.

                    وعند الكعبة وجد نفرا من أشراف قريش وساداتها فجلس معهم, يستمع لما يقولون..

                    وكانوا يتحدثون عن محمد..

                    ولأول مرّة رآهم حمزة يستحوذ عليهم القلق من دعوة ابن أخيه.. وتظهر في أحاديثهم عنه نبرة الحقد, والغيظ والمرارة.

                    لقد كانوا من قبل لا يبالون, أو هم يتظاهرون بعدم الاكتراث واللامبالاة.

                    أما اليوم, فوجوههم تموج موجا بالقلق, والهمّ, والرغبة في الافتراس.

                    وضحك حمزة من أحاديثهم طويلا.. ورماهم بالمبالغة, وسوء التقدير..



                    وعقب أبو جهل مؤكدا لجلسائه أن حمزة أكثر الانس علما بخطر ما يدعو اليه محمد ولكنه يريد أم يهوّن الأمر حتى تنام قريش, ثم تصبح يوما وقد ساء صاحبها, وظهر أمر ابن أخيه عليها...

                    ومضوا في حديثهم يزمجرون, ويتوعدون.. وحمزة يبتسم تارّة, ويمتعض أخرى, وحين انفض الجميع وذهب كل الى سبيله, كان حمزة مثقل الرأس بأفكار جديدة, وخواطر جديدة. راح يستقبل بها أمر ابن أخيه, ويناقشه مع نفسه من جديد...!!!



                    **



                    ومضت الأيام, ينادي بعضها بعضا ومع كل يوم تزداد همهمة قريش حول دعوة الرسول..

                    ثم تتحوّل همهمة قريش الى تحرّش. وحمزة يرقب الموقف من بعيد..

                    ان ثبات ابن أخيه ليبهره.. وان تفانيه في سبيل ايمانه ودعوته لهو شيء جديد على قريش كلها, برغم ما عرفت من تفان وصمود..!!

                    ولو استطاع الشك يومئذ أن يخدع أحدا عن نفسه في صدق الرسول وعظمة سجاياه, فما كان هذا الشك بقادر على أن يجد الى وعي حمزة منفذا أو سبيلا..

                    فحمزة خير من عرف محمدا, من طفولته الباكرة, الى شبابه الطاهر, الى رجولته الأمينة السامقة..

                    انه يعرفه تماما كما يعرف نفسه, بل أكثر مما يعرف نفسه, ومنذ جاءا الى الحياة معا, وترعرعا معا, وبلغا أشدّهما معا, وحياة محمد كلها نقية كأشعة الشمس..!! لا يذكر حمزة شبهة واحدة ألمّت بهذه الحياة, لا يذكر أنه رآه يوما غاضبا, أو قانطا, أو طامعا,أو لاهيا, أو مهزوزا...

                    وحمزة لم يكن يتمتع بقوة الجسم فحسب, بل وبرجاحة العقل, وقوة الارادة أيضا..

                    ومن ثم لم يكن من الطبيعي أن يتخلف عن متابعة انسان يعرف فيه كل الصدق وكل الأمانة.. وهكذا طوى صدره الى حين على أمر سيتكشّف في يوم قريب..



                    **



                    وجاء اليوم الموعود..

                    وخرج حمزة من داره,متوشحا قوسه, ميمّما وجهه شطر الفلاة ليمارس هوايته المحببة, ورياضته الأثيرة, الصيد.. وكان صاحب مهارة فائقة فيه..

                    وقضى هناك بعض يومه, ولما عاد من قنصه, ذهب كعادته الى الكعبة ليطوف بها قبل أن يقفل راجعا الى داره.

                    وقريبا من الكعبة, لقته خادم لعبدالله بن جدعان..

                    ولم تكد تبصره حتى قالت له:

                    " يا أبا عمارة.. لو رأيت ما لاقي ابن أخيك محمد آنفا, من أبي الحكم بن هشام.. وجده جالسا هناك , فآذاه وسبّه وبلغ منه ما يكره"..

                    ومضت تشرح له ما صنع أبو جهل برسول الله..

                    واستمع حمزة جيدا لقولها, ثم أطرق لحظة, ثم مد يمينه الى قوسه فثبتها فوق كتفه.. ثم انطلق في خطى سريعة حازمة صوب الكعبة راجيا أن يلتقي عندها بأبي جهل.. فان هو لم يجده هناك, فسيتابع البحث عنه في كل مكان حتى يلاقيه..

                    ولكنه لا يكاد يبلغ الكعبة, حتى يبصر أبا جهل في فنائها يتوسط نفرا من سادة قريش..

                    وفي هدوء رهيب, تقدّم حمزة من أبي جهل, ثم استلّ قوسه وهوى به على رأس أبي جهل فشجّه وأدماه, وقبل أن يفيق الجالسون من الدهشة, صاح حمزة في أبي جهل:

                    " أتشتم محمدا, وأنا على دينه أقول ما يقول..؟! الا فردّ ذلك عليّ ان استطعت"..



                    وفي لحظة نسي الجالسون جميعا الاهانة التي نزلت بزعيمهم أبي جهل والدم لذي ينزف من رأسه, وشغلتهم تلك الكلمة التي حاقت بهم كالصاعقة.. الكلمة التي أعلن بها حمزة أنه على دين محمد يرى ما يراه, ويقول ما يقوله..

                    أحمزة يسلم..؟

                    أعزّ فتيان قريش وأقواهم شكيمة..؟؟

                    انها الطامّة التي لن تملك قريش لها دفعا.. فاسلام حمزة سيغري كثيرين من الصفوة بالاسلام, وسيجد محمد حوله من القوة والبأس ما يعزز دعوته ويشدّ ازره, وتصحو قريش ذات يوم على هدير المعاول تحطم أصنامها وآلهتها..!!

                    أجل أسلم حمزة, وأعلن على الملأ الأمر الذي كان يطوي عليه صدره, وترك الجمع الذاهل يجترّ خيبة أمله, وأبا جهل يلعق دماءه النازفة من رأسه المشجوج.. ومدّ حمزة يمينه مرّة أخرى الى قوسه فثبتها فوق كتفه, واستقبل الطريق الى داره في خطواته الثابتة, وبأسه الشديد..!



                    **



                    كان حمزة يحمل عقلا نافذا, وضميرا مستقيما..

                    وحين عاد الى بيته ونضا عنه متاعب يومه. جلس يفكر, ويدير خواطره على هذا الذي حدث له من قريب..

                    كيف أعلن اسلامه ومتى..؟

                    لقد أعلنه في لحظات الحميّة, والغضب, والانفعال..

                    لقد ساءه أن يساء الى ابن اخيه, ويظلم دون أن يجد له ناصرا, فيغضب له, وأخذته الحميّة لشرف بني هاشم, فشجّ رأس أبي جهل وصرخ في وجهه باسلامه...

                    ولكن هل هذا هو الطريق الأمثل لك يغدار الانسان دين آبائه وقومه... دين الدهور والعصور.. ثم يستقبل دينا جديدا لم يختبر بعد تعاليمه, ولا يعرف عن حقيقته الا قليلا..

                    صحيح أنه لا يشك لحظة في صدق محمد ونزاهة قصده..

                    ولكن أيمكن أن يستقبل امرؤ دينا جديدا, بكل ما يفرضه من مسؤوليات وتبعات, في لحظة غضب, مثلما صنع حمزة الآن..؟؟؟



                    وشرع يفكّر.. وقضى أياما, لا يهدأ له خاطر.. وليالي لا يرقأ له فيها جفن..

                    وحين ننشد الحقيقة بواسطة العقل, يفرض الشك نفسه كوسيلة الى المعرفة.

                    وهكذا, لم يكد حمزة يستعمل في بحث قضية الاسلام, ويوازن بين الدين القديم, والدين الجديد, حتى ثارت في نفسه شكوك أرجاها الحنين الفطري الموروث الى دين آبائه.. والتهيّب الفطري الموروث من كل جيد..



                    واستيقظت كل ذكرياته عن الكعبة, وآلهاها وأصنامها... وعن الأمجاد الدينية التى أفاءتها هذه الآلهة المنحوتة على قريش كلها, وعلى مكة بأسرها.

                    لقد كان يطوي صدره على احترام هذه الدعوة الجديدة التي يحمل ابن أخيه لواءها..

                    ولكن اذا كان مقدورا له أن يكون أحد أتباع هذه الدعوة, المؤمنين بها, والذائدين عنها.. فما الوقت المناسب للدخول في هذا الدين..؟

                    لحظة غضب وحميّة..؟ أم أوقات تفكير ورويّة..؟

                    وهكذا فرضت عليه استقامة ضميره, ونزاهة تفكيره أن يخضع المسألة كلها من جديد لتفكر صارم ودقيق..



                    وبدأ الانسلاخ من هذا التاريخ كله.. وهذا الدين القديم العريق, هوّة تتعاظم مجتازها..

                    وعجب حمزة كيف يتسنى لانسان أن يغادر دين آبائه بهذه السهولة وهذه السرعة.. وندم على ما فعل.. ولكنه واصل رحلة العقل.. ولما رأى أن العقل وحده لا يكفي لجأ الى الغيب بكل اخلاصه وصدقه..

                    وعند الكعبة, كان يستقبل السماء ضارعا, مبتهلا, مستنجدا بكل ما في الكون من قدرة ونور, كي يهتدي الى الحق والى الطريق المستقيم..

                    ولنضع اليه وهو يروي بقية النبأ فيقول:

                    ".. ثم أدركني الندم على فراق دين آبائي وقومي.. وبت من الشك في أمر عظيم, لا أكتحل بنوم..

                    ثم أتيت الكعبة, وتضرّعت الى الله أن يشرح صدري للحق, ويذهب عني الريب.. فاستجاب الله لي وملأ قلبي يقينا..

                    وغدوت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما كان من أمري, فدعى الله أن يثبت قلبي على دينه.."

                    وهكذا أسلم حمزة اسلام اليقين..



                    **



                    أعز الله الاسلام بحمزة.. ووقف شامخا قويا يذود عن رسول الله, وعن المستضعفين من أصحابه..

                    ورآه أبو جهل يقف في صفوف المسلمين, فأدرك أنها الحرب لا محالة, وراح يحرّض قريشا على انزال الأذى بالرسول وصحبه, ومضى يهيء لحرب أهليّة يشفي عن طريقها مغايظة وأحقاده..

                    ولم يستطع حمزة أن يمنع كل الأذى ولكن اسلامه مع ذلك كان وقاية ودرعا.. كما كان اغراء ناجحا لكثير من القبائل التي قادها اسلام حمزة أولا. ثم اسلام عمر بن الخطاب بعد ذلك الى الاسلام فدخلت فيه أفواجا..!!

                    ومنذ أسلم حمزة نذر كل عافيته, وبأسه, وحياته, لله ولدينه حتى خلع النبي عليه هذا اللقب العظيم:

                    "أسد الله, وأسد رسوله"..

                    وأول سرية خرج فيها المسلمون للقاء عدو, كان أميرها حمزة..

                    وأول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين كانت لحمزة..

                    ويوم التقى الجمعان في غزوة بدر, كان أسد الله ورسوله هناك يصنع الأعاجيب..!!



                    **



                    وعادت فلول قريش من بدر الى مكة تتعثر في هزيمتها وخيبتها... ورجع أبو سفيان مخلوع القلب, مطأطئ الراس. وقد خلّف على أرض المعركة جثث سادة قريش, من أمثال أبي جهل.. وعتبة بن ربيعة, وشيبة بن ربيعة, وأميّة بن خلف. وعقبة بن أبي معيط.. والأسود بن عبدالله المخزومي, والوليد بن عتبة.. والنفر بن الحارث.. والعاص بن سعيد.. وطعمة ابن عديّ.. وعشرات مثلهم من رجال قريش وصناديدها.

                    وما كانت قريش لتتجرّع هذه الهزيمة المنكرة في سلام... فراحت تعدّ عدّتها وتحشد بأسها, لتثأر لنفسها ولشرفها ولقتلاها.. وصمّمت قريش على الحرب..



                    **



                    وجاءت غزوة أحد حيث خرجت قريش على بكرة أبيها, ومعها حلفاؤها من قبائل العرب, وبقيادة أبي سفيان مرة أخرى.

                    وكان زعماء قريش يهدفون بمعركتهم الجديدة هذه الى رجلين اثنين: الرسول صلى اله عليه وسلم, وحمزة رضي الله عنه وأرضاه..

                    أجل والذي كان يسمع أحاديثهم ومؤامراتهم قبل الخروج للحرب, يرى كيف كان حمزة بعد الرسول بيت القصيد وهدف المعركة..



                    ولقد اختاروا قبل الخروج, الرجل الذي وكلوا اليه أمر حمزة, وهو عبد حبشي, كان ذا مهارة خارقة في قذف الحربة, جعلوا كل دوره في المعركة أن يتصيّد حمزة ويصوّب اليه ضربة قاتلة من رمحه, وحذروه من أن ينشغل عن هذه الغاية بشيء آخر, مهما يكن مصير المعركة واتجاه القتال.

                    ووعدوه بثمن غال وعظيم هو حريّته.. فقد كان الرجل واسمه وحشي عبدا لجبير بن مطعم.. وكان عم جبير قد لقي مصرعه يوم بدر فقال له جبير"

                    " اخرج مع الناس وان أنت قتلت حمزة فأنت عتيق"..!!

                    ثم أحالوه الى هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان لتزيده تحريضا ودفعا الى الهدف الذي يريدون..

                    وكانت هند قد فقدت في معركة بدر أباها, وعمها, وأخاها, وابنها.. وقيل لها ان حمزة هو الذي قتل بعض هؤلاء, وأجهز على البعض الآخر..

                    من أجل هذا كانت أكثر القرشيين والقرشيّات تحريضا على الخروج للحرب, لا لشيء الا لتظفر برأس حمزة مهما يكن الثمن الذي تتطلبه المغامرة..!!

                    ولقد لبثت أياما قبل الخروج للحرب, ولا عمل لها الا افراغ كل حقدها في صدر وحشي ورسم الدور الذي عليه أن يقوم به..



                    ولقد وعدته ان هو نجح في قتل حمزة بأثمن ما تملك المرأة من متاع وزينة, فلقد أمسكت بأناملها الحاقدة قرطها اللؤلؤي الثمين وقلائدها الذهبية التي تزدحم حول عنقها, ثم قالت وعيناها تحدّقان في وحشي:

                    " كل هذا لك, ان قتلت حمزة"..!!

                    وسال لعاب وحشي, وطارت خواطره توّاقة مشتاقة الى المعركة التي سيربح فيها حريّته, فلا يصير بعد عبدا أو رقيقا, والتي سيخرج منها بكل هذا الحلي الذي يزيّن عنق زعيمة نساء قريش, وزوجة زعيمها, وابنة سيّدها..!!

                    كانت المؤمرة اذن.. وكانت الحرب كلها تريد حمزة رضي الله عنه بشكل واضح وحاسم..



                    **



                    وجاءت غزوة أحد...

                    والتقى الجيشان. وتوسط حمزة أرض الموت والقتال, مرتديا لباس الحرب, وعلى صدره ريشة النعام التي تعوّد أن يزيّن بها صدره في القتال..

                    وراح يصول ويجول, لا يريد رأسا الا قطعه بسيفه, ومضى يضرب في المشركين, وكأن المنايا طوع أمره, يقف بها من يشاء فتصيبه في صميمه.!!



                    وصال المسلمون جميعا حتى قاربوا النصر الحاسم.. وحتى أخذت فلول قريش تنسحب مذعورة هاربة.. ولولا أن ترك الرماة مكانهم فوق الجبل, ونزلوا الى أرض المعركة ليجمعوا غنائم العدو المهزوم.. لولا تركهم مكانهم وفتحوا الثغرة الواسعة لفرسان قريش لكانت غزوة أحد مقبرة لقريش كلها, رجالها, ونسائها بل وخيلها وابلها..!!



                    لقد دهم فرسانها المسلمين من ورائهم على حين غفلة, واعملوا فيهم سيوفهم الظامئة المجنونة.. وراح المسلمون يجمعون أنفسهم من جديد ويحملون سلاحهم الذي كان بعضهم قد وضعه حين رأى جيش محمد ينسحب ويولي الأدبار.. ولكن المفاجأة كانت قاسية عنيفة.

                    ورأى حمزة ما حدث فضاعف قوته ونشاطه وبلاءه..

                    وأخذ يضرب عن يمينه وشماله.. وبين يديه ومن خلفه.. ووحشيّ هناك يراقبه, ويتحيّن الفرصة الغادرة ليوجه نحنوه ضربته..

                    ولندع وحشا يصف لنا المشهد بكلماته:

                    [.. وكنت جلا حبشيا, أقذف بالحربة قذف لحبشة, فقلما أخطئ بها شيئا.. فلما التقى الانس خرجت أنظر حمزة وأتبصّره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق.. يهدّ الناس بسيفه هدّا, ما يقف امامه شيء, فوالله اني لأتهيأ له أريده, وأستتر منه بشجرة لأقتحمه أو ليدنو مني, اذ تقدّمني اليه سباع بن عبد العزى. فلما رآه حمزة صاح به: هلمّ اليّ يا بن مقطّعة البظرو. ثم ضربه ضربة فما أخطأ رأسه..

                    عندئذ هززت حربتي حتى اذا رضيت منها دفعتها فوقعت في ثنّته حتى خرجت من بين رجليه.. ونهض نحوي فغلب على امره ثم مات..

                    وأتيته فأخذت حربتي, ثم رجعت الى المعسكر فقعدت فيه, اذ لم يكن لي فيه حاجة, فقد قتلته لأعتق..]



                    ولا بأس في أن ندع وحشيا يكمل حديثه:

                    [فلما قدمت مكة أعتقت, ثم أقمت بها حتى دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فهربت الى الطائف..

                    فلما خرج وفد الطائف الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم تعيّت عليّ المذاهب. وقلت : الحق بالشام أو اليمن أو سواها..

                    فوالله اني لفي ذلك من همي اذ قال لي رجل: ويحك..! ان رسول اله, والله لا يقتل أحد من الناس يدخل دينه..

                    فخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلم يرني الا قائما أمامه أشهد شهادة الحق. فلما رآني قال: أوحشيّ أنت..؟ قلت: نعم يا رسول الله.. قال: فحدّثني كيف قتلت حمزة, فحدّثته.. فلما فرغت من حديثي قال: ويحك.. غيّب عني وجهك.. فكنت أتنكّب طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان, لئلا يراني حتى قبضه الله اليه..

                    فلما خرج المسلمون الى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم, وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة.. فلما التقى الانس رأيت مسيلمة الكذاب قائما, في يده السيف, فتهيأت له, وهززت حربتي, حتى اذا رضيته منها دفعتها عليه فوقعت فيه..

                    فان كنت قد قتلت بحربتي هذه خير الناس وهو حمزة.. فاني لأرجو أن يغفر الله لي اذ قتلت بها شرّ الناس مسيلمة]..



                    **



                    هكذا سقط أسد الله ورسوله, شهيدا مجيدا..!!

                    وكما كانت حياته مدوّية, كانت موتته مدوّية كذلك..

                    فلم يكتف أعداؤه بمقتله.. وكيف يكتفون أو يقتنعون, وهم الذين جنّدوا كل أموال قريش وكل رجالها في هذه المعركة التي لم يريدوا بها سوى الرسول وعمّه حمزة..

                    لقد أمرت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان.. أمرت وحشيا أن يأتيها بكبد حمزة.. واستجاب الحبشي لهذه الرغبة المسعورة.. وعندما عاد بها الى هند كان يناولها الكبد بيمناه, ويتلقى منها قرطها وقلائدها بيسراه, مكافأة له على انجاز مهمته..





                    ومضغت هند بنت عتبة الذي صرعه المسلمون ببدر, وزوجة أبي سفيان قائد جيوش الشرك الوثنية,مضغت كبد حمزة, راجية أن تشفي تلك الحماقة حقدها وغلها. ولكن الكبد استعصت على أنيابها, وأعجزتها أن تسيغها, فأخرجتها من فمها, ثم علت صخرة مرتفعة, وراحت تصرخ قائلة:

                    نحن جزيناكم بيوم بدر

                    والحرب بعد الحرب ذات سعر

                    ما كان عن عتبة لي من صبر

                    ولا أخي وعمّه وبكري

                    شفيت نفسي وقضيت نذري

                    أزاح وحشي غليل صدري



                    وانتهت المعركة, وامتطى المشركون ابلهم, وساقوا خيلهم قافلين الى مكة..

                    ونزل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه الى أرض المعركة لينظر شهداءها..

                    وهناك في بطن الوادي. وهو يتفحص وجوه أصحابه الذين باعوا لله أنفسهم, وقدّموها قرابين مبرورة لربهم الكبير. وقف فجأة.. ونظر. فوجم.. وضغط على أسنانه.. وأسبل جفنيه..



                    فما كان يتصوّر قط أن يهبط الخلق العربي على هذه الوحشية البشعة فيمثل بجثمان ميت على الصورة التي رأى فيها جثمان عمه الشهيد حمزة بن عبد المطلب أسد الله وسيّد الشهداء..

                    وفتح الرسول عينيه التي تألق بريقهما كومض القدر وقال وعيناه على جثمان عمّه:

                    " لن اصاب بمصلك أبدا..

                    وما وقفت موقفا قط أغيظ اليّ من موقفي هذا..".



                    ثم التفت الى أصحابه وقال:

                    " لولا أن تحزن صفيّة _أخت حمزة_ ويكون سنّه من بعدي, لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير.. ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن, لأمثلن بثلاثين رجلا منهم.."

                    فصاح أصحاب الرسول:

                    " والله لئن ظفرنا بهم يوما من الدهر, لنمثلن بهم, مثلة لم يمثلها أحد من العرب..!!"



                    ولكن الله الذي أكرم حمزة بالشهادة, يكرّمه مرة أخرى بأن يجعل من مصرعه فرصة لدرس عظيم يحمي العدالة الى الأبد, ويجعل الرحمة حتى في العقوبة والقصاص واجبا وفرضا..

                    وهكذا لم يكد الرسول صلى الله عليه وسلم يفرغ من القاء وعيده السالف حتى جاءه الوحي وهو في مكانه لم يبرحه بهذه الآية الكريمة:

                    (ادع الى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة, وجادلهم بالتي هي أحسن, ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله , وهو أعلم بالمهتدين.

                    وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به, ولئن صبرتم لهو خير للصابرين.

                    واصبر وما صبرك الا بالله, ولا تحزن عليهم, ولا تك في ضيق مما يمكرون.

                    ان الله مع الذين اتقوا, والذين هم محسنون..)

                    وكان نزول هذه الآيات, في هذا الموطن, خير تكريم لحمزة الذي وقع أجره على الله..



                    **



                    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه أعظم الحب, فهو كما ذكرنا من قبل لم يكن عمّه الحبيب فحسب..

                    بل كان اخاه من الرضاعة..

                    وتربه في الطفولة..

                    وصديق العمر كله..

                    وفي لحظات الوداع هذه, لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم تحية يودّعه بها خيرا من أن يصلي عليه بعدد الشهداء المعركة جميعا..

                    وهكذا حمل جثمان حمزة الى مكان الصلاة على أرض المعركة التي شهدت بلاءه, واحتضنت دماءه, فصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ثم جيء يشهيد آخر, فصلى عليه الرسول.. ثم رفع وترك حمزة مكانه, وجيء بشهيد ثالث فوضع الى جوار حمزة وصلى عليهما الرسول..

                    وهكذا جيء بالشهداء.. شهيد بعد شهيد.. والرسول عليه الصلاة والسلام يصلي على كل واحد منهم وعلى حمزة معه حتى صلى على عمّه يومئذ سبعين صلاة..



                    **



                    وينصرف الرسول من المعركة الي بيته, فيسمع في طريقه نساء بني عبد الأشهل يبكين شهداءهن, فيقول عليه الصلاة والسلام من فرط حنانه وحبه:

                    " لكنّ حمزة لا بواكي له"..!!



                    ويسمعها سعد بن معاذ فيظن أن الرسول عليه الصلاة والسلام يطيب نفسا اذا بكت النساء عمه, فيسرع الى نساء بني عبد الأشهل ويأمرهن أن يبكين حمزة فيفعلن… ولا يكاد الرسول يسمع بكاءهن حتى يخرج اليهن, ويقول

                    " ما الى هذا قصدت, ارجعن يرحمكن الله, فلا بكاء بعد اليوم"

                    ولقد ذهب أصحاب رسول الله يتبارون في رثاء حمزة وتمجيد مناقبه العظيمة.



                    فقال حسان بن ثابت:

                    دع عنك دارا قد عفا رسمها

                    وابك على حمزة ذي النائل

                    اللابس الخيل اذا أحجمت

                    كالليث في غابته الباسل

                    أبيض في الذروة من بني هاشم

                    لم يمر دون الحق بالباطل

                    مال شهيدا بين أسيافكم

                    شلت يدا وحشي من قاتل



                    وقال عبد الله بن رواحة:

                    بكت عيني وحق لها بكاها

                    وما يغني البكاء ولا العويل

                    على أسد الاله غداة قالوا:

                    أحمزة ذاكم الرجل القتيل

                    أصيب المسلمون به جميعا

                    هناك وقد أصيب به الرسول

                    أبا يعلى, لك الأركان هدّت

                    وأنت الماجد البرّ الوصول



                    وقالت صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخت حمزة:

                    دعاه اله الحق ذو العرش دعوة

                    الى جنة يحيا بها وسرور

                    فذاك ما كنا نرجي ونرتجي

                    لحمزة يوم الحشر خير مصير

                    فوالله ما أنساك ما هبّت الصبا

                    بكاءا وحزنا محضري وميسري

                    على أسد الله الذي كان مدرها

                    يذود عن الاسلام كل كفور

                    أقول وقد أعلى النعي عشيرتي

                    جزى الله خيرا من أخ ونصير



                    على أن خير رثاء عطّر ذكراه كانت كلمات رسول الله له حين وقف على جثمانه ساعة رآه بين شهداء المعركة وقال:

                    " رحمة الله عليك, فانك كنت وصولا للرحم فعولا للخيرات"..



                    **



                    لقد كان مصاب النبي صلى الله عليه وسلم في عمه العظيم حمزة فادحا. وكان العزاء فيه مهمة صعبة.. بيد أن الأقدر كانت تدّخر لرسول الله أجمل عزاء.

                    ففي طريقه من أحد الى داره مرّ عليه الصلاة والسلام بسيّدة من بني دينار استشهد في المعركة أبوها وزوجها, وأخوها..

                    وحين أبصرت المسلمين عائدين من الغزو, سارعت نحوهم تسألهم عن أنباء المعركة..

                    فنعوا اليها الزوج..والأب ..والأخ..

                    واذا بها تسألهم في لهفة:

                    " وماذا فعل رسول الله"..؟؟

                    قالوا:

                    " خيرا.. هو بحمد الله كما تحبين"..!!

                    قالت:

                    " أرونيه, حتىأنظر اليه"..!!

                    ولبثوا بجوارها حتى اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم, فلما رأته أقبلت نحوه تقول:

                    " كل مصيبة بعدك, أمرها يهون"..!!



                    **



                    أجل..

                    لقد كان هذا أجمل عزاء وأبقاه..

                    ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم قد ابتسم لهذا المشهد الفذّ الفريد, فليس في دنيا البذل, والولاء, والفداء لهذا نظير..

                    سيدة ضعيفة, مسكينة, تفقد في ساعة واحدة أباها وزوجها وأخاها.. ثم يكون ردّها على الناعي لحظة سمعها الخبر الذي يهدّ الجبال:

                    " وماذا فعل رسول الله"..؟؟!!



                    لقد كان مشهد أجاد القدر رسمه وتوقيته ليجعل منه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عزاء أي عزاء.. في أسد الله, وسيّد الشهداء..!!

                    إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                    نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                    جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                    تعليق


                    • #11
                      عبدالله بن مسعود

                      أول صادح بالقرآن



                      قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم, كان عبدالله بن مسعود قد آمن به, وأصبح سادس ستة أسلموا واتبعوا الرسول, عليه وعليهم الصلاة والسلام..

                      هو اذن من الأوائل المبكرين..

                      ولقد تحدث عن أول لقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

                      " كنت غلاما يافعا, أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فجاء النبي صلى الله عليه وسلم, وأبوبكر فقالا: يا غلام,هل عندك من لبن تسقينا..؟؟

                      فقلت: اني مؤتمن, ولست ساقيكما..

                      فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل عندك من شاة حائل, لم ينز عليها الفحل..؟

                      قلت: نعم..

                      فأتيتهما بها, فاعتلفها النبي ومسح الضرع.. ثم اتاه أبو بكر بصخرة متقعرة, فاحتلب فيها, فشرب أبو بكر ثم شربت..ثم قال للضرع: اقلص, فقلص..

                      فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد لك, فقلت: علمني من هذا القول.

                      فقال: انك غلام معلم"...



                      **



                      لقد انبهر عبدالله بن مسعود حين رأى عبدالله الصالح ورسوله الأمين يدعو ربه, ويمسح ضرعا لا عهد له باللبن بعد, فهذا هو يعطي من خير الله ورزقه لبنا خالصا سائغا للشاربين..!!

                      وما كان يدري يومها, أنه انما يشاهد أهون المعجزات وأقلها شأنا, وأنه عما قريب سيشهد من هذا الرسول الكريم معجزات تهز الدنيا, وتلمؤها هدى ونور..

                      بل ما كان يدري يومها, أنه وهو ذلك الغلام الفقير الضعيف الأجير الذي يرعى غنم عقبة بن معيط, سيكون احدى هذه المعجزات يوم يخلق الاسلام منه مؤمنا يهز بايمانه كبرياء قريش, ويقهر جبروت ساداتها..

                      فيذهب وهو الذي لم يكن يجرؤ أن يمر بمجلس فيه أحد أشراف مكة الا مطرق الرأس حثيث الخطى.. نقول: يذهب بعد اسلامه الى مجمع الأشراف عند الكعبة, وكل سادات قريش وزعمائها هنالك جالسون فيقف على رؤوسهم. ويرفع صوته الحلو المثير بقرآن الله:

                      (بسم الله الرحمن الرحيم, الرحمن, علّم القرآن, خلق الانسان, علّمه البيان, الشمس والقمر بحسبان, والنجم والشجر يسجدان).

                      ثم يواصل قراءته. وزعماء قريش مشدوهون, لا يصدقون أعينهم التي ترى.. ولا آذانهم التي تسمع.. ولا يتصورون أن هذا الذي يتحدى بأسهم.. وكبريائهم..انما هو أجير واحد منهم, وراعي غنم لشريف من شرفائهم.. عبدالله بن مسعود الفقير المغمور..!!

                      ولندع شاهد عيان يصف لنا ذلك المشهد المثير..

                      انه الزبير رضي الله عنه يقول:

                      " كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة, عبدالله بن مسعود رضي الله عنه, اذ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:

                      والله ما سمعت قريش مثل هذا القرآن يجهر لها به قط, فمن رجل يسمعهموه..؟؟
                      فقال عبدالله بن مسعود:أنا..
                      قالوا: ان نخشاهم عليك, انما نريد رجلا له عشيرته يمنعونه من القوم ان أرادوه..

                      قال: دعوني, فان الله سيمنعني..

                      فغدا ابن مسعود حتى اتى المقام في الضحى, وقريش في أنديتها, فقام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم _رافعا صوته_ الرحمن.. علم القرآن, ثم استقبلهم يقرؤها..

                      فتأملوه قائلين: ما يقول ابن ام عبد..؟؟ انه ليتلو بعض ما جاء به محمد..

                      فقاموا اليه وجعلوا يضربون وجهه, وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شا الله أن يبلغ..

                      ثم عاد الى أصحابه مصابا في وجهه وجسده, فقالوا له:

                      هذا الذي خشينا عليك..

                      فقال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن, ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا..

                      قالوا: حسبك, فقد أسمعتهم ما يكرهون"..!!





                      أجل ما كان ابن مسعود يوم بهره الضرع الحافل باللبن فجأة وقبل أوانه.. ما كان يومها يعلم أنه هو ونظراؤه من الفقراء والبسطاء, سيكونون احدى معجزات الرسول الكبرى يوم يحملون راية الله, ويقهرون بها نور الشمس وضوء النهار..!!

                      ما كان يعلم أن ذلك اليوم قريب..

                      ولكن سرعان ما جاء اليوم ودقت الساعة, وصار الغلام الأجير الفقير الضائع معجزة من المعجزات..!!



                      **



                      لم تكن العين لتقع عليه في زحام الحياة..

                      بل ولا بعيدا عن الزحام..!!

                      فلا مكان له بين الذين أوتوا بسطة من المال, ولا بين الذين أوتوا بسطة في الجسم, ولا بين الذين أوتوا حظا من الجاه..

                      فهو من المال معدم.. وهو في الجسم ناحل, ضامر.. وهو في الجاه مغمور..

                      ولكن الاسلام يمنحه مكان الفقر نصيبا رابيا وحظوظا وافية من خزائن كسرى وكنوز قيصر..!

                      ويمنحه مكان ضمور جسمه وضعف بنيانه ارادة تقهر الجبارين, وتسهم في تغيير مصير التاريخ..!

                      ويمنحه مكان انزوائه وضياعه, خلودا, وعلما وشرفا تجعله في الصدارة بين أعلام التاريخ..!!

                      ولقد صدقت فيه نبوءة الرسول عليه الصلاة والسلام يوم قال له: " انك غلام معلّم" فقد علمه ربه, حتى صار فقيه الأمة, وعميد حفظة القرآن جميعا.

                      يقول على نفسه:

                      " أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة, لا ينازعني فيها أحد"..

                      ولكأنما أراد الله مثوبته حين خاطر بحياته في سبيل ان يجهر بالقرآن ويذيعه في كل مكان بمكة أثناء سنوات الاضطهاد والعذاب فأعطاه سبحانه موهبة الأداء الرائع في تلاوته, والفهم السديد في ادراك معانيه..



                      ولقد كان رسول الله يوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود فيقول:

                      " تمسّكوا بعهد ابن أم عبد".

                      ويوصيهم بأن يحاكوا قراءته,ويتعلموا منه كيف يتلو القرآن.

                      يقول عليه السلام:

                      " من أحب أن يسمع القرآن غضّا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد"..
                      " من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل, فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"..!!

                      ولطالما كان يطيب لرسول الله عليه السلام أن يستمع للقرآن من فم ابن مسعود..

                      دعاه يوما الرسول, وقال له:

                      " اقرأ عليّ يا عبد الله"..

                      قال عبد الله:

                      " أقرأ عليك, وعليك أنزل يا رسول الله"؟!

                      فقال له الرسول:

                      "اني أحب أن أسمعه من غيري"..

                      فأخذ ابن مسعود يقرأ من سورة النساء حتى وصل الى قوله تعالى:

                      (فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا..

                      يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض..

                      ولا يكتمون الله حديثا)..

                      فغلب البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفاضت عيناه بالدموع, وأشار بيده الى ابن مسعود:

                      أن" حسبك.. حسبك يا ابن مسعود"..



                      وتحدث هو بنعمة الله فقال:

                      " والله ما نزل من القرآن شيء الا وأنا أعلم في أي شيء نزل, وما أحد أعلم بكتاب الله مني, ولو أعلم أحدا تمتطى اليه الابل أعلم مني بكتاب الله لأتيته وما أنا بخيركم"!!



                      ولقد شهد له بهذا السبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                      قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه:

                      " لقد ملئ فقها"..

                      وقال أبو موسى الأشعري:

                      " لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم"

                      ولم يكن سبقه في القرآن والفقه موضع الثناء فحسب.. بل كان كذلك أيضا سبقه في الورع والتقى.

                      يقول عنه حذيفة:

                      " ما رأيت أحدا أشبه برسول الله في هديه, ودلّه, وسمته من ابن مسعود...

                      ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن ام عبد لأقربهم الى الله زلفى"..!!

                      واجتمع نفر من الصحابة يوما عند علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه فقالوا له:

                      "يا أمير المؤمنين, ما رأينا رجلا كان أحسن خلقا ولا أرفق تعليما, ولا أحسن مجالسة, ولا أشد ورعا من عبدالله بن مسعود..

                      قال علي:

                      نشدتكم الله, أهو صدق من قلوبكم..؟؟

                      قالوا:

                      نعم..

                      قال:

                      اللهم اني أشهدك.. اللهم اني أقول مثل ما قالوا أو أفضل..

                      لقد قرأ القرآن فأحلّ حلاله, وحرّم حرامه..فقيه في الدين, عالم بالسنة"..!



                      وكان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يتحدثون عن عبدالله بن مسعود فيقولون:

                      " ان كان ليؤذن له اذا حججنا, ويشهد اذا غبنا"..

                      وهم يريدون بهذا, أن عبد الله رضي الله عنه كان يظفر من الرسول صلى الله عليه وسلم بفرص لم يظفر بها سواه, فيدخل عليه بيته أكثر مما يدخل غيرهو ويجالسه أكثر مما يجالس سواه. وكان دون غيره من الصّحب موضع سرّه ونجواه, حتى كان يلقب بـ صاحب السواد أي صاحب السر..



                      يقول أبو موسى الشعري رضي الله عنه:

                      "لقد رأيت النبي عليه الصلاة والسلام, وما أرى الا ابن مسعود من أهله"..

                      ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبّه حبا عظيما, وكان يحب فيه ورعه وفطنته, وعظمة نفسه.. حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه:

                      " لو كنت مؤمّرا أحدا دون شورى المسلمين, لأمّرت ابن أم عبد"..

                      وقد مرّت بنا من قبل, وصية االرسول لأصحابه:

                      " تمسكوا بعهد ابن أم عبد"...



                      وهذا الحب, وهذه الثقة أهلاه لأن يكون شديد القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأعطي ما لم يعط أحد غيره حين قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:" اذنك عليّ أن ترفع الحجاب"..

                      فكان هذا ايذانا بحقه في أن يطرق باب الرسول عليه أفضل السلام في أي وقت يشاء من ليل أو نهار...

                      وهكذا قال عنه أصحابه:

                      " كان يؤذن له اذا حججنا, ويشهد اذا غبنا"..



                      ولقد كان ابن مسعود أهلا لهذه المزيّة.. فعلى الرغم من أن الخلطة الدانية على هذا النحو, من شأنها أن ترفع الكلفة, فان ابن مسعود لم يزدد بها الا خشوعا, واجلالا, وأدبا..

                      ولعل خير ما يصوّر هذا الخلق عنده, مظهره حين كان يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته...



                      فعلى الرغم من ندرة تحدثه عن الرسول عليه السلام, نجده اذا حرّك شفتيه ليقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول... تأخذه الرّعدة الشديدة ويبدو عليه الاضطراب والقلق, خشية أن ينسى فيضع حرفا مكان حرف..!!



                      ولنستمع لاخوانه يصفون هذه الظاهرة..

                      يقول عمرو بن ميمون:

                      " اختلفت الى عبدالله بن مسعود سنة, ما سمعته يتحدث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, الا أنه حدّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله, فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته, ثم قال مستدركا قريبا من هذا قال الرسول"..!!

                      ويقول علقمة بن قيس:

                      " كان عبدالله بن مسعود يقوم عشيّة كل خميس متحدثا, فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة.. فنظرت اليه وهو معتمد على عصا, فاذا عصاه ترتجف, وتتزعزع"..!!

                      ويحدثنا مسروق عن عبدالله:

                      " حدّث ابن مسعود يوما حديثا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم أرعد وأرعدت ثيابه.. ثم قال:أو نحو ذا.. أو شبه ذا"..!!

                      الى هذا المدى العظيم بلغ اجلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبلغ توقيره اياه, وهذه أمارة فطنته قبل أن تكون امارة تقاه..!!

                      فالرجل الذي عاصره رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرمن غيره, كان ادراكه لجلال هذا الرسول العظيم ادراكا سديدا.. ومن ثمّ كان أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته, ومع ذكراه في مماته, أدبا فريدا..!!



                      **



                      لم يكن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر, ولا في حضر.. ولقد شهد المشاهد كلها جميعها.. وكان له يوم بدر شأن مذكور مع أبي جهل الذي حصدته سيوف المسلمين في ذلك اليوم الجليل.. وعرف خلفاء الرسول وأصحابه له قدره.. فولاه أمير المؤمنين عمر على بيت المال في الكوفة. وقال لأهلها حين أرسله اليهم:

                      " اني والله الذي لا اله الا هو, قد آثرتكم به على نفسي, فخذوا منه وتعلموا".

                      ولقد أحبه أهل الكوفة حبا جما لم يظفر بمثله أحد قبله, ولا أحد مثله..

                      واجماع أهل الكوفة على حب انسان, أمر يشبه المعجزات..

                      ذلك أنهم أهل تمرّد وثورة, لا يصبرون على طعام واحد..!! ولا يطيقون الهدوء والسلام..



                      ولقد بلغ من حبهم اياه أن أطاحوا به حين أراد الخليفةعثمان رضي الله عنه عزله عن الكوفة وقالوا له:" أقم معنا ولا تخرج, ونحن نمنعك أن يصل اليك شيء تكرهه منه"..

                      ولكن ابن مسعود أجابهم بكلمات تصوّر عظمة نفسه وتقاه, اذ قال لهم:

                      " ان له عليّ الطاعة, وانها ستكون أمور وفتن, ولا أحب أن يكون أول من يفتح أبوابها"..!!

                      ان هذا الموقف الجليل الورع يصلنا بموقف ابن مسعود من الخبيفة عثمان.. فلقد حدث بينهما حوار وخلاف تفاقما حتى حجب عن عبدالله راتبه ومعاشه من بيت الامل,, ومع ذلك لم يقل في عثمان رضي الله عنه كلمة سوء واحدة..

                      بل وقف موقف المدافع والمحذر حين رأى التذمّر في عهد عثمان يتحوّل الى ثورة..

                      وحين ترامى الى مسمعه محاولات اغتيال عثمان, قال كلمته المأثورة:

                      " لئن قتلوه, لا يستخلفون بعده مثله".

                      ويقول بعض أصحاب ابن مسعود:

                      " ما سمعت ابن مسعود يقول في عثمان سبّة قط"..



                      **



                      ولقد آتاه الله الحكمة مثلما أعطاه التقوى.

                      وكان يملك القدرة على رؤية الأعماق, والتعبير عنها في أناقة وسداد..

                      لنستمع له مثلا وهو يلخص حياة عمر العظيمة في تركيزباهر فيقول:

                      " كان اسلامه فتحا.. وكانت هجرته نصرا.. وكانت امارته رحمة..".

                      ويتحدث عما نسميه اليوم نسبية الزمان فيقول:

                      " ان ربكم ليس عنده ليل ولا نهار.. نور السموات والأرض من نور وجهه"..!!

                      ويتحدث عن العمل وأهميته في رفع المستوى الأدبي لصاحبه, فيقول:" اني لأمقت الرجل, اذ أراه فارغا.. ليس في شيء من عمل الدنيا, ولا عمل الآخرة"..

                      ومن كلماته الجامعة:

                      " خير الغنى غنى النفس , وخير الزاد التقوى, وشر العمى عمى القلب, وأعظم الخطايا الكذب, وشرّ المكاسب الربا, وشرّ المأكل مال اليتيم, ومن يعف الله عنه, ومن يغفر الله له"..



                      **



                      هذا هو عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                      وهذه ومضة من حياة عظيمة مستبسلة, عاشها صاحبها في سبيل الله, ورسوله ودينه..

                      هذا هو الرجل الذي كان جسمه في حجم العصفور..!!

                      نحيف, قصير, يكاد الجالس يوازيه طولا وهو قائم..

                      له ساقان ناحلتان دقيقتان.. صعد بهما يوما أعلى شجرة يجتني منها أراكا لرسول اله صلى الله عليه وسلم.. فرأى أصحاب النبي دقتهما فضحكوا, فقال عليه الصلاة والسلام:

                      " تضحكون من ساقيْ ابن مسعود, لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد"..!!

                      أجل هذا هو الفقير الأجير, الناحل الوهنان.. الذي جعل منه ايمانه ويقينه اماما من أئمة الخير والهدى والنور..

                      ولقد حظي من توفيق الله ومن نعمته ما جعله أحد العشرة الأوائل بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.. أولئك الذين بشروا وهم على ظهر الأرض برضوان الله وجنّته..



                      وخاض المعارك الظافرة مع الرسول عليه الصلاة والسلام, مع خلفائه من بعده..

                      وشهد أعظم امبراطوريتين في عالمه وعصره تفتحان أبوابهما طائعة خاشعة لرايات الاسلام ومشيئته..



                      ورأى المناصب تبحث عن شاغليها من المسلمين, والأموال الوفيرة تتدحرج بين أيديهم, فما شغله من ذلك شيء عن العهد الذي عاهد الله عليه ورسوله.. ولا صرفه صارف عن اخباته وتواضعه ومنهج حياته..



                      ولم تكن له من أمانيّ الحياة سوى أمنية واحدة كان يأخذه الحنين اليها فيرددها, ويتغنى بها, ويتمنى لو أنه أدركها..



                      ولنصغ اليه يحدثنا بكلماته عنها:

                      " قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.. فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فأتبعتها أنظر اليها, فاذا رسول الله, وأبوبكر وعمر, واذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات واذا هم قد حفروا له, ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته, وأبو بكر وعمر يدليانه اليه, والرسول يقول: ادنيا اليّ أخاكما.. فدلياه اليه, فلما هيأه للحده قال: اللهم اني أمسيت عنه راضيا فارض عنه.. فيا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة"..!!



                      **



                      تلك أمنيته الوحيد التي كان يرجوها في دنياه.

                      وهي لا تمت بسبب الى ما يتهافت الناس عليه من مجد وثراء, ومنصب وجاه..

                      ذلك أنها أمنية رجل كبير القلب, عظيم النفس, وثيق اليقين.. رجل هداه الله, وربّاه الرسول, وقاده القرآن..!!

                      إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                      نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                      جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                      تعليق


                      • #12
                        حذيفة بن اليمان

                        عدوّ النفاق وصديق الوضوح



                        خرج أهل المدائن أفواجا يستقبلون واليهم الجديد الذي اختاره لهم أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه..

                        خرجوا تسبقهم أشواقهم الى هذا الصحابي الجليل الذي سمعوا الكثير عن ورعه وتقاه.. وسمعوا أكثر عن بلائه العظيم في فتوحات العراق..

                        واذ هم ينتظرون الموكب الوافد, أبصروا أمامهم رجلا مضيئا, يركب حمارا على ظهره اكاف قديم, وقد أسدل الرجل ساقيه, وأمسك بكلتا يديه رغيفا وملحا, وهو يأكل ويمضغ طعامه..!

                        وحين توسط جمعهم, وعرفوا أنه حذيفة بن اليمان الوالي الذي ينتظرون, كاد صوابهم يطير..!!

                        ولكن فيم العجب..؟!

                        وماذا كانوا يتوقعون أن يجيء في اختيار عمر..؟!

                        الحق أنهم معذورون, فما عهدت بلادهم أيام فارس, ولا قبل فارس ولاة من هذا الطراز الجليل.!!



                        **



                        وسار حذيفة, والناس محتشدون حوله, وحافون به..

                        وحين رآهم يحدّقون فيه كأنهم ينتظرون منه حديثا, ألقى على وجوههم نظرة فاحصة ثم قال:

                        " اياكم ومواقف الفتن"..!!

                        قالوا:

                        وما مواقف الفتن يا أبا عبدالله..!!

                        قال:

                        " أبواب الأمراء"..

                        يدخل أحدكم على الوالي أو الأمير, فيصدّقه بالكذب, ويمتدحه بما ليس فيه"..!

                        وكان استهلالا بارعا, بقدر ما هو عجيب..!!

                        واستعاد الانس موفورهم ما سمعوه عن واليهم الجديد, من أنه لا يمقت في الدنيا كلها ولا يحتقر من نقائصها شيئا أكثر مما يمقت النفاق ويحتقره.

                        وكان هذا الاستهلال أصدق تعبير عن شخصية الحاكم الجديد, وعن منهجه في الحكم والولاية..



                        **



                        فـ حذيفة بن اليمان رجل جاء الحياة مزودا بطبيعة فريدة تتسم ببغض النفاق, وبالقدرة الخارقة على رؤيته في مكامنه البعيدة.

                        ومنذ جاء هو وأخوه صفوان في صحبة أبيهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتنق ثلاثتهم الاسلام, والاسلام يزيد موهبته هذه مضاء وصقلا..

                        فلقد عانق دينا قويا, نظيفا, شجاعا قويما.. يحتقر الجبن والنفاق, والكذب...

                        وتأدّب على يدي رسول الله واضح كفلق الصبح, لا تخفى عليهم من حياته, ولا من أعماق نفسه خافية.. صادق وأمين..يحب الأقوياء في الحق, ويمقت الملتوين والمرائين والمخادعين..!!



                        فلم يكن ثمة مجال ترعرع فيه موهبة حذيفة وتزدهر مثل هذا المجال, في رحاب هذا الدين, وبين يدي هذا الرسول, ووسط هذا الرّعيل العظيم من الأصحاب..!!

                        ولقد نمت موهبته فعلا أعظم نماء.. وتخصص في قراءة الوجوه والسرائر.. يقرأ الوجوه في نظرة.. ويبلو كنه الأعماق المستترة, والدخائل المخبوءة. في غير عناء..

                        ولقد بلغ من ذلك ما يريد, حتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه, وهو الملهم الفطن الأريب, يستدل برأي حذيفة, وببصيرته في اختيار الرجال ومعرفتهم.

                        ولقد أوتي حذيفة من الحصافة ما جعله يدرك أن الخير في هذه الحياة واضح لمن يريده.. وانما الشر هو الذي يتنكر ويتخفى, ومن ثم يجب على الأريب أن يعنى بدراسة الشر في مآتيه, ومظانه..

                        وهكذا عكف حذيفة رضي الله عنه على دراسة الشر والأشرار, والنفاق والمؤمنين..

                        يقول:

                        " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير, وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني..

                        قلت: يا رسول الله فهل بعد هذا الخير من شر؟

                        قال: نعم..

                        قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟

                        قال: نعم, وفيه دخن..

                        قلت: وما دخنه..؟

                        قال: قوم يستنون بغير سنتي.. ويهتدون يغير هديي, وتعرف منهم وتنكر..

                        قلت: وهل بعد ذلك الخير من شر..؟

                        قال: نعم! دعاة على أبواب جهنم, من أجابهم اليها قذفوه فيها..

                        قلت: يا رسول الله, فما تأمرني ان أدركني ذلك..؟

                        قال: تلزم جماعة المسلمين وامامهم..

                        قلت: فان لم يكن لهم جماعة ولا امام..؟؟

                        قال: تعتزل تلك الفرق كلها, ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"..!!

                        أرأيتم قوله:" كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير, وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"..؟؟



                        لقد عاش حذيفة بن اليمان مفتوح البصر والبصيرة على مآتي الفتن, مسالك الشرور ليتقها, وليحذر الناس منها. ولقد أفاء عليه هذا بصرا بالدنيا, وخبرة بالانس, ومعرفة بالزمن.. وكان يدير المسائل في فكره وعقله بأسلوب فيلسوف, وحصافة حكيم...



                        ويقول رضي الله عنه:

                        " ان الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم, فدعا الانس من الضلالة الى الهدى, ومن الكفر الى الايمان, فاستجاب له من استجاب, فحيي بالحق من كان ميتا...

                        ومات بالباطل من كان حيا..

                        ثم ذهبت النبوة وجاءت الخلافة على مناهجها..

                        ثم يكون ملكا عضوضا..!!

                        فمن الانس من ينكر بقلبه, ويده ولسانه.. أولئك استجابوا للحق..

                        ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه, كافا يده, فهذا ترك شعبة من الحق..

                        ومنهم من ينكر بقلبه, كافا يده ولسانه, فهذا ترك شعبتين من الحق..

                        ومنهم من لا ينكر بقلبه ولا بيده ولا بلسانه, فذلك ميّت الأحياء"...!



                        ويتحدّث عن القلوب وعن حياة الهدى والضلال فيها فيقول:

                        " القلوب أربعة:

                        قلب أغلف, فذلك قلب الكافر..

                        وقلب مصفح, فذلك قلب المنافق..

                        وقلب أجرد, فيه سراج يزهر, فذلك قلب المؤمن..

                        وقلب فيه نفاق وايمان, فمثل الايمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب.. ومثل النفاق كقرحة يمدّها قيح ودم: فأيهما غلب, غلب"...!!



                        وخبرة حذيفة بالشر, واصراره على مقاومته وتحدّيه, أكسبا لسانه وكلماته شيئا من الحدّة, وينبأ هو بهذا في شجاعة نبيلة:

                        فيقول:

                        " جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله, ان لي لسانا ذربا على أهلي, وأخشى أن يدخلني النار..

                        فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام: فأين أنت من الاستغفار..؟؟ اني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة"...



                        **



                        هذا هو حذيفة عدو النفاق, صديق الوضوح..

                        ورجل من هذا الطراز, لا يكون ايمانه الا وثيقا.. ولا يكون ولاؤه الا عميقا.. وكذلكم كان حذيفة في ايمانه وولائه..

                        لقد رأى أباه المسلم يصرع يوم أحد..وبأيد مسلمة, قتلته خطأ وهي تحسبه واحدا من المشريكن..!!

                        وكان حذيفة يتلفت مصادفة, فرأى السيوف تنوشه, فصاح في ضاربيه: أبي... أبي.. انه أبي..!!

                        لكن القضاء كان قد حم..

                        وحين عرف المسلمون, تولاهم الحزن والوجوم.. لكنه نظر اليهم نظرة اشفاق ومغفرة, وقال:

                        " يغفر الله لكم, وهو أرحم الراحمين"..

                        ثم انطلق بسيفه صوب المعركة المشبوبة يبلي فيها بلاءه, ويؤدي واجبه..

                        وتنتهي المعركة, ويبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر بالدية عن والد حذيفة "حسيل بن جابر" رضي الله عنه, ويتصدّق بها على المسلمين, فيزداد الرسول حبا له وتقديرا...



                        **



                        وايمان حذيفة وولاؤه, لا يعترفان

                        بالعجز, ولا بالضعف..بل ولا بالمستحيل....

                        في غزوة الخندق..وبعد أن دبّ الفشل في صفوف كفار قريش وحلفائهم من اليهود, أراد رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يقف على آخر تطوّرات الموقف هناك في معسكر أعدائه.



                        كان الليل مظلما ورهيبا.. وكانت العواصف تزأر وتصطخب, كأنما تريد أن تقتلع جبال الصحراء الراسيات من مكانها.. وكان الموقف كله بما فيه من حصار وعناد واصرار يبعث على الخوف والجزع, وكان الجوع المضني قد بلغ مبلغا وعرا بين اصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم..

                        فمن يملك آنئذ القوة,وأي قوة ليذهب وسط مخاطر حالكة الى معسكر الأعداء ويقتحمه, أو يتسلل داخله ثم يبلوا أمرهم ويعرف أخبارهم..؟؟

                        ان الرسول هو الذي سيختار من أصحابه من يقوم بهذه المهمة البالغة العسر..

                        ترى من يكون البطل..؟

                        انه هو..حذيفة بن اليمان..!

                        دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فلبى, ومن صدقه العظيم يخبرنا وهو يروي النبأ أنه لم يكن يملك الا أن يلبي.. مشيرا بهذا الى أنه كان يرهب المهمة الموكولة اليه, ويخشى عواقبها, والقيام بها تحت وطأة الجوع, والصقيع, والاعياء الجديد الذي خلفهم فيه حصار المشركين شهرا أو يزيد..!

                        وكان أمر حذيفة تلك الليلة عجيبا...

                        فقد قطع المسافة بين المعسكرين, واخترق الحصار.. وتسلل الى معسكر قريش, وكانت الريح العاتية قد أطفأت نيران المعسكر, فخيّم عليه الظلام,واتخذ حذيفة رضي الله عنه مكانه وسط صفوف المحاربين...

                        وخشي أبوسفيان قائد قريش, أن يفجأهم الظلام بمتسللين من المسلمين, فقام يحذر جيشه, وسمعه حذيفة يقول بصوته المرتفع:

                        " يا معشر قريش, لينظر كل منكم جليسه, وليأخذ بيده, وليعرف اسمه".

                        يقول حذيفة"

                        " فسارعت الى يد الرجل الذي بجواري, وقلت له من أنت..؟ قال: فلان بن فلان؟"...

                        وهكذا أمّن وجوده بين الجيش في سلام..!

                        واستأنف أبو سفيان نداءه الى الجيش قائلا:" يا معشر قريش.. انكم والله ما أصبحتم بدار مقام.. لقد هلكت الكراع _ أي الخيل_ والخف_ أي الابل_, وأخلفتنا بنو قريظة, وبلغنا عنهم الذي نكره, ولقينا من شدّة الريح, ما تطمئن لنا قدر, ولا تقوم لنا نار, ولا يستمسك لنا بناء, فارتحلوا فاني مرتحل"..

                        ثم نهض فوق جمله, وبدأ المسير فتبعه المحاربون..

                        يقول حذيفة:

                        " لولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليّ ألا تحدث شيئا حتى تأتيني, لقتلته بسهم"..

                        وعاد حذيفة الى الرسول عليه الصلاة والسلام فأخبره الخبر, وزف البشرى اليه...



                        **



                        ومع هذا فان حذيفة يخلف في هذا المجال كل الظنون..

                        ورجل الصومعة العابد, المتأمل لا يكاد يحمل سيفه ويقابل جيوش الوثنية والضلال حتى يكشف لنا عن عبقرية تبهر الأبصار..

                        وحسبنا أن نعلم, أنه كان ثالث ثلاثة, أو خامس خمسة كانوا أصحاب السبق العظيم في فتوح العراق جميعها..!



                        وفي همدان والري والدينور تم الفتح على يديه..

                        وفي معركة نهاوند العظمى, حيث احتشد الفرس في مائة ألف مقاتل وخمسين الفا.. اختار عمر لقيادة الجيوش المسلمة النعمان بن مقرّن ثم كتب الى حذيفة أن يسير اليه على رأس جيش من الكوفة..

                        وأرسل عمر الى المقاتلين كتابه يقول:

                        " اذا اجتمع المسلمون فليكن على كل أمير جيشه.. وليكن أمير الجيوش جميعها النعمان بن مقرّن..

                        فاذا استشهد النعمان, فليأخذ الراية حذيفة, فاذا استشهد فجرير بن عبدالله..

                        وهكذا مضى أمير المؤمنين يختار قوّاد المعركة حتى سمّى منهم سبع...

                        والتقى الجيشان..

                        الفرس في مائة ألف وخمسين ألفا..

                        والمسلمون في ثلاثين ألفا لاغير...

                        وينشب قتال يفوق كل تصور ونظير ودارت معركة من أشد معارك التاريخ فدائية وعنفا..

                        وسقط قائد المسلمين قتيلا, سقط النعمان بن مقرّن, وقبل أن تهوي الراية المسلمة الى الأرض كان القائد الجديد قد تسلمها بيمينه, وساق بها رياح النصر في عنفوان لجب واستبسال عظيم... ولم يكن هذا القائد سوى حذيفة بن اليمان...

                        حمل الراية من فوره, وأوصى بألا ندع نبأ موت النعمان حتى تنجلي المعركة.. ودعا نعيم بن مقرن فجعله مكان أخيه النعمان تكريما له..

                        أنجزت المهمة في لحظات والقتال يدور, بديهيته المشرقة.. ثم انثنى كالاعصار المدمدم على صفوف الفرس صائحا:

                        " الله أكبر صدق وعده!!

                        الله أكبر نصر جنده!!"

                        ثم لوى زمام فرسه صوب المقاتلين في جيوشه ونادى: يا أتباع محمد.. هاهي ذي جنان الله تتهيأ لاستقبالكم فلا تطيلوا عليها الانتظار..

                        هيا يا رجال بدر..

                        تقدموا يا ابطال الخندق وأحد وتبوك..

                        لقد احتفظ حذيفة بكل حماسة المعركة وأشواقها, ان لم يكن قد زاد منها وفيها..

                        وانتهى القتال بهزيمة ساحقة للفرس.. هزيمة لا نكاد نجد لها نظيرا..!!



                        **



                        هذا العبقري في حمته, حين تضمّه صومعته..

                        والعبقري في فدائيته, حين يقف فوق أرض القتال..

                        هو كذلك العبقري في كل مهمة توكل اليه, ومشورة تطلب منه.. فحين انتقل سعد بن أبي وقاص والمسلمون معه من المدائن الى الكوفة واستوطنوها..

                        وذلك بعد أن أنزل مناخ المدائن بالعرب المسلمين أذى بليغا.

                        مما جعل عمر يكتب الى سعد كي يغادرها فورا بعد أن يبحث عن أكثر البقاع ملاءمة, فينتقل بالمسلمين اليها..

                        يومئذ من الذي وكل اليه أمر اختيار البقعة والمكان..؟

                        انه حذيفة بن اليمان.. ذهب ومعه سلمان بن زياد, يرتادان للمسلمين المكان الملائم..

                        فلما بلغا أرض الكوفة, وكانت حصباء جرداء مرملة. شمّ حذيفة عليها أنسام العافية, فقال لصاحبه: هنا المنزل ان شاء الله..

                        وهكذا خططت الكوفة وأحالتها يد التعمير الى مدينة عامرة...

                        وما كاد المسلمون ينتقلون اليها, حتى شفي سقيمهم. وقوي ضعيفهم. ونبضت بالعافية عروقهم..!!

                        لقد كان حذيفة واسع الذكاء, متنوع الخبرة, وكان يقول للمسلمين دائما:

                        " ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة.. ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا.. ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه"...



                        **



                        وذات يوم من أيام العام الهجري السادس والثلاثين..دعي للقاء الله.. واذ هو يتهيأ للرحلة الأخيرة دخل عليه بعض أصحابه, فسألهم:

                        أجئتم معكم بأكفان..؟؟

                        قالوا: نعم..

                        قال: أرونيها..

                        فلما رآها, وجدها جديدة فارهة..

                        فارتسمت على شفتيه آخر بسماته الساخرة, وقال لهم:

                        " ما هذا لي بكفن.. انما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص..

                        فاني لن أترك في القبر الا قليلا, حتى أبدّل خيرا منهما... أو شرّ منهما"..!!

                        وتمتم بكلمات, ألقى الجالسون أسماعهم فسمعوها:

                        " مرحبا بالموت..

                        حبيب جاء على شوق..

                        لا أفلح من ندم"..

                        وصعدت الى الله روح من أعظم أرواح البشر, ومن أكثرها تقى, وتآلقا, واخباتا...

                        إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                        نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                        جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                        تعليق


                        • #13
                          عمّار بن ياسر

                          رجل من الجنة..!!



                          لو كان هناك أناس يولدون في الجنة, ثم يشيبون في رحابها ويكبرون..

                          ثم يجاء بهم الى الارض ليكون زينة لها, ونورا, لكان عمّار, وأمه سميّة, وأبوه ياسر من هؤلاء..!!

                          ولكن لماذا نقول: لو.. لماذا نفترض هذا الافتراض, وقد كان آل ياسر فعلا من أهل الجنة..؟؟

                          وما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مواسيا لهم فحسب حين قال:

                          " صبرا آل ياسر ان موعدكم الجنة"..

                          بل كان يقرر حقيقة يعرفها ويؤكد واقعا يبصره ويراه..



                          **



                          خرج ياسر والد عمّار, من بلده في اليمن يطلب أخا له, ويبحث عنه..

                          وفي مكة طاب له المقام, فاستوطنها محالفا أبا حذيفة بن المغيرة..

                          وزوّجه أبو حذيفة احدى امائه سميّة بنت خياط..

                          ومن هذا الزواج المبارك رزق الله الأبوين عمارا..

                          وكان اسلامهم مبكرا.. شأن الأبرار الذين هداهم الله..

                          وشأن الأبرار المبكّرين أيضا, أخذوا نصيبهم الأوفى من عذاب قريش وأهوالها..!!

                          ولقد كانت قريش تتربّص بالمؤمنين الدوائر..

                          فان كانوا ممن لهم في قومهم شرف ومنعة, تولوهم بالوعيد والتهديد, ويلقى أبو جهل المؤمن منهم فيقول له:" تركت دين آبائك وهم خير منك.. لنسفّهنّ حلمك, ولنضعنّ شرفك, ولنكسدنّ تجارتك, ولنهلكنّ مالك" ثم يشنون عليه حرب عصبية حامية.

                          وان كان المؤمن من ضعفاء مكة وفقرائها, أو عبيدها, أصلتهم سعيرا.

                          ولقد كان آل ياسر من هذا الفريق..

                          ووكل أمر تعذيبهم الى بني مخزوم, يخرجون بهم جميعا.. ياسر, سمية وعمار كل يوم الى رمضاء مكة الملتهبة, ويصبّون عليهم جحيم العذاب ألوانا وفنونا!!



                          ولقد كان نصيب سمية من ذلك العذاب فادحا رهيبا. ولن نفيض في الحديث عنها الآن.. فلنا ان شاء الله مع جلال تضحيتها, وعظمة ثباتها لقاء نتحدث عنها وعن نظيراتها وأخواتها في تلك الأيام الخالدات..

                          وليكن حسبنا الآن أن نذكر في غير مبالغة أن سمية الشهيدة وقفت يوم ذاك موقفا يمنح البشرية كلها من أولها الى آخرها شرفا لا ينفد, وكرامة لا ينصل بهاؤها..!

                          موقفا جعل منها أمّا عظيمة للمؤمنين في كل العصور.. وللشرفاء في كل الأزمان..!!



                          **



                          كان الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج الى حيث علم أن آل ياسر يعذبون..

                          ولم يكن حينذاك يملك من أسباب المقاومة ودفع الأذى شيئا..

                          وكانت تلك مشيئة الله..

                          فالدين الجديد, ملة ابراهيم حنيفا, الدين الذي يرفع محمد لواءه ليس حركة اصلاح عارضة عابرة.. وانما هو نهج حياة للبشرية المؤمنة.. ولا بد للبشربة المؤمنة هذه أن ترث مع الدين تاريخه بكل بطولاته, وتضحياته ومخاطراته...

                          ان هذه التضحيات النبيلة الهائلة, هي الخرسانة التي تهب الدبن والعقيدة ثباتا لا يزول, وخلودا لا يبلى..!!!



                          انها العبير يملأ أفئدة المؤمنين ولاء, وغبطة وحبورا.

                          وانها المنار الذي يهدي الأجيال الوافدة الى حقيقة الدين, وصدقه وعظمته..

                          وهكذا لم يكن هناك بد من أن يكون للاسلام تضحياته وضحاياه, ولقد أضاء القرآن الكريم هذا المعنى للمسلمين في أكثر من آية...

                          فهو يقول:

                          (أحسب الناس أن يتركوا, أن يقولوا آمنّا, وهم لا يفتنون)؟!



                          (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة, ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم, ويعلم الصابرين)؟



                          (ولقد فتنّا الذين من قبلهم, فليعلمنّ الله الذين صدقوا, وليعلمنّ الكاذبين).



                          (أم حسبتم أن تتركوا, ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم..)



                          (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيّب)..



                          (وما أصابكم يوم التقى الجمعان, فباذن الله, وليعلم المؤمنين).



                          أجل هكذا علم القرآن حملته وأبناءه, أن التضحية جوهر الايمان, وأن مقاومة التحديّات الغاشمة الظالمة بالثبات وبالصبر وبالاصرار.. انما تشكّل أبهى فضائل الايمان وأروعها..

                          ومن ثمّ فان دين الله هذا وهو يضع قواعده, ويرسي دعائمه, ويعطي مثله, لا بد له أن يدعم وجوده بالتضحية, ويزكّي نفسه بالفداء, مختارا لهذه المهمة الجليلة نفرا من أبنائه وأوليائه وأبراره يكنون قدوة سامقة ومثلا عاليا للمؤمنين القادمين.

                          ولقد كانت سميّة.. وكان ياسر.. وكان عمّار من هذه الثلة المباركة العظيمة التي اختارتها مقادير الاسلام لتصوغ من تضحياتها وثباتها واصراراها وثيقة عظمته وخلوده..



                          **



                          قلنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج كل يوم الى أسرة ياسر, محيّيا صمودها, وبطولتها.. وكان قلبه الكبير يذوب رحمة وحنانا لمشهدهم وهم يتلقون العذاب ما لا طاقة لهم به.

                          وذات يوم وهو يعودهم ناداه عمّار:

                          " يا رسول الله.. لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ"..

                          فنا داه الرسول: صبرا أبا اليقظان..

                          صبرا آل ياسر..

                          فان موعدكم الجنة"..

                          ولقد وصف أصحاب عمّار العذاب الذي نزل به في أحاديث كثيرة.

                          فيقول عمرو بن الحكم:

                          " كان عمّار يعذب حتى لا يدري ما يقول".

                          ويقول عمرو بن ميمون:

                          " أحرق المشركون عمّار بن ياسر بالنار, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به, ويمر يده على رأسه ويقول: يا نار كوني بردا وسلاما على عمّار, كما كنت بردا وسلاما على ابراهيم"..

                          على أن ذلك الهول كله لم يكن ليفدح روح عمار, وان فدح ظهره ودغدغ قواه..

                          ولم يشعر عمار بالهلاك حقا, الا في ذلك اليوم الذي استنجد فيه جلادوه بكل عبقريتهم في الجريمة والبغي.. فمن الكي بالنار, الى صلبه على الرمضاء المستعرة تحت الحجارة الملتهبة.. الى غطّه في الماء حتى تختنق أنفسه, وتتسلخ قروحه وجروحه..

                          في ذلك اليوم اذ فقد وعيه تحت وطأة هذا العول فقالوا له: أذكر آلهتنا بخير, وأخذوا يقولون له, وهو يردد وراءهم القول في غير شعور.

                          في ذلك اليوم, وبعد أن أفاق قليلا من غيبوبة تعذيبه, تذكّر ما قاله فطار صوابه, وتجسمت هذه الهفوة أمام نفسه حتى رآها خطيئة لا مغفرة لها ولا كفارة.. وفي لحظات معدودات, أوقع به الشعور بالاثم من العذاب ما أضحى عذاب المشركين تجاهه بلسما ونعيما..!!



                          ولو ترك عمّار لمشاعره تلك بضع ساعات لقضت عليه لا محالة..

                          لقد كان يحتمل الهول المنصّب على جسده, لأن روحه هناك شامخة.. أما الآن وهو يظن أن الهزيمة أدركت روحه فقد أشرفت به همومه وجزعه على الموت والهلاك..

                          لكن الله العليّ القدير أراد للمشهد المثير أن يبلغ جلال ختامه..

                          وبسط الوحي يمينه المباركة مصافحا بها عمّارا, وهاتفا به: انهض أيها البطل.. لا تثريب عليك ولا حرج..

                          ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه فألفاه يبكي, فجعل يمسح دموعه بيده, ويقول له:

                          " أخذك الكفار, فغطوك في الماء, فقلت كذا.. وكذا..؟؟"

                          أجاب عمّار وهو ينتحب: نعم يا رسول الله...

                          فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم:" ان عادوا, فقل لهم مثل قولك هذا"..!!

                          ثم تلا عليه الآية الكريمة:

                          ( الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان)..

                          واستردّ عمّار سكينة نفسه, ولم يعد يجد للعذاب المنقض على جسده ألما, ولم يعد يلقي له وبالا..

                          لقد ربح روحه, وربح ايمانه.. ولقد ضمن القرآن له هذه الصفقة المباركة, فليكن بعدئذ ما يكون..!!

                          وصمد عمّار حتى حل الاعياء بجلاديه, وارتدّوا أمام اصراره صاغرين..!!



                          **



                          استقرّ المسلمون بالمدينة بعد هجرة رسولهم اليها, وأخذ المجتمع الاسلامي هناك يتشكّل سريعا, ويستكمل نفسه..

                          ووسط هذه الجماعة المسلمة المؤمنة,أخذ عمار مكانه عليّا..!!

                          كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حبا جمّا, ويباهي أصحابه بايمانه وهديه..

                          يقول عنه صلى الله عليه وسلم/

                          : ان عمّارا ملئ ايمانا الى مشاشه".



                          وحين وقع سوء تفاهم بين عمار وخالد بن الوليد, قال رسول الله:" من عادى عمارا, عاداه الله, ومن أبغض عمارا أبغضه الله"

                          ولم يكن أمام خالد بن الوليد بطل الاسلام الا أن يسارع الى عمار معتذرا اليه, وطامعا في صفحه الجميل..!!

                          وحين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد بالمدينة اثر نزولهم بها, ارتجز الامام علي كرّم الله وجهه أنشودة راح يرددها ويرددها المسلمون معه, فيقولون:

                          لا يستوي من يعمر المساجدا

                          يدأب فيها قائما وقاعدا

                          ومن يرى عن الغبار حائدا



                          وكان عمار يعمل من ناحية المسجد فأخذ يردد الأنشودة ويرفع بها صوته.. وظن أحد أصحابه أن عمارا يعرض به, فغاضبه ببعض القول فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم قال:

                          " ما لهم ولعمّار..؟

                          يدعوهم الى الجنة, ويدعونه الى النار..

                          ان عمّارا جلدة ما بين عينيّ وأنفي"...



                          واذا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما الى هذا الحد, فلا بد أن يكون ايمانه, وبلاؤه, وولاؤه, وعظمة نفسه, واستقامة ضميره ونهجه.. قد بلغت المدى, وانتهت الى ذروة الكمال الميسور..!!

                          وكذلكم كان عمار..

                          لقد كال الله له نعمته وهداه بالمكيال الأوفى, وبلغ في درجات الهدى واليقين ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يزكّي ايمانه, ويرفعه بين أصحابه قدوة ومثلا فيقول:

                          " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر... واهتدوا بهدي عمّار"..

                          ولقد وصفه الرواة فقالوا:

                          " كان طوّالا, أشهل, رحب ما بين المنكبين.. من أطول الناس سكوتا, وأقلهم كلاما"..

                          فكيف سارت حياة هذا العملاق, الصامت الأشهل, العريض الصدر, الذي يحمل جسده آثار تعذيبه المروّع, كما يحمل في نفس الوقت وثيقة صموده الهائل, والمذهل وعظمته الخارقة..؟!

                          كيف سارت حياة هذا الحواري المخلص, والمؤمن الصادق, والفدائي الباهر..؟؟

                          لقد شهد مع معلّمه ورسوله جميع المشاهد.. بدرا, وأحدا, والخندق وتبوك.. ويقيّتها جميعا.

                          ولما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى, واصل العملاق زحفه..

                          ففي لقاء المسلمين مع الفرس, ومع الروم, ومن قبل ذلك في لقائهم مع جيوش الردّة الجراّرة كان عمّار هناك في الصفوف الأولى دوما.. جنديا باسلا أمينا, لا تنبو لسيفه ضربة.. ومؤمنا ورعا جليلا, لا تأخذه عن الله رغبة..

                          وحين كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يختار ولاة المسلمين في دقة وتحفّظ من يختار مصيره, كانت عيناه تقعان دوما في ثقة أكيدة على عمّار بن ياسر"..

                          وهكذا سارع اليه وولاه الكوفة, وجعل ابن مسعود معه على بيت المال..

                          وكتب الى أهلها كتابا يبشرهم فيه بواليهم الجديد, فقال:

                          " اني بعثت اليكم عمّار بن ياسر أميرا.. وابن مسعود معلما ووزيرا..

                          وانهما من النجباء, من أصحاب محمد, ومن أهل بدر"..



                          ولقد سار عمّار في ولايته سيرا شق على الطامعين في الدنيا تحمّله حتى تألبوا عليه أو كادوا..

                          لقد زادته الولاية تواضعا وورعا وزهدا..

                          يقول ابن أبي الهذيل, وهو من معاصريه في الكوفة:

                          " رأيت عمّار بن ياسر وهو أمير الكوفة يشتري من قثائها, ثم يربطها بحبل ويحملها فوق ظهره, ويمضي بها الى داره"..!!



                          ويقول له واحد من العامّة وهو امير الكوفة:" يا أجدع الأذن يعيّره بأذنه التي قطعت بسيوف المرتدين في حرب اليمامة.. فلا يزيد الأمير الذي بيده السلطة على أن يقول لشاتمه:

                          " خير أذنيّ سببت.. لقد أصيبت في سبيل الله"..!!

                          أجل لقد أصيب في سبيل الله في يوم اليمامة, وكان يوما من أيام عمّار المجيدة.. اذا انطلق العملاق في استبسال عاصف يحصد في جيش مسيلمة الكذاب, ويهدي اليه المنايا والدمار..

                          واذا يرى في المسلمين فتورا يرسل بين صفوفهم صياحه المزلزل, فيندفعون كالسهام المقذوفة.

                          يقول عبدالله بن عمر رضي الله عنهما:

                          " رايت عمّار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة, وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين.. أمن الجنة تفرّون..؟ أنا عمّار بن ياسر, هلموا اليّ.. فنظرت اليه, فاذا أذنه مقطوعة تتأرجح, وهو يقاتل أشد القتال"..!!!



                          ألا من كان في شك من عظمة محمد الرسول الصادق, والمعلم الكامل, فليقف أمام هذه النماذج من أتباعه وأصحابه, وليسأل نفسه: هل يقدر على انجاب هذا الطراز الرفيع سوى رسول كريم, ومعلم عظيم؟؟



                          اذا خاضوا في سبيل الله قتالا اندفعوا اندفاع من يبحث عن المنيّة, لا عن النصر..!!

                          واذا كانوا خلفاء وحكّاما, ذهب الخليفة يحلب شياه الأيامى, ويعجن خبز اليتامى.. كما فعل أبو بكر وعمر..!!

                          واذا كانوا ولاة حملوا طعامم على ظهورهم مربوطا بحبل.. كما فعل عمّار.. أو تنازلوا عن راتبهم وجلسوا يصنعون من الخوص المجدول أوعية ومكايل, كما صنع سلمان..!!

                          ألا فلنحن الجباه تحيّة واجلالا للدين الذي أنجبهم, وللرسول الذي ربّاهم.. وقبل الدين والرسول, الله العليّ الكبير الذي اجتباهم لهذا كله..

                          وهداهم لهذا كله.. وجعلهم روّادا لخير أمة أخرجت للناس..!!



                          **



                          كان الحذيفة بن اليمان, الخبير بلغة السرائر والقلوب يتهيأ للقاء الله, ويعالج سكرات الموت حين سأله أصحابه الحافون حوله قائلين له" بمن تأمرنا, اذا اختلف الناس"..؟

                          فأجابهم حذيفة, وهو يلقي بآخر كلماته:

                          " عليكم بابن سميّة.. فانه لن يفارق الحق حتى يموت"..

                          أجل ان عمارا ليدور مع الحق حيث يدور.. والآن نحن نقفو آثاره المباركة, ونتتبع معالم حياته العظيمة, تعلوْا نقترب من مشهد عظيم..

                          ولكن قبل أن نواجه هذا المشهد في روعته وجلاله, في صولته وكماله, في تفانيه واصراره, في تفوقه واقتداره, تعالْوا نبصر مشهدا يسبق هذا المشهد, ويتنبأ به, ويهيئ له...



                          كان ذلك اثر استقرار المسلمين في المدينة, وقد نهض الرسول الأمين وحوله الصحابة الأبرار, شعثا لربهم وغبرا, يبنون بيته, ويقيمون مسجده.. قد امتلأت أفئدتهم المؤمنة غبطة, وتألقت بشرا, وابتهلت حمدا لربها وشكرا..

                          الجميع يعملون في خبور وأمل.. يحملون الحجارة, أو يعجنون الملاط.. أو يقيمون البناء..

                          فوج هنا وفوج هناك..

                          والأفق السعيد يردد تغريدهم الذي يرفعون به أصواتهم المحبورة:

                          لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل

                          هكذا يغنون وينشدون..

                          ثم تتعالى أصواتهم الصادحة بتغريدة أخرى:

                          اللهم ان العيش عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة

                          وتغريدة ثالثة:

                          لا يستوي من يعمّر مسجدا

                          يدأب فيها قائما وقاعدا

                          ومن يرى الغبار عنه حائدا



                          انها خلايا لله تعمل.. انهم جنوده, يحملون لواءه, ويرفعون بناءه..

                          ورسوله الطيّب الأمين معهم, يحمل من الحجارة أعتاها, ويمارس من العمل أشقه.. وأصواتهم المغرّدة تحكي غبطة أنفسهم الراضية المخبتة..

                          والسماء من فوقهم تغبط الأرض التي تحملهم فوق ظهرها.. والحياة المتهللة تشهد أبهى أعيادها..!!

                          وعمار بن ياسر هناك وسط المهرجان الحافل يحمل الحجارة الثقيلة من منحتها الى مستقرّها...



                          ويبصره الرحمة المهداة محمد رسول الله, فيأخذه اليه حنان عظيم, ويقترب منه وينفض بيده البارّة الغبار الذي كسى رأسه, ويتأمّل وجهه الوديع المؤمن بنظرات ملؤها نور الله, ثم يقول على ملأ من أصحابه جميعا:

                          " ويح ابن سميّة..!! تقتله الفئة الباغية"...



                          وتتكرر النبوءة مرّة أخرى حين يسقط جدار كان يعمل تحته, فيظن بعض اخوانه أنه قد مات, فيذهب ينعاه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويفزّع الأصحاب من وقع النبأ.. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في طمأنينة وثقة:

                          " ما مات عمّار تقتله الفئة الباغية"..

                          فمن تكون هذه الفئة يا ترى..؟؟

                          ومتى..؟ وأي..؟

                          لقد أصغى عمّار للنبوءة اصغاء من يعرف صدق البصيرة التي يحملها رسوله العظيم..

                          ولكنه لم يروّع.. فهو منذ أسلم, وهو مرشّح للموت والشهادة في كل لحظة من ليل أو نهار...

                          ومضت الأيام.. والأعوام..

                          ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى.. ثم لحق به الى رضوان الله أبو بكر.. ثم لحق بهما الى رضوان الله عمر..

                          وولي الخلافة ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه..

                          وكانت المؤمرات ضدّ الاسلام تعمل عملها االمستميت, وتحاول أن تربح بالغدر واثارة الفتن ما خسرته في الحرب..

                          وكان مقتل عمر أول نجاح أحرزته هذه المؤامرات التي أخذت تهبّ على المدينة كريح السموم من تلك البلاد التي دمّر الاسلام ملكها وعروشها..

                          وأغراها استشهاد عمر على مواصلة مساعيها, فألّبت الفتن وأيقظتها في معظم بلاد الاسلام..

                          ولعل عثمان رضي الله عنه, لم يعط الأمور ما تستحقه من الاهتمام والحذر, فوقعت الواقعة واستشهد عثمان رضي الله عنه, وانفتحت على المسلمين أبواب الفتنة.. وقام معاوية ينازع الخليفة الجديد عليّا كرّم الله وجهه حقه في الأمر, وفي الخلافة...



                          وتعددت اتجاهات الصحابة.. فمنهم من نفض يديه من الخلاف وأوى الى بيته, جاعلا شعاره كلمة ابن عمر:

                          " من قال حيّ على الصلاة أجبته...

                          ومن قال حيّ على الفلاح أجبته..

                          ومن قال حيّ على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله, قلات: لا؟..

                          ومنهم من انحاز الى معاوية..

                          ومنهم من وقف الى جوار عليّ صاحب البيعة, وخليفة المسلمين..

                          ترى أين يقف اليوم عمّار؟؟

                          أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:

                          " واهتدوا بهدي عمّار"..؟

                          أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:

                          " من عادى عمّارا عاداه الله"..؟

                          والذي كان اذا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته يقترب من منزله قال:

                          " مرحبا بالطيّب المقدام, ائذنوا له"..!!



                          لقد وقف الى جوار عليّ ابن أبي طالب, لا متحيّزا ولا متعصبا, بل مذعنا للحق, وحافظا للعهد..

                          فعليّ خليفة المسلمين, وصاحب البيعة بالامامة.. ولقد أخذ الخلافة وهو لها أهل وبها جدير..

                          وعليّ قبل هذا وبعد هذا, صاحب المزايا التي جعلت منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كمنزلة هارون من موسى..

                          ان عمارا الذي يدور مع الحق حيث دار, ليهتدي بنور بصيرته واخلاصه الى صاحب الحق الأوحد في النزاع.. ولم يكن صاحب الحق يومئذ في يقينه سوى عليّ, فأخذ مكانه الى جواره..

                          وفرح علي رضي الله عنه بنصرته فرحا لعله لم يفرح يومئذ مثله وازداد ايمانا بأنه على الحق ما دام رجل الحق العظيم عمّار قد أقبل عليه وسار معه..

                          وجاء يوم صفين الرهيب.

                          وخرج الامام علي يواجه العمل الخطير الذي اعتبره تمرّدا يحمل هو مسؤولية قمعه.

                          وخرج معه عمار..

                          كان عمار قد بلغ من العمر يومئذ ثلاثة وتسعين..

                          ثلاث وتسعون عاما ويخرج للقتال..؟

                          أجل ما دام يعتقد أن القتال مسؤليته وواجبه.. ولقد قاتل أشدّ وأروع مما يقاتل أبناء الثلاثين...!!

                          كان الرجل الدائم الصمت, القليل الكلام, لا يكاد يحرّك شفتيه حين يحرّكهما الا بهذه الضراعة:

                          " عائذ بالله من فتنة...

                          عائذ بالله من فتنة..".

                          وبعيد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ظلت هذه الكلمات ابتهاله الدائم..

                          وكلما كانت الأيام تمر, كان هو يكثر من لهجه وتعوّذه.. كأنما كان قلبه الصافي يحسّ الخطر الداهم كلما اقتربت أيامه..

                          وحين وقع الخطر ونشبت الفتنة, كان ابن سميّة. يعرف مكانه فوقف يوم صفين حاملا سيفه وهو ابن الثالثة والتسعين كما قلنا ليناصر به حقا من يؤمن بوجوب مناصرته..

                          ولقد أعلن وجهة نظره في هذا القتال قائلا:



                          " ايها الناس:

                          سيروا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يثأرون لعثمان, ووالله ما قصدهم الأخذ بثأره, ولكنهم ذاقوا الدنيا, واستمرءوها, وعلموا أن الحق يحول بينهم وبين ما يتمرّغون فيه من شهواتهم ودنياهم..

                          وما كان لهؤلاء سابقة في الاسلام يستحقون بها طاعة المسلمين لهم, ولا الولاية عليهم, ولا عرفت قلوبهم من خشية الله ما يحملهم على اتباع الحق...

                          وانهم ليخادعون الناس بزعمهم أنهم يثأرون لدم عثمان.. وما يريدون الا أن يكونوا جبابرة وملوكا؟...

                          ثم أخذ الراية بيده, ورفعها فوق الرؤوس عالية خافقة, وصاح في الناس قائلا:

                          " والذي نفسي بيده.. لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهأنذا أقاتل بها اليوم..

                          والذي نفسي بيده. لو هزمونا حتى يبلغوا سعفات هجر, لعلمت أننا على الحق, وأنهم على الباطل"..

                          ولقد تبع الناس عمارا, وآمنوا بصدق كلماته..

                          يقول أبو عبدالرحمن السلمي:

                          " شهدنا مع عليّ رضي الله عنه صفين, فرأيت عمار ابن ياسر رضي الله عنه لا يأخذ في ناحية من نواحيها, ولا واد من أوديتها, الا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتبعونه كأنه علم لهم"..!!

                          كان عمّار وهو يجول في المعركة ويصول, يؤمن أنه واحد من شهدائها..

                          وقد كانت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتلق أمام عينيه بحروف كبيرة:

                          " تقتل عمّار الفئة الباغية"..

                          من أجل هذا كان صوته يجلجل في أفق المعركة بهذه التغريدة:

                          "اليوم القى الأحبة محمدا وصحبه"..!!



                          ثم يندفع كقذيفة عاتية صوب مكان معاوية ومن حوله الأمويين ويرسل صياحا عاليا مدمدما:

                          لقد ضربناكم على تنزيله

                          واليوم نضربكم على تأويله

                          ضربا يزيل الهام عن مقليه

                          ويذهل الخليل عن خليله

                          أو يرجع الحق الى سبيله

                          وهو يعني بهذا أن أصحاب الرسول السابقين, وعمارا منهم قاتلوا الأمويين بالأمس وعلى رأسهم أبو سفيان الذي كان يحمل لواء الشرك, ويقود جيوش المشركين..

                          قاتلوهم بالأمس, وكان القرآن الكريم يأمرهم صراحة بقتالهم لأنهم مشركون..

                          أما اليوم, وان يكونوا قد أسلموا, وان يكن القرآن الكريم لا يأمرهم صراحة بقتالهم, الا أن اجتهاد عمار رضي الله عنه في بحثه عن الحق, وفهمه لغايات القرآن ومراميه يقنعانه بقتالهم حتى يعود الحق المغتصب الى ذويه, وحتى تنصفئ الى الابد نار التمرّد والفتنة..

                          ويعني كذلك, أنهم بالأمس قاتلوا الأمويين لكفرهم بالدين والقرآن..

                          واليوم يقاتلون الأمويين لانحرافهم بالدين, وزيغهم عن القرآن الكريم واساءتهم تأويله وتفسيره, ومحاولتهم تطويع آياته ومراميه لأغراضهم وأطماعهم..!!



                          كان ابن الثالثة والتسعين, يخوض آخر معارك حياته المستبسلة الشامخة.. كان يلقن الحياة قبل أن يرحل عنها آخر دروسه في الثبات على الحق, ويترك لها آخر مواقفه العظيمة, الشريفة المعلمة..

                          ولقد حاول رجال معاوية أن يتجنبوا عمّار ما استطاعوا, حتى لا تقتله سيفهم فيتبيّن للناس أنهم الفئة الباغية..

                          بيد أن شجاعة عمار الذي كان يقتل وكأنه جيش واحد, أفقدتهم صوابهم, فأخذ بعض جنود معاوية يتحيّنون الفرصة لاصابته, حتى اذا تمكّنوا منه أصابوه...



                          **



                          كان جيش معاوية ينتظم من كثيرين من المسلمين الجدد.. الذين أسلموا على قرع طبول الفتح الاسلامي في البلاد الكثيرة التي حررها الاسلام من سيطرة الروم والفرس.. وكان أكثر هؤلاء وقود الحرب التي سببها تمرّد معاوية ونكوصه على بيعة علي.. الخليفة, والامام, كانوا وقودها وزيتها الذي يزيدها اشتعالا..

                          وهذا الخلاف على خطورته, كان يمكن أن ينتهي بسلام لو ظلت الأمور بأيدي المسلمين الأوائل.. ولكنه لم يكد يتخذ أشكاله الحادة حتى تناولته أيد كثيرة لا يهمها مصير الاسلام, وذهبت تذكي النار وتزيدها ضراما..

                          شاع في الغداة خبر مقتل عمار وذهب المسلمون يتناقل بعضهم عن بعض نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سمعها أصحابه جميعا ذات يوم بعيد, وهم يبنون المسجد بالمدينة..

                          " ويح ابن سمية, تقتله الفئة الباغية".

                          وعرف الناس الآن من تكون الفئة الباغية.. انها الفئة التي قتلت عمّارا.. وما قتله الا فئة معاوية..



                          وازداد أصحاب عليّ بهذا ايمانا..

                          أما فريق معاوية, فقد بدأ الشك يغز قلوبهم, وتهيأ بعضهم للتمرد, والانضمام الى عليّ..

                          ولم يكد معاوية يسمع بما حدث. حتى خرج يذيع في الناس أن هذه النبوءة حق , وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تنبأ حقا بأن عمّارا ستقتله الفئة الباغية.. ولكن من الذي قتل عمّارا...؟ ثم صاح في الناس الذين معه قائلا:

                          " انما قتله الذين خرجوا به من داره, وجاؤا به الى القتال"..

                          وانخدع بعض الذين في قلوبهم هوى بهذا التأويل المتهالك, واستأنفت المعركة سيرها الى ميقاتها المعلوم...



                          **



                          أمّا عمّار, فقد حمله الامام علي فوق صدره الى حيث صلى عليه والمسلمون معه.. ثم دفنه في ثيابه..

                          أجل في ثيابه المضمّخة بدمه الزكي الطهور.. فما في كل حرير الدنيا وديباجها ما يصلح أن يكون كفنا لشهيد جليل, وقدّيس عظيم من طراز عمّار...



                          ووقف المسلمون على قبره يعجبون..

                          منذ ساعات كان عمّار يغرّد بينهم فوق أرض المعركة.. تملؤ نفسه غبطة الغريب المضنى يزف الى وطنه, وهو يصيح:

                          " اليوم ألقى الأحبة, محمدا وصحبة"..!!

                          أكان معهم اليوم على موعد يعرفه, وميقات ينتظره...؟؟!!

                          وأقبل بعض الأصحاب على بعضهم يتساءلون...

                          قال أحدهم لصاحبه: أتذكر أصيل ذلك اليوم بالمدينةونحن جالسون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وفجأة تهلل وجهه وقال:

                          " اشتاقت الجنة لعمّار"..؟؟

                          قال له صاحبه نعم, ولقد ذكر يومها آخرين منهم علي وسلمان وبلال..

                          اذن فالجنة كانت مشتاقة لعمّار..

                          واذن, فقد طال شوقها اليه, وهو يستمهلها حتى يؤدي كل تبعاته, وينجز آخر واجباته..

                          ولقد أدّاها في ذمّة, وأنجزها في غبطة..

                          أفما آن له أن يلبي نداء الشوق الذي يهتف به من رحاب الجنان..؟؟

                          بلى آن له أن يبلي النداء.. فما جزاء الاحسان الا الاحسان.. وهكذا ألقى رمحه ومضى..



                          وحين كان تراب قبره يسوّى بيد أصحابه فوق جثمانه, كانت روحه تعانق مصيرها السعيد هناك.. في جنات الخلق, التي طال شوقها لعمّار...!
                          إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                          نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                          جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                          تعليق


                          • #14
                            عبادة بن الصامت

                            نقيب في حزب الله



                            انه واحد من الأنصار الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:

                            " لو أن الأنصار سلكوا واديا أو شعبا, لسلكت وادي الأنصار وشعبهم, ولولا الهجرة لكنت من أمراء الأنصار"..هو عبادة بن الصامت بعد كونه من الأنصار, فهو واحد من زعمائهم الذين اتخذهم نقباء على أهليهم وعشائرهم...

                            وحينما جاء وفد الأنصار الأول الى مكة ليبايع الرسول عليه السلام, تلك البيعة المشهورة بـ بيعة العقبة الأولى, كان عبادة بن الصامت رضي الله عنه أحد الاثني عشر مؤمنا, الذين سارعوا الى الاسلام, وبسطوا أيمانهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعين, وشدّوا على يمينه مؤازرين ومسلمين...



                            وحينما كان موعد الحج في العام التالي, يشهد بيعة العقبة الثانية يبابعها وفد الأنصار الثاني, مكّونا من سبعين مؤمنا ومؤمنة, كان عبادة أيضا من زعماء الوفد ونقباء الأنصار..



                            وفيما بعد والمشاهد تتوالى.. ومواقف التضحية والبذل, والفداء تتابع, كان عبادة هناك لم يتخلف عن مشهد ولم يبخل بتضحية...

                            ومنذ اختار الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقوم على أفضل وجه بتبعات هذا الاختيار..

                            كل ولائه لله, وكل طاعته لله, وكلا علاقته بأقربائه بحلفائه وبأعدائه انما يشكلها ايمانه ويشكلها السلوك الذي يفرضه هذا الايمان..

                            كانت عائلة عبادة مرتبطة بحلف قديم مع يهود بني قينقاع بالمدينة..



                            ومنذ هاجر الرسول وأصحابه الى المدينة, ويهودها يتظاهرون بمسالمته.. حتى كانت الأيام التي تعقب غزوة بدر وتسبق غزوة أحد, فشرع يهود المدينة يتنمّرون..

                            وافتعلت احدى قبائلهم بنو قينقاع أسبابا للفتنة وللشغب على المسلمين..

                            ولا يكاد عبادة يرى موقفهم هذا, حتى ينبذ الى عهدهم ويفسخ حلفهم قائلا:

                            " انما أتولى الله, ورسوله, والمؤمنين...

                            فيتنزل القرآن محييا موقفه وولاءه, قائلا في آياته:

                            ( ومن يتولى الله ورسوله, والذين آمنوا, فان حزب الله هم الغالبون)...



                            **



                            لقد أعلنت الآية الكريمة قيام حزب الله..

                            وحزب الله, هم أولئك المؤمنون الذين ينهضون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملين راية الهدى والحق, والذين يشكلون امتدادا مباركا لصفوف المؤمنين الذين سبقوهم عبر التاريخ حول أنبيائهم ورسلهم, مبلّغين في أزمانهم وأعصارهم كلمة الله الحي القيّوم..



                            ولن يقتصر حزب الله على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, بل سيمتد عبر الأجيال الوافدة, والأزمنة المقبلة حتى يرث الله الأرض ومن عليها, ضمّا الى صفوفه كل مؤمن بالله وبرسوله..



                            وهكذا فان الرجل الذي نزلت هذه الآية الكريمة تحيي موقفه وتشيد بولائه وايمانه, لن يظل مجرّد نقيب الأنصار في المدينة, بل سيصير نقيبا من نقباء الدين الذي ستزوى له أقطار الأرض جميعا.

                            أجل لقد أصبح عبادة بن الصامت نقيب عشيرته من الخزرج, رائدا من روّاد الاسلام, وامام من أئمة المسلمين يخفق اسمه كالراية في معظم أقطار الأرض لا في جيل, ولا في جيلين, أو ثلاثة بل الى ما شاء الله من أجيال.. ومن أزمان.. ومن آماد..!!



                            **



                            سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يتحدث عن مسؤلية الأمراء والولاة..

                            سمعه يتحدث عليه الصلاة والسلام, عن المصير الذي ينتظر من يفرّط منهم في الحق, أو تعبث ذمته بمال, فزلزل زلزالا, وأقسم بالله ألا يكون أميرا على أثنين أبدا..

                            ولقد برّ بقسمه..

                            وفي خلافة أمير المؤمنين عمر ؤضي الله عنه, لم يستطع الفاروق أن يحمله على قبول منصب ما, الا تعليم الانس وتفقيههم في الدين.

                            أجل هذا هو العمل الوحيد الذي آثره عبادة, مبتعدا بنفسه عن الأعمال الأخرى, المحفوفة بالزهو وبالسلطان وبالثراء, والمحفوفة أيضا بالأخطار التي يخشاها على مصيره ودينه

                            وهكذا سافر الى الشام ثالث ثلاثة: هو ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء.. حيث ملؤا البلاد علما وفقها ونورا...

                            وسافر عبادة الى فلسطين حيث ولي قضاءها بعض الوقت وكان يحكمها باسم الخليفة آنذاك, معاوية..



                            **



                            كان عبادة بن الصامت وهو ثاو في الشام يرنو ببصره الى ما وراء الحدود.. الى المدينة المنورة عاصمة السلام ودار الخلافة, فيرى فيها عمر ابن الخطاب..رجل لم يخلق من طرازه سواه..!!

                            ثم يرتد بصره الى حيث يقيم, في فلسطين.. فيرى معاوية بن أبي سفيان..رجل يحب الدنيا, ويعشق السلطان...

                            وعبادة من الرعيل الأول الذي عاش خير حياته وأعظمها وأثراها مع الرسول الكريم.. الرّعيل الذي صهره النضال وصقلته التضحية, وعانق الاسلام رغبا لا رهبا.. وباع نفسه وماله...

                            عبادة من الرعيل الذي رباه محمد بيديه, وأفرغ عليه من روحه ونوره وعظمته..

                            واذا كان هناك من الأحياء مثل أعلى للحاكم يملأ نفس عبادة روعة, وقلبه ثقة, فهو ذلك الرجل الشاهق الرابض هناك في المدينة.. عمر بن الخطاب..

                            فاذا مضى عبادة يقيس تصرّفات معاوية بهذا المقياس, فستكون الشقة بين الاثنين واسعة, وسيكون الصراع محتوما.. وقد كان..!!



                            **



                            يقول عبادة رضي الله عنه:

                            " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا نخاف في الله لومة لائم"..

                            وعبادة خير من يفي بالبيعة. واذن فهو لن يخشى معاوية بكل سلطانه, وسيقف بالمرصاد لكل أخطائه..

                            ولقد شهد أهل فلسطين يومئذ عجبا.. وترامت أنباء المعارضة الجسورة التي يشنّها عبادة على معاوية الى أقطار كثيرة من بلاد الاسلام فكانت قدوة ونبراسا..

                            وعلى الرغم من الحلم الواسع الرحيب الذي اشتهر به معاوية فقد ضاق صدره بمواقف عبادة ورأى فيها تهديدا مباشرا لهيبة سلطانه..

                            ورأى عبادة من جانبه أن مسافة الخلف بينه وبين معاوية تزداد وتتسع, فقال لمعاوية:" والله لا أساكنك أرضا واحدة أبدا".. وغادر فلسطين الى المدينة..



                            **



                            كان أمير المؤمنين عمر, عظيم الفطنة, بعيد النظر.. وكان حريصا على ألا يدع أمثال معاوية من الولاة الذين يعتمدون على ذكائهم ويستعملونه بغير حساب دون أن يحيطهم بنفر من الصحابة الورعين الزاهدين والنصحاء المخلصين, كي يكبحوا جماح الطموح والرغبة لدى أولئك الولاة, وكي يكونوا لهم وللناس تذكرة دائمة بأيام الرسول وعهده..



                            من أجل هذا لم يكد أمير المؤمنين يبصر عبادة بن الصامت وقد عاد الى المدينة حتى ساله:" ما الذي جاء بك يا عبادة"...؟؟ ولما قصّ عليه ما كان بينه وبين معاوية قال له عمر:

                            " ارجع الى مكانك, فقبّح الله أرضا ليس فيها مثلك..!!

                            ثم أرسل عمر الى معاوية كتابا يقول فيه:

                            " لا امرة لك على عبادة"..!!

                            أجل ان عبادة أمير نفسه..

                            وحين يكرّم عمر الفاروق رجلا مثل هذا التكريم, فانه يكون عظيما..

                            وقد كان عبادة عظيما في ايمانه, وفي استقامة ضميره وحياته...



                            **

                            وفي العام الهجري الرابع والثلاثين, توفي بالرملة في أرض فلسطين هذا النقيب الراشد من نقباء الأنصار والاسلام, تاركا في الحياة عبيره وشذاه....



                            إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                            نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                            جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                            تعليق


                            • #15
                              خباب بن الأرت

                              أستاذ فنّ الفداء



                              خرج نفر من القرشيين, يجدّون الخطى, ميممين شطر دار خبّاب ليتسلموا منه سيوفهم التي تعاقدوا معه على صنعها..

                              وقد كان خباب سيّافا, يصنع السيوف ويبيعها لأهل مكة, ويرسل بها الى الأسواق..

                              وعلى غير عادة خبّاب الذي لا يكاد يفارق بيته وعمله, لم يجده ذلك النفر من قريش فجلسوا ينتظرونه..

                              وبعد حين طويل جاء خباب على وجهه علامة استفهام مضيئة, وفي عينيه دموع مغتبطة.. وحيّا ضيوفه وجلس..

                              وسألوه عجلين: هل أتممت صنع السيوف يا خباب؟؟

                              وجفت دموع خباب, وحل مكانها في عينيه سرور متألق, وقال وكأنه يناجي نفسه: ان أمره لعجب..

                              وعاد القوم يسألونه: أي أمر يا رجل..؟؟ نسألك عن سيوفنا, هل أتممت صنعها..؟؟

                              ويستوعبهم خبّاب بنظراته الشاردة الحالمة ويقول:

                              هل رأيتموه..؟ هل سمعتم كلامه..؟

                              وينظر بعضهم لبعض في دهشة وعجب..

                              ويعود أحدهم فيسأله في خبث:

                              هل رأيته أنت يا خبّاب..؟؟

                              ويسخر خبّاب من مكر صاحبه, فيردّ عليه السؤال قائلا:

                              من تعني..؟

                              ويجيب الرجل في غيظ: أعني الذي تعنيه..؟

                              ويجيب خبّاب بعد اذ أراهم أنه أبعد منالا من أن يستدرج, وأنه اعترف بايمانه الآن أمامهم, فليس لأنهم خدعوه عن نفسه, واستدرجوا لسانه, بل لأنه رأى الحق وعانقه, وقرر أن يصدع به ويجهر..



                              يجيبهم قائلا, وهو هائم في نشوته وغبطة روحه:

                              أجل... رأيته, وسمعته.. رأيت الحق يتفجر من جوانبه, والنور يتلألأ بين ثناياه..!!

                              وبدأ عملاؤه القرشيون يفهمون, فصاح به أحدهم:

                              من هذا الذي تتحدث عنه يا عبد أمّ أنمار..؟؟

                              وأجاب خبّاب في هدء القديسين:

                              ومن سواه, يا أخا العرب.. من سواه في قومك, من يتفجر من جوانبه الحق, ويخرج النور بين ثناياه..؟!

                              وصاح آخر وهبّ مذعورا:

                              أراك تعني محمدا..

                              وهز خبّاب رأسه المفعم بالغبطة, وقال:

                              نعم انه هو رسول الله الينا, ليخرجنا من الظلمات الى االنور..

                              ولا يدري خبّاب ماذا قال بعد هذه الكلمات, ولا ماذا قيل له..

                              كل ما يذكره أنه أفاق من غيبوبته بعد ساعات طويلة ليرى زوّاره قد انفضوا.. وجسمه وعظامه تعاني رضوضا وآلاما, ودمه النازف يضمّخ ثوبه وجسده..!!



                              وحدّقت عيناه الواسعتان فيما حوله.. وكان المكان أضيق من أن يتسع لنظراتهما النافذة, فتحمّل على آلامه, ونهض شطر الفضاء وأمام باب داره وقف متوكئا على جدارها, وانطلقت عيناه الذكيتان في رحلة طويلة تحدّقان في الأفق, وتدوران ذات اليمين وذات الشمال..انهما لا تقفان عند الأبعاد المألوفة للناس.. انهما تبحثان عن البعد المفقود...أجل تبحثان عن البعد المفقود في حياته, وفي حياة الناس الذين معه في مكة, والناس في كل مكان وزمان..

                              ترى هل يكون الحديث الذي سمعه من محمد عليه الصلاة والسلام اليوم, هو النور الذي يهدي الى ذلك البعد المفقود في حياة البشر كافة..؟؟

                              واستغرق خبّاب في تأمّلات سامية, وتفكير عميق.. ثم عاد الى داخل داره.. عاد يضمّد جراح جسده, ويهيءه لاستقبال تعذيب جديد,

                              وآلام جديدة..!!



                              ومن ذلك اليوم أخذ خبّاب مكانه العالي بين المعذبين والمضطهدين..

                              أخذ مكانه العالي بين الذين وقفوا برغم فقرهم, وضعفهم يواجهون كبرياء قريش وعنفها وجنونها..

                              أخذ مكانه العالي بين الذين غرسوا في قلوبهم سارية الراية التي أخذت تخفق في الأفق الرحيب ناعية عصر الوثنية, والقيصرية.. مبشرة بأيام المستضعفين والكادحين, الذين سيقفون تحت ظل هذه الراية سواسية مع أولئك الذين استغلوهم من قبل, وأذاقوهم الحرمان والعذاب..

                              وفي استبسال عظيم, حمل خبّاب تبعاته كرائد..

                              يقول الشعبي:

                              " لقد صبر خبّاب, ولم تلن له أيدي الكفار قناة, فجعلوا يلصقون ظهره العاري بالرضف حتى ذهب لحمه"..!!

                              أجل كان حظ خبّاب من العذاب كبيرا, ولكن مقاومته وصبره كانا أكبر من العذاب..

                              لقد حوّل كفار قريش جميع الحديد الذي كان بمنزل خبّاب والذي كان يصنع منه السيوف.. حولوه كله الى قيود وسلاسل, كان يحمى عليها في النار حتى تستعر وتتوهج, ثم يطوّق بها جسده ويداه وقدماه..

                              ولقد ذهب يوما مع بعض رفاقه المضطهدين الى رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا جوعين من التضحية, بل راجين العافية, فقالوا:" يا رسول الله.. ألا تستنصر لنا..؟؟" أي تسأل الله لنا النصر والعافية...



                              ولندع خبّابا يروي لنا النبأ بكلماته:

                              " شكونا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببرد له في ظل الكعبة, فقلنا: يا رسول الله, ألا تستنصر لنا..؟؟

                              فجلس صلى الله عليه وسلم, وقد احمرّ وجهه وقال:

                              قد كان من قبلكم يؤخذ منهم الرجل, فيحفر له في الأرض, ثم يجاء بمنشار, فيجعل فوق رأسه, ما يصرفه ذلك عن دينه..!!

                              وليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخشى الا الله عز وجل, والذئب على غنمه, ولكنكم تعجلون"..!!



                              سمع خبّاب ورفاقه هذه الكلمات, فازداد ايمانهم واصرارهم وقرروا أن يري كل منهم ربّه ورسوله ما يحبّان من تصميم وصبر, وتضحية.

                              وخاض خبّاب معركة الهول صابرا, صامدا, محتسبا.. واستنجد القرشيون أم أنمار سيدة خبّاب التي كان عبدا لها قبل أن تعتقه, فأقبلت واشتركت في حملة تعذيبه..

                              وكانت تأخذ الحديد المحمى الملتهب, وتضعه فوق رأسه ونافوخه, وخبّاب يتلوى من الألم, لكنه يكظم أنفاسه, حتى لا تخرج منه زفرة ترضي غرور جلاديه..!!



                              ومرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما, والحديد المحمّى فوق رأسه يلهبه ويشويه, فطار قلبه حنانا وأسى, ولكن ماذا يملك عليه الصلاة والسلام يومها لخبّاب..؟؟

                              لا شيء الا أن يثبته ويدعو له..

                              هنالك رفع الرسول صلى الله عليه وسلم كفيه المبسوطتين الى السماء, وقال:

                              " اللهم أنصر خبّابا"..

                              ويشاء الله ألا تمضي سوى أيام قليلة حتى ينزل بأم أنمار قصاص عاجل, كأنما جعله القدر نذيرا لها ولغبرها من الجلادين, ذلك أنها أصيبت بسعار عصيب وغريب جعلها كما يقول المؤرخون تعوي مثل الكلاب..!!

                              وقيل لها يومئذ لا علاج سوى أن يكوى رأسها بالنار..!!

                              وهكذا شهد رأسها العنيد سطوة الحديد المحمّى يصبّحه ويمسّيه..!!



                              **



                              كانت قريش تقاوم الايمان بالعذاب.. وكان المؤمنون يقاومون العذاب بالتضحية.. وكان خبّاب واحدا من أولئك الذين اصطفتهم المقادير لتجعل منهم أساتذة في فن التضحية والفداء..

                              ومضى خبّاب ينفق وقته وحياته في خدمة الدين الذي خفقت أعلامه..

                              ولم يكتف رضي الله عنه في أيام الدعوة الأولى بالعبادة والصلاة, بل استثمر قدرته على التعليم, فكان يغشى بيوت بعض اخوانه من المؤمنين الذين يكتمون اسلامهم خوفا من بطش قريش, فيقرأ معهم القرآن ويعلمهم اياه..



                              ولقد نبغ في دراسة القرآن وهو يتنزل آية آية.. وسورة, سورة حتى ان عبدالله بن مسعود, وهو الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من أراد أن يقرأ القرآن غضّا كما أنزل, فليقراه بقراءة ابن أم عبد"..

                              نقول:

                              حتى عبد الله بن مسعود كان يعتبر خبّابا مرجعا فيما يتصل بالقرآن حفظا ودراسة..



                              وهو الذي كان يدرّس القرآن لـ فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد عندام فاجأهم عمر بن الخطاب متقلدا سيفه الذي خرج به ليصفي حسابه مع الاسلام ورسوله, لكنه لم يكد يتلو القرآن المسطور في الصحيفة التي كان يعلّم منها خبّاب, حتى صاح صيحته المباركة:

                              " دلوني على محمد"...!!



                              وسمع خبّاب كلمات عمر هذه, فخرج من مخبئه الذي كان قد توارى فيه وصاح:

                              " يا عمر..

                              والله اني لأرجوا أن يكون الله قد خصّك بدعوة نبيّه صلى الله عليه وسلم, فاني سمعته بالأمس يقول: اللهم أعز الاسلام بأحبّ الرجلين اليك.. أبي الحكم بن هشام, وعمربن الخطاب"..

                              وسأله عمر من فوره: وأين أجد الرسول الآن يا خبّاب:

                              " عند الصفا, في دار الأرقم بن أبي الأرقم"..

                              ومضى عمر الى حظوظه الوافية, ومصيره العظيم..!!



                              **

                              شهد خبّاب بن الأرت جميع المشاهد والغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم, وعاش عمره كله حفيظا على ايمانه ويقينه....

                              وعندما فاض بيت مال لمسلمين بالمال أيام عمر وعثمان, رضي الله عنهما, كان خبّاب صاحب راتب كبير بوصفه من المهاجرين السابقين الى الاسلام..

                              وقد أتاح هذا الدخل الوفير لخبّاب أن يبتني له دارا بالكوفة, وكان يضع أمواله في مكان ما من الدار يعرفه أصحابه وروّاده.. وكل من وقعت عليه حاجة, يذهب فيأخذ من المال حاجته..

                              ومع هذا فقد كان خبّاب لا يرقأ له جفن, ولا تجف له دمعة كلما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه الذين بذلوا حياتهم لله , ثم ظفروا بلقائه قبل أن تفتح الدنيا على المسلمين, وتكثر في أيديهم الأموال.

                              اسمعوه وهو يتحدث االى عوّاده الذين ذهبوا يعودونه وهو رضي الله عنه في مرض موته.

                              قالوا له:

                              أبشر يا أبا عبدالله, فانك ملاق اخوانك غدا..

                              فأجابهم وهو يبكي:

                              " أما انه ليس بي جزع .. ولكنكم ذكّرتموني أقواما, واخوانا, مضوا بأجورهم كلها لم ينالوا من الدنيا شيئا..

                              وانّا بقينا بعدهم حتى نلنا من الدنيا ما لم نجد له موضعا الا التراب"..

                              وأشار الى داره المتواضعة التي بناها.

                              ثم أشار مرة أخرى الى المكان الذي فيه أمواله وقال:

                              " والله ما شددت عليها من خيط, ولا منعتها من سائل"..!

                              ثم التفت الى كفنه الذي كان قد أعدّ له, وكان يراه ترفا واسرافا وقال ودموعه تسيل:

                              " أنظروا هذا كفني..

                              لكنّ حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجد له كفن يوم استشهد الا بردة ملحاء.... اذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه, واذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه"..!!



                              **



                              ومات خبّاب في السنة السابعة والثلاثين للهجرة..

                              مات أستاذ صناعة السيوف في الجاهلية..

                              وأستاذ صناعة التضحية والفداء في الاسلام..!!



                              مات الرجل الذي كان أحد الجماعة الذين نزل القرآن يدافع عنهم, ويحييهم, عندما طلب بعض السادة من قريش أن يجعل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما, وللفراء من أمثال :خبّاب, وصهيب, وبلال يوما آخر.

                              فاذا القرآن العظيم يختص رجال الله هؤلاء في تمجيد لهم وتكريم, وتهل آياته قائلة للرسول الكريم:

                              ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه, ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟! أليس الله بأعلم بالشاكرين واذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا, فقل سلام عليكم, كتب ربكم على نفسه الرحمة)..





                              وهكذا, لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يراهم بعد نزول الآيات حتى يبالغ في اكرامهم فيفرش لهم رداءه, ويربّت على أكتافهم, ويقول لهم:

                              " أهلا بمن أوصاني بهم ربي"..

                              أجل.. مات واحد من الأبناء البررة لأيام الوحي, وجيل التضحية...



                              ولعل خير ما نودّعه به, كلمات الامام علي كرّم الله وجهه حين كان عائدا من معركة صفين, فوقعت عيناه على قبر غضّ رطيب, فسأل: قبر من هذا..؟

                              فأجابوه: انه قبر خبّاب..

                              فتملاه خاشعا آسيا, وقال:

                              رحم الله خبّابا..

                              لقد أسلم راغبا.

                              وهاجر طاءعا..

                              وعاش مجاهدا..

                              إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                              نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                              جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                              تعليق

                              يعمل...
                              X