إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رجال حول الرسول

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    أبو عبيدة بن الجرّاح

    أمين هذه الأمة



    من هذا الذي أمسك الرسول بيمينه وقال عنه:

    " ان لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح"..؟

    من هذا الذي أرسله النبي في غزوة ذات السلاسل مددا لعمرو بن العاص, وجعله أميرا على جيش فيه أبو بكر وعمر..؟؟

    من هذا الصحابي الذي كان أول من لقب بأمير الأمراء..؟؟

    من هذا الطويل القامة النحيف الجسم, المعروق الوجه, الخفيف اللحية, الأثرم, ساقط الثنيتين..؟؟

    أجل من هذا القوي الأمين الذي قال عنه عمر بن الخطاب وهو يجود بأنفاسه:

    " لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيا لاستخلفته فان سالني ربي عنه قلت: استخافت أمين الله, وأمين رسوله"..؟؟

    انه أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجرّاح..

    أسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الأيام الأولى للاسلام, قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار الرقم, وهاجر الى الحبشة في الهجرة الثانية, ثم عاد منها ليقف الى جوار رسوله في بدر, وأحد, وبقيّة المشاهد جميعها, ثم ليواصل سيره القوي الأمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في صحبة خليفته أبي بكر, ثم في صحبة أمير المؤمنين عمر, نابذا الدنيا وراء ظهره مستقبلا تبعات دينه في زهد, وتقوى, وصمود وأمانة.



    **



    عندما بايع أبو عبيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم, على أن ينفق حياته في سبيل الله, كان مدركا تمام الادراك ما تعنيه هذه الكلمات الثلاث, في سبيل الله وكان على أتم استعداد لأن يعطي هذا السبيل كل ما يتطلبه من بذل وتضحية..



    ومنذ بسط يمينه مبايعا رسوله, وهو لا يرى في نفسه, وفي ايّامه وفي حياته كلها سوى أمانة استودعها الله اياها لينفقها في سبيله وفي مرضاته, فلا يجري وراء حظ من حظوظ نفسه.. ولا تصرفه عن سبيل الله رغبة ولا رهبة..

    ولما وفّى أبو عبيدة بالعهد الذي وفى به بقية الأصحاب, رأى الرسول في مسلك ضميره, ومسلك حياته ما جعله أهلا لهذا اللقب الكريم الذي أفاءه عليه,وأهداه اليه, فقال عليه الصلاة والسلام:

    " أمين هذه الأمة, أبو عبيدة بن الجرّاح".



    **



    ان أمانة أبي عبيدة على مسؤولياته, لهي أبرز خصاله.. فففي غزوة أحد أحسّ من سير المعركة حرص المشركين, لا على احراز النصر في الحرب, بل قبل ذلك ودون ذلك, على اغتيال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم, فاتفق مع نفسه على أن يظل مكانه في المعركة قريبا من مكان الرسول..

    ومضى يضرب بسيفه الأمين مثله, في جيش الوثنية الذي جاء باغيا وعاديا يريد أن يطفئ نور الله..



    وكلما استدرجته ضرورات القتال وظروف المعركة بعيدا عن رسول الله صلى اله عليه وسلم قاتل وعيناه لا تسيران في اتجاه ضرباته.. بل هما متجهتان دوما الى حيث يقف الرسول صلى الله عليه وسلم ويقاتل, ترقبانه في حرص وقلق..

    وكلما تراءى لأبي عبيدة خطر يقترب من النبي صلى الله عليه وسلم, انخلع من موقفه البعيد وقطع الأرض وثبا حيث يدحض أعداء الله ويردّهم على أعقابهم قبل أن ينالوا من الرسول منالا..!!

    وفي احدى جولاته تلك, وقد بلغ القتال ذروة ضراوته أحاط بأبي عبيدة طائفة من المشركين, وكانت عيناه كعادتهما تحدّقان كعيني الصقر في موقع رسول الله, وكاد أبو عبيدة يفقد صوابه اذ رأى سهما ينطلق من يد مشرك فيصيب النبي, وعمل سيفه في الذين يحيطون به وكأنه مائة سيف, حتى فرّقهم عنه, وطار صوب رسول الله فرأى الدم الزكي يسيل على وجهه, ورأى الرسول الأمين يمسح الدم بيمينه وهو يقول:

    " كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم, وهو يدعهم الى ربهم"..؟

    ورأى حلقتين من حلق المغفر الذي يضعه الرسول فوق رأسه قد دخلتا في وجنتي النبي, فلم يطق صبرا.. واقترب يقبض بثناياه على حلقة منهما حتى نزعها من وجنة الرسول, فسقطت ثنيّة, ثم نزع الحلقة الأخرى, فسقطت ثنيّة الثانية..

    وما أجمل أن نترك الحديث لأبي بكر الصديق يصف لنا هذا المشهد بكلماته:

    " لما كان يوم أحد, ورمي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت في وجنته حلقتان من المغفر, أقبلت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وانسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا, فقلت: اللهم اجعله طاعة, حتى اذا توافينا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم, واذا هو أبو عبيدة بن الجرّاح قد سبقني, فقال: أسألك بالله يا أبا بكر أن تتركني فأنزعها من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    فتركته, فأخذ أبو عبيدة بثنيّة احدى حلقتي المغفر, فنزعها, وسقط على الأرض وسقطت ثنيته معه..

    ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنية أخرى فسقطت.. فكان أبو عبيدة في الناس أثرم."!!



    وأيام اتسعت مسؤوليات الصحابة وعظمت, كان أبو عبيدة في مستواها دوما بصدقه وبأمانته..

    فاذا أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخبط أميرا على ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من المقاتلين وليس معهم زاد سوى جراب تمر.. والمهمة صعبة, والسفر بعيد, استقبل ابو عبيدة واجبه في تفان وغبطة, وراح هو وجنوده يقطعون الأرض, وزاد كل واحد منهم طوال اليوم حفنة تمرا, حتى اذا أوشك التمر أن ينتهي, يهبط نصيب كل واحد الى تمرة في اليوم.. حتى اذا فرغ التمر جميعا راحوا يتصيّدون الخبط, أي ورق الشجر بقسيّهم, فيسحقونه ويشربون عليه الماء.. ومن اجل هذا سميت هذه الغزوة بغزوة الخبط..

    لقد مضوا لا يبالون بجوع ولا حرمان, ولا يعنيهم الا أن ينجزوا مع أميرهم القوي الأمين المهمة الجليلة التي اختارهم رسول الله لها..!!



    **



    لقد أحب الرسول عليه الصلاة والسلام أمين الأمة أبا عبيدة كثيرا.. وآثره كثيرا...

    ويوم جاء وفد نجران من اليمن مسلمين, وسألوه أن يبعث معهم من يعلمهم القرآن والسنة والاسلام, قال لهم رسول الله:

    " لأبعثن معكم رجلا أمينا, حق أمين, حق أمين.. حق أمين"..!!

    وسمع الصحابة هذا الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتمنى كل منهم لو يكون هو الذي يقع اختيار الرسول عليه, فتصير هذه الشهادة الصادقة من حظه ونصيبه..

    يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

    " ما أحببت الامارة قط, حبّي اياها يومئذ, رجاء أن أكون صاحبها, فرحت الى الظهر مهجّرا, فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر, سلم, ثم نظر عن يمينه, وعن يساره, فجعلت أتطاول له ليراني..

    فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح, فدعاه, فقال: أخرج معهم, فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه.. فذهب بها أبا عبيدة؟..!!

    ان هذه الواقعة لا تعني طبعا أن أبا عبيدة كان وحده دون بقية الأصحاب موضع ثقة الرسول وتقديره..

    انما تعني أنه كان واحدا من الذين ظفروا بهذه الثقة الغالية, وهذا التقدير الكريم..

    ثم كان الواحد أو الوحيد الذي تسمح ظروف العمل والدعوة يومئذ بغيابه عن المدينة, وخروجه في تلك المهمة التي تهيئه مزاياه لانجازها..

    وكما عاش أبو عبيدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أمينا, عاش بعد وفاة الرسول أمينا.. بحمل مسؤولياته في أمانة تكفي أهل الأرض لو اغترفوا منها جميعا..



    ولقد سار تحت راية الاسلام أنى سارت, جنديّا, كأنه بفضله وباقدامه الأمير.. وأميرا, كأن بتواضعه وباخلاصه واحدا من عامة المقاتلين..

    وعندما كان خالد بن الوليد.. يقود جيوش الاسلام في احدى المعارك الفاصلة الكبرى.. واستهل أمير المؤمنين عمر عهده بتولية أبي عبيدة مكان خالد..



    لم يكد أبا عبيدة يستقبل مبعوث عمر بهذا الأمر الجديد, حتى استكتمه الخبر, وكتمه هو في نفسه طاويا عليه صدر زاهد, فطن, أمين.. حتى أتمّ القائد خالد فتحه العظيم..

    وآنئذ, تقدّم اليه في أدب جليل بكتاب أمير المؤمنين!!

    ويسأله خالد:

    " يرحمك الله يا أبا عبيدة. ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب"..؟؟

    فيجيبه أمين الأمة:

    " اني كرهت أن أكسر عليك حربك, وما سلطان الدنيا نريد, ولا للدنيا نعمل, كلنا في الله اخوة".!!!



    **



    ويصبح أبا عبيدة أمير الأمراء في الشام, ويصير تحت امرته أكثر جيوش الاسلام طولا وعرضا.. عتادا وعددا..

    فما كنت تحسبه حين تراه الا واحدا من المقاتلين.. وفردا عاديا من المسلمين..

    وحين ترامى الى سمعه أحاديث أهل الشام عنه, وانبهارهم بأمير الأمراء هذا.. جمعهم وقام فيهم خطيبا..

    فانظروا ماذا قال للذين رآهم يفتنون بقوته, وعظمته, وأمانته..

    " يا أيها الناس..

    اني مسلم من قريش..

    وما منكم من أحد, أحمر, ولا أسود, يفضلني بتقوى الا وددت أني في اهابه"..ّّ

    حيّاك الله يا أبا عبيدة..

    وحيّا الله دينا أنجبك ورسولا علمك..

    مسلم من قريش, لا أقل ولا أكثر.

    الدين: الاسلام..

    والقبيلة: قريش.

    هذه لا غير هويته..

    أما هو كأمير الأمراء, وقائد لأكثر جيوش الاسلام عددا, وأشدّها بأسا, وأعظمها فوزا..

    أما هو كحاكم لبلاد الشام,أمره مطاع ومشيئته نافذة..

    كل ذلك ومثله معه, لا ينال من انتباهه لفتة, وليس له في تقديره حساب.. أي حساب..!!



    **



    ويزور أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الشام, ويسأل مستقبليه:

    أين أخي..؟

    فيقولون من..؟

    فيجيبهم: أبو عبيدة بن الجراح.

    ويأتي أبو عبيدة, فيعانقه أمير المؤمنين عمر.. ثم يصحبه الى داره, فلا يجد فيها من الأثاث شيئا.. لا يجد الا سيفه, وترسه ورحله..

    ويسأله عمر وهو يبتسم:

    " ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس"..؟

    فيجيبه أبو عبيدة:

    " يا أمير المؤمنين, هذا يبلّغني المقيل"..!!



    **



    وذات يوم, وأمير المؤمنين عمر الفاروق يعالج في المدينة شؤن عالمه المسلم الواسع, جاءه الناعي, أن قد مات أبو عبيدة..

    وأسبل الفاروق جفنيه على عينين غصّتا بالدموع..

    وغاض الدمع, ففتح عينيه في استسلام..

    ورحّم على صاحبه, واستعاد ذكرياته معه رضي الله عنه في حنان صابر..

    وأعاد مقالته عنه:

    " لو كنت متمنيّا, ما تمنيّت الا بيتا مملوءا برجال من أمثال أبي عبيدة"..



    **



    ومات أمين الأمة فوق الأرض التي طهرها من وثنية الفرس, واضطهاد الرومان..

    وهناك اليوم تحت ثرى الأردن يثوي رفات نبيل, كان مستقرا لروح خير, ونفس مطمئنة..

    وسواء عليه, وعليك, أن يكون قبره اليوم معروف أو غير معروف..

    فانك اذا أردت أن تبلغه لن تكون بحاجة الى من يقودك اليه..

    ذلك أن عبير رفاته, سيدلك عليه..!!













    إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
    نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
    جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

    تعليق


    • #17
      عثمان بن مظعون

      راهب صومعته الحياة



      اذا أردت أن ترتب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفق سبقهم الزمني الى الاسلام فاعلم اذا بلغت الرقم الرابع عشر أن صاحبه هو عثمان بن مظعون..

      واعلم كذلك أن ابن مظعون هذا, كان أول المهاجرين وفاة بالمدينة.. كما كان أول المسلمين دفنا بالبقيع..

      واعلم أخيرا أن هذا الصحابي الجليل الذي تطالع الآن سيرته كان راهبا عظيما.. لا من رهبان الصوامع, بل من رهبان الحياة...!!

      أجل.. كانت الحياة بكل جيشانها, ومسؤولياتها, وفضائلها هي صومعته..

      وكانت رهبانيته عملا دائبا في سبيل الحق, وتفانيا مثابرا في سبيل الخير والصلاح...



      **



      عندما كان الاسلام يتسرّب ضوؤه الباكر النديّ من قلب الرسول صلى الله عليه عليه وسلم.. ومن كلماته , عليه الصلاة والسلام, التي يلقيها في بعض الأسماع سرا وخفية..

      كان عثمان بن معظون هناك, وحدا من القلة التي سارعت الى الله والتفت حول رسوله..

      ولقد نزل به من الأذى والضر, ما كان ينزل يومئذ بالمؤمنين الصابرين الصامدين..

      وحين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القلة المؤمنة المضطهدة بالعافية. آمرا ايّاها بالهجرة الى الحبشة. مؤثرا أن يبقى في مواجهة الأذى وحده, كان عثمان بن مظعون أمير الفوج الأول من المهاجرين, مصطحبا معه ابنه السائب موليّا وجهه شطر بلاد بعيدة عن مكايد عدو الله أبي جهل. وضراوة قريش, وهو عذابها....



      **



      وكشأن المهاجرين الى الحبشة في كلتا الهجرتين... الأولى والثانية, لم يزدد عثمان بن مظعون رضي الله عنه الا استمساكا بالاسلام. واعتصاما به..

      والحق أن هجرتي الحبشة تمثلان ظاهرة فريدة, ومجيدة في قضية الاسلام..

      فالذين آمنوا بالرسول صلى الله وصدّقوه, واتبعوا النور الذي أنزل معه, كانوا قد سئموا الوثنية بكل ضلالاتها وجهالاتها, وكانوا يحملون فطرة سديدة لم تعد تسيغ عبادة أصنام منحوتة من حجارة أو معجونة من صلصال..!!

      وحين هاجروا الى الحبشة واجهوا فيها دينا سائدا, ومنظما.. له كنائسه وأحباره ورهبانه..

      وهو, مهما تكن نظرتهم اليه, بعيد عن الوثنية التي ألفوها في بلادهم, وعن عبادة الأصنام بشكلها المعروف وطقوسها التي خلفوها وراء ظهورهم..

      ولا بدّ أن رجال الكنيسة في الحبشة قد بذلوا جهودا لاستمالة هؤلاء المهاجرين لدينهم, واقناعهم بالمسيحية دينا...

      ومع هذا كله نرى أولئك المهاجرين يبقون على ولائهم العميق للاسلام ولمحمد صلى الله عليه وسلم.. مترقبين في شوق وقلق, ذلك اليوم القريب الذي يعودون فيه الى بلادهم الحبيبة, ليعبدوا الله وحده, وليأخذوا مكانهم خلف رسولهم العظيم.. في المسجد أيام السلام.. وفي ميدان القتال, اذا اضطرتهم قوى الشرك للقتال..



      في الحبشة اذن عاش المهاجرون آمنين مطمئنين.. وعاش معهم عثمان بن مظعون الذي لم ينس في غربته مكايد ابن عمّه أمية بن خلف, وما ألحقه به وبغيره من أذى وضرّ, فراح يتسلى بهجائه ويتوعده:

      تريش نبالا لا يواتيك ريشها

      وتبري نبالا, ريشها لك أجمع

      وحاربت أقواما مراما أعزة

      وأهلكت أقواما بهم كنت تزغ

      ستعلم ان نابتك يوما ملمّة

      وأسلمك الأوباش ما كنت تصنع



      **



      وبينما المهاجرون في دار هجرتهم يعبدون الله, ويتدارسون ما معهم من القرآن, ويحملون برغم الغربة توهج روح منقطع النظير.. اذ الأنباء تواتيهم أن قريش أسلمت, وسجدت عم الرسول لله الواحد القهار..

      هنالك حمل المهاجرون أمتعتهم وطاروا الى مكة تسبقهم أشواقهم, ويحدوهم حنينهم..

      بيد أنهم ما كادوا يقتربون من مشارفها حتى تبيّنوا كذب الخبر الذي بلغهم عن اسلام قريش..

      وساعتئذ سقط في أيديهم, ورأوا أنهم قد عجلوا.. ولكن أنّى يذهبون وهذه مكة على مرمى البصر..!!

      وقد سمع مشركو مكة بمقدم الصيد الذي طالما ردوه ونصبوا شباكهم لاقتناصه.. ثم ها هو ذا الآن, تحيّن فرصته, وتأتي به مقاديره..!!



      كان الجوّار يومئذ تقليدا من تقاليد العرب ذات القداسة والاجلال, فاذا دخل رجل مستضعف جوار سيّد قرشي, أصبح في حمى منيع لا يهدر له دم, ولا يضطرب منه مأمن...

      ولم يكن العائدون سواء في القدرة على الظفر بجوار..

      من أجل ذلك ظفر بالجوار منهم قلة, كان من بين أفرادها عثمان بن مظعون الذي دخل في جوار الوليد بن المغيرة.

      وهكذا دخل مكة آمنا مطمئنا, ومضى يعبر دروبها, ويشهد ندواتها, لا يسام خسفا ولا ضيما.



      **



      ولكن ابن مظعون.. الرجل الذي يصقله القرآن, ويربيه محمد صلى الله عليه وسلم, يتلفت حواليه, فيرى اخوانه المسلمين من الفقراء والمستضعفين, الين لم يجدوا لهم جوارا ولا مجيرا.. يراهم والأذى ينوشهم من كل جانب.. والبغي يطاردهم في كل سبيل.. بينما هو آمن في سربه, بعيد من أذى قومه, فيثور روحه الحر, ويجيش وجدانه النبيل, ويتفوق بنفسه على نفسه, ويخرج من داره مصمما على أن يخلع جوار الوليد, وأن ينضو عن كاهله تلك الحماية التي حرمته لذة تحمل الأذى في سبيل الله, وشرف الشبه باخوانه المسلمين, طلائع الدنيا المؤمنة, وبشائر العالم الذي ستتفجر جوانبه غدا ايمانا, وتوحيدا, ونورا..



      ولندع شاهد عيان يصف لنا ما حدث:

      " لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء. وهو يغدو ويروح في أمان الوليد بن المغيرة, قال: والله ان غدوّي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك, واصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى ما لايصيبني, لنقص كبير في نفسي..

      فمشى الى الوليد بن المغيرة فقال له:

      يا أبا عبد شمس وفت ذمتك. وقد رددت اليك جوارك..

      فقال له:

      لم يا ابن أخي.. لعله آذاك أحد من قومي..؟

      قال.. لا. ولكني أرضى بجوار الله, ولا أريد أن أستجير بغيره...

      فانطلق الى المسجد فاردد عليّ جواري علانية ..

      فانطلقا حتى أتيا المسجد, فقال الوليد: هذا عثمان..

      قد جاء يردد عليّ جواري..

      قال عثمان: صدق.. ولقد وجدته وفيّا كريما الجوار, ولكنني أحببت ألا أستجير بغير الله..

      ثم انصرف عثمان, ولبيد بن ربيعة في مجلس من مجالس قريش ينشدهم, فجلس معهم عثمان فقال لبيد:

      ألا كل شيء ما خلا الله باطل

      فقال عثمان: صدقت..

      قال لبيد:

      وكل نعيم لا محالة زائل

      قال عثمان: كذبت.. نعيم الجنة لا يزول..

      فقال لبيد: يا معشر قريش, والله ما كان يؤذى جليسكم, فمتى حدث هذا فيكم..؟

      فقال رجل من القوم: ان هذا سفيه فارق ديننا.. فلا تجدنّ في نفسك من قوله..

      فرد عليه عثمان بن مظعون حتى سري أمرهما. فقام اليه ذلك الرجل فلطم عينه فأصابا, والوليد بن المغيرة قريب, يرى ما يحدث لعثمان, فقال: أما والله يا بن أخي ان كانت عينك عمّا أصابها لغنيّة, لقد كانت في ذمة منيعة..

      فال عثمان: بل والله ان عيني الصحيحة لفقيرة الى مثل ما أصاب أختها في الله.. واني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس..!!

      فقا له الوليد: هلم يا بن أخي, ا ن شئت فعد الى جواري..

      قال ابن مظعون: لا...

      وغادر ابن مظعون هذا المشهد وعينه تضجّ بالألم, ولكن روحه تتفجر عافية, وصلابة, وبشرا..

      ولقد مضى في الطريق الى داره يتغنى بشعره هذا:

      فان تك عيني في رضا الله نالها

      يدا ملحدا في الدين ليس بمهتدي

      فقد عوّض الرحمن منها ثوابه

      ومن يرضه الرحمن يا قوم يسعد

      فاني وان قلتم غويّ مضلل

      لأحيا على دين الرسول محمد

      أريد بذاك الله, والحق ديننا

      على رغم من يبغي علينا ويعتدي



      **



      هكذا ضرب عثمان بن مظعون مثلا, هو له أهل, وبه جدير..

      وهكذا شهدت الحياة انسانا شامخا يعطّر الوجود بموقفه الفذ هذا..

      وبكلماته الرائعة الخالدة:

      " والله ان عيني الصحيحة, لفقيرة الى مثل ما أصاب أختها في الله.. واني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر"..!!

      ولقد ذهب عثمان بن مظعون بعد ردّ جوار الوليد يتلقى من قريش أذاها, وكان بهذا سعيدا جدّ سعيد.. فقد كان ذلك الأذىبمثابة الانر التي تنضج الايمان وتصهره وتزكّيه..

      وهكذا سار مع اخوانه المؤمنين, لا يروعهم زجر.. وبل يصدّهم اثخان..!!



      **



      ويهاجر عثمان الى المدينة, حيث لا يؤرّقه أبو جهل هناك, ولا أبو لهب.... ولا أميّة.. ولا عتبة, ولا شيء من هذه الغيلان التي طالما أرّقت ليلهم, وأدمت نهارهم..

      يذهب الى المدينة مع أولئك الأصحاب العظام الذين نجحوا بصمودهم وبثباتهم في امتحان تناهت عسرته ومشقته ورهبته, والذين لم يهاجروا الى المدينة ليستريحوا ويكسروا.. بل لينطلقوا من بابها الفسيح الرحب الى كل أقطار الأرض حاملين راية الله, مبشرين بكلماته وآياته وهداه..

      وفي دار الهجرة المنوّرة, يتكشفّ جوهر عثمان بن مظعون وتستبين حقيقته العظيمة الفريدة, فاذا هو العابد, الزاهد, المتبتل, الأوّاب...

      واذا هو الراهب الجليل, الذكي الذي لا يأوي الى صومعة يعتزل فيها الحياة..

      بل يملأ الحياة بعمله, وبجهاده في سبيل الله..

      أجل..

      راهب الليل فارس النهار, بل راهب الليل والنهار, وفارسهما معا..

      ولئن كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا سيّما في تلك الفترة من حياتهم, كانوا جميعا يحملون روح الزهد والتبتل, فان ابن مظعون كان له في هذا المجال طابعه الخاص.. اذ أمعن في زهده وتفانيه امعانا رائعا, أحال حياته كلها في ليله ونهاره الى صلاة دائمة مضيئة, وتسبيحة طويلة عذبة..!!

      وما ان ذاق حلاوة الاستغراق في العبادة حتى همّ بتقطيع كل الأسباب التي تربط الناس بمناعم الحياة..

      فمضى لا يلبس الا الملبس الخشن, ولا يأكل الا الطعام الجشب..

      دخل يوما المسجد, ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه جلوس, وكان يرتدي لباسا تمزق, فرقّعه بقطعة من فروة.. فرق له قلب الرسول صلى الله عليه وسلم, ودمعت عيون أصحابه, فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:

      " كيف أنتم يوم يغدو أحدكم في حلة, ويروح في أخرى.. وتوضع في قصعة. وترفع أخرى.. وسترتم بيوتكم كما تستر الكعب..؟!"..

      قال الأصحاب:

      " وددنا أن يكون ذلك يا رسول الله, فنصيب الرخاء والعيش"..

      فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا:

      " ان ذلك لكائن.. وأنتم اليوم خير منكم يومئذ"..

      وكان بديهيا, وابن مظعون يسمع هذا, أن يزداد اقبالا على الشظف وهربا من النعيم..!!

      بل حتى الرفث الى زوجته نأى عنه وانتهى, لولا أن رسول الله عليه السلام علم عن ذلك فناداه وقال له:

      " ان لأهلك عليك حقا"..



      **



      وأحبّه الرسول صلوات الله وسلامه عليه حبّا عظيما..

      وحين كانت روحه الطاهرة تتهيأ للرحيل ليكون صاحبها أول المهاجرين وفاة بالمدينة, وأولهم ارتياد لطريق الجنة, كان الرسول عليه الصلاة والسلام, هناك الى جواره..

      ولقد أكبّ على جبينه يقبله, ويعطّره بدموعه التي هطلت من عينيه الودودتين فضمّخت وجه عثمان الذي بدا ساعة الموت في أبهى لحظات اشراقه وجلاله..

      وقال الرسول صلى الله عليه وسلم يودّع صاحبه الحبيب:

      " رحمك الله يا أبا السائب.. خرجت من الدنيا وما أصبت منها, ولا أصابت منك"..



      **



      ولم ينس الرسول الودود صاحبه بعد موته, بل كان دائم الذكر له, والثناء عليه..

      حتى لقد كانت كلمات وداعه عليه السلام لابنته رقيّة, حين فاضت روحها:

      " الحقي بسلفنا الخيّر, عثمان بن مظعون"..!!!
      إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
      نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
      جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

      تعليق


      • #18
        زيد بن حارثة

        لم يحبّ حبّه أحد



        وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع جيش الاسلام الذاهب لملاقاة الروم في غزوة مؤتة ويعلن أسماء أمراء الجيش الثلاثة, قائلا:

        " عليكم زيد بن حارئة.. فان أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب.. فان أصيب جعفر, فعبدالله بن رواحة".

        فمن هو زيد بن حارثة"..؟؟

        من هذا الذي حمل دون سواه لقب الحبّ.. حبّ رسول الله..؟

        أما مظهره وشكله, فكان كما وصفه المؤرخون والرواة:

        " قصير, آدم, أي أسمر, شديد الأدمة, في أنفه فطس"..

        أمّا نبؤه, فعظيم جدّ عظيم..!!





        **



        أعدّ حارثة أبو زيد الراحلة والمتاع لزوجته سعدى التي كانت تزمع زيارة أهلها في بني معن.

        وخرج يودع زوجته التي كانت تحمل بين يديها طفلهما الصغير زيد بن حارثة, وكلما همّ أن يستودعهما القافلة التي خرجت الزوجة في صحبتها ويعود هو الى داره وعمله, ودفعه حنان خفيّ وعجيب لمواصلة السير مع زوجته وولده..

        لكنّ الشقّة بعدت, والقافلة أغذّت سيرها, وآن لحارثة أن يودّع الوليد وأمّه, ويعود..

        وكذا ودّعهما ودموعه تسيل.. ووقف طويلا مسمرا في مكانه حتى غابا عن بصره, وأحسّ كأن قلبه لم يعد في مكانه.. كأنه رحل مع الراحلين..!!



        **



        ومكثت سعدى في قومها ما شاء الله لها أن تمكث..

        وذات يوم فوجئ الحيّ, حي بني معن, باحدى القبائل المناوئة له تغير عليه, وتنزل الهزيمة ببني معن, ثم تحمل فيما حملت من الأسرى ذلك الطفل اليافع, زيد بن حارثة..

        وعادت الأم الى زوجها وحيدة.

        ولم يكد حارثة يعرف النبأ حتى خرّ صعقا, وحمل عصاه على كاهله, ومضى يجوب الديار, ويقطع الصحارى, ويسائل القبائل والقوافل عن ولده وحبّة قلبه زيد, مسليّا نفسه, وحاديا ناقته بهذا الشعر الذي راح ينشده من بديهته ومن مآقيه:

        بكيت على زيد ولم ادر ما فعل

        أحيّ فيرجى؟ أم أتى دونه الأجل

        فوالله ما أدري, واني لسائل

        أغالك بعدي السهل؟ أم غالك الجبل



        تذكرينه الشمس عند طلوعها

        وتعرض ذكراه اذا غروبها أقبل

        وان هبّت الأرواح هيّجن ذكره

        فيا طول حزني عليه, ويا وجل



        **



        كان الرّق في ذلك الزمان البعيد يفرض نفسه كظرف اجتماعي يحاول أن يكون ضرورة..

        كان ذلك في أثينا, حتى في أزهى عصور حريّتها ورقيّها..

        وكذلك كان في روما..

        وفي العالم القديم كله.. وبالتالي في جزيرة العرب أيضا..

        وعندما اختطفت القبيلة المغيرة على بني معن نصرها, وعادت حاملة أسراها, ذهبت الى سوق عكاظ التي كانت منعقدة أنئذ, وباعوا الأسرى..



        ووقع الطفل زيد في يد حكيم بن حزام الذي وهبه بعد أن اشتراه لعمته خديجة.

        وكانت خديجة رضي الله عنها, قد صارت زوجة لمحمد بن عبدالله, الذي لم يكن الوحي قد جاءه بعد. بيد أنه كان يحمل كل الصفات العظيمة التي أهلته بها الأقدار ليكون غدا من المرسلين..



        ووهبت خديجة بدورها خادمها زيد لزوجها رسول الله فتقبله مسرورا وأعتقه من فوره,وراح يمنحه من نفسه العظيمة ومن قلبه الكبير كل عطف ورعاية..

        وفي أحد مواسم الحج. التقى نفر من حيّ حارثة بزيد في مكة, ونقلوا اليه لوعة والديه, وحمّلهم زيد سلامه وحنانه وشوقه لأمه وأبيه, وقال للحجّاج من قومه"

        " أخبروا أبي أني هنا مع أكرم والد"..



        ولم يكن والد زيد يعلم مستقر ولده حتى أغذّ السير اليه, ومعه أخوه..

        وفي مكة مضيا يسألان عن محمد الأمين.. ولما لقياه قالا له:

        "يا بن عبدالمطلب..

        يا ابن سيّد قومه, أنتم أهل حرم, تفكون العاني, وتطعمون الأسير.. جئناك في ولدنا, فامنن علينا وأحسن في فدائه"..

        كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم تعلق زيد به, وكان في نفس الوقت يقدّر حق ابيه فيه..



        هنالك قال حارثة:

        "ادعوا زيدا, وخيّروه, فان اختاركم فهو لكم بغير فداء.. وان اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء"..!!

        وتهلل وجه حارثة الذي لم يكن يتوقع كل هذا السماح وقال:

        " لقد أنصفتنا, وزدتنا عن الانصاف"..

        ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم الى زيد, ولما جاء سأله:

        " هل تعرف هؤلاء"..؟

        قال زيد: نعم.. هذا أبي.. وهذا عمّي.

        وأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله لحارثة.. وهنا قال زيد:

        " ما أنا بالذي أختار عليك أحدا, أنت الأب والعم"..!!

        ونديت عينا رسول الله بدموع شاكرة وحانية, ثم أمسك بيد زيد, وخرج به الى فناء الكعبة, حيث قريش مجتمعة هناك, ونادى الرسول:

        " اشهدوا أن زيدا ابني.. يرثني وأرثه"..!!

        وكاد قلب حارثة يطير من الفرح.. فابنه لم يعد حرّا فحسب, بل وابنا للرجل الذي تسمّيه قريش الصادق الأمين سليل بني هاشم وموضع حفاوة مكة كلها..

        وعاد الأب والعم الى قومهما, مطمئنين على ولدهما والذي تركاه سيّدا في مكة, آمنا معافى, بعد أن كان أبوه لا يدري: أغاله السهل, أم غاله الجبل..!!



        **



        تبنّى الرسول زيدا.. وصار لا يعرف في مكة كلها الا باسمه هذا زيد بن محمد..

        وفي يوم باهر الشروق, نادى الوحي محمدا:

        ( اقرأ باسم ربك الذي خلق, خلق الانسان من علق, اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم, علّم الانسان ما لك يعلم)...

        ثم تتابعت نجاءاته وكلماته:

        ( يا أيها المدثر, قم فأنذر, وربّك فكبّر)...

        (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل اليك من ربك, وان لم تفعل فما بلّغت رسالته, والله يعصمك من الناس, ان الله لايهدي القوم الكافرين)...

        وما ان حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعة الرسالة حتى كان زيد ثاني المسلمين.. بل قيل انه كان أول المسلمين...!!



        **



        أحبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا عظيما, وكان بهذا الحب خليقا وجديرا.. فوفاؤه الذي لا نظير له, وعظمة روحه, وعفّة ضميره ولسانه ويده...

        كل ذلك وأكثر من ذلك كان يزين خصال زيد بن حارثة أو زيد الحبّ كما كان يلقبه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام..

        تقول السيّدة عائشة رضي الله عنها:

        " ما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم في جيش قط الا أمّره عليهم, ولو بقي حيّا بعد رسول الله لاستخلفه...

        الى هذا المدى كانت منزلة زيد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم..

        فمن كان زيد هذا..؟؟

        انه كما قلنا ذلك الطفل الذي سبي, ثم بيع, ثم حرره الرسول وأعتقه..

        وانه ذلك الرجال القصير, الأسمر, الأفطس الأنف, بيد أنه أيضا ذلك الانسان الذي" قلبه جميع وروحه حر"..

        ومن ثم وجد له في الاسلام, وفي قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى منزلة وأرفع مكان, فلا الاسلام ولا رسوله من يعبأ لحظه بجاه النسب, ولا بوجاهة المظهر.

        ففي رحاب هذا الدين العظيم, يتألق بلال, ويتألق صهيب, ويتألق عمار وخبّاب وأسامة وزيد...

        يتألقون جميعا كأبرا, وقادة..

        لقد صحح الاسلام, قيم الحياة حين قال في كتابه الكريم:

        ( انّ أكرمكم عند الله أتقاكم)...

        وفتح الأبواب والرحاب للمواهب الخيّرة, وللكفايات النظيفة, الأمينة, المعطية..

        وزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا من ابنة عمته زينب, ويبدو أن زينب رضي الله عنها قد قبلت هذا الزواج تحت وطأة حيائها أن ترفض شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو ترغب بنفسها عن نفسه..

        ولكن الحياة الزوجية أخذت تتعثر, وتستنفد عوامل بقائها, فانفصل زيد عن زينب.

        وحمل الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤوليته تجاه هذا الزواج الذي كان مسؤولا عن امضائه, والذي انتهى بالانفصال, فضمّ ابنة عمته اليه واختارها زوجة له, ثم اختار لزيد زوجة جديدة هي أم كلثوم بنت عقبة..



        وذهب الشنئون يرجفون المدينة: كيف يتزوّج محمد مطلقة ابنه زيد؟؟

        فأجابهم القرآن مفرّقا بين الأدعياء والأبنياء.. بين التبني والبنّوة, ومقررا الغاء عادة التبني, ومعلنا:

        ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم, ولكن رسول الله, وخاتم النبين).

        وهكذا عاد لزيد اسمه الأول:" زيد بن حارثة".



        **



        والآن..

        هل ترون هذه القوات المسلمة الخارجة الى معارك, الطرف, أو العيص, وحسمي, وغيرها..

        ان أميرها جميعا, هو زيد بن حارثة..

        فهو كما سمعنا السيدة عائشة رضي الله عنها تقول:" لم يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في جيش قط, الا جعله أميرا هلى هذا الجيش"..



        حتى جاءت غزوة مؤتة..

        كان الروم بأمبراطوريتهم الهرمة, قد بدأوا يوجسون من الاسلام خيفة..بل صاروا يرون فيها خطرا يهدد وجودهم, ولا سيما في بلاد الشام التي يستعمرونها, والتي تتاخم بلاد هذا الدين الجديد, المنطلق في عنفوان واكتساح..

        وهكذا راحوا يتخذون من الشام نقطة وثوب على الجزيرة العربية, وبلاد الاسلام...



        **



        وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم هدف المناوشات التي بدأها الروم ليعجموا بها عود الاسلام, فقرر أن يبادرهم, ويقنعهم بتصميم الاسلام الى أرض البلقاء بالشام, حتى اذا بلغوا تخومها لقيتهم جيوش هرقل من الروم ومن القبائل المستعربة التي كانت تقطن الحدود..

        ونزل جيش الروم في مكان يسمّى مشارف..

        في حين نزل جيش الاسلام يجوار بلدة تسمّى مؤتة, حيث سمّيت الغزوة باسمها...



        **



        كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أهمية هذه الغزوة وخطرها فاختار لها ثلاثة من الرهبان في الليل, والفرسان في النهار..

        ثلاثة من الذين باعوا أنفسهم لله فلم يعد لهم مطمع ولا أمنية الا في استشهاد عظيم يصافحون اثره رضوان الله تعالى, ويطالعون وجهه الكريم..

        وكان هؤلاء الثلاثة وفق ترتيبهم في امارة الجيش هم:

        زيد بن حارثة,

        جعفر بن أبي طالب,

        عبدالله بن رواحة.

        رضي الله عنهم وأرضاهم, ورضي الله عن الصحابة أجمعين...

        وهكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وقف يودّع الجيش يلقي أمره السالف:

        " عليكم زيد بن حارثة..

        فان أصيب زيد, فجعفر بن أبي طالب,...

        فان أصيب جعفر, فعبدالله بن رواحة"...

        وعلى الرغم من أن جعفر بن أبي طالب كان من أقرب الناس الى قلب ابن عمّه رسول الله صلى الله عليه وسلم..

        وعلى الرغم من شجاعته, وجسارته, وحسبه ونسبه, فقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمير التالي لزيد, وجعل زيدا الأمير الأول للجيش...

        وبمثل هذا, كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر دوما حقيقة أن الاسلام دين جديد جاء يلغي العلاقات الانسانية الفاسدة, والقائمة على أسس من التمايز الفارغ الباطل, لينشئ مكانها علاقات جديدة, رشيدة, قوامها انسانية الانسان...!!



        **



        ولكأنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ غيب المعركة المقبلة حين وضع امراء الجيش على هذا الترتيب: زيد فجعفر, فابن رواحة.. فقد لقوا ربّهم جميعا وفق هذا الترتيب أيضا..!!



        ولم يكد المسلمون يطالعون جيش الروم الذي حزروه بمائتي ألف مقاتل حتى أذهلهم العدد الذي لم يكن لهم في حساب..

        ولكن متى كانت معارك الايمان معارك كثرة..؟؟

        هنالك أقدموا ولم يبالوا.. وأمامهم قائدهم زيد حاملا راية رسول الله صلى الله عليه وسلم, مقتحما رماح العدو ونباله وسيوفه, لا يبحث عن النصر, بقدر ما يبحث عن المضجع الذي ترسو عنده صفقته مع الله الذي اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.

        لم يكن زيد يرى حواليه رمال البلقاء, ولا جيوش الروم بل كانت روابي الجنة, ورفرفها الأخضر, تخفق أمام عينيه كالأعلام, تنبئه أن اليوم يوم زفافه..

        وكان هو يضرب, ويقاتل, لا يطوّح رؤوس مقاتليه, انما يفتح الأبواب, ويفضّ الأغلاق التي تحول بينه وبين الباب الكبير الواسع, الذي سيدلف منه الى دار السلام, وجنات الخلد, وجوار الله..



        وعانق زيد مصيره...

        وكانت روحه وهي في طريقها الى الجنة تبتسم محبورة وهي تبصر جثمان صاحبها, لا يلفه الحرير الناعم, بل يضخّمه دم طهور سال في سبيل الله..

        ثم تتسع ابتساماتها المطمئنة الهانئة, وهي تبصر ثاني الأمراء جعفرا يندفع كالسهم صوب الراية ليتسلمها, وليحملها قبل أن تغيب في التراب....

        إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
        نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
        جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

        تعليق


        • #19
          جعفر بن أبي طالب

          أشبهت خلقي, وخلقي



          انظروا جلال شبابه..

          انظروا نضارة اهابه..

          انظروا أناته وحلمه, حدبه, وبرّه, تواضعه وتقاه..

          انظروا شجاعته التي لا تعرف الخوف.. وجوده الذي لايخاف الفقر..

          انظروا طهره وعفته..

          انظروا صدقه وأمانته...

          انظروا فيه كل رائعة من روائع الحسن, والفضيلة, والعظمة, ثم لا تعجبوا, فأنتم أمام أشبه الناس بالرسول خلقا, وخلقا..

          أنتم أمام من كنّاه الرسول بـ أبي المساكين..

          أنت تجاه من لقبه الرسول بـ ذي الجناحين..

          أنتم تلقاء طائر الجنة الغريد, جعفر بن أبي طالب..!! عظيم من عظماء الرعيل الأول الذين أسهموا أعظم اسهام في صوغ ضمير الحياة..!!



          **



          أقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم مسلما, آخذا مكانه العالي بين المؤمنين المبكرين..

          وأسلمت معه في نفس اليوم زوجته أسماء بنت عميس..

          وحملا نصيبهما من الأذى ومن الاضطهاد في شجاعة وغبطة..

          فلما اختار الرسول لأصحابه الهجرة الى الحبشة, خرج جعفر وزوجه حيث لبثا بها سنين عددا, رزقا خلالها بأولادهما الثلاثة محمد, وعبد الله, وعوف...



          **



          وفي الحبشة كان جعفر بن أبي طالب المتحدث اللبق, الموفق باسم الاسلام ورسوله..

          ذلك أن الله أنعم عليه فيما أنعم, بذكاء القلب, واشراق العقل, وفطنة النفس, وفصاحة اللسان..

          ولئن كان يوم مؤتة الذي سيقاتل فيه فيما بعد حتى يستشهد.. أروع أيامه وأمجاده وأخلدها..

          فان يوم المحاورة التي أجراها أمام النجاشي بالحيشة, لن يقلّ روعة ولا بهاء, ولا مجدا..

          لقد كان يوما فذّا, ومشهدا عجبا...



          **



          وذلك أن قريشا لم يهدئ من ثورتها, ولم يذهب من غيظها, ولم يطامن كم أحقادها, هجرة المسلمين الى الحبشة, بل خشيت أن يقوى هناك بأسهم, ويتكاثر طمعهم.. وحتى اذا لم تواتهم فرصة التكاثر والقوّة, فقد عز على كبريائها أن ينجو هؤلاء من نقمتها, ويفلتوا من قبضتها.. يظلوا هناك في مهاجرهم أملا رحبا تهتز له نفس الرسول, وينشرح له صدر الاسلام..



          هنالك قرر ساداتها ارسال مبعوثين الى النجاشي يحملان هدايا قريش النفيسة, ويحملان رجاءهما في أن يخرج هؤلاء الذين جاؤوا اليها لائذين ومستجيرين...

          وكان هذان المبعوثان: عبدالله بن أبي ربيعة, وعمرو بن العاص, وكانا لم يسلما بعد...



          **



          كان النجاشي الذي كان يجلس أيامئذ على عرش الحبشة, رجلا يحمل ايمانا مستنيرا.. وكان في قرارة نفسه يعتنق مسيحية صافية واعية, بعيدة عن الانحراف, نائية عن التعصب والانغلاق...

          وكان ذكره يسبقه.. وسيرته العادلة, تنشر غبيرها في كل مكان تبلغه..

          من أجل هذا, اختار الرسول صلى الله عليه وسلم بلاده دار هجرة لأصحابه..

          ومن أجل هذا, خافت قريش ألا تبلغ لديه ما تريد فحمّلت مبعوثيها هدايا ضخمة للأساقفة, وكبار رجال الكنيسة هناك, وأوصى زعماء قريش مبعوثيهاألا يقابلا النجاشي حتى يعطيا الهدايا للبطارقة أولا, وحتى يقنعاهم بوجهة نظرهما, ليكونوا لهم عونا عند النجاشي.

          وحطّ الرسولان رحالهما بالحبشة, وقابلا بها الزعماء الروحانيين كافة, ونثرا بين أيديهم الهدايا التي حملاها اليهم.. ثم أرسلا للنجاشي هداياه..

          ومضيا يوغران صدور القسس والأساقفة ضد المسلمين المهاجرين, ويستنجدان بهم لحمل النجاشي, ويواجهان بين يديه خصوم قريش الذين تلاحقهم بكيدها وأذاها.



          **



          وفي وقار مهيب, وتواضع جليل, جلس النجاشي على كرسيه العالي, تحفّ به الأساقفة ورجال الحاشية, وجلس أمامه في البهو الفسيح, المسلمون المهاجرون, تغشاهم سكينة الله, وتظلهم رحمته.. ووقف مبعوثا قريش يكرران الاتهام الذي سبق أن ردّداه أمام النجاشي حين أذن لهم بمقابلة خاصة قبل هذ الاجتماع الحاشد الكبير:

          " أيها الملك.. انه قد ضوى لك الى بلدك غلمان سفهاء, فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك, بل جاؤوا بدين ابتدعوه, لا نعرفه نحن ولا أنت, وقد بعثنا اليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم, أعمامهم, وعشائرهم, لتردّهم اليهم"...

          وولّى النجاشي وجهه شطر المسلمين, ملقيا عليهم سؤاله:

          " ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم, واستغنيتم به عن ديننا"..؟؟

          ونهض جعفر قائما.. ليؤدي المهمة التي كان المسلمون المهاجرون قد اختاروه لها ابّان تشاورهم, وقبل مجيئهم الى هذا الاجتماع..



          نهض جعفر في تؤدة وجلال, وألقى نظرات محبّة على الملك الذي أحسن جوارهم وقال:

          " يا أيها الملك..

          كنا قوما أهل جاهلية: نعبد الأصنام, ونأكل الميتة, ونأتي الفواحش, ونقطع الأرحام, ونسيء الجوار, ويأكل القوي منا الضعيف, حتى بعث الله الينا رسولا منا, نعرف نسبه وصدقه, وأمانته, وعفافه, فدعانا الى الله لنوحّده ونعبده, ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان..

          وأمرنا بصدق الحديث, وأداء الأمانة, وصلة الرحم, وحسن الجوار, والكفّ عن المحارم والدماء..

          ونهانا عن الفواحش, وقول الزور, وأكل مال اليتيم, وقذف المحصنات.. فصدّقناه وآمنّا به, واتبعناه على ما جاءه من ربه, فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئا, وحرّمنا ما حرّم علينا, وأحللنا ما أحلّ لنا, فغدا علينا قومنا, فعذبونا وفتنونا عن ديننا, ليردّونا الى عبادة الأوثان, والى ما كنّا عليه من الخبائث..

          فلما قهرونا, وظلمونا, وضيّقوا علينا, وحالوا بيننا وبين ديننا, خرجنا الى بلادك ورغبنا في جوارك, ورجونا ألا نظلم عندك"...



          **



          ألقى جعفر بهذه الكلمات المسفرة كضوء الفجر, فملأت نفس النجاشي احساسا وروعة, والتفت الى جعفر وساله:

          " هل معك مما أنزل على رسولكم شيء"..؟

          قال جعفر: نعم..

          قال النجاشي: فاقرأه علي..

          ومضى حعفر يتلو لآيات من سورة مريم, في أداء عذب, وخشوع فبكى النجاشي, وبكى معه أساقفته جميعا..

          ولما كفكف دموعه الهاطلة الغزيرة, التفت الى مبعوثي قريش, وقال:

          " ان هذا, والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة..

          انطلقا فلا والله, لا أسلمهم اليكما"..!!



          **



          انفضّ الجميع, وقد نصر الله عباده وآرهم, في حين رزئ مندوبا قريش بهزيمة منكرة..

          لكن عمرو بن العاص كان داهية واسع الحيلة, لا يتجرّع الهزيمة, ولا يذعن لليأس..

          وهكذا لم يكد يعود مع صاحبه الى نزلهما, حتى ذهب يفكّر ويدبّر, وقال لزميله:

          " والله لأرجعنّ للنجاشي غدا, ولآتينّه عنهم بما يستأصل خضراءهم"..

          وأجابه صاحبه: " لا تفعل, فان لهم أرحاما, وان كانوا قد خالفونا"..

          قال عمرو: " والله لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد, كبقية العباد"..

          هذه اذن هي المكيدة الجديدة الجديدة التي دبّرها مبعوث قريش للمسلمين كي يلجئهم الى الزاوية الحادة, ويضعهم بين شقّي الرحى, فان هم قالوا عيسى عبد من عباد الله, حرّكوا ضدهم أضان الملك والأساقفة.. وان هم نفوا عنه البشرية خرجوا عن دينهم...!!



          **



          وفي الغداة أغذا السير الى مقابلة الملك, وقال له عمرو:

          " أيها الملك: انهم ليقولون في عيسى قولا عظيما".

          واضطرب الأساقفة..

          واهتاجتهم هذه العبارة القصيرة..

          ونادوا بدعوة المسلمين لسؤالهم عن موقف دينهم من المسيح..

          وعلم المسلمون بالمؤامرة الجديدة, فجلسوا يتشاورون..

          ثم اتفقوا على أن يقولوا الحق الذي سمعوه من نبيهم عليه الصلاة والسلام, لايحيدون عنه قيد شعرة, وليكن ما يكن..!!

          وانعقد الاجتماع من جديد, وبدأ النجاشي الحديث سائلا جعفر:

          "ماذا تقولون في عيسى"..؟؟

          ونهض جعفر مرة أخرى كالمنار المضيء وقال:

          " نقول فيه ما جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبدالله ورسوله, وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه"..

          فهتف النجاشي مصدّقا ومعلنا أن هذا هو ما قاله المسيح عن نفسه..

          لكنّ صفوف الأساقفة ضجّت بما يشبه النكير..

          ومضى النجاشي المستنير المؤمن يتابع حديثه قائلا للمسلمين:

          " اذهبوا فأنتم آمنون بأرضي, ومن سبّكم أو آذاكم, فعليه غرم ما يفعل"..

          ثم التفت صوب حاشيته, وقال وسبّابته تشير الى مبعوثي قريش:

          " ردّوا عليهما هداياهما, فلا حاجة لي بها...

          فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردّ عليّ ملكي, فآخذ الرشوة فيه"...!!

          وخرج مبعوثا قريش مخذولين, حيث وليّا وجهيهما من فورهما شطر مكة عائين اليها...

          وخرج المسلمون بزعامة جعفر ليستأنفوا حياتهم الآمنة في الحبشة, لابثين فيها كما قالوا:" بخير دار.. مع خير جار.." حتى يأذن الله لهم بالعودة الى رسولهم واخوانهم وديارهم...



          **



          كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتفل مع المسلمين بفتح خيبر حين طلع عليهم قادما من الحبشة جعفر بن أبي طالب ومعه من كانوا لا يزالون في الحبشة من المهاجرين..

          وأفعم قلب الرسول عليه الصلاة والسلام بمقدمة غبطة, وسعادة وبشرا..

          وعانقه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:

          " لا أدري بأيهما أنا أسرّ بفتح خيبر.. أم بقدوم جعفر..".



          وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الى مكة, حيث اعتمروا عمرة القضاء, وعادوا الى المدينة, وقد اكتلأت نفس جعفر روعة بما سمع من انباء اخوانه المؤمنين الذين خاضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بدر, وأحد.. وغيرهما من المشاهد والمغازي.. وفاضت عيناه بالدمع على الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه, وقضوا نحبهم شهداء أبرار..

          وطار فؤداه شوقا الى الجنة, وأخذ يتحيّن فرصة الشهادة ويترقب لحظتها المجيدة..!!



          **



          وكانت غزوة مؤتة التي أسلفنا الحديث عنها, تتحرّك راياتها في الأفق متأهبة للزحف, وللمسير..

          ورأى جعفر في هذه الغزوة فرصة العمر, فامّا أن يحقق فيها نصرا كبيرا لدين الله, واما أن يظفر باستشهاد عظيم في سبيل الله..

          وتقدّم من رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجوه أن يجعل له في هذه الغزوة مكانا..

          كان جعفر يعلم علم اليقين أنها ليست نزهة.. بل ولا حربا صغيرة, انما هي حرب لم يخض الاسلام منها من قبل.. حرب مع جيوش امبراطورية عريضة باذخة, تملك من العتاد والأعداد, والخبرة والأموال ما لا قبل للعرب ولا للمسلمين به, ومع هذا طار شوقا اليها, وكان ثالث ثلاثة جعلهم رسول الله قواد الجيش وأمراءه..

          وخرج الجيش وخرج جعفر معه..

          والتقى الجمعان في يوم رهيب..



          وبينما كان من حق جعفر أن تأخذ الرهبة عنده عندما بصر جيش الروم ينتظم مائتي ألف مقاتل, فانه على العكس, أخذته نشوة عارمة اذا احسّ في أنفه المؤمن العزيز, واعتداد البطل المقتدر أنه سيقاتل أكفاء له وأندادا..!!

          وما كادت الراية توشك على السقوط من يمين زيد بن حارثة, حتى تلقاها جعفر باليمين ومضى يقاتل بها في اقدام خارق.. اقدام رجل لا يبحث عن النصر, بل عن الشهادة...

          وتكاثر عليه وحوله مقاتلي الروم, وراى فرسه تعوق حركته فاقتحم عنها فنزل.. وراح يصوب سيفه ويسدده الى نحور أعدائه كنقمة القدر.. ولمح واحدا من ألأعداء يقترب من فرسه ليعلو ظهرها, فعز عليه أن يمتطي صهوتها هذا الرجس, فبسط نحوها سيفه, وعقرها..!!

          وانطلق وسط الصفوف المتكالبة عليه يدمدم كالاعصار, وصوته يتعالى بهذا الزجر المتوهج:

          يا حبّذا الجنة واقترابها طيّبة, وبارد شرابها

          والروم روم, قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها

          عليّ اذا لاقيتها ضرابها

          وأدرك مقاتلو الروم مقدرة هذا الرجل الذي يقاتل, وكانه جيش لجب..

          وأحاطوا به في اصرار مجنون على قتله.. وحوصر بهم حصارا لا منفذ فيه لنجاة..

          وضربوا بالسيوف يمينه, وقبل أن تسقط الراية منها على الأرض تلقاها بشماله.. وضربوها هي الأخرى, فاحتضن الراية بعضديه..

          في هذه اللحظة تركّزت كل مسؤوليته في ألا يدع راية رسول الله صلى الله عليه وسلم تلامس التراب وهو حيّ..

          وحين تكّومت جثته الطاهرة, كانت سارية الراية مغروسة بين عضدي جثمانه, ونادت خفقاتها عبدالله بن رواحة فشق الصفوف كالسهم نحوها, واخذها في قوة, ومضى بها الى مصير عظيم..!!



          **



          وهكذا صنع جعفر لنفسه موتة من أعظم موتات البشر..!!

          وهكذا لقي الكبير المتعال, مضمّخا بفدائيته, مدثرا ببطولاته..

          وأنبأ العليم الخبير رسوله بمصير المعركة, وبمصير جعفر, فاستودعه الله, وبكى..

          وقام الى بيت ابن عمّه, ودعا بأطفاله وبنيه, فشمّمهم, وقبّلهم, وذرفت عيناه..

          ثم عاد الى مجلسه, وأصحابه حافون به. ووقف شاعرالاسلام حسّان بن ثابت يرثي جعفر ورفاقه:

          غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم

          الى الموت ميمون النقيبة أزهر

          أغرّ كضوء البدر من آل هاشم

          أبيّ اذا سيم الظلامة مجسر

          فطاعن حتى مال غير موسد

          لمعترك فيه القنا يتكسّر

          فصار مع المستشهدين ثوابه

          جنان, ومتلف الحدائق أخضر

          وكنّا نرى في جعفر من محمد

          وفاء وأمرا حازما حين يأمر

          فما زال في الاسلام من آل هاشم

          دعائم عز لا يزلن ومفخر



          وينهض بعد حسّان, كعب بن مالك, فيرسل شعره الجزل :

          وجدا على النفر الذين تتابعوا

          يوما بمؤتة, أسندوا لم ينقلوا

          صلى الاله عليهم من فتية

          وسقى عظامهم الغمام المسبل

          صبروا بمؤتة للاله نفوسهم

          حذر الردى, ومخافة أن ينكلوا

          اذ يهتدون بجعفر ولواؤه

          قدّام أولهم, فنعم الأول

          حتى تفرّجت الصفوف وجعفر

          حيث التقى وعث الصفوف مجدّل

          فتغير القمر المنير لفقده

          والشمس قد كسفت, وكادت تأفل



          وذهب المساكين جميعهم يبكون أباهم, فقد كان جعفر رضي الله عنه أبا المساكين..

          يقول أبو هريرة:

          " كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب"...

          أجل كان أجود الناس بماله وهو حيّ.. فلما جاء أجله أبى الا أن يكون من أجود الشهداء وأكثرهم بذلا لروحه وحياته..



          يقول عبدالله بن عمر:

          " كنت مع جعفر في غزوة مؤتة, فالتمسناه, فوجدناه وبه بضع وتسعون ما بين رمية وطعنة"..!!

          بضع وتسعون طعنة سيف ورمية رمح..؟؟!!

          ومع هذا, فهل نال القتلة من روحه ومن مصيره منالا..؟؟

          أبدا.. وما كانت سيوفهم ورماحهم سوى جسر عبر عليه الشهيد المجيد الى جوار الله الأعلى الرحيم, حيث نزل في رحابه مكانا عليّا..

          انه هنالك في جنان الخلد, يحمل أوسمة المعركة على كل مكان من جسد أنهكته السيوف والرماح..

          وان شئتم, فاسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

          " لقد رأيته في الجنّة.. له جناحان مضرّجان بالدماء.. مصبوغ القوادم"...!!!

          إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
          نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
          جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

          تعليق


          • #20
            عبدالله بن رواحة

            يا نفس, الا تقتلي تموتي



            عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مستخفيا من كفار قريش مع الوفد القادم من المدينة هناك عند مشترف مكة, يبايع اثني عشر نقيبا من الأنصار بيعة العقبة الأولى, كان هناك عبدالله بن رواحة واحدا من هؤلاء النقباء, حملة الاسلام الى المدينة, والذين مهدّت بيعتهم هذه للهجرة التي كانت بدورها منطلقا رائعا لدين الله, والاسلام..

            وعندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبايع في العام التالي ثلاثة وسبعين من الأنصار أهل المدينة بيعة العقبة الثانية, كان ابن رواحة العظيم واحدا من النقباء المبايعين...



            وبعد هجرة الرسول وأصحابه الى المدينة واستقرارهم بها, كان عبدالله بن رواحة من أكثر الأنصار عملا لنصرة الدين ودعم بنائه, وكان من أكثرهم يقظة لمكايد عبد الله بن أبيّ الذي كان أهل المدينة يتهيئون لتتويجه ملكا عليها قبل أن يهاجر الاسلام اليها, والذي لم تبارح حلقومه مرارة الفرصة الضائعة, فمضى يستعمل دهاءه في الكيد للاسلام. في حين مضى عبدالله بن رواحة يتعقب هذا الدهاء ببصيرةمنيرة, أفسدت على ابن أبيّ أكثر مناوراته, وشلّت حركة دهائه..!!

            وكان ابن رواحة رضي الله عنه, كاتبا في بيئة لا عهد لها بالكتابة الا يسيرا..

            وكان شاعرا, ينطلق الشعر من بين ثناياه عذبا قويا..

            ومنذ أسلم, وضع مقدرته الشعرية في خدمة الاسلام..

            وكان الرسول يحب شعره ويستزيده منه..



            جلس عليه السلام يوما مع أصحابه, وأقبل عبدالله بن رواحة, فسأله النبي:

            " كيف تقول الشعر اذا أردت أن نقول"..؟؟

            فأجاب عبدالله:" أنظر في ذاك ثم أقول"..

            ومضى على البديهة ينشد:

            يا هاشم الخير ان الله فضّلكم

            على البريّة فضلا ما له غير

            اني تفرّست فيك الخير أعرفه

            فراسة خالفتهم في الذي نظروا

            ولو سألت أو استنصرت بعضهمو

            في حلّ أمرك ما ردّوا ولا نصروا

            فثّبت الله ما آتاك من حسن

            تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا



            فسرّ الرسول ورضي وقال له:

            " واياك, فثّبت الله"..

            وحين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يطوف بالبيت في عمرة القضاء

            كان ابن رواحة بين يديه ينشد من رجزه:

            يا ربّ لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلينا

            فأنزلن سكينة علينا وثبّت الأقدام ان لاقينا

            ان الذين قد بغوا علينا اذا أرادوا فتنة ألبنا

            وكان المسلمون يرددون أنشودته الجميلة..

            وحزن الشاعر المكثر, حين تنزل الآية الكريمة:

            ( والشعراء يتبعهم الغاوون)..

            ولكنه يستردّ غبطة نفسه حين تنزل آية أخرى:

            ( الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات, وذكروا الله كثيرا, وانتصروا من بعد ما ظلموا..)



            **



            وحين يضطر الاسلام لخوض القتال دفاعا عن نفسه, يحمل ابن رواحة سيفه في مشاهد بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر جاعلا شعاره دوما هذه الكلمات من شعره وقصيده:

            " يا نفس الا تقتلي تموتي"..

            وصائحا في المشركين في كل معركة وغزاة:

            خلوا بني الكفار عن سبيله

            خلوا, فكل الخير في رسوله



            **



            وجاءت غزوة مؤتة..

            وكان عبدالله بن رواحة ثالث الأمراء, كما أسلفنا في الحديث عن زيد وجفعر..

            ووقف ابن رواحة رضي الله عنه والجيش يتأهب لمغادرة المدينة..

            وقف ينشد ويقول:

            لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع وتقذف الزبدا

            أو طعنة بيدي حرّان مجهرة بحربة تنفد الأحشاء والكبدا

            حتى يقال اذا مرّوا على جدثي يا أرشد الله من غاز, وقد رشدا

            أجل تلك كانت أمنيته ولا شيء سواها.. ضربة سيف أو طعنة رمح, تنقله الى عالم الشهداء والظافرين..!!



            **



            وتحرّك الجيش الى مؤتة, وحين استشرف المسلمون عدوّهم حزروا جيش الروم بمائتي ألف مقاتل, اذ رأوا صفوفا لا آخر لها, وأعداد نفوق الحصر والحساب..!!

            ونظر المسلمون الى عددهم القليل, فوجموا.. وقال بعضهم:

            " فلنبعث الى رسول الله, نخبره بعدد عدوّنا, فامّا أن يمدّنا بالرجال, وأمّا أن يأمرنا بالزحف فنطيع"..

            بيد أن ابن رواحة نهض وسط صفوفهم كالنهار, وقال لهم:

            " يا قوم..

            انّا والله, ما نقاتل الا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به..

            فانطلقوا.. فانما هي احدى الحسنيين, النصر أو الشهادة"...

            وهتف المسلمون الأقلون عددا, الأكثرون ايمانا,..

            هتفوا قائلين:

            "قد والله صدق ابن رواحة"..

            ومضى الجيش الى غايته, يلاقي بعدده القليل مائتي ألف, حشدهم الروم للقتال الضاري الرهيب...



            **



            والتقى الجيشان كما ذكرنا من قبل..

            وسقط الأمير الأول زيد بن حارثة شهيدا مجيدا..

            وتلاه الأمير الثاني جعفر بن عبد المطلب حتى أدرك الشهادة في غبطة وعظمة..

            وتلاه ثالث الأمراء عبداله بن رواحة فحمل الراية من يمين جعفر.. وكان القتال قد بلغ ضراوته, وكادت القلة المسلمة تتوه في زحام العرمرم اللجب, الذي حشده هرقل..

            وحين كان ابن رواحة يقاتل كجندي, كان يصول ويجول في غير تردد ولا مبالاة..

            أما الآن, وقد صار أميرا للجيش ومسؤولا عن حياته, فقد بدا أمام ضراوة الروم, وكأنما مرّت به لمسة تردد وتهيّب, لكنه ما لبث أن استجاش كل قوى المخاطرة في نفسه وصاح..



            أقسمت يا نفس لتنزلنّه مالي أراك تكرهين الجنّة؟؟

            يا نفس الا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت

            وما تمنّت فقد أعطيت ان تفعلي فعلهما هديت

            يعني بهذا صاحبيه الذين سبقاه الى الشهادة: زيدا وجعفر..

            "ان تفعلي فعلهما هديت.



            انطلق يعصف بالروم عصفا..

            ولا كتاب سبق بأن يكون موعده مع الجنة, لظلّ يضرب بسيفه حتى يفني الجموع المقاتلة.. لكن ساعة الرحيل قد دقّت معلنة بدء المسيرة الى الله, فصعد شهيدا..

            هوى جسده, فصعدت الى الرفيق الأعلى روحه المستبسلة الطاهرة..

            وتحققت أغلى أمانيه:

            حتى يقال اذا مرّوا على جدثي

            يا أرشد الله من غار, وقد رشدا

            نعم يا ابن رواحة..

            يا أرشد الله من غاز وقد رشدا..!!



            **



            وبينما كان القتال يدور فوق أرض البلقاء بالشام, كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه في المدينة, يحادثهم ويحادثونه..

            وفجأة والحديث ماض في تهلل وطمأنينة, صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأسدل جفنيه قليلا.. ثم رفعهما لينطلق من عينيه بريق ساطع يبلله أسى وحنان..!!

            وطوفّت نظراته الآسية وجوه أصحابه وقال:

            "أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا.

            ثم أخذها جعفر فقاتل بها, حتى قتل شهيدا"..

            وصمت قليلا ثم استأنف كلماته قائلا:

            " ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها, حتى قتل شهيدا"..

            ثم صمت قليلا وتألقت عيناه بومض متهلل, مطمئن, مشتاق. ثم قال:

            " لقد رفعوا الى الجنة"..!!

            أيّة رحلة مجيدة كانت..

            وأي اتفاق سعيد كان..

            لقد خرجوا الى الغزو معا..

            وكانت خير تحيّة توجّه لذكراهم الخالدة, كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم:

            " لقد رفعوا الى الجنة"..!!

            إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
            نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
            جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

            تعليق


            • #21
              خالد بن الوليد

              لا ينام ولا يترك أحدا ينام



              ان أمره لعجيب..!!

              هذا الفاتك بالمسلمين يوم أحد والفاتك بأعداء الاسلام بقية الأيام..!!

              ألا فلنأت على قصته من البداية..

              ولكن أية بداية..؟؟

              انه هو نفسه, لا يكاد يعرف لحياته بدءا الا ذلك اليوم الذي صافح فيه الرسول مبايعا..

              ولو استطاع لنحّى عمره وحياته, كل ماسبق ذلك اليوم من سنين, وأيام..

              فلنبدأ معه اذن من حيث يحب.. من تلك اللحظة الباهرة التي خشع فيها قلبه لله, وتلقت روحه فيها لمسة من يمين الرحمن, وكلتا يديه يمي, فنفجّرت شوقا الى دينه, والى رسوله, والى استشهاد عظيم في سبيل الحق, ينضو عن كاهله أوزار مناصرته الباطل في أيامه الخاليات..



              **



              لقد خلا يوما الى نفسه, وأدار خواطره الرشيدة على الدين الجديد الذي تزداد راياته كل يوما تألقا وارتفاعا, وتمنّى على الله علام الغيوب أن يمدّ اليه من الهدى بسبب.. والتمعت في فؤاده الذكي بشائر اليقين, فقال:

              " والله لقد استقام المنسم....

              وان الرجل لرسول..

              فحتى متى..؟؟

              أذهب والله, فأسلم"..

              ولنصغ اليه رضي الله عنه وهو يحدثنا عن مسيره المبارك الى رسول الله عليه الصلاة والسلام, وعن رحلته من مكة الى المدينة ليأخذ مكانه في قافلة المؤمنين:

              ".. وددت لو أجد من أصاحب, فلقيت عثمان بن طلحة, فذكرت له الذي أريد فأسرع الاجابة, وخرجنا جميعا فأدلجنا سحرا.. فلما كنا بالسهل اذا عمرو بن العاص, فقال مرحبا يا قوم,

              قلنا: وبك..

              قال: أين مسيركم؟ فأخبرناه, وأخبرنا أيضا أنه يريد النبي ليسلم.

              فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان..فلما اطّلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوّة فردّ على السلام بوجه طلق, فأسلمت وشهدت شهادة الحق..

              فقال الرسول: قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك الا الى خير..

              وبايعت رسول الله وقلت: استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله..

              فقال: ان الاسلام يجبّ ما كان قبله..

              قلت: يا رسول الله على ذلك..

              فقال: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صدّ عن سبيلك..

              وتقدّم عمرو بن العاص, وعثمان بن طلحة, فأسلما وبايعا رسول الله"...



              **



              أرأيتم قوله للرسول:" استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله"..؟؟

              ان الذي يضع هذه العبارة بصره, وبصيرته, سيهتدي الى فهم صحيح لسلك المواقف التي تشبه الألغاز في حياة سيف الله وبطل الاسلام..

              وعندما نبلغ تلك المواقف في قصة حياته ستكون هذه العبارة دليلنا لفهمها وتفسيرها-..

              أما الآن, فمع خالد الذي أسلم لتوه لنرى فارس قريش وصاحب أعنّة الخيل فيها, لنرى داهية العرب كافة في دنيا الكرّ والفرّ, يعطي لآلهة أبائه وأمجاد قومه ظهره, ويستقبل مع الرسول والمسلمين عالما جديدا, كتب الله له أن ينهض تحت راية محمد وكلمة التوحيد..

              مع خالد اذن وقد أسلم, لنرى من أمره عجبا..!!!!



              **



              أتذكرون أنباء الثلاثة شهداؤ أبطال معركة مؤتة..؟؟

              لقد كانوا زيد بن حارثة, وجعفر بن أبي طالب, وعبدالله بن رواحة..

              لقد كانوا أبطال غزوة مؤتة بأرض الشام.. تلك الغزوة التي حشد لها الروم مائتي ألف مقاتل, والتي أبلى المسلمون فيها بلاء منقطع النظير..

              وتذكرون العبارة الجليلة الآسية التي نعى بها الرسول صلى الله عليه وسلم قادة المعركة الثلاثة حين قال:

              " أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا.

              ثم أخذها جعفر فقاتل بها, حتى قتل شهيدا..

              ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا".

              كان لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بقيّة, ادّخرناها لمكانها على هذه الصفحات..

              هذه البقيّة هي:

              " ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله, ففتح الله علي يديه".

              فمن كان هذا البطل..؟



              لقد كان خالد بن الوليد.. الذي سارع الى غزوة مؤتة جنديا عاديا تحت قيادة القواد الثلاثة الذين جعلهم الرسول على الجيش: زيد, وجعفر وعبدالله ابن رواحة, والذين استشهدوا بنفس الترتيب على ارض المعركة الضارية..

              وبعد سقوط آخر القواد شهيدا, سارع الى اللواء ثابت بن أقوم فحمله بيمينه ورفعه عاليا وسط الجيش المسلم حتى لا بعثر الفوضى صفوفه..

              ولم يكد ثابت يحمل الراية حتى توجه بها مسرعا الى خالد بن الوليد, قائلا له:

              " خذ اللواء يا أبا سليمان"...

              ولم يجد خالد من حقّه وهو حديث العهد بالاسلام أن يقود قوما فيهم الأنصار والمهاجرون الذين سبقوه بالاسلام..

              أدب وتواضع وعرفان ومزايا هو لها اهل وبها جدير!!

              هنالك قال مجيبا ثابت بن أقرم:

              " لا آخذ اللواء, أنت أحق به.. لك سن وقد شهدت بدرا"..

              وأجابه ثابت:" خذه, فأنت أدرى بالقتال مني, ووالله ما أخذته الا لك".

              ثم نادى في المسلمين: اترضون امرة خالد..؟

              قالوا: نعم..

              واعتلى العبقري جواده. ودفع الراية بيمينه الى الأمام كأنما يقرع أبوابها مغلقة آن لها أن تفتح على طريق طويل لاحب سيقطعه البطل وثبا..

              في حياة الرسول وبعد مماته, حتى تبلغ المقادير بعبقريته الخارقة أمرا كان مقدورا...

              ولّي خالد امارة الجيش بعد أن كان مصير المعركة قد تحدد. فضحايا المسلمين كثيرون, وجناهم مهيض.. وجيش الروم في كثرته الساحقة كاسح, ظافر مدمدم..

              ولم يكن بوسع أية كفاية حربية أن تغير من المصير شيئا, فتجعل المغلوب غالبا, والغالب مغلوبا..

              وكان العمل الوحيد الذي ينتظر عبقريا لكي ينجزه, هو وقف الخسائر في جيش الاسلام, والخروج ببقيته سالما, أي الانسحاب الوقائي الذي يحول دون هلاك بقية القوة المقاتلة على أرض المعركة.

              بيد أن انسحابا كهذا كان من الاستحالة بمكان..

              ولكن, اذا كان صحيحا أنه لا مستحيل على القلب الشجاع فمن أشجع قلبا من خالد, ومن أروع عبقرية وأنفذ بصيرة..؟؟!



              هنالك تقدم سيف الله يرمق أرض القتال الواسعة بعينين كعيني الصقر, ويدير الخطط في بديهته بسرعة الضوء.. ويقسم جيشه, والقتال دائر, الى مجموعات, ثم يكل الى كل مجموعة بمهامها.. وراح يستعمل فنّه المعجز ودهاءه البليغ حتى فتح في صفوف الروم ثغرة فسيحة واسعة, خرج منها جيش المسلمين كله سليما معافى. بعد أن نجا بسبب من عبقرية بطل الاسلام من كارثة ماحقة ما كان لها من زوال...!!

              وفي هذه المعركة أنعم الرسول على خالد بهذا اللقب العظيم..



              **



              وتنكث قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيتحرك المسلمون تحت قيادته لفتح مكة..

              وعلى الجناح الأيمن من الجيش, يجعل الرسول خالدا أميرا..

              ويدخل خالد مكة, واحدا من قادة الجيش المسلم, والأمة المسلمة بعد أن شهدته سهولها وجبالها. قائدا من قوّاد جيش الوثنية والشرك زمنا طويلا..

              وتخطر له ذكريات الطفولة, حيث مراتعها الحلوة.. وذكريات الشباب, حيث ملاهيه الصاخبة..

              ثم تجيشه ذكريات الأيام الطويلة التي ضاع فيها عمره قربانا خاسرا لأصنام عاجزة كاسدة..



              وقبل أن يعضّ الندم فؤاده ينتفض تحت تحت روعة المشهد وجلاله..

              مشهد المستضعفين الذين لا تزال جسومهم تحمل آثار التعذيب والهول, يعودون الى البلد الذي أخرجوا منه بغيا وعدوا, يعودون اليه على صهوات جيادهم الصاهلة, وتحت رايات الاسلام الخافقة.. وقد تحوّل همسهم الذي كانوا يتناجون به في دار الأرقم بالأمس, الى تكبيرات صادعة رائعة ترجّ مكة رجّا, وتهليلات باهرة ظافرة, يبدو الكون معها, وكأنه كله في عيد...!!

              كيف تمّت المعجزة..؟

              أي تفسير لهذا الذي حدث؟



              لا شيء الا هذه الآية التي يرددها الزاحفون الظافرون وسط تهليلاتهم وتكبيراتهم حتى ينظر بعضهم الى بعض فرحين قائلين:

              (وعد الله.. لا يخلف الله وعده)..!!



              ويرفع خالد رأسه الى أعلى. ويرمق في اجلال وغبطة وحبور رايات الاسلام تملأ الأفق.. فيقول لنفسه:

              أجل انه وعد الله ولا يخلف الله وعده..!!

              ثم يحني رأسه شاكرا نعمة ربه الذي هداه للاسلام وجعله في يوم الفتح العظيم هذا, واحدا من الذين يحملون راية الاسلام الى مكة.. وليس من الذين سيحملهم الفتح على الاسلام..



              **



              ويظل خالد الى جانب رسول الله, واضعا كفاياته المتفوقة في خدمة الدين الذي آمن به من كل يقينه, ونذر له كل حياته.



              وبعد أن يلحق الرسول بالرفيق الأعلى, ويحمل أبو بكر مسؤولية الخلافة, وتهبّ أعاصير الردّة غادرة ماكرة, مطوقة الدين الجديد بزئيرها المصمّ وانتفاضها المدمدم.. يضع أبو بكر عينه لأول وهلة على بطل الموقف ورجل الساعة.. أبي سليمان, سيف الله, خالد بن الوليد..!!

              وصحيح أن أبا بكر لم يبدأ معارك المرتدين الا بجيش قاده هو بنفسه, ولكن ذلك لا يمنع أنه ادّخر خالدا ليوم الفصل, وأن خالدا في المعركة الفاصلة التي كانت أخطر معارك الردة جميعا, كان رجلها الفذ وبطلها الملهم..



              **



              عندما بدأت جموع المرتدين تتهيأ لانجاز مؤامرتها الضخمة, صمم الخليفة العظيم أبو بكر على أن يقود جيوش المسلمين بنفسه, ووقف زعماء الصحابة يبذلون محاولات يائسة لصده عن هذا العزم. ولكنه ازداد تصميما.. ولعله أراد بهذا أن يعطي القضية التي دعا الناس لخوض الحرب من أجلها أهميّة وقداسة, لا يؤكدها في رأيه الا اشتراكه الفعلي في المعارك الضارية التي ستدور رحاها بين قوى الايمان, وبين جيوش الضلال والردة, والا قيادته المباشرة لبعض أو لكل القوات المسلمة..

              ولقد كانت انتفاضات الردة بالغة الخطورة, على الرغم من أنها بدأت وكأنها تمرّد عارض..



              لقد وجد فيها جميع الموتورين من الاسلام والمتربصين به فرصتهم النادرة, سواء بين قبائل العرب, أم على الحدود, حيث يجثم سلطان الروم والفرس, هذا السلطان الذي بدأ يحسّ خطر الاسلام الأكبر عليه, فراح يدفع الفتنة في طريقه من وراء ستار..!!

              ونشبت نيران الفتننة في قبائل: أسد, وغطفان, وعبس, وطيء, وذبيان..

              ثم في قبائل: بني غامر, وهوازن, وسليم, وبني تميم..

              ولم تكد المناوشات تبدأ حتى استحالت الى جيوش جرّارة قوامها عشرات الألوف من المقاتلين..

              واستجاب للمؤامرة الرهيبة أهل البحرين, وعمان, والمهرة, وواجه الاسلام أخطر محنة, واشتعلت الأرض من حول المسلمين نارا.. ولكن, كان هناك أبو بكر..!!



              عبّأ أبو بكر المسلمين وقادهم الى حيث كانت قبائل بني عبس, وبني مرّة, وذبيان قد خرجوا في جيش لجب..

              ودار القتال, وتطاول, ثم كتب للمسلمين نصر مؤزر عظيم..

              ولم يكد الجيش المنتصر يستقر بالمدينة. حتى ندبه الخليفة للمعركة التالية..



              وكانت أنباء المرتدين وتجمّعاتهم تزداد كل ساعة خطورة .. وخرج أبو بكر على رأس هذا الجيش الثاني, ولكن كبار الصحابة يفرغ صبرهم, ويجمعون على بقاء الخليفة بالمدينة, ويعترض الامام علي طريق أبا بكر ويأخذ بزمام راحلته التي كان يركبها وهو ماض امام جيشه الزاحف فيقول له:

              " الى أين يا خليفة رسول الله..؟؟

              اني أقول لك ما قاله رسول الله يوم أحد:

              لمّ سيفك يا أبا بكر لا تفجعنا بنفسك..."

              وأمام اجماع مصمم من المسلمين, رضي الخليفة أن يبقى بالمدينة وقسّم الجيش الى احدى عشرة مجموعة.. رسم لكل مجموعة دورها..

              وعلى مجموعة ضخمة من تلك المجموعات كان خالد بن الوليد أميرا..

              ولما عقد الخليفة لكل أمير لواءه, اتجه صوب خالد وقال يخاطبه:

              " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم عبدالله. وأخو العشيرة, خالد ابن الوليد, سيف من سيوف الله. سلّه الله على الكفار والمنافقين"..



              **



              ومضى خالد الى سبيله ينتقل بجيشه من معركة الى معركة, ومن نصر الى نصر حتى كانت المعركة الفاصلة..



              فهناك باليمامة كان بنو حنيفة, ومن انحاز اليهم من القبائل, قد جيّشوا أخطر جيوش الردة قاطبة, يقوده مسيلمة الكذاب.

              وكانت بعض القوات المسلمة قد جرّبت حظها مع جيوش مسيلمة, فلم تبلغ منه منالا..

              وجاء أمر الخليفة الى قائده المظفر أن سر الى بني حنيفة.. وسار خالد..

              ولم يكد مسيلمة يعلم أن ابن الوليد في الطريق اليه حتى أعاد تنظيم جيشه, وجعل منه خطرا حقيقيا, وخصما رهيبا..



              والتقى الجيشان:

              وحين تطالع في كتب السيرة والتاريخ, سير تلك المعركة الهائلة, تأخذك رهبة مضنية, اذ تجد نفسك أمام معركة تشبه في ضراوتها وجبروتها معارك حروبنا الحديثة, وان اختلّفت في نوع السلاح وظروف القتال..

              ونزل خالد بجيشه على كثيب مشرف على اليمامة, وأقبل مسيلمة في خيلائه وبغيه, صفوف جيشه من الكثرة كأنها لا تؤذن بانتهاء..!!



              وسّلم خالد الألوية والرايات لقادة جيشه, والتحم الجيشان ودار القتال الرهيب, وسقط شهداء المسلمين تباعا كزهور حديقة طوّحت بها عاصفة عنيدة..!!

              وأبصر خالد رجحان كفة الأعداء, فاعتلى بجواده ربوة قريبة وألقى على المعركة نظرة سريعة, ذكية وعميقة..

              ومن فوره أدرك نقاط الضعف في جيشه وأحصاها..

              رأى الشعور بالمسؤولية قد وهن تحت وقع المفاجأة التي دهمهم بها جيش مسيلمة, فقرر في نفس اللحظة أن يشدّ في أفئدة المسلمين جميعا الى أقصاه.. فمضى ينادي اليه فيالق جيشه وأجنحته, وأعاد تنسيق مواقعه على أرض المعركة, ثم صاح بصوته المنتصر:

              " امتازوا, لنرى اليوم بلاء كل حيّ".

              وامتازوا جميعا..

              مضى المهاجرون تحت راياتهم, والأنصار تحت رايتهم " وكل بني أب على رايتهم".

              وهكذا صار واضحا تماما, من أين تجيء الهزيمة حين تجيء واشتعلت الأنفس حماسة, اتّقدت مضاء, وامتلأت عزما وروعة..

              وخالد بين الحين والحين, يرسل تكبيرة أو تهليلة أو صيحة يلقى بها امرا, فتتحوّل سيوف جيشه الى مقادير لا رادّ لأمرها, ولا معوّق لغاياتها..

              وفي دقائق معدودة تحوّل اتجاه المعركة وراح جنود مسيلمة يتساقطون بالعشرات, فالمئات فالألوف, كذباب خنقت أنفاس الحياة فيه نفثات مطهر صاعق مبيد..!!



              لقد نقل خالد حماسته كالكهرباء الى جنوده, وحلّت روحه في جيشه جميعا.. وتلك كانت احدى خصال عبقريّته الباهرة..

              وهكذا سارت أخطر معارك الردة وأعنف حروبها, وقتل مسيلمة..

              وملأت جثث رجاله وجيشه أرض القتال, وطويت تحت التراب الى الأبد راية الدّعيّ الكذاب..



              **



              وفي المدينة صلى الخليفة لربه الكبير المتعال صلاة الشكر, اذ منحهم هذا النصر, وهذا البطل..

              وكان أبو بكر قد أدرك بفطنته وبصيرته ما لقوى الشر الجاثمة وراء حدود بلاده من دور خطير في تهديد مصير الاسلام واهله.. الفرس في العراق.. والروم في بلاد الشام..

              امبرطوريتان خرعتان, تتشبثان بخيوط واهنة من حظوظهما الغاربة وتسومان الناس في العراق وفي الشام سوء العذاب, بل وتسخرهم, وأكثرهم عرب, لقتال المسلمين العرب الذين يحملون راية الدين الجديدة, يضربون بمعاوله قلاع العالم القديم كله, ويجتثون عفنه وفساده..!

              هنالك أرسل الخليفة العظيم المبارك توجيهاته الى خالد أن يمضي بجيشه صوب العراق..

              ويمضي البطل الى العراق, وليت هذه الصفحات كانت تتسع لتتبع مواكب نصره, اذن لرأينا من أمرها عجبا.

              لقد استهلّ عمله في العراق بكتب أرسلها الى جميع ولاة كسرى ونوابه على ألوية العراق ومدائنه..

              " بسم الله الرحمن الرحيم

              من خالد بن الوليد.. الى مرازبة فارس..

              سلام على من اتبع الهدى

              أما بعد, فالحمد لله الذي فضّ خدمكم, وسلب ملككم, ووهّن كيدكم

              من صلى صلاتنا, واستقبل قبلتنا, واكل ذبيحتنا فذلكم المسلم, له ما لنا وعليه ما علينا

              اذا جاءكم كتابي فابعثوا اليّ بالرهن واعتقدوا مني الذمّة

              والا, فوالذي لا اله غيره لأبعثن اليكم قوما يحبون الموت كما تحبون الحياة"..!!



              وجاءته طلائعه التي بثها في كل مكان بأنباء الزّحوف الكثيرة التي يعدها له قوّاد الفرس في العراق, فلم يضيّع وقته, وراح يقذف بجنوده على الباطل ليدمغه.. وطويت له الأرض طيّا عجيبا.

              في الأبلّة, الى السّدير, فالنّجف, الى الحيرة, فالأنبار, فالكاظمية. مواكب نصر تتبعها مواكب... وفي كل مكان تهلّ به رياحه البشريات ترتفع للاسلام راية يأوي الى فيئها الضعفاء والمستعبدون.

              أجل, الضعفاء والمستعبدون من أهل البلد الذين كان الفرس يستعمرونهم, ويسومونهم سوء العذاب..

              وكم كان رائعا من خالد أن بدأ زحفه بأمر أصدره الى جميع قوّاته:

              " لا تتعرّضوا للفلاحين بسوء, دعوهم في شغلهم آمنين, الا أن يخرج بعضهم لقتالكم, فآنئذ قاتلوا المقاتلين".

              وسار بجيشه الظافر كالسكين في الزبد الطريّ حتى وقف على تخوم الشام..

              وهناك دوّت أصوات المؤذنين, وتكبيرات الفاتحين.

              ترى هل سمع الروم في الشام..؟

              وهل تبيّنوا في هذه التكبيرات نعي أيامهم, وعالمهم..؟

              أجل لقد سمعوا.. وفزّعوا.. وقرّروا أن يخوضوا في حنون معركة اليأس والضياع..!



              **



              كان النصر الذي أحرزه الاسلام على الفرس في العراق بشيرا بنصر مثله على الروم في الشام..

              فجنّد الصدّيق أبو بكر جيوشا عديدة, واختار لامارتها نفرا من القادة المهرة, أبو عبيدة بن الجراح, وعمرو بن العاص, ويزيد بن أبي سفيان, ثم معاوية بن أبي سفيان..

              وعندما نمت أخبار هذه الجيوش الى امبراطور الروم نصح وزراءه وقوّاده بمصالحة المسلمين, وعدم الدخول معهم في حرب خاسرة..

              بيد أن وزراءه وقوّاده أصرّوا على القتال وقالوا:

              " والله لنشغلنّ أبا بكر على أن يورد خيله الى أرضنا"..

              وأعدوا للقتال جيشا بلغ قوامه مائتي ألف مقاتل, وأربعين ألفا.

              وأرسل قادة المسلمين الى الخليفة بالصورة الرهيبة للموقف فقال أبو بكر:

              " والله لأشفينّ وساوسهم بخالد"..!!!

              وتلقى ترياق الوساوس.. وساوس التمرّد والعدوان والشرك, تلقى أمر الخليفة بالزحف الى الشام, ليكون أميرا على جيوش الاسلام التي سبقته اليها..

              وما اسرع ما امتثل خالد وأطلع, فترك على العراق المثنّى بن الحارثة وسار مع قواته التي اختارها حتى وصل مواقع المسلمين بأرض الشام, وأنجز بعبقريته الباهرة تنظيم الجيش المسلم وتنسيق مواقعه في وقت وجيز, وبين يدي المعركة واللقاء, وقف في المقاتلين خطيبا فقال بعد أن حمد ربه وأثنى عليه:

              " ان هذا يوم من أيام الله, لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..

              أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم, وتعالوا نتعاون الامارة, فيكون أحدنا اليوم أميرا, والآخر غدا, والآخر بعد غد, حتى يتأمّر كلكم"...

              هذا يوم من أيام الله..

              ما أروعها من بداية..!!

              لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..

              وهذه أكثر روعة وأوفى ورعا!!



              ولم تنقص القائد العظيم الفطنة المفعمة بالايثار, فعلى الرغم من أن الخليفة وضعه على رأس الجيش بكل أمرائه, فانه لم يشا أن يكون عونا للشيطان على أنفس أصحابه, فتنازل لهم عن حقه الدائم في الامارة وجعلها دولة بينهم..

              اليوم أمير, وغدا أمير ثان.. وبعد غد أمير آخر..وهكذا..

              كان جيش الروم بأعداده وبعتاده, شيئا بالغ الرهبة..

              لقد أدرك قوّاد الروم أن الزمن في صالح المسلمين, وأن تطاول القتال وتكاثر المعارك يهيئان لهم النصر دائما, من أجل ذلك قرروا أن يحشدوا كل قواهم في معركة واحدة يجهزون خلالها على العرب حيث لا يبقى لهم بعدها وجود, وما من شك أن المسلمين أحسّوا يوم ذاك من الرهبة والخطر ما ملأ نفوسهم المقدامة قلقا وخوفا..

              ولكن ايمانهم كان يخفّ لخدمتهم في مثل تلك الظلمات الحالكات, فاذا فجر الأمل والنصر يغمرهم بسناه..!!



              ومهما يكن بأس الروم وجيوشهم, فقد قال أبو بكر, وهو بالرجال جدّ خبير:

              " خالد لها".!!

              وقال:" والله, لأشفينّ وساوسهم بخالد".

              فليأت الروم بكل هولهم, فمع المسلمين الترياق..!!

              عبأ ابن الوليد جيشه, وقسمه الى فيالق, ووضع للهجوم والدفاع خطة جديدة تتناسب مع طريقة الروم بعد أن خبر وسائل اخوانهم الفرس في العراق.. ورسم للمعركة كل مقاديرها..

              ومن عجب أن المعركة دارت كما رسم خالد وتوقع, خطوة خطوة, وحركة حركة, حتى ليبدو وكأنه لو تنبأ بعدد ضربات السيوف في المعركة, لما أخطأ التقدير والحساب..!!

              كل مناورة توقعها من الروم صنعوها..

              كل انسحاب تنبأ به فعلوه..

              وقبل أن يخوض القتال كان يشغل باله قليلا, احتمال قيام بعض جنود جيشه بالفرار, خاصة أولئك الذين هم حديثو العهد بالاسلام, بعد أن رأى ما ألقاه منظر جيش الروم من رهبة وجزع..

              وكان خالد يتمثل عبقرية النصر في شيء واحد, هو الثبات..

              وكان يرى أن حركة هروب يقوم بها اثنان أو ثلاثة, يمكن أن تشيع في الجيش من الهلع والتمزق ما لا يقدر عليه جيش العدو بأسره...

              من أجل هذا, كان صارما, تجاه الذي يلقي سلاحه ويولي هاربا..

              وفي تلك الموقعة بالذات موقعة اليرموك, وبعد أن أخذ جيشه مواقعه, دعا نساء المسلمين, ولأول مرّة سلّمهن السيوف, وأمرهن, بالوقوف وراء صفوف المسلمين من كل جانب وقال لهن:

              " من يولّي هاربا فاقتلنه"..

              وكانت لفتة بارعة أدت مهمتها على أحسن وجه..!!

              وقبيل بدء القتال طلب قائد الروم أن يبرز اليه خالد ليقول له بضع كلمات ..

              وبرز اليه خالد, حيث تواجها فوق جواديهما في الفراغ الفاصل بين الجيشين..

              وقال ماهان قائد الروم يخاطب خالدا"

              " قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم الا الجوع والجهد..

              فان شئتم, أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير, وكسوة, وطعاما, وترجعون الى بلادكم, وفي العام القادم أبعث اليكم بمثلها".!!

              وضغط خالد الرجل والبطل على أسنانه, وأدرك ما في كلمات قائد الروم من سوء الأدب..

              وقرر أن يرد عليه بجواب مناسب, فقال له:

              " انه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت, ولكننا قوم نشرب الدماء, وقد علمت أنه لا دم أشهى وأطيب من دم الروم, فجئنا لذلك"..!!

              ولوى البطل زمام جواده عائدا الى صفوف جيشه. ورفع اللواء عاليا مؤذنا بالقتال..

              " الله أكبر"

              " هبّي رياح الجنة"..

              كان جيشه يندفع كالقذيفة المصبوبة.

              ودار قتال ليس لضراوته نظير..

              وأقبل الروم في فيالق كالجبال..

              وبدا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون..

              ورسم المسلمون صورا تبهر الألباب من فدائيتهم وثباتهم..

              فهذا أحدهم يقترب من أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه والقتال دائر ويقول:

              " اني قد عزمت على الشهادة, فهل لك من حاجة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغها له حين ألقاه"؟؟

              فيجيب أبو عبيدة:

              " نعم قل له: يا رسول الله انا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا".

              ويندفع الرجل كالسهم المقذوف.. يندفع وسط الهول مشتاقا الى مصرعه ومضجعه.. يضرب بسيفه, ويضرب بآلاف السيوف حتى يرتفع شهيدا..!!

              وهذا عكرمة بن أبي جهل..

              أجل ابن أبي جهل..

              ينادي في المسلمين حين ثقلت وطأة الروم عليهم قائلا:

              " لطالما قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهدني الله الاسلام, افأفرّ من أعداء الله اليوم"؟؟

              ثم يصيح:" من يبايع على الموت"..

              فيبايعه على الموت كوكبة من المسلمين, ثم ينطلقون معا الى قلب المعركة لا باحثين عن النصر, بل عن الشهادة.. ويتقبّل الله بيعتهم وبيعهم,

              فيستشهدون..!!

              وهؤلاء آخرون أصيبوا بجراح أليمة, وجيء لهم بماء يبللون به أفواههم, فلما قدم الماء الى أولهم, أشار الى الساقي أن أعط أخي الذي بجواري فجرحه أخطر, وظمؤه أشد.. فلما قدّم اليه الماء, اشار بدوره لجاره. فلما انتقل اليه أشار بدوره لجاره..

              وهكذا, حتى.. جادت أرواح أكثرهم ظامئة.. ولكن أنضر ما تكون تفانيا وايثارا..!!

              أجل..

              لقد كانت معركة اليرموك مجالا لفدائية يعز نظيرها.

              ومن بين لوحات الفداء الباهرة التي رسمتها عزمات مقدرة, تلك اللوحة الفذة.. لوحة تحمل صورة خالد بن الوليد على رأس مائة لا غير من جنده, ينقضّون على ميسرة الروم وعددها أربعون ألف جندي, وخالد يصيح في المائة الذين معه:

              " والذي نفسي بيده ما بقي مع الروم من الصبر والجلد الا ما رأيتم.

              واني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم".

              مائة يخوضون في أربعين ألف.. ثم ينتصرون..!!

              ولكن أي عجب؟؟

              أليس ملء قلوبهم ايمان بالله العلي الكبير..؟؟

              وايمان برسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؟؟

              وايمان بقضية هي أكثر قضايا الحياة برا, وهدى ونبلا؟



              وأليس خليفتهم الصديق رضي الله عنه, هذا الذي ترتفع راياته فوق الدنيا, بينما هو في المدينة’ العاصمة الجديدة للعالم الجديد, يحلب بيده شياه الأيامى, ويعجن بيده خبز اليتامى..؟؟

              وأليس قائدهم خالد بن الوليد ترياق وساوس التجبر, والصلف, والبغي, والعدوان, وسيف الله المسلول على قوى التخلّف والتعفّن والشرك؟؟

              أليس ذلك, كذلك..؟

              اذن, هبي رياح النصر...

              هبّي قويّة عزيزة, ظافرة, قاهرة...



              **



              لقد بهرت عبقرية خالد قوّاد الروم وأمراء جيشهم, مما حمل أحدهم, واسمه جرجح على أن يدعو خالدا للبروز اليه في احدى فترات الراحة بين القتال.

              وحين يلتقيان, يوجه القائد الرومي حديثه الى خالد قائلا:

              " يا خالد, أصدقني ولا تكذبني فان الحرّ لا يكذب..

              هل أنزل على نبيّكم سيفا من السماء فأعطاك ايّاه, فلا تسلّه على أحد الا هزمته"؟؟

              قال خالد: لا..

              قال الرجل:

              فبم سميّت سيف الله"؟

              قال خالد: ان الله بعث فينا نبيه, فمنا من صدّقه ومنا من كذّب. وكنت فيمن كذّب حتى أخذ الله قلوبنا الى الاسلام, وهدانا برسوله فبايعناه..

              فدعا لي الرسول, وقال لي: أنت سيف من سيوف الله, فهكذا سميّت.. سيف الله".

              قال القائد الرومي: والام تدعون..؟

              قال خالد:

              الى توحيد الله, والى الاسلام.

              قال:

              هل لمن يدخل في الاسلام اليوم مثل ما لكم من المثوبة والأجر؟

              قال خالد: نعم وأفضل..

              قال الرجل: كيف وقد سبقتموه..؟

              قال خالد:

              لقد عشنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورأينا آياته ومعجزاته وحق لمن رأى ما رأينا, وسمع ما سمعنا أن يسلم في يسر..

              أما أنتم يا من لم تروه ولم تسمعوه, ثم آمنتم بالغيب, فان أجركم أجزل وأكبر ان صدقتم الله سرائركم ونواياكم.

              وصاح القائد الرومي, وقد دفع جواده الى ناحية خالد, ووقف بجواره:

              علمني الاسلام يا خالد"".!!!

              وأسلم وصلى ركعتين لله عز وجل.. لم يصلّ سواهما, فقد استأنف الجيشان القتال.. وقاتل جرجه الروماني في صفوف المسلمين مستميتا في طلب الشهادة حتى نالها وظفر بها..!!



              وبعد, فها نحن أولاء نواجه العظمة الانسانية في مشهد من أبهى مشاهدها.. اذ كان خالد يقود جيوش المسلمين في هذه المعركة الضارية, ويستلّ النصر من بين أنياب الروم استلالا فذا, بقدر ما هو مضن ورهيب, واذا به يفاجأ بالبريد القادم من المدينة من الخليفة الجديد, أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. وفيه تحيّة الفاروق للجيش المسلم, نعيه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه, وتولية أبي عبيدة بن الجرّاح مكانه..

              قرأ خالد الكتاب, وهمهم بابتهالات الترحّم على ابي بكر والتوفيق لعمر..

              ثم طلب من حامل الكتاب ألا يبوح لأحد بما فيه وألزمه مكانه أمره ألا يغادره, وألا يتصل بأحد.

              استأنف قيادته للمعركة مخفيا موت أبي بكر, وأوامر عمر حتى يتحقق النصر الذي بات وشيكا وقريبا..

              ودقّت ساعة الظفر, واندحر الروم..



              وتقدّم البطل من أبي عبيدة مؤديا اليه تحيّة الجندي لقائده... وظنها أبو عبيدة في أول الأمر دعابة من دعابات القائد الذي حققق نصرا لم يكن في الحسبان.. بيد أنه ما فتئ أن رآها حقيقة وجدّا, فقبّل خالد بين عينيه, وراح يطري عظمة نفسه وسجاياه..



              وثمّت رواية تاريخية أخرى, تقول: ان الكتاب أرسل من أمير المؤمنين عمر الى أبي عبيدة, وكتم أبو عبيدة النبأ عن خالد حتى انتهت المعركة..

              وسواء كان الأمر هذا أو ذاك, فان مسلك خالد في كلتا الحالتين هو الذي يعنينا.. ولقد كان مسلكا بالغ الروعة والعظمة والجلال..

              ولا أعرف في حياة خالد كلها موقفا ينبئ باخلاصه العميق وصدقه الوثيق, مثل هذا الموقف...



              فسواء عليه أن يكون أميرا, أو جنديا..

              ان الامارة كالجندية, كلاهما سبب يؤدي به واجبه نحو الله الذي آمن به, ونحو الرسول الذي بايعه, ونحو الدين الذي اعتنقه وسار تحت رايته..

              وجهده المبذول وهو أمير مطاع.. كجهده المبذول وهو جندي مطيع..!

              ولقد هيأ له هذا الانتصار العظيم على النفس, كما هيأه لغيره, طراز الخلفاء الذين كانوا على راس الأمة المسلمة والدولة المسلمة يوم ذاك..

              أبو بكر وعمر..

              اسمان لا يكاد يتحرّك بهما لسان, حتى يخطر على البال كل معجز من فضائل الانسان, وعظمة الانسان..

              وعلى الرغم من الودّ الذي كان مفقودا أحيانا بين عمر وخالد, فان نزاهة عمر وعدله,وورعه وعظمته الخارقة, لم تكن قط موضع تساؤول لدى خالد..

              ومن ثم لم تكن قراراته موضع شك, لأن الضمير الذي يمليها, قد بلغ من الورع, ومن الاستقامة, ومن الاخلاص والصدق أقصى ما يبلغه ضمير منزه ورشيد..



              **



              لم يكن أمير المؤمنين عمر يأخذ على خالد من سوء, ولكنه كان يأخذ على سيفه التسرّع, والحدّة..

              ولقد عبّر عن هذا حين اقترح على أبي بكر عزله اثر مقتل مالك بن نويرة, فقال:

              " ان في سيف خالد رهقا"

              أي خفة وحدّة وتسرّع..

              فأجابه الصدّيق قائلا:

              " ما كنت لأشيم سيف سلّه الله على الكافرين".

              لم يقل عمر ان في خالد رهقا.. بل جعل الرهق لسيفه لا لشخصه, وهي كلمات لا تنمّ عن أدب أمير المؤمنين فحسب, بل وعن تقديره لخالد أيضا..

              وخالد رجل حرب من المهد الى اللحد..

              فبيئته, ونشأته, وتربيته وحياه كلها, قبل الاسلام وبعده كانت كلها وعاء لفارس, مخاطر, داهية..



              ثم ان الحاح ماضيه قبل السلام, والحروب التي خاضها ضد الرسول وأصحابه, والضربات التي أسقط بها سيفه أيام الشرك رؤوسا مؤمنة, وجباها عابدة, كل هذا كان له على ضميره ثقل مبهظ, جعل سيفه توّاقا الى أن يطوّح من دعامات الشرك أضعاف ما طوّح من حملة الاسلام..

              وانكم لتذكرون العبارة التي أوردناها أوّل هذا الحديث والتي جاءت في سياق حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ قال له:

              " يا رسول الله..

              استغفر لي كل ما أوضعت فيه عن صدّ عن سبيل الله".

              وعلى الرغم من انباء الرسول صلى الله عليه وسلم اياه, بأن الاسلام يجبّ ما كان قبله, فانه يظل يتوسل على الظفر بعهد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله له فيما صنعت من قبل يداه..

              والسيف حين يكون في يد فارس خارق كخالد بن الوليد, ثم يحرّك اليد القابضة عليه ضمير متوهج بحرارة التطهر والتعويض, ومفعم بولاء مطلق لدين تحيط به المؤمرات والعداوات, فان من الصعب على هذا السيف أن يتخلى عن مبادئه الصارمة, وحدّته الخاطفة..



              وهكذا رأينا سيف خالد يسبب لصاحبه المتاعب.

              فحين أرسله النبي عليه الصلاة والسلام بعد الفتح الى بعض قبائل العرب القريبة من مكة, وقال له:

              " اني أبعثك داعيا لا مقاتلا".

              غلبه سيفه على أمره ودفعه الى دور المقاتل.. متخليا عن دور الداعي الذي أوصاه به الرسول مما جعله عليه السلام ينتفض جزعا وألما حين بلغه صنيع خالد.. وقام مستقبلا القبلة, رافعا يديه, ومعتذرا الى الله بقوله:

              " اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد".

              ثم أرسل عليّا فودى لهم دماءهم وأموالهم.

              وقيل ان خالدا اعتذر عن نفسه بأن عبدالله بن حذافة السهمي قال له:

              ان رسول الله قد أمرك بقتالهم لامتناعهم عن الاسلام..

              كان خالد يحمل طاقة غير عادية.. وكان يستبد به توق عارم الى هدم عالمه القديم كله..

              ولو أننا نبصره وهو يهدم صنم العزّى الذي أرسله النبي لهدمه.

              لو أننا نبصره وهو يدمدم بمعوله على هذه البناية الحجرية, لأبصرنا رجلا يبدو كأنه يقاتل جيشا بأسره, يطوّح رؤوس أفرداه ويتبر بالمنايا صفوفه.

              فهو يضرب بيمينه, وبشماله, وبقدمه, ويصيح في الشظايا المتناثرة, والتراب المتساقط:

              " يا عزّى كفرانك, لا سبحانك

              اني رأيت الله قد أهانك"..!!

              ثم يحرقها ويشعل النيران في ترابها..!

              كانت كل مظاهر الشرك وبقاياه في نظر خالد كالعزّى لا مكان لها في العالم الجديد الذي وقف خالد تحت أعلامه..

              ولا يعرف خالد أداة لتصفيتها الا سيفه..

              والا.." كفرانك لا سبحانك..

              اني رأيت الله قد أهانك"..!!



              على أننا اذ نتمنى مع أمير المؤمنين عمر, لوخلا سيف خالد من هذا الرهق, فاننا سنظل نردد مع أمير المؤمنين قوله:

              " عجزت النساء أن يلدن مثل خالد"..!!

              لقد بكاه عمر يوم مات بكاء كثيرا, وعلم الانس فيما بعد أنه لم يكن يبكي فقده وحسب, بل ويبكي فرصة أضاعها الموت عن عمر اذ كان يعتزم رد الامارة الى خالد بعد أن زال افتتان الناس به. ومحصت أسباب عزله, لولا أن تداركه الموت وسارع خالد الى لقاء ربه.

              نعم سارع البطل العظيم الى مثواه في الجنة..

              أما آن له أن يستريح..؟؟ هو الذي لم تشهد الأرض عدوّا للراحة مثله..؟؟

              أما آن لجسده المجهد أن ينام قليلا..؟؟ هو الذي كان يصفه أصحابه وأعداؤه بأنه:

              " الرجل الذي لا ينام ولا يترك أحدا ينام"..؟؟

              أما هو, فلو خيّر لاختار أن يمدّ الله له في عمره مزيدا من الوقت يواصل فيه هدم البقايا المتعفنة القديمة, ويتابع عمله وجهاده في سبيل الله والاسلام..

              ان روح هذا الرجل وريحانه ليوجدان دائما وابدا, حيث تصهل الخيل, وتلتمع الأسنّة, وتخفق رايات التوحيد فوق الجيوش المسلمة..

              وأنه ليقول:

              " ما ليلة يهدى اليّ فيها عروس, أو أبشّر فيها بوليد, بأحبّ اليّ من ليلة شديدة الجليد, في سريّة من المهاجرين, أصبح بهم المشركين"..

              من أجل ذلك, كانت مأساة حياته أن يموت في فراشه, وهو الذي قضى حياته كلها فوق ظهر جواده, وتحت بريق سيفه...



              هو الذي غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم, وقهر أصحاب الردّة, وسوّى بالتراب عرش فارس والروم, وقطع الأرض وثبا, في العراق خطوة خطوة, حتى فتحها للاسلام, وفي بلاد الشام خطوة خطوة حتى فتحها كلها للاسلام...

              أميرا يحمل شظف الجندي وتواضعه.. وجنديا يحمل مسؤولية الأمير وقدوته..

              كانت مأساة حياة البطل أن يموت البطل على فراشه..!!

              هنالك قال ودموعه تنهال من عينيه:

              " لقد شهدت كذا, وكذا زحفا, وما في جسدي موضع الا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح, أو رمية سهم..

              ثم هأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير, فلا نامت أعين الجبناء"..!

              كلمات لا يجيد النطق بها في مثل هذا الموطن, الا مثل هذا الرجل, وحين كان يستقبل لحظات الرحيل, شرع يملي وصيّته..

              أتدرون الى من أوصى..؟

              الى عمر بن الخطاب ذاته..!!

              أتدرون ما تركته..؟

              فرسه وسلاحه..!!

              ثم ماذا؟؟

              لا شيء قط , مما يقتني الناس ويمتلكون..!!

              ذلك أنه لم يكن يستحوذ عليه وهو حيّ, سوى اقتناء النصر وامتلاك الظفر على أعداء الحق.

              وما كان في متاع الدنيا جميعه ما يستحوذ على حرصه..

              شيء واحد, كان يحرص عليه في شغف واستماتة.. تلك هي قلنسوته"..

              سقطت منه يوم اليرموك. فأضنى نفسه والناس في البحث عنها.. فلما عوتب في ذلك قال:

              " ان فيها بعضا من شعر ناصية رسول الله واني أتافاءل بها, وأستنصر".



              **



              وأخيرا, خرج جثمان البطل من داره محمولا على أعناق أصحابه ورمقته أم البطل الراحل بعينين اختلط فيهما بريق العزم بغاشية الحزن فقالت تودّعه:

              أنت خير من ألف ألف من القو م اذا ما كبت وجوه الرجال

              أشجاع..؟ فأنت أشجع من لي ث غضنفر يذود عن أشبال

              أجواد..؟ فأنت أجود من سي ل غامر يسيل بين الجبال



              وسمعها عمر فازداد قلبه خفقا.. ودمعه دفقا.. وقال:

              " صدقت..

              والله انه كان لكذلك".

              وثوى البطل في مرقده..

              ووقف أصحابه في خشوع, والدنيا من حولهم هاجعة, خاشعة, صامتة..

              لم يقطع الصمت المهيب سوى صهيل فرس جاءت تركض بعد أن خلعت رسنها, وقطعت شوارع المدينة وثبا وراء جثمان صاحبها, يقودها عبيره وأريجه..



              واذ بلغت الجمع الصامت والقبر الرطب لوت برأسها كالراية, وصهيلها يصدح.. تماما مثلما كانت تصنع والبطل فوق ظهرها, يهدّ عروش فارس والروم, ويشفي وساوس الوثنية والبغي, ويزيح من طريق الاسلام كل قوى التقهقر والشرك...

              وراحت وعيناها على القبر لا تزيغان تعلو برأسها وتهبط, ملوّحة لسيدها وبطلها مؤدية له تحية الوداع..!!

              ثم وقفت ساكنة ورأسها مرتفع.. وجبهتها عالية.. ولكن من مآقيها تسيل دموع غزار وكبار..!!

              لقد وقفها خالد مع سلاحه في سبيل الله..

              ولكن هل سيقدر فارس على أن يمتطي صهوتها بعد خالد..؟؟

              وهل ستذلل ظهرها لأحد سواه..؟؟

              ايه يا بطل كل نصر..

              ويا فجر كل ليلة..

              لقد كنت تعلو بروح جيشك على أهوال الزحف بقولك لجندك:

              " عند الصباح يحمد القوم السرى"..



              حتى ذهبت عنك مثلا..

              وهأنتذا, قد أتممت مسراك..

              فلصباحك الحمد أبا سليمان..!!

              ولذكراك المجد, والعطر, والخلد, يا خالد..!!

              ودعنا.. نردد مع أمير المؤمنين عمر كلماته العذاب الرطاب التي ودّعك بها ورثاك:

              " رحم الله أبا سليمان

              ما عند الله خير مما كان فيه

              ولقد عاش حميدا

              ومات سعيدا
              إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
              نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
              جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

              تعليق


              • #22
                ما شاء الله موضوع أكثر من رائع
                مشكور أخوي وبارك الله فيك

                ننتظر مزيدك
                اللهم نسألك صدق النية وأن لا يكون جهادنا إلا لإعلاء كلمتك

                تعليق


                • #23
                  قيس بن سعد بن عبادة

                  أدهى العرب, لولا الاسلام



                  كان الأنصار يعاملونه على حداثة سنه كزعيم..

                  وكانوا يقولون:" لو استطعنا أن نشتري لقيس لحية بأموالنا لفعلنا"..

                  ذلك أنه كان أجرد, ولم يكن ينقصه من صفات الزعامة في عرف قومه سوى اللحية التي كان الرجال يتوّجون بها وجوههم.

                  فمن هذا الفتى الذي ودّى قومه لو يتنازلون عن أموالهم لقاء لحية تكسو وجهه, وتكمل الشكل الخارجي لعظمته الحقيقية, وزعامته المتفوقة..؟؟

                  انه قيس بن سعد بن عبادة.

                  من أجود بيوت لعرب وأعرقها.. البيت الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام:

                  " ان الجود شيمة أهل هذا البيت"..

                  وانه الداهية الذي يتفجر حيلة, ومهارة, وذكاء, والذي قال عن نفسه وهو صادق:

                  " لولا الاسلام, لمكرت مكرا لا تطيقه العرب"..!!

                  ذلك أنه حادّ الذكاء, واسع الحيلة, متوقّد الذهن.



                  ولقد كان مكانه يوم صفين مع علي ضدّ معاوية.. وكان يجلس مع نفسه فيرسم الخدعة التي يمكن أن يؤدي بمعاوية وبمن معه في يوم أو ببعض يوم, بيد أنه يتفحص خدعته هذه التي تفتق عنها ذكاؤه فيجدها من المكر السيء الخطر, ثم يذكر قول الله سبحانه:

                  ( ولا يحيق المكر السوء الا بأهله)..

                  فيهبّ من فوره مستنكرا, ومستغفرا, ولسان حاله يقول:

                  " والله لئن قدّر لمعاوية أن يغلبنا, فلن يغلبنا بذكائه, بل بورعنا وتقوانا"..!!

                  ان هذا الأنصاري الخزرجي من بيت زعامة عظيم, ورث المكارم كابرا عن كابر.. فهو ابن سعد بن عبادة, زعيم الخزرج الذي سيكون لنا معه فيما بعد لقاء..

                  وحين أسلم سعد أخذ بيد ابنه قيس وقدّمه الى الرسول قائلا:

                  " هذا خادمك يا رسول الله"..

                  ورأى الرسول في قيس كل سمات التفوّق وأمائر الصلاح..

                  فأدناه منه وقرّبه اليه وظل قيس صاحب هذه المكانة دائما..

                  يقول أنس صاحب رسول الله:

                  " كان قيس بن سعد من النبي, بمكان صاحب الشرطة من الأمير"..

                  وحين كان قيس, قبل الاسلام يعامل الناس بذكائه كانوا لا يحتملون منه ومضة ذهن, ولم يكن في المدينة وما حولها الا من يحسب لدهائه ألف حساب.. فلما أسلم, علّمه الاسلام أن يعامل الناس باخلاصه, لا بدهائه, ولقد كان ابنا بارّا للاسلام, ومن ثمّ نحّى دهاءه جانبا, ولم يعد ينسج به مناوراته القاضية.. وصار كلما واجه موقعا صعبا, يأخذه الحنين الى دهائه المقيد, فيقول عبارته المأثورة:

                  " لولا الاسلام, لمكرت مكرا لا تطيقه العرب"...!!



                  **



                  ولم يكن بين خصاله ما يفوق ذكائه سوى جوده.. ولم يكن الجود خلقا طارئا على قيس, فهو من بيت عريق في الجود والسخاء, كان لأسرة قيس, على عادة أثرياء وكرام العرب يومئذ, مناد يقف فوق مرتفع لهم وينادي الضيفان الى طعامهم نهارا... أو يوقد النار لتهدي الغريب الساري ليلا.. وكان الناس يومئذ يقولون:" من أحبّ الشحم, واللحم, فليأت أطم دليم بن حارثة"...

                  ودليم بن حارثة, هو الجد الثاني لقيس..

                  ففي هذا البيت العريق أرضع قيس الجود والسماح..

                  تحّث يوما أبا بكر وعمر حول جود قيس وسخائه وقالا:

                  " لو تركنا هذا الفتى لسخائه, لأهلك مال أبيه"..

                  وعلم سعد بن عبادة بمقالتهما عن ابنه قيس, فصاح قائلا:

                  " من يعذرني من أبي قحافة, وابن الخطّاب.. يبخلان عليّ ابني"..!!

                  وأقرض أحد اخوانه المعسرين يوما قرضا كبيرا..

                  وفي الموعد المضروب للوفاء ذهب الرجل يردّ الى قيس قرضه فأبى أن يقبله وقال:

                  " انا لا نعود في شيء أعطيناه"..!!



                  **



                  وللفطرة الانسانية نهج لا يتخلف, وسنّة لا تتبدّل.. فحيث يوجد الجود توجد الشجاعة..

                  أجل ان الجود الحقيقي والشجاعة الحقيقية توأمان, لا يتخلف أحدهما عن الاخر أبدا.. واذا وجدت جودا ولم تجد شجاعة فاعلم أن هذا الذي تراه ليس جودا.. وانما هو مظهر فارغ وكاذب من مظاهر الزهو الأدّعاء... واذا وجدت شجاعة لا يصاحبها جود, فاعلم أنها ليست شجاعة, انما هي نزوة من نزوات التهوّر والطيش...



                  ولما كان قيس بن سعد يمسك أعنة الجود بيمينه فقد كان يمسك بذات اليمين أعنّة الشجاعة والاقدام..



                  لكأنه المعنيّ بقول الشاعر:

                  اذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

                  تألقت شجاعته في جميع المشاهد التي صاحب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حيّ..

                  وواصلت تألقها, في المشاهد التي خاضها بعد أن ذهب الرسول الى الرفيق الأعلى..

                  والشجاعة التي تعتمد على الصدق بدل الدهاء.. وتتوسل بالوضوح والمواجهة, لا بالمناورة والمراوغة, تحمّل صاحبها من المصاعب والمشاق من يؤوده ويضنيه..

                  ومنذ ألقى قيس وراء ظهره, قدرته الخارقة على الدهاء والمناورة, وحمل هذا الطراز من الشجاعة المسفرة الواضحة, وهو قرير العين بما تسببه له من متاعب وما تجلبه من تبعات...

                  ان الشجاعة الحقة تنقذف من اقتناع صاحبها وحده..

                  هذا الاقتناع الذي لا تكوّنه شهوة أو نزوة, انما يكوّنه الصدق مع النفس, والاخلاص للحق...



                  وهكذا حين نشب الخلاف بين عليّ ومعاوية, نرى قيسا يخلو بنفسه, ويبحث عن الحق من خلال اقتناعه, حتى اذا ما رآه مع عليّ ينهض الى جواره شامخا, قويا مستبسلا..

                  وفي معارك صفّين, والجمل, ونهروان, كان قيس أحد أبطالها المستبسلين..

                  كان يحمل لواء الأنصار وهو يصيح:

                  هذا اللواء الذي كنا نخفّ به

                  مع النبي وجبريل لنا مدد

                  ما ضرّ من كانت الأنصار عيبته

                  ألا يكون له من غيرهم أحد

                  ولقد ولاه الامام عليّ حكم مصر..

                  وكانت عين معاوية على مصر دائما... كان ينظر اليها كأثمن درّة في تاجه المنتظر...



                  من أجل ذلك لم يكد يرى قيسا يتولى امارتها حتى جنّ جنونه وخشي أن يحول قيس بينه وبين مصر الى الأبد, حتى لو انتصر هو على الامام عليّ انتصارا حاسما..

                  وهكذا راح بكل وسائله الماكرة, وحيله التي لا تحجم عن أمر, يدسّ عند علي ضدّ قيس, حتى استدعاه الامام من مصر..



                  وهنا وجد قيس فرصة سعيدة ليستعمل ذكاءه استعمالا مشروعا, فلقد أدرك بفطنته أن معاوية لعب ضدّه هذه اللعبة بعد أن فشل في استمالته الى جانبه, لكي يوغر صدره ضدّ الامام علي, ولكي يضائل من ولائه له.. واذن فخير رد على دهاء معاوية هو المزيد من الولاء لعليّ وللحق الذي يمثله عليّ, والذي هو في نفس الوقت مناط الاقتناع الرشيد والأكيد لقيس بن سعد بن عبادة..

                  وهكذا لم يحس لحظة أن عليّا عزله عن مصر.. فما الولاية, وما الامارة, وما المناصب كلها عند قيس الا أدوات يخدم بها عقيدته ودينه.. ولئن كانت امارته على مصر وسيلة لخدمة الحق, فان موقفه بجوار عليّ فوق أرض المعركة وسيلة أخرى لا تقل أهميّة ولا روعة..



                  **



                  وتبلغ شجاعة قيس ذروة صدقها ونهاها, بعد استشهاد عليّ وبيعة الحسن..

                  لقد اقتنع قيس بأن الحسن رضي الله عنه, هو الوارث الشرعي للامامة فبايعه ووقف الى جانبه غير ملق الى الأخطار وبالا..

                  وحين يضطرّهم معاوية لامتشاق السيوف, ينهض قيس فيقود خمسة آلاف من الذين حلقوا رؤوسهم حدادا على الامام علي..

                  ويؤثر الحسن أن يضمّد جراح المسلمين التي طال شحوبها, ويضع حدّا للقتال المفني المبيد فيفاوض معاوية ثم يبايعه..



                  هنا يدير قيس خواطره على المسألة من جديد, فيرى أنه مهما يكن في موقف الحسن من الصواب, فان لجنود قيس في ذمّته حق الشورى في اختيار المصير, وهكذا يجمعهم ويخطب فيهم قائلا:

                  " ان شئتم جالدت بكم حتى يموت الأعجل منا, وان شئتم أخذت لكم أمانا:..

                  واختار جنوده الأمر الثاني, فأخذ لهم الامام من معاوية الذي ملأ الحبور نفسه حين رأى مقاديره تريحه من أقوى خصومه شكيمة وأخطرهم عاقبة...

                  وفي المدينة المنوّرة, عام تسع وخمسين, مات الداهية الذي روّض الاسلام دهاءه..

                  مات الرجل الذي كان يقول:

                  لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ب\يقول:

                  " المكر والخديعة في النار, لكنت من أمكر هذه الأمة"..

                  أجل.. ومات تاركا وراءه عبير رجل أمين على كل ما للاسلام عنده من ذمّة, وعهد وميثاق...

                  إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                  نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                  جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                  تعليق


                  • #24
                    عمير بن وهب

                    شيطان الجاهلية, وحواريّ الاسلام



                    في يوم بدر, كان واحدا من قادة قريش الذين حملوا سيوفهم ليجهزوا على الاسلام.

                    وكان حديد البصر, محكم التقدير, ومن ثم ندبه قومه ليستطلع لهم عدد المسلمين الذين خرجوا مع الرسول للقائهم, ولينظر ان كان لهم من وزرائهم كمين أو مدد..

                    وانطلق عمير بن وهب الجمحيّ وصال بفرسه حول معسكر المسلمين, ثم رجع يقول لقومه:" انهم ثلاثمائة رجل, يزيدون قليلا أو ينقصون" وكان حدسه صحيحا.

                    وسألوه: هل وراءهم امتداد لهم؟؟ فأجابهم قائلا:

                    " لم أجد وراءهم شيئا.. ولكن يا معشر قريش, رأيت المطايا تحمل الموت الناقع.. قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ الا سيوفهم..

                    " والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم, فاذا أصابوا منكم مثل عددهم, فما خير العيش بعد ذلك..؟؟

                    " فانظروا رأيكم"..

                    وتأثر بقوله ورأيه نفر من زعماء قريش, وكادوا يجمعون رجالهم ويعودون الى مكة بغير قتال, لولا أبي جهل الذي أفسد عليهم رأيهم, وأضرم في النفوس نار الحقد, ونار الحرب والتي كان هو أول قتلاها..



                    **



                    كان أهل مكة يلقبونه بـ شيطان قريش..

                    ولقد أبلى شيطان قريش يوم بدر بلاء لم يغن قومه شيئا, فعادت قوات قريش الى مكة مهزومة مدحورة, وخلّف عمير بن وهب في المدينة بضعة منه.. اذ وقع ابنه في أيدي المسلمين أسيرا..

                    وذات يوم ضمّه مجلس ابن عمّه صفوان بن أميّة.. وكان صفوان يمضغ أحقاده في مرارة قاتلة, فان أباه أميّة بن خلف قد لقي مصرعه في بدر وسكنت عظامه القليب.

                    جلس صفوان وعمير يجترّان أحقادهما..

                    ولندع عروة بن الزبير ينقل الينا حديثهما الطويل:

                    " قال صفوان, وهو يذكر قتلى بدر: والله ما في العيش بعدهم من خير..!

                    وقال له عمير: صدقت, ووالله لولا دين محمد عليّ لا أملك قضاءه, وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت الى محمد حتى أقتله, فان لي عنده علة أعتلّ بها عليه: أٌقول قدمت من أجل ابني هذا الأسير.

                    فاغتنمها صفوان وقال: عليّ دينك.. أنا أقضيه عنك.. وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا..

                    فقال له عمير:اذن فاكتم شأني وشأنك..."



                    ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسمّ, ثم انطلق حتى قدم المدينة.

                    وبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر, ويذكرون ما أكرمهم الله به, اذ نظر عمر فرأى عمير بن وهب, قد أناخ راحلته على باب المسجد, متوشحا سيفه, فقال:

                    هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب, والله ما جاء الا لشرّ..

                    فهو الذي حرّش بيننا وحزرنا للقوم يوم بدر..

                    ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فال:

                    يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه..

                    قال صلى الله عليه وسلم:

                    أدخله عليّ.." فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبّبه بها, وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار, ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث, فانه غير مأمون."

                    ودخل به عمر على النبي صلى الله عليه وسلم, وهو آخذ بحمّالة سيفه في عنقه فلما رآه الرسول قال: دعه يا عمر..

                    ادن يا عمير..

                    فدنا عمير وقال: انعموا صباحا, وهي تحيّة الجاهلية,

                    فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير, بالسلام.. تحية أهل الجنة.

                    فقال عمير: أما والله يا محمد ان كنت بها لحديث عهد.

                    قال لرسول: فما جاء بك يا عمير..؟؟

                    قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم.

                    قال النبي: فما بال السيف في عنقك..؟؟

                    قال عمير: قبّحها الله من سيوف, وهل أغنت عنا شيئا..؟!

                    قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أصدقني يا عمير, ما الذي جئت له..؟

                    قال: ما جئت الا لذلك.

                    قال الرسول صلى الله عليه وسلم: بل قعدت أنت وصفوان بن أميّة في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش, ثم قلت, لولا دين عليّ, وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا, فتحمّل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له, والله حائل بينك وبين ذلك..!!!

                    وعندئذ صاح عمير: أشهد أن لا اله الا الله, وأشهد أنك رسول الله.. هذا أمر لم يحضره الا أنا وصفوان, فوالله ما أنبأك به الا الله, فالحمد لله الذي هداني للاسلام..

                    فقال الرسول لأصحابه: فقّهوا أخاكم في الدين وأقرئه القرآن, وأطلقوا أسيره....!!



                    **



                    هكذا أسلم عمير بن وهب..

                    هكذا أسلم شيطان قريش, وغشيه من نور الرسول والاسلام ما غشيه فاذا هو في لحظة يتقلب الى حواريّ الاسلام..!!

                    يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

                    " والذي نفسي بيده, لخنزير كان أحبّ اليّ من عمير حين طلع علينا..

                    ولهو اليوم أحبّ اليّ من بعض ولدي"..!!



                    **



                    جلس عمير يفكّر بعمق في سماحة هذا الدين, وفي عظمة هذا الرسول:

                    ثم تذكر بلاءه يوم بدر وقتاله.

                    وتذكر أيامه الخوالي في مكة وهو يكيد للاسلام ويحاربه قبل هجرة الرسول وصحبه الى المدينة.

                    ثم هاهو ذا يجيء اليوم متوشحا سيفه ليقتل به الرسول.

                    كل ذلك يمحوه في لحظة من الزمان قوله:" لا اله الا الله, محمد رسول الله"..!!

                    أيّة سماحة, وأي صفاء, وأية ثقة بالنفس يحملها هذا الدين العظيم..!!

                    أهكذا في لحظة يمحو الاسلام كل خطاياه السالفة, وينسى المسلمون كل جرائره وعداواته السابقة, ويفتحون له قلوبهم, ويأخذونه بالأحضان..؟!

                    أهكذا والسيف الذي جاء معقودا على شرّ طوية وشرّ جريمة, لا يزال يلمع أمام أبصارهم, ينسي ذلك كله, ولا يذكر الآن الا أن عميرا باسلامه, قد أصبح احدا من المسلمين ومن أصحاب الرسول, له ما لهم.. وعليه ما عليهم..؟!!!
                    أهكذا وهو الذي ودّ عمر بن الخطاب منذ لحظتين أن يقتله, يصبح أحب الى عمر من ولده وبنيه..؟؟؟!!!

                    اذا كانت لحظة واحدة من الصدق, تلك التي أعلن فيها عمر اسلامه, تحظى من الاسلام بكل هذا التقدير والتكريم والمثوبة والاجلال, فان الاسلام اذن لهو دين عظيم..!!



                    **



                    وفي لحظات عرف عمير واجبه تجاه هذا الدين.. أن يخدمه بقدر ما حاربه, وان يدعو اليه, بقدر ما دعا ضدّه.. وأن يري الله ورسوله ما يحب الله ورسوله من صدق, وجهاد وطاعة.. وهكذا أقبل على رسول الله ذات يوم, قائلا:

                    " يا رسول الله: اني كنت جاهدا على اطفاء نور الله, شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل, واني أحب أن تأذن لي فأقدم مكة, فأدعوهم الى الله تعالى, والى رسوله, والى الاسلام, لعلّ الله يهيدهم, والا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم"..



                    في تلك الأيام, ومنذ فارق عمير مكة متوجها الى المدينة كان صفوان بن أمية الذي اغرى عميرا بالخروج لقتل الرسول, يمشي في شوارع مكة مختالا, ويغشي مجالسها وندواتها فرحا محبورا..!

                    وكلما سأله قومه واخوته عن سر فرحته ونشوته, وعظام أبيه لا تزال ساخنة في حظائر بدر, يفرك كفّيه في غرور يقول للناس:" أبشروا بوقعة يأتيكم نبأها بعد أيام تنسيكم وقعة بدر"..!

                    وكان يخرج الى مشارف مكة كل صباح يسأل القوافل والركبان:" ألم يحدث بالمدينةأمر".

                    وكانوا يجيبونه بما لا يحب ويرضى, فما منهم من أحد سمع أو رأى في المدينة حدثا ذا بال.

                    ولم ييأس صفوان.. بل ظلّ مثابرا على مساءلة الركبان, حتى لقي بعضهم يوما فسأله:" ألم يحدث بالمدينةأمر"..؟؟

                    فأجابه المسافر: بلى حدث أمر عظيم..!!

                    وتهللت أسارير صفوان وفاضت نفسه بكل ما في الدنيا من بهجة وفرح..

                    وعاد يسأل الرجل في عجلة المشتاق:" ماذا حدث اقصص عليّ".. وأجابه الرجل: لقد أسلم عمير بن وهب, وهو هناك يتفقه في الدين, ويتعلم القرآن"..!!

                    ودرات الأرض بصفوان.. والوقعة التي كان يبشر بها قومه, والتي كان ينتظرها لتنسيه وقعة بدر جاءته اليوم في هذا النبأ الصاعق لتجعله حطاما..!!



                    **



                    وذات يوم بلغ المسافر داره.. وعاد عمير الى مكة شاهرا سيفه, متحفزا للقتال, ولقيه أول ما لقيه صفوان بن أمية..

                    وما كاد يراه حتى هم بمهاجمته, ولكن السيف المتحفز في يد عمير ردّه الى صوابه, فاكتفى بأن ألقى على سمع عمير بعض شتائمه ثم مضى لسبيله..

                    دخل عمير بن وهب مكة مسلما, وهو الذي فارقها من أيام مشركا, دخلها وفي روعة صورة عمر بن الخطاب يوم أسلم, ثم صاح فور اسلامه قائلا:

                    " والله لا أدع مكانا جلست فيه بالكفر, الا جلست فيه بالايمان".



                    ولكأنما اتخذ عمير من هذه الكلمات شعارا, ومن ذلك الموقف قدوة, فقد صمم على نذر حياته للدين الذي طالما حاربه.. ولقد كان في موقف يسمح له بأن ينزل الأذى بمن يريد له الأذى..

                    وهكذا راح يعوّض ما فاته.. ويسابق الزمن الى غايته, فيبشر بالاسلام ليلا ونهارا.. علانية واجهارا..

                    في قلبه ايمانه يفيض عليه أمنا, وهدى ونورا..

                    وعلى لسانه كلمات حق, يدعو بها الى العدل والاحسان والمعروف والخير..

                    وفي يمينه سيف يرهب به قطاع الطرق الذين يصدّون عن سبيل الله من آمن به, ويبغونها عوجا.

                    وفي بضعة أسابيع كان الذين هدوا الى الاسلام على يد عمير يفوق عددهم كل تقدير يمكن أن يخطر ببال.

                    وخرج عمير بهم الى المدينة في موكب طويل مشرق.

                    وكانت الصحراء التي يجتازونها في سفرهم لا تكتم دهشتها وعجبها من هذا الرجل الذي مرّ من قريب حاملا سيفه, حاثّا خطاه الى المدينة ليقتل الرسول, ثم عبرها مرّة أخرى راجعا من المدينة بغير الوجه الذي ذهب به يرتل القرآن من فوق ظهر ناقته المحبورة.. ثم ها هو ذا يجتازها مرة ثالثة على رأس موكب كبير من المؤمنين يملؤون رحابها تهليلا وتكبيرا..



                    **



                    أجل انه لنبأ عظيم.. نبأ شيطان قريش الذي أحالته هداية الله الى حواريّ باسل من حوارييّ الاسلام, والذي ظلّ واقفا الى جوار رسول الله في الغزوات والمشاهد, وظلّ ولاؤه لدين الله راسخا بعد رحيل الرسول عن الدنيا.

                    وفي يوم فتح مكة لم ينس عمير صاحبه وقريبه صفوان بن أمية فراح اليه يناشده الاسلام ويدعوه اليه بعد أن لم يبق شك في صدق الرسول, وصدق الرسالة..

                    بيد أن صفوان كان قد شدّ رحاله صوب جدّة ليبحر منها الى اليمن..

                    واشتدّ اشفاق عمير على صفوان, وصمم على أن يستردّه من يد الشيطان بكل وسيلة.

                    وذهب مسرعا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:

                    " يا نبيّ الله ان صفوان بن أميّة سيّد قومه, وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر فأمّنه صلى الله عليك,

                    فقال النبي: هو آمن.

                    قال رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك, فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل فيها مكة"..



                    ولندع عروة بن الزبير يكمل لنا الحديث:

                    " فخرج بها عمير حتى أدركه وهو يريد أن يركب البحر فقال: يا صفوان, فداك أبي وأمي.. الله الله في نفسك أن تهلكها.. هذا أمان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به..

                    قال له صفوان: ويحك, اغرب عني فلا تكلمني. قال: أي صفوان..فداك أبي وأمي, ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الناس, وأبرّ الناس , وأحلم الناس, وخير الانس.. عزّه عزّك, وشرفه شرفك..

                    قال: اني أخاف على نفسي..

                    قال: هوأحلم من ذاك وأكرم..

                    فرجع معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم..

                    فقال صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم: ان هذا يزعم أنك أمّنتني..

                    قال الرسول صلى الله عليه وسلم: صدق..

                    قال صفوان: فاجعلني فيه بالخيار شهرين..

                    قال صلى الله عليه وسلم: أنت بالخيار أربعة أشهر".

                    وفيما بعد أسلم صفوان..

                    وسعد عمير باسلامه أيّما سعادة..

                    وواصل ابن وهب مسيرته المباركة الى الله, متبعا أثر الرسول العظيم الذي هدى الله به الناس من الضلالة وأخرجهم من الظلمات الى النور.















                    إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                    نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                    جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                    تعليق


                    • #25
                      أبوالدرداء

                      أيّ حكيم كان



                      بينما كانت جيوش الاسلام تضرب في مناكب الأرض.. هادر ظافرة.. كان يقيم بالمدينة فيلسوف عجيب.. وحكيم تتفجر الحكمة من جوانبه في كلمات تناهت نضرة وبهاء...وكان لا يفتأ يقول لمن حوله:

                      " ألا أخبركم بخير أعمالكم, وأزكاها عند باريكم, وأنماها في درجاتكم, وخير من أن تغزو عدوّكم, فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم, وخير من الدراهم والدنانير".؟؟

                      وتشرئب أعناق الذين ينصتون له.. ويسارعون بسؤاله:

                      " أي شيء هو.. يا أبا الدرداء"..؟؟

                      ويستأنف أبو الدرداء حديثه فيقول ووجهه يتألق تحت أضوء الايمان والحكمة:

                      " ذكر الله...

                      ولذكر الله أكبر"..



                      **



                      لم يكن هذا الحكيم العجيب يبشر بفلسفة انعزالية ولم يكن بكلماته هذه يبشر بالسلبية, ولا بالانسحاب من تبعات الدين الجديد.. تلك التبعات التي يأخذ الجهاد مكان الصدارة منها...

                      أجل.. ما كان أبو الدرداء ذلك الرجل, وهو الذي حمل سيفه مجاهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم, حتى جاء نصر الله والفتح..

                      بيد أنه كان من ذلك الطراز الذي يجد نفسه في وجودها الممتلئ الحيّ, كلما خلا الى التأمل, وأوى الى محراب الحكمة, ونذر حياته لنشدان الحقيقة واليقين..؟؟

                      ولقد كان حكيم تلك الأيام العظيمة أبو الدرداء رضي الله عنه انسانا يتملكه شوق عارم الى رؤية الحقيقة واللقاء بها..



                      واذ قد آمن بالله وبرسوله ايمانا وثيقا, فقد آمن كذلك بأن هذا الايمان بما يمليه من واجبات وفهم, هو طريقه الأمثل والأوحد الى الحقيقة..

                      وهكذا عكف على ايمانه مسلما الى نفسه, وعلى حياته يصوغها وفق هذا الايمان في عزم, ورشد, وعظمة..

                      ومضى على الدرب حتى وصل.. وعلى الطريق حتى بلغ مستوى الصدق الوثيق.. وحتى كان يأخذ مكانه العالي مع الصادقين تماما حين يناجي ربه مرتلا آياته..

                      ( ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين).

                      أجل.. لقد انتهى جهاد أبي الدرداء ضدّ نفسه, ومع نفسه الى تلك الذروة العالية.. الى ذلك التفوق البعيد.. الى ذلك التفاني الرهباني, الذي جعل حياته, كل حياته لله رب العالمين..!!



                      **



                      والآن تعالوا نقترب من الحكيم والقدّيس.. ألا تبصرون الضياء الذي يتلألأ حول جبينه..؟

                      ألا تشمّون العبير الفوّاح القادم من ناحيته..؟؟

                      انه ضياء الحكمة, وعبير الايمان..

                      ولقد التقى الايمان والحكمة في هذا الرجل الأوّاب لقاء سعيدا, أيّ سعيد..!!

                      سئلت أمه عن أفضل ما كان يحب من عمل.. فأجابت:

                      " التفكر والاعتبار".

                      أجل لقد وعى قول الله في أكثر من آية:

                      (فاعتبروا يا أولي الأبصار)...

                      وكان هو يحضّ اخوانه على التأمل والتفكّر يقول لهم:

                      " تفكّر ساعة خير من عبادة ليلة"..

                      لقد استولت العبادة والتأمل ونشدان الحقيقة على كل نفسه.. وكل حياته..



                      ويوم اقتنع بالاسلام دينا, وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الدين الكريم, كان تاجرا ناجحا من تجار المدينة النابهين, وكان قد قضى شطر حياته في التجارة قبل أن يسلم, بل وقبل أن يأتي الرسول والمسلمون المدينة مهاجرين..

                      بيد أنه لم يمض على اسلامه غير وقت وجيز حتى..

                      ولكن لندعه هو يكمل لنا الحديث:

                      " أسلمت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا تاجر..

                      وأردت أن تجتمع لي العبادة والتجارة فلم يجتمعا..

                      فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة.

                      وما يسرّني اليوم أن أبيع وأشتري فأربح كل يوم ثلاثمائة دينار, حتى لو يكون حانوتي على باب المسجد..

                      ألا اني لا أقول لكم: ان الله حرّم البيع..

                      ولكني أحبّ أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"..!!



                      أرأيتم كيف يتكلّم فيوفي القضيّة حقها, وتشرق الحكمة والصدق من خلال كلماته..؟؟

                      انه يسارع قبل أن نسأله: وهل حرّم الله التجارة يا أبا الدرداء...؟؟

                      يسارع فينفض عن خواطرنا هذا التساؤول, ويشير الى الهدف الأسمى الذي كان ينشده, ومن أجله ترك التجارة برغم نجاحه فيها..

                      لقد كان رجلا ينشد تخصصا روحيا وتفوقا يرنو الى أقصى درجات الكمال الميسور لبني الانسان..



                      لقد أراد العبادة كمعراج يرفعه الى عالم الخير الأسمى, ويشارف به الحق في جلاله, والحقيقة في مشرقها, ولو أرادها مجرّد تكاليف تؤدّى, ومحظورات تترك, لاستطاع أن يجمع بينها وبين تجارته وأعماله...

                      فكم من تجار صالحين.. وكم من صالحين تجار...



                      ولقد كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم تلههم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله.. بل اجتهدوا في انماء تجارتهم وأموالهم ليخدموا بها قضية الاسلام, ويكفوا بها حاجات المسلمين..

                      ولكن منهج هؤلاء الأصحاب, لا يغمز منهج أبو الدرداء, كما أن منهجه لا يغمز منهجهم, فكل ميسّر لما خلق له..



                      وأبو الدرداء يحسّ احساسا صادقا أنه خلق لما نذر له حياته..

                      التخصص في نشدان الحقيقة بممارسة أقصى حالات التبتل وفق الايمان الذي هداه اليه ربه, ورسوله والاسلام..

                      سمّوه ان شئتم تصوّفا..

                      ولكنه تصوّف رجل توفّر له فطنة المؤمن, وقدرة الفيلسوف, وتجربة المحارب, وفقه الصحابي, ما جعل تصوّفه حركة حيّة في بناء الروح, لا مجرّد ظلال صالحة لهذا البناء..!!



                      أجل..

                      ذلك هو أبو الدرداء, صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلميذه..

                      وذلكم هو أبو الدرداء, الحكيم, القدّيس..

                      ورجل دفع الدنيا بكلتا راحتيه, وزادها بصدره..

                      رجل عكف على نفسه وصقلها وزكّاها, وحتى صارت مرآة صافية انعكس عليها من الحكمة, والصواب, والخير, ما جعل من أبي الدرداء معلما عظيما وحكيما قويما..

                      سعداء, أولئك الذين يقبلون عليه, ويصغون اليه..

                      ألا تعالوا نقترب من حكمته يا أولي الألباب..

                      ولنبدأ بفلسفته تجاه الدنيا وتجاه مباهجها وزخارفها..

                      انه متأثر حتى أعماق روحه بآيات القرآن الرادعة عن:

                      ( الذي جمع مالا وعدّده.. يحسب أن ماله اخلده)...

                      ومتأثر حتى أعماق روحه بقول الرسول:

                      " ما قلّ وكفى, خير مما كثر وألهى"..

                      ويقول عليه السلام:

                      " تفرّغوا من هموم الدنيا ما استطعتم, فانه من كانت الدنيا أكبر همّه, فرّق الله شمله, وجعل فقره بين عينيه.. ومن كانت الآخرة أكبر همّه جمع شمله, وجعل غناه في قلبه, وكان الله اليه بكل خير أسرع".

                      من أجل ذلك, كان يرثي لأولئك الذين وقعوا أسرى طموح الثروة ويقول:

                      " اللهم اني أعوذ بك من شتات القلب"..

                      سئل:

                      وما شتات القلب يا أبا الدرداء..؟؟

                      فأجاب:

                      أن يكون لي في كل واد مال"..!!

                      وهو يدعو الناس الى امتلاك الدنيا والاستغناء عنها.. فذلك هو الامتلاك الحقيقي لها.. أما الجري وراء أطماعها التي لا تؤذن بالانتهاء, فذلك شر ألوان العبودية والرّق.

                      هنالك يقول:

                      " من لم يكن غنيا عن الدنيا, فلا دنيا له"..

                      والمال عنده وسيلة للعيش القنوع المعتدل ليس غير.

                      ومن ثم فان على الناس أن يأخذوه من حلال, وأن يكسبوه في رفق واعتدال, لا في جشع وتهالك.

                      فهو يقول:

                      " لا تأكل الا طيّبا..

                      ولا تكسب الا طيّبا..

                      ولا تدخل بيتك الا طيّبا".

                      ويكتب لصاحب له فيقول:

                      ".. أما بعد, فلست في شيء من عرض الدنيا, والا وقد كان لغيرك قبلك.. وهو صائر لغيرك بعدك.. وليس لك منه الا ما قدّمت لنفسك... فآثرها على من تجمع المال له من ولدك ليكون له ارثا, فأنت انما تجمع لواحد من اثنين:

                      اما ولد صالح يعمل فيه بطاعة الله, فيسعد بما شقيت به..

                      واما ولد عاص, يعمل فيه بمعصية الله, فتشقى بما جمعت له,

                      فثق لهم بما عند الله من رزق, وانج بنفسك"..!



                      كانت الدنيا كلها في عين أبي الدرداء مجرّد عارية..

                      عندما فتحت قبرص وحملت غنائم الحرب الى المدينة رأى الناس أبا الدرداء يبكي... واقتربوا دهشين يسألونه, وتولى توجيه السؤال اليه:" جبير بن نفير":

                      قال له:

                      " يا أبا الدرداء, ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الاسلام وأهله"..؟؟

                      فأجاب أبو الدرداء في حكمة بالغة وفهم عميق:

                      ويحك يا جبير..

                      ما أهون الخلق على الله اذا هم تركوا أمره..

                      بينما هي أمة, ظاهرة, قاهرة, لها الملك, تركت أمر الله, فصارت الى ما ترى"..!

                      أجل..



                      وبهذا كان يعلل الانهيار السريع الذي تلحقه جيوش الاسلام بالبلاد المفتوحة, افلاس تلك البلاد من روحانية صادقة تعصمها, ودين صحيح يصلها بالله..

                      ومن هنا أيضا, كان يخشى على المسلمين أياما تنحلّ فيها عرى الايمان, وتضعف روابطهم بالله, وبالحق, وبالصلاح, فتنتقل العارية من أيديهم, بنفس السهولة التي انتقلت بها من قبل اليهم..!!



                      **



                      وكما كانت الدنيا بأسرها مجرّد عارية في يقينه, كذلك كانت جسرا الى حياة أبقى وأروع..

                      دخل عليه أصحابه يعودونه وهو مريض, فوجدوه نائما على فراش من جلد..

                      فقالوا له:" لو شئت كان لك فراش أطيب وأنعم.."

                      فأجابهم وهو يشير بسبّابته, وبريق عينيه صوب الأمام البعيد:

                      " ان دارنا هناك..

                      لها نجمع.. واليها نرجع..

                      نظعن اليها. ونعمل لها"..!!

                      وهذه النظرة الى الدنيا ليست عند أبي الدرداء وجهة نظر فحسب بل ومنهج حياة كذلك..

                      خطب يزيد بن معاوية ابنته الدرداء فردّه, ولم يقبل خطبته, ثم خطبها واحد من فقراء المسلمين وصالحيهم, فزوّجها أبو الدرداء منه.

                      وعجب الناس لهذا التصرّف, فعلّمهم أبو الدرداء قائلا:

                      " ما ظنّكم بالدرداء, اذا قام على رأسها الخدم والخصيا وبهرها زخرف القصور..

                      أين دينها منها يومئذ"..؟!

                      هذا حكيم قويم النفس, ذكي الفؤاد..

                      وهو يرفض من الدنيا ومن متاعها كل ما يشدّ النفس اليها, ويولّه القلب بها..

                      وهو بهذا لا يهرب من السعادة بل اليها..

                      فالسعادة الحقة عنده هي أن تمتلك الدنيا, لا أن تمتلكك أنت الدنيا..

                      وكلما وقفت مطالب الناس في الحياة عند حدود القناعة والاعتدال وكلما أدركوا حقيقة الدنيا كجسر يعبرون عليه الى دار القرار والمآل والخلود, كلما صنعوا هذا, كان نصيبهم من السعادة الحقة أوفى وأعظم..

                      وانه ليقول:

                      " ليس الخير أن يكثر مالك وولدك, ولكن الخير أن يعظم حلمك, ويكثر علمك, وأن تباري الناس في عبادة الله تعالى"..

                      وفي خلافة عثمان رضي الله عنه, وكان معاوية أميرا على الشام نزل أبو الدرداء على رغبة الخليفة في أن يلي القضاء..

                      وهناك في الشام وقف بالمرصاد لجميع الذين أغرّتهم مباهج الدنيا, وراح يذكّر بمنهج الرسول في حياته, وزهده, وبمنهج الرعيل الأول من الشهداء والصدّيقين..

                      وكانت الشام يومئذ حاضرة تموج بالمباهج والنعيم..

                      وكأن أهلها ضاقوا ذرعا بهذا الذي ينغصّ عليهم بمواعظه متاعهم ودنياهم..

                      فجمعهم أبو الدرداء, وقام فيهم خطيبا:

                      " يا أهل الشام..

                      أنتم الاخوان في الدين, والجيران في الدار, والأنصار على الأعداء..

                      ولكن مالي أراكم لا تستحيون..؟؟

                      تجمعون ما لا تأكلون..

                      وتبنون ما لا تسكنون..

                      وترجون ما لا تبلّغون..

                      وقد كانت القرون من قبلكم يجمعون, فيوعون..

                      ويؤمّلون, فيطيلون..

                      ويبنون, فيوثقون..

                      فأصبح جمعهم بورا..

                      وأماهم غرورا..

                      وبيوتهم قبورا..

                      أولئك قوم عاد, ملؤا ما بين عدن الى عمان أموالا وأولادا..".

                      ثم ارتسمت على شفتيه بسمة عريضة ساخرة, ولوّح بذراعه في الجمع الذاهل, وصاح في سخرية لا فحة:

                      " من يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين"..؟!



                      رجل باهر, رائع, مضيء, حكمته مؤمنة, ومشاعره ورعة, ومنطقه سديد ورشيد..!!

                      العبادة عند أبي الدرداء ليست غرورا ولا تأليا. انما هي التماس للخير, وتعرّض لرحمة الله, وضراعة دائمة تذكّر الانسان بضعفه. وبفضل ربه عليه:

                      انه يقول:

                      التمسوا الخير دهركم كله..

                      وتعرّضوا لنفحات رحمة الله, فان للله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده..

                      " وسلوا الله أن يستر عوراتكم, ويؤمّن روعاتكم"...

                      كان ذلك الحكيم مفتوح العينين دائما على غرور العبادة, يحذّر منه الناس.

                      هذا الغرور الذي يصيب بعض الضعاف في ايمانهم حين يأخذهم الزهو بعبادتهم, فيتألّون بها على الآخرين ويدلّون..

                      فلنستمع له ما يقول:

                      " مثقال ذرّة من برّ صاحب تقوى ويقين, أرجح وأفضل من أمثال الجبال من عبادة المغترّين"..

                      ويقول أيضا:

                      "لا تكلفوا الناس ما لم يكلفوا..

                      ولا تحاسبوهم دون ربهم

                      عليكم أنفسكم, فان من تتبع ما يرى في الانس يطل حزنه"..!

                      انه لا يريد للعابد مهما يعل في العبادة شأوه أن يجرّد من نفسه ديّانا تجاه العبد.

                      عليه أن يحمد الله على توفيقه, وأن يعاون بدعائه وبنبل مشاعره ونواياه أولئك الذين لم يدركوا مثل هذا التوفيق.

                      هل تعرفون حكمة أنضر وأبهى من حكمة هذا الحكيم..؟؟

                      يحدثنا صاحبه أبو قلابة فيقول:

                      " مرّ أبو الدرداء يوما على رجل قد أصاب ذنبا, والناس يسبّونه, فنهاهم وقال: أرأيتم لو وجدتموه في حفرة.. ألم تكونوا مخرجيه منها..؟

                      قالوا بلى..

                      قال: فلا تسبّوه اذن, وحمدوا الله الذي عافاكم.

                      قالوا: أنبغضه..؟

                      قال: انما أبغضوا عمله, فاذا تركه فهو أخي"..!!



                      **



                      واذاكان هذا أحد وجهي العبادة عند أبي الدرداء, فان وجهها الآخر هو العلم والمعرفة..

                      ان أبا الدرداء يقدّس العلم تقديسا بعيدا.. يقدّسه كحكيم, ويقدّسه كعابد فيقول:

                      " لا يكون أحدكم تقيا جتى يكون عالما..

                      ولن يكون بالعلم جميلا, حتى يكون به عاملا".

                      أجل..

                      فالعلم عنده فهم, وسلوك.. معرفة, ومنهج.. فكرة حياة..

                      ولأن تقديسه هذا تقديس رجل حكيم, نراه ينادي بأن المعلم كالمتعلم كلاهما سواء في الفضل, والمكانة, والمثوبة..

                      ويرى أن عظمة الحياة منوطة بالعلم الخيّر قبل أي شيء سواه..

                      ها هو ذا يقول:

                      " مالي أرى علمائكم يذهبون, وجهّالكم لا يتعلمون؟؟ ألا ان معلّم الخير والمتعلّم في الأجر سواء.. ولا خير في سائر الناس بعدهما"..

                      ويقول أيضا:

                      " الناس ثلاثة..

                      عالم..

                      ومتعلم..

                      والثالث همج لا خير فيه".



                      وكما رأينا من قبل, لا ينفصل العلم في حكمة أبي الدرداء رضي الله عنه عن العمل.

                      يقول:

                      " ان أخشى ما أخشاه على نفسي أن يقال لي يوم القيامة على رؤوس الخلائق: يا عويمر, هل علمت؟؟

                      فأقول نعم..

                      فيقال لي: فماذا عملت فيما علمت"..؟

                      وكان يجلّ العلماء العاملين ويوقرهم توقيرا كبيرا, بل كان يدعو ربّه ويقول:

                      " اللهم اني أعوذ بك أن تلعنني قلوب العلماء.."

                      قيل له:

                      وكيف تلعنك قلوبهم؟

                      قال رضي الله عنه:

                      " تكرهني"..!

                      أرأيتم؟؟

                      انه يرى في كراهيّة العالم لعنة لا يطيقها.. ومن ثمّ فهو يضرع الى ربه أن يعيذه منها..



                      وتستوصي حكمة أبي الدرداء بالاخاء خيرا, وتبنى علاقة الانسان بالانسان على أساس من واقع الطبيعة الانسانية ذاتها فيقول:

                      " معاتبة الأخ خير لك من فقده, ومن لك بأخيك كله..؟

                      أعط أخاك ولن له..

                      ولا تطع فيه حاسدا, فتكون مثله.

                      غدا يأتيك الموت, فيكفيك فقده..

                      وكيف تبكيه بعد الموت, وفي الحياة ما كنت أديت حقه"..؟؟

                      ومراقبة الله في عباده قاعدة صلبة يبني عليها أبو الدرداء حقوق الاخاء..

                      يقول رضي الله عنه وأرضاه:

                      " اني أبغض أن أظلم أحدا.. ولكني أبغض أكثر وأكثر, أن أظلم من لا يستعين عليّ الا بالله العليّ الكبير"..!!

                      يا لعظمة نفسك, واشراق روحك يا أبا الدرداء..!!

                      انه يحذّر الناس من خداع الوهم, حين يظنون أن المستضعفين العزّل أقرب منالا من أيديهم, ومن بأسهم..!

                      ويذكّرهم أن هؤلاء في ضعفهم يملكون قوّة ماحقة حين يتوسلون الى الله عز وجل بعجزهم, ويطرحون بين يديه قضيتهم, وهو أنهم على الناس..!!

                      هذا هو أبو الدرداء الحكيم..!

                      هذا هو أبو الدرداء الزاهد, العابد, الأوّاب..

                      هذا هو أبو الدرداء الذي كان اذا أطرى الناس تقاه, وسألوه الدعاء, أجابهم في تواضع وثيق قائلا:

                      " لا أحسن السباحة.. وأخاف الغرق"..!!



                      **



                      كل هذا, ولا تحسن السباحة يا أبا الدرداء..؟؟

                      ولكن أي عجب, وأنت تربية الرسول عليه الصلاة والسلام... وتلميذ القرآن.. وابن الاسلام الأوّل وصاحب أبي بكر وعمر, وبقيّة الرجال..!؟
                      إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                      نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                      جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                      تعليق


                      • #26
                        زيد بن الخطاب

                        صقر يوم اليمامة



                        جلس النبي صلى الله عليه وسلم يوما, وحوله جماعة من المسلمين وبينما الحديث يجري, أطرق الرسول لحظات, ثم وجّه الحديث لمن حوله قائلا:

                        " ان فيكم لرجلا ضرسه في النار أعظم من جبل أحد"..

                        وظل الخوف بل الرعب من الفتنة في الدين, يراود ويلحّ على جميع الذين شهدوا هذا المجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم... كل منهم يحاذر ويخشى أن يكون هو الذي يتربّص به سوء المنقلب وسوء الختام..

                        ولكن جميع الذين وجّه اليهم الحديث يومئذ ختم لهم بخير, وقضوا نحبهم شهداء في سبيل الله. وما بقي منهم حيّا سوى أبي هريرة والرّجّال ابن عنفوة.



                        ولقد ظلّ أبو هريرة ترتعد فرائصه خوفا من أن تصيبه تلك النبوءة. ولم يرقأ له جفن, وما هدأ له بال حتى دفع القدر الستار عن صاحب الحظ التعس. فارتدّ الرّجّال عن الاسلام ولحق بمسيلمة الكذاب, وشهد له بالنبوّة.

                        هنالك استبان الذي تنبأ له الرسول صلى الله عليه وسلم بسوء المنقلب وسوء المصير..

                        والرّجّال بن عنفوة هذا, ذهب ذات يوم الى الرسول مبايعا ومسلما, ولما تلقّى منه الاسلام عاد الى قومه.. ولم يرجع الى المدينة الا اثر وفاة الرسول واختيار الصدّيق خليفة على المسملين.. ونقل الى أبي بكر أخبار أهل اليمامة والتفافهم حول مسيلمة, واقترح على الدّيق أن يكون مبعوثه اليهم يثبّتهم على الاسلام, فأذن له الخليفة..

                        وتوجّه الرّجّال الى أهل اليمامة.. ولما رأى كثرتهم الهائلة ظنّ أنهم الغالبون, فحدّثته نفسه الغتدرة أن يحتجز له من اليوم مكانا في دولة الكذّاب التي ظنّها مقبلة وآتية, فترك الاسلام, وانضمّ لصفوف مسيلمة الذي سخا عليه بالوعود.



                        وكان خطر الرّجّال على الاسلام أشدّ من خطر مسيلمة ذاته.

                        ذلك, لأنه استغلّ اسلامه السابق, والفترة التي عاشها بالمدينة أيام الرسول, وحفظه لآيات كثيرة من القرآن, وسفارته لأبي بكر خليفة المسلمين.. استغلّ ذلك كله استغلالا خبيثا في دعم سلطان مسيلمة وتوكيد نبوّته الكاذبة.

                        لقد سار بين الناس يقول لهم: انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" انه أشرك مسيلمة بن حبيب في الأمر".. وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات, فأحق الناس بحمل راية النبوّة والوحي بعده, هو مسيلمة..!!

                        ولقد زادت أعين الملتفين حول مسيلمة زيادة طافحة بسبب أكاذيب الرّجّال هذا. وبسبب استغلاله الماكر لعلاقاته السابقة بالاسلام وبالرسول.

                        وكانت أنباء الرّجّال تبلغ المدينة, فيتحرّق المسلمون غيظا من هذا المرتدّ الخطر الذي يضلّ الناس ضلالا بعيدا, والذي يوسّع بضلاله دائرة الحرب التي سيضطر المسلمون أن يخوضوها.

                        وكان أكثر المسلمين تغيّظا, وتحرّقا للقاء الرّجّال صحابي جليل تتألق ذكراه في كتب السيرة والتاريخ تحت هذا الاسم الحبيب زيد بن الخطّاب..!!

                        زيد بن الخطّاب..؟

                        لا بد أنكم عرفتموه..

                        انه أخو عمر بن الخطّاب..

                        أجل أخوه الأكبر, والأسبق..

                        جاء الحياة قبل عمر, فكان أكبر منه سنا..

                        وسبقه الى الاسلام.. كما سبقه الى الشهادة في سبيل الله..

                        وكان زيد بطلا باهر البطولة.. وكان العمل الصامت. الممعن في الصمت جوهر بطولته.

                        وكان ايمانه بالله وبرسوله وبدينه ايمانا وثيقا, ولم يتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشهد ولا في غزاة.

                        وفي كل مشهد لم يكن يبحث عن النصر, بقدر ما يبحث عن الشهادة..!

                        يوم أحد, حين حمي القتال بين المسلمين والمشركين والمؤمنين. راح زيد بن الخطاب يضرب ويضرب..

                        وأبصره أخوه عمر بن الخطّاب, وقد سقط درعه عنه, وأصبح أدنى منالا للأعداء, فصاح به عمر.

                        " خذ درعي يا زيد فقاتل بها"..

                        فأجابه زيد:

                        " اني أريد من الشهادة ما تريد يا عمر"..!!!

                        وظل يقاتل بغير درع في فدائية باهرة, واستبسال عظيم.



                        **



                        قلنا انه رضي الله عنه, كان يتحرّق شوقا للقاء الرّجّال متمنيّا أن يكون الاجهاز على حياته الخبيثة من حظه وحده.. فالرّجّال في رأي زيد, لم يكن مرتدّا فحسب.. بل كان كذّابا منافقا, وصوليا.

                        لم يرتدّ عن اقتناع.. بل عن وصولية حقيرة, ونفاق يغيض هزيل.

                        وزيد في بغضه النفاق والكذب, كأخيه عمر تماما..!

                        كلاهما لا يثير اشمئزازه, ولا يستجش بغضاءه, مثل النفاق الذي تزجيه النفعيّة الهابطة, والأغراض الدنيئة.

                        ومن أجل تلك الأغراض المنحطّة, لعب الرّجّال دوره الآثم, فأربى عدد الملتفين حول مسيلمة ارباء فاحشا, وهو بهذا يقدّم بيديه الى الموت والهلاك أعدادا كثيرة ستلاقي حتفها في معارك الردّة..

                        أضلّها أولا, وأهلكها أخيرا.. وفي سبيل ماذا..؟ في سبيل أطماع لئيمة زيّنتها له نفسه, وزخرفها له هواه, ولقد أعدّ زيد نفسه ليختم حياته المؤمنة بمحق هذه الفتنة, لا في شخص مسيلمة بل في شخص من هو أكبر من خطرا, وأشدّ جرما الرّجّال بن عنفوة.



                        **



                        وبدأ يوم اليمامة مكفهرّا شاحبا.

                        وجمع خالد بن الوليد جيش الاسلام, ووزعه على مواقعه ودفع لواء الجيش الى من..؟؟

                        الى زيد بن الخطّاب.

                        وقاتل بنو حنيفة أتباع مسيلمة قتالا مستميتا ضاريا..

                        ومالت المعركة في بدايتها على المسلمين, وسقط منهم شهداء كثيرون.

                        ورأى زيد مشاعر الفزع تراود بعض أفئدة المسلمين, فعلا ربوة هناك, وصاح في اخوانه:

                        " أيها الناس.. عضوا على أضراسكم, واضربوا في عدوّكم, وامضوا قدما.. والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله, أو ألقاه سبحانه فأكلمه بحجتي"..!!

                        ونزل من فوق الربوة, عاضّا على أضراسه, زامّا شفتيه لا يحرّك لسانه بهمس.

                        وتركّز مصير المعركة لديه في مصير الرّجّال, فراح يخترق الخضمّ المقتتل كالسهم, باحثا عن الرّجّال حتى أبصره..



                        وهناك راح يأتيه من يمين, ومن شمال, وكلما ابتلع طوفان المعركة غريمه وأخفاه, غاص زيد وراءه حتى يدفع الموج الى السطح من جديد, فيقترب منه زيد ويبسط اليه سيفه, ولكن الموج البشري المحتدم يبتلع الرّجّال مرّة أخرى, فيتبعه زيد ويغوص وراءه كي لا يفلت..

                        وأخيرا يمسك بخناقه, ويطوح بسيفه رأسه المملوء غرورا, وكذبا, وخسّة..

                        وبسقوط الأكذوبة, أخذ عالمها كله يتساقط, فدبّ الرعب في نفس مسيلمة في روع المحكم بن الطفيل ثم في جيش مسيلمة الذي طار مقتل الرّجّال فيه كالنار في يوم عاصف..

                        لقد كان مسيلمة يعدهم بالنصر المحتوم, وبأنه هو والرّجّال بن عنفوة, والمحكم بن طفيل سيقومون غداة النصر بنشر دينهم وبناء دولتهم..!!

                        وها هو ذا الرّجّال قد سقط صريعا.. اذن فنبوّة مسيلمة كلها كاذبة..

                        وغدا يسقط المحكم, وبعد غد مسيلمة..!!

                        هكذا احدثت ضربة زيد بن الخطاب كل هذا المدار في صفوف مسيلمة..

                        أما المسلمون, فما كاد الخبر يذيع بينهم حتى تشامخت عزماتهم كالجبال, ونهض جريحهم من جديد, حاملا سيفه, وغير عابئ بجراحه..

                        حتى الذين كانوا على شفا الموت, لا يصلهم بالحياة سوى بقية وهنانة من رمق غارب, مسّ النبأ أسماعهم كالحلم الجميل, فودّوا لو أنّ بهم قوّة يعودون بها الى الحياة ليقاتلو, وليشهدوا النصر في روعة ختامه..

                        ولكن أنّى لهم هذا, وقد تفتحت أبواب الجنّة لاستقبالهم وانهم الآن ليسمعون أسماءهم وهم ينادون للمثول..؟؟!!



                        **



                        رفع زيد بن الخطاب ذراعيه الى السماء مبتهلا لربّه, شاكرا نعمته..

                        ثم عاد الى سيفه والى صمته, فلقد أقسم بالله من لحظات ألا يتكلم حتى يتم النصر أو ينال الشهادة..

                        ولقد أخذت المعركة تمضي لالح المسلمين.. وراح نصرهم المحتوم يقترب ويسرع..



                        هنالك وقد رأى زيد رياح النصر مقبلة, لم يعرف لحياته ختاما أروع من هذا الختام, فتمنّى لو يرزقه الله الشهادة في يوم اليمامة هذا..

                        وهبّت رياح الجنة فملأت نفسه شوقا, ومآقيه دموعا,وعزمه اصرارا..

                        وراح يضرب ضرب الباحث عن مصيره العظيم..

                        وسقط البطل شهيدا..

                        بل قولوا: صعد شهيدا..

                        صعد عظيما, ممجّدا, سعيدا..

                        وعاد جيش الاسلام الى المدينة ظافرا..

                        وبينما كان عمر, يستقبل مع الخليفة أبي بكرو أولئك العائدين الظافرين, راح يرمق بعينين مشتاقين أخاه العائد..

                        وكان زيد طويل بائن الطول, ومن ثمّ كان تعرّف العين عليه أمرا ميسورا..

                        ولكن قبل أن يجهد بصره, اقترب اليه من المسلمين العائدين من عزّاه في زيد..

                        وقال عمر:

                        " رحم الله زيدا..

                        سبقني الى الحسنيين..

                        أسلم قبلي..

                        واستشهد قبلي".



                        **



                        وعلى كثرة الانتصارات التي راح الاسلام يظفر بها وينعم, فان زيدا لم يغب عن خاطر أخيه الفاروق لحظة..

                        ودائما كان يقول:

                        " ما هبّت الصبا, الا وجدت منها ريح زيد".

                        أجل..

                        ان الصبا لتحمل ريح زيد, وعبير شمائله المتفوقة..

                        ولكن, اذا اذن أمير المؤمنين, أضفت لعبارته الجليلة هذه, كلمات تكتمل معها جوانب الاطار.

                        تلك هي:

                        " .. وما هبّت رياح النصر على الاسلام منذ يوم اليمامة الا وجد الاسلام فيها ريح زيد.. وبلاء زيد.. وبطولة زيد.. وعظمة زيد..!!"



                        **



                        بورك آل الخطّاب تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم..

                        بوركوا يوم أسلموا.. وبوركوا أيام جاهدوا, واستشهدوا.. وبوركوا يوم يبعثون..!!



                        إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                        نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                        جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                        تعليق


                        • #27
                          طلحة بن عبيد الله

                          صقر يوم أحد



                          ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر, وما بدّلوا تبديلا)...

                          تلا الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية الكريمة, ثم استقبل وجوه أصحابه, وقال وهو يشير الى طلحة:

                          " من سرّه أن ينظر الى رجل يمشي على الأرض, وقد قضى نحبه, فلينظر الى طلحة"..!!

                          ولم تكن ثمة بشرى يتمنّاها أصحاب رسول الله, وتطير قلوبهم شوقا اليها أكثر من هذه التي قلّدها النبي طلحة بن عبيد الله..

                          لقد اطمأن اذن الى عاقبة أمره ومصير حياته.. فسيحيا, ويموت, وهو واحد من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ولن تناله فتنة, ولن يدركه لغوب..

                          ولقد بشّره الرسول بالجنة, فماذا كانت حياة هذا المبشّر الكريم..؟؟



                          **



                          لقد كان في تجارة له بأرض بصرى حين لقي راهبا من خيار رهبانها, وأنبأه أن النبي الذي سيخرج من بلاد الحرم, والذي تنبأ به الأنبياء الصالحون قد أهلّ عصره وأشرقت أيامه..

                          وحّر طلحة أن يفوته موكبه, فانه موكب الهدى والرحمة والخلاص..

                          وحين عاد طلحة الى بلده مكة بعد شهور قضاها في بصرى وفي السفر, الفى بين أهلها ضجيجا.. وسمعهم يتحدثون كلما التقى بأحدهم, أو بجماعة منهم عن محمد الأمين.. وعن الوحي الذي يأتيه.. وعن الرسالة التي يحملها الى العرب خاصة, والى الناس كافة..

                          وسأل طلحة أول ما سأل أبي بكر فعلم أنه عاد مع قافلته وتجارته من زمن غير بعيد, وأنه يقف الى جوار محمد مؤمنا منافحا, أوّابا..

                          وحدّث طلحة نفسه: محمد, وأبو بكر..؟؟

                          تالله لا يجتمع الاثنان على ضلالة أبدا.!!

                          ولقد بلغ محمد الأربعين من عمره, وما عهدنا عليه خلال هذا العمر كذبة واحدة.. أفيكذب اليوم على الله, ويقول: أنه أرسلني وأرسل اليّ وحيا..؟؟



                          وهذا هو الذي يصعب تصديقه..

                          وأسرع طلحة الخطى ميمما وجهه شطر دار أبي بكر..

                          ولم يطل الحديث بينهما, فقد كان شوقه الى لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومبايعته أسرع من دقات قلبه..

                          فصحبه أبو بكر الى الرسول عليه الصلاة والسلام, حيث أسلم وأخذ مكانه في القافلة المباركة..

                          وهكذا كان طلحة من المسلمين المبكرين.



                          **



                          وعلى الرغم من جاهه في قومه, وثرائه العريض, وتجارته الناجحة فقد حمل حظه من اضطهاد قريش, اذ وكل به وبأبي بكر نوفل بن خويلد, وكان يدعى أسد قريش, بيد أن اضطهادهما لم يطل مداه, اذ سرعان ما خجلت قريش من نفسها, وخافت عاقبة أمرها..

                          وهاجر طلحة الى المدينة حين أمر المسلمون بالهجرة, ثم شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, عدا غزوة بدر, فان الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد ندبه ومعه سعيد بن زيد لمهمة خارج المدينة..

                          ولما أنجزاها ورجعا قافلين الى المدينة, كان النبي وصحبه عائدين من غزوة بدر, فآلم نفسيهما أن يفوتهما أجر مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهاد في أولى غزواته..

                          بيد أن الرسول أهدى اليهما طمأنينة سابغة, حين انبأهما أن لهما من المثوبة والأجر مثل ما للمقاتلين تماما, بل وقسم لهما من غنائم المعركة مثل من شهدوها..

                          وتجيء غزوة أحد لتشهد كل جبروت قريش وكل بأسها حيث جاءت تثأر ليوم بدر وتؤمّن مصيرها بانزال هزيمة نهائية بالمسلمين, هزيمة حسبتها قريش أمرا ميسورا, وقدرا مقدورا..!!

                          ودارت حرب طاحنة سرعان ما غطّت الأرض بحصادها الأليم.. ودارت الدائرة على المشركين..



                          ثم لما رآهم المسلمون ينسحبون وضعوا أسلحتهم, ونزل الرماة من مواقعهم ليحوزوا نصيبهم من الغنائم..

                          وفجأة عاد جيش قريش من الوراء على حين بغتة, فامتلك ناصية الحرب زمام المعركة..

                          واستأنف القتال ضراوته وقسوته وطحنه, وكان للمفاجأة أثرها في تشتيت صفوف المسلمين..

                          وأبصر طلحة جانب المعركة التي يقف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فألفاه قد صار هدفا لقوى الشرك والوثنية, فسارع نحو الرسول..

                          وراح رضي الله عنه يجتاز طريقا ما أطوله على قصره..! طريقا تعترض كل شبر منه عشرات السيوف المسعورة وعشرات من الرماح المجنونة!!

                          ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعيد يسيل من وجنته الدم ويتحامل على نفسه, فجنّ جنونه, وقطع طريق الهول في قفزة أو قفزتين وأمام الرسول وجد ما يخشاه.. سيوف المشركين تلهث نحوه, وتحيط به تريد أن تناله بسوء..



                          ووقف طلحة كالجيش اللجب, يضرب بسيفه البتار يمينا وشمالا..

                          ورأى دم الرسول الكريم ينزف, وآلامه تئن, فسانده وحمله بعيدا عن الحفرة التي زلت فيها قدمه..

                          كان يساند الرسول عليه الصلاة والسلام بيسراه وصدره, متأخرا به الى مكان آمن, بينما بيمينه, بارك الله يمينه, تضرب بالسيف وتقاتل المشركين الذين أحاطوا بالرسول, وملؤا دائرة القتال مثل الجراد..!!

                          ولندع الصدّيق أبا بكر رضي الله عنه يصف لنا المشهد..

                          تقول عائشة رضي الله عنها:

                          " كان أبو بكر اذا ذكر يوم أحد يقول: ذلك كله كان يوم طلحة.. كنت أول من جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال لي الرسول صلى الله عليه وسلم ولأبي عبيدة بن الجرّاح: دونكم اخاكم.. ونظرنا واذا به بضع وسبعون بين طعنة.. وضربة ورمية.. واذا أصبعه مقطوع. فأصلحنا من شانه" .



                          **



                          وفي جميع المشاهد والغزوات, كان طلحة في مقدّمة الصفوف يبتغي وجه الله, ويفتدي راية رسوله.

                          ويعيش طلحة وسط الجماعة المسلمة, يعبد الله مع العابدين, ويجاهد في سبيله مع المجاهدين, ويرسي بساعديه مع سواعد اخوانه قواعد الدين الجديد الذي جاء ليخرج الناس من الظلمات الى النور..

                          فاذا قضى حق ربه, راح يضرب في الأرض, ويبتغي من فضل الله منمّيا تجارته الرابحة, وأعماله الناجحة.

                          فقد كان طلحة رضي الله عنه من أكثر المسلمين ثراء, وأنماهم ثروة..

                          وكانت ثروته كلها في خدمة الدين الذي حمل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته...

                          كان ينفق منها بغير حساب..

                          وكان الله ينمّيها له بغير حساب!



                          لقد لقّبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ طلحة الخير, وطلحة الجود, وطلحة الفيّاض اطراء لجوده المفيض.

                          وما أكثر ما كان يخرج من ثروته مرة واحدة, فاذا الله الكريم يردها اليه مضاعفة.



                          تحدّثنا زوجته سعدى بنت عوف فتقول:

                          " دخلت على طلحة يوما فرأيته مهموما, فسألته ما شانك..؟

                          فقال المال الذي عندي.. قد كثر حتى أهمّني وأكربني..

                          وقلت له ما عليك.. اقسمه..

                          فقام ودعا الناس, واخذ يقسمه عليهم حتى ما بقي منه درهم"...

                          ومرّة أخرى باع أرضا له بثمن مرتفع, ونظر الى كومة المال ففاضت عيناه من الدمع ثم قال:

                          " ان رجلا تبيت هذه الأموال في بيته لا يدري ما يطرق من أمر, لمغرور بالله"...

                          ثم دعا بعض أصحابه وحمل معهم أمواله هذه, ومضى في شوارع المدينة وبيوتها يوزعها, حتى أسحر وما عنده منها درهم..!!

                          ويصف جابر بن عبدالله جود طلحة فيقول:

                          " ما رأيت أحد اعطى لجزيل مال من غير مسألة, من طلحة بن عبيد الله".وكان أكثر الناس برّا بأهله وبأقربائه, فكان يعولهم جميعا على كثرتهم..

                          وقد قيل عنه في ذلك:

                          ".. كان لا يدع أحدا من بني تيم عائلا الا كفاه مؤنته, ومؤنة عياله..

                          وكان يزوج أيامهم, ويخدم عائلهم, ويقضي دين غارمهم"..



                          ويقول السائب بن زيد:

                          " صحبت طلحة بن عبيدالله في السفر والحضر فما وجدت أحدا, أعمّ سخاء على الدرهم, والثوب والطعام من طلحة"..!!



                          وتنشب الفتنة المعروفة في خلافة عثمان رضي الله عنه..

                          ويؤيد طلحة حجة المعارضين لعثمان, ويزكي معظمهم فيما كانوا ينشدونه من تغيير واصلاح..

                          أكان بموقفه هذا, يدعو الى قتل عثمان, أو يرضى به..؟؟ كلا...

                          ولو كان يعلم أن الفتنة ستتداعى حتى تتفجر آخر الأمر حقدا مخبولا, ينفس عن نفسه في تلك الجناية البشعة التي ذهب ضحيتها ذو النورين عثمان رضي الله عنه..

                          نقول: لو كان يعلم أن الفتنة ستتمادى الى هذا المأزق والمنتهى لقاومها, ولقاومها معه بقية الأصحاب الذين آزروها أول أمرها باعتبارها حركة معارضة وتحذير, لا أكثر..



                          على أن موقف طلحة هذا, تحوّل الى عقدة حياته بعد الطريقة البشعة التي حوصر بها عثمان وقتل, فلم يكد الامام عليّ يقبل بيعة المسلمين بالمدينة ومنهم طلحة والزبير, حتى استأذن الاثنان في الخروج الى مكة للعمرة..

                          ومن مكة توجها الى البصرة, حيث كانت قوات كثيرة تتجمّع للأخذ بثأر عثمان..

                          وكانت وقعة الجمل حيث التقى الفريق المطالب بدم عثمان, والفريق الذي يناصر عليّا..

                          وكان عليّ كلما أدار خواطره على الموقف العسر الذي يجتازه الاسلام والمسلمون في هذه الخصومة الرهيبة, تنتفض همومه, وتهطل دموعه, ويعلو نشيجه..!!



                          لقد اضطر الى المأزق الوعر..

                          فبوصفه خليفة المسلمين لا يستطيع, وليس من حقه أن يتسامح تجاه أي تمرّد على الدولة, أو أي مناهضة مسلحة للسلطة المشروعة..

                          وحين ينهض لقمع تمرّد من هذ النوع, فان عليه أن يواجه اخوانه وأصحابه وأصدقاءه, وأتباع رسوله ودينه, أولئك الذين طالما قاتل معهم جيوش الشرك, وخاضوا معا تحت راية التوحيد معارك صهرتهم وصقلتهم, وجعلت منهم اخوانا بل اخوة متعاضدين..

                          فأي مأزق هذا..؟ وأي ابتلاء عسير..؟

                          وفي سبيل التماس مخرج من هذا المأزق, وصون دماء المسلمين لم يترك الامام علي وسيلة الا توسّل بها, ولا رجاء الا تعلق به.

                          ولكن العناصر التي كانت تعمل ضدّ الاسلام, وما أكثرها, والتي لقيت مصيرها الفاجع على يد الدولة المسلمة, أيام عاهلها العظيم عمر, هذه العناصر كانت قد أحكمت نسج الفتنة, وراحت تغذيها وتتابع سيرها وتفاقمها...



                          **



                          بكى عليّ بكاء غزيرا, عندما أبصر أم المؤمنين عائشة في هودجها على رأس الجيش الذي يخرج الآن لقتاله..

                          وعندما أبصر وسط الجيش طلحة والزبير, حوراييّ رسول الله..

                          فنادى طلحة والزبير ليخرجا اليه, فخرجا حتى اختلفت أعناق أفراسهم..

                          فقال لطلحة:

                          " يا طلحة, أجئت بعرس رسول الله تقاتل بها. وخبأت عرسك في البيت"..؟؟

                          ثم قال للزبير:

                          " يا زبير, نشدتك الله, أتذكر يوم مرّ بك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمكان كذا, فقال لك: يا زبير, ألا تحبّ عليّا..؟

                          فقلت: ألا أحب ابن خالي, وابن عمي, ومن هو على ديني..؟؟

                          فقال لك: يا زبير, أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم"..!!

                          قال الزبير رضي الله عنه: نعم أذكر الآن, وكنت قد نسيته, والله لا أقاتلك..

                          وأقلع الزبير وطلحة عن الاشتراك في هذه الحرب الأهلية..

                          أقلعا فور تبيّنهما الأمر, وعندما أبصرا عمار بن ياسر يحارب في صف عليّ, تذكرا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمّار:

                          " تقتلك الفئة الباغية"..

                          فان قتل عمّار اذن في هذه المعركة التي يشترك فيها طلحة, فسيكون طلحة باغيا...



                          **



                          انسحب طلحة والزبير من القتال, ودفعا ثمن ذلك الانسحاب حياتهما, ولكنهما لقيا الله قريرة أعينهما بما منّ عليهما من بصيرة وهدى..

                          أما الزبير فقد تعقبه رجل اسمه عمرو بن جرموز وقتله غيلة وغدرا وهو يصلي..!!

                          وأما طلحة فقد رماه مروان بن الحكم بسهم أودى بحياته..



                          **



                          كان مقتل عثمان قد تشكّل في نفسية طلحة, حتى صار عقدة حياته..

                          كل هذا, مع أنه لم يشترك بالقتل, ولم يحرّض عليه, وانما ناصر المعارضة ضدّه, يوم لم يكن يبدو أن المعارضة ستتمادى وتتأزم حتى تتحول الى تلك الجريمة البشعة..



                          وحين أخذ مكانه يوم الجمل مع الجيش المعادي لعلي بن أبي طالب والمطالب بدم عثمان, كان يرجو أن يكون في موقفه هذا كفّارة تريحه من وطأة ضميره..

                          وكان قبل بدء المعركة يدعو ويضرع بصوت تخنقه الدموع, ويقول:

                          " اللهم خذ مني لعثمان اليوم حتى ترضى"..



                          فلما واجهه عليّ هو والزبير, أضاءت كلمات عليّ جوانب نفسيهما, فرأيا الصواب وتركا أرض القتال..

                          بيد أن الشهادة من حظ طلحة يدركها وتدركه أيّان يكون..

                          ألم يقل الرسول عنه:

                          " هذا ممن قضى نحبه, ومن سرّه أن يرى شهيدا يمشي على الأرض, فلينظر الى طلحة"..؟؟

                          لقي الشهيد اذن مصيره المقدور والكبير, وانتهت وقعة الجمل.

                          وأدركت أم المؤمنين أنها تعجلت الأمور فغادرت البصرة الى البيت الحرام فالمدينة, نافضة يديها من هذا الصراع, وزوّدها الامام علي في رحلتها بكل وسائل الراحة والتكريم..

                          وحين كان عليّ يستعرض شهداء المعركة راح يصلي عليهم جميعا, الذين كانوا معه, والذين كانوا ضدّه..

                          ولما فرغ من دفن طلحة, والزبير, وقف يودعهما بكلمات جليلة, اختتمها قائلا:

                          " اني لأرجو أن أكون أنا, وطلحة والزبير وعثمان من الذين قال الله فيهم: (ونزعنا ما صدورهم من غلّ اخوانا على سرر متقابلين)"..

                          ثم ضمّ قبريهما بنظراته الحانية الصافية الآسية وقال:

                          " سمعت أذناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

                          " طلحة والزبير, جاراي في الجنّة"...





















                          إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                          نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                          جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                          تعليق


                          • #28
                            الزبير بن العوّام

                            حواريّ رسول الله



                            لا يجيء ذكر طلحة الا ويذكر الزبير معه..

                            ولا يجيء ذكر الزبير الا ويذكر طلحة معه..

                            فحين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يؤاخي بين أصحابه في مكة قبل الهجرة, آخى بين طلحة والزبير.

                            وطالما كان عليه السلام يتحدث عنهما معا.. مثل قوله:

                            " طلحة والزبير جاراي في الجنة".

                            وكلاهما يجتمع مع الرسول في القرابة والنسب.

                            أما طلحة, فيجتمع في نسبه مع الرسول في مرة بن كعب.

                            وأما الزبير, فيلتقي في نسبه مع الرسول في قصّي بن كلاّب كما أن أمه صفية عمة الرسول صلى الله عليه وسلم..

                            وكل منهما طلحة والزبير كان أكثر الناس شبها بالآخر في مقادير الحياة..

                            فالتماثل بينهما كبير, في النشأة, في الثراء, في السخاء, في قوة الدين, في روعة الشجاعة, وكلاهما من المسلمين المبكرين باسلامهم...

                            ومن العشرة الذين بشّرهم الرسول بالجتة. ومن أصحاب الشورى الستة الذين وكّل اليهم عمر اختيار الخليفة من بعده.

                            وحتى مصيرهما كان كامل التماثل.. بل كان مصيرا واحدا.



                            **



                            ولقد أسلم الزبير, اسلاما مبكرا, اذ كان واحدا من السبعة الأوائل الذين سارعوا الى الاسلام, وأسهموا في طليعته المباركة في دار الأرقم..

                            وكان عمره يومئذ خمس عشر سنة.. وهكذا رزق الهدى والنور والخير صبيا..

                            ولقد كان فارسا ومقداما منذ صباه. حتى ان المؤرخين ليذكرون أن أول سيف شهر في الاسلام كان سيف الزبير.

                            ففي الأيام الأولى للاسلام, والمسلمون يومئذ قلة يستخفون في دار الأرقم.. سرت اشاعة ذات يوم أن الرسول قتل.. فما كان من الزبير الا أن استلّ سيفه وامتشقه, وسار في شوارع مكة, على حداثة سنه كالاعصار..!

                            ذهب أولا يتبيّن الخبر, معتزما ان ما ألفاه صحيحا أن يعمل سيفه في رقاب قريش كلها حتى يظفربهم أو يظفروا به..

                            وفي أعلى مكة لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسأله ماذا به....؟ فأنهى اليه الزبير النبأ.. فصلى عليه الرسول, ودعا له بالخير, ولسيفه بالغلب.

                            وعلى الرغم من شرف الزبير في قومه فقد حمل حظه من اضطهاد قريش وعذابها.

                            وكان الذي تولى تعذيبه عمه.. كان يلفه في حصير, ويدخن عليه بالنار كي تزهق أنفاسه, ويناديه وهو تحت وطأة العذاب:" أكفر برب محمد, أدرأ عنك العذاب".

                            فيجيبه الزبير الذي لم يكن يوم ذاك أكثر من فتى ناشئ, غضّ العظام.. يجيب عمه في تحدّ رهب:

                            " لا..

                            والله لا أعود لكفر أبدا"...

                            ويهاجر الزبير الى الحبشة, الهجرتين الأولى والثانية, ثم يعود ليشهد المشاهد كلها مع رسول الله. لا تفتقده غزوة ولا معركة.



                            وما أكثر الطعنات التي تلقاها جسده واحتفظ بها بعد اندمال جراحاتها, أوسمة تحكي بطولة الزبير وأمجاده..!!

                            ولنصغ لواحد من الصحابة رأى تلك الأوسمة التي تزدحم على جسده, يحدثنا عنها فيقول:

                            " صحبت الزبير بن العوّام في بعض أسفاره ورأيت جسده, فرأيته مجذّعا بالسيوف, وان في صدره لأمثال العيون الغائرة من الطعن والرمي.

                            فقلت له: والله لقد شهدت بجسمك ما لم أره بأحد قط.

                            فقال لي: أم والله ما منها جراحة الا مع رسول الله وفي سبيل الله"..

                            وفي غزوة أحد بعد أن انقلب جيش قريش راجعا الى مكةو ندبه الرسول هو وأبو بكر لتعقب جيش قريش ومطاردته حتى يروا أن المسلمين قوة فلا يفكروا في الرجوع الى المدينة واستئناف القتال..



                            وقاد أبو بكر والزبير سبعين من المسلمين, وعلى الرغم من أنهم كانوا يتعقبون جيشا منتصرا فان اللباقة الحربية التي استخدمها الصديق والزبير, جعلت قريشا تظن أنها أساءت تقدير خسائر المسلمين, وجعلتها تحسب أن هذه الطليعة القوية التي أجاد الزبير مع الصديق ابراز قوتها, وما هي الا مقدمة لجيش الرسول الذي يبدو أنه قادم ليشن مطاردة رهيبة فأغذّت قريش سيرها, وأسرعت خطاها الى مكة..!!



                            ويوم اليرموك كان الزبير جيشا وحده.. فحين رأى أكثر المقاتلين الذين كان على رأسهم يتقهقرون أمام جبال الروم الزاحفة, صاح هو" الله أكبر".. واخترق تلك الجبال الزاحفة وحده, ضاربا بسيفه.. ثم قفل راجعا وسط الصفوف الرهيبة ذاتها, وسيف يتوهج في يمينه لا يكبو, ولا يحبو..!!

                            وكان رضي الله عنه شديد الولع بالشهادة, عظيم الغرام بالموت في سبيل الله.

                            وكان يقول:

                            " ان طلحة بن عبيد الله يسمي بنيه بأسماء الأنبياء, وقد علم ألا نبي بعد محمد...

                            واني لأسمي بنيّ بأسماء الشهداء لعلهم يستشهدون".!

                            وهكذا سمى ولده, عبدالله بن الزبير تيمنا بالصحابي الشهيد عبدالله بن جحش.

                            وسمى ولده المنذر, تيمنا بالشهيد المنذر بن عمرو.

                            وسمى عروة تيمنا بالشهيد عروة بن عمرو.

                            وسمى حمزة تيمنا بالشهيد الجليل عم الرسول حمزة بن عبدالمطلب.

                            وسمّى جعفر, تيمنا بالشهيد الكبير جعفر بن أبي طالب.

                            وسمى مصعبا تيمنا بالشهيد مصعب بن عمير.

                            وسمى خالد تيمنا بالصحابي الشهيد خالد بن سعيد..

                            وهكذا راح يختار لأبنائه أسماء الشهداء. راجيا أن يكونوا يوم تأتيهم آجالهم شهداء.

                            ولقد قيل في تاريخه:

                            " انه ما ولي امارة قط, ولا جباية, ولا خراجا ولا شيئا الا الغزو في سبيل الله".

                            وكانت ميزته كمقاتل, تتمثل في اعتماده التام على نفسه, وفي ثقته التامة بها.

                            فلو كان يشاركه في القتال مائة ألف, لرأيته يقاتل وحده في لمعركة.. وكأن مسؤولية القتال والنصر تقع على كاهله وحده.

                            وكان فضيلته كمقاتل, تتمثل في الثبات, وقوة الأعصاب..

                            رأى مشهد خاله حمزة يوم أحد وقد كثّل المشركون بجثمانه القتيل في قسوة, فوقف أمامه كالطود ضاغطا على أسنانه, وضاغطا على قبضة سيفه, لا يفكر الا في ثأر رهيب سرعان ما جاء الوحي ينهى الرسول والمسلمين عن مجرّد التفكير فيه..!!

                            وحين طال حصار بني قريظة دون أن يستسلموا أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم مع علي ابن أبي طالب, فوقف أمام الحصن المنيع يردد مع علي قوله:

                            " والله لنذوقنّ ما ذاق حمزة, أو لنفتحنّ عليهم حصنهم"..

                            ثم ألقيا بنفسيهما وحيدين داخل الحصن..

                            وبقوة أعصاب مذهلة, أحكما انزال الرعب في أفئدة المتحصنين داخله وفتحا أبوابه للمسلمين..!!

                            ويوم حنين أبصر مالك بن عوف زعيم هوازن وقائد جيش الشرك في تلك الغزوة.. أبصره بعد هزيمتهم في حنين واقفا وسط فيلق من أصحابه, وبقايا جيشه المنهزم, فاقتحم حشدهم وحده, وشتت شملهم وحده, وأزاحهم عن المكمن الذي كانوا يتربصون فيه ببعض زعماء المسلمين, العائدين من المعركة..!!



                            **



                            ولقد كان حظه من حب الرسول وتقديره عظيما..

                            وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يباهي به ويقول:

                            " ان لكل نبي حواريا وحواريي الزبير ن العوّام"..

                            ذلك أنه لم يكن ابن عمته وحسب, ولا زوج أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين, بل كان ذلك الوفي القوي, والشجاع الأبيّ, والجوّاد السخيّ, والبائع نفسه وماله لله رب العالمين:

                            ولقد أجاد حسان بن ثابت وصفه حين قال:

                            أقام على عهد النبي وهديه

                            حواريّه والقول بالفعل يعدل

                            أقام على منهاجه وطريقه

                            يوالي وليّ الحق, والحق أعدل

                            هو الفارس المشهور والبطل الذي

                            يصول, اذا ما كان يوم محجّل

                            له من رسول الله قربى قريبة

                            ومن نصرة الاسلام مجد موثّل

                            فكم كربة ذبّ الزبير بسيفه

                            عن المصطفى, والله يعطي ويجزل



                            **



                            وكان رفيع الخصال, عظيم الشمائل.. وكانت شجاعته وسخاؤه كفرسي رهان..!!

                            فلقد كان يدير تجارة رابحة ناجحة, وكان ثراؤه عريضا, ولكنه أنفقه في الاسلام حتى مات مدينا..!!

                            وكان توكله على الله منطلق جوده, ومنطلق شجاعته وفدائيته..

                            حتى وهو يجود بروحه, ويوصي ولده عبدالله بقضاء ديونه قال له:

                            " اذا أعجزك دين, فاستعن بمولاي"..

                            وسال عبدالله: أي مولى تعني..؟

                            فأجابه: الله, نعم المولى ونعم النصير"..

                            يقول عبدالله فيما بعد:

                            " فوالله ما وقعت في كربة من دينه الا قلت: يا مولى الزبير اقضي دينه, فيقضيه".

                            وفي يوم الجمل, على النحو الذي ذكرنا في حديثنا السالف عن حياة سيدنا طلحة كانت نهاية سيدنا الزبير ومصيره..

                            فبعد أن رأى الحق نفض يديه من القتال, وتبعه نفر من الذين كانوا يريدون للفتنة دوام الاشتعال, وطعنه القاتل الغادر وهو بين يدي ربه يصلي..

                            وذهب القاتل الى الامام علي يظن أنه يحمل اليه بشرى حين يسمعه نبأ عدوانه على الزبير, وحين يضع بين يديه سيفه الذي استلبه منه, بعد اقتراف جريمته..

                            لكن عليّا صاح حين علم أن بالباب قاتل الزبير يستأذن, صاح آمرا بطرده قائلا:

                            " بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار"..

                            وحين أدخلوا عليه سيف الزبير, قبّله الامام وأمعن بالبكاء وهو يقول:

                            " سيف طالما والله جلا به صاحبه الكرب عن رسول الله"..!!



                            أهناك تحيّة نوجهها للزبير في ختام حديثنا عنه, أجمل وأجزل من كلمات الامام..؟؟

                            سلام على الزبير في مماته بعد محياه..

                            سلام, ثم سلام, على حواري رسول الله...
                            إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                            نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                            جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                            تعليق


                            • #29
                              خبيب بن عديّ

                              بطل.. فوق الصليب..!!



                              والآن..

                              افسحوا الطريق لهذا البطل يا رجال..

                              وتعالوا من كل صوب ومن كل مكان..

                              تعالوا, خفاقا وثقالا..

                              تعاولوا مسرعين, وخاشعين..

                              وأقبلوا, لتلقنوا في الفداء درسا ليس له نظير..!!

                              تقولون: أوكل هذا الذي قصصت علينا من قبل لم تكن دروسا في الفداء ليس لها نظير..؟؟



                              أجل كانت دروسا..

                              وكانت في روعتها تجلّ عن المثيل وعن النظير..

                              ولكنكم الآن أمام أستاذ جديد في فن التضحية..

                              أستاذ لوفاتكم مشهده, فقد فاتكم خير كثير, جدّ كثير..

                              الينا يا أصحاب العقائد في كل أمة وبلد..

                              الينا يا عشاق السموّ من كل عصر وأمد..

                              وأنتم أيضا يا من أثقلكم الغرور, وظننتم بالأديان والايمان ظنّ السّوء..

                              تعالوا بغروركم..!

                              تعالوا وانظروا أية عزة, وأية منعة, وأي ثبات, وأيّ مضاء.. وأي فداء, وأي ولاء..

                              وبكلمة واحدة, أية عظمة خارقة وباهرة يفيئها الايمان بالحق على ذويه المخلصين..!!

                              أترون هذا الجثمان المصلوب..؟؟

                              انه موضوع درسنا اليوم, يا كلّ بني الانسان...!

                              هذا الجثمان المصلوب أمامكم هو الموضوع, وهو الدرس, وهو الاستاذ..

                              اسمه خبيب بن عديّ.

                              احفظوا هذا الاسم الجليل جيّدا.

                              واحفظوه وانشدوه, فانه شرف لكل انسان.. من كل دين, ومن كل مذهب, ومن كل جنس, وفي كل زمان..!!



                              **



                              انه من أوس المدينة وأنصارها.

                              تردد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مذ هاجر اليهم, وآمن بالله رب العالمين.

                              كان عذب الروح, شفاف النفس, وثيق الايمان, ريّان الضمير.

                              كان كما وصفه حسّان بن ثابت:

                              صقرا توسّط في الأنصار منصبه

                              سمح الشجيّة محضا غير مؤتشب

                              ولما رفعت غزوة بدر أعلامها, كان هناك جنديا باسلا, ومقاتلا مقداما.

                              وكان من بين المشركين الذين وقعوا في طريقه ابّان المعركة فصرعهم بسيفه الحارث بن عمرو بن نوفل.

                              وبعد انتهاء المعركة, وعودة البقايا المهزومة من قريش الى مكة عرف بنو الحارث مصرع أبيهم, وحفظوا جيدا اسم المسلم الذي صرعه في المعركة: خبيب بن عديّ..!!



                              **



                              وعاد المسلمون من بدر الى المدينة, يثابرون على بناء مجتمعهم الجديد..

                              وكان خبيب عابدا, وناسكا, يحمل بين جبينه طبيعة الناسكين, وشوق العابدين..

                              هناك أقبل على العبادة بروح عاشق.. يقوم الليل, ويصوم النهار, ويقدّس لله رب العالمين..



                              **



                              وذات يوم أراد الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن يبلو سرائر قريش, ويتبيّن ما ترامى اليه من تحرّكاتها, واستعدادها لغزو جديد.. فاختار من أصحابه عشرة رجال.. من بينهم خبيب وجعل أميرهم عاصم بن ثابت.

                              وانطلق الركب الى غايته حتى اذا بلغوا مكانا بين عسفان ومكة, نمي خبرهم الى حيّ من هذيل يقال لهم بنو حيّان فسارعوا اليهم بمائة رجل من أمهر رماتهم, وراحوا يتعقبونهم, ويقتفون آثارهم..

                              وكادوا يزيغون عنهم, لولا أن أبصر أحدهم بعض نوى التمر ساقطا على الرمال.. فتناول بعض هذا النوى وتأمله بما كان للعرب من فراسة عجيبة, ثم صاح في الذين معه:

                              " انه نوى يثرب, فلنتبعه حتى يدلنا عليهم"..

                              وساروا مع النوى المبثوث على الأرض, حتى أبصروا على البعد ضالتهم التي ينشدون..

                              وأحس عاصم أمير العشرة أنهم يطاردون, فدعا أصحابه الى صعود قمة عالية على رأس جبل..

                              واقترب الرماة المائة, وأحاطوا بهم عند سفح الجبل وأحكموا حولهم الحصار..

                              ودعوهم لتسليم أنفسهم بعد أن أعطوهم موثقا ألا ينالهم منهم سوء.

                              والتفت العشرة الى أميرهم عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين.

                              وانتظروا بما يأمر..

                              فاذا هو يقول:" أما أنا, فوالله لا أنزل في ذمّة مشرك..

                              اللهم أخبر عنا نبيك"..





                              وشرع الرماة المائة يرمونهم بالنبال.. فأصيب أميرهم عاصم واستشهد, وأصيب معه سبعة واستشهدوا..

                              ونادوا الباقين, أنّ لهم العهد والميثاق اذا هم نزلوا.

                              فنزل الثلاثة: خباب بن عديّ وصاحباه..

                              واقترب الرماة من خبيب وصاحبه زيد بن الدّثنّة فأطلقوا قسيّهم, وربطوهما بها..

                              ورأى زميلهم الثالث بداية الغدر, فقرر أن يموت حيث مات عاصم واخوانه..

                              واستشهد حيث أراد..

                              وهكذا قضى ثمانية من أعظم المؤمنين ايمانا, وأبرّهم عهدا, وأوفاهم لله ولرسوله ذمّة..!!

                              وحاول خبيب وزيد أن يخلصا من وثاقهما, ولكنه كان شديد الاحكام.

                              وقادهما الرماة البغاة الى مكة, حيث باعوهما لمشركيها..

                              ودوّى في الآذان اسم خبيب..

                              وتذكّر بنوالحارث بن عامر قتيل بدر, تذكّروا ذلك الاسم جيّدا, وحرّك في صدورهم الأحقاد.

                              وسارعوا الى شرائه. ونافسهم على ذلك بغية الانتقام منه أكثر أهل مكة ممن فقدوا في معركة بدر آباءهم وزعماءهم.

                              وأخيرا تواصوا عليه جميعا وأخذوا يعدّون لمصير يشفي أحقادهم, ليس منه وحده, بل ومن جميع المسلمين..!!

                              وضع قوم أخرون أيديهم على صاحب خبيب زيد بن الدّثنّة وراحوا يصلونه هو الآخر عذابا..



                              **



                              أسلم خبيب قلبه, وأمره,ومصيره لله رب العالمين.

                              وأقبل على نسكه ثابت النفس, رابط الجأش, معه من سكينة الله التي افاءها عليه ما يذيب الصخر, ويلاشي الهول.

                              كان الله معه.. وكان هو مع الله..

                              كانت يد الله عليه, يكاد يجد برد أناملها في صدره..!

                              دخلت عليه يوما احدى بنات الحارث الذي كان أسيرا في داره, فغادرت مكانه مسرعة الى الناس تناديهم لكي يبصروا عجبا..

                              " والله لقد رأيته يحمل قطفا كبيرا من عنب يأكل منه..

                              وانه لموثق في الحديد.. وما بمكة كلها ثمرة عنب واحدة..

                              ما أظنه الا رزقا رزقه الله خبيبا"..!!



                              أجل آتاه الله عبده الصالح, كما آتى من قبل مريم بنت عمران, يوم كانت:

                              ( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا..

                              قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب)..



                              **



                              وحمل المشركون الى خبيب نبأ مصرع زميله وأخيه زيد رضي الله عنه.

                              ظانين أنهم بهذا يسحقون أعصابه, ويذيقونه ضعف الممات وما كانوا يعلمون أن الله الرحيم قد استضافه, وأنزل عليه سكينته ورحمته.

                              وراحوا يساومونه على ايمانه, ويلوحون له بالنجاة اذا ما هو كفر بمحمد, ومن قبل بربه الذي آمن به.. لكنهم كانوا كمن يحاول اقتناص الشمس برمية نبل..!!

                              أجل, كان ايمان خبيب كالشمس قوة, وبعدا, ونارا ونورا..

                              كان يضيء كل من التمس منه الضوء, ويدفئ كل من التمس منه الدفء, أما الذي يقترب منه ويتحدّاه فانه يحرقه ويسحقه..

                              واذا يئسوا مما يرجون, قادوا البطل الى مصيره, وخرجوا به الى مكان يسمى التنعيم حيث يكون هناك مصرعه..

                              وما ان بلغوه حتى استأذنهم خبيب في أن يصلي ركعتين, وأذنوا له ظانين أنه قد يجري مع نفسه حديثا ينتهي باستسلامه واعلان الكفران بالله وبرسوله وبدينه..

                              وصلى خبيب ركعتين في خشوع وسلام واخبات...



                              وتدفقت في روحه حلاوة الايمان, فودّ لو يظل يصلي, ويصلي ويصلي..

                              ولكنه التفت صوب قاتليه وقال لهم:

                              " والله لاتحسبوا أن بي جزعا من الموت, لازددت صلاة"..!!

                              ثم شهر ذراعه نحو السماء وقال:

                              " اللهم احصهم عددا.. واقتلهم بددا"..

                              ثم تصفح وجوههم في عزم وراح ينشد:

                              ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي

                              وذلك في ذات الاله وان يشأ يبارك على أوصال شلو ممزّع



                              ولعله لأول مرة في تاريخ العرب يصلبون رجلا ثم يقتلونه فوق الصليب..

                              ولقد أعدّوا من جذوع النخل صليبا كبيرا أثبتوا فوقه خبيبا.. وشدّوا فوق أطرافه وثاقه.. واحتشد المشركون في شماتة ظاهرة.. ووقف الرماة يشحذون رماحهم.

                              وجرت هذه الوحشية كلها في بطء مقصود امام البطل المصلوب..!!

                              لم يغمض عينيه, ولم تزايل السكينة العجيبة المضيئة وجهه.

                              وبدأت الرماح تنوشه, والسيوف تنهش لحمه.

                              وهنا اقترب منه أحد زعماء قريش وقال له:

                              " أتحب أن محمدا مكانك, وأنت سليم معافى في أهلك"..؟؟

                              وهنا لا غير انتفض خبيب كالاعصار وصاح, في قاتليه:

                              " والله ما أحبّ أني في اهلي وولدي, معي عافية الدنيا ونعيمها, ويصاب رسول الله بشوكة"..



                              نفس الكلمات العظيمة التي قالها صاحبه زيد وهم يهمّون بقتله..! نفس الكلمات الباهرة الصادعة التي قالها زيد بالأمس.. ويقولها خبيب اليوم.. مما جعل أبا سفيان, وكان لم يسلم بعد, يضرب كفا بكف ويقول مشدوها:" والله ما رأيت أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا"..!!



                              **



                              كانت كلمات خبيب هذه ايذانا للرماح وللسيوف بأن تبلغ من جسد البطل غايتها, فتناوشه في جنون ووحشية..

                              وقريبا من المشهد كانت تحوم طيور وصقور. كأنها تنتظر فراغ الجزارين وانصرافهم حتى تقترب هي فتنال من الجثمان وجبة شهيّة..

                              ولكنها سرعان ما تنادت وتجمّعت, وتدانت مناقيرها كأنها تتهامس وتتبادل الحديث والنجوى.

                              وفجأة طارت تشق الفضاء, وتمضي بعيدا.. بعيدا..



                              لكأنها شمّت بحاستها وبغريزتها عبير رجل صالح أوّاب يفوح من الجثمان المصلوب, فخدلت أن تقترب منه أو تناله بسوء..!!

                              مضت جماعة الطير الى رحاب الفضاء متعففة منصفة.



                              وعادت جماعة المشركين الى أوكارها الحاقدة في مكة باغية عادية..

                              وبقي الجثمان الشهيد تحرسه فرقة من القرشيين حملة الرماح والسيوف..!!



                              كان خبيب عندما رفعوه الى جذوع النخل التي صنعوا منها صليبا, قد يمّم وجهه شطر السماء وابتهل الى ربه العظيم قائلا:

                              " اللهم انا قد بلّغنا رسالة رسولك فبلّغه الغداة ما يصنع بنا"..

                              واستجاب الله دعاءه..

                              فبينما الرسول في المدينة اذ غمره احساس وثيق بأن أصحابه في محنة..

                              وتراءى له جثمان أحدهم معلقا..

                              ومن فوره دعا المقداد بن عمرو, والزبير بن العوّام..

                              فركبا فرسيهما, ومضيا يقطعان الأرض وثبا.

                              وجمعهما الله بالمكان المنشود, وأنزلا جثمان صاحبهما خبيب, حيث كانت بقعة طاهرة من الأرض في انتظاره لتضمّه تحت ثراها الرطيب.





                              ولا يعرف أحد حتى اليوم أين قبر خبيب.

                              ولعل ذلك أحرى به وأجدر, حتى يظل مكانه في ذاكرة التاريخ, وفي ضمير الحياة, بطلا.. فوق الصليب..!!!

                              إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                              نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                              جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                              تعليق


                              • #30
                                عمير بن سعد

                                نسيج وحده



                                أتذكرون سعيد بن عامر..؟؟

                                ذلك الزاهد العابد الأوّاب الذي حمله أمير المؤمنين عمر على قبول امارة الشام وولايتها..

                                لقد تحدثنا عنه في كتابنا هذا, ورأينا من زهده وترفعه, ومن ورعه العجب كله..

                                وها نحن أولاء, نلتقي على هذه الصفات بأخ له, بل توأم, في الورع وفي الزهد, وفي الترفع.. وفي عظمة النفس التي تجل عن النظير..!!

                                انه عمير بن سعد..

                                كان المسلمون يلقبونه نشيج وحده!!

                                وناهيك برجل يجمع على تلقيبه بهذا اللقب أصحاب رسول الله, وبما معهم من فضل وفهم ونور..!!



                                **



                                أبوه سعد القارئ رضي الله عنه.. شهد بدرا مع رسول الله والمشاهد بعدها.. وظلّ أمينا على العهد حتى لقي الله شهيدا في موقعة القادسية.

                                ولقد اصطحب ابنه الى الرسول, فبايع النبي وأسلم..

                                ومنذ أسلم عمير وهو عابد مقيم في محراب الله.

                                يهرب من الأضواء, ويفيئ الى سكينة الظلال.

                                هيهات أن تعثر عليه في الصفوف الأولى, الا أن تكون صلاة, فهو يرابط في صفها الأول ليأخذ ثواب السابقين.. والا أن يكون جهاد, فهو يهرول الى الصفوف الأولى, راجيا أن يكون من المستشهدين..!

                                وفيما عدا هذا, فهو هناك عاكف على نفسه ينمي برّها, وخيرها وصلاحها وتقاها..!!

                                متبتل, ينشد أوبه..!!

                                أوّاب, يبكي ذنبه..!!

                                مسافر الى الله في كل ظعن, وفي كل مقام...



                                **



                                ولقد جعل الله له في قلوب الأصحاب ودّا, فكان قرّة أعينهم ومهوى أفئدتهم..

                                ذلم أن قوة ايمانه, وصفاء نفسه, وهدوء سمته, وعبير خصاله, واشراق طلعته, كان يجعله فرحة وبهجة لكل من يجالسه, أو يراه.

                                ولم يكن يؤثر على دينه أحدا, ولا شيئا.

                                سمع يوما جلاس بن سويد بن الصامت, وكان قريبا له.. سمعه يوما وهو في دارهم يقول:" لئن كان الرجل صادقا, لنحن شرّ من الحمر"..!!

                                وكان يعني بالرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                وكان جلاس من الذين دخلوا الاسلام رهبا.

                                سمع عمير بن سعد هذه العبارات ففجرت في نفسه الوديعة الهادئة الغيظ والحيرة..

                                الغيظ, لأن واحدا يزعم أنه من المسلمين يتناول الرسول بهذه اللهجة الرديئة..

                                والحيرة, لأن خواطره دارت سريعا على مسؤوليته تجاه هذا الذي سمع وأنكر..

                                ينقل ما سمع الى رسول الله؟؟

                                كيف, والمجالس بالأمانة..؟؟

                                أيسكت ويطوي صدره ما سمع؟

                                كيف؟؟

                                وأين ولاؤه ووفاؤه للرسول الذي هداهم الله به من ضلالة, وأخرجهم من ظلمة..؟

                                لكن حيرته لم تطل, فصدق النفس يجد دائما لصاحبه مخرجا..

                                وعلى الفور تصرّف عمير كرجل قوي, وكمؤمن تقي..

                                فوجه حديثه الى جلاس بن سويد..

                                " والله يا جلاس, انك لمن أحب الناس الي, وأحسنهم عندي يدا, وأعزهم عليّ أن يصيبه شيء يكرهه..

                                ولقد قلت الآن مقالة لو أذعتها عنك لآذتك.. وان صمتّ عليها, ليهلكن ديني, وان حق الدين لأولى بالوفاء, واني مبلغ رسول الله ما قلت"..!

                                وأرضى عمير ضميره الورع تماما..

                                فهو أولا أدّى أمانة المجلس حقها, وارتفع بنفسه الكبيرة عن ان يقوم بدور المتسمّع الواشي..

                                وهو ثانيا أدى لدينه حقه, فكشف عن نفاق مريب..

                                وهو ثالثا أعطى جلاس فرصة للرجوع عن خطئه واستغفار الله منه حين صارحه بأنه سيبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم, ولو أنه فعل آنئذ, لاستراح ضمير عمير ولم تعد به حاجة لابلاغ الرسول عليه السلام..

                                بيد أن جلاسا أخذته العزة بالاثم, ولم تتحرك شفتاه بكلمة أسف أو اعتذار, وغادرهم عمير وهو يقول:

                                " لأبلغنّ رسول الله قبل أن ينزل وحي يشركني في اثمك"...

                                وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب جلاس فأنكر أنه قال, بل حلف بالله كاذبا..!!

                                لكن آية القرآن جاءت تفصل بين الحق والباطل:

                                ( يحلفون بالله ما قالوا.. ولقد قالوا كلمة الكفر, وكفروا بعد اسلامهم, وهمّوا بما لم ينالوا.. وما نقموا الا أن أغناهم الله ورسوله من فضله.. فان يتوبوا خيرا لهم, وان يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة,وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير)..



                                واضطر جلاس أن يعترف بمقاله, وأن يعتذر عن خطيئته, لا سيما حين رأى الآية الكريمة التي تقرر ادانته, تعده في نفس اللحظة برحمة اله ان تاب هو وأقلع:

                                " فان يتوبوا, يك خيرا لهم"..

                                وكان تصرّف عمير هذا خيرا وبركة على جلاس فقد تاب وحسن اسلامه..

                                وأخذ النبي بأذن عمير وقال له وهو يغمره بسناه:

                                " يا غلام..

                                وفت اذنك..

                                وصدّقك ربك"..!!





                                **



                                لقد سعدت بلقاء عمير لأول مرة, وأنا أكتب كتابي بين يدي عمر.

                                وبهرني, كما لم يبهرني شيء, نبأه مع أمير المؤمنين.. هذا النبأ الذي سأرويه الآن لكم, لتشهدوا من خلاله العظمة في أبهى مشارقها..



                                **



                                تعلمون أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان يختار ولاته وكأنه يختار قدره..!!

                                كان يختارهم من الزاهدين الورعين, والأمناء الصادقين.. الذين يهربون من الامارة والولاية, ولا يقبلونها الا حين يكرههم عليها أمير المؤمنين..

                                وكان برغم بصيرته النافذة وخبرته المحيطة يستأني طويلا, ويدقق كثيرا في اختيار ولاته ومعاونيه..

                                وكان لا يفتأ يردد عبارته المأثورة:

                                " أريد رجلا اذا كان في القوم, وليس أميرا عليهم بدا وكأنه أميرهم.. واذا كان فيهم وهو عليهم امير, بدا وكأنه واحد منهم..!!

                                أريد واليا, لا يميز نفسه على الناس في ملبس, ولا في مطعم, ولا في مسكن..

                                يقيم فيهم الصلاة.. ويقسم بينهم بالحق.. ويحكم فيهم بالعدل.. ولا يغلق بابه دون حوائجهم"..

                                وفي ضوء هذه المعايير الصارمة, اختار ذات يوم عمير بن سعد واليا على حمص..

                                وحاول عمير أن يخلص منها وينجو, ولكن أمير المؤمنين ألزمه بها الزاما, وفرضها عليه فرضا..

                                واستخار الله ,ومضى الى واجبه وهمه..

                                وفي حمص مضى عليه عام كامل, لم يصل الى المدينة منه خراج..

                                بل ولم يبلغ أمير المؤمنين رضي الله عنه منه كتاب..

                                ونادى أمير المؤمنين كاتبه وقال له:

                                " اكتب الى عمير ليأتي الينا"..

                                وهنا أستأذنكم في أن أنقل صورة اللقاء بين عمر وعمير, كما هي في كتابي بين يدي عمر.

                                " ذات يوم شهدت شوارع المدينة رجلا أشعث أغبر, تغشاه وعثاء السفر, يكاذ يقتلع خطاه من الأرض اقتلاعا, من طول ما لاقى من عناء, وما بذل من جهد..

                                على كتفه اليمنى جراب وقصعة..

                                وعلى كتفه اليسرى قربة صغيرة فيها ماء..!

                                وانه ليتوكأ على عصا, لا يؤدها حمله الضامر الوهنان..!!

                                ودلف الى مجلس عمر فى خطى وئيدة..

                                السلام عليك يا امير المؤمنين..

                                ويرد عمر السلام, ثم يسأله, وقد آلمه ما رآه عليه من جهد واعياء:

                                ما شأنك يا عمير..؟؟

                                شأني ما ترى.. ألست تراني صحيح البدن, طاهر الدم, معي الدنيا أجرّها بقرنيها..؟؟!!

                                قال عمر: وما معك..؟

                                قال عمير: معي جرابي أحمل فيه زادي..

                                وقصعتي آكل فيها.. واداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي.. وعصاي أتوكأ عليها, وأجاهد بها عدوّا ان عرض.. فوالله ما الدنيا الا تبع لمتاعي..!!

                                قال عمر: أجئت ماشيا..

                                عمير: نعم..

                                عمر: أولم تجد من يعطيك دابة تركبها..؟

                                عمير: انهم لم يفعلوا.. واني لم أسألهم..

                                عمر: فماذا عملت فيما عهدنا اليك به...؟

                                عمير: أتيت البلد الذي يعثتني اليه, فجمعت صلحاء أهله, ووليتهم جباية فيئهم وأموالهم, حتى اذا جمعوها وضعوها في مواضعها.. ولو بقي لك منها شيء لأتيتك به..!!

                                عمر: فما جئتنا بشيء..؟

                                عمير: لا..

                                فصاح عمر وهو منبهر سعيد:

                                جدّدوا لعمير عهدا..

                                وأجابه عمير في استغناء عظيم:

                                تلك أيام قد خلت.. لا عملت لك, ولا لأحد بعدك"..!!

                                هذه الصورة ليست سيناريو نرسمه, وليست حوارا نبتدعه.. انما هي واقعة تاريخية, شهدتها ذات يوم أرض المدينة عاصمة الاسلام في أيام خلده وعظمته.

                                فأي طراز من الرجال كان أولئك الأفذاذ الشاهقون..؟!!



                                **



                                وكان عمر رضي الله عنه يتمنى ويقول:

                                " وددت لو أن لي رجالا مثل عمير أستعين بهم على أعمال المسلمين"..

                                ذلك أن عميرا الذي وصفه أصحابه بحق بأنه نسيج وحده كان قد تفوّق على كل ضعف انساني يسببه وجودنا المادي, وحياتنا الشائكة..

                                ويوم كتب على هذا القدّيس العظيم أن يجتاز تجربة الولاية والحكم, لم يزدد ورعه بها الا مضاء ونماء وتألقا..

                                ولقد رسم وهو أمير على حمص واجبات الحاكم المسلم في كلمات طالما كان يصدح بها في حشود المسلمين من فوق المنبر.

                                وها هي ذي:

                                " ألا ان الاسلام حائط منيع, وباب وثيق

                                فحائط الاسلام العدل.. وبابه الحق..

                                فاذا نقض الحائط, وحطّم الباب, استفتح الاسلام.

                                ولا يزال الاسلام منيعا ما اشتدّ السلطان

                                وليست شدّة السلطان قتلا بالسيف, ولا ضربا بالسوط..

                                ولكن قضاء بالحق, وأخذا بالعدل"..!!



                                والآن نحن نودّع عميرا.. ونجييه في اجلال وخشوع, تعالوا نحن رؤوسنا وجباهنا:

                                لخير المعلمين: محمد..

                                لامام المتقين: محمد..

                                لرحمة الله المهداة الى الناس في قيظ الحياة

                                عليه من الله صلاته. وسلامه..

                                وتحياته وبركاته..

                                وسلام على آله الآطهار..

                                وسلام على أصحابه الأبرار...

                                إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                                نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                                جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                                تعليق

                                يعمل...
                                X