إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

روايه عاشق من جنين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • روايه عاشق من جنين




    روايه عاشق من جنين





    من أدب السجون

    رواية عاشق من جنين


    تأليف

    رأفت حمدونة



    سجن نفحه الصحراوى

    إهـــــداء

    إلى الذين رووا بدمائهم الزكية ثرى هذا الوطن الغالي. .. شهداء وأسرى وجرحى ومقاومة حتى تحرير كل فلسطين ...إلى أهلنا في جنين … إلى أخواتي وإخواني الأبطال خلف القضبان …و إلى والدي ووالدتي الأوفياء ... و زوجتي المخلصة ... و إلى كافة أبناء شعبي الفلسطيني … أقدم هذا العمل المتواضع



    كان يوم ميلاده في ظروف صعبة ، كان أبوه مولعاً به وعندما يضيق به الحال يقول له مازحاً

    - تذكرني بدخول البريطاني إلى القدس يا خليل 0

    كان خليل يتأثر بهذه المقولة ، رغم أنه يدرك أنها ليست من قلب أبيه ، فتربي وهو يكره البريطاني الذي ألصق به هذا التشاؤم ، وحينما أصبح يافعاً قوياً كان يسمع من الناس أن هنالك شيخاً جليلاً أسمه عز الدين القسام يخطب في مسجد الاستقلال على مسافة غير بعيدة من منزله .

    تعلق خليل بالشيخ وأحبه ، فداوم على دروس الشيخ بعد صلاة العصر ، في ذاك المسجد الذي كان يعج بالمصلين من حيفا ومناطق مجاورة في جنين .

    كان خليل يتربي علي خطب الشيخ المجاهد الذي طالب الناس بالجهاد ورأي فيه فريضة كالصلاة والصوم ، كان على يقين بأنه لا مفر من محاربة البريطانيين وأعوانهم ، فطلب من الناس جهراً شراء السلاح والتدرب عليه .

    انبهر خليل حينما رأى الشيخ المجاهد في إحدى الخطب وهو يرفع سلاحه أمام المصلين ويقول :

    - من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقتن مثل هذا ،هؤلاء البريطانيون يتعمدون إضعاف قدراتكم المعيشية ، ويعرقلون سير تجارتكم ، حتى تكسد محاصيلكم ، ولا ترون في فلاحة الأرض شيئاً مجدياً فتتركونها أو تبيعونها ليستوطنها اليهود .

    أيها الناس عليكم بشراء السلاح وإخفاءه ، فالبريطانيون يحرمون عليكم اقتناء السلاح ، في حين أنه يَعِدْ اليهود بوطن على أرضنا ، ويمدهم بالسلاح .

    هاهم يلاحقوننا في كل شئ ، في استقرارنا ورزقنا وأرضينا ومستقبلنا .

    كان خليل يُصنع علي عينىْ الشيخ ، ويتمني لو كان من صحبه المجاهدين ، الذين خرجوا لنصرة الدين والوطن في قضاء الناصرة ، كان يحلم بالخروج معهم إلي أحراش يعبد في جنين ، غير أن هذا الأمل تبدد حينما حوصر القسام واستشهد مع إخوانه .

    تعلم خليل معني الصمود من هذه المعركة التي خاضها الشيخ ، واستمرت من الصباح حتى العصر وامتلأ قلبه حباً حينما رأى الجماهير المهيبة في حيفا وهي تهلل مكبرة في موكب الجنازة ، و استطاع أن يلمس جثة الشهيد ، وأقسم ألا ينساه ، لم تكن الأيام طويلة ، حتى دخل كل الشعب في انتفاضته التي دامت ثلاثة سنوات ، لم يضع خليل رأسه على الوسادة ، حتى يتذكر موكب الشهيد فيقبل يديه اللتين لمستهما .أيام كثيرة كانت تمر عليه وهو يراقب حركة الجنود البريطانيين ، وأخيراً حدد هدفه لجندي اعتاد أن يرتاد إحدى الحانات في المدينة ، فشرب الخمر حتى الثمالة ، ثم يعود للبناية العسكرية التي كان يقطنها ، في ساعة متأخرة من الليل ،حينها عزم أن ينتقم ، وفي إحدى الليالي استل سكينه وانتظر ثم اقترب من الجندي وطعنه في الصدر ، فصرخ طالباً النجدة ، فانتبه له أحد الجنود الذي أطلق النار باتجاه خليل الذي اختطف بندقية الجندي وهرب .

    تحامل خليل على ألمه وواصل طريقه وهو مصاب ، وعلى جناح من السرعة انتشرت الدوريات البريطانية تجوب أنحاء المنطقة ومنعت التجوال فيها .

    فاضطر أن يلتجئ إلى أحد البيوت للحماية ، وتضميد الجرح النازف ، فطرق باب بيت مستور في زقاق ضيق ، ففتحت له ابنة صاحب البيت .

    رأته الفتاة فأشفقت عليه ، وهرعت إلي والدها وهي ترتجف خوفا من حالة الشاب المصاب .

    تعرف صاحب البيت على خليل وعلم بقصته ، فأخفى قطعة السلاح وباشر بعلاجه وبعث من يطمئن أهله عليه . وبعد أيام تشافى من جرحه ، وهدأت البلدة من جنود البريطانيين الذين فقدوا جندياً وقطعة سلاح .

    تعرف خليل على عائشة التي ساعدت والدها في حمايته وعلاجه ، فكان مديناً لها بوقفتها إلي جانبه ، في حين أنها رأت في خليل البطل والمناضل .

    وحينما عاد إلي بيته معافى بقى يحمل في قلبه لعائشة حباً كبيراً وذاكرة جميلة ، كان يشعر بالفضل لهذه الفتاة وأهلها فأحبهم وأحبوه ، واحترموا بطولته وشجاعته .

    احتفظ خليل بقطعة السلاح التي رأي فيها رمز نصره ، واحتفظ في قلبه لعائشة مكانة كبيرة كان يفكر فيها ليل نهار ويسرح بابتسامتها المعبرة ولم ينتظر الكثير ليطلب من والديه الارتباط بها ، لم يفكر الوالدان الكثير في طلب عائشة فقد رأيا فيها وفي أهلها خير ونسب وزوجة صالحة لابنهم ، وبعد أشهر تزوج خليل من عائشة ، وتعاون المحبان على قهر صعوبة الحياة ومن ثم رزقهما الله بحسن وعبد الله وفاطمة ونعمة .

    شعر أبو حسن ككل أهل فلسطين بالمؤامرة ، فقبل النكبة تخلت بريطانيا عن الانتداب في فلسطين ، وتبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة فرار التقسيم المجحف ، فسحبت بريطانيا قواتها قبل انتهاء الانتداب من المناطق اليهودية والتي أرادتها لليهود ، وتركت العرب تحت رحمة المنظمات العسكرية الصهيونية كالهاغانا والإيتسل والأرغون ليباشروا فظائعهم ، فقتلوا ودمروا وحرقوا وأرعبوا وأرهبوا المواطنين الأبرياء والعزل في يافا والقسطل ودير ياسين ، وبادوا قتلاً وذبحاً وتمثيلاً بالجثث ودفناً للأحياء وبقراً لبطون الأمهات الحوامل .

    كان أبو حسن على يقين بأن هناك مشروعاً بريطانياً صهيونياً كبيراً ، حتى وقع ما كان يخشاه ، فأعلن الصهاينة إقامة دولة اليهود في فلسطين ، وكانت الهزيمة الساحقة حينما دخلت الجيوش العربية للتحرير دون جدوى ، رحل ما يزيد عن مليون لاجئ فلسطيني من منازلهم ومدنهم وقراهم ، فكانوا عرضة لحر الصيف القاسي ، ولبرد الشتاء القارس ، وللأمراض الفتاكة والقاتلة ، عاشوا حياة البؤس والفاقة وتحولوا من ملاك أراضي أغنياء ، إلي فلاحين أجراء فقراء يكتفون بلقمة العيش .

    كانت أعظم مصيبة على أبي حسن ، يوم أن رحل من أرضه عنوة إلي جنين ، كما رحل غيره من مدن وقرى فلسطين للضفة الغربية وقطاع غزة وخارج الوطن ، حينها شعر بما أحل به وبأهله بسبب التخاذل ، لم تغف عيون أبى حسن منذ هجرته حتى يحلم بالعودة لبلده وبيته ومسقط رأسه ، وذكريات الطفولة .

    استقبل الفلسطينيون أفواجاً من المهاجرين ، وتقاسموا معهم البيت والملبس وقطعة الخبز ، وبقي مئات الآلاف بدون مأوى فاشتد عليهم الكرب ، وانتشر المرض بين الأطفال والشيوخ ، زاد هم أبي حسن وزوجته حينما عجز عن تقديم أى شيئ لابنهما عبد الله ، الذي أصيب بالحمى ، لم يتصور أبو حسن أنه قادر على تحمل المزيد من المصائب حتى فقد ابنه وهو على صدره وبين ذراعيه .

    كانت مصيبته أقل من الأم ، التي فقدت أحد أبنائها خلال التهجير ، ولا زالت في حيرة من معرفة مصيره .

    تسلم أبو حسن خيمة بدلا من بيته الذي سكنه مستوطن يهودي أتى من خارج الوطن ، وعمل أبو حسن أجيراً كفلاح يتنقل من جبل إلي جبل ومن حقل إلي حقل .

    لقد رضي أبو حسن برزقه على صعوبته ، وزرع في قلب أبنائه حب الوطن ، والحنين للعودة ، ومآسي الإبعاد مع كل بذرة قمح وجني حبة زيتون .

    مرت السنون على أبي حسن مرة كالعلقم ، ولم يتبق الحال على ما هو عليه بل ازداد الوضع سوءا ، فمرت الأمة من نكبة إلي نكسة ، ومن هزيمة إلي أخرى .

    كانت أوضاع اللاجئين صعبة ، في حين تعاظمت دولة اليهود بعد إقرار الهدنة بين الأنظمة العربية من دول الجوار واليهود وتم حفظ أمن حدود الدولة الجديدة من جهاد المتطوعين ، ونضال الفدائيين .

    قويت دولة اليهود بعد حرب الأيام الستة التي أنتصر فيها اليهود انتصارات ساحقة ، فتوسعت رقعة الاحتلال ، وعسكر اليهود على قناة السويس ، وأطبق المحتل احتلاله الكامل على كل فلسطين والجولان . تقدم أبو حسن في السن ، وانتشر الشيب في لحيته ورأسه ، فربي وعلم أبناءه بالعرق والدم والتعب والسهر ، فكانت حياته قاسية وصعبة ومؤلمة ، ولم يشعر بالراحة حتى تزوج أبناؤه ، تمنى أبو حسن لو أن أحداً من أبنائه حمل هم ثورته وتاريخ هجرته ومعاناته ، إلا أن حسناً لم يشبه أباه ، فكان يميل للمزاح والتعاطي مع الظروف والعيش في هذه الحياة على ما هو عليه ، ففي الوقت الذي كان فيه أبوه يلعن ويبصق ويحلل ويعلق على نشرات الأخبار ، كان حسن يقلب الموقف إلي مسرحية ، ويغلب على حياته الاستهتار . كان أبو حسن يستبشر عند كل مولود لزوجة ابنه وينتظر أول مولود بعد ثلاث بنات ، ويحلم وهو يربيه على يديه ويقص عليه بطولاته هو في ريعان شبابه ، ويزرع فيه حب الوطن والأمل في العودة . تحقق حلم أبى حسن مع لحظة بطولات الفدائيين في معركة الكرامة ، التي كانت الانتصار الأول على دولة اليهود بعد هزائم متواصلة . كان شديد الفرح وهو يحمل حفيده الأول وحمله الذي تأخر ، أسرعت أم حسن بتسمية الطفل على اسم جده الذي أعجبته المبادرة ، وفرح الجد بالمولود فرحته بانتصار الكرامة .

    كان أبو حسن يقضي معظم وقته مع خليل الصغير ، فأطعمه وسقاه ، واصطحبه للمسجد وأجلسه بجانبه وهو يستذكر مع أصحابه ذكريات الحياة ، استطاع الجد أن يوجد لنفسه ظروفا معيشية بسيطة وجميلة ، ويضع على رأسه طاقية منسوجة من الصوف ، يكره كل أشكال التمدن ، فكان يضيء السراج في الليل ، ويستمع إلى كل نشرات الأخبار في مواعيدها ، رغم أنه لا يملك ساعة يد ، ولا يوجد في بيته أي جهاز كهربائي ، ومذياعه يعمل على البطاريات ، كان يضع في جيبه علبة تبغ من الحديد ودفتر عربي وقداحة يدوية بفتيل ، أجمل ما في بيت الجد كانت الحاكورة المزروعة بالخضار والتي فيها مكان لتربية الطيور والماشية ، وفرن من الطين وتزينها أشجار الفواكه ، وعلي طرف الحاكورة عريشة من جريد النخل وزير مليء بالماء البارد الصافي العذب ، بيته مليء بالسعادة ولا يخلو من الزائرين والجيران والأقارب والأولاد والأحفاد .

    لم يعرف أبو حسن المرض طيلة حياته ، رغم أنه شارف علي الثمانين ، يكره شيئاً اسمه مستشفي أو إبرة أو طبيب ، ولا يذهب إليه . نجح حسن في عمله كتاجر في سوق المخيم ، ومع هذا لم يبتعد عن والديه ، فسكن في بيت جميل مليء بالأدوات الكهربائية والأثاث ، دوماً كان يتردد على البيت المتواضع الذي تربي فيه والذي يستحضر بداخله كل ذكريات الطفولة الجميلة ، يشتاق لخبز أمه الساخن وصحن اللبن وكوب الشاي الذي تم غليه على الحطب ويذهب ليقتطف بيديه من الحاكورة حبات الطماطم ، ومن حين لآخر كان يتناول الماء من القلة الفخارية ، آثر حسن إرضاء والديه بدفع تكاليف الحج لأنه أقنع نفسه بعدم القدرة على دفع تكاليف الجهاد والمقاومة ، امتلأ بيت الحاج أبى حسن بالمهنئين عند عودته والحاجة أم حسن من الحج ، كان يحدث الزائرين بإعجاب وخشية عن الكعبة والحرم ، وقبر الرسول ( ص ) ومسجده ، وعن عظمة الوقوف على جبل عرفة ، وأجمل شعور يراوده هو الارتباط الروحي الوثيق بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى .
    كان خليل يحب اللعب مع جده الذي منحه مزيداً من الحب والحنان والعطف فيقترب الجد من وجهه ليقبله فيتهرب ويقول له : تشوكني لحيتك يا جدي ، فيتعمد الجد إرضاء الطفل ويطلب من أم حسن أدوات الحلاقة ، فتغلي له الماء ، وتحضر له صابون يد عادي ، وفرشاة منتوفة صفراء قديمة ، وماكنة حلاقة مزركشة لا يقل عمرها عن عشرين عام ، كان يساعده في الحلاقة حفيده أحمد ابن بنته فاطمة ، وعندما ينتهي من الحلاقة ، ينظر لنفسه في المرآة ويقول له : هل تعرف فتاتين في التوجيهي يا سيدي ؟ فيرد أحمد أعرف ، ولكن لماذا ؟ فيقول الجد : واحدة لي والأخرى لك .




















    موضوع عن قصص الجواسيس العرب واحدات مهمة ارجو المتابعة
    22:2

  • #2
    كانت أم حسن ترفض هذا الكلام ولو كان مزاحاً ، فتلوي عنقها وتحرك فمها وتقول باستهزاء : " شيلوني تقع " .

    مجلس أبي حسن دوما عامر وحديثه لا يمل ، ويومه مليء لا يشعر بالفراغ ، فيزرع ويقلب الأرض ، ويبني السلاسل للحديقة ، وينظف من تحت الشجر والماشية ، ويذهب للسوق لبيع بعضها ، ويسقي الزرع والماشية ويطعمها وفجأة ينظر لخيال جريد النخل تحت الشمس على الأرض فيستمع للمذياع ، فإذا بصوت إشارة الأخبار فيسمعها وكالعادة يتمتم ويشتم ويبصق ، ويشعل التبغ ، ويحضر لاستقبال أصحابه وفي الظهيرة ويذهب للمسجد فيصلي ، ثم يعود ليتناول الغذاء وينام حتى صلاة العصر ، ومع مجيء أصحابه القريبين في العمر منه ، يتناول من قرب سقف العريشة سلة منسوجة من البوص ، ويقدم لهم بعض الفواكه التي اقتطفها من ثمار الحديقة .

    كان يقول لأصحابه مازحا : عيشوا من خير الله ومن خير خليل ، فيرد عليه أبو إبراهيم : والله يا حاج خليل فواكه اليوم ما هي نافعة0

    يؤكد حديثة الشيخ حافظ : والله صدقت يا أبا إبراهيم ، ساق الله عن فواكه حيفا 0

    وحينها يٌظهر أبو حسن تذمره من هذا الحديث ، وكأن الأمر يمسه شخصيا ، فيضطر لمدح رجل زمان : أنتم الذين نسيتم كيف كنا ونحن شباب ، فكنا نقف على شجرة تين مثمرة ولم نتركها إلا وهي ورق بلا ثمر .

    وهكذا حتى يأتي وقت الأخبار ، فينصت الجميع ، فتبدأ الأخبار ويقول المذيع : هنا صوت العرب وإذا أبو حسن ينفجر غضبا ويسترجع كل الإحباطات من وراء العرب ويقول : والله طز …

    والله وصلنا إلي ما نحن فيه إلا من وراء العرب الذين لم يكتفوا بتركنا في حالنا في الانتفاضة بعد استشهاد القسام ، ولفترة ثلاث سنوات متتالية فهم لم يفعلوا شيئاً أما حمام الدم ولم يكتفوا بالامتناع عن تقديم المساعدة لنا ونحن نواجه الدبابات البريطانية ، وبل وجهوا نداءاً علنياً لنا ، يدعوننا فيه لوقف الإضرابات والاحتجاجات والعمليات البطولية ضد حليفتهم بريطانيا التي أصبحت طرفا رئيسيا في الحرب العالمية .

    هم أنفسهم حموا حدود دولة العدو في الهدنة بعد النكبة ، وهم الذين أوهمونا بالانتصار في حرب الأيام الستة ، وهم الذين ارتكبوا في حق الفدائيين مذابح أيلول ، وسحقوا المقاومة في جرش وعجلون وهم الذين ارتكبوا في حقنا مجزرة تل الزعتر وتحالفوا مع الصهاينة في صبرا وشاتيلا ، ألم يكن بوسعهم تحريرنا في حرب أكتوبر ، هم اللذين فتحوا بوابة العواصم العربية بعد كامب ديفيد .

    لقد تقدم الحاج أبو حسن في السن ، الأمر الذي انعكس على صحته ونظره ، في حين أن خليل أصبح شاباً يافعاً وقوياً وواعياً ، لم يكن خليل لوحده يستمع لحديث جده ، بل كان يرافقه منذ الطفولة والمدرسة صديقة الأقرب والأحب على قلبه محمود ، كانا متلازمين طوال الوقت في النهار وساعات من الليل ، على مقعد الدراسة ، وساحات المخيم ، والتنزه في تلال الجبال المحيطة ، وفي فناء المسجد وحرم الجامعة والأحراش .

    أحبا بعضهما بعضاً حتى الإيثار والتضحية ، وأحبا حديث الجد لدرجة سماعة بخشوع ، فنصتوا لكل حرف وكلمة ووصية ، ولكل الذكريات الأليمة ، كانا واعيين لمقصده وطموحه ، فحملا همه وتطلعا لتحقيق حلمه ، وتواعدا بالسير على دربه . عشرات السنين مرت على أبي حسن ، وهو ينتظر متأملا وضع هذه الأمانة ، وتوصيل هذه الرسالة لأشخاص ثقات ، ورجال أكفاء ، فرأى في خليل الحفيد وصديقه محمود العنوان ، وأمل المستقبل في النصر والعودة والاستقلال .

    عاد محمود إلي بيته وبقي خليل عند جده ، الذي أدخله في غرفة مقفلة ، وأخرج له البندقية التي يرى فيها رمز بطولته ، فقدمها هدية لحفيده خليل وأوصاه بها ولكنه استوقفه وقال : يا خليل هذه البندقية لا تكفي ، وتبقي ناقصة إذا لم يكملها هذا ، فأخرج له مصحفاً وأشار إليه .

    اشتاط أبو حسن غضبا على أثر حادث قتل متعمد لعمال كانوا يبحثون عن رزق أبنائهم ، فخرجت المظاهرات في مخيم جباليا ، واندلعت الانتفاضة ، وعمت كل فلسطين ، كان خليل ومحمود وأحمد من أبطال هذه الانتفاضة فتصدروا كل أشكال المقاومة ، بالحجر والسكين وإطلاق النار والعمليات الاستشهادية .

    كان خليل من النشطاء البارزين في العمل الطلابي في الحرم الجامعي وله تأثيره على يد جده أبي حسن .

    شهد أبو خليل نشاط ابنه المتميز في الانتفاضة ، فأراد أن يؤثر عليه بفكرة الخطبة ، في محاولة لثنية عن نشاطه وشعوره بالمسؤولية والتفكير في مشاغل الحياة .

    عرض أبو خليل فكرة الخطوبة على ابنه الذي يتردد في رفضها متذرعاً بإكمال دراسته ، الأمر الذي لم يرق لوالدته التي بكت : أنت يا خليل ابني الوحيد ، وأريد أن أطمئن عليك فنحن جميعا محتاجون لك ، فلا تغضبني وتردني في طلبي 0

    لم يوافق خليل على مشروع الخطبة حتى استشار جده الذي لم يعارض ، وقال له :

    - رضا الله من رضا الوالدين يا جدي فالخطبة لن تعارض المقاومة .

    وافق خليل على الخطبة ، ولم ينتظر الكثير حتى عرضت عليه والدته ليلى ابنة جارهم أبي طاهر .

    قبل خليل بليلى التي كان يعرفها منذ الصغر ، ومع مرور الأيام أظهرت له إخلاصها وارتبط الحبيبان ببعضهما ارتباطاً قوياً ، اقترب خليل من ليلى وأحبها حتى العشق ، تحدثا بصراحة عن كل شيء وتعاهدا على الصدق والإخلاص في العلاقة وتطرقا لتفاصيل الحياة في المستقبل .

    ذهب خليل لبيت جده فوجده مع أصحابه في حديقة ( حاكورة ) المنزل ، كان الجميع ينصت لنشرة الأخبار التي تحدثت عن جهود دولية لتحقيق السلام وعقد مؤتمر دولي يضم زعماء المنطقة. وفور انتهاء نشرة الأخبار ، بدأت جلسة التحليل كالعادة ، سأل أحدهم : هل يمكن تحقيق السلام ؟

    رد أبو حسن : عندما يجد الأعور عينه وعندما يزهر الملح

    - رد الآخر : ولكن هذه المرة يجري الحديث عن دول عظمي وأمم متحدة

    - فقاطعه الشيخ حافظ : وما هو الفرق بينهما ؟ فهي نفسها التي زرعت اليهود في أرضنا ، وهي التي حمته ومدته بالمال ، وأتساءل : كم قرار من الأمم المتحدة يطالب دولة اليهود بالانسحاب دون جدوى !!

    كل تصويت على تطبيق أي قرار يتعلق بفلسطين سرعان ما يتوقف بحجة الفيتو ، في حين إذا كان الأمر يتعلق بدولة ضعيفة وغالبا ما تكون عربية أو إسلامية ، فتخلق الحجج و المبررات لإخضاعها وضربها بالقوة ، إنها مؤسسة ظلم يتحكم بها ظلمة باسم العدل والسلام وحقوق الإنسان .

    وعندها ارتاح أبو حسن من كلام الشيخ حافظ وقال :

    -يسلم فمك يا شيخ " والله العرب يستاهلون أكثر من ذلك ، لأنهم سلموا رقابهم وأموالهم ومصائرهم للغرب ، ولأنهم تركوا دينهم ، واستجدوا عدوهم 0

    - قاطعه الحاج أبو إبراهيم : ولكن لماذا وصلنا لهذه الحالة من الهوان !! هل يرجع الأمر للحاكم أم للعلماء أم القادة أم الشعوب ؟

    - رد الشيخ حافظ : أنا أرى أن الكل ملام ومكان اتهام ، الحكام ظلمة ، وحماهم الغرب ، والعلماء اقتربوا منهم ولفوا لفيفهم ، والمعارضة تخشى السجن والقتل ، فإما جبانة وإما كسولة ، والشعب مقهور ومستضعف ومغلوب على أمره يجرى وراء لقمة العيش ، ويهاب سطوة الحكام ، وفجأة سمع الحضور صوت سيارة وقفت على باب الحديقة ، وإذا بأبي سامي زوج ابنته نعمة وأبنائه ، فأستأذن الحضور من أبي حسن وذهبوا إلى بيوتهم .

    كان أبو سامي يحب لعب الطاولة مع أبي حسن الذي كان بصعوبة يرى حظه في حبات الزهر، فيطلب من حفيده الطفل أن يقرأ له حبات الزهر . كان الطفل ينقل ذلك وكأن الحاج يختاره بنفسه فيغضب أبو سامي من الهزيمة ، وأثناء اللعب طرق الباب ، وذهب الحاج ليرى الطارق . استغل أبو سامي غياب الحاج ووعد ابنه الصغير بإعطائه المال إذا ما نطق بما يشير عليه ، عاد أبو حسن للعب متشوقا لرؤية هزيمة صهره وإذا بالحظ يتغلب لغير صالحه ، أصيب الحاج بخيبة الأمل ، وتشاءم من قرب الهزيمة .

    حضرت ابنته نعمة وراقبت حركات الطفل الذي يستجيب لإشارة والده ، فلم ترضَ لهزيمة والدها ، وكشفت الحقيقة التي أنقذت أبا حسن من قسوة الهزيمة ، ومرارة كلام صهره اللاذع .

    وقرب المغيب استأذن أبو سامي ونعمة بالعودة لبيتهم ، إلا أن الأبناء أصروا علي البقاء مع جدهم في تلك الليلة ، وتناولوا طعام العشاء ، ثم أحضرت الحاجة أم حسن لهم الشاي ، تناول عدنان الكوب الأول وألحقه الثاني ، وأراد أن يصب الكوب الثالث ، فانتبه إليه الحاج وقال : لطالما أنك تحب الشاي لهذه الدرجة ، فالأفضل لنا ولك أن نضع كيلو شاي وكم رطل من السكر ونضعها لك في الحمام الشمسي ، ونسكب لك الشاي من الصنبور مباشرة ، ضحك الحضور علي عدنان وسأل سامي جده :

    - هل ذهبت لمدرسة يا جدي ؟ فأجاب : لا ولكني درست في الكٌتاب ، فتعلمت القراءة والكتابة في القرآن .

    - وماذا كنتم تلعبون في الكٌتاب ؟

    - قال الجد : كان علي كل طالب أن يحضر كيساً كبيراً ويلبسه في رجليه ، ونقف صفاً واحداً ونتسابق .

    - وهل كنت تفوز ؟

    - دوماً كنتُ أسبق الجميع ؟ فهل تعرف لماذا ؟

    - قال سامي : لأن جسمك نحيف .

    - رد الجد مبتسماً : بل لأني كنتُ أتعمد إحضار كيس غير مغلق وأٌخرج قدماىّ علي الأرض دون أن ينتبه إلىّ الآخرون ، ولحتى الآن أستطيع أن أصرع هذا الشقي عدنان .

    كان يخشى الخجول سامي والقوي من إحراج الجد إذا ما صرعه عدنان ، فحاول أبو حسن بكل قوته مع حفيده فلم يقدر عليه ، فأخذ يضرب برأسه صدر حفيده ولكن دون جدوى .

    وضع عدنان قدميه خلف جده النحيف ، ودفعه فإذا به يخر كالحطبة علي الأرض .

    حاول الجد تبرير هزيمته أمام الحاجة أم حسن دون جدوى ، فأوكل الأمر إلي سامي ، قوي الجسم ، فحمل عدنان ووضعه تحت رحمة الجد . شعر أبو حسن بالثقة بعد ما شفى صدره من عدنان وتناول عصاه وضربه علي قفاه .

    ومع أصوات ضحك الجد وسامي وأم حسن بدأت معركة من إطلاق النار الكثيف ، وزخات من الرصاص المتبادل ، أدرك الجد أن هناك عملية مقاومة عسكرية قريبة من المخيم ، وعلي وجه من السرعة تناول المذياع وبدأ يقلب علي الإذاعات ، ويبحث عن نشرات الأخبار . بعد فترة وجيزة سمع الجد طرقات باب بيته ، وإذا بخليل يغطى رأسه بالكوفية ، ويلهث مع كثرة الخوف والتعب .

    استدرك الجد الموقف ، وسأله منفرداً عن أصحابه والسلاح ، فأجاب خليل : اطمئن يا جدي الكل بخير .

    كيف أتيت إلي هنا ، فسيقلق عليك أبوك وأمك .

    لا يا جدي إني بلغتهم بأني سأمكث عندك هذه الليلة .

    عانق الجد حفيده بمزيد من الفخر وأدخله للبيت .

    تابع الجميع نشرة الأخبار العربية لإذاعة العدو ، والتي ذكرت العملية العسكرية مع التغطية لنتائجها ، ونعتت منفذيها بالإرهابيين .

    - شتم أبو حسن الإذاعة وقال : عالم ظالم ومتواطئ أنا لا أعرف من هو الإرهابي ، من يدافع عن دينه وأرضه وشعبه ويقاتل في وطنه ، أم المتعدي والظالم والمحتل ؟؟

    فإذا كانت الشرائع والديانات والقوانين الدولية تشرع للمظلوم المقاومة لاسترداد حقه ، فلماذا هذا العالم يساند الظالم ، ويتحامل علي المظلوم ، لماذا يقفوا مع القاتل ويلومون الضحية ؟ ألم تحرر كل الشعوب أرضها وكرامتها بالمقاومة فلماذا هي محرمة علي شعبنا ؟

    لن أٌفسد علي فرحتي وهذا الفخر والشرف الكبير ، فليقولوا ما يشاءون .

    وقف أبو حسن شامخاً ، وعلي غير عادته طلب من عدنان أن يضع علي أغنية احتفالا بهذا النصر والبطولة

    وضع عدنان علي أغنية حديثة ، كلها موسيقي سريعة وكلمات غير مترابطة ولا مفهومة ، فتناول الحاج عصاه ولحق به

    - ما هذه المسخرة يا ولد ؟ أين ذوق زمان ، وفن وكلمات وألحان وفنانين زمان ؟

    لقد افسدوا علينا حتى ذوقنا ومزاجنا ، وتلاعبوا بأحاسيسنا ومشاعرنا ، فما هذه التفاهة والذوق السيئ ؟

    بحث الحاج أبو حسن علي محطة أخري بنفسه وإذا بأغانٍ وطنية في صوت فلسطين ، فأشار الحاج بعصاه نحو المذياع ، وقال هذا هو الصوت ، وهذا هو اللحن وهذا هو الفن الهادف والنبيل والمنسجم مع الفطرة والذوق السليم .

    مسك الجد يد خليل محتفلاً به ، وأخذ يدبك من شدة الفرح . بدأ اليوم الجديد ومنذ الشروق عاد الحفيدان إلى والدتهما وذهب خليل إلي جامعته ، وانشغل الجد أبو حسن بري حديقته ( الحاكورة ) الجميلة ، والجدة بترتيب البيت ، وإعادة الفراش التي استضافت عليه ضيوفها .

    في نهاية اليوم اجتمع أصحاب أبى حسن كعادتهم ، وتحدثوا عن ليلة البارحة والعملية العسكرية ، وعن عيون العدو التي ستنتشر لمعرفة أبطالها، مدح الشيخ حافظ وأبو إبراهيم أبطال هذه العملية البطولية ، وكان يفتخر أبو حسن بحفيده ولكنه كان يدرك قيمة كتمان السر في هذه الظروف
    موضوع عن قصص الجواسيس العرب واحدات مهمة ارجو المتابعة
    22:2

    تعليق


    • #3
      كان الحاج مصطفي شارد الدهن ، فعلم أبو حسن أن في الأمر شيئاً ، ماذا بك يا حاج مصطفي ؟

      - أول أمس طلب مني جارنا أبو يحيي أتوسط له عند نسيبه لأعيد له زوجته التي عادت لأهلها إثر خلاف بينهما بعد ما طلبت منه الذهب الذي استعاره منها في أزمة مالية الأمر الذي لم يقدر عليه زوجها .

      أردتٌ أن أكفل أبا يحيي عند أهل زوجته ، علي أن تعود لبيتها وأولادها ، وهو يعيد لها ذهبها الذي استعاره في فترة أقصاها ستة أشهر .

      - ما قلته عين العقل يا حاج مصطفي .

      - هذا عندك وعند السامعين يا أبا حسن ، فأهل الزوجة رفضوا كفالتي ، واشترطوا عودة ابنتهم لزوجها بعودة الذهب ، وأما أنا فعدت مكسور الخاطر .

      وبعد يومين ذهبت لأبي يحيي لأعرف ما حصل ، وإذ بزوجته في بيته .

      - قلت له : الحمد لله علي سلامة أم يحيي يا جار ، ومبارك عودتها ، فهل أعدتَ لها ذهبها ؟

      - أجاب أبو يحيي : لا يا حاج مصطفي ، بل كفلني عندهم سليم ، أنت تتحدث عن أبي نصف عقل ؟

      - هذا قبل ربحه جائزة البنك يا حاج مصطفي والتي تقدر بعشرة آلاف دينار علي رقم الحساب الذي يستقبل عليه مساعدة أخيه الموجود في الخليج له .

      - وهل أخذ الجائزة ؟

      - نعم ، قبل أربعة أشهر .

      - قال الحاج مصطفي : ولكن كيف أعاد زوجتك ؟

      - أقرضني نصف ثمن الذهب ، وكفلني بالمبلغ المتبقي .

      هذا ما قاله لي أبا يحيي ، وهذه هي قصتي يا حاج أبا حسن.

      - والله يحق لك أن تغضب يا حاج مصطفي ، فهذه ثقافة معك قرش تسوى قرش ، مع أن الكثيرين من أصحاب القروش تاجروا في دماء الناس ، فظلموهم وسحقوهم وتجاوزوا الدين ، وكل القيم والأخلاق . يبدو أن معايير الناس قد تغيرت في هذا الزمن ، وصدق الذي قال : رأيت الناس قد مالوا إلي من عنده مالُ وكذلك : رأيت الناس قد ذهبوا إلي من عنده ذهبُ وصدق القائل الآخر : إلّي معه فلوس علي رأسه الرجال تبوس ، وإلَََي ما معه فلوس علي رأسه الرجال تدوس ، فلا تقلق ولا تحزن ولا عليك يا حاج مصطفي فقيمتك محفوظة عند مَن يقدرون قيمة الرجال ، وأنت سيد الرجال .

      هدأ قلب الحاج مصطفي وارتاحت نفسه واعتز بأصحابه ووقفتهم ، وحيَاهم علي موقفهم وشكرهم ، وزال الهَم .

      لم تمر أيام طويلة حتى حضرت قوات كبيرة من الجيش لتداهم المخيم ، وفي منتصف الليل توجهت إلي منزل أبي خليل ، وأحاطت به من كل الجوانب ، صوبوا بنادقهم والأضواء الكاشفة نحو البيت ، وطرقوا باب البيت بطريقة همجية ومرعبة ووحشية .

      فتح أبو خليل الباب ، وتفاجأ من العدد الكبير للجيش ، سأل الضابط :

      - أنت خليل ؟

      - أجاب : لا ، ولكني أبوه ، لم ينتظر الجنود وبسرعة دخلوا البيت ، فخرج خليل بملابس النوم .

      - أنت خليل ؟

      - أجاب خليل : نعم .

      وعلي الفور اختطفوه وأعصبوا عينيه ، ووضعوا السلاسل في يديه وأرجله ، وأدخلوه إلي زنزانة معتمة قذرة ورائحتها سيئة ، وبعد ساعات نقلوه إلي غرفة التحقيق .

      - قال المحقق : أنت من قام بالعملية العسكرية في ساحة المخيم ؟

      - أنكر خليل كل الاتهامات الموجهة إليه ، فأحالوه لمسلخ التحقيق . انتقل خليل من مرحلة إلى أخرى ، وذاق كل أنواع التعذيب ، الضرب الوحشي ، والشبح ،والهز ، وصب الماء البارد علي رأسه ، والحروق بالسجائر والامتناع عن الحمام ، والتهديد بهدم البيت ، واعتقال والده والصراخ ، والشتم بألفاظ سيئة بذيئة

      ومع هذا لم ينكسرولم تضعف عزيمته او إرادة التحدى فيه 0

      وبعد ستين يوماً من هذا الحال ، قال المحقق لخليل :

      - ألم تشهد مؤتمر مدريد ، وتسمع عن اجتماعات أوسلو ؟

      - قال خليل : سمعت وأعرف .

      - قال له المحقق : ما لا تعرفه أن السلطة الفلسطينية باشرت بعملها ، وتدفقت أفواج من العائدين ، والحديث يجري الآن عن إطلاق سراح معتقلين ، فلماذا هذا العناد والإنكار ؟

      لم يؤمن خليل بكل ما سمع ، واستبعد ما ذكره المحقق وبقي علي موقفه .

      أدخل المحقق علي خليل شخصين مقنعين ، فشهدا عليه ،فسألهم المحقق :

      - هذا هو نفس الشخص الذي رأيتموه يوم العملية العسكرية مع صديقه المسمي محمود ؟

      - أجاب الشخصان : نعم هو ، فنحن تابعنا خطواتهم وتأكدنا منهم .

      تفاجأ خليل من الرواية ، ومن خبر اعتقال صديقه محمود ، وانتهي الأمر بشاهدتين دون اعتراف ودون استدلال علي قطعة السلاح . وبعد خمسة أشهر من الاعتقال ، نزل الصديقان إلي محكمة عسكرية ظالمة ، استكفت بشاهدين دون اعتراف ، وحكمت عليهما بالسجن لمدة سبع سنوات .

      تغير الحال في فلسطين ، وأقيمت الأفراح بإنشاء السلطة واستقبال العائدين ، و إخراج عدد من المعتقلين ، وأقيمت الشركات ، ومشاريع الإسكان والاستثمارات لرؤوس الأموال من الخارج ، ظهرت طبقة غنية جداً من ذوي رؤوس الأموال والعائدين ، ورجالات السلطة ، في حين أن حال سكان المخيمات لم يتغير ، علي الرغم من أنهم الأكثر تضرراً من الانتفاضة التي صنعوها بدمائهم ، ودفعوا ثمنها زهرات شبابهم وأعمارهم و استُشهٍدوا وجُرحوا واعتقلوا وانتشر بينهم الفقر .

      كان أبو حسن يعتصر ألماً علي حبيبه خليل ، الذي لم ينسه لحظة واحدة ، ولم يقطعه من الزيارات التي كان يقول له فيها ، اصبر يا جدي ، فالسجن لا يبنى علي رجال .

      [mark=FF0000]انتهى الجزء الأول[/mark]
      موضوع عن قصص الجواسيس العرب واحدات مهمة ارجو المتابعة
      22:2

      تعليق


      • #4



        [mark=FF0000]الجزء الثانى[/mark]



        كان خليل يطمئن جده ويوصيه بخطيبته ليلي .

        عاد الحاج أبو حسن وأصحابه كالعادة بعد صلاة العصر واجتمعوا في الحاكورة ، كانوا يتذمرون من الحال ومن عدم تغير ظروفهم ، وكذبة سنغافورا في فلسطين ، فالفقر بقي علي حاله ، والمخيمات لم تتغير ، والسجناء ذوو الأحكام العالية لم يفرج عنهم ، ويد الجيش تطال كل مطلوب ، وبهرجة السلام ليست أكثر من وهم . في تلك الأثناء دخل شاب في بداية العشرينات من عمره ، ابتدأ بالسلام ، فرد عليه الحضور ، واقترب من الحاج أبي حسن ، فسأله أبو حسن : من أنت يا جدي ؟

        ولماذا تبكي وغضبان ومتوتر ؟

        - فأجاب الشاب : أنا ابن الشهيد جبر يا حاج .

        - أهلاً وسهلاً بابن البطل فهل أنت نضال ؟

        - نعم ، أنا نضال وعندي مشكلة كبيرة جداً .

        - خير يا بني ، ماذا حصل ؟

        - أجاب الشاب : أمي ، بعد استشهاد والدي لم تتزوج ونذرت نفسها لتربيتنا وتعليمنا والمحافظة علينا .

        فاشتغلت كل هذه السنين في الخياطة ، ولم تمد يَدها لأحد ، ولم يساعدنا أحد ، مع أن الجميع يعلم حالنا وزوجة من هي ، وكم أعطي زوجها للحفاظ علي كرامة الناس وتراب الوطن ، فكبّرت وعلمت وحافظت علينا ، وقبل أقل من شهر ، شعرت بألم في جسدها ، لم تستطيع أن تصبر عليه ، فأخذتها للمستشفى ، وعملنا لها أشعة وفحوصات دقيقة ، وللأسف أبلغنا الطبيب ببداية انتشار مرض خطير في جسدها .

        قال الحاج أبا حسن : الله يشفيها ويعافينا جميعًا ، ولكن لماذا أنت في هذا التوتر الشديد؟

        - أمي تموت يا جدي ، وأنا متخرج جديد من الجامعة ، وليس عندنا ما يمكننا لتغطية نفقات علاجها ، أو علي الأقل ، وقف نمو مرضها واستشرائه ، لأنه في مرحلة مبكرة ، فأنا يا جدي أنظر إليها وأموت في اليوم مائة مرة ، فهذه أمي التي ضحت بنفسها لأجلنا ، فعملت ليل نهار لتجعل منا رجالاً يساندونها في مثل هذا اليوم ، وللأسف نعجز الآن عن تقديم أي شيء لها .

        - ولكن ما هذا الذي في جيبك ؟

        - أجاب نضال : سكين .

        - ولماذا ؟

        - أجاب نضال : لا أخفيك بأني سأتوجه بالحُسنى للقادرين والأغنياء وذوي الأملاك ، علي الأقل بإعارتي نفقات علاج هذه المسكينة وأعدهم كما أعاهدك علي إعادتها متى تيسر الحال ، ولكني أقسم إن لم أجد منهم ما يتوجب عليهم ، فسأتصرف بالقوة ، ولو كلفني الأمر ما كلَّف .

        أوقفه أبو حسن قائلاً :

        - ولكن هذا حرام يا جدي ، تمهل وتعوذ من الشيطان ، واهدأ لنفكر سوياً .

        - قال نضال : كيف أهدأ وأمي تموت بين أيادينا ، وكيف أتمهَّل والمرض ينتشر في جسدها كالنار في الهشيم ، صدقني يا جدي إن لم أعالجها فلن أسامح نفسي ما حييت ، فهي الغذاء الذي يقيني والهواء الذي أتنفسه ، إذا كان هذا الأمر حرام ، فأين الحلال الذي فعلوه هم ؟ أين كان هؤلاء المترفون وأبي مطارد في كهوف الجبال ؟ ألم يحمهم أبي عندما قصروا في حماية أنفسهم ؟ أليس لنا فضل عليهم ؟ فمن أين أتوا بهذه القصور التي يعيشون فيها ، وبأفخم السيارات التي يركبونها ، وبأرصدة البنوك التي يبذرونها علي لا شيء له قيمة في هذه الحياة ؟ لو كانت أمي لها ( واسطة ) من أولئك الذين تربعوا على دمنا دون أن يقدموا قطرة دم واحدة لما وصلت المسكينة فى مرضها إلى هذا الحال ،ألا يُحْزِن يا جدي وضعنا ؟ ها أنا خريج بتقدير امتياز لم أتوظف وفى نفس دفعتي ابن مسئول ( بمقبول ) أصبح مدير دائرة ، ماذا أقول لك يا جدي ؟ أليس من الحرام أن يتبوأ ذو واسطة أو ابن مسئول لا يحمل مؤهل إدارة دائرة كاملة ؟ في حين أن شخص أسير قدم خمسة عشر عام من حياته وزهرة شبابه فى السجون والمعتقلات محروم من كل متاع الحياة الدنيا ويحمل شهادة جامعية ولديه من الكفاءة الكبيرة ومع هذا خرج من السجن ولم يجد عملاً تحت مبررات لا تسمن ولا تغنى - كابن عمى - فإذا لم يكن لمثل هذا الأولوية فى العمل وأنواع التكريم كالسكن والتعليم فلمن إذاً ؟ كثيرة هي مصانعهم ومزارعهم وثرواتهم وأملاكهم المتكدسة ، في حين أننا نفتقر لعلاج زوجة شهيد صابرة وصامدة ومكافحة في الحياة مثل أمي يا جدى ، فلن أنتظر حتى تموت وأتعذر بالقدر ، فهل نحن قدرنا الموت وهم قدرهم الحياة ؟ إن عدل الله لا يرضي بذلك هل تعلم يا جدي أن جزءاً بسيطاً لا يذُكر من أملاكهم التي لا تعنى لهم شيئاً تنقذ أمي ، وترد لها جميلها ، وتشعرها بقيمتها ومكانتها .

        قال الحاج أبو حسن : تمهل يا نضال ولا تظلم الناس فالغِنَي يا جدي ليس عيباً بذاته ، بل العيب أن يمر علي أحدهم حالة مثل حالة أمك دون أن تحرك فيهم ساكناً ، فالكثير من الأغنياء من أقاموا المستشفيات والمدارس والمصانع ، وساعدوا المحتاجين والفقراء .

        - قاطعه نضال : والكثير منهم من أغناهم دمنا وأعمارنا .

        - ما علينا يا نضال ، لا نريد أن نحاسب الناس ، اذهب أنت الآن ، وسوف آتي إليك بنفقات العلاج في أقل من أسبوع .

        تأثر الحضور من أصحاب الحاج بالحوار الذي دار بين الحاج ونضال .

        - قال الشيخ حافظ : منذ اللحظة سوف أزور أصحابي من خطباء المساجد للدعوة للتبرع في الصناديق بعد صلاة الجمعة لإنقاذ حياة هذه السيدة من خطر المرض والموت0

        - وتلاه أبو إبراهيم : ومن ناحيتي سأقدم مبلغاً من المال كنت أنوي التبرع به لإحدى المؤسسات الإنسانية التي ترعي اليتامى والمسنين كصدقة جارية .

        وقال أبو حسن : أما أنا فأملك كبشين ليس لهما مكان عندي في الحاكورة .

        في صباح الجمعة باع الحاج أبو حسن كبشيه وتبرع أبو إبراهيم بالمبلغ ، وفي نهاية اليوم أتي الشيخ حافظ بحصيلة صناديق التبرعات من المساجد ، وإذا بالحصيلة تزيد عن حاجة العلاج لأم نضال .

        ذهب أبو حسن لبيت الشهيد ، واطمأن علي أم نضال وأعطي المبلغ كاملاً للشاب الذي وعده بتدبير نفقات العلاج .

        عانق نضال الحاج أبا حسن بحرارة وبكاء ، وقال له : نحن وفلسطين وشعبنا بحاجة لأمثالك يا جدي .

        شكره الحاج علي عبارته ، وفي الأسبوع الذي تلاه دخلت أم نضال المستشفى ، وأجريت لها عملية ناجحة وتعافت وعادت لصحتها وحياتها. شعر خليل بقسوة السجن فهو( بلا تعريف معتركٌ عنيف كقاربٍ في بحرهائجٍ بلا تجديف) 0

        في تلك الأيام أدرك خليل بلاغة تقديم كلمه ليثبتوك في الآية الكريمة " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك " وعلى العذاب الأليم فى سورة يوسف عليه السلام (قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يُسجن َأو عذابٌ أليم ) وتعقيب الرسول سيدنا محمد (ص) على رفض الإفراج لسيدنا يوسف إلا بالبراءة- بما معناه (رحم الله أخى يوسف والله لو كنت مكانه لخرجت وما انتظرت البراءة ) ، فالحرمان من الأهل والزوجة والأبناء ،وألوان الطعام والشراب ، والحرية في الحركة والتعبير، ورفقة العمر والعمل وكل متاع الحياة الدنيا بقسوة النفي والقتل والعذاب الأليم .

        فرأى بأم عينه آلاف المعتقلين الذين تمنوا الشهادة على قسوة الأعداء ، أناس في مصير مجهول تجاوزتهم كل أنواع الإفراجات ، ومنهم من تخطى الربع قرن من الزمن بين عتمة الجدران وظلم السجان 0

        تعرف خليل علي من حوله من السجناء وهمومهم ، فأشفق علي الكثير من الذين كانوا في صلابة الصخر أمام المحقق وتغلبوا علي كل أصناف التعذيب ، ولقلة الوعي في ظروف التحقيق وخداع المخابرات لهم وقعوا فريسة في شرك غرف العملاء ( العصافير ) ممن تبنوا أسماء مناضلين وتظاهروا بالتدين والأخلاق والوطنية ، فأوهموا المعتقل الجديد بوجوده في المكان الآمن ، فحرصوا علي إقامة علاقة طيبة معه وكسبوا ثقته ، واستغلوا ظرفه وحاجته للأمان بعد التحقيق ، واستدرجوه بكشف أسراره وما أخفاه عن المحقق ، فطلبوا منه أسماء زملائه الذين عمل معهم ليحذروهم عبر زيارة الأهل ، فوقع فيما حذر منه مع المحقق من البوح في قضاياه وأصحابه وأسراره .

        قلقت أم خليل علي ابنها بعد وفاة أحد الأسري في سجنه في اليوم الثاني عشر من إضراب الأسري المفتوح عن الطعام ، حفاظاً علي كرامتهم وكرامة أهليهم في الزيارات مطالبين بالحقوق الإنسانية العادلة كوضعهم في سجون قريبة من أماكن سكناهم ، وتحسين ظروف التفتيش لهم عند الخروج لمحاكمهم وزيارة أهلهم ، وتمديد فترة الزيارة والنزهة ( الفورة )، وإمكانية معانقة أطفالهم ، والتعليم الجامعي وتحصيل الهاتف وتحسين الطعام والعلاج الطبي وبعض الحاجيات الأساسية من أدوات كهربائية ورياضية ومطالب معيشية 0

        أما خليل فأُعجبَ بتراث الحركة الوطنية الأسيرة في السجون ، والتي تعبر عن مجتمعٍ ديمقراطي مسئول ، فكانت وحدة من خلال التعدد عبر انتخابات نزيهة في إفراز قيادة لكل تنظيم ، ثم انتقاء مناضل ذي خبرة اعتقالية وقدرة قيادية ليمثل فصيله في اللجنة الوطنية العامة التي تعمل علي بناء الأسير وتحافظ عليه وعلي كرامته ، وتكسبه الثقافة والتجربة وتضع القوانين الاعتقالية واللوائح الداخلية .

        كانت لحظات انتصار جميلة حين اطمأنت أم خليل علي ابنها الوحيد عند أول زيارة له ، بعد انتهاء الإضراب عن الطعام ، وانتصار السجناء علي إدارة السجن ، بعدما دفعوا مقابل تحقيق مطالبهم أرطالاً من اللحم وكثيراً من الهم والتعب وعدداً من الشهداء الذين ساندوا قضيتهم في انتفاضة الأسري والتي تصدرها أهالي المعتقلين والمؤسسات المعنية والمخلصون من أبناء الشعب المقاوم والمكافح والعنيد .

        وجد خليل في السجن مدارس وجامعات ، فالأمي سرعان ما يتعلم القراءة والكتابة ويتحول إلي مثقف يحب المطالعة والمتعلم يتوسع في دراسته ، فيدرس اللغات ويحفظ القرآن ويطالع في شتى العلوم والأبحاث ، ويتخصص في مجالات يميل إليها .

        فوجد الجلسات التنظيمية والحركية والفكرية والتاريخية والاهتمامات الأدبية والثقافية داخل الغرف وساحة السجن ، وشهد الكثير من الحوارات والنقاشات والتحاليل السياسية والاهتمام بالقضية الفلسطينية والهموم العربية والإسلامية والتطورات الدولية .

        تشرَّف خليل بالانتساب لهذه الشريحة المخلصة والشريفة من أبناء شعبه .

        هؤلاء الرجال الذين ضحوا بأعمارهم وزهرات شبابهم لنصرة دينهم وشعبهم وقضيتهم وتحقيق الكرامة والاستقلال ، فيتحملون الألم ويتطلعون بالأمل للمستقبل ، يفخرون بتضحياتهم ويتطلعون بثقة لتحقيق أهدافهم ، اجتمعوا علي محبة الله والوطن واستعلوا علي الصغائر والماديات والمصالح التي أشغلت الكثيرين وتواصلوا بكلمة الحق ، وتعاهدوا علي مسيرة النضال والمقاومة .

        كلٌ له همه وبحجم الجبال ، ومع هذا يستعلون عن الشكوى ، ويتحملون ما لا يتحمله الآخرون ، الكثيرون فهم من حكمت عليه المحكمة العسكرية الظالمة مدي الحياة وله في الاعتقال ما يزيد عن عشر سنوات والعشرين السنة ، فشعروا بالإحباط وخيبة الأمل من القوي الوطنية العاملة ، والتي تجاهلت واجبها الأخلاقي والإنساني اتجاههم في التحرير والإفراج واللقاء بأحبائهم وتعويضهم عن سني اعتقالهم ، فتعاملت معهم كقطعة أثرية تاريخية نادرة وجميلة وغالية الثمن في متحفٍ يؤمه الزائرون ، وجعلت منهم رصيداٌ للتباهي والتفاخر ، فالكثيرون من مرت عليه أكثر من عملية لتبادل الأسري ، وافراجات عملية السلام والتي تجاهلتهم لقضاياهم وأحكامهم العالية أو لأسباب انتمائهم .

        فمنهم من أصبح جداً ، وكثيرون من فقدوا أمهاتهم وآباءهم أو أبناءهم العزيزين علي قلوبهم ، وكنتيجة للاعتقال هدمت بيوتهم أو أغلقت دون تعويض 0

        أشد ما كان يقلق خليل في سجنه هو مصيره مع ليلي ، كان يتذكر لحظة عقد قرانه وكلمات القاضي التي رددها ويوم أن وضع الجد أبو حسن مهرها في يد والدها،ويتذكر الشبكة التي انتقتها بنفسها ، والصور التي التقطاها واحتفظا بها ، ويتساءل ما هي واجباتي المادية والمعنوية اتجاها ؟؟ هل تستطيع زيارتي قبل اعتمادها زوجتي في البطاقة الشخصية ؟؟ هل يحق لي تعليقها دون أن تختار هذا الطريق الذي اخترته بنفسي ؟؟ قطع خليل علي نفسه كل هذا القلق وسار خطوته الأولي ، فكتب رسالة لأهله يوصيهم بليلي وبكامل احتياجاتها ، وضع مخصصاً شهرياً لها وطلب منهم أن يصطحبوها معهم في الزيارة المقبلة وأوصى على مجموعة من صور الخطبة, وكتب رسالة أخري لليلى وشرح فيها إخلاصه وحبه ومودته لها وطلب منها التفكير في مصيرها معه وخيّرها بين التواصل أو الانفصال, وطلب منها الحضور لزيارته .

        وأكد لها أن التخيير من حقها , وأنه لن يتحامل على أي رغبة اقتنعت بها .
        موضوع عن قصص الجواسيس العرب واحدات مهمة ارجو المتابعة
        22:2

        تعليق


        • #5


          استقبلت ليلى رسالة خليل وتوقعت منه مضمونها وتوصية أهله عليها لأنها كانت على ثقة بقدراته ورجاحة عقله ومستوي إيمانه ، وإخلاصه وصدق كلماته وتوجهه .

          رفض الصليب الأحمر تسجيل اسمها لزيارته قبل إثبات خطوبتها عليه في بطاقتها الشخصية ومع هذا سافرت للزيارة على بطاقة أخته . وقبل يوم من الزيارة أهتم خليل بنفسه وقص لحيته وكوي ملابسه وأشترى الحلويات المعتاد إهداؤها للأهل عند كل زيارة ، وفى صباح يوم الزيارة نهض من النوم مبكراً وأخذ حماماً دافئاً وتناول فطوره وانتظر قدوم الأهالي .

          ازداد قلقه حينما تأخر اسمه ، ولم يتبق إلا فوجاً واحداً من الزيارات ، فيئس من الزيارة وفقد الأمل وما هي إلا لحظات حتى حضرت ورقة الفوج الأخير التي تضمنت اسمه أول الأسماء ، اختلط حينها الفرح بالقلق خوفا من عدم حضور ليلي .

          جلس خليل علي مقعده في غرفة الزيارة يمعن النظر بالمزيد من الترقب ودقات القلب علي الأهالي الذين لوحوا بأيديهم وتشابكت أصابعهم بأحبابهم من بين قضبان الحديد دخلت ليلي وأم خليل التي سلمت عليه وتركته إدراكاً منها بخصوصية الزيارة ، وذهبت لتصافح المناضلين الآخرين .

          تشابكت أصابع الحبيبين وذرفا الدموع ، وتبادلا حرارة اللقاء والشوق وكلمات السلوى والمواساة .

          عاتبت ليلي خليل علي رسالته وعاهدته علي الانتظار والتواصل وتواعدا علي دوام المراسلة ودوام الزيارة .

          انتهت الزيارة بلمح البصر ، واختطف السجان الأسري من أحبابهم اختطافاً ، بقي الحبيبان يلوحان بأيديهم حتى اختفي كل منهم عن الآخر .

          عاد خليل لغرفته وهو يحمل في قلبه أملاً وفي يديه مجموعة من صوره مع ليلي ، ومنذ ذلك لم تمر ليلة دون التكحل بصورتها وبقي علي المراسلة بها بكل معاني الحب والوفاء .

          شعر خليل بالقلق لامتناع ليلي عن الزيارة متعذرة بالخطر الأمني الذي يلحق بها جراء المجازفة علي بطاقة ليست لها ، وزاد قلقه حينما مرت أشهر طويلة وهو علي هذا الحال من عدم الزيارة وانقطاع المراسلة .

          دخل الشك في قلب خليل الذي أحس بأن ليلي لا تبادله نفس الحب ، أو أن لديها حسابات جديدة ، وكان يرجو الحقيقة أياً كانت ليرتاح .

          سأل خليل والدته عن ليلي فقالت له :

          خطيبتك تغيرت يا بني ، فهي الآن تعمل في إحدى المؤسسات وخلعت المحبس وغير قلقة عليك أو مهتمة بك.

          لم يصدق خليل هذه الأخبار .

          وسألها : وماذا تعمل في هذه المؤسسة ؟

          قالت أمه : في البداية كانت موظفة عادية ، ومن ثم أصبحت سكرتيرة للمدير .

          استبعد خليل هذه الأخبار رغم ثقته الكبيرة بأمه ، وأصر أن يري ليلى في الزيارة المقبلة وبأي طريقة .

          مر الأسبوعان علي خليل وكأنهما سنتان ، وكان يرجو الله ويتأمل أن تكون الأخبار التي وصلته غير صحيحة . دخلت ليلي علي الزيارة بملابس لم يعتدها علي خطيبته التي تمسكت سابقاً باللباس الشرعي . فتعرض خليل للإحراج وخيبة الأمل ، فتجاهل الأمر ، لم تكن الزيارة بحرارة اللقاء بعد فراق طويل دام أشهر طويلة ثم سألها عن حالها فقالت : أنني تعبانه يا خليل وبت أكره نفسي والحياة ، وليس عندي ما يبرر

          تقصيري فى حقك ، ولا ما أقوله لك سوي الأمل في أن يفرج الله كربك ويعوضك بالتى هى أفضل منى .

          عاد خليل لغرفته مليئاً بالكآبة والحزن ، ومع هذا وضع لها الأعذار ، واعتبرها في حالة ألم وحزن كأي فتاة لم تفرح في حياتها ، وتحقق أمانيها وأحلامها .

          لم ييئس من الأمل في دوام العلاقة مع خطيبته وبقي علي مراسلتها ، وطلب لاحقاً من أهله مواصلة زيارتها له .

          أصيب خليل بخيبة الأمل من الحال الذي وصل إليه ومن نهاية الطريق المجهولة مع ليلي ، وقبل موعد إفراجه بأيام ، كان يتساءل هل بقيت ليلي علي حالها وإحباطها ؟؟ لماذا قطعت الزيارة لأكثر من سنة ؟

          ألم أخيّرها من البداية فرفضت الانفصال ؟

          هل بقيت علي حبها لي؟ أم أن قلبها تعلق بآخر فتجاهلتني ؟ بقي خليل مخلصاً لحبيبته ويجد لها الأعذار ، كان يشعر بالواجب اتجاه هذه الفتاة التي رفضت الانفصال عنه ، وانتظرته لسبع سنين .

          في ليلة الإفراج ، لم يكن في تفكيره إلا تعويض ليلي عن الأيام الصعبة التي قضتها ، و يفكر في الزواج ، وبناء حياة جديدة ، وفي الأبناء والتغلب علي آلام السجن.

          كان خليل يتخيل لحظة دخوله للمخيم بعد غربة دامت سبع سنين ، يتصور أول لقاء له مع ليلي ، كان يراها وهي مقبلة نحوه بابتسامة عريضة وسعادة غير محدودة وفرح ليس له مثيل ، يراها وهي متجهة صوبه مسرعة يدفعها الشوق والحنين .

          ودع خليل ومحمود رفاق السجن الذين شاركوهما الألم والأمل ، وكل اللحظات السعيدة والصعبة ، وقاسموهما لقمة العيش .

          شعر الصديقان بميلادهما الجديد ، وهما يريان نفسيهما خارج جدران السجن ، كانا لا يشعران أنهما يلامسان الأرض ، ففرحة الحرية تضاهي أفراح الحياة مجتمعة 0

          عانق الصديقان والديهما والجد أبا حسن ، الذين حضروا لاستقبالهما عند الحاجز العسكري .

          وصل خليل للبيت وقدمت بوصوله جموع المهنئين ، و أقام الحاج أبو حسن غداءً كبيراً احتفالاً بسلامة حفيده الأقرب علي قلبه ، ودعا إليه كل الأقارب والأحباب والأصحاب.

          أتت ليلي وأهلها لتهنئة خطيبها بإفراجه ، فأقبل خليل عليها إقبال المحبين ، وقد تلاشت من ذاكرة خليل برؤيتها تعب وآلام السنين ، لمست ليلى يده وكأنها تعرفه لأول مرة ، فلم يجد فيها تلك الصورة التي رسمها لنفسه في بهجة هذا اللقاء ، كان سلاماً بارداً وأقل من حرارة لقاء المهنئين ، وصُدم أكثر حينما لم يجد محبس الخطوبة في أصبعها ، حينها قرأ كل شيء ، وشعر بالمسافة التي أحدثتها السنين .

          انتظر خليل انتهاء حضور المهنئين ، وذهب لبيت ليلى لعله يجد ما يبرر له صنيعها .

          ابتسم خليل في وجه ليلي وأخفى في نفسه ودفن في قلبه آلام المفاجأة وقال :

          - انتهت الأيام المؤلمة يا ليلى فمنذ اللحظة سنكون أسعد وأقرب حبيبين ، إني أعدك بتعويض السنين التي مرت ، والحرمان الذي عانينا منه .

          لم يكن لكلام خليل وقع في قلب حبيبته ، التي تجاهلت حضوره ومشاعره .

          ذهب خليل لبيت جده أبي حسن وصارحه بما جري فقال الجد :

          الزواج قسمة ونصيب يا جدي ، ولكن الأهم تحديد هذه العلاقة ، وبأي شكل .

          ذهب خليل لخطيبته في اليوم الذي تلاه ، وطلب منها تحديد موعد للزواج ، تبعثرت الكلمات من فم ليلى وبدأت تستحضر الأعذار الواهية .

          - أنا لا أريد ارتداء اللباس الشرعي يا خليل .

          - قال لها : الأمر يرجع إليك ولقناعتك .

          تفاجأت ليلي من جوابه لأنها كانت علي إدراك بحساسية الأمر بالنسبة له ، كانت تعرف أنه يكره العمل لزوجته في مكان اختلاط ، ومع هذا قالت :

          - العمل جزء من حياتي ولن أتخلي عنه .

          - أجاب خليل وبهدوء : كما تريدين ، إن ما يهمني هو أنت وليس أي شيء آخر .

          أغلق خليل عليها كل الأبواب ، وطلب منها المصارحة

          - هل أنت مقتنعة بهذه الأعذار ؟ وهل أنت تريدينني ومقتنعة بي ومحتاجة لي ، وعلي استعداد للزواج مني ، وتحبينني ، وتبادلينني نفس المشاعر ، أم أن في نفسك شيئاً آخر ؟

          أدركت ليلي بأنه يبحث عن إجابة واضحة ، فترددت ثم قالت :

          أنا يا خليل أحترمك ، وأقدر فيك رجولتك وكرمك عليّ طوال فترة اعتقالك ، ولكنني لا أستحقك فأنت أفضل مني بكثير ، وصادق في حبك وإخلاصك ومشاعرك ، فعندما كنت ترسل إليّ الرسائل ، كنت أسرح وأبكي بكاءً شديداً ، لان رسائلك كانت تُحدث في نفسي صراعاً كبيراً ، أنت تستحق من هي أخلص وأوفى وأصدق منى فزواجي منك لن يسعدك لأنني فتاة محطمة ويائسة ، وأنا أجد فيك الأخ وليس الزوج ، وأتمني منك أن تتكرم عليّ بالطلاق وفسخ الخطبة .

          تمزق قلب خليل الذي تمني حينها لو بقي في السجن علي ألا يسمع هذه الكلمات ، أو أن يقف في ذلك الموقف ، فتحامل علي نفسه وجراحاته ، وتذكر كلام جده وقال:

          أوافق بشرطين أن يعلم الناس أنكِ أنتِ التي طلبت الطلاق لئلا أكون صغيراَ في عيونهم ، فيقولوا : ترك خطيبته التي انتظرته سبع سنين ، وأن تعيدي إليّ رسائلي والصور لأنها تحمل في طياتها كل مشاعري وعواطفي .

          وافقت ليلي علي الشرط الأول ، وحُرِق قلب خليل حينما أخبرته بحرق الرسائل التي كتبها بدموعه وكل مشاعره .

          عاد خليل لجده مكسور القلب والخاطر وذرف من عينيه الدموع ، فهم الحاج أبو حسن كل شيء ، فبكي قلبه علي حفيده الذي خسر محبوبته ومدخراته وسبع سنين من زهرة شبابه .

          وضع يده علي رأسه ثم ضمه إلي صدره وقبلّه وقال له : لم تكن ليلى قدرك ونصيبك يا جدي ، ولكني علي يقين بأن الله سيعوضك بمن تستحقك ، هذا قدر الله فارضَ به .

          علمت أم خليل وأخواته بما دار بين خليل وخطيبته فلم يكترثوا بآلامه وجراحاته ، وقالوا له :

          - سنزوجك بأفضل منها والكثيرات من البنات يتمنين مثلك ، ولأنها التي طلبت الطلاق فعليها أن تعيد لك المهر والشبكة والأموال التي أنفقتها عليها طوال سبع سنين من سجنك .

          لم يكترث خليل بكل ما سمع ، وقال فى نفسه :

          ما قيمة هذه الأمور أمام خسارتي الكبيرة ، لن أنظر لهذه التفاهات ، فيكفيها الانتظار وضياع سبع سنين من عمرها 0

          كان يقول لأهله إن هم أعادوا لي حقوقي فسآخذها ، وإن لم يعيدوها فلن أطلبها . فواجه أهله ومحبيه وأقاربه الذين رفضوا موقفه ، ونظروا إليه بعجب وإزدراء . طلب خليل منهم عدم التدخل بخصوصياته ، ورأي في نفسه الكفاءة لحل مشاكله والخروج من أزمته ، كان يشعر أن موقف ليلى شفقة عليه ورحمة به ، فما قيمة أن تكون في بيته وقلبها وعقلها خارجه ، تذكر وسط هذه العاصفة كلام الله عز وجل " فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف " فحرص علي أن تنتهي هذه العلاقة بذكرى طيبة ومعاملة جميلة .

          لم يملك خليل بعد الإفراج عنه من السجن أي شئ من المال ، في ظروف يحتاج فيها منه إلي كل شيء ومع هذا سامح ليلى في مهرها وشبكتها وكل النفقات وكان علي يقين بأن الله أكرم وأرأف وأحن ولن ينساه وسيعوضه .

          وفي اليوم التالي ذهب بمفرده للمحكمة الشرعية التي كانت تنتظره فيها ليلى وأهلها ، وجلسا أمام القاضي الذي نصحهما بعدم الطلاق .

          لم تترك كلمات القاضي أثرها في نفس ليلي ، فلم يكن في وسع القاضي إلا أن أتم ورقة الطلاق التي بموجبها تنازل الطرفان عن الحقوق .

          أعطي خليل ليلي ورقة الطلاق ، وقبل أن تفارقه قال لها :

          - أتمني لك حياة هادئة ومستقبلاً كله سعادة وأوصيك بنفسك ، وأنصحك بألا تنخدعي بأي شاب وأنا علي استعداد لأية خدمة تحتاجينها فأنا في مقام أخيك كما ذكرك .

          افترق الطرفان وسار لوحده هائماً علي وجهه حزيناً ، نظر نظرةً إلي السماء ، وأخرج الورقة من جيبه وتساءل :

          - كل رأس مالك يا خليل هو ورقة طلاق ؟

          غريبة هذه الدنيا ، فهل كُتب عليّ بعد سبع سنين من الحرمان أن أضحي بكل شيء ، وألا يبقي لي أي شيء ؟

          لم يترك الحاج أبو حسن حفيده وحيداً في هذه الظروف ، ولم يثقل عليه كالآخرين في العتاب في مسامحة ليلى .

          كان يؤكد له أن الله سيعوضه خيراً ، ويقول :

          يا بني حسبك الله ونعم الوكيل .

          وضع الحاج في جيب حفيده مبلغاً جيداً من المال ، كونه كان يدرك الحساسية التي نشأت بين خليل ووالده في موضوع المال بعد رفضه لمقترحهم في تحصيل الحقوق .

          رفض خليل المبلغ ، فقال الحاج :

          - هذا دين عليك يا جدي حتى تتيسر معك الظروف .

          عانق خليل جده الذي سانده في محنته ، وتفهم خطواته ، ولم يثقل عليه أو يعاتبه .

          واستأنف دراسته التي تركها بسبب الاعتقال ومساءً داوم في عمله في جمعية لدعم الأسرى الذي رأى من واجبه مساندتهم وعدم التخلي عنهم . لم يمر سوي خمسة وسبعين يوماً حتى تم اعتقال خليل مرةً ثانية علي حاجز عسكري حوكم إداريا لمدة أربعة أشهر ، كان يري في هذا الاعتقال قدر الله الجميل الذي لايدركه ، فجدد الحياة مع أهله الذين لم يتخلوا عنه في محنته ، وكان بحاجة لترك المكان الذي يُذكره بالآلام والأحزان ، كلما مر بابنة جيرانهم ليلى . كان محمود صديقاً مخلصاً ووفياً لخليل ، فواصل المراسلة معه طوال فترة اعتقاله، وأرسل له الملابس وكل الاحتياجات التي يعرفها لكل أسير ، فيحقق كل مطالبه دون أن يحرجه ، وفي يوم الإفراج عنه كان أول المستقبلين ، وأعز المهنئين علي قلبه .

          كانت أم خليل تحلم بزواج ابنها والاطمئنان عليه ، وتتمنى رؤية أبنائه .

          وقف أبو خليل مع ابنه الوحيد ، وطلب من زوجته أن تبحث لابنها عن زوجة . فذهبت أم خليل لأهل الفتاة الأولى ، فأبدوا مدحهم للعائلة وشرف النسب بها ، وأثنوا علي ابنهم وأخلاقه ، ولكنهم اعتذروا بتعليم ابنتهم .

          طلبت أم خليل يد خمس فتيات من أهلهن علي التوالي ، إلا أن الجميع قدم اعتذاره ومبرراته غير مقنعة لم تكن أم خليل متفاجئة من تلك الأعذار ، وتقرأ ما يخفونه من تخوف0

          ذهب خليل لبيت صديقه محمود ليشكره علي وقفته الرجولية معه خلال اعتقاله ، طرق الباب وإذا بفتاة كالبدر في ليلة كماله تفتح له الباب ، لم يعرف خليل من تكون هذه الأميرة الساحرة الجميلة .

          أخفضت الفتاة نظراتها خجلاً فسألها عن أخيها ، استقبل محمود صديقه بالمزيد من الترحيب ، صارح خليل صديقه بألمه ونظرة الناس إليه ، وتساءل :

          - هل هذا جزاؤنا يا محمود ؟ فهل العيب أن نجود بأعمارنا وشبابنا وتعليمنا ، ونضحي بالغالي والنفيس ، وبكل ما نملك علي حساب مستقبلنا وسعادتنا وأهلنا دفاعاً عن الدين وتراب الوطن وكرامة الناس ثم تكون مبررات رفضهم الحقيقة للارتباط بنا خوفهم من دخولنا السجن ، فهل يا صديقي نحن عشاق للعذاب كما يظنون ؟ أم أن هنالك من البشر من يتمنى أن يكون في السجن ، فنحن يا محمود نعذب أنفسنا ليرتاح الناس ، ونحرم من الحياة ليجدوا فيها متاعهم ، ونتحمل قسوة السجان لحفظ كرامتهم وحرياتهم ، هل هذا جزاؤنا وهل نحن منبوذون لهذه الدرجة ؟ قاطع محمود خليل وقال :

          - استهدِ بالله يا صديقي ، فالناس تفخر وتتشرف بنا وتحبنا وتقدر لنا تضحياتنا وحرماننا فنحن في نظرهم أبطال ، ومن يرفضك يخسرك ولا يستحقك ، فالذي يضحي بعمره وشبابه وسعادته لأجل الناس ، يكون أكثر تضحية للمحافظة علي زوجته وأولاده والخوف عليهم والتفاني في تحقيق السعادة لهم .

          ابتسم محمود في وجه صديقه وقال :

          - إذا نحن خطبناك يا خليل فهل تقبل بنا ؟

          تفاجأ خليل من عرض صديقه ولم يصدق ما سمع وتلعثم في الكلام وقال : هل تعني ما تقوله يا محمود ؟

          - نعم وأعيده وأؤكده .

          - فقال وبِمَن ؟

          - بأختي سهام التي فتحت لك الباب عند حضورك .

          - وما الذي يضمن موافقتها وموافقة والديك ؟

          - قال محمود : لن أدخر جهداً وسأرد عليك .

          عاد خليل من بيت صديقه مُحلّقاً في السماء ، لم يشعر بخطوات قدميه علي الأرض ، فلقد مسحت سهام من ذاكرته كل الصور ، شعر وكأنه وُلد من جديد ، فحمد الله على قدره الذي كان يجهله ، وأدراك أن الله كان يخبئ له ما هو أجمل وأفضل وأرقي .

          وقصد بيت جده الذي صارحه بالأمر ، سُعد الحاج أبو حسن بموقف محمود وقال :

          - ما فعله صديقك هو أصل الدين وقمة الأخلاق وأروع الأمثلة يا جدي فبارك الله فيه وفي أصله وتربيته وأهله ، فلقد كان لك خير صديق ومعين .

          كانت أجمل اللحظات وأسعدها يوم أن حضر محمود وأبلغ خليل أن الفتاة والأهل موافقون عليه ، وبإمكانه الحضور مع أهله ليطلبوا يدها من والده . استقبل أبو محمود عائلة أبى حسن والشيخ حافظ وأبا إبراهيم والحاج مصطفى ، الذين طلبوا يد سهام لابنهم .

          وافق الطرفان علي المهر وكل التفاصيل وموعد الفرح، لم تمر أيام طويلة حتى تزوج خليل من سهام ، التي كانت تخفي وراء خجلها كل الحب والعطاء والوفاء والتضحية ، فساندت زوجها وتفهمت ظروفه ، فحّولت بيته إلى واحة من السكينة والمودة والرحمة والسعادة 0

          أكمل خليل دراسته الجامعية وتوظف وبنا بيتاً جميلاً متواضعاً بمساندة زوجته التي باعت ذهبها ومعونة أهله وبعض المدخرات من عمله .

          مرت السنون سريعة علي الزوجين وهما يعيشان في قطعة من الجنة علي الأرض ، فعوض الله خليل عن سني عمره التي ضاعت وعن عذاباته وتضحياته ، وعن المال الذي سامح به وعن ليلي بألف ليلي في سهام ، فرزقه الله بطفلين رائعين وجميلين .

          تقدم لليلى قريب لها من المدينة ، فتودد لها ولعائلتها ، فطلب منهم قرضاً من المال ، بحجة إكمال مشروع سيؤمِّن فيه لابنتهم مستقبلاً جميلاً .

          وبعد أقل من سنة من فترة الخطوبة اكتشفت أن هذا الشخص يـأخذ الأموال لينفقها علي شرب الخمر وتعاطي المخدرات ، طلبت منه ليلي أن يطلقها فوافق بشرط إعادة المهر وكل النفقات التي أنفقها في فترة الخطوبة ، والمسامحة في كل الديون التي اقترضها منهم. أشفق خليل على حال ليلى وما تعرضت له من أزمة ، ولم يكن في وسعه إلا التدخل لوضع حد لهذا السكير فذهب بصحبة محمود إليه وطلب منه أن يطلق دون شرط .

          تراجع خطيب ليلي عن المطالبة بالمسامحة في الأموال التي اقترضها والنفقات التي أنفقها أثناء الخطبة وأصر علي تحصيل المهر ، والذي رأي خليل أن هذا حقه الذي تنازل عنه سابقاً بمحض إرادته .

          خجلت ليلي من نفسها وشكرته على موقفه ورجولته وتذكرت معاملته معها وكرمه .

          نسي خليل ليلي التي لم يقصِّر معها ، وبقيت هي تراقبه وتراقب سعادته مع زوجته وأبنائه فلا تملك في قلبها إلاِّ الندم والحسرة .

          حضر خليل لزيارة جده الذي اشتاق له ، فوجده في قمة الغضب .

          - ماذا بك يا جدي ؟

          - أجاب الجد وهو يرتجف : في صباح الغد ستُدنَّس باحة المسجد الأقصى بقدمي يهودي صهيوني .

          - قال خليل : لكنها خطوة خطيرة وتمس بعواطف كل المسلمين في العالم .

          - زاد الجد توتراً من مداخلة حفيده ورد عليه : أيُّ مسلمين هؤلاء الذين تتحدث عنهم ، ألم يقرؤوا سورة الإسراء من القرآن أم أنهم لا يعلمون أن هناك شيئاً اسمه المسجد الأقصى يتهدده الخطر والتدمير من اليهود ، الذين يحملون الهيكل المزعوم علي أنقاضه . لا يحك جلدك إلا ظفرك يا جدي ، فمن سيحول دون دخول هذا السفاح المجرم الحاقد إلي المسجد الأقصى هم أبناؤه ، والذين تحملوا واجبه عشرات السنين ودافعوا عن شرف هذه الأمة التي ماتت . أُعلن عند دفن أوسلو عند أول خطوة حاول أن يتخطاها ذلك الصهيوني في باحة المسجد الأقصى و التي تصدت له الحشود التي تجمعت من كل الوطن فأوقفوه .



          [mark=CC0000]انتهى الجزء الثانى [/mark]
          موضوع عن قصص الجواسيس العرب واحدات مهمة ارجو المتابعة
          22:2

          تعليق


          • #6


            [mark=FF0000]الجزءالثالث والأخير من عاشق من جنين[/mark]

            تأليف
            رأفت حمدونة

            سجن نفحه الصحراوى


            ضحى عشرات المصلين بأرواحهم وحياتهم لمنع هذه الخطوة التي كانت شرارة انطلاق انتفاضة الأقصى لتحقيق الحرية والاستقلال . خرج الشعب الفلسطيني بأطفاله وشبابه ونسائه وشيوخه لمظاهرات ومواجهات جابت كل الشوارع ، نصرةً للأقصى وتأبيناً لشهدائه الأبطال .

            لم يدع الجيش اليهودي جموع المتظاهرين يُعِّبرون عن غضبهم ورفضهم لسياسة التهويد اليهودي لمدينة القدس وتدمير المسجد الأقصى ، فأطلق النار وقذائف الدبابات وصواريخ الطائرات بدون رحمة ولا تمييز في كل الاتجاهات علي الأطفال العُزَّل الذين واجهوا بالحجر همجية الجيش المدجج بالسلاح .

            صمد الشعب الفلسطيني ببسالة في وجه أعتى ترسانة عسكرية في المنطقة ، وتطورت أشكال مقاومته ، فأعطوا دروساً في النضال والمقاومة .

            جُنَّ جنون قادة الجيش والدولة اليهودية ، الذين لم يتوقعوا هذا الكم عندهم من الخسائر البشرية والاقتصادية ، والهزائم العسكرية المتلاحقة ، فقتلوا الأبرياء الرضع في مهدهم ، والأطفال في أحضان آبائهم وعلي مقاعد الدراسة ، واقتلعوا الشجر وحوّلوا الحدائق والمزارع والبساتين إلي كومة مكسرة من الحطب وهدَّموا البيوت علي رؤوس أهلها ، و أزالوا مناطق سكنية واسعة ، وسووها بالأرض ، ودمروا المساجد والمدارس والكنائس والمؤسسات والمصانع والشوارع والجسور والمستشفيات ، فقتلوا وجرحوا عشرات الآلاف من شعب أعزل أغلبهم من المدنين والآمنين .

            حقد خليل على الذين باعوا ضمائرهم ودينهم وشعبهم ووطنهم مقابل حفنة تافهة من المال ، فكان المتعاون مع العدو في نظره أشد خطراً من الاحتلال نفسه ، فمعظم شرفاء الوطن وأبطاله ومقاوموه ذهبوا ضحية في اعتقالهم أو اغتيالهم لخيانة هؤلاء العملاء الذين قدمَّوا المعلومات لمخابرات العدو وأجهزة أمنه ، ورصدوا تحركات المقاومين ، وحددوا مساكنهم ومواقعهم وتواجدهم ، وجعلوهم لقمةً سائغة وهدفاً سهلاً لطائرات العدو وصواريخه .

            استخدم هذا الجيش في حربه الإرهابية والبربرية كل أنواع الأسلحة المحرمة دولياً من غاز الأعصاب ، وقنابل الغاز الخانق ، والرصاص المتفجر وقذائف الدبابات ، وكل أنواع الطائرات الأمريكية.

            لم يَسلم بيت من شهيد أو جريح أو معتقل أو متضرر في مصنع أو بيت أو مزرعة أو مصدر رزق ، فعاني معظم الشعب من الفقر وبات أبناؤه دون لقمة العيش .

            لم يجد الشعب الفلسطيني الذي قاتل اليهود نيابة عن العرب والمسلمين لحماية المسجد الأقصى في انتفاضته من يتضامن معه في معركة الأمة التي انفرد بها ، وتحمل تكاليفها وأعباءها ، فلم تسانده الجماهير معنوياً ولا مادياً بالسلاح وبتوفير لقمة العيش للجياع من أبناء شهدائه أو مقعديه أو معتقليه الذين امتلأت سجون العدو بهم ، أو في إيجاد المأوي لمن تهجروا وتدمرت بيوتهم .

            وجد الشعب الفلسطيني نفسه وحيداً في هذه المعركة المقدسة ، التي كان يجب أن يشاركه فيها كل المسلمين والعرب ، ففي اللحظة التي كان دمه يراق ويسكب علي الأرض ، كانت كؤوس الخمر تصب علي الموائد ، وفي اللحظة التي كان ينام فيها الشعب الفلسطيني علي أزيز الرصاص ، كانت تقام الحفلات والأغاني الماجنة والراقصات علي شاشات التلفاز ، وكانت أكثر العبارات كرهاً علي مسامع الفلسطينيين هي عبارات وتصريحات الرفض والشجب والاستنكار .

            لم يترك الحاج أبو حسن نشرة من نشرات الأخبار حتى استمع لها، وأشد ما كان يغضبه هو نتائج جلسات مجلس الأمن والشعور بالظلم في عدم التدخل لحماية الشعب الفلسطيني من إرهاب جيش الاحتلال ، ونتائج القمم العربية والإسلامية التي غالبا ما تتحول إلي منبر لتراشق الاتهامات وتبادل اللعنات والشتائم . كان على يقين بأن هنالك تجاهل مقصود اشترك فيه الجميع بهدف كسر إرادة وعزيمة هذا الشعب العظيم والعنيد والمكافح ، والنموذج الأرقى في الجهاد والتضحية والصبر والعطاء والمقاومة .

            كان الحاج أبو حسن يقول لخليل ومحمود وسامي وعدنان الأمل فيكم يا أبطال ، فجنين التي تأكلون من خيرها وتربيتم في أزقة مخيمها ارتوت بدماء الشيخ المجاهد عز الدين القسام ورفاقه في أحراش يعبد .

            هذه الانتفاضة هي تواصل لانتفاضة النبي موسى التي انطلقت من القدس ، وانتفاضة يافا ، وهبة البراق ، والخليل ، وتكملة لجهاد جدكم عبد القادر الحسيني والقسطل ،وانتفاضة الحجارة ، والنفق حتى الأقصى . عليكم أن تكونوا فساميين في خياركم ، فكل العالم يراقب صمودكم ، فأنتم جنود الوعد الآخر ، وأنتم الفئة المؤمنة التي مدحها رسول الله ( ص ) ، وأنتم أحباب الله ورسوله علي هذه الأرض المباركة والمقدسة .

            تصدر محمود وخليل قيادة المخيم والوقوف من خلف تنفيذ العمليات العسكرية والاستشهادية .

            فكانت قيادة دولة الاحتلال تري في مخيم جنين بؤرة انطلاق الاستشهاديين ، واستطاع المجاهدون من جنين علي قلة الإمكانيات المادية أن يحققوا توازن الرعب مع الدولة العبرية،حينها أجمعت قيادة العدو علي تنفيذ مذبحة همجية ومجزرة بشعة لهذا المخيم المكافح والبطل 0

            كان خليل ومحمود علي رأس قائمة المطلوبين للعدو ، الذين رأوا فيهم مهندسي العمليات ، فاستعد الصديقان بصحبة المقاومين بوحدة ميدانية رائعة وثقة إيمانية عالية بنصر الله ، لمواجهة أرتال الدبابات والمعدات العسكرية وآلاف الجنود المدججين بالسلاح .

            ذهب خليل لوداع أهله فقبل أمه وجبين سهام وأوصاها بأبنائها ، ثم ودع جدته ووقف أمام جده وقال :

            - لن أنسي وصيتك يا جدي وسنجعل من جنين قصة بطولية وأسطورة تاريخية تُحكي للأجيال . عانق الجد أبو حسن حفيده وتلميذه فقبله ودعا له ولصديقه والمجاهدين بالنصر.

            حضر محمود ببزته العسكرية ممتشقاً سلاحه ومتطوقاً بحزام ناسف على جسده ليودع أخته سهاماً وأولادها بعد أن ودع والديه وأهله ، شعرت سهام أن أخاها يودعها الوداع الأخير ، فظهر ملاكاً بصورة رجل ، مسح محمود دموع أخته سهام التي تأثرت من هذه اللحظات ، فناولها صندوقاً من الحلويات لتعطيه لأمه لتوزيعه إذا ما سمعت بخبر استشهاده ، وطلب منهم ألا يبكوه .

            أخرج محمود مصحفاً صغيراً من جيبه وتناول رصاصة من مخزن سلاحه ووضعها في يد الطفل الذي تحمله سهام وأوصاها أن تربي عليها أبنائها .

            توزع المجاهدون علي كل بوابات المخيم ، وانتشروا في أزقته ، فأقاموا الكمائن والخطط العسكرية ، وجهزوا أسلحتهم وعبواتهم الناسفة التي تم تصنيعها يدوياً وميدانياً ، وأعلن الجيش عن بدء المعركة .

            حلقت طائرات دولة الاحتلال في سماء المخيم ، وأخذت تلقي بحممها وصواريخها علي كل جسم متحرك في أي مكان منه وحاول الجيش اقتحامه مرات عديدة .

            طلب الجيش من سكان المخيم عبر مكبرات الصوت بالخروج منه كما طلب من المقاومين بتسليم أنفسهم ، فلم يخرج إلا عدد قليل من المرضي والأطفال وكبار السن والنساء .

            أقسم الحاج أبو حسن علي ألا يخرج من بيته بعد الهجرة حتى ولو دفن فيه .

            عمد الجيش علي قطع المياه والتيار الكهربائي ودخول سيارات الإسعاف والطواقم الطبية والمعونات.

            كان كل العالم يشارك جيش الاحتلال في ارتكاب جريمته وهو يراقب المجزرة القائمة دون أن يحرك ساكناً أو ينتصر ولو إعلامياً للشعب الأعزل ، الذي يقود ملحمة بطولية عظيمة ومعركة تاريخية أسطورية وغير متكافئة .

            اشتدت المحنة علي أهل المخيم الذين امتنعوا عن الحركة داخل بيوتهم ، فاقتصدوا في الطعام والشراب في محاولة لتحقيق الصمود والانتصار .

            أقام خليل مركزاً لقيادة المقاومة في أحد البيوت ، فأعد غرفة للتموين وثانية للسلاح وثالثة للتخطيط والرابعة لعلاج الجرحى ، وكان علي اتصال دائم بمعظم المجاهدين وتصله أخبارهم ، وتحركات الجيش عبر عيون تم توزيعها في كل الأزقة .

            وزع خليل أدوار أصحابه والمقاومين من شباب المخيم فكانوا يتبادلون الأدوار والمهمات والراحة ما أمكن لاستئناف المقاومة . كان يقول لأصحابه نحن أعددنا ما استطعنا من قوة وإمكانيات متاحة ولكن النصر من عند الله ، فعليكم بالتوكل و الذكر والقرآن حتى وسط المعركة .

            كان للصيام دور كبير في تسيير المعركة وإعداد المجاهدين والشوق للقاء الله والشهادة ، كما أنه كان حاجة للصمود لشحة الطعام والشراب .

            لم يتوقع جيش الاحتلال صموداً رائعاً كالذي واجهه في تلك الأيام ففي اليوم الأول أمطر المخيم بوابل من القذائف والصواريخ ، وهم الجيش باقتحام المخيم إلا أنه واجه قتالاً أسطورياً ، فأعطب المقاومون دبابتين وجرافة ضخمة ، واستولي الأبطال علي ثلاث بنادق رشاشة تركها الجيش الجبان لحظة تراجعه .

            لم تجد الأمهات وسيلة لتهدئة الأطفال الذين ارتجفوا من زخات الرصاص ودوي الطائرات وحركة الدبابات ولم يتمكن المجاهدون من نقل الجرحى وتقديم العلاج للمصابين اللذين بقوا ينزفون حتى الشهادة .

            تكررت عمليات الاقتحام للجيش وتكررت عمليات التصدي والصمود ، فدب الرعب في قلوب جنود الاحتلال حتى البكاء ، فتراجعوا جزعاً من حتمية الموت الذي شهدوه علي اثنين من جنودهم .

            وفي صباح اليوم الثاني قرر قادة جيش الاحتلال دخول المخيم ولو بمجزرة ، فحرقوا بيتاً وقتلوا كل من فيه من الأبرياء ، واستطاع عدنان قتل جندي ثالث وإصابة أربعة آخرين .

            بدأت المعركة مبكرة في فجر اليوم الثالث ، فتيمم خليل لقلة المياه التي انحصرت إلا للشرب وصلي الفجر ثم قصد التحرك لاستطلاع شوارع المخيم الذي كان يضج بالانفجارات ، فصادف في طريقه جثثاً ممزقة ومتفحمة .

            ولقد داست الدبابات والجرافات جدران البيوت في اليوم الرابع ، فهدمتها علي رؤوس ساكنيها .

            لم يهنأ جيش الاحتلال بخطوته التي رأي فيها جزءاً من خطته للسيطرة علي مخيم جنين ، حتى تزلزلت الأرض من تحت أقدامه ومعداته وآلاته العسكرية بفعل قافلة الشهداء التي تسابقت للقاء الله ونصرة شعبها ورفع هامته .

            وفي اليوم الخامس لم يرَ رئيس أركان الحرب بُداً إلا من الإشراف بنفسه علي المذبحة عبر طائرة عمودية حلّقت في سماء المخيم . كان يشهد بالعظمة لهؤلاء المقاتلين الذين لم يرَ أمثالهم في كل الحروب السابقة منذ قيام كيانهم مع دولٍ وجيوش ، واعترف قائد الحرب عبر الإعلام بشراسة المقاومة التي خلّفت ثلاثة قتلي آخرين من صفوفه وأدرك عواقب الانسحاب وانعكاسها علي مصير جيشه أمام عناد المجاهدين ، فقرر التواصل في المعركة .

            كانت الاشتباكات متواصلة علي مر الساعات ، استهجن رئيس الوزراء الصهيونى الأنباء التي يتلقاها ، فأصر في اليوم السادس أن يستطلع المعركة بنفسه .

            منع جيش الاحتلال إدخال الطواقم الطبية للمخيم وسيارات الصليب ، وحتى إمداد الأهالي باليسير من الضروريات المعيشية والطبية ، واستطاع جيش الاحتلال اقتحام أجزاء من المخيم الأمر الذي زاد من إصرار المقاومين علي التصدي .

            استبسل أحفاد الجد أبي حسن في المعركة ، كان سامي يتطوق كما محمود بحزام ناسف ، وخلال المقاومة أصيب بشظايا قذيفة أقعدته ، أسرع عدنان لإسعافه فرفض ، قبَّل سامي أخاه مودعاً وأوصاه بالسلام علي أمه وأهله وجده ، أصر سامي علي عدنان لتركه ، ليستقبل بجسده قوات الاحتلال التي تقترب منه داخل المخيم ، ابتسم سامي لهذا القدر ، وحين وصولهم ذكر الله وكبر ثم تفخَّر فيهم ، فقتل جنديين وأصاب ثمانية آخرون ، فأعاق زحف الآليات العسكرية لقلب المخيم .

            تعاهد المقاومون علي الشهادة في اليوم السابع من الحصار بعد أن قاربت ذخيرتهم والطعام والشراب علي النفاذ فأعلنوا النفير تصدياً للاحتلال و تفاجأ المقاومون بعدد من النساء والشيوخ والأطفال اللذين أرغموا علي الخروج من المخيم جوعاً وعطشاً ، فاستخدمهم جيش الاحتلال كدروع بشرية ، ليستر بهم جبنه ويحمي بهم نفسه .

            علم خليل ومحمود بحصار جيش الاحتلال لمجموعة مقاتلة اُستُنفدَت ذخيرتها في أحد البيوت ، فخرج بمعية أصحابه لإنقاذهم ، دخل خليل ومحمود معركة بطولية مُشَرِّفة دامت ساعات من الاشتباكات وتبادل لإطلاق النار الكثيف ، فاستعان الجيش بالطائرات العمودية التي غطت المنطقة بالصواريخ ، فاستطاعوا محاصرة البيت واعتقال المقاومين الستة الذين كانوا بداخله .

            جَّرد الجيش المقاتلين من ملابسهم أمام أعين الأهالي الذين احتمي بهم ، ووضعهم صفاً واحداً مقيدي الأيدي ومعصوبي الأعين ثم أطلق النار علي رؤوسهم وصدورهم فمزقهم علي مرأى الأمهات . اشتد الخناق في اليوم الثامن علي المجاهدين ، فنحفت أجسادهم من الجوع والعطش واصفرت وجوهم من السهر والتعب ، ولم يتبق في جعبتهم إلا القليل من الأسلحة ، فأوصي خليل المقاومين بالدقة في إصابة الهدف وعدم استهلاك الذخائر إلا في جسد العدو. تقدم جيش الاحتلال في قلب المخيم الذي تحول إلي ساحة واسعة من الركام ، و

            نفدت الذخيرة من محمود ولم يَتبق إلا الحزام الناسف علي جسده ، فأبي الاستسلام الذي سيعيده للسجن مرة ثانية ، كان يدرك أن الجيش سوف يقصد بيته في محاولة لاعتقاله ، فأقسم أن يلقنهم درساً لن ينسوه، قبَّل محمود خليل مودعاً إياه وأوصاه بنفسه والمناضلين وبأخته سهام وأبنائها ، وتواعدا علي اللقاء علي حوض الرسول ( ص ) في الجنة ، تعانق الصاحبان بحرارة ودموع .

            كان محمود سعيداً بأمنية الشهادة وكأنه يري مكانه في الجنة ، ويستعجل تلك اللحظة ليرتقي إلي العُلى مسجلاً لشعبه صفحة ناصعة وجميلة ومشرفة في التاريخ .

            توغل الجيش في قلب المخيم الذي داهم المطلوبين وكان يقترب من بيت محمود الذي تحصن فيه ، فوصل لأطراف المنزل عشرات الجنود ،ففاجئهم محمود ورفاقه بوابل من الرصاص والعبوات ، فعلا صراخهم وعويلهم واستجدائهم للبقاء على حياتهم دون جدوى ، فاعترف جيش الاحتلال بمقتل ثلاثة عشر جندياً وأصابة تسعة آخرين بجروح متفاوتة .

            أصيب جيش الاحتلال بالهلع والخوف وتحولت كل الأرض من تحت أقدامهم لبركان يغلي غضباً وشعروا أن الموت يطاردهم في كل مكان ، فلم يشعروا بأمنهم في مواقعهم وبرهم وبحرهم ومستوطناتهم ، وفي الحافلات والأسواق والملاهي وفي كل مكان

            بدأت الطائرات بإلقاء حممها على مناطق التماس مع جيش الاحتلال التى يتصدرها محمود ،شاهد المجاهدون محمود على بعد أمتار منهم فى محاولة منه بتكبيدهم خسائر أخرى، وإذا بقناص يطلق عليه الرصاص مستهدفاً العبوة التى كان يحملها ....فانفجرت .... وتبعثر جسده الطاهر فى كل الاتجاهات يُشْهِِد العالم أجمع على صدقه وإخلاصه وبطولة وجرأة وتضحيات الشعب الفلسطيني على قلة إمكانياته .

            علم خليل باستشهاد صديقه محمود وفي اليوم التاسع من حصار المخيم قاتل قتالاً شرساً، وأقسم أن يخلص لدمه ، فاستنفر أبطال المخيم في معركة متواصلة وحاسمة .

            دخل جيش الاحتلال وسط المخيم فهدموا بيت الحاج أبي حسن والمنطقة المحيطة به ، فتحول المخيم إلي ساحة مدمرة.

            واجه خليل ورفاقه أرتال الدبابات والجرفات واستطاعوا قتل جنديين في ذلك اليوم ، وفي نهاية اليوم التاسع

            حاصر جيش الاحتلال مجموعة من المجاهدين الذين أبلوا وأبدعوا فى القتال طوال المعركة وقبلها واعتقلتهم

            انسحب جيش الاحتلال من المخيم بعد أن ارتكب في حق الأبرياء جريمة تقشعر لها الأبدان ، ومذبحة تعبر عن جيش فاقد لأدني الأخلاق العسكرية والإنسانية ويمثل دولة قائمة علي الظلم والإرهاب والفساد والتخريب .

            انتصر أبطال المخيم علي جيش الاحتلال وترسانته العسكرية ،وعلي الجوع والعطش والتعب .

            كانوا عمالقة في نضالهم ، وعظماء في تحديهم وأبطال في صمودهم وكبريائهم وتضحياتهم.

            دخلت وسائل الإعلام ونقلت آثار الجريمة وكأن المخيم تعرض لزلزال قوي فدمره ، وقلبه رأساً علي عقب ، وكانت رائحة الموت تنبعث من عشرات الجثث الملقاة في الشوارع والأزقة . سارع أهل المخيم لمحاولات إنقاذ الأحياء من تحت أنقاض البيوت المدمرة .

            كان خليل علي يقين بأن جده لن يخرج من بيته ثانية لا لحيفا ، فتأكد بوجوده تحت الأنقاض ، تعاون شباب المخيم بآليات بسيطة في محاولة لإنقاذ الحاج أبي حسن من بين الركام والجدران المهدمة . أُغميً علي الحاجة أم حسن التي لم تتحمل الخبر ، ولم تتوقع ما حدث ، فنقلوها بصحبة ابنتها فاطمة إلي المستشفى ، كانت نعمة بحالة نفسية صعبة ، حيث خبر استشهاد ابنها سامي ، وفقدان والدها تحت الركام ، وإغماء أمها ونقلها إلي المستشفى .

            أخذ خليل يرفع الركام بيديه ، ولم يتطلع لشيء سوي إنقاذ جده الأحب إلي قلبه ، فاستطاع بصحبة الأهالي إحداث حفرة بين الجدران المهدمة ، نادى خليل علي جده من الشقوق ، فلم يسمع ما يطمئنه ، لم يشعر باليأس وظن أن الجد أصابه الإرهاق والتعب من الجوع والعطش ، فواصل مع الأهالي إزالة الركام حتى تمكن من النزول بنفسه وسط الغرفة المظلمة ، فعثر علي جده الذي لم يتكلم ، رفع يده وتركها فسقطت ، ثم وضع أذنيه علي صدره فلم يشعر بحراك ، فتناول يده وفحص نبضه فتأكد أنه ما زال علي قيد الحياة .

            رفع خليل جده بين ذراعيه بمساعدة الأهالي ونقلوه علي وجه السرعة إلي المستشفى ، طمأن الطبيب خليل علي جده الذي توقع معافاته بعد ساعات ، فبقي بجانبه حتى بدأ بالهمس ثم فتح عينيه .

            لم يترك خليل زوجته سهام في مصيبتها والتي بكت أخاها بكاءً مُراً كلما تذكرت لحظات وداعه وكلماته .

            - وَاسَى خليل زوجته وقال : مثل محمود لا يُبكَي يا سهام أخوك بطل وقليل أمثاله ، فيا ليتني وأبنائي وكل الشعب مثل محمود ، إذا كان لابد من البكاء ، فيكون علي الجبناء والمتخاذلين والشعوب النائمة والأمة التي ماتت .

            لن ننسي محموداً الذي وهبني إياك ودبًّ في قلبي الحياة ، وسأبقي أتذكره في كل اللحظات.

            و لم يمر أسبوع علي مجزرة المخيم حتى أعلن خليل بنفسه المسئولية عن العملية الاستشهادية التي نفذها فدائي بطل من مخيم جنين وأسفرت عن مقتل عدد من الجنود رداً علي المذبحة وعلي استشهاد صديقه محمود.

            نفذ أبطال جنين العمليات العسكرية بعد احتلال المخيم الذي لم ينكسر ، فبقوا مثلاً رائعاً في التحدي والتضحية .

            وصمد الشعب الفلسطيني فى انتفاضة الأقصى خمسة أعوام متتالية من القتال والمقاومة سبقتها عشرات السنين بلا كلل أو ملل، وشارك فى التضحية بوحدة ميدانية مشرَفة المواطن والعامل والموظف والفلاح والطالب والمتعلم والمثقف والأمي والتاجر والصانع ،وكل الفصائل الوطنية والإسلامية وأذرعها العسكرية، والسلطة الوطنية الفلسطينية وكل الأجهزة الأمنية ، وقدَّم كل الشعب الفلسطيني وما زال يقدم الشهداء والأسرى والجرحى ، واستطاع أن يحرر أرضاً محتلة ويُزيل مستوطنات صهيونية بقوة السلاح على أطراف مخيم جنين وقطاع غزة ، فنُكس العلم الإسرائيلي بأيادي صهيونية بعد أن خربوا - بتوفيق الله - بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ،وفى يوم الاثنين فى الثاني عشر من سبتمبر 2005م - في الثامن من شعبان 1426هجرى تم تحرير قطاع غزة ، ورُفع العلم الفلسطيني فوق المناطق المحررة ، ودخل عشرات الآلاف من الأهالي المستوطنات المحررة بالزغاريد ، وإطلاق النار، والهتافات ورفع صور الشهداء والأسرى مستذكرين كل الدماء التى سالت على أطرافها وقلبها ،ونقَل كل العالم عبر إعلامه إنجاز الشعب الفلسطيني بعد سيل من الدماء والصبر والصمود والتحدي .

            مرت الأيام علي خليل الذي وهب حياته للجهاد والمقاومة ، وفي إحدى الليالي عاد لبيته فرأي جده العجوز أبا حسن يلاعب أطفاله ويرسم لهم خارطة الوطن ويقول :

            هذه حيفا ، وهذا مفتاح بيتنا فيها ، وهذه الأوراق تثبت ملكيتنا لعشرات الدونمات لحقولها وبساتينها ، وهي أمانة في أعناقكم ، ولن تعود إلا بهاذين ... وأشار بأصابعه التي ترتجف ... إلي القرآن والرصاصة التي أهداها محمود قبل استشهاده إلي أطفال أخته سهام ، فسُعِدَ خليل بوصايا جده الذي لم يتعب ، وتقدم نحو الباب بخطوات فسأله الجد :

            - إلى أين يا خليل؟

            - فأجاب بعزة وفخر :لازلنا في بداية الطريق يا جدي، فلا زالت القدس و كل الضفة محتلة 0

            - استنكر الجد إجابة حفيده وقال :

            - أيضاً عسقلان ويافا وحيفا والجليل والنقب يا بني ، فهذه حتمية قرآنية وإن لم نكون نحن جنودها فإن شاء الله أبناءك أو أبنائهم .

            - ابتسم خليل في وجه جده وقال :

            - لن ننسَ وصاياك يا جدي ، ثم امتشق سلاحه وذهب.

            انتهت بحمد لله - سجن نفحه الصحراوي - طبعة ثانية 2005م

            [mark=FF0000]انتهى الجزء الثالث والأخير من رواية عاشق من جنين[/mark]

            موضوع عن قصص الجواسيس العرب واحدات مهمة ارجو المتابعة
            22:2

            تعليق


            • #7
              بارك الله بك اختي

              وإني لمشتاقٌ إلى أرض غـزة وإن خانني بعد التفرق كتماني . .
              سقى الله أرضاً لو ظفرت بتربه كحلت به من شدة الشوق أجفاني

              تعليق


              • #8
                السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
                بارك الله فيكي اخيتي
                الموضوع مكرر

                تعليق


                • #9
                  بارك الله بك أختي الكريمه علي هذا النقل
                  ولي عوده لقرآءه الروايه بتمعن إن شاء الله تعالي
                  اشتاقت الأرض لضم الأجساد ، وزادت غربة المؤمنين في البلاد ، وظهر الفساد وكأن مسيلمة وعهد الردة قد عاد

                  ولكن يبقى للحق صولة والباطل سيباد ، لا كما نريد ولكن كما الله عز وجل أراد.

                  تعليق


                  • #10
                    جزيتي خيرا اختي في الله انا قرات هذه الروايه في سجون الاحتلال وهي روايه ممتعه جدا

                    تعليق


                    • #11
                      بارك الله فيك اختي
                      راياتنا سود ..... ولا نهاب اليهود ...... في سبيل الله نجود ..... بإرداة وصمود ...... جيشنا الجبار نقود ...... نسعى لإزالة إسرائيل من الوجود .... . نحن جند السرايا الأسود .......

                      تعليق


                      • #12
                        المشاركة الأصلية بواسطة الوفاء للاسرى مشاهدة المشاركة
                        السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
                        بارك الله فيكي اخيتي
                        الموضوع مكرر
                        بارك الله فيكي علي نقل الموضوع الي هنا


                        واما بالنسبة ان الموضوع مكرر فربما سبق ان تم نشرها في اروقة المنتدي ولكن قبل فترة طويلة


                        لم اجدها يوما منشورة هنا


                        واساسا القصة ما ممكن تموت او يمل الواحد من قراتها فكلما نشرت زاد عدد قرائها
                        موضوع عن قصص الجواسيس العرب واحدات مهمة ارجو المتابعة
                        22:2

                        تعليق


                        • #13
                          بارك الله فيكى اختى الكريمة وتحياتى لمجهودك الطيب







                          هــــتـــــلـــــر فـــــلـــــســـــطـــــيـــــن
                          أبـــــو مـــــازن

                          تعليق

                          يعمل...
                          X