روايه عاشق من جنين
من أدب السجون
رواية عاشق من جنين
تأليف
رأفت حمدونة
سجن نفحه الصحراوى
إهـــــداء
إلى الذين رووا بدمائهم الزكية ثرى هذا الوطن الغالي. .. شهداء وأسرى وجرحى ومقاومة حتى تحرير كل فلسطين ...إلى أهلنا في جنين … إلى أخواتي وإخواني الأبطال خلف القضبان …و إلى والدي ووالدتي الأوفياء ... و زوجتي المخلصة ... و إلى كافة أبناء شعبي الفلسطيني … أقدم هذا العمل المتواضع
كان يوم ميلاده في ظروف صعبة ، كان أبوه مولعاً به وعندما يضيق به الحال يقول له مازحاً
- تذكرني بدخول البريطاني إلى القدس يا خليل 0
كان خليل يتأثر بهذه المقولة ، رغم أنه يدرك أنها ليست من قلب أبيه ، فتربي وهو يكره البريطاني الذي ألصق به هذا التشاؤم ، وحينما أصبح يافعاً قوياً كان يسمع من الناس أن هنالك شيخاً جليلاً أسمه عز الدين القسام يخطب في مسجد الاستقلال على مسافة غير بعيدة من منزله .
تعلق خليل بالشيخ وأحبه ، فداوم على دروس الشيخ بعد صلاة العصر ، في ذاك المسجد الذي كان يعج بالمصلين من حيفا ومناطق مجاورة في جنين .
كان خليل يتربي علي خطب الشيخ المجاهد الذي طالب الناس بالجهاد ورأي فيه فريضة كالصلاة والصوم ، كان على يقين بأنه لا مفر من محاربة البريطانيين وأعوانهم ، فطلب من الناس جهراً شراء السلاح والتدرب عليه .
انبهر خليل حينما رأى الشيخ المجاهد في إحدى الخطب وهو يرفع سلاحه أمام المصلين ويقول :
- من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقتن مثل هذا ،هؤلاء البريطانيون يتعمدون إضعاف قدراتكم المعيشية ، ويعرقلون سير تجارتكم ، حتى تكسد محاصيلكم ، ولا ترون في فلاحة الأرض شيئاً مجدياً فتتركونها أو تبيعونها ليستوطنها اليهود .
أيها الناس عليكم بشراء السلاح وإخفاءه ، فالبريطانيون يحرمون عليكم اقتناء السلاح ، في حين أنه يَعِدْ اليهود بوطن على أرضنا ، ويمدهم بالسلاح .
هاهم يلاحقوننا في كل شئ ، في استقرارنا ورزقنا وأرضينا ومستقبلنا .
كان خليل يُصنع علي عينىْ الشيخ ، ويتمني لو كان من صحبه المجاهدين ، الذين خرجوا لنصرة الدين والوطن في قضاء الناصرة ، كان يحلم بالخروج معهم إلي أحراش يعبد في جنين ، غير أن هذا الأمل تبدد حينما حوصر القسام واستشهد مع إخوانه .
تعلم خليل معني الصمود من هذه المعركة التي خاضها الشيخ ، واستمرت من الصباح حتى العصر وامتلأ قلبه حباً حينما رأى الجماهير المهيبة في حيفا وهي تهلل مكبرة في موكب الجنازة ، و استطاع أن يلمس جثة الشهيد ، وأقسم ألا ينساه ، لم تكن الأيام طويلة ، حتى دخل كل الشعب في انتفاضته التي دامت ثلاثة سنوات ، لم يضع خليل رأسه على الوسادة ، حتى يتذكر موكب الشهيد فيقبل يديه اللتين لمستهما .أيام كثيرة كانت تمر عليه وهو يراقب حركة الجنود البريطانيين ، وأخيراً حدد هدفه لجندي اعتاد أن يرتاد إحدى الحانات في المدينة ، فشرب الخمر حتى الثمالة ، ثم يعود للبناية العسكرية التي كان يقطنها ، في ساعة متأخرة من الليل ،حينها عزم أن ينتقم ، وفي إحدى الليالي استل سكينه وانتظر ثم اقترب من الجندي وطعنه في الصدر ، فصرخ طالباً النجدة ، فانتبه له أحد الجنود الذي أطلق النار باتجاه خليل الذي اختطف بندقية الجندي وهرب .
تحامل خليل على ألمه وواصل طريقه وهو مصاب ، وعلى جناح من السرعة انتشرت الدوريات البريطانية تجوب أنحاء المنطقة ومنعت التجوال فيها .
فاضطر أن يلتجئ إلى أحد البيوت للحماية ، وتضميد الجرح النازف ، فطرق باب بيت مستور في زقاق ضيق ، ففتحت له ابنة صاحب البيت .
رأته الفتاة فأشفقت عليه ، وهرعت إلي والدها وهي ترتجف خوفا من حالة الشاب المصاب .
تعرف صاحب البيت على خليل وعلم بقصته ، فأخفى قطعة السلاح وباشر بعلاجه وبعث من يطمئن أهله عليه . وبعد أيام تشافى من جرحه ، وهدأت البلدة من جنود البريطانيين الذين فقدوا جندياً وقطعة سلاح .
تعرف خليل على عائشة التي ساعدت والدها في حمايته وعلاجه ، فكان مديناً لها بوقفتها إلي جانبه ، في حين أنها رأت في خليل البطل والمناضل .
وحينما عاد إلي بيته معافى بقى يحمل في قلبه لعائشة حباً كبيراً وذاكرة جميلة ، كان يشعر بالفضل لهذه الفتاة وأهلها فأحبهم وأحبوه ، واحترموا بطولته وشجاعته .
احتفظ خليل بقطعة السلاح التي رأي فيها رمز نصره ، واحتفظ في قلبه لعائشة مكانة كبيرة كان يفكر فيها ليل نهار ويسرح بابتسامتها المعبرة ولم ينتظر الكثير ليطلب من والديه الارتباط بها ، لم يفكر الوالدان الكثير في طلب عائشة فقد رأيا فيها وفي أهلها خير ونسب وزوجة صالحة لابنهم ، وبعد أشهر تزوج خليل من عائشة ، وتعاون المحبان على قهر صعوبة الحياة ومن ثم رزقهما الله بحسن وعبد الله وفاطمة ونعمة .
شعر أبو حسن ككل أهل فلسطين بالمؤامرة ، فقبل النكبة تخلت بريطانيا عن الانتداب في فلسطين ، وتبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة فرار التقسيم المجحف ، فسحبت بريطانيا قواتها قبل انتهاء الانتداب من المناطق اليهودية والتي أرادتها لليهود ، وتركت العرب تحت رحمة المنظمات العسكرية الصهيونية كالهاغانا والإيتسل والأرغون ليباشروا فظائعهم ، فقتلوا ودمروا وحرقوا وأرعبوا وأرهبوا المواطنين الأبرياء والعزل في يافا والقسطل ودير ياسين ، وبادوا قتلاً وذبحاً وتمثيلاً بالجثث ودفناً للأحياء وبقراً لبطون الأمهات الحوامل .
كان أبو حسن على يقين بأن هناك مشروعاً بريطانياً صهيونياً كبيراً ، حتى وقع ما كان يخشاه ، فأعلن الصهاينة إقامة دولة اليهود في فلسطين ، وكانت الهزيمة الساحقة حينما دخلت الجيوش العربية للتحرير دون جدوى ، رحل ما يزيد عن مليون لاجئ فلسطيني من منازلهم ومدنهم وقراهم ، فكانوا عرضة لحر الصيف القاسي ، ولبرد الشتاء القارس ، وللأمراض الفتاكة والقاتلة ، عاشوا حياة البؤس والفاقة وتحولوا من ملاك أراضي أغنياء ، إلي فلاحين أجراء فقراء يكتفون بلقمة العيش .
كانت أعظم مصيبة على أبي حسن ، يوم أن رحل من أرضه عنوة إلي جنين ، كما رحل غيره من مدن وقرى فلسطين للضفة الغربية وقطاع غزة وخارج الوطن ، حينها شعر بما أحل به وبأهله بسبب التخاذل ، لم تغف عيون أبى حسن منذ هجرته حتى يحلم بالعودة لبلده وبيته ومسقط رأسه ، وذكريات الطفولة .
استقبل الفلسطينيون أفواجاً من المهاجرين ، وتقاسموا معهم البيت والملبس وقطعة الخبز ، وبقي مئات الآلاف بدون مأوى فاشتد عليهم الكرب ، وانتشر المرض بين الأطفال والشيوخ ، زاد هم أبي حسن وزوجته حينما عجز عن تقديم أى شيئ لابنهما عبد الله ، الذي أصيب بالحمى ، لم يتصور أبو حسن أنه قادر على تحمل المزيد من المصائب حتى فقد ابنه وهو على صدره وبين ذراعيه .
كانت مصيبته أقل من الأم ، التي فقدت أحد أبنائها خلال التهجير ، ولا زالت في حيرة من معرفة مصيره .
تسلم أبو حسن خيمة بدلا من بيته الذي سكنه مستوطن يهودي أتى من خارج الوطن ، وعمل أبو حسن أجيراً كفلاح يتنقل من جبل إلي جبل ومن حقل إلي حقل .
لقد رضي أبو حسن برزقه على صعوبته ، وزرع في قلب أبنائه حب الوطن ، والحنين للعودة ، ومآسي الإبعاد مع كل بذرة قمح وجني حبة زيتون .
مرت السنون على أبي حسن مرة كالعلقم ، ولم يتبق الحال على ما هو عليه بل ازداد الوضع سوءا ، فمرت الأمة من نكبة إلي نكسة ، ومن هزيمة إلي أخرى .
كانت أوضاع اللاجئين صعبة ، في حين تعاظمت دولة اليهود بعد إقرار الهدنة بين الأنظمة العربية من دول الجوار واليهود وتم حفظ أمن حدود الدولة الجديدة من جهاد المتطوعين ، ونضال الفدائيين .
قويت دولة اليهود بعد حرب الأيام الستة التي أنتصر فيها اليهود انتصارات ساحقة ، فتوسعت رقعة الاحتلال ، وعسكر اليهود على قناة السويس ، وأطبق المحتل احتلاله الكامل على كل فلسطين والجولان . تقدم أبو حسن في السن ، وانتشر الشيب في لحيته ورأسه ، فربي وعلم أبناءه بالعرق والدم والتعب والسهر ، فكانت حياته قاسية وصعبة ومؤلمة ، ولم يشعر بالراحة حتى تزوج أبناؤه ، تمنى أبو حسن لو أن أحداً من أبنائه حمل هم ثورته وتاريخ هجرته ومعاناته ، إلا أن حسناً لم يشبه أباه ، فكان يميل للمزاح والتعاطي مع الظروف والعيش في هذه الحياة على ما هو عليه ، ففي الوقت الذي كان فيه أبوه يلعن ويبصق ويحلل ويعلق على نشرات الأخبار ، كان حسن يقلب الموقف إلي مسرحية ، ويغلب على حياته الاستهتار . كان أبو حسن يستبشر عند كل مولود لزوجة ابنه وينتظر أول مولود بعد ثلاث بنات ، ويحلم وهو يربيه على يديه ويقص عليه بطولاته هو في ريعان شبابه ، ويزرع فيه حب الوطن والأمل في العودة . تحقق حلم أبى حسن مع لحظة بطولات الفدائيين في معركة الكرامة ، التي كانت الانتصار الأول على دولة اليهود بعد هزائم متواصلة . كان شديد الفرح وهو يحمل حفيده الأول وحمله الذي تأخر ، أسرعت أم حسن بتسمية الطفل على اسم جده الذي أعجبته المبادرة ، وفرح الجد بالمولود فرحته بانتصار الكرامة .
كان أبو حسن يقضي معظم وقته مع خليل الصغير ، فأطعمه وسقاه ، واصطحبه للمسجد وأجلسه بجانبه وهو يستذكر مع أصحابه ذكريات الحياة ، استطاع الجد أن يوجد لنفسه ظروفا معيشية بسيطة وجميلة ، ويضع على رأسه طاقية منسوجة من الصوف ، يكره كل أشكال التمدن ، فكان يضيء السراج في الليل ، ويستمع إلى كل نشرات الأخبار في مواعيدها ، رغم أنه لا يملك ساعة يد ، ولا يوجد في بيته أي جهاز كهربائي ، ومذياعه يعمل على البطاريات ، كان يضع في جيبه علبة تبغ من الحديد ودفتر عربي وقداحة يدوية بفتيل ، أجمل ما في بيت الجد كانت الحاكورة المزروعة بالخضار والتي فيها مكان لتربية الطيور والماشية ، وفرن من الطين وتزينها أشجار الفواكه ، وعلي طرف الحاكورة عريشة من جريد النخل وزير مليء بالماء البارد الصافي العذب ، بيته مليء بالسعادة ولا يخلو من الزائرين والجيران والأقارب والأولاد والأحفاد .
لم يعرف أبو حسن المرض طيلة حياته ، رغم أنه شارف علي الثمانين ، يكره شيئاً اسمه مستشفي أو إبرة أو طبيب ، ولا يذهب إليه . نجح حسن في عمله كتاجر في سوق المخيم ، ومع هذا لم يبتعد عن والديه ، فسكن في بيت جميل مليء بالأدوات الكهربائية والأثاث ، دوماً كان يتردد على البيت المتواضع الذي تربي فيه والذي يستحضر بداخله كل ذكريات الطفولة الجميلة ، يشتاق لخبز أمه الساخن وصحن اللبن وكوب الشاي الذي تم غليه على الحطب ويذهب ليقتطف بيديه من الحاكورة حبات الطماطم ، ومن حين لآخر كان يتناول الماء من القلة الفخارية ، آثر حسن إرضاء والديه بدفع تكاليف الحج لأنه أقنع نفسه بعدم القدرة على دفع تكاليف الجهاد والمقاومة ، امتلأ بيت الحاج أبى حسن بالمهنئين عند عودته والحاجة أم حسن من الحج ، كان يحدث الزائرين بإعجاب وخشية عن الكعبة والحرم ، وقبر الرسول ( ص ) ومسجده ، وعن عظمة الوقوف على جبل عرفة ، وأجمل شعور يراوده هو الارتباط الروحي الوثيق بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى .
كان خليل يحب اللعب مع جده الذي منحه مزيداً من الحب والحنان والعطف فيقترب الجد من وجهه ليقبله فيتهرب ويقول له : تشوكني لحيتك يا جدي ، فيتعمد الجد إرضاء الطفل ويطلب من أم حسن أدوات الحلاقة ، فتغلي له الماء ، وتحضر له صابون يد عادي ، وفرشاة منتوفة صفراء قديمة ، وماكنة حلاقة مزركشة لا يقل عمرها عن عشرين عام ، كان يساعده في الحلاقة حفيده أحمد ابن بنته فاطمة ، وعندما ينتهي من الحلاقة ، ينظر لنفسه في المرآة ويقول له : هل تعرف فتاتين في التوجيهي يا سيدي ؟ فيرد أحمد أعرف ، ولكن لماذا ؟ فيقول الجد : واحدة لي والأخرى لك .
تعليق