هنادي تيسير جرادات
شمس فلسطين
إلى روح الشهيد
المعلم فتحي الشقاقي فىالذكرى الثامنة لاستشهاده
إلي أرواح شهداء فلسطين والأمة
إلى جينين ...القسام ...وطوالبة ... وجرادات
إلى المخيم
تمهيد
في لحظة من لحظات الموت. اقتحم الغزاة جنين.. وراحوا كالمجانين يقتحمون البيوت يلاحقون الجدران والبشر.. في لحظة.. كان باب المنزل يخلع.. ويدخل الغزاة.. في زاوية من زواياه كان فادي شقيق البطلة هنادي.. في يده كأس من الشاي.. هنادي كانت قرب الباب ترفع يدها وصوتها لتدفع الموت عن أخيها.. لكن الدم البارد صوّب الرشاش إلى صدر فادي وأطلق.. رصاصة عشرة.. أفرغ المخزن وسقط الكأس واختلط شاي الفقراء بدمائهم.. أي وحشية وإرهاب.. أي مخلوقات أنتم؟
الصبر الصبر فكم قتلتم.. عدّوا الضحايا الأبرياء وموعدنا قريب قريب بإذن الله.. بكت.. صرخت وضغطت أسنانها على بعضها.. حضنت أخاها.. امتزج دمه بدموعها.. لكن يدها راحت تمسك الكأس التي كان يشرب منها مسكتها بيدها ضغطت عليها بقوة غير معهودة..
أتدرون ماذا جرى للكأس، تحطمت نتفاً في كفها واخترقت الشظايا الأصابع.. عشرات الجروح الصغيرة والكبيرة تناثرت في اليد ومرة أخرى نزف الدم.. نزف حتى صرخ.. إن موعدنا الصبح أليس الصبح بقريب .
بين عرس وعرس، كما هو الحال بين عروس وعروس، كما هو الحال بين ثوب بشري وثوب ملائكي..
ليلة عرسها الاستشهادي جلست مع شقيقتها فادية وبعض أفراد أسرتها.. تحدثن عن زفاف شقيقتهما الثالثة.. عشرة أيام فاصلة بين تلك الليلة ويوم زفاف شقيقتها. شعب فلسطين.. هذا هو شعب فلسطين من رحم الموت يولد كل لحظة.. وفي جحيم الاحتلال تزف الفتيات ويُزف الشبان ليقلبوا حقد الغزاة إلى مرارة وشوكة في حلوقهم.. يتوالدون يتكاثرون «فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة».
مبروك عليك.. يرعاك الرحمن برعايته.. بالرفاه والبنين بالجيل الجهادي بعد جيل.. طال السهر.. في الصباح كان عرس آخر ينتظر هنادي.. قال والدها قومي يا بنتي اخلدي للنوم.. نعم، ولكن بعد أن أتم قراءة الجزء الأخير من القرآن.. بعد أن تشبع الروح من زادها لوحشة الدرب وبعد السفر.
خرجت حوالي السابعة والنصف صباحاً من المنزل.. لم تودع أحداً.. لم يبد عليها أنها عازمة على فعلٍ ما.. ظن الجميع أنها ذاهبة إلى المكتب الذي تعمل فيه..
الرابع من تشرين أول 2003 الثامن من شعبان.. خرجت صائمة مستبشرة بالفوز.. أتدرون لماذا كانت صائمة؟ ليس في جوفها من متاع الدنيا ما يؤخر عرسها الإلهي.. علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمنا أنه كان أكثر ما يصوم في النصف الأول من شعبان.
علمتها مدرسة الإسلام أن أعظم غزوة قادها إمام المجاهدين وهي غزوة بدر كان فيها صائماً، وعلمتها أن معركة عين جالوت كانت في رمضان.. وكثير من معارك الإسلام خاضها المجاهدون وهم صائمون..
أليس في ذلك سر رباني؟ نعم ما أجمل أن يكون المجاهد متخلصاً من أدران الدنيا حتى يستقبل ربه صافياً نقياً.. أليس الصوم لله وهو يجزي عليه؟ أليس دعاء الصائم بألف دعاء؟ انطلقت نحو الغزاة حملت على جسدها الموت للقتلة والفاسدين المفسدين الغاصبين..
على باب مطعم الوحوش الذين جاؤوا لالتهام وجباتهم بعد التهام وطننا، حاول حارس أن يوقف مشروع الشهادة ولم يدر أن العاشقة الجهادية كانت على موعد مع ملائكة الرحمن.. احتاروا في فهم الحدث.. ذهلوا.. صعقوا.. تعددت رواياتهم.. قال قائل منهم: إن الفدائية حدقت في عين الحارس وعالجته!! أي علاج وأي قول سوى: خسئتَ أن توقف الزحف.. فخذها من يد لا شُلت ولا عدمت.. خذها رصاصة رحمة قبل أن يودي بك الزلزال إلى نتف من الجسد الذي تربى على دم الشعب المظلوم.. ودخلت.. كانت ملائكة الجنان ترفرف فوق المكان.. أجنحة نورانية تغطي الأفق وتراتيل سماوية لا يسمعها إلا هي.. رأتها.. سمعتها.. حملتها.. صارت هناك بعيداً في عالم سرمدي..
وبين لحظة الانعتاق ولحظة وداع الجسد حدث الزلزال.. وزُفت هنادي إلى ملكوت ربها تحفها الملائكة في دائرة نورانية تخترق الأفق سريعاً حيث لا ألم ولا حزن حيث لا يزاحم أحدٌ أحداً.. حيث جنة عرضها السماوات والأرض.. مع الأنبياء والشهداء والصديقين إن شاء الله.
تعجز الكلمات.. يسكت الكلام سرّه ومباحه.. تخجل العيون وأنى لها أن تختبئ.. بنتٌ بمئة رجل.. برتقالةٌ تعلو قامتها فوق السّرو والحور.. إنها ثمرة فلسطين.. من بين دفتي المصحف تدفقت نوراً فيبصر الرجال سبيل فلسطين.
«أمجنونة» هي…؟ «أتنتحر» وتخسر مدرسة الكلام والقضاء…؟ أم يائسة تلبسها الهم والغم…؟ فتخلصت من عبء ثقيل يكاد يهدها؟..
هنادي جرادات وأي اسم قدري منحها الله. ألستِ المهند المصقول الذي لا يخطئ هدفه…؟ في قمة الوعي والمعرفة… إقدام عجز عنه رجال الرجال… لا يأس ولا خَوَر لا هم سوى هم الأقصى وتراب الأرض المباركة… لا غم سوى غم رؤية جنود قتلة الأنبياء يجوبون طرقات فلسطين… كيف يصح هذا وهذه الأزقة والحارات والشوارع محرمة إلا على أصحابها؟..
هنادي جرادات..
شهادة برائحة المسك!!
لا أريد أن أرى دموعاً!!
".. لا أريد أن يبكي أحد على هنادي..
فهي رفعت اسم فلسطين عاليا..
أرجوكم.. لا أريد أن أسمع بكاءً
أو أن أرى دموعاً في بيتي"
تيسير جرادات
(والد هنادي جرادات عقب تلقيه نبأ استشهادها)
تعليق