المشاركة الأصلية بواسطة ابو عبيدة الجهادى
مشاهدة المشاركة
إعـــــــلان
تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.
أصغر جاسوس في التاريخ
تقليص
X
-
كم طلقة في مسدس الموساد؟؟
الجزء الأول
بقلم / أسامة العيسة
الرجل الظل
انتظرت دولة الكيان الصهيوني (38) عاماً لتعلن مسئوليتها عن اغتيال مصطفى حافظ الذي حمل ملفه في الموساد اسم (الرجل الظل) ، و ذلك في كتاب أعدّه يوسي أرجمان حمل عنوان (سري جداً) و صدر في الكيان عام 1993 . و كتب الأستاذ توحيد مجدي عن حادث الاغتيال مستنداً للكتاب في مجلة روز اليوسف القاهرية (3422) بتاريخ 10 يناير 1994 .
و العقيد مصطفى حافظ ، من الأسماء التي حفرت لنفسها مكاناً بارزاً ، في العمل الفدائي و الوطني ضد الكيان الصهيوني ، و قاد عمل مجموعات فدائية ، عرفت لوقت طويل بعد ذلك ، باسم فدائيي مصطفى حافظ ، أوكلت إليهم مهام بتنفيذ عمليات داخل الكيان ، و كان يعتمد على أي إمكانية متاحة لتجنيد الفدائيين ، و فضلاً عن اعتماده على المتطوعين ، فإنه عمد لتجنيد سجناء مدنيين للعمل الفدائي ، لاقتناعه بأن هناك جوانب إيجابية في أي إنسان يجب استثمارها و تطويرها ، و أنه بإمكان توجيه أي سلوك عدواني ، أو يبدو كذلك لدى السجناء المدنين نحو العدو الأكبر ، (إسرائيل) ، و لم يكن يدري حينها أن ذلك سيكون إحدى نقاط الضعف التي ستتمكن فيها (إسرائيل) من اغتياله .
و مصطفى حافظ معروف للكثير من الفلسطينيين الذين خلّدوا ذكراه بإطلاق اسمه على مدارس و شوارع في قطاع غزة ، و تحوّلت الأعمال التي قام بها (فدائيو مصطفى حافظ) إلى حكايات أسطورية بالنسبة للسكان المحليين ، و كان مجالاً لفخر بعض الأبناء ، فيما بعد بأن آباءهم كانوا من أولئك الفدائيين ، في حين أن من بقي من فدائيي حافظ على قيد الحياة التزموا صمتاً مطبقاً على ما كانوا يقومون به من أعمال بعد الاحتلال الصهيوني لباقي الأراضي الفلسطينية و أجزاء من الأراضي العربية عام 1967 ، و لاحقت دولة الاحتلال بعض من كانوا من رفاق حافظ و اغتالت بعضهم بأساليب مختلفة ، مثل تصفيتهم بعد اعتقالهم .
و عندما استشهد حافظ (11/7/1956) كتبت صحيفة الأهرام القاهرية بعد يومين (13 يوليو 1956) خبراً عن ذلك جاء فيه (قتل البكباشي مصطفى حافظ نتيجة ارتطام سيارته بلغم في قطاع غزة و قد نقل الجثمان للعريش و منها جواً للقاهرة ، و قد كان حافظ من أبطال فلسطين ، ناضل من أجل استقلالها و تحريرها ، و لقد سجل التاريخ له أعمالاً جعلت اسمه يزرع الرعب بداخل قلوب "الإسرائيليين") .
و لم يكن ذلك ، بالطبع صحيحاً ، و لكن على الأغلب قصد منه التمويه على سقوط ذلك الفدائي المقدام ، أو إخفاء حقيقة ما حدث لأية أسباب أخرى . و لكن هذا لا يكفي لمعرفة أهميته ، فمن هو (الرجل الظل) الذي كان محط اهتمام قادة (إسرائيل)؟
في ربيع عام 1955 ، و في اجتماع سري عقد في القاهرة برئاسة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ، تقرّر إنشاء كتيبة تنفذ أعمالاً فدائية ضد (الإسرائيليين) . و اختير لهذه المهمة العقيد مصطفى حافظ ، الذي عرف بذكائه و كفاءته حتى أصبح عقيداً و لم يتجاوز عمره (34) عاماً .
و طوال عامي 55 – 1956 ، أرعبت عمليات حافظ (الإسرائيليين) خصوصاً تلك التي نفّذت في العمق الصهيوني كاللد و تل أبيب و غيرهما من المدن الكبرى . و بعض هذه العمليات نفّذت في مستوطنات في شمال (إسرائيل) مثل مستوطنة (ريشون لتسيون) بالقرب من تل أبيب و المقامة على أراضي قرية (عيون قارة الفلسطينية) ، و كان يقوم بتلك الأعمال العشرات من رجال حافظ .
و عندما عرف الموساد أن (رجل الظل) هو مصطفى حافظ ، بدأ بالتخطيط لاغتياله بأوامر من القيادة السياسية في (إسرائيل) آنذاك ، و يبدو أن المصريين كانوا يعرفون بمخططات (إسرائيل) أو يتوجسون منها ، ففي إحدى زياراته لغزة همس الرئيس عبد الناصر في أذن مصطفى حافظ (خلي بالك يا مصطفى من الخونة فأنا و مصر نريدك بشدة) .
و في أوائل عام 1956 دخل أفراد من الوحدة (101) التي كان يقودها مجرم الحرب الصهيوني الذي أصبح فيما بعد رئيساً للحكومة الصهيونية أريل شارون ، التي أوكل إليها تصفية (الرجل الظل) إلى بيته و نسفوا باب البيت ، و لكنهم لم يجدوا أحداً لأن مصطفى حافظ أيضاً بدا هو الآخر يلعب لعبته مع الموساد ، فجعلهم يراقبون طيلة الوقت شخصاً آخر و منزلاً آخر هو الذي تم اقتحامه .
و بعد فشل مهمة الوحدة (101) ، صدرت الأوامر لسبعة ضباط كبار كما يذكر صاحب كتاب (سري جداً) لتنفيذ عملية ضد الرجل الظل ، و هم ضابط يعمل مزارعاً الآن ، و آخر يعمل مستورد سيارات في حيفا و (أبو سنان) الذي كان يقود مجوعة استخبارية وقتذاك ، و ضابط يطلق عليه (أبو سليم) و آخر اسمه (صادق) و يعمل أيضاً في مجال الزراعة الآن ، و سابعهم يدعى (أبو هارون) وصفه المؤلف بأنه عالم اجتماع شهير في جامعات (إسرائيل) .
و شارك الضباط السبعة في وضع خطط و تنفيذها ضد (الرجل الظل) و لكنها باءت بالفشل ، و من هذه الخطط عملية إنزال بحري على شواطئ غزة ، و لكن الرجل الظل استطاع تضليل فرقة الاغتيال و نجا بأعجوبة .
و أخيراً وجد ضباط الموساد الحل ، و هو إرسال طرد ملغوم للرجل الظل ، و هو الأسلوب الذي اتبعته العصابات الصهيونية مع ضباط بريطانيين قبل قيام الدولة الصهيونية و مع قادة فلسطينيين فيما بعد .
و أعد الطرد من قبل خبير كان يعمل في منظمة إتسل الصهيونية الإرهابية ، قبل تأسيس (إسرائيل) ، و شارك في إعداد طرود ملغومة أرسلت لضباط بريطانيين ، و تغلب ضباط الموساد على مشكلة واجهتهم و هي أن الرجل الظل لا يفتح الطرود بنفسه ، و ذلك بإيجاد سبب مقنع يجعله يفعل ذلك بنفسه .
و تم إرسال الطرد مع عميل مزدوج اسمه (سليمان طلالقة) الذي لا يعرف ما بداخل الطرد ، على أنه مرسل بواسطته إلى قائد شرطة غزة وقتذاك لطفي العكاوي من الموساد ، فتوجه طلالقة بالطرد إلى مصطفى حافظ قائلاً له إن قائد شرطة غزة عميل للموساد ، و ما إن فتح حافظ الطرد حتى انفجر ، فأصيب بإصابات بالغة أدت لوفاته في المستشفى ، و أصيب معه أحد مساعديه بعاهة مستديمة ، و أصيب طلالقة بالعمى .
و طلالقة ، كما ذكرت بعض المصادر الفلسطينية لي ، هو واحدٌ من الذين أطلق مصطفى حافظ سراحهم من السجون ليعمل مع مجموعاته ، و اعتبروا ذلك إحدى نقاط الضعف الأمنية لدى حافظ التي أودت بحياته في انفجار الطرد الذي هز سرايا غزة يومها . و مصادر أخرى تفيد بأن (إسرائيل) كانت اعتقلته ، و ساومته على إطلاق سراحه مقابل العمل كعميل مزدوج.
و جاء في تقرير التحقيقات النهائي عن حادث الاغتيال الذي رفع للرئيس عبد الناصر ، كما أورده الأستاذ توحيد مجدي في روز اليوسف (لقد استغل الموساد غباء طلالقة الشديد و نفذوا العمل الشيطاني ، و إن طلالقة لم يدرك أبداً و لو للحظة خطورة ما كان يحمله و ما كان لينقل الطرد بنفسه لو علم ما فيه لأنه جبان جداً) .
و هكذا الموساد (ذراع المخابرات الصهيونية للأعمال الخارجية) و كذلك الشاباك (ذراع المخابرات الداخلي) و أجهزة الأمن الصهيونية الأخرى لا تعطي عملاءها كامل خططها ، كما حدث مع العميل كمال حماد و اغتيال يحيى عياش (غزة : 1996) ، و العميل علان بني عودة و اغتيال إبراهيم بني عودة (نابلس : 2000) ، و العميل مجدي مكاوي و اغتيال جمال عبد الرازق و رفاقه (غزة : 2000) .
و كان يتابع ما يحدث ، مع حافظ ، اثنان من أهم رجال السلطة في (إسرائيل) ، بن غوريون رئيس الوزراء الصهيوني المؤسس ، و موسى ديان رئيس الأركان الشهير ، اللذان وضعا مع آخرين مبادئ أن تقوم دولة بسياسة الاغتيال ضد الخصوم . و شرب الإثنان نخب التخلص من الرجل الظل مع منفّذي العملية .
كانا في الواقع يقومان بعمل لم يكن غريباً عليهما ، و لا على زعماء (إسرائيل) اللاحقين ، الذين قادوا العصابات الصهيونية قبل تأسيس (إسرائيل) و التي مارست الإرهاب بأبشع صوره .
.....................
تعليق
-
جذور إرهابية
في مؤتمر مدريد الشهير لسلام الشرق الأوسط (تشرين أول 1991 م) ، وقف وزير خارجية سوريا فاروق الشرع لإلقاء كلمة وفد بلاده في المؤتمر أسوة بباقي الوفود .
و قدّم الشرع كلمته ارتجالاً و قال كلاماً بليغاً ، دفاعاً عن بلاده التي هاجمها سابقاً رئيس وزراء (إسرائيل) و رئيس وفدها إلى المؤتمر إسحاق شامير في كلمته في افتتاح المؤتمر ، و فجأة استل الشرع ورقة من جيبه و عرضها على الموجودين في القاعة و على الملايين الذي يتابعون ذلك الحدث الاستثنائي وقتها في قضية الشرق الأوسط ، و لم تكن تلك الورقة إلا صورة عن ملصق وزّعته الشرطة البريطانية لإسحاق شامير رئيس وزراء (إسرائيل) عليها صورته كمطلوب للعدالة بسبب نشاطه الإرهابي في المنظمات الصهيونية الإرهابية .
كان شامير الذي ألقى كلمة الكيان الصهيوني في المؤتمر في وقتٍ سابق اعتذر عن الاستمرار في المؤتمر و غادر إلى (إسرائيل) متذرّعً بأسباب اعتبرت واهية مثل دخول عطلة (السبت اليهودي) أثناء أعمال المؤتمر و في حينه قدرت مصادر في الوفد الفلسطيني بأن شامير أحس على ما يبدو بما يخفيه له الوزير السوري ففضّل المغادرة .
و بلغ من حماس البعض لما عرضه الوزير السوري لصورة (الإرهابي) شامير أن أرسلها بالفاكس لجهات في فلسطين و تم توزيعها يدوياً على المهتمين و المعنيين و الفضوليين .
و سواء صحت التقديرات بشأن مغادرة شامير لذلك المؤتمر الذي كان يؤسس لحقبة جديدة بين العالم العربي و (إسرائيل) أم لم تصح ، فإن شامير ، و غيره من قادة (إسرائيل) ، لا يعتقدون بأن هناك ما يجب إخفاؤه مما يعتبره العرب عمليات إرهابية ، بل هي مصدر فخر لهم .
لهذا فإن الاعتقاد قوي بأن ما مارسته (إسرائيل) من أعمال الاغتيال بعد قيامها كان ، في الواقع استمراراً لنشاط العصابات الصهيونية قبل قيام دولة (إسرائيل) ، بل إن كثيراً من أعضاء تلك المنظمات ، و شامير واحدٌ منهم عملوا في أجهزة الأمن الصهيونية و أبرزها جهاز الموساد ، و أصبح الناشطون في تلك العصابات الإرهابية هم قادة دولة (إسرائيل) و المتنفذين فيها .
و مارست تلك العصابات الصهيونية الكثير من الأعمال الإرهابية ليس فقط ضد السكان الأصليين ، بل شمل نشاطها أيضاً رجال الانتداب البريطاني ، رغم أن هناك تقديرات لا يمكن إغفالها بأن الهدف الأساسي لذلك الانتداب ، يكاد يكون تمكين اليهود من إنشاء وطني قومي لهم على أرض فلسطين .
و كما أشرنا فإن الزعماء الصهاينة لا ينكرون تورّطهم في أعمال الإرهاب تلك ، بل كثير منهم تحدثوا عن تفاصيلها في مذكراتهم و أوراقهم و في مقابلات صحافية عديدة و يمكن على سبيل المثال و لتوضيح الصورة نذكر بعض تلك الأعمال و التي شارك فيها من أصبح بعد ذلك من رموز دولة (إسرائيل) ، من خلال تصفح كتاب (قبل الشتات) المصور للمؤرخ الفلسطيني المدقق و صاحب المصداقية البرفسور وليد الخالدي :
· 16/نيسان 1936 : العصابات الصهيونية تقتل فلسطينيين يعيشان قرب مستوطنة (بتاح تكفا) .
· 5/أيلول 1937 : أفراد من منظمة (أيرغون تسفائي ليئومي) يقتلون فلسطينياً و يصيبون آخرين بجروح في حادث إلقاء قنبلة على حافلة بالقدس .
· 11/تشرين الثاني 1937 : أفراد من (الآرغون) يلقون قنبلة على مواطنين بالقدس فيقتلون واحداً منهم و يصيبون آخرين .
· 17/نيسان/1938 : أفراد من (الآرغون) يلقون قنبلتين على مقهى في حيفا ، فيقتلون مواطناً و يصيبون ستة آخرين .
· حزيران/1938 : بدأ الضابط البريطاني (أورد وينغيت) بتنظيم (الوحدات الليلية الخاصة) من بريطانيين و منظمة (الهاغناة) ، و هدفها تنفيذ عمليات إرهابية ضد القرى الفلسطينية .
· 4/تموز/1938 : أفراد من (الآرغون) يلقون قنبلة على حافلة بالقدس ، تسفر عن قتل أربعة مواطنين و إصابة ستة بجروح .
· 6/تموز/1938 : أفراد من (الآرغون) يفجّرون لغماً في سوق البطيخ في حيفا ، يؤدّي إلى مقتل 12 مواطناً . و في نفس اليوم أدّى انفجار لغم آخر زرعته أيضاً (الآرغون) إلى مصرع 18 مواطناً فلسطينياً و اثنين من اليهود في سوق حيفا .
· 7/تموز/1938 : استشهاد مواطن و إصابة خمسة آخرين في حادث لغم فجّرته (الآرغون) في سوق الخضراوات بالقدس .
· 8/تموز/1938 : أدّى انفجار لغم زرعته (الآرغون) في محطة الباصات بالقدس إلى استشهاد أربعة مواطنين و إصابة 27 آخرين .
· 15/تموز/1938 : حادث انفجار لغم زرعته (الآرغون) في سوق الخضار في البلدة القديمة بالقدس يسفر عن مقتل 11 مواطناً و إصابة 28 آخرين بجروح .
· 17/تموز/1938 : مقتل ثلاثة من المواطنين في تل أبيب على أيدي مجموعة صهيونية .
· 25/تموز/2938 : مصرع 45 مواطناً و إصابة 45 آخرين في انفجار لغم زرعته (الآرغون) في سوق الخضراوات في حيفا .
· 26/آب/1938 : انفجار لغم زرعته (الآرغون) في سوق الخضراوات بيافا يؤدّي إلى قتل 33 مواطناً و إصابة 30 آخرين .
· 26/شباط/1939 : مصرع 24 مواطناً و إصابة 37 آخرين بجروح جرّاء انفجار لغم زرعته (الآرغون) في سوق حيفا . و في نفس اليوم قتل أربعة مواطنين و أصيب خمسة آخرين نتيجة انفجار لغم زرعته (الآرغون) في سوق الخضراوات بالقدس .
· 2/حزيران/1939 : أدّى انفجار لغم زرعته (الآرغون) في إحدى محطات الباصات بالقدس إلى مقتل خمسة مواطنين و إصابة 19 آخرين .
· 3/حزيران/1939 : مقتل تسعة مواطنين و إصابة أربعين آخرين ، في انفجار لغم زرعته (الآرغون) بالقدس .
· 19/حزيران/1939 : مقتل تسعة مواطنين و إصابة 24 آخرين في انفجار لغم زرعته (الآرغون) في سوق حيفا .
· 29/حزيران/1939 : أفراد من (الآرغون) يشنّون 6 هجمات على حافلات بالقرب من تل أبيب تؤدي إلى مقتل 11 مواطناً .
· 3/تموز/1939 : مقتل مواطنٍ واحدٍ و إصابة 35 آخرين بعد أن ألقى أفراد من (الآرغون) قنبلة داخل أحد مقاهي حيفا .
· تشرين الثاني/1940 : إرهابيون صهاينة ينسفون سفينة (أس.أس.باتريا) التي تقل مهاجرين (غير شرعيين) من اليهود ، في أثناء قيام السلطات البريطانية بنقلهم إلى أماكن أخرى خارج فلسطين ، و تسفر العملية عن مقتل 252 شخصاً من اليهود و من الشرطة البريطانية .
· 14/شباط/1943 : مقتل شرطيين بريطانيين في حيفا على يد إرهابيين صهاينة .
· 23/آذار/1943 : مصرع ثمانية من رجال الشرطة البريطانية على يد الإرهابيين الصهاينة في حيفا و يافا و تل أبيب و القدس .
· 8/آب/1943 : محاولة لاغتيال المندوب السامي البريطاني ، السير هارولد مكمايكل و زوجته بالقدس ، قام بها إرهابيون صهاينة .
· 6/تشرين الثاني/ 1943 : إرهابيون من منظمة (شتيرن) الصهيونية يغتالون اللورد والتر موين ، وزير الدولة و ممثل الحكومة البريطانية المقيم في القاهرة . و كان إسحاق شامير أحد قادة عصابة شتيرن الثلاثة الذين أصدروا أمر الاغتيال . و في نيسان عام 2000 ، لم يبدِ شامير أي ندمٍ على ذلك و قال لصحيفة يديعوت أحرنوت عن اللورد موين (كان يعتبر عدواً للشعب اليهودي ، لم يكن هناك أدنى شك بذلك) .
و يمكن لإضافة مزيدٍ من حزم الضوء على الأعمال الإرهابية الصهيونية في تلك الفترة ، أن نقف قليلاً عند اغتيال اللورد موين ، ففي كتابه الأول عن (المفاوضات السرية بين العرب و اليهود) ، يذكر الأستاذ محمد حسنين هيكل ، أن اتحاد المنظمات الصهيونية في مصر تقدم بطلب في تلك الفترة إلى مصطفى النحاس رئيس وزراء مصر للاعتراف بالاتحاد (كممثل للشعب اليهودي في مصر) ، و لكن النحاس لم يكتف برفض الطلب ، بل قرّر أيضاً وقف نشاط الاتحاد .
و حسب هيكل فإن النحاس كان مشغولاً في عملية إنشاء جامعة الدول العربية ، و كان دعا إلى عقد مؤتمر لرؤساء الحكومات العربية في قصر (أنطونيادس) في مدينة الإسكندرية الساحلية ، للانتهاء من إقرار نص ميثاق الجامعة العربية .
و يقول هيكل : (من الغريب أن ردّ الاتحاد الصهيوني على رفض النحاس باشا له بالعمل رسمياً ، كان الترتيب مع جماعة شتيرن في فلسطين لنسف قصر أنطونيادس يوم الاحتفال بالتوقيع) .
و لأن محاولة نسف ذلك القصر بمن فيه لم تنجح ، و لكي لا يعود إرهابيو شتيرن خالي الوفاض ، على ما يبدو ، نفّذوا عملية اغتيال اللورد (موين) الوزير البريطاني المقيم في الشرق الأوسط ، و كان السبب في قتله ، كما يذكر هيكل (معارضته لمشروع هجرة مائة ألف يهودي من أوروبا إلى فلسطين) .
و فيما بعد … بعد سنوات طويلة و في نيسان 2000م ، قال شامير لصحيفة يديعوت أحرنوت العبرية التي وصفته بأنه المسؤول عن اتخاذ قرار تصفية اللورد موين ، بأن هذا اللورد (كان يعتبر عدواً للشعب اليهودي ، و لم يكن هناك أدنى شك في ذلك) .
· 28/ أيلول/ 1945 : إرهابيون صهاينة يقتلون شرطياً بريطانياً في تل أبيب .
· 31/ تشرين الأول/1945 : أفراد من العصابات الصهيونية الثلاث : الهاغناة ، الآرغون ، شتيرن ، يعطّلون خطوط سكة الحديد في فلسطين في 242 موقعاً مختلفا في البلاد .
· 27/كانون الأول/ 1945 : أفراد من (الآرغون) يقتلون خمسة من رجال الجيش و الشرطة البريطانية في القدس و يافا و تل أبيب .
· 19/ كانون الثاني 1946 : عصابة (الآرغون) تشن هجوماً على السجن المركزي بالقدس مما يؤدّي إلى مقتل ضابطين بريطانيين .
· 25/نيسان 1946 : هجوم للآرغون على مرأب عسكري في تل أبيب يؤدّي إلى مقتل سبعة من الجنود البريطانيين .
· 17/حزيران/1946 : وقوع اعتداءات متزامنة من قبل (الهاغاناة) على ثماني سكك حديد رئيسية و جسور على طرق عامة .
· 18/ حزيران/ 1946 : خطف ستة ضباط بريطانيين في تل أبيب و القدس على أيدي أفراد من عصابة الأرغون .
· 22/تموز/1946 : أفراد من الآرغون ينسفون جناحاً كان مقراً للإدارة المدنية البريطانية في فندق الملك داود بالقدس ، و يؤدّي ذلك إلى مقتل 91 مدنياً . و بعد يومين أصدرت الحكومة البريطانية كتاباً أبيضاً عن الإرهاب في فلسطين و فيه اتهام للوكالة اليهودية بالقيام بأعمال إرهابية بالاشتراك مع عصابتي الآرغون و شتيرن .
· 9/أيلول/ 1946 : إرهابيون صهاينة ينسفون بيت أحد ضباط الأمن البريطانيين ، مما أدّى إلى مقتله و زوجته .
· 30/تشرين الأول/ 1946 : أفراد من الآرغون يهاجمون بالقنابل محطة سكة الحديد بالقدس ، و يقتلون جنديين بريطانيين و شرطياً واحداً و يجرحون 11 جندياً .
· 9/تشرين الثاني/ 1946 : مقتل أربعة من الشرطة البريطانية في حادث نسف منزل نفذته عصابة الآرغون .
· 13 تشرين الثاني/ 1946 : مقتل ستة من رجال الشرطة البريطانية و جرح عشرة آخرين في هجوم شنته عصابة الآرغون على قطار على خط سكة الحديد بين اللد و القدس .
· 17/تشرين الثاني/ 1946 : مقتل ثلاثة من أفراد الشرطة البريطانية بالقرب من تل أبيب إثر انفجار لغم بسيارتهم زرعته عصابة الآرغون .
· 2 كانون الأول/ 1946 : مصرع أربعة جنود بريطانيين جراء انفجار لغم بسيارتهم زرعته عصابة الأرغون . (.. و بعد يومين تناشد الوكالة اليهودية اليهود في فلسطين بالكف عن أعمال الإرهاب ..!) .
· 12/كانون الثاني/ 1947 : مقتل اثنين من الشرطة البريطانية و اثنين من الفلسطينيين إثر تفجير سيارة ملغومة من قبل الآرغون في مقر الإدارة البريطانية في حيفا .
· 26/كانون الثاني/1947 : الآرغون تخطف رجل أعمال بريطانياً بالقدس ، و في اليوم التالي تخطف أحد كبار القضاة البريطانيين في تل أبيب.
· 28/شباط/1947 : إرهابيون صهاينة يقتلون 20 شخصاً من المدنيين و من أفراد الجيش و الشرطة البريطانية ، و يدمّرون نادي الضباط البريطاني بالقدس .
· 26/نيسان /1947 : الآرغون تفجّر سيارة ملغومة في معسكر (سارونا) البريطاني بالقرب من تل أبيب ، مما أسفر عن مقتل 6 من رجال الأمن البريطانيين .
· 21/أيار/ 1947 : عصابة الهاغاناة تنفذ عمليتين إرهابيتين بالقرب من تل أبيب تسفران عن مقتل مواطنين و جرح سبعة آخرين .
· 5/حزيران/ 1947 : عصابة شتيرن تعلن مسئوليتها عن الرسائل الملغومة التي أرسلت إلى كبار المسؤولين البريطانيين .
· 30/ تموز/1947: الآرغون تعلن قيامها بتنفيذ (الإعدام) بحق رقيبين من الجيش البريطاني خطفا قبل ذلك التاريخ.
· 15/آب/1947 : مقتل 12مواطناً بينهم أم و ستة أطفال ، في هجوم للهاغاناة على إحدى البيارات العربية .
· 13/كانون الأول/ 1947 : مقتل 35 من المواطنين المدنيين ، في سلسلة غارات هجومية تشنها الآرغون على مناطق سكنية فلسطينية في القدس و يافا و قرية الطيرة بالقرب من حيفا .
· 19/كانون الأول/1947 : مقتل عشرة مواطنين في هجوم نفذته الهاغاناة على قرية خصاص بالقرب من صفد .
· 29/ كانون الأول/1947 : مقتل 17 مواطناً إثر مهاجمة أفراد من الآرغون لحشد من المدنين الفلسطينيين في باب العمود بالقدس .
· 30/كانون الأول/1947 : مقتل ستة مواطنين بعد أن ألقى أفراد من الآرغون قنبلة على العمال في مصفاة النفط في حيفا ، و عصابة الهاغاناة قتلت 17 مواطناً و جرحت 33 في هجوم على قرية بلد الشيخ بالقرب من حيفا .
· 4/كانون الثاني / 1948 : الآرغون تفجّر سيارة مفخّخة في مركز الحكومة في يافا ، و يسفر ذلك عن مقتل 26 من الفلسطينيين المدنيين .
· 5/ كانون الثاني/ 1948 : الهاغاناة تنسف فندق سميراميس بالقدس فتقتل 20 مواطناً .
· 7/ كانون الثاني / 1948 : مقتل 25 مواطناً و جرح العشرات بسبب متفجرات زرعتها الآرغون في باب الخليل بالقدس .
· 14/ شباط/ 1948 : مقتل 11 مواطناً و نسف 14 بيتاً في هجوم للهاغاناة لقرية سعسع قضاء صفد .
· 3/آذار / 1948 : عصابة شتيرن تدمّر مبنى في حيفا بسيارة مفخّخة و يسفر ذلك عن مقتل 11 مواطناً و جرح 27 آخرين .
· 31/آذار/ 1948 : مقتل 24 مواطناً و جرح 61 آخرين ، في حادث نسف قطار نفّذته الآرغون .
· 9/نيسان/ 1948 : رجال الآرغون يذبحون 245 من سكان دير ياسين .
و عودة إلى شامير ، فهو ارتبط بأشهر عملية إرهابية حدثت أثناء حرب فلسطين ، و هي اغتيال الوسيط الدولي الكونت برنادوت ، ابن عم ملك السويد ، الذي حضر إلى فلسطين ، و أبرم هدنة بين الطرفين العربي و الصهيوني ، و أعد تقريراً اقترح فيه أن تكون منطقة النقب ضمن حدود الدولة العربية المقترحة ، و كان ذلك سبباً كافياً بالنسبة لشامير و رفاقه في حركة ليحي و هي جزء من منظمة الآرغون الإرهابية لقتله بالرصاص في القدس .
و عمل شامير ، حسب مصادر صهيونية لمدة عشرة أعوام في جهاز الموساد الصهيوني ، الذي يتولى الأعمال الاستخبارية في الخارج . و في أواخر نيسان عام 2000م ، كتب الصحافي الصهيوني شلومو نكديمون تقريراً في صحيفة يديعوت أحرانوت ، عن تلك السنوات التي عمل فيها شامير في الموساد ، و يتبين من المعلومات القليلة التي قدّمها شامير نفسه ، أنه تورط في التخطيط لما يسميه كاتب التقرير (التصفيات الجسدية) ، و أنه قام بمهمات في الدول العربية .
و يشير التقرير إلى أن شامير التحق بالموساد و عمره 40 عاماً ، بعد فترة إعداد استمرت ستة أشهر تعرّف خلالها على وحدات الموساد المختلفة ، و عمل في قسم يتولى مهمات في الدول العربية ، ثم أسس وحدة أطلق عليها اسم (مفراس) هدفها زرع عملاء صهاينة في الدول العربية .
و تدرّج شامير في سلم الرتب في الموساد و جال عدة دول في العالم للقيام بالمهام الموكلة له . و خلال التقرير أعرب شامير عن تأييده لأسلوب الاغتيالات ، و لم ينفِ أقوالاً لزملاء له من وحدة (مفراس) عن تأييده لاغتيال زعيم عربي ، يعتقد أنه جمال عبد الناصر ، و لم تنفذ بسبب قرار من القيادات السياسية ، و لو نفذت تلك العملية (لكانت العنوان الرئيسي حتى اليوم) .
تاريخ شامير حافل بالأعمال الإرهابية ، سواء و هو مسئول في العصابات الصهيونية ، أو بعد تأسيس دولة (إسرائيل) ، و كذلك الآخرين ، من بن غوريون إلى بيغن ، إلى غولدا مائير ، إسحاق رابين ، و موشي ديان ، و شمعون بيرس ، و عيزر وايزمن ، و حتى الرموز اليسارية مثل أوري أفنيري ، و ذلك هو منطق الأمور في دولة ، بنيت على أساس عمل من أشد الأعمال إرهابية و هو سرقة الأرض ، حتى لو اختارت في حياتها الداخلية ، أساليب متطورة في حياتها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية .
جملة معترضة : إرهابي سابق
في عام 1948 كان أوري أفنيري ، الشخصية المعروفة و المركزية ضمن معسكر اليسار الصهيوني و رئيس كتلة السلام ، من ضمن العصابات الصهيونية التي حاصرت و شرّدت سكان عدة قرى فلسطينية و بعد خمسين عاماً من ذلك التاريخ ، الذي حفر في ذاكرة الفلسطينيين و العرب باسم النكبة ، أمضى أفنيري ، عطلة عيد الميلاد في مخيم الدهيشة ، مع أصدقاء فلسطينيين وجدوا في المخيم نتيجة سياسة الإرهاب التي اتبعتها العصابات الصهيونية ضدهم .
التقيت أفنيري الذي قدِم مع زوجته و طرحت عليه عدة أسئلة ، ربما و هي تشكّل جملة معترضة في موضوعنا عن الاغتيالات أن توضح و لو نسبياً الخلفية التي يستند إليها القادة الصهاينة في سياستهم الإرهابية ضد الشعب الفلسطيني ، التي يمكن وصفها بكثير من الاطمئنان بأنه : القتل من أجل القتل .. !
- سألت أفنيري : ماذا كنت تفعل عام 1948 ؟
- كنت جندياً في الجيش (الإسرائيلي) ...
- لم يكن هناك جيشاً إسرائيلياً بعد ؟
- الجيش بدأ ، عندما بدأت الحرب عام 1948 ، لم يكن جيشاً رسمياً و كان اسمه الهاجناة ، و عندما أعلنت دولة (إسرائيل) عام 1948 أصبحت هذه الكتائب جيش الدفاع (الإسرائيلي) .. ، و كنت أنا في كتيبة (جفعاتي) ، عملنا على طريق القدس في قرى مثل (خلدة) و (دير محيسن) ، و في وقتٍ من الأوقات كنت قريباً من قرية (زكريا) و لكنني لم أدخل (زكريا) محارباً .
يعتقد أفنيري بأن الحديث عن الحرب عام 1948 ، و ما حدث فيها يستلزم ليس العودة خمسين عاماً للوراء ، بل إن الواقع يستلزم العودة 120 عاماً إلى الوراء ، حيث وصول أول دفعة من المستوطنين اليهود إلى فلسطين . و يضيف : (منذ ذلك التاريخ بدأ صراع تاريخي بين شعبين ، يعتقد كلُ واحد منهما بأن الأرض ملكية لكل منهما ، و هذا يختلف عن أية حرب أخرى أعرف عنها ، لأنه في العادة تقع الحرب بين دولتين حول قطعة أرض ، بينما الحال هنا فإن كلاً من الشعبين يدعي بأن الأرض له ، و أنا كنت أعتقد بأن على الشعبين كان عليهما أن يناضلا معاً ضد الاستعمار الخارجي) !! .
و يشير أفنيري إلى أنه عمل من أجل ذلك حركة عام (1946) أي قبل الحرب ، و من أجل ذلك أصدر أيضاً كتاباً في نهاية عام 1947 بعنوان (الحرب و السلام في المنطقة السامية) و استخدم عبارة (السامية) لأنها في رأيه هي العبارة الوحيدة التي توحّد سكان هذه الأرض ، و لم يستخدم كلمة شرق .. لأنها غير مناسبة و ليس لها معنى فالشرق بالنسبة لمن ... ؟
و يقول ، إنه أصدر ، بعد تلك الحرب ، كتابين أحدهما كان شعبياً جداً ، و كان لسنوات أحد الكتب الأكثر مبيعاً في (إسرائيل) ، أما الكتاب الثاني فهو بعنوان (الوجه الآخر للعملة) و الذي قوطع من قبل السلطة (الإسرائيلية) ، و تحدث فيه عن الجرائم و المجازر التي وقعت خلال حرب عام 1948 .
و رداً على سؤال قال أفنيري إن تلك الحرب كان لا بد منها في الصراع ، و يقول إن المهم تجاوز نتائج ذلك التاريخ و إيجاد حلاً للصراع .. ! و يعتقد أفنيري بصحة موقفه في المشاركة في تلك الحرب : (كنا متأكدون في ذلك الوقت بأننا ندافع عن حياتنا ، و إذا خسرنا الحرب كنا على قناعة تامة ، بأننا إذا خسرنا سنرمى خارج البلاد ، لذلك كان شعارنا ليس هنالك خيار آخر) .
و يقول رداً على سؤال (كان هنالك تأثير للقوى الأجنبية لكن الصراع كان بين شعبين ، حتى لو لم يكن هناك فرنسيون أو إنجليز أو روس ، الجانب اليهودي كان لديه هدفٌ واضحٌ و هو إقامة دولة يهودية مستقلة ، و بعد الحرب العالمية الثانية التي قتل فيها (6) ملايين يهودي ، كان علينا أن نحصل على دولة يهودية مستقلة هنا) .
و يضيف أفنيري : (قبل مائة عام كان اليهود أقلية ، في نهاية القرن الماضي كان هنالك (50) ألف يهودي و نصف مليون فلسطيني ، نحن لا نختلف على الوقائع ، لكننا نختلف في تفسيرها) .
و رداً على سؤال كيف يبرّر الإرهاب الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في تلك الحرب قال أفنيري : (الأعمال التي حدثت اعتبرت إرهابية من الجانبين ، لسبب بسيط لأن كل طرف لم يكن يعترف بالآخر) .
و أضاف : (من الخطأ اتهام الجانب اليهودي بارتكاب مجازر ، فهناك أعمال فظيعة حدثت من الجانب الآخر ، فمثلاً هنالك (35) من جنودنا قتلوا في الطريق إلى غوش عتصيون و قطعت رؤوسهم و علقت و ساروا بها معلقة في القدس ، و نحن رأينا صورهم على تلك الحال ، في بداية الحرب كان كل جانب مقتنع أنه إذا سيطر فيجب قتل الجميع ، ما كان يحدث شبيهاً بما حدث فيما بعد ، و في هذه السنوات في البوسنة ، في النهاية الذين عانوا هم الفلسطينيين لأننا كسبنا الحرب ، و يجب أن لا ننسى أنه في المناطق التي كان يسيطر عليها العرب لم يبقَ أي يهودي فيها و في البلدة القديمة في القدس ، تم إما قتل اليهود أو أسرهم ، لقد كانت حرب قاسية بين الطرفين ، عندما دخلنا الحرب كان هنالك 635 ألف يهودي في فلسطين قتل منهم ستة آلاف يهودي ، كل أصدقائي قتلوا ، كانت حرباً قاسية جداً عنيفة من الطرفين) .
و أخذ أفنيري ، الذي غالط في سرد الحقائق مثل إشارته لما حدث في مستوطنات كفار عتصيون ، طرف الحديث إلى جانب آخر لترسيخ ما طرحه من أفكار : (في الأول من أبريل عام 1948 ، بدأنا الهجوم لفتح الطريق إلى القدس ، و كانت فرقتان من الجيش تنتظر في ميناء تل أبيب ، قدوم سفينة من الاتحاد السوفيتي محملة بالأسلحة ، جميع أسلحتنا جاءت من الاتحاد السوفيتي و مصنوعة في تشيكوسلوفاكيا و خلال الحرب كان الاتحاد السوفيتي يعطينا دعماً دائماً ، و يمدّنا بالبنادق و المدافع ، لأنهم اعتقدوا أن وجود دولة يهودية هنا أفضل من مستعمرة بريطانية ، و حتى عام 1951 كان السوفيت يعطوننا دعماً سياسياً كاملاً ، و لكن بعد وفاة ستالين بدأت السياسة السوفيتية تتغير لصالح العرب) ..
- و لكننا نعرف أن الاتحاد السوفيتي كان يحارب النشاط الصهيوني ، و اعتقلت القوات السوفيتية ، مثلاً ، مناحيم بيغن و رحّلته لسيبيريا بسبب نشاطه الصهيوني كما رواها في مذكراته .
- صحيح ... و لكنهم كانوا يحاربون النشاط الصهيوني في بلادهم و ليس هنا .
- سالت أفنيري : هل ارتكبت جرائم في تلك الحرب ؟
- القتل محتمل جداً ، كل حرب يحدث فيها ذلك ، خصوصاً و أننا كنا نحارب في الليل ...
- أين حاربت .. ؟
- قاتلت في عدة قرى من (دير محيسن) حتى (عسقلان) ، و كان لوحدتي دوراً في معارك كثيرة حدثت معظمها في الليل ، و أنا أصبت في تلك الحرب في منطقة (عراق المنشية) و التي اسمها اليوم (كريات غات) و كان في الجانب الآخر الرئيس عبد الناصر ، و في كتابي (إسرائيل بدون صهيونية) كتبت فصلاً عن هذا الموضوع و طلبت من صديق مشترك ، هو (أريك رولو) أن يعطيه لعبد الناصر بعد أن أصبح رئيساً ، و قال عبد الناصر إن وصفي للأحداث كان صحيحاً .
- ما هو شعورك الآن و أنت شاركت في ذلك الإرهاب ضد الشعب الفلسطيني ؟
- دعنا لا نسميها إرهاباً ، نسميها حرباً ، حرب 1948 كانت مأساة و محزنة جداً و نتيجتها مازلنا نعيشها حتى الآن ، و لا توجد فائدة لأيّ جانب أن يفكّر بنفس الاعتقاد لدى الطرف الآخر ، و الحديث عن الطرف اليهودي كعصابات من القتلة ، و الآن هنالك كتّاب يهود يحكون عن العصابات العربية ، يجب أن نبتعد عن هذه الكلمات ، كلا الطرفين حاربا من أجل هدف ...
- هل تشعر بندم على مشاركتك في تلك الحرب ؟
- لا … ، و لكنه من المؤسف ، و بعد خمسين عاماً من الحرب ، لم نضع نهاية للمأساة ، مأساة اللاجئين ، و يجب أن نبدأ الآن في التفكير بوضع حد لمأساة اللاجئين ، و من مضمون السلام أن نجد حلاً عادلاً و عملياً لمأساة اللاجئين !! .... و دائماً عندما أتقي أصدقاء من الفلسطينيين ، أسألهم من أية قرى لجأوا أو لجأت عائلاتهم ، و كثير منهم يذكرون أسماء قرى قاتلت فيها ، و بالأمس سألت (ساجي سلامة - المسؤول السابق في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) و روى لي كيف خرجوا من عسقلان ، و قلت له إنني شاهدت خروجهم من على تلة قريبة ، و كنت وقتها (حزيناً) لخروجهم ، و أعتقد أن تهجير الناس كان خطأ ، و أعتقد و بعد كل هذه السنوات لم نغير الماضي و لكننا نستطيع التأثير في الحاضر و المستقبل و يجب أن يكون حلٌ في هذا السلام للاجئين فلا يعقل أن نعمل سلاماً مع نصف المجتمع الفلسطيني و نترك الآخرين ، الذين في الخارج بدون سلام .
أضاف أفنيري : (كان لي صديق هو عصام السرطاوي ، الذي ولد في عكا ، و أرسله عرفات عام 1975 لفتح اتصالات مع (الإسرائيليين) ، و كنا نجتمع في اجتماعات عامة في أوروبا ، و كان عصام يقول دائماً : أنا و أفنيري مخربون قدماء ، نريد أن نعمل معاً سلاماً ، .. في الصراع التاريخي بين الفلسطينيين و (الإسرائيليين) ، هناك صراع آخر بين معسكر السلام من الطرفين و أعداء السلام ، و أنا في هذه الحرب من المعسكر الأول) ..
- و سألت أفنيري : هل صداقتك مع الفلسطينيين و زياراتك لهم هي نوع من طلب المغفرة ؟
- أفنيري : أعتقد أنه قبل أن نصل للسلام الحقيقي ، فعلى دولة (إسرائيل) أن تعتذر للشعب الفلسطيني ، فبينما كنا نقاتل ، قمنا بعمل غير عادي ضد الفلسطينيين ، فالاعتذار مهم جداً ... و شخصياً أشعر بامتنان شديدٍ لأن يتم استقبالي في مخيم اللاجئين و لا أنسى بأنني كنت جزءاً من هذه الحرب و لديّ مشاعر عميقة اتجاه أصدقائي الفلسطينيين (!!) .
*******
و لكن ما حدث للشعب الفلسطيني لا يمكن معالجته ، بأي شكلٍ من أشكال المشاعر .. ! حتى لو كانت من إرهابي (سابقٍ) كان مقتنعاً أنه يقوم بواجبه تجاه شعبه و (وطنه) ..
تعليق
-
الفصل الثاني
حروب غولدا المستمرة
.. في الذكرى الحادية و العشرين لقيام مجموعة فلسطينية ، هي المنظمة التي عرفت باسم أيلول الأسود ، بعملية احتجاز البعثة الرياضية الصهيونية في دورة الألعاب الأولمبية قي ميونخ الألمانية عام 1972 ، و التي انتهت بقتل الرياضيين و نصف خاطفيهم ، أدلى أهرون ياريف مدير مركز الأبحاث الإستراتيجية في جامعة تل أبيب ، و الذي شغل منصب رئيس الاستخبارات العسكرية الصهيونية في تلك الفترة (فترة ميونخ) بحديث مدوّي لشبكة التلفزيون البريطانية (بي.بي.سي) في أيلول 1993 روى فيه قصة الاغتيالات التي نفّذتها (إسرائيل) و طالت عدداً من القادة الفلسطينيين في عواصم عالمية مختلفة بطلب و موافقة غولدا مئير رئيسة وزراء (إسرائيل) في تلك الفترة ، و التي استمرت لسنوات تالية ..
و رغم أن الجميع كان يدرك مسؤولية (إسرائيل) عن تلك الاغتيالات ، إلا أن اعترافات ياريف ، أثارت ضجة كبيرة حتى في (إسرائيل) نفسها . قال ياريف : (كان هدفنا توصيل رسالة للفلسطينيين و لغيرهم ، بأن من يقتل (إسرائيلياً) سيظل مطارداً حتى في فراشه) .
و القصة ، كما رواها رئيس الاستخبارات الأسبق ، و نقلتها في حينه وكالات الأنباء و شغلت عناوين الصحف لفترة و كانت مدار تعليقات عديدة صهيونية و فلسطينية و عربية و عالمية ، هي أن غولدا مائير رئيسة الوزراء الصهيونية الشهيرة ، شكّلت فرقة اغتيالات ، بعد عملية ميونخ ، و بدأت الفرقة عملها بإشراف رئيس الموساد وقتذاك (تسفي زامير) ، و كان على رأس الفرقة (مايك هراري) المرتزق الصهيني المعروف فيما بعد و الذي كان مقرباً من رئيس بنما السابق المعتقل في أمريكا الآن (نورييغا) .
و حسب ذكر ياريف لأسماء الذين تم اغتيالهم بحجة ميونخ ، يتضح بأن العديد منهم لم يكن له علاقة بالعمل العسكري بشكلٍ عام ، و بميونخ على وجه الخصوص ، و ربما لم يحمل بعضهم مسدساً في حياته ، و هو ما كانت تفسره المصادر الفلسطينية ، بأن عجز الموساد و فشله ، في أحيان كثيرة ، و لأسباب مختلفة عن الوصول للعسكريين ، كان يعوّض باغتيال الدبلوماسيين و الكتاب .
و جاء ياريف بعد سنوات من الصمت ليبرر تلك الموجة الطويلة من الاغتيالات التي استمرت سنوات ، بحادث مقتل الرياضيين في ميونخ ، و هو أمر من الصعب إخضاعه لأي منطق ، إلا أن سياسة الاغتيالات هي استراتيجية ثابتة لدى قادة (إسرائيل) يمارسونها ، في كل الظروف و كل الأوقات ، و بدون حاجة لأي مبرر .
و من الفلسطينيين الذين تم اغتيالهم حسب رواية ياريف ، و من الذين تجاهل ذكر أسماءهم ، و من الذين اغتيلوا بعد اعترافاته :
- بعد ميونخ سجلت محاولات اغتيالات عديدة بالطرود الملغومة و من بين الذين تم استهدافهم بتلك الطرود ، ممثل منظمة التحرير في الجزائر : أبو خليل الذي أصيب بجراح ، ممثل المنظمة في طرابلس مصطفى عوض و أصيب بالشلل و العمى ، فاروق القدومي رئيس الدائرة السياسية في المنظمة ، هايل عبد الحميد من قادة فتح (و الذي سيستشهد فيما بعد) تسلّما طردين مفخّخين أثناء وجودهما في القاهرة ، عمر صوفن مدير الصليب الأحمر في استكهولم و فقد أصابع يديه ، عدنان أحمد من قادة اتحاد الطلبة الفلسطينيين أصيب بجراح في بون ، أحمد عبد الله و هو من نشطاء الحركة الطلابية : فقد ذراعه في كوبنهاجن .
- وائل زعيتر (1934 - 1972) ، و هو سياسي و أديب و دبلوماسي ، و ابن مؤرخ فلسطيني معروف هو عادل زعيتر عمل في العمل الإعلامي و الدبلوماسي التابع لمنظمة التحرير ، و خلال عمله ممثلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية في روما ، سجّل له نجاحه في إقامة علاقات واسعة مع النخب السياسية و الأدبية و الثقافية الإيطالية ، و استطاع أن يقدّم القضية الفلسطينية بنجاح ملحوظ للرأي العام الإيطالي ، و أسس مع قوى إيطالية مختلفة لجنة للتضامن مع القضية الفلسطينية ، و ربطته علاقات مع الحزبين الاشتراكي و الشيوعي الإيطاليين ، و ترجم (ألف ليلة و ليلة) للغة الإيطالية ، و كان صديقاً لأديب إيطاليا الكبير ألبرتو مورافيا ، وصله مايك هراري ، في 17/10/1972 بعد فترة وجيزة من عملية ميونخ ، و اغتاله في روما ، و شارك رئيس الموساد نفسه (زامير) باغتياله بإطلاق 12 رصاصة عليه من مسدسات كاتمة للصوت .
- الدكتور محمود الهمشري (1938 - 1972) ممثل منظمة التحرير في فرنسا ، و من المناضلين الأوائل في حركة فتح ، دخل في عام 1968م إلى الأرض المحتلة لتنظيم خلايا للمقاومة ، اغتيل يوم 8/12/1972م ، بواسطة شحنة ناسفة وضعت بجانب تلفون منزله ، و مثل زميله وائل زعيتر ، نجح في إقامة علاقات واسعة مع ممثلي الرأي العام الفرنسي ، و كان هدفاً سهلاً للموساد الصهيوني بحكم عمله السياسي و الدبلوماسي ، و لم يحمِه وجوده الدبلوماسي في فرنسا من قبضة الموساد . و حسب مصادر فلسطينية ، فإن الموساد استخدم حيلة غير معقدة للإيقاع به ، فقبل الاغتيال اتصل به شخص منتحلاً صفة صحافي إيطالي ، طالباً إجراء مقابلة معه ، و تم تحديد مكان اللقاء في مكتب المنظمة في باريس ، و في هذه الأثناء ، التي ضمن فيها الموساد غياب الهمشري عن المنزل ، تسلّل عملاؤه إليه ، و وضعوا عبوة ناسفة في الهاتف ، و عندما رفع الدكتور الهمشري سماعة الهاتف ليجيب عن مكالمة ، ورد على سؤال الطالب على الطرف الآخر ، بأن الدكتور الهمشري يتحدث ، ضغط عملاء الموساد على الزر القاتل ، فتفجّر الهاتف بالدكتور الهمشري ، و تسربت معلومات عن مسؤولية مايكل هراري عن اغتياله .
- باسل الكبيسي (1934 - 1973) ، العراقي أحد نشطاء حركة القوميين العرب و أحد كوادر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فيما بعد و الذي اغتيل ، بسهولة ، في باريس أيضاً (6/4/1973) بإطلاق عدة طلقات عليه ، من قبل إرهابيين ، من مسدس بريتا كاتمٍ للصوت ، و بعد استشهاده نشر رفاقه في الجبهة الشعبية رسالته التي نال عنها درجة الدكتورة في العلوم السياسية ، و هي دراسة هامة عن (حركة القوميين العرب) .
- اغتيال ثلاثة من القادة البارزين ، كمال ناصر : الناطق باسم منظمة التحرير ، كمال عدوان ، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ، محمد يوسف النجار : عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ، و ذلك في العملية التي عرفت باسم ربيع فردان يوم 10/4/1973 .
- زياد وشاحي ، اغتيل في قبرص (9/4/1973) ، و ذلك بتفخيخ سيارته .
- عبد الهادي نفاع و عبد الحميد الشيبي ، اغتيلا في روما (10/6/1973) ، بتفخيخ سيارة .
- حسين علي أبو الخير : اغتيل في نيقوسيا (25/11/1973) ، و كان ممثلاً لمنظمة التحرير في قبرص ، و استطاع عملاء الموساد اغتياله بواسطة شحنة ناسفة وضعت تحت سريره في الفندق الذي ينزل فيه ، و كان يعتبر قناة الاتصال بين المنظمة و المخابرات السوفيتية .
- موسى أبو زياد : اغتيل في نيسان 1973م في أثينا بشحنة ناسفة وضعت في غرفة فندقه .
- محمود بوضياء : و هو مواطن جزائري يعمل في صفوف منظمة التحرير اغتيل في باريس (28/6/1973) بواسطة سيارة مفخخة . و حكاية بوضياء الذي عمل في فترة من حياته مخرجاً مفجعة ، فهو كان في بيروت عام 1973 عندما وقعت عملية (ربيع فردان) التي تقل فيها ثلاثة من كبار قادة منظمة التحرير الفلسطينية التي طلبت منه ، و هو الذي يتقن اللغة الفرنسية ، أن يساعد في التحقيق مع مواطن فرنسي اسمه : إيف دي توريس كان يملك مطعماً في بيروت ، و اتضح للمحققين الفلسطينيين في قضية (ربيع فردان) أنه له علاقة بالموضوع .
و قيل إن الفرنسي كاد يعترف ، و لكن ضغوطاً من الدولة اللبنانية على جهاز الرصد الفلسطيني و اتهامه بأنه يمارس سلطات الدولة اللبنانية ، جعلته يسلم المواطن الفرنسي المتهم للحكومة اللبنانية التي أفرجت عنه بعد 24 ساعة و سمحت له بمغادرة لبنان و بعد شهر أرسل بوضياء رسالة من باريس التي وصل إليها لأصدقائه الفلسطينيين في بيروت قال فيها : "ليس من قبيل الصدفة أن أصطدم بالفرنسي دي توريس الذي حقّقت معه في بيروت في كلّ مكان أذهب إليه في باريس" . و بعد يومين من تسلّم الرسالة اغتيل بوضياء .. !
- محمود ولد صالح ، و هو أحد كوادر منظمة التحرير اغتيل في باريس (2/2/1977) .
- الدكتور عز الدين القلق ، اغتيل في باريس 2/8/1978 ، التي كان ممثلاً لمنظمة التحرير فيها ، و لينضم لكوكبة المثقفين و الدبلوماسيين الذين طاولتهم يد الموساد الطويلة ، و هو ، من جانب آخر أحد ضحايا القصور الفلسطيني في حماية الكوادر .
- إبراهيم عبد العزيز : اغتيل بتاريخ 15/12/1978 في قبرص ، و كانت له مسؤوليات تتعلق بالعمل العسكري في الأراضي المحتلة .
- علي حسن سلامة ، القائد الأمني البارز في منظمة التحرير ، اغتيل في بيروت (22/1/1979) ، و المسؤول عن عدة عمليات استهدفت المصالح الصهيونية و الغربية ، و ارتبط اسمه خطأ بمنظمة أيلول الأسود و بعملية ميونخ أيضاً .
- زهير محسن ، زعيم منظمة الصاعقة ذات الصلة الوثيقة بحزب البعث السوري ، و ممثلها في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ، اغتيل في مدينة كان الفرنسية السياحية (25/7/1979) .
- يوسف مبارك ، و هو أحد المثقفين المناضلين ، اغتيل في باريس (18/2/1980) .
- الدكتور نعيم خضر ، ممثل منظمة التحرير في بروكسل ، و هو مناضل و مثقف معروف ، اغتيل في بروكسل (1/6/1981) .
- محمد طه ، و هو أحد ضباط الأمن في حركة فتح ، اغتيل في روما (16/6/1980) .
- طارق سليم : من كوادر حركة فتح و تم اغتياله في بيروت بتفجير قنبلة (10/11/1981) .
- إلياس عطية : من كوادر حركة فتح اغتيل و زوجته (10/4/1982) .
- نزيه درويش اغتيل خارج مكتب منظمة التحرير في روما (16/6/1982) .
- عزيز مطر ، و هو طالب فلسطيني في جامعة روما ، اغتيل بإطلاق النار عليه أمام منزله في روما (17/6/1982) .
- كمال حسن أبو دلو ، نائب مدير مكتب منظمة التحرير في روما ، اغتيل في روما (17/6/1982) .
- فضل سعيد الضاني ، نائب مدير مكتب منظمة التحرير في باريس التي اغتيل فيها (23/7/1982) .
- مأمون شكري مريش ، أحد مساعدي الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) و مكلف بالعمليات الخارجية ، تم اغتياله في أثينا (30/8/1983) .
- جميل عبد القادر أبو الرب ، مدير شركة ملاحة تجارية في اليونان ، اغتيل في أثينا (22/13/2/1983) .
- إسماعيل عيسى درويش ، من كوادر حركة فتح العاملين في القطاع الغربي المسؤول عن الأرض المحتلة ، اغتيل في روما (14/12/1984) .
- خالد نزال ، عضو اللجنة المركزية في الجبهة الديمقراطية ، اغتيل في روما (9/6/1986م) ، عندما أطلق النار عليه مسلحان على دراجة نارية على بوابة أحد الفنادق . و اتهمت عميلة أمريكية للموساد تدعى (ألن بكلي) بالتورط في حادث الاغتيال ، و حسب المصادر الفلسطينية فإن بكلي ، أصبحت عضوة في الجبهة الديمقراطية ذات التوجه اليساري و الأممي ، و تعرّفت على خالد نزال ، أحد المسؤولين العسكريين في الجبهة الديمقراطية ، و له علاقة بالعمل العسكري في الأرض المحتلة ، و عرفت ألن بكلي ، بموعد لقاء بين نزال و أعضاء من الجبهة في الأرض المحتلة سافروا للقاء نزال في العاصمة الإيطالية ، و كان من المفترض أن تحضر بكلي ، و لكن حضر بدلاً منها عميلان للموساد انتظرا نزال على باب الفندق ، فأطلقا النار عليه و فرّا على دراجتهم النارية ، ليسقط نزال شهيداً و ضحية للإرهاب الصهيوني ، و قصور الاحتياطات الأمنية الواجب اتخاذها .
- منذر جودة أبو غزالة ، قائد البحرية الفلسطينية و عضو المجلسين الثوري لحركة فتح و العسكري لمنظمة التحرير ، اغتيل في أثينا (21/10/1986) .
- و اغتال الموساد أيضاً ثلاثة من كوادر فتح ، عرفوا بميولهم الدينية ، و اتهموا بتخطيطهم لعمليتين ضد الصهاينة بالقدس في حائط المبكى و في الكنيست ، و اعتبروا مؤسسين للجناح العسكري لما سيعرف بحركة الجهاد الإسلامي ، و هم حمدي سلطان ، مروان الكيالي ، و محمد حسن الذين تم اغتيالهم في قبرص يوم 14/2/ 1988م ، عندما استقل الأصدقاء الثلاثة سيارة مروان الكيالي ، فتم تفجير السيارة عن بعد ، بينما كانت زوجة مروان ترقب المشهد من شرفة منزلها ، و كان ذلك أثناء التحضير لما عرف باسم سفينة العودة التي تمكّن عملاء الموساد من تفجيرها هي الأخرى في اليوم التالي . و كان المسؤول المباشر عن عملية الاغتيال رئيس الموساد وقتذاك ناحوم أدموني الذي أرسل فريقاً من القتلة إلى ميناء ليماسول القبرصي قاموا بتفخيخ السيارة التي أودت بحياة الرفاق الثلاثة و كانت من نوع فولكسفاجن (غولف) .
- خليل الوزير (أبو جهاد) ، الرجل الثاني في حركة فتح ، و من مؤسسي الحركة مع ياسر عرفات و آخرين ، و أرفع شخصية تغتالها (إسرائيل) ، و تم ذلك بعملية (غزو) في مقر إقامته في تونس العاصمة (16/4/1988م) .
- و بتاريخ 14/1/1991م تم اغتيال القائد الفلسطيني الأبرز صلاح خلف (أبو أياد) مع اثنين من مساعديه فخري العمري (أبو محمد) ، هايل عبد الحميد (أبو الهول) و هو مؤسس منظمة أيلول الأسود التي نفّذ رجالها عملية ميونخ ، و رجل الأمن الأول في فتح و منظمة التحرير ، و كانت منظمة التحرير فتحت تحقيقاً في الموضوع ، و حكم على منفّذي الاغتيال بالإعدام .
- عاطف بسيسو : أحد الذين خلفوا أبو أياد في قيادة جهاز الأمن الفلسطيني ، اغتيل في باريس (8/6/1992) .
و كان التبرير لمعظم عمليات الاغتيال هذه هو عملية قتل البعثة الصهيونية في ميونخ ، و هو ما يستوجب وقفة ، و إشارة إلى أن عمليات الاغتيال التي استهدفت كوادر و قادة منظمة التحرير ، سبقت العملية و مثال ذلك : محاولة اغتيال بسام أبو شريف رئيس تحرير مجلة الهدف الناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بطرد ملغوم ، أدّى إلى إصابة أبو شريف بتشوهات في وجهه ، و محاولة اغتيال أنيس صايغ مدير مركز الأبحاث الفلسطيني و التي أحدثت تشوّهاً في جسد الرجل أيضاً ، و المحاولة الناجحة لاغتيال أحد الكوادر التي لم تعرف أبداً بنشاطها العسكري ، و هو غسان كنفاني الأديب المعروف ، الذي زرع الموساد عبوة متفجرة كبيرة تحت كرسي السائق في سيارته و عندما أدار المحرك صباح يوم 8/7/1972 م استشهد مع ابنة أخته لميس ، التي كان مصطحبها معه لتسجيلها في الجامعة، وغسان هو من معسكر سياسي مغاير لفتح، كونه عضوا بارزا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين . و يمكن اعتبار عملية ميونخ في أحد وجوهها ردّ فعل على عملية الموساد ضد كنفاني في بيروت ، عندما أيقن أبو إياد و رجاله أن بيروت لم تعد آمنة لرجال منظمة التحرير ، و أنه لا بد من عملٍ و ردّ يفهم (الإسرائيليين) ، بأن الفلسطينيين يستطيعون الرد .
أما الوقفة فتتعلق بما جرى فعلاً في ميونخ ، و بعد أن استمع العالم مطولاً ، لاتهامات (إسرائيل) حول العملية ، تحدّث القائد الفلسطيني محمد داود عودة (أبو داود) ، الذي فشلت (إسرائيل) في محاولات لاغتياله ، للصحافي الفرنسي جيل دو جونشية و أصدر كتاباً روى فيه تفاصيل عملية ميونخ بعنوان (فلسطين : من القدس إلى ميونخ) و أثار ذلك زوابع في صيف 1999م أي بعد 27 عاماً من ميونخ ، محملاً القيادة (الإسرائيلية) و غولدا مئير المسؤولية عن مقتل الرياضيين (الإسرائيليين) في ميونخ ، و مؤكّداً أن معظم من تم اغتيالهم بحجة ميونخ ليسوا لهم علاقة بذلك ، و أن (إسرائيل) لا بد و أنها كانت تدرك ذلك .
تعليق
-
ميونخ أولاً
اكتسبت عملية ميونخ التي تبنّتها منظمة أيلول الأسود ، و التي أخذت اسمها من الأحداث الدامية في الأردن بين قوات منظمة التحرير و الجيش الأردني و التي انتهت بخروج الفدائيين الفلسطينيين من الأردن إلى لبنان ، التي كان قائدها الأبرز صلاح خلف (أبو أياد) ، أهمية كبيرة و أحدثت دوياً و صدى تردّد صداه في العمليات المخابراتية الكثيرة خلال أكثر من عقد في عواصم العالم المختلفة و التي كان من نتائجها المأساوية تلك الاغتيالات التي طالت مثقفين و سياسيين و دبلوماسيين فلسطينيين و عرب بذريعة مسئوليتهم عن تلك العملية و هو أمر غير صحيح .
و في صيف 1999م ، فجّر القائد العسكري الفلسطيني السابق محمد داود عودة (أبو داود) قنبلة غير عسكرية هذه المرة ، و هو المسؤول عن تفجيرات عسكرية كثيرة ، حين نشر كتابه (فلسطين من القدس إلى ميونخ) الذي يتحدّث فيه للصحافي الفرنسي جيل دو جونشية ، عن رحلته من مسقط رأسه في سلوان بالقرب من القدس إلى تخطيطه لعملية ميونخ ، و اعترافه بمسئوليته المباشرة عن تلك العملية ، التي أودت بحياة 11 رياضياً صهيونياً و رجل شرطة و طياراً ألمانيين ، و نافياً أي علاقة لآخرين ارتبطت أسماؤهم بمنظمة أيلول الأسود أو ميونخ بتلك المنظمة أو العملية أمثال أبو حسن سلامة الذي اغتيل في بيروت عام 1978م رغم أنه أصدر بياناً بمسؤولية المنظمة عن إحدى العمليات التي قام بها ، و كذلك أبو يوسف النجار الذي اغتيل في عملية ربيع فردان في بيروت 1972م و الذي أصدر بياناً أعلن مسؤولية منظمة أيلول الأسود عن اغتيال وصفي التل رئيس وزراء الأردن ، و حتى خليل الوزير الرجل الثاني في فتح الذي اغتالته المخابرات الصهيونية عام 1988 في تونس لم يكن له علاقة بمنظمة أيلول الأسود أو عملية ميونخ ، رغم أنه أصدر في إحدى المرات بياناً أعلن فيه مسؤولية أيلول الأسود عن عملية نفّذها رجال أبو جهاد في بانكوك ، و هذا كله على مسؤولية أبو داود ، بعد سنوات طويلة من الصمت .
و لدى الإعلان عن نشر الكتاب بالفرنسية ، و إعطاء أبو داود أحاديث عديدة للصحافة عن حقيقة ما حدث في ميونخ بالأسماء و المعلومات ، أعلنت (إسرائيل) عن عدم سماحها لأبي داود بالعودة إلى فلسطين ، و التي كان دخلها في ظروف سمحت فيها (إسرائيل) لأعضاء المجلس الوطني الفلسطيني بالدخول إلى غزة لعقد اجتماع حضر جلسته الافتتاحية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون و قرر المجلس إلغاء بنود في الميثاق الوطني الفلسطيني كانت (إسرائيل) تشترط إلغاءها .
و لم تكن (إسرائيل) وحدها التي أثارها ما قاله أبو داود من معلومات جديدة عن عملية ميونخ ، فالأرجح أنها كانت تعرف الكثير من الحقائق عن تلك العملية و عن مسؤولية صلاح خلف (أبو أياد) و أبو داود عنها ، بل أعلنت فرنسا مثلاً بأن أبو داود شخص غير مرغوب فيه و منعته من دخول البلاد عندما دعته دار النشر (أن كاري ير) التي أصدرت كتابه (فلسطين : من القدس إلى ميونخ) للحضور إلى فرنسا احتفالاً بصدور الكتاب .
و أصدرت ألمانيا مذكرة توقيف بحق أبو داود لاعترافه بمسئوليته عن العملية التي جرت فصولها الرئيسية على أرضها . و المذكرة أصدرها المدعي العام في جمهورية بافاريا ألفريد فيك ، و لم تكن تلك المرة الأولى التي يحدث فيها هذا ، ففي عام 1977م أوقف أبو داود في باريس ، بموجب طلب تسليم من محكمة بافاريا ، و لكن السلطات الألمانية الفدرالية أبطلت ذلك الطلب في حينه و أبلغت فرنسا بذلك .
و كلا الموقفين (الإسرائيلي) و الألماني ، بعد نشر الكتاب و الزوابع التي خلقها ، لهما أسبابهما ، التي سنتوقف عندها بعد أن نعرف ما حدث في ميونخ حسب رواية أبو داود .
و استهجنت بعض الأوساط الفلسطينية ما ذكره أبو داود في مقابلاته الكثيرة ، عن رفاق السلاح السابقين و معظمهم رموز وطنية بارزة مثل أبو يوسف النجار عضو اللجنة المركزية لحركة فتح الذي اغتالته (إسرائيل) في نيسان 1972م . و حدث تنابذ إعلامي ، إن صح التعبير ، من مناضلين سابقين ، بحق أبو داود ، معتبرين أن (التاريخ لا يكتبه شخص واحد) ، و متهمينه بأنه يحاول التقليل من أدوار الآخرين .
و حظي أبو داود بتكريم بعض الجهات ، فمنح جائزة (فلسطين - محمود الهمشري) و الهمشري كما أشرنا ممثل منظمة التحرير الفلسطينية الذي اغتيل في فرنسا علم 1973م ، لسنة 1999م ، تكريماً له بعد نشر كتابه ، و أنشأت الجائزة جمعية التضامن العربية - الفرنسية و مجلة فرنسا - البلاد العربية ، بعد اغتيال الهمشري .
يقول أبو داود إنه كان موجوداً في 18/8/1972م في العاصمة التونسية ، مع أبي عمار و أبو يوسف النجار و أبو إياد ، في دارة وزير الخارجية التونسي محمد المصمودي الفخمة التي أعارها لهؤلاء ، حين كان هو في إجازة .
و سبب وجود أبو داود مع قادة الصف الأول أولئك ، هو أن العادة جرت أن يرافق أي وفد من اللجنة المركزي لحركة فتح حين يكون في زيارة لبلد آخر لإجراء محادثات سياسية أن يرافق الوفد واحد أو اثنان من المجلس الثوري لحركة فتح ، و أبو داود عضو في هذا المجلس الذي ينتخب من بين أعضائه ، قيادة حركة فتح .
و ذهب مع هؤلاء القادة إلى تونس تلبية لطلب صلاح خلف (أبو أياد) الذي قال له ستمضي معنا يومين أو ثلاثة ثم تتجه إلى ميونخ .. ! ، تلك المدينة الألمانية كان سيتم فيها افتتاح الألعاب الأولمبية في 26 آب .
و كان أبو داود و أبو أياد و محمود عباس (أبو مازن) ، فكّروا بالقيام بعملية مدوية للفت انتباه العالم للقضية الفلسطينية ، و كان التفكير بدأ بعملية خطف الرياضيين (الإسرائيليين) المشاركين في تلك الألعاب .
في البداية كان هناك تفكير للعمل ضد الموساد و أذرعه ، و لكن جاءت عملية قتل غسان كنفاني في 8/7/1972م ، لتحمل رسالة فهمها المسؤولون الفلسطينيون بأن الصهاينة يقتلون من يستطيعون الوصول إليه من القيادات الفلسطينية بغض النظر عن مهامه : عسكرية أم سياسية كما كانت مهمات غسان ، لتجعلهم يفكّرون بعمل كبير يقول للصهاينة إن الفلسطينيين يستطيعون الوصول إليهم في الخارج حيث يسرح و يمرح رجال الموساد و ليرضوا شعبهم الذي كان ينتظر منهم عملية ذات طابع ثأري على عمليات الاغتيال و على القصف الصهيوني المتزايد لقواعد الفدائيين في لبنان ، و كان هناك تقدير بأنه إذا لم يكن هناك مبادرة لعمل ثأري ، فستخسر فتح ، كبرى الفصائل الفلسطينية ، كثيراً جداً من رصيدها .
و كان هناك عدة اقتراحات ، مثل استهداف سفارات و قنصليات صهيونية ، و لكنها رفضت ، لتجنب الإحراجات مع الدول المضيفة لتلك السفارات و القنصليات ، و برزت فكرة ميونخ ، عندما رفضت اللجنة الأولمبية إشراك فريق فلسطيني في الأولمبياد العشرين في ميونخ ، فاقترح فخري العمري (أبو محمد) مساعد أبو إياد و الذي اغتيل معه لاحقاً ، بالدخول إلى القرية الأولمبية بدون إذن .
و عندما سأله أبو إياد :
- ماذا نفعل هناك ؟
أجابه فخري العمري :
- نحتجز الرياضيين (الإسرائيليين) .
فرد عليه أبو إياد :
- أنت مجنون .
و تدخّل أبو داود مؤيداً لفكرة فخري العمري ، على اعتبار أن الصهاينة لا يولون أية أهمية أو اعتباراً لأي شيء ، و لأن رياضييهم أصلاً عسكريون .
و لتعزيز فكرته قال أبو داود إن (المدرّبين و المعالجين و الرياضيين يأتون عملياً من مؤسسة أورد وينغايت التي تحمل اسم ذلك الضابط البريطاني سيئ السمعة الذي نظّم بين عامي 1973 - 1939 في فلسطين و بمساعدة الهجاناة قوات المغاوير التي خاض ضمنها أمثال ديان و ألون أولى معاركهم ضد جيل آبائنا ، و تحوي المؤسسة تجهيزات هائلة قرب البحر شمال تل أبيب ، و بحسب ما يوحيه اسمها ، يقوم بالمهمات الإدارية و التنظيمية فيها قدامى ضباط الاستخبارات أو ضباط فرق المغاوير الخاصة الذين ينتمون إلى كوادر الاحتياط في الجيش الصهيوني ، و تدرّب فيها كل الرياضات ، و يجري فيها بشكلٍ خاص إعداد المصارعين و أبطال الرماية) .
و يبدو أن أبو أياد اقتنع ، فطلب من أبي داود ، خلال جولته في مهام في أوروبا ، لشراء أسلحة ، أن يمر إلى ميونخ و يستطلع الأمر .. ! ، على أن يكلم أبو أياد أبا مازن ، المسؤول المالي في ذلك الحين ، كي يتم توفير ميزانية للعمل إذا تم الاتفاق عليه .
لدى وصوله إلى ميونخ ، بدأ أبو داود مهمته ، حصل على خريطة للمدينة و كتيبات خاصة بالأولمبياد و قائمة بأسماء الفنادق و خطط سير المترو و كتيبات أخرى بهذا الشأن ، و استقل المترو و ذهب إلى القرية الأولمبية شمال المدينة و استطلع الأمر و لكن كان العمل لا زال جارياً في القرية ، و بعدها بأيام قابل أبا أياد في أثينا ، فأخبره بموافقة أبي مازن مبدئياً على العملية و طلب منه دراسة الوضع من جديد .
و في هذه الأثناء ، جرت محاولة لاغتيال بسام أبو شريف رئيس تحرير مجلة الهدف ، المجلة المركزية للجبهة الشعبية بواسطة طرد مفخخ ، و كذلك جرت محاولة لاغتيال أنيس صايغ مدير مركز الأبحاث الفلسطيني ، و أسفرت المحاولتان عن إحداث تشوهات في الرجلين اللذين لم يكونا لهما أي علاقة بالعمل العسكري .
و مضت الخطة بالتبلور أكثر فأكثر ، و التقى أبو داود مع أبو أياد و فخري العمري في صوفيا عاصمة بلغاريا و ناقشوا من جديد أموراً تتعلق بالعملية المراد تنفيذها في ميونخ ، مثل البلاغ الذي سيسلّمه الفدائيون الذين سيحتجزون الرياضيين الصهاينة ، للسلطات الألمانية ، و القائمة التي ستضم أسماء معتقلين فلسطينيين في سجون (إسرائيل) للطلب بإطلاق سراحهم مقابل إطلاق سراح الرياضيين ، و تذليل العقبات بشأن جوازات السفر للذين سينفذون العملية و تأشيرات الدخول و الإقامة و تأمين وصول السلاح .
و تم الاتفاق مبدئياً على أن يكون يوسف نزال الملقب بـ (تشي) ، قائداً لفرقة الفدائيين الذين سينفّذون العملية ، يقول أبو داود عنه إنه (أحد ضباط العاصفة الشبان ، كنت التقيته مرة في نهاية 1971 ، عندما كنت قائد الشعبة 48 ، كانت قاعدته قرب النبطية في جنوب لبنان ، و كان من أولئك الذين يقومون بعمليات خلف الحدود مع (إسرائيل) ، و هو أصغر مني بعشر سنوات تقريباً ، و قد تدرّب على يد صديقي الراحل وليد أحمد نمر (أبو علي أياد) و كان يتبعه في الربيع السابق في تلال جرش و عجلون في الأردن ، و قد نجا من الكارثة النهائية ، مثله مثل عدد من الآخرين ، و أخيراً كان في عداد قادة الفدائيين الذين رأيتهم في بيروت ، بعد غارات الطيران الصهيوني القاتلة في شباط 1972 على جنوب لبنان ، و هم يتوسلون أبو أياد القيام بتنظيم شيء ما ، في مكان ما ، فيردّون بذلك الصاع صاعين ، و التحق منذ ذلك الوقت بمخيمنا الصغير شمال صيدا) .
و لكن كان هناك شيء سلبي لدى (تشي) كما رأى أبو داود ، و هو قصر قامته ، لأن الفدائيين الذين سينفّذون العملية عليهم تسلق سياج بطول مترين للدخول إلى القرية الأولمبية ، و احتجاز الرياضيين الصهاينة و بدء عملية المقايضة بأسرى في سجون الاحتلال .
و تبلورت خطوط تفصيلية للعملية : يدخل الفدائيون و هم يلبسون الملابس الرياضية عن طريق السياج ، كأنهم فرقة رياضية عائدة بعد سهرة ، و يقتحمون مقر البعثة الصهيونية و الرياضيون نيام ، و تم الاتفاق مبدئياً على أنه إذا كان عدد الرياضيين الصهاينة مع طاقم التدريب و الإدارة يصل إلى ثلاثين ، فإن عشرة رجال يكفون لتنفيذ المهمة التي لن تطول إلا عدة ساعات .
و كل ذلك تم بين أبو داود و فخري العمري و يوسف نزال (تشي) الذين التقوا في ميونخ و بدأوا بدراسة الوضع ميدانياً على الأرض . و بعد ذلك حدث لقاء بين أبو داود و أبو إياد في بيروت ، تم فيها وضع أبو إياد في صورة ما حدث ، و تم تجهيز جوازات سفر أردنية مزورة لدخول الفدائيين بها إلى ألمانيا ، و تم دراسة تفاصيل عملية التبادل المفترضة و تجهيز لائحة تضم مائتي أسير كان سيتم إضافة أسماء أسيرتين مغربيتين و فرنسيتين اعتقلن أثناء تهريبهن سلاحاً لصالح الجبهة الشعبية و كذلك كوزو أوكاموتو من الجيش الأحمر الياباني و الذي نفذ مع رفاق له عملية في مطار اللد ، و ستة من الضباط السوريين و اللبنانيين أسروا من جانب الكيان الصهيوني .
و باقتراح من أبي داود ، أضيفت للقائمة اسمي (أولركه ماينهوف) و (أندرياس بادر) ، من مجموعة (بادر ماينهوف) الراديكالية الألمانية ، المتعاطفة مع قضية الشعب الفلسطيني ، المحتجزان في السجون الألمانية . باعتقاد أن ذلك قد يشكّل ضغطاً على الحكومة الألمانية .
و أخبره أبو أياد بأنه سيوافيه في ألمانيا ، لوضع اللمسات الأخيرة على العملية و توصيل السلاح ، و بعد أيام ذهب الإثنان مع وفد فتح المركزي إلى تونس حيث مكثوا في منزل وزير الخارجية المصمودي ، كما أشرنا ، و من تونس غادر أبو داود إلى ميونخ .
و بدأ عمله في رصد و جمع المعلومات عن ما يجري في القرية الأولمبية و ما يتعلق بالبعثة الصهيونية ، و تحديد المبنى الذي ستنزل فيه البعثة . و لحقه أبو أياد في 24/8 ، و التقيا في فرانكفورت ، كان أبو أياد قد أدخل معه الأسلحة في حقيبتين مع امرأة اسمها جوليت ، و رجل فلسطيني اسمه علي أبو لبن ، مرت الأمور بسلام في المطار و بدون إثارة أية شبهة .
و كانت الأسلحة عبارة عن ستة كلاشكينوف و رشاشين من نوع كارل – غوستاف ، و تم الاتفاق على أنه بعد أن يعود أبو أياد و علي في اليوم التالي إلى بيروت ، سيعود علي على أول طيارة و معه قنابل يدوية .
و عاد أبو داود إلى ميونخ ، و أودع الأسلحة في الحقيبتين في خزائن الودائع في المحطة ، و كان يحرص على تغيير مكانهما كل 24 ساعة ، و وصلت حقيبة القنابل اليدوية ، و افتتحت الألعاب الأولمبية في 26/8 ، بينما كان أبو داود مستمراً في عمله و تمكن ، بمساعدة امرأة فلسطينية تتقن الألمانية من الدخول إلى القرية الأولمبية و رصد مكان البعثة الأولمبية عن كثب ، ثم تمكّن أيضاً من الدخول مع يوسف نزال و محمد مصالحة الذين سيقودان مجموعة الفدائيين ، و الأكثر من هذا خدمته الصدفة و الجرأة فدخلوا إلى مقر البعثة الصهيونية ، و اكتملت تفاصيل خطة احتجاز الرياضيين على أرض الواقع .
كان مع أبي داود في ميونخ يوسف نزال (تشي) و محمد مصالحة ، و اتصل أبو داود بعاطف بسيسو ، أحد مساعدي أبو إياد ، في بيروت طالباً منه إبلاغ فخري العمري بأن كل شيء جاهز ، و بأن يرسل الرجال الستة الآخرين ، منفردين إلى ميونخ .
عقد أبو داود اجتماعا مع يوسف نزال و محمد مصالحة اللذان لم يكونا يعرفان سوى الخطوط العريضة للمهمة ، و شدّد عليهما بعدم القيام بأي عمل انتقامي ضد الرياضيين الذين سيتم احتجازهم مثل القتل أو الجرح ، و بأن العملية هي سياسية و ليست عسكرية ، و الظهور أمام الرأي العام كمقاتلين متمالكين لأعصابهم ، و معاملة المحتجزين بشكلٍ جيد و التخفيف عنهم إذا لزم الأمر ، و التوضيح لهم بأن الفدائيين مجبرون على توثيق أيديهم بالحبال لأسباب أمنية ، و أن الهدف هو مبادلتهما بأسماء 236 أسيراً تضمنّتهم اللائحة النهائية .
و تم مناقشة أية أمور قد تطرأ ، فمن بين المحتجزين المفترضين ، هناك مصارعين و رجال أقوياء و آخرون تدرّبوا في الجيش ، و إن ذلك قد يستدعي استخدام العنف لضبطهم . و تم الاتفاق على عدم فتح النار إلا إذا كان خياراً أخيراً و وحيداً .
و ناقشوا تفاصيل المطالب و طلب الطائرة لنقلهم و الأسرى إلى بلد آخر ، و حدود التنازل عن المطالب و تم تعيين يوسف نزال مسؤولاً عسكرياً عن المجموعة ، أما محمد مصالحة فتم تعيينه مسؤولاً سياسياً عنها ، بعد أن لمس أبو داود لديه ، ما يسميه نضجاً سياسياً .
و يوم 4/9 وصل الستة الآخرون و نزلوا في فنادق متفرقة ، كان اتصالهم مع نزال و مصالحة فقط ، و لم يكونوا يعرفون عن أبي داود شيئاً ، كما اعتقد أبو داود ، الذي أكمل الاستعدادات فاشترى ملابس رياضية و جهّز آلات حادة و حبالاً و مؤونة طعام تكفي لثلاثة أيام و غير ذلك من مستلزمات العملية .
و تم توزيع الأسلحة التي جلبت من المحطة على الحقائب و كذلك المؤونة و غير ذلك ، و التقى أبو داود مع الجميع ، و قدّمه نزال و مصالحة على أنه رجل تشيلي يدعم القضية الفلسطينية ، و تم وضعهم في صورة المهمة المنتظرة و مناقشة مزيدٍ من التفاصيل .
و استمر اللقاء يوم 5/9 حتى الثانية و النصف فجراً ، و توجّه الجميع إلى القرية الأولمبية ، و لدى وصولهم ، و أبواب القرية مغلقة ، وصل أفراد من البعثة الأمريكية و هم ثملين ، و بدءوا في محاولة تسلق السياج ، و اختلط الفدائيون بالأمريكيين و ساعدوا بعضهم بعضاً على تسلق السياج ، بينما الجميع يضحك و يغني .
و يذكر أبو داود هنا مفاجأة أخرى ، غير مفاجأة مساعدة الأمريكان لهم بدون أن يدرون ، فبعد أن تسلّق الرجال السياج لم يبقَ من المجموعة غير فدائي واحد ، كان كبير الحجم مثل أبو داود ، و كان الإثنان يساعدان الآخرين كنقطتي ارتكاز لرفعهم ، و الآن جاء دور هذا الفدائي لكي يستخدم أبو داود كنقطة ارتكاز لتسلقه السياج ، و بعد أن نجح في ذلك و أصبح فوق السياج شكر أبو داود ذاكراً اسمه ، و معنى ذلك أنه كان يعرف طوال الوقت هوية أبو داود ، الذي قدّم للفدائيين بأنه رجل تشيلي مؤمن بالقضية الفلسطينية .
و فيما بعد قال أبو داود واصفاً ذلك المشهد (كان المنظر خيالياً أن ترى هؤلاء الأمريكيين ، الذين لا يشكّون بالطبع أنهم يساعدون مجموعة من فدائيي أيلول الأسود الفلسطينيين في الدخول إلى القرية الأولمبية ، يمدّون أياديهم هكذا يأخذون حقائبنا المليئة بالأسلحة و يضعونها على الجهة الأخرى من السياج) .
و في الساعة الرابعة فجراً ، غادر أبو داود مستقلاً سيارة إلى فندقه ، و أخذ يستمع إلى الراديو و يقلب المحطات ، و في الساعة الثامنة صباحاً أعلن عن نجاح خمسة مسلحين من التسلل إلى جناح البعثة الصهيونية و قتل واحداً و احتجز 13 آخرين .
ذهب أبو داود إلى القرية الرياضية ليكون على قربٍ من الأحداث ، و كان الجميع يستمعون إلى أجهزة الراديو و الألعاب مستمرة ، و تم نقل الخاطفين مع المخطوفين إلى المطار ، حيث كان بانتظار الجميع مذبحة شاركت فيها غولدا مئير رئيسة وزراء (إسرائيل) بتعنّتها ، حيث تم مهاجمة الجميع من الكوماندوز الألماني و تم قتل كلّ الرهائن و خمسة من الفدائيين و شرطي و طيار مروحية ألمانيين .
و هكذا انتهى أحد فصول عملية ميونخ التي أسماها الفلسطينيون عملية (أقرت و كفر برعم) على اسم القريتين المهجرتين في الجليل الفلسطيني ، الذي يعتبره كثير من الفلسطينيين ، بجماله الأخاذ ، قطعة من الجنة .. ! .
تعليق
-
ميونخ أخيراً
و بدأ العالم يردّد كيف أن الفلسطينيين ارتكبوا المذبحة التي ذهب ضحيتها الصهاينة و الألمانيين و خمسة منهم ، حتى أن صناعة السينما استغلت الحدث و تم إنتاج فيلمٍ بعنوان (21 ساعة في ميونخ) عرض الحقائق من وجهة نظر الإعلام الصهيوني و الغربي ، و كان لدى الفلسطينيين كما قال أبو داود (مصلحة) في بقاء الصورة على ما عليها ، و يذكر أنه عندما ترك ميونخ في 6/9 متوجهاً إلى تونس و التقى هناك أبو إياد ، أخبره الأخير بأنه إذا تم الفشل في إطلاق سراح الأسرى فإنه تم تحقيق الأهداف الأخرى ، و أهمها تحقيق نجاحٍ لدى الفلسطينيين الذين فرحوا في أرض الوطن و في مناطق الشتات و هم يرون رجالهم يقومون بعمل ثأري بطولي ضد الصهاينة .
و لكن ما حدث حقيقة ، هو أن السلطات الألمانية وافقت على نقل الخاطفين و المحتجزين إلى مطار فروشتفنلد ، حيث يجب أن تنتظرهم طائرة كان من المفترض أن يستقلها الخاطفون و الرهائن و التوجه بها إلى بلد آمن ، بالنسبة للفلسطينيين كان هذا البلد هو مصر ، حيث إن المتوقع من الحكومة المصرية أن لا تقوم بإطلاق سراح الصهاينة و هم من دولة معادية دون ثمن و الثمن هو إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين .
و لكن ما خطط له بالخفاء لم يكن كذلك ، فغولدا مئير رئيسة وزراء الكيان الصهيوني رفضت من حيث المبدأ الاستجابة لمطالب الخاطفين ، و أوفدت رئيس الاستخبارات العسكرية إلى ألمانيا لوضع كمين ، لإنهاء عملية الاختطاف .
و عندما حطّت المروحيتان على أرض المطار حتى ذهب يوسف نزال (تشي) و محمد مصالحة لتفقد الطائرة الجاثمة في المطار التي ستقل الجميع ، و عندما أنهيا الفحص و عادا أدراجهما ، فتحت القوات الألمانية النيران باتجاههما فاستشهدا فوراً إضافة إلى واحدٍ أو اثنين من الفدائيين الذين نزلوا من المروحيتين.
و كان الخطأ بالنسبة للإثنين أنهما ذهبا لوحدهما لتفحص الطائرة و كان يجب أن يذهب الجميع معاً ، و بعد أن سقط ثلاثة أو أربعة من الفدائيين ، كان الآخرون تحت المروحيتين أو في داخلهما و لم يستسلموا ، و ردّوا على مصادر النيران الألمانية ، و حدث ما حدث .. !
و كانت القصة التي تم ترويجها بأن الفدائيين ، و قد وجدوا أنفسهم في هذا المأزق أخذوا في قتل الرهائن الصهاينة ، و كان لدى الفلسطينيين (مصلحة) في تلك الرواية (حول الفدائيين الذين رأوا غدر الألمان فقاموا بالانتقام الفوري لرفاقهم الذين سقطوا) .
و ذهب القائمون على العملية إلى أبعد مدى لتثبيت هذه الرواية ، ففي السابع من أيلول أصدرت الحكومة المصرية بياناً قالت فيه إن الوحدات الألمانية هي التي قتلت الخاطفين و المخطوفين ، فما كان من المسؤولين الفلسطينيين إلا (تكذيب) هذا البيان.
و في مساء ذلك اليوم سلّم إلى وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) خبر يعرض تفاصيل جديدة عن ما حدث مستنداً إلى (مصادر خاصة) يقول الخبر إن (رجالنا فجّروا قنابلهم داخل طائرتي الهليكوبتر مما أدّى إلى استشهادهم ، و إلى موت الرهائن و بعض الطيارين الألمان) و نسي واضعو الخبر ، أن مروحية هليكوبتر واحدة فقط هي التي احترقت في أرض المطار .. !
و بعد ثلاثة أشهر عندما أفرج عن الفدائيين الثلاثة الذين نجوا من المجزرة من السجون الألمانية ، في عملية مثيرة ، سنشير إليها لاحقاً ، و قال أحدهم إنه كان منبطحاً تحت إحدى مروحيات الهليكوبتر و أن الرهائن الذين كانوا فيها قتلوا برصاص الألمان ، لم يعلن الفلسطينيون ذلك ، و عندما نشر أبو إياد كتابه (فلسطيني بلا هوية) بمساعدة الصحافي الفرنسي الشهير : أريك رولو ، تمسكك بالرواية التي تزعم أن الفدائيين الفلسطينيين هم الذين قتلوا الرياضيين الألمان .
و لم يكن الأمر فقط هو التمسك برواية مغلوطة ، فحسب أبو داود فإنه كان لديه و لدى القيادة اعتقاد بأن أحد الفدائيين هو الذي ألقى القنبلة اليدوية على إحدى المروحيات فاحترقت ، و لم يكن هناك ترجيح بأن تكون طلقات الرشاشات الألمانية هي التي أصابت خزان الوقود و أشعلت النيران فيها .
و بدأت فصول أخرى جديدة من عملية ميونخ و تداعياتها ، التي سيقدّر لها أن تستمر ربما حتى عام 1992م ، عندما قتل عاطف بسيسو في باريس و هو أحد الذين وردت أسمائهم في خضم العملية .
بعد 48 ساعة من المجزرة (في 8/9) ، قصفت الطائرات الصهيونية قواعد الفدائيين و المخيمات الفلسطينية في جنوب لبنان ، و سقط نحو 200 شهيد أغلبيتهم من المدنين الفلسطينيين و اللبنانيين .
و في تلك الأيام جرى ما تحدث عنه أهارون ياريف من قرار غولدا مائير بتصفية كل من له علاقة بحادث ميونخ ، و الذي أدّى إلى سلسلة التصفيات التي ذهب ضحيتها ، كما أسلفنا الكثيرين ممن ليس لهم علاقة بتلك العملية .
و بعد يومين من الغارات المدمية على جنوب لبنان ، نفذ الفلسطينيون عملية اغتيال لم تنجح في 10/9 ضد زادوك أوفير و هو ضابط للموساد في بروكسل ، كان أبو إياد وضع خطة لاستدراج أوفير الذي كانت مهمته تجنيد مخبرين عرب ، و أرسل أحد رجاله و اسمه محمد أحمد إلى بروكسل ليتسكع في العاصمة البلجيكية و يلفت نظر أوفير ليستخدمه ، و هو ما حصل ، و بعد يومين من بدء العمليات الانتقامية لضحايا ميونخ ، طلب محمد أحمد من أوفير أن يقابله لأمر ضروري ، و التقيا في أحد المقاهي في المدينة ، و فور جلوسهما استل محمد أحمد مسدسه و أطلق النار على أوفير ، و تمكن من الخروج مستغلاً الفوضى التي عمت المكان ، و رغم إصابته الحرجة فإن أوفير لم يمت .
و يوما 16 و 17/9 ، اجتاحت القوات الصهيونية جنوب لبنان و مسحت مخيم النبطية بالأرض و ارتكبت جرائم عدة ، و سحقت دبابة صهيونية سيارة فلسطينية فيها سبعة أفراد أوقفها جنود الاحتلال على حاجز أقاموه خلال اجتياحهم .
و بعد يومين من ذلك (19/9) تمكّن رجال خليل الوزير (أبو جهاد) من اغتيال المستشار الاقتصادي في السفارة الصهيونية في لندن بواسطة رسالة مفخّخة وصلته من أمستردام .
و في 16/ تشرين الأول ، نفّذ فريق التصفية الذي شكّلته غولدا مئير بقيادة مايك هراري ، أول عملية اغتيال ضد وائل زعيتر ، و الذي لم تكن علاقته بميونخ سوى تصريح أدلى به في روما ، حيث كان ممثلاً لمنظمة التحرير قال فيه : إن (الإسرائيليين) هم الذين خططوا لقتل الرهائن لتحقيق مكاسب سياسية .
و الهدف الثاني كان محمود الهمشري ممثل منظمة التحرير في باريس الذي اغتيل في 8/كانون الأول ، و توالت الأهداف لتطال دبلوماسيين في قبرص و الجزائر و ليبيا . و الحجة دائما هي ميونخ ..! .
و لم تكن ميونخ هي هاجساً للصهاينة فقط ، بل للألمان أيضاً ، و حسب رواية أبو داود ، فإن الألمان عرضوا ، بشكلٍ سري ، القيام بعملية مدبرة يتم فيها تحرير الفدائيين الثلاثة المحتجزين لديها و الذين ستبدأ محاكمتهم و التي من المتوقع أن تسلط أضواء جديدة على ما جرى بالفعل يكون في غير صالح ألمانيا .
و العرض الألماني كما تلقّاه كمال عدوان عضو اللجنة المركزية في حركة فتح الذي اغتيل فيما بعد ، هو استعداد الألمان دفع 9 ملايين دولار ، إضافة إلى مبلغ سنوي ، مقابل تنفيذ عملة خطف مدبرة لطائرة ألمانية يجري بعدها إطلاق سراح الفدائيين الثلاثة المحتجزين في السجون الألمانية . و رفض أبو داود العرض الألماني ، لاعتقاده أن صورة حركته ستهتز من عمليات خطف الطائرات التي لا يؤمن بها .
و لكن هناك من وافق على العرض الألماني ، كما يؤكد أبو داود ، و لم يكن ذلك الطرف سوى وديع حداد و رجاله ، ففي 29/تشرين الأول ، خطف اثنان طائرة بوينغ تابعة للخطوط الجوية الألمانية أثناء رحلة لها بين دمشق و فرانكفورت ، في أثناء توقف الطائرة في بيروت و لم يكن على متنها سوى 13 راكباً من بينهم الخاطفين ، اللذين أعلنا مطلبهما بإطلاق سراح الفدائيين الثلاثة المحتجزين في السجون الألمانية و هو ما تم فعلاً بعد ساعات .
و حمّلت وسائل الإعلام الصهيونية مسؤولية العملية لأبي حسن سلامة ، و قالت إنه المسؤول عن عملية ميونخ ، و يقول أبو داود عن ذلك إن أبا حسن يتحمّل المسؤولية زاعماً أن الأخير كان كلما التقاه في بيروت كان يقول له : (لقد صنعت التاريخ في ميونخ ، و سيتذكرون ذلك في كل أولمبياد) .
و لكن أبو داود يؤكّد بأن وديع حداد هو المسؤول عن العميلة و هو من قبض المال ، و ينقل بأن أبا عصام المسؤول في الجبهة الشعبية اخبر أبو داود فيما بعد ، بأن الألمان اتفقوا مع وديع حداد على تنفيذ العملية المدبرة .
و استمرت تداعيات ميونخ ، ففي عام 1977م تم توقيف أبو داود في باريس بموجب مذكرة توقيف بموجب طلب تسليم من محكمة بافاريا للحكومة الفرنسية ، و تدخلت السلطات الألمانية الفدرالية و أبطلت ذلك الطلب ، و أبلغت السلطات الفرنسية عدم موافقتها عليه .
و يقول أبو داود إن ضغوطاً مورست على الحكومة الفرنسية لإطلاق سراحه من قبل ملك السعودية فيصل و الرئيس الجزائري هواري بومدين و الرئيس العراقي أحمد حسن البكر ، و ساعد على إطلاق سراحه موقف الحكومة الفدرالية الألمانية التي اتضح أنها لا تريد أي فتح تحقيق جديّ في ما حدث في مجزرة ميونخ لعدم افتضاح موقفها المتواطئ مع الصهاينة المتعنتين الذي دبّروا الكمين لقتل الخاطفين و المخطوفين .
و جاءت توابع عواصف ميونخ ، أيضاً ، من مكان غير متوقع من الكيان الصهيوني نفسه ، فصحيفة جيروسلم بوست الصادرة بالإنجليزية بالقدس ، نشرت يوم 16/7/1992م ، تقريراً بقلم نيتي .س. غروس تساءلت فيه عن إمكانية أن لا يكون الرياضيين الصهاينة سقطوا على أيدي الفدائيين الفلسطينيين فقط .
و أعلنت استغرابها عن امتناع الألمان عن نشر تقارير الطب الشرعي بعد تشريح الجثث ، و تساءلت عن موقف الحكومة الصهيونية التي لم تطلب إطلاعها على نتائج التشريح ، بالرغم من مطالب عائلات الضحايا بذلك .
و في 23 /7/1992 ، نشرت جريدة يديعوت أحرنوت ، مؤكدة بأن ثمانية من الرياضيين قتلوا برصاص الألمان ، مستندة إلى نسخة من تقرير الأطباء الشرعيين الألمان الذي حرّر بتاريخ (6/9/1972) ، و يبدو أن محامي أهالي الضحايا هم الذين حصلوا عليه .
و عندما كتب أبو داود كتابه و قال روايته ، مصحّحاً ما كان شائعاً ، و الذي غذّته (إسرائيل) ، رغم معرفتها بالحقيقة ، و ساهم الفلسطينيون بذلك لأسبابهم الخاصة ، كانت المحاكم الألمانية ما زالت تنظر بدعوى رفعها أهالي الضحايا ضد السلطات الألمانية ، و سارعت السلطات الألمانية ، بناءاً على اعترافات أبو داود الجديدة ، إلى إصدار مذكرة توقيف بحقه ، و أعلنت (إسرائيل) فوراً أنها لن تسمح له بالعودة إلى الأراضي الفلسطينية .
و إذا كان موقف الحكومة الألمانية طبيعياً ، و يمكن أن يساعدها في الدعوى المقامة ضدها في إحدى المحاكم في ميونخ من قبل أهالي الضحايا الذين يطالبون بتعويضات مالية فإن موقف (إسرائيل) بدا مستغرباً لأول وهلة ، فهذا هو الرجل الذي يقرّ و يعترف بمسئوليته عن عملية ميونخ التي طاردت بسببها رجال منظمة التحرير على مدى سنوات ، تحت قبضتها لأنه مقيم في الأراضي الفلسطينية و يدخل إليها من المعابر التي تحت سيطرتها و يمكن على الأقل أن تعتقله أو تصفّيه ، و لكنها تسارع بشكلٍ علني للقول إنها لن تسمح له بالعودة .
و فسّر هذا الموقف الصهيوني ، بأنه في حالة السماح بعودة أبو داود إلى فلسطين ، فإن ألمانيا ستسارع فوراً للطلب بتسليمه بموجب مذكرة التوقيف ، و سترفض (إسرائيل) بالطبع تسليمه لها ، و بالتالي ستدافع عن نفسها في قضية التعويضات المنظورة في ميونخ ، بأن الإرهابي المسؤول عن العملية لدى (الإسرائيليين) ، و هي ترفض حتى تسليمه لها .
لقد بلغ مستوى الابتزاز الصهيوني للألمان ، بهذا الموقف مداه ، فبعد توريطهم بقتل المخطوفين و الخاطفين ، ها هي تتركهم وحدهم ليدفعوا أيضاً الأموال لأهالي الضحايا الصهاينة .
و بعد فترة من انشغال الصحافة و الإعلام في القضية ساد صمت ثقيل حول الموضوع ، و بدا كأنه زوبعة في فنجان ، فيبدو أن الجميع كانوا معنيين أن يطوي القضية النسيان ، و عاد أبو داود إلى الظلام الذي خرج منه ، و لكن يحسب له أنه قال روايته حول قضية بالغة الحساسية مثل ميونخ .
تعليق
-
X و أخواتها ..!
قبل أن يدلي ياريف بحديثه الشهير للبي بي سي في أيلول عام 1993 و كان يشغل منصب مدير مركز الأبحاث الاستراتيجية في جامعة تل أبيب و يعرف بأنه مستشار سابق لرئيس الحكومة لشؤون الإرهاب ، فإن آلية اتخاذ قرارات الإعدام في (إسرائيل) و تنفيذها أصبحت معروفة منذ زمن ، أو على الأقل ما تسرب من ذلك و عرف منها إعلامياً .
و يمكن القول إن فشل محاولة اغتيال ضابط الاستخبارات الفلسطيني علي حسن سلامة الشهير بالأمير الأحمر في مدينة ليلهامر النرويجية ، ساهم في الكشف عن آلية عمليات الاغتيال الإرهابية التي قامت و تقوم بها (إسرائيل) و هزت العالم بعد أن أعطت غولدا مئير تعليماتها بملاحقة قادة فلسطينيين بعد عملية ميونخ .
في ذلك اليوم 21/7/1973 و في الساعة 22:40 أطلق رجلان 14 طلقة أصابت مواطناً مغربياً يعمل نادلاً اسمه أحمد بوشكي ، فأردته قتيلاً أمام زوجته النرويجية ، و سنتطرق إلى تفاصيل هذه القصة في جزء قادم ، و لكن كانت هذه العملية التي استهدف فيها علي حسن سلامة ، سبباً في الكشف عن كيفية عمل وحدات الموت في الموساد .
اعتقلت الشرطة النرويجية عدداً من المتورطين في عملية الاغتيال ، و حسب ما نشرته المصادر الصهيونية فيما بعد فإن اثنين من المعتقلين على الأقل أدلوا باعترافات كاملة وجدت طريقها إلى صفحات كتاب صدر في النرويج و احتل قائمة أكثر الكتب مبيعاً و هو كتاب (طاقم التصفية) .
الصحافي الصهيوني جاد شومرون كتب في صحيفة (معاريف) بعد اغتيال الدكتور فتحي الشقاقي في مالطا بتاريخ 25/10/1995 ، مذكراً بتلك القصة البعيدة في مدينة الاستجمام النرويجية و الاعترافات التي أدلى بها رجال الموساد . فماذا قال رجال الموساد ؟
كتب شومرون (وحدة التصفية في الموساد تابعة إلى وحدة تنفيذية سرية باسم متسادا ، و قرارات الإعدام تقرّرها لجنة خاصة هي لجنة x و على رأسها يقف رئيس الحكومة و تضم رؤساء الاستخبارات ، الموساد ، الشاباك) .
و تتبع (إسرائيل) سياسة عبّر عنها ياريف بدقة حين قال (نحن ملزمون بإثارة المخاوف و قلق زعماء "المخربين" على حياتهم ، لأن يعيشوا في خوف دائم ، و أن يخصّصوا جهداً و قوة كبيرة من أجل الحفاظ على أمنهم ، و بهذا يكون لهم وقت أقل لتخطيط العمليات ضد "إسرائيل") .
و هنا لا بد من الإشارة إلى أن ياريف كان رئيساً لجهاز الاستخبارات العسكرية و مستشار غولدا مائير لشؤون الإرهاب و عضو لجنة x . و حسب إرشادات لجنة x تقوم أجهزة المخابرات بجمع المعلومات حول الشخص المطلوب ، ابتداء من مظهره الخارجي و بجلب صور له و دراستها و عناوين سكنه و عمله و أية تفاصيل من شأنها المساعدة و الكشف عن أسلوب حياته و برامجه اليومية ، و عادة ما يتم تتبع الشخص المراد اغتياله في دولة أوروبية أو دول حوض المتوسط . و يتولى عمليات التعقب أفراد متخصّصون في ذلك الأمر و هم قلة ، على الأقل هذا ما اتضح من أقوال أفراد الموساد الذين اعتقلوا في النرويج .
ينقل شومرون عن شهادات رجال الموساد أولئك للشرطة النرويجية أن رجال التتبع و التعقب يعدون ستة رجال و نساء و جميعهم لهم قدرة على التنكر بأنهم مواطنون أجانب ، و لهم خبرة عالية في أساليب التعقب السرية ، و في التصوير و المشاهدة السرية .
و بالإضافة إلى طاقم التعقب هناك آخرون يشاركون لإنجاح عمليات التصفية ، مثل طاقم (ح) و غالباً ما يتكون من رجل و امرأة يمثلان دور زوجين ، يكونان مسؤولان عن استئجار المنازل ، أو غرف الفنادق و ترتيب أمور أخرى تحتاجها عملية التصفية .
و هناك طاقم (ك) و هو المسؤول عن الاتصال بين المنفّذين الميدانين و القيادة في تل أبيب ، يقول شومرون : (بعد القيام بالتشخيص المؤكد للشخص المطلوب ، و بعد أن يتم إعطاء التصريح النهائي من المسؤولين للتنفيذ ، ينضم للعملية طاقمان جديدان) ، و هما أولاً طاقم (ب) و الذي يضم حراساً و سائقين للهرب ، و وظيفة رجال (ب) و هم متنكرون أيضاً تحت غطاء أجنبي ، التأكد من أن المطلوب لا يوجد حوله أو معه حراسة و مساعدة طاقم التصفية بترك المنطقة . و الهرب عاملين بالمثل العربي الشهير (الهرب : ثلثا البطولة) .
و يمكن أن يكون أهم طاقم في العملية كلها هو الطاقم (أ) و مهمته هي تنفيذ حكم الإعدام الصادر من لجنة x الرهيبة ، أي الذين يضغطون على الزناد و ما هي إلا لحظات يكون المطلوب في عداد الأموات ، إلا في حالات قليلة .
يقول شومرون و استناداً لبروتوكولات ليلهامر فإن أعضاء لجنة (أ) الذين ينفذون الإعدام هم من رجال الموساد أو (ضباط جيش من صفوف هيئة الأركان تخصّصوا في هذا النوع من الإعدام ، و هو طاقم يصل إلى المنطقة بهدف التنفيذ فقط و مباشرة بعد إنهاء العملية يترك المنطقة بسرعة) . و في مرات كثيرة لا ينجحون مثلما حدث في تلك (الليلة المرة في ليلهامر) .
و عموماً فانه يمكن الاستنتاج من خلال العمليات التي نفّذتها الأجهزة الأمنية الصهيونية ، الناجحة منها و غير الناجحة ، أن هناك عدة أساليب تستخدم في مطاردة المطلوبين للجنة x و منها مثلاً : قيام وحدات الموساد بالتخطيط و التنفيذ مباشرة ، و بالاستعانة بعملاء في بعض الأحيان و مثالاً على ذلك سلسلة الاغتيالات التي ذهب ضحيتها قادة قتلوا بكواتم صوت .
و هناك استخدام السيارات المفخّخة مثلما حدث مع علي حسن سلامة و هاني عابد ، و القيام بعمليات كوماندوز تنفّذها وحدات مختارة من الجيش الصهيوني مثلما حدث في اغتيال ثلاثة من قادة منظمة التحرير في شارع فردان في بيروت عام 1973 أو مثلما حدث في اغتيال القائد خليل الوزير عام 1988 في تونس العاصمة ، و هناك أسلوب القصف بالمروحيات مثلما حدث مع الشيخ عباس موسوي في جنوب لبنان عام 1992 و مع حسين عبيات رجل فتح العسكري في بيت ساحور عام 2000 .
و هناك عمليات يتم فيها الاستعانة بشكلٍ مباشر بعملاء عرب أو أجانب مثلما حدث مع علي حسن سلامة و يحيي عياش و إبراهيم بني عودة . و يحاول الصحافي الصهيوني زئيف شيف التقليل من اتهام لجنة x التي يتخذ فيها قرارات الإعدام بأنها صماء و عمياء ، و هو اتهام يوجّهه المتابعون لسياسة الاغتيالات الصهيونية .
يشير شيف في مقال كتبه في صحيفة هارتس أواخر شهر 10/1995 بعد نجاح (إسرائيل) في اغتيال الدكتور فتحي الشقاقي إلى (أن عمليات المس بسيد القتلة تحتاج إلى تصريح صارم ، توجد حالات يتم فيها عرض الأمر في لجنة الوزراء الأمنية ، مثلاً قرار اغتيال أبو جهاد في فترة قمة الانتفاضة ، و الذي اعتبر وزير الحرب ، قائد القوات المسلحة في م.ت.ف ، و مسؤولاً عن العديد من العمليات "الإرهابية" ، كانت تدور أحياناً نقاشات حادة ، حتى عندما يكون الأمر متعلقاً بتصفية قتلة أياديهم ملطخة بدماء "الإسرائيليين" ، لم تقبل الأمور بموافقة الجميع ، ليس لأن الأمر يتعلق بالمحافظة على حياة القتلة ، بل لأنهم لم يتفقوا فيما إذا كان الأمر يلائم حقا مصلحة "إسرائيلية" حيوية) .
و يعطي شيف مثلاً على ما يسميه الجدل قبل تنفيذ الاغتيال و بعده على حالة القائد الفلسطيني البارز أبو جهاد و الشيخ عباس موسوي زعيم حزب الله الذي قتل مع زوجته و ابنه بقصف من الطائرة في شباط 1992 . يقول شيف : (كان هناك جدل و غالبية المستشارين كانوا ضد تنفيذ ذلك) .
و السؤال إذا كانت الحالة هكذا بالنسبة لغالبية المستشارين ، لماذا إذاً نفّذت (إسرائيل) الإعدام في أبو جهاد و الشيخ موسوي ؟ .. و الإجابة ببساطة أن الأجهزة الأمنية و العسكرية هي صاحبة القرار الأول و الأخير في الاغتيالات سواء وافق على ذلك المستشارون و السياسيون أم لم يوافقوا ، و هنا يتحوّل القتل ، كما قلنا ، إلى قتل من أجل القتل .. !
و رغم أن شيف يعلن موافقته ، مثلاً على عملية اغتيال الشقاقي لأن (ذنبه على جنبه) يتساءل (هل هذه الطريقة في محاربة "الإرهابيين" هي طريقة حكيمة ؟ و هل توجد بها فائدة تنفيذية و سياسية ؟) .
و يسارع شيف للقول رداً على التساؤلات التي يطرحها : (لا توجد إجابة شاملة لذلك ، الحالات تختلف فيما بينها ، هنا و هناك توجد حالات من الممكن أن تكون زائدة ، و لكن توجد حالات أخرى أيضاً فيها يعيش "إرهابي" فلسطيني قام بقتل "إسرائيلي" ، بأمان و راحة في دولة مجاورة ، و لا نكلف أنفسنا مشقة تصفية الحساب معه ، و الذي من المهم تصفيته) ..
و واضح تماماً ، أن شيف ، و هو خبير استراتيجي مميز و رغم محاولته الإيحاء بأن عمليات الإعدام الصهيونية ، ليست صماء ، إلا أنه لم ينجح في ذلك بل إنه يحرض على قتل (الإرهابي) الذي يعيش بأمان في دولة مجاورة .
و لعل شيف و آخرين من رجال الإعلام في (إسرائيل) وجدوا أنفسهم أمام حقائق الإعدامات التي تتم خارج نطاق أي قانون ، أن يقولوا كلمتهم ، فشيف نفسه في بداية مقاله يبدو (حزيناً) لأن أخبار الإعدامات تخرج إلى العلن و (إلى الحقيقة) – حسب تعبيره ، و أن (إسرائيل) قامت بتنفيذها بسبب ما يسمّيه (مرض الثرثرة و النشر الذاتي) .
و يعطي مثلاً النشر عن قصة إسقاط (إسرائيل) طائرة عشية حرب سيناء عام 1956 فوق البحر و تضمّ (الكثير من الضباط المصريين) . و يكتب شيف بكثير من استغفال العقول بأن (الرئيس مبارك استغرب أيضاً لماذا ينشر هذا الأمر)…!
ربيع فردان
و لعل أشهر عملية اغتيال تمت في بداية حملة غولدا مئير تلك التي نفّذت يوم 10/4/ 1973 و التي عرفت باسم ربيع فردان و طالت القادة كمال ناصر و كمال عدوان و أبو يوسف النجار ، حيث وصلهم آمنون شاحاك (القائد العسكري وزير السياحة الصهيوني فيما بعد) و إيهود باراك (القائد العسكري و رئيس وزراء (إسرائيل) فيما بعد) و تمت تصفيتهم في منازلهم في شارع فردان في بيروت .
و كمال ناصر (1924 - 1973) أحد رموز النضال و الأدب في فلسطين ، ابن إحدى العائلات المسيحية الفلسطينية من بلدة بير زيت ، تتشابه سيرة حياته مع كثير من أبناء جيله من نشطاء الحركة الوطنية الفلسطينية ، فهو خريج الجامعة الأمريكية في بيروت ، التي تخرج منها أيضاً العديد من الذين أصبحوا رموزاً في الحركة الوطنية الفلسطينية و حركة القومية العربية ، كان عضواً في حزب البعث الاشتراكي ، و أصدر صحيفة البعث في رام الله ، و صحفاً أخرى ، و انتخب عضواً في مجلس النواب الأردني ، و تعرّض للاعتقال بعد الاحتلال عام 1967 و أبعدته سلطات الاحتلال للخارج ، و أصبح عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية و مسؤول الإعلام فيها ، و ناطقاً رسمياً باسمها ، و مشرفاً على مجلة فلسطين الثورة التي أصدرها باسم منظمة التحرير الفلسطينية .
و في نفس العمارة التي كان يسكنها كمال ناصر في شارع فردان في بيروت ، كان يسكن أيضاً محمد يوسف النجار (1930 - 1973) عضو اللجنة المركزية في فتح ، و ينحدر من قرية يبنا قضاء الرملة ، شرّد مع عائلته في عام النكبة ، و كان له نشاط في صفوف الإخوان المسلمين مثل كثيرين من الذين أسسوا فيما بعد حركة فتح .
أما كمال عدوان (1935 - 1973) فهو ، مثل أبو يوسف النجار عضو في اللجنة المركزية لحركة فتح التي شارك في تأسيسها ، و تولى مسؤوليات في الإعلام الفلسطيني و أخرى فيما يخص المقاومة في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، و قبل ذلك درس في مصر و عمل في السعودية و قطر ، و شارك في مقاومة العدوان على قطاع غزة عام 1956 و أدّى ذلك إلى اعتقاله وقتذاك .
و بعد وصول إيهود باراك إلى موقع الرجل الأول في (إسرائيل) و معه أمنون شاحاك وزيراً للسياحة ، تذكّرت الصحافة من جديد دوره في عملية فردان ، و نشرت وكالة الصحافة الفرنسية تقريراً لها من بيروت بتاريخ 23 أيار 1999 ضمنته مقابلة مع المواطن اللبناني منعم عبد المنى و كان عمره وقت تحرير التقرير ستين عاماً ، و الذي ما يزال يقيم في المبنى الذي حدث فيه الاغتيال في شارع فردان في بيروت .
تذكر عبد المنى بعد 26 عاماً من قيادة إيهود باراك للعملية متنكراً بزي امرأة شقراء ، ما حدث في ليلة التاسع من نيسان 1973 ، و في تلك الليلة كان منعم و زوجته و ولداه الصغيران نائمون في غرفة صغيرة في طابق أرضي في البناية التي استهدفها باراك و رفاقه . و استيقظ منعم و ذهب إلى النافذة ليرى امرأة شقراء تضع رشاشاً على خاصرتها و تطلق النار على الغرفة .
عاد منعم إلى ابنه الصغير و خبأه تحت السرير و رمت زوجته نفسها على ابنهما الثاني ، و فيما بعد وجدا أكثر من 40 من فوارغ الرصاص في الموقع .
و بسبب الأزياء التي تنكّر فيها باراك و رفاقه أطلق على العملية اسم (عملية هيبي) . و أعطت العملية باراك سمعة كبيرة ، و أدّت إلى استقالة رئيس الوزراء اللبناني صائب سلام احتجاجاً على عجز الجيش اللبناني عن تحقيق الأمن و إيقاف فرقة الكوماندوز التي قادها باراك متنكراً بثياب امرأة شقراء ، التي نزل أفرادها على أحد شواطئ بيروت و استقلوا سيارات أعدها عملاء لـ (إسرائيل) .
تعليق
-
......................................و انطلقت الفرقة إلى أحد المباني في فردان و تم تصفية أبو يوسف النجار أحد قادة فتح البارزين وقتذاك و زوجته التي حاولت حمايته ، و كمال عدوان المسؤول العسكري لفتح في الأراضي المحتلة و كمال ناصر المتحدث باسم منظمة التحرير الفلسطينية ، و قتل في العملية شرطيان لبنانيان و حارس و عجوز إيطالية تبلغ من العمر (70) عاماً .
و في أثناء اندلاع انتفاضة الأقصى و قيام (إسرائيل) باغتيالات طالت مقاتلين فلسطينيين ، كتب المستشرق الصهيوني غي باخور عن سياسية الاغتيالات متذكّراً عملية فردان التي يطلق عليها في (إسرائيل) اسم (ربيع الصبا) أيضاً ، في نيسان 1973 بمشاركة باراك الذي كان رئيساً للوزراء عندما كتبت المقالة .
قال ياخور إن تلك العملية (كانت إحدى العوامل التاريخية لاندلاع الحرب الأهلية في لبنان بعد عامين من ذلك) . و إذا كانت عملية (ربيع فردان) أصبحت مصدر (فخر) لا ينتهي لدى الصهاينة ، فإنها تحوّلت إلى ألم متجدّد لدى الجانب الآخر الخاسر : الفلسطينيون ، و يبدو أن كلا الطرفين ، كل بطريقته و أدواته و ظروفه و لخدمة أهدافه راح يستخلص العبر من تلك العملية ، و إذا كان الصهاينة تحدثوا كثيراً عن تلك العملية و ما أعقبها من تطورات سياسية ، فإن الاستماع لما يقوله شاهد على تلك العملية من الطرف الآخر الفلسطيني ، أمر مهم ، خصوصاً بعد أعوام طويلة على وقوعها مما يوفّر للشاهد فرصة ليس فقط للندب بل أيضاً للتقييم بعيداً عن ضغط اللحظة و قوة الصدمة .
و كان هذا الشاهد ممدوح نوفل ، القائد العسكري السابق في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ، و الذي تحدّثت معه في منتصف الشهر الأخير من عام 2000 ، عن سياسة الاغتيالات التي تنتهجها (إسرائيل) ، و كانت في تلك الفترة بلغت ذروة لا يمكن إغفالها بالقيام بسلسلة اغتيالات طالت نشطاء انتفاضة الأقصى ، و اتفقت مع نوفل على الاستعانة بشهادته مكتوبة عن عملية فردان بعد أكثر من 27 عاماً على وقوعها ، و هي شهادة حافلة ليس فقط بالوقائع كما رآها شاهد عيان ، بل أيضاً بما يمكن استخلاصه منها من دروس من خلال ما ذكره نوفل من أحداث على هامش الحدث ميّزت تلك الفترة في بيروت .
في البداية يرسم نوفل مشهداً مهما عشية وقوع الحدث (في النصف الأول من العام 1973 صعّدت قوات الثورة نشاطها العسكري من جنوب لبنان ، و مس بعضه سكان القرى و المستعمرات الصهيونية الواقعة على الحدود الشمالية . و خشيت القيادة الصهيونية من تمركز قوات م.ت.ف على حدودها الشمالية ، و من تطوّر قدراتها العسكرية و تحولها إلى قوة جدية مزعجة . و وجهت الحكومة الصهيونية أكثر من رسالة رسمية تحذيرية للسلطات اللبنانية ، طالبتها بالسيطرة على نشاط (المخربين) الفلسطينيين ، و ضبط وجودهم على أراضيها ، و منعهم من القيام بعمليات (تخريبية) من أراضيها . و لم تتوانَ في الرد على العمليات القتالية الناجحة التي نفّذها مقاتلو فصائل الثورة . و زادت من غاراتها الجوية و قصفها المدفعي ضد مواقع الفلسطينيين في الجنوب و البقاع و العرقوب) .
و يضيف نوفل : (في العاشر من نسيان 1973 ، و بعد تحضيرات استخبارية استمرت شهرين ، نفّذت القوات الصهيونية الخاصة من سرية الأركان عملية خاصة جريئة محكمة التخطيط ، في قلب العاصمة اللبنانية . دخلت القوات الصهيونية بيروت عن طريق البحر ، و كان رجال و عملاء الموساد قد سبقوهم بجوازات سفر أوروبية و أمريكية ، و أقاموا في فنادقها و استأجروا 7سيارات مدنية في حينه ، و هاجمت القوة الصهيونية في وقتٍ واحد ، المقر المركزي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في الفاكهاني ، إحدى ضواحي بيروت الغربية ، و منازل قادة م.ت.ف كمال عدوان عضو اللجنة المركزية لحركة فتح و أبو يوسف النجار عضو اللجنة المركزية لحركة فتح و كمال ناصر عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ، و كانت معلوماتها تشير إلى أن الأول قائد جماعة أيلول الأسود ، و الثاني مسؤول عمليات فتح في (إسرائيل) ، و الثالث ناطق رسمي باسم عرفات و م.ت.ف.) ..
و يشير نوفل إلى أنه (نجحت المجموعة الأولى بقيادة (إيهود باراك) في الوصول إلى هدفها ، و اغتالت القادة الثلاث في منازلهم ، و نسفت الثانية بقيادة (آمنون شاحاك) بصورة جزئية مقر الجبهة الديمقراطية في منطقة الفاكهاني قرب المدينة الرياضية . في حينه اشتبكت معهم مجموعة حراسة مقر الجبهة ، و قتل من القوة المهاجمة جنديان من قوات المظلات (أبيدع شور و حجاي معيان) و فقدت القوة المهاجمة عنصر المفاجأة ، و لم تتمكن من العمل بحرية تامة ، و لم تحقق هدفها كاملاً . فبعد اغتيال المجموعة الصهيونية الحارس المركزي أمام مدخل البناية بواسطة مسدس كاتم الصوت ، أطلقت عليها نيران غزيرة ، من قبل كمين جانبي نصب في حينه ، للدفاع عن مقر الجبهة الديمقراطية من هجومٍ كان متوقعاً أن ينفّذه تنظيم القيادة العامة بزعامة أحمد جبريل) .
و يمكن أن يشكّل ما ذكره نوفل ، و قبل ذلك القائد الفلسطيني صلاح خلف (أبو إياد) في حديثه ، في مكان آخر ، عن عملية فردان ، صدمة للقارئ ، حتى لو كان متابعاً لتلك المشاحنات التي سادت لفترة طويلة بين فصائل العمل الوطني الفلسطيني .
و لكن لماذا كانت الجبهة الديمقراطية مستعدة لهجوم أحمد جبريل المتوقع ، و ما هو السبب الذي يجعل أحمد جبريل مصدراً متوقعاً لهجوم على الديمقراطية ؟! ..
يجيب نوفل : (كانت المشاحنات السياسية بين الجبهة الديمقراطية (و تنظيم جبريل) حول البرنامج السياسي المرحلي على أشدها ، و تطورت إلى صدامات مسلحة في مخيم تل الزعتر ، و استشهد دفاعاً عن البرنامج ، قائد قوات الجبهة في مخيم عين الحلوة ، النقيب المناضل (فايز خلدون) ابن التعامرة المجاورة لمدينة بيت لحم) ..
و على أرض الواقع و أثناء إدلاء نوفل بشهادته فإن الذي (تحقّق) للفلسطينيين على أرض الواقع كان أقل بما لا يذكر عن مشروع البرنامج المرحلي الذي قدمت الجبهة الديمقراطية شهداء (دفاعاً عنه) و كذلك أيضاً بالنسبة لبرنامج أحمد جبريل الذي أصبح تنظيمه فاعلاً ضعيفاً في العمل الفلسطيني .
و بعد أن سمع نوفل صوت الرصاص الكثيف و الانفجارات غادر منزله القريب من مقر الجبهة المستهدف (و توجهت راجلاً لاستطلاع ما يجري ، و كنت واثقاً من أن حرس المقر اشتبك مع مجموعات القيادة العامة . و كم كانت مفاجأتي كبيرة عندما منعني أفراد مجموعة الحراسة (الكمين) من الاقتراب من مبنى المقر قائلين : موقعنا تعرّض لهجوم (إسرائيلي) و حاولت المجموعة (الإسرائيلية) نسف المقر بمن فيه ، اشتبكنا معهم و أوقعنا خسائر في صفوفهم ، و هناك احتمال وجود متفجرات موقوتة و ألغام لم تنفجر) ...
يقول نوفل : (في حينه لم أصدق أقوال الرفاق ، إلا بعد أن سلّمني أحدهم مسدساً "إسرائيلياً" عيار 6 ملم كاتم للصوت ، يحمل شعار نجمة داود . و تبين لي كما قال الحرس ، إن القوات الصهيونية هاجمت المقر في سيارتين مدنيّتين تحرسهما من بعيد سيارة جيب عسكرية ، تشبه تماماً سيارات قوات الدرك اللبناني . خلال عمليات مسح و تفتيش المقر و تنظيفه من المتفجرات ، تم العثور على مزيد من المسدسات و القنابل و المتفجرات ، تحمل علامات جيش الدفاع (الإسرائيلي) . و ظهرت بقع دماء على الأرض) .
و يضيف نوفل : (خلال وجودي حضر إلى المكان أحد أفراد حرس (أبو إياد) صلاح خلف ، و همس قائلاً "الأخ أبو إياد موجود في المبنى المقابل و يريد أن يراك" ، تحركت مباشرة إلى حيث يوجد أبو إياد ، و استغربت وجوده في ذلك المكتب الفرعي التابع لأمن فتح ، و علمت أن المصادفة قادته إلى المكان و قبل السلام بادرني بالقول : (هل هذا وقت الاشتباك مع القيادة العامة ، فأنت تعرف أن المشكلة ليست مع أحمد جبريل بل مع من يقف خلفه) ، و كان يقصد المخابرات السورية . و لم يصدّق أن الاشتباك كان مع مجموعات الكوماندوز "الإسرائيلية" ، إلا بعد أن أبرزت له مخلفات المجموعة المهاجمة ، عندها قال : (ضاعت علينا فرصة اصطيادهم فقد كانون تحت مرمى نيران حراستي) . و فوراً أصدر أوامره للأجهزة الأمنية الفتحاوية بالتحرك فوراً باتجاه شواطئ بيروت و الجنوب ، على أمل اللحاق بالقوة "الإسرائيلية" قبل صعودها البحر . و كان تقديرنا أنهم قدِموا من البحر بمساعدة عملائهم في السلطة اللبنانية ، و سينسحبون بواسطة زوارق تنتظرهم في نقطة ما على الشاطئ . لاحقاً ، بيّنت مخلفاتهم بأنهم قدموا من البحر و غادروا بيروت بسلام ، كما وصلوا دون أن تقع بهم إصابات باستثناء تلك التي لحقت بهم أثناء هجومهم على مقر الجبهة الديمقراطية) ..
و يعتقد نوفل بأن (العملية اعتمدت على عمل استخباري دقيق و أن مجموعاتها دخلت قلب بيروت بعدما هيأ لها عملاء الموساد المحليين ما يلزم من سيارات و مرشدين . و فعلاً عثرت مجموعات فتح على عددٍ من السيارات المدنية متروكة على الشاطئ الأوزاعي ، جنوب بيروت أحدها يحمل آثار دماء) ..
بعد مقابلة نوفل لأبي إياد و معرفة الأخير بما حدث ذلك طلب أبو إياد من مرافقيه البحث عن أبي عمار و أبي جهاد (و بعد دقائق معدودة اتصل أبو عمار و قال : سأرسل لكم سيارة للحضور لطرفي بسرعة ، و فهمنا منه أنه موجود في مكتب أبو شاكر (إبراهيم قليلات) قائد قوات (المرابطون) و أن عدة مجموعات صهيونية دخلت بيروت ، و نجحت في اغتيال أبو يوسف النجار في منزله . بعد المكالمة الهاتفية تحرك أبو إياد ، تحت حراسة مشددة ، باتجاه المقر المركزي للمرابطين ، الواقع في حي أبو شاكر على كورنيش المزرعة في المقر كان حشد من قادة القوى و الأحزاب الوطنية اللبنانية و الفلسطينية يتوافدون ، و يتبادلون المتوفّر من المعلومات حول ما حصل ، و يجرون الاتصالات اللازمة مع الجهات المعنية في السلطة اللبنانية) .
روى نوفل للموجودين ما حدث أثناء عملية الهجوم على مقر الجبهة الديمقراطية (و سمعنا ما روي حول استشهاد أبو يوسف النجار . و أوعز أبو عمار للأجهزة الأمنية الفلسطينية بالاتصال ببيوت القادة الفلسطينيين دون استثناء ، و زيارتها كلها و شدّد على زيارة البيوت التي يتعذر الاتصال الهاتفي معها . و بعد دقائق قليلة أبلغ الحاضرون باغتيال (كمال عدوان) و بعدها نقل خبر استشهاد (كمال ناصر) و فوجئ الجميع ، بأن كمال ناصر هو الوحيد الذي أتيحت له فرصة استخدام سلاحه ، و أنه بالفعل أطلق النار على قاتليه الصهاينة ، علما أنه كان يكره حمل السلاح ، و لا يحب أن يكون معه مرافقون ، و كان يعتبرهم أقرب إلى السجانين يحدّون من الحركة و يقيّدون نمط الحياة العادية) .
و كانت لتلك العملية تداعياتها الأخرى ، يقول نوفل : (حملت قيادة م.ت.ف الحكومة اللبنانية قسطاً رئيسياً من المسؤولية عن دخول القوات الصهيونية قلب بيروت ، و نجاحها في الوصول إلى بيوت القادة الثلاثة . و وجّهت اتهامات علنية للمكتب الثاني اللبناني (المخابرات اللبنانية) و بعض رموز قيادة الجيش اللبناني ، بالتواطؤ مع "الإسرائيليين") .
و يضيف : (و لاحقاً شيّعت بيروت القادة الثلاثة في جنازة مهيبة شارك فيها جميع قادة الأحزاب الوطنية و بعض قادة القوى و الأحزاب المارونية ، و كان ضمنهم (بيار الجميل) زعيم حزب الكتائب . و ألقى زعماء المسلمين الذين شاركوا في الجنازة خطباً رنانة هاجموا فيها تواطؤ السلطة اللبنانية ، و طعنوا في تركيب أجهزتها و مؤسساتها المدنية و الأمنية ، و طالبوا بإقالة الجيش . و تحدّث بعضهم عن المقاومة الفلسطينية ، و كأنها جيش المسلمين في لبنان . و كانت الجنازة فرصة مهمة ، استعرضت فيها قيادة م.ت.ف أسلحتها و قدراتها العسكرية و الجماهيرية بطريقة أقلقت السلطات اللبنانية ، و نبّهت أجهزتها الأمنية و أرعبت بعض القوى المسيحية المتزمتة التي رأت في منظمة التحرير قوة أخلت بالتوازن الداخلي لصالح المسلمين ، عامة ، و السنة على وجه الخصوص . و رغم علمانية الحركة الوطنية اللبنانية ، و تبوّء كثير من المسيحيين مراكز قيادية أولى فيها ، إلا أن تخوّفات الحركة السياسية المسيحية كان لها ما يبررها في بلدٍ تنخره الطائفية الدينية و السياسية) .
و لم يكن ذلك كل شيء ، فهناك نتائج هامة أخرى أسفرت عنها عملية اغتيال القادة الثلاثة في فردان ، فبعد هذه العملية ، كما يقول نوفل (أصبحت قيادة م.ت.ف مجبرة على إبلاء وجودها في لبنان اهتماماً استثنائياً ، و راحت تعطي مسألة حماية وجودها أهمية كبيرة ، و بدأت تغرق تدريجياً في الأوضاع اللبنانية الداخلية ، و نسيت ما استخلصته من دروس تجربتها في الأردن) .
و يضيف : (و مع كل خطوة كانت تخطوها داخل المستنقع اللبناني ، كانت تبتعد أكثر فأكثر عن عملها السياسي داخل الأراضي الفلسطينية . و حلّ دون قرار ، شعار الدفاع عن الوجود الفلسطيني المدني و المسلح في لبنان ، مكان شعار تصعيد و نقل الكفاح المسلح إلى داخل الأراضي المحتلة . و راحت تعزز تسليح المخيمات الفلسطينية ، و شجّعت القوى الوطنية اللبنانية للتدرّب على السلاح و بناء تشكيلات عسكرية خاصة بها . و عملت على تجنيد أعداد كبيرة من الشباب الوطني اللبناني ، و بدأت تتدخل مباشرة في الشؤون السياسية و الحزبية و الاجتماعية اللبنانية . و بقي احتلال "إسرائيل" عام 1967 لكلّ فلسطين و لأجزاء واسعة من الأراضي العربية السورية و المصرية قائماً و تقلصت كلفته) .
و قبل أن يتحدث نوفل بسنوات ، كان الزعيم الفلسطيني صلاح خلف (أبو إياد) قدّم شهادته عن ما حدث في (ربيع فردان) ، في كتابه فلسطيني بلا هوية ، و ربط ذلك بالأجواء التي أعقبت عملية ميونخ ، حيث تواصلت حرب الأشباح بين المخابرات الصهيونية و الفلسطينيين ، و بدأت كما هو معلوم بالاغتيالات و إرسال الطرود الملغومة و التي طالت مسؤولين فلسطينيين في مختلف العواصم العربية و العالمية ، و بالرد الفلسطيني بتنفيذ عمليات ناجحة طالت رجال للموساد في عواصم مختلفة أيضاً ، و من بين ما قام به الفلسطينيون محاولتان استهدفتا مقر سفير "إسرائيل" في نيقوسيا و الأخرى ضد طائرة تابعة لشركة العال الصهيونية كانت جاثمة في مطار قبرص ، كان ذلك في التاسع من نيسان ، و في اليوم التالي كانت وحدات الكومنادوز الصهيوني تنزل إلى بيروت و تغتال القادة الثلاثة .
و روى أبو إياد عن علاقته الوثيقة بكمال ناصر ، و أنه كيف كان في مرات كثيرة يقضي الليل عنده في شقته ، و أشار إلى أنه قبل العملية بعشرة أيام و كان هو و الرئيس عرفات و آخرون في شقة كمال ناصر ، استرعى انتباهه عدم وجود حراسة و تحدّث بين الجد و الهزل ، عن احتمال أن تحطّ طائرة عمودية في الأرض الخلاء مقابل المبنى و تختطف القادة الثلاثة .
و في التاسع من نيسان ، كان المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية يعقد جلسة له في بيروت و طالت حتى ساعة متأخرة من الليل ، و قضى أبو إياد ليلته في شقة كمال ناصر ، و في اليوم التالي عرض أبو إياد على كمال ناصر أن يقضي السهرة في شقته ولكن كمال ناصر أجابه مازحاً : (أفضّل أن أموت على أن أستقبلك عندي) ، و أوضح أنه يريد أن ينظّم مرثاة في الشاعر عيسى نخلة المتوفى حديثاً ، و أن وجود أبو إياد سيلهيه عن تلك المهمة .
و ذهب أبو إياد ليلتقي الناجين الثلاثة من عملية ميونخ الذين أطلقت السلطات الألمانية سراحهم ، بعد عملية الاختطاف التي يعتقد أنها مدبرة كما أشرنا سابقاً ، و الموجودين في مبنى لا يبعد سوى عشرة أمتار عن مبنى الجبهة الديمقراطية ، حيث وجد شباب هذا التنظيم مستنفرين بسبب هجومٍ سيشن عليهم من الجبهة الشعبية بقيادة جورج حبش ، و رواية أبو إياد هنا تختلف مع رواية نوفل ، و إن كان مغزى الحدث واحداً .
و بعد ساعات كانت وحدات الكوماندوز الصهيونية تنفّذ مهمتها ، انتقل أبو إياد إلى منزل عرفات ، الذي قصف في العملية و كان الحراس قاوموا المعتدين ، و تابع عرفات المعركة من سطح المبنى .
و ذهب أبو إياد إلى المبنى الذي كان يقطنه القادة الثلاثة بعد ورود الأنباء عن اغتيالهم ، و في شقة كمال ناصر ، وجده ممدّداً على شكل صليب على الأرض بعد إصابته في وجهه بخمس عشر رصاصة على الأقل ، و يعتقد أن المهاجمين لم يغفلوا عن حقيقة أن ناصر مسيحي الديانة ، فمدّدوه على شكل صليب و أطلقوا النار على وجهه ، و رش المهاجمون برصاصهم سريره و السرير الذي كان يأوي إليه أبو إياد في أحايين كثيرة .
و لاحظ أبو إياد أن شباك النافذة كان مفتوحاً و الستائر منتزعة ، الأمر الذي ربما يشير إلى أن ناصر كان حاول الفرار ، و لم يتمكن من ذلك ، فردّ على المهاجمين بمسدس صغير وجد بجانب جثته .
و بالنسبة لأبي يوسف النجار فاتضح بأن الصهاينة نسفوا مدخل شقته بقنبلة بلاستيكية ، بينما كان هو نائماً مبكراً كما يحب ، و الأولاد يذاكرون دروسهم في غرفهم ، و عندما تم نسف المدخل اندفع باتجاهه ابن الشهيد يوسف و كان عمره 16 عاماً ، و لكن الكوماندوز المهاجمين صرخوا به سائلين عن والده ، فرجع يوسف إلى غرفته و نزل من شباكها إلى الطابق الخامس ، و خلال ذلك أغلق أبو يوسف النجار باب الغرفة التي يوجد فيها و طلب من زوجته أن تناوله مسدسه ، و لكن الصهاينة اقتحموا الغرفة و أصابوه و حاولت زوجته حمايته و وضعت نفسها بينه و بين المعتدين فتم قتل الزوجين معاً .
و في الطابق الثاني كانت مجموعة أخرى تقتحم شقة كمال عدوان الذي كان ما زال يعمل و عندما سمع بالجلبة أمام الباب أمسك برشاشه ، و قبل أن تتاح له فرصة استخدامه كانت مجموعة أخرى من الكوماندوز الصهاينة يدخلون من نافذة المطبخ و يصيبونه في ظهره .
و اتهم أبو إياد شركاء محليين للكيان الصهيوني بالتواطؤ و تسهيل عملية الاغتيال ، و أكد أن الجيش اللبناني و الدرك و الأمن العام لم يحاولوا التدخل ، و قبيل الهجوم على المبنى في فردان ببضع دقائق حدث انقطاع في التيار الكهربائي و كان المهاجمون يتنقلون في بيروت بحرية و يسر مذهلتين و كذلك في الجنوب حيث شنت هجمات أخرى .
و ما لبث التواطؤ الذي تحدّث عنه أبو أياد من أطراف لبنانية ، أن أصبح تحالفاً علنياً كان طرفه الأساسي و موجّهه و راعيه هي (إسرائيل) خلال تلك الحرب اللبنانية الطويلة و التي أسموها ، بقدر من التضليل حرباً أهلية .
تعليق
-
الأمير الأحمر
تطرّق ياريف في حديثه ، بالطبع ، إلى مقتل علي حسن سلامة (1940 - 1979) ، و المعروف باسم (أبو حسن) ضابط الرصد الفلسطيني الشهير الذي كان يلقب بالأمير الأحمر ، و اعترف بأنه كان ضحية للموساد عندما انطلقت حملة الاغتيالات بعد ميونخ بسبب علاقته بتلك العملية .
و أبو حسن هو ابن قائد شهير من قادة الحركة الوطنية المجاهدين قبل النكبة هو حسن سلامة ، انضم لحركة فتح عام 1967 مع أفواج عديدة من الشباب الفلسطيني و العربي ، الذين صدمتهم هزيمة الأنظمة على يد الكيان الصهيوني و احتلال ما تبقى من فلسطين و من أراضي عربية أخرى ، و خلال سنوات قليلة ، بعد العمل في قيادة جهاز الرصد الثوري لحركة فتح ، و هو بمثابة جهاز مخابرات و أمن ، استقر أبو حسن في بيروت عام 1970 و تولى قيادة العمليات الخاصة ضد المخابرات الصهيونية في العالم ، و من العمليات التي تسند إليه و لرجاله قتل ضابط الموساد (زودامك أوفير) في بروكسل ، و إرسال الطرود الناسفة من أمستردام إلى العديد من عملاء الموساد في العواصم الأوروبية ، رداً على حملة قام بها الموساد ضد قياديين فلسطينيين ، و من الذين قتلوا بهذه الطرود ضابط الموساد في لندن (أمير شيشوري) .
ارتبط اسمه بعملية قتل الرياضيين الصهاينة في ميونخ ، و هو الأمر الذي نفاه أبو داود في مذكراته ، كما أشرنا ، و نسب لغولدا مئير قولها عنه (اعثروا على هذا الوحش و اقتلوه) .
و لكن أبو حسن ، رجل الأمن الماهر ، و الدون جوان المحبوب من الفتيات ، صاحب العلاقات الغرامية العديدة كما قيل ، كان متنبهاً جداً ، رغم ما قيل عن حياة الليل التي عاشها أحياناً ، فلم يكن له عنوان ثابت و كان حسه الأمني يجعله بغير مكان نومه دائماً .
و لكن (الأمير الأحمر) وقع في النهاية ، منطبقاً عليه المثل العربي (ما يوقع غير الشاطر) ، بعد أن تخلى عن سلوك أمنى مهم ، و هو أن أصبح له عنوان سكني ثابت ، بعد زواجه المثير من ملكة جمال الكون لعام 1971م اللبنانية جورجينا رزق.
و لم يفت على كثيرين من معارفه و أصدقائه و أقربائه تحذيره ، و الطلب منه الانتباه ، و الحذر في تحركاته ، و ينقل عنه أنه كان يطمئن والدته ، التي لم تكفّ عن التنبيه عليه بضرورة إحداث تغييرات على عنوانه و تبديل سيارته بالقول (عمر الشقي بقي) .
و روى كريم بقردوني ، الزعيم المسيحي اللبناني اليميني ، المقرب من زعيم القوات اللبنانية الانعزالية السابق بشير الجميل ، بأنه نقل تحذيراً من بشير إلى أبو حسن ، الذي كان أحد الخطوط المفتوحة بين الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات و الميليشيات المسيحية اللبنانية المختلفة ، حول معلومات وصلت عن خطة لاغتياله .
و لم يقدّم بشير الجميل تفاصيل عن عملية الاغتيال المحتملة لبقرادوني و لكنه طلب منه أن يحذّره (فأبو حسن هو صاحبنا) كما قال بشير الجميل لبقرادوني .
و ذكرت بعض المصادر أيضاً أن المكتب الثاني اللبناني ، أحد أجهزة المخابرات اللبنانية ، كان حذّره كذلك ، و روي أنه تم العثور على قصاصة ورق من المكتب الثاني فيها التحذير ، في جيبه بعد استشهاده .
المصادر الصهيونية قالت إن سلامة دوّخ ملاحقيه و نجا من أكثر من عملية اغتيال ، حتى أرسلت إحدى عميلات الموساد ، و هي رسامة بريطانية ، اسمها (سلفيا إيركا روفائي) ، التي أوكل إليها مراقبة الأمير الأحمر و رصد تحركاته ، إلى رؤسائها أن الأمير الأحمر أصبح في متناول اليد ، و كانت العميلة تقطن بالقرب من منزل جورجينا . في الطابق التاسع من إحدى بنايات شارع فردان .
و كما هو متوقع جاء أمر للعميلة بتنفيذ عملية اغتيال الأمير الأحمر الذي دوّخ رجال الموساد طويلاً ، فتم تلغيم سيارة من نوع فوكس فاجن بعبوة تفجّر لا سلكياً عن بعد ، و وضعها بالقرب من الطريق الذي يمر منه موكب أبو حسن المكوّن من سيارة شفروليه و سيارتي رانج روفر ، و عندما وصل الأمير الأحمر إلى تلك النقطة في الساعة الثالثة من عصر يوم 22/1/1979 ، حتى ضغطت عميلة الموساد على الزر القاتل .
و بعد سنوات من تلك العملية فإن ضابط الموساد البارز السابق رافي إيتان الذي يعيش الآن في ضاحية أفيكا الراقية قرب تل أبيب يعيد الفضل لنفسه في اغتيال أبو حسن سلامة .
و إيتان أحد أبرز رجال الموساد المعروفين بقسوتهم و الذي قتل بيديه ، كما يتباهى ، العشرات من الخصوم في أنحاء مختلفة من العالم بإطلاق الرصاص أو الخنق أو الضرب على الرأس أو الطعن .
و هو الذي اشتهر لقيامه بخطف الضابط النازي أودلف إيخمان عام 1960 من الأرجنتين و الذي أعدم لاحقاً في سجن الرملة بتاريخ 31/5/1962م .
و لدى اغتيال سلامة كان إيتان المستشار الشخصي لرئيس وزراء الكيان مناحيم بيغن لشؤون الإرهاب ، و قام إيتان بزيارة بيروت منتحلاً شخصية رجل أعمال يوناني ، و تمكن من معرفة إقامة سلامة و تحركاته .
و عندما عاد إلى تل أبيب أرسل ثلاثة من رجال الموساد متخفين كعرب إلى بيروت ، أحدهم استأجر السيارة و الثاني فخّخها بالقنابل و الثالث أوقفها على الطريق الذي يسير عليه سلامة يومياً .
و الملفت أنه بعد نجاح العملية قرّر بيغن أن إيتان (أثمن) من أن يخاطر به مرة أخرى فأبقاه في منزله بعيداً عن العمل الميداني . و فيما بعد استوحى كاتب القصص البوليسية المعروف جون لوكريه شخصيته الرئيسية التي تتعقب "الإرهابيين" في روايته المشهورة (الطبالة الصغيرة) من شخصية إيتان الذي تورّط في أعمال قذرة أخرى كثيرة للموساد من أشهرها فضيحة الجاسوس جوناثان بولارد الذي عمل لحساب الموساد في أمريكا و معتقل الآن فيها .
و من المعتقد أن أمينة المفتي الجاسوسة الأردنية التي عملت لصالح الموساد اقتربت من أبو حسن سلامة كثيراً أثناء تردّده على فنادق بيروت الراقية و زوّدت الموساد بعناوينه .
و هناك تفاصيل و روايات شبيهة عن الحادث نشرت بعد وقوعه ، و من الصعب بدون وجود رواية رسمية فلسطينية معلنة عن ما حدث التأكيد على تفاصيل حقيقة ما حدث بالفعل . و فيما بعد كشف النقاب عن أن علي حسن سلامة كان ضابط الاتصال بين عرفات و المخابرات الأمريكية . و هي العلاقات التي بدأت ، كما أشار وزير خارجية أمريكا الأشهر كيسنحر في كتابه (سنوات الجيشان) ، في تشرين الثاني عام 1973م ، بعد عقد اجتماع بين نائب الـ (سي.آي.إي) و ياسر عرفات .
و قدّم أبو حسن خدمات اعتبرها الأمريكيون هامة ، و في مقر وكالة المخابرات الأمريكية في ضاحية لانغلي كان يوصف سلامة بأنه "الشرير الذي يحسن خدمتنا" . و وفّر سلامة ، في ظروف الحرب الأهلية اللبنانية ، الأمن للأمريكيين ، و حذّر المخابرات الأمريكية من عملية لإسقاط طائرة كيسنجر خلال إحدى رحلاته المكوكية الشهيرة في الشرق الأوسط ، و كشف عن عدة عمليات لاغتيال مسؤولين أمريكيين في لبنان . و لم تقطع الـ (سي.آي.إي) علاقتها بسلامة رغم طلب إسحاق هوفي ، مدير الموساد ، ذلك مراراً .
و بعد اغتيال سلامة قال هيرمان إيلتس السفير الأمريكي السابق في لبنان : "لقد ساعدنا سلامة في حماية المواطنين و المسؤولين الأمريكيين و تعاون معنا بشكلٍ غير عادي و أعتبر مقتله خسارة" .
و هناك من يرى أنه ، بعد بدء العلاقات الأمريكية – الفلسطينية عام 1978م من خلال صلاح خلف (أبو إياد) ، المسؤول الأمني الأول في فتح ، أصبح لدى أبو حسن إحساس أن تلك العلاقة مع الأمريكان ستحميه .
و كشفت بعض المصادر عن طلب المخابرات الأمريكية من الموساد ، في يناير عام 1978م ترك أبو حسن في حاله (ليرتاح ، فهو رجلنا) ، و كان رد الموساد صاعقاً (إنكم تعلمون ما فعله معنا ، و تعرفون قواعد لعبتنا جيداً ، لقد تقرّر مصيره ، إن الرب يغفر ، أما "إسرائيل" فلا) .
و بقيت سيرة أبو حسن سلامة حاضرة في النقاشات الأمنية الفلسطينية و "الإسرائيلية" ، حتى الآن ، لاستخلاص الدروس و العبر ، و من ضمن ما تعود إليه ، تلك المصادر ما حدث في تلك الليلة في مدينة ليلهامر بالنرويج ، عندما قتلت وحدات الموساد المواطن المغربي أحمد بوشكي اعتقاداً بأنه الأمير الأحمر ، مخلفة فضيحة مدوية للموساد ، و نجم عنها اعتقال الفريق الذي أوكلت له تنفيذ العملية .
تعليق
-
عقدة ليلهامر
في مطلع عام 2000 ، و في إجراء نادر في الكيان الصهيوني حظرت اللجنة الوزارية الخاصة بإعطاء التصريح بالنشر للشخصيات الرسمية في "إسرائيل"، كتاباً لـ (أليعيزر بلمور) الموظف السابق في وزارة الخارجية الصهيونية حول عملية (ليلهامر) في النرويج حيث قتل مواطن مغربي برصاص الموساد معتقدين بأنه علي حسن سلامة . و ذلك في الساعة 40 :22 من يوم 21 تموز من عام 1973 . و هو يوم لم تنسه "إسرائيل" حتى الآن .
في البداية لا بد من الإشارة هنا إلى (آلية) نشر الكتب التي يكتبها رسميون صهاينة لمعرفة كيف تم منع الكتاب ، فبعد أن أكمل بلمور كتابه قدّمه كما جرت العادة لمصادقة وزارة الخارجية التي كان يعمل بها . و التي صادقت على نشر الكتاب و كذلك فعلت الرقابة العسكرية بعد أن طلبت حذف بعض المقاطع من الكتاب و إجراء بعض التغييرات الصغيرة عليه .
و بعد أن استجاب (بلمور) للتعليمات توجّه للجنة الوزارية الخاصة بالمصادقة على المنشورات التي يكتبها أي موظف سابق في الدولة عن فترة عمله . و فيما يخصّ هذه اللجنة فإن شرط موافقتها على أي مؤلف لأيّ موظف رسمي يسري حتى خمس سنوات بعد استقالة الموظف ، و حتى عشر سنوات إذا تضمّن المؤلف تفاصيل تتعلق بأمن الدولة أو علاقاتها الخارجية .
و خلال العامين (1998 - 1999 ) على سبيل المثال ، عرقلت اللجنة الوزارية المذكورة نشر عدة كتب منها ، كتاب رئيس شعبة الاستخبارات الصهيونية السابق أوري ساغي (أضواء في الظلام) ( الذي نشر فيما بعد) ، و كتاب العميد احتياط ميخائيل الدار (داكار) (الذي نشر هو الآخر فيما بعد) و هي التي منعت كتاب بلمور ، و تكتسب هذه اللجنة أهمية خاصة في "إسرائيل" و يرأسها وزير العدل (و كان وقت النظر في الكتاب السياسي الصهيوني المؤثر يوسي بيلين) و وزير الدفاع (إيهود باراك و كان أيضاً في الوقت نفسه رئيساً للوزراء) و الخارجية (و كان دافيد ليفي) و وزير العلوم و الرياضة (و كان متان فلنائي) .
و عند مناقشة نشر كتاب (بلمور) نشر أن مشاركة فلنائي و باراك و ليفي في اللجنة كان (ضعيفاً) و يمكن فهم ذلك ، ربما فلنائي بسبب تخصّصه و باراك و ليفي بسبب انشغالهما ، و الأهم ربما لترك المهمة ليوسي بيلن .
و لكنه لم يكن وحده هناك في تلك اللجنة المهمة ، فالمصادر الصحافية الصهيونية ذكرت أن مصدر المعارضة الرئيسي لنشر الكتاب كان (الموساد) .
صحيفة هآرتس العبرية ذكرت في حينه أن (رئيس الموساد أفرايم هليفي أقنع يوسي بيلين بأن نشر الكتاب سيضر بالموساد و بعلاقات "إسرائيل" مع النرويج) و بأن وزير العدل لم يردّ على صحيفة (هآرتس) بالتوضيح .
و كتب الصحافي يوسي ملمان في هآرتس بتاريخ 2/2/2000م معتقداً أن (رئيس الموساد يخشى على ما يبدو من توقيت نشر الكتاب ، هناك في هذه الفترة لجنة تحقيق رسمية في النرويج تقوم بالتحقيق في الاشتباه بأن (توراكسل بوش) النائب العام إبان القضية قد ضلّل وزراء القضاء الذين قدّموا تقارير كاذبة للبرلمان ، و أيضاً تقوم اللجنة بالتأكد من الشبهات بأن الاستخبارات النرويجية قد تعاونت قبل العملية و بعدها مع الموساد) .
و لكن لماذا خاف الموساد من نشر الكتاب ؟ ملمان يعتقد أنه بسب وجود انتقادات لما يسميه الاستعداد الرديء للعملية ، و كذلك لتصرف قسم من المشاركين ، غير المهني بما فيهم مايك هراري قائد العملية .
يقول ملمان : (من الواضح أن بلمور يعرف أكثر مما هو موجود لديه استعداد لكشفه ، و على هذا النحو يبدو أن سبب معارضة رئيس الموساد لنشر الكتاب هو خوفه على صورة التنظيم الذي يرأسه ، هذه الصورة التي تضرّرت خلال السنوات الأخيرة إثر سلسلة عمليات فاشلة في الأردن و قبرص و سويسرا) .
و يقصد بالطبع عدة عمليات هزّت صورة الموساد في السنوات الأخيرة منها العملية الفاشلة لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل في العاصمة الأردنية عمان ، و التي تدخّل فيها الملك الأردني الراحل حسين و تمخضت عن إعطاء الترياق الشافي لمشعل و إخراج الشيخ أحمد ياسين من السجن .
و أشار (يوسي ملمان) المتخصص في الشؤون الأمنية في مقاله في صحيفة هآرتس العبرية إلى أن أليعيزر بلمور الموظف المتقاعد صاحب الكتاب لم يتخيّل أن يأتي يوم و تنسب إليه "إسرائيل" احتمال المس بأمن دولته … !
على أية حال ، فإن الكتاب يتحدث ، كما ذكرنا ، عن ما حدث يوم 21 تموز من عام 1973 ، عندما أطلق النار اثنان من رجال الموساد الصهيوني على نادلٍ مغربي يدعى أحمد بوشكي و هو ينزل من الباص فأردوه قتيلاً على الفور أمام ناظري زوجته النرويجية الحامل في أشهرها الأخيرة .
و هي العملية التي أصبحت مجالاً للكتابة و المراجعة لدى أصحاب القرار في الكيان الصهيوني و كذلك لدى الصحافة و الرأي العام الصهيوني ، و أعطت الكثير من المتابعين فكرة عن آلية عمل فرق الموت في الكيان ، و أيضاً عن محركات استهداف أشخاص بعينهم بالاغتيال ، و (الدور) الذي تقوم به (الدول الصديقة) في التغطية و على الأقل (غض النظر) عن أنشطة الموساد الرهيبة .
و ساعد في إبقاء المسألة مثارة عدم سكوت زوجة القتيل المغربي و التي تابعت الأمر قضائياً و التي حصلت بعد سنوات طويلة على تعويض مالي من "إسرائيل" ، و وقوع عددٍ من المشاركين في العملية في قبضة الشرطة النرويجية . و تقديمهم للمحاكمة و الإفراج عنهم قبل إكمال مدة محكوميتهم و تحوّل المسألة إلى قضية للنقاش داخل دهاليز المجتمع السياسي في النرويج .
كان الموساد يريد أن يصفي أبو حسن سلامة ، و لكن تشخيصاً خاطئاً أدّى إلى مقتل المواطن المغربي ، و نجح اللذان أطلقا النار من الموساد بالفرار و معهم ثمانية من أعضاء الموساد من بينهم مايك هراري قائد العمليات في الموساد وقتها (فيما بعد مرتزق معروف عالمياً) و رئيس الموساد تسفي زامير (وقتها أيضاً) ، و الذي كان أثناء العملية في غرفة عمليات متقدمة في النرويج .
واحد من الإثنين الأخيرين فرّ عن طريق البحر ، و لكن ستة من أعضاء الموساد الآخرين و هم : (أبراهام جمار ، و دان آرئيل ، و تسفي شتينبرغ ، و ميكي دورف ، و مريان غولدنيكوف ، و سيلفيا رفائيل) ضبطوا و قدّموا للمحاكمة في النرويج .
و طرد ضابط أمن السفارة الصهيونية (إيغال أيال) الذي اختبأ العميلان (شتينبرغ) و (دروف) في شقته من النرويج و انتهت القضية ، كما هو معروف أن علم الرأي العام الكثير عن أساليب عمل فرق الموت الصهيونية و كذلك ، و هذا ما يتعلق بـ (بلمور) بأزمة دبلوماسية صعبة عكّرت صفو العلاقات الصهيونية مع النرويج ، و هنا برز دور الرجل صاحب الكتاب المحظور .
يتضمّن الكتاب المحظور نشره ، حسب استعراض ملمان له ، أحداثاً مثيرة بالفعل كتبها أليعيزر بلمور الذي كان قد أرسل قبل هذا العملية بأربعة شهور للنرويج كملحق سياسي في سفارة الكيان الصهيوني هناك ، و عيّن في وقتٍ لاحق مسؤولاً عن السفارة .
يقول (ملمان) إنه بعد اعتقال أعضاء الموساد في النرويج بأسابيع طلبت وزارة الخارجية و الموساد من (بلمور) أن يعالج قضية المعتقلين ، و أن يلعب دور رجل الاتصال مع السلطات النرويجية ، و هذا ما فعله ، إلا أن معالجة قضية السجناء قد أوكلت من قبل قيادة الموساد في تل أبيب لمن يسميها بلمور (يهوديت) .
يضيف ملمان (بلمور يقصد يهوديت نسياهو التي كانت من قدامى الموساد و كانت مشاركة في عملية اختطاف أدولف أيخمان في عام 1961 من الأرجنتين . نسياهو وصلت إلى استوكهولم في السويد و التقت مع بلمور في غرفة في فندق بعد أن أوصلت له تعليمات ذكرته بالأفلام البوليسية ، بعد ذلك بفترة تجاسرت و التقت معه في أوسلو نفسها و طلبت منه أن يحدثها عن لقاءاته مع المعتقلين من أعضاء الموساد) .
و في الوقت ذاته كانت (إسرائيل) وكّلت المحامي المقدسي أرفين شيمرون لمساعدة المحامين النرويجيين الذين تولوا الدفاع عن المتهمين . و يورد ملاحظة قد لا تكون هامة في سياق حديثنا ، و هي أن نسياهو تصادقت مع زوجة شيمرون و عندما سرحت من الموساد تدرّبت على المحاماة في مكتبه .
و يشير صاحب الكتاب المحظور إلى أن (أنواس شيودت) و هو أحد المحامين النرويجيين قد وقع في حب (سيلفيا رفائيل) إحدى المقبوض عليهم ، و التي سحرت المحامي كما يقول بلمور .
المحامي (شيودت) أصبح يزور (سيلفيا) في السجن بشكلٍ ثابت و تحوّلت الزيارات منذ لحظة معينة إلى زيارات عاطفية . و بعد إخلاء سبيلها طلّق (شيودت) زوجته النرويجية و تزوج من (سيلفيا) .
بلمور يعتقد أن الحظ قد لعب في مصلحة الشرطة النرويجية بدرجة لا توصف في تحقيقات عملية القتل في ليلهامر ، و يكتب (الأمر بدأ في الشرطي المجهول من شرطة ليلهامر (بار أريك روستاد) الذي نصب بعد القتل بفترة قصيرة حاجزاً على الشارع بين أوسلو و ليلهامر ، الشرطي شبه النائم يلاحظ سيارة بيجو بيضاء تمر أمامه و يسجّل رقمها في كتابه لأن المرأة التي تقودها بدت مضطربة في نظره) و يوضح بلمور أن المرأة المقصودة هي (مريان غولدنيكوف) من مواليد السويد التي اتضح لاحقاً أنها سكرتيرة عادية في الشاباك و جنّدت للعملية .
و في اليوم التالي وصلت (غولدنيكوف) للمطار و معها (دان آربيل) من أصل دانمركي و أعادت السيارة المستأجرة للشركة فتم توقيفها هي و(آربيل) ، و في جيب (آربيل) وجدوا رقم هاتف (إيغال أيال) ، ضابط الأمن في سفارة الكيان الصهيوني ، فخرقت الشرطة النرويجية حصانة ضابط أمن السفارة و اقتحمت بيته حيث وجدت (ميكي دروا) و (تسفي شتينبرغ) .
يواصل ملمان استعراضه للكتاب الذي يتحدّث عن العملية (اعتقال (أربيل) و (غولدنيكوف) أفضى إلى شقة أخرى في أوسلو حيث اختفت (سيليفا رفائيل) الجنوب أفريقية و (أبراهام جمار) . الإثنان لم ينهارا في التحقيق و تمسكا خلال أشهر بأسمائهما التنكرية (باتريشيا روكسبورغ) التي حملت جوازاً كندياً ، و (لسلي أورباوم) البريطاني الجنسية .
محقّقو الشرطة النرويجية اكتشفوا أن الجوازات مزيّفة و اشتبهوا بأنهم (إسرائيليون) . (سيليفا) و (أبراهام) من ناحيتهما لم يعترفا بهويتهما الحقيقية إلا في قاعة المحكمة .
(الحظ الذي ابتسم للنرويجيين كان سخياً معهم في الوقت ذاته بدرجة لا توصف حيث كانت ذروتها سقوط دانيل أربيل الذي وفّر منذ لحظات اعتقاله الأولى تفاصيل لا تقدّر قيمتها بثمن ، و شكّلت أساساً قوياً لإعادة تمثيل العملية بأجزائها المختلفة) – كما يقول بلمور .
و فيما بعد برّر (أربيل) سبب انهياره بهذه السرعة لأن (من أرسلوه لم يكلفوا أنفسهم بذل الجهد في إعداده كما يجب ، و لسبب ما كان على قناعة بأن عملية ليلهامر تتم بالتنسيق مع النرويجيين و بموافقتهم ، و لذلك اعتقد أن معرفتهم لهوية الجهة التي أرسلته ستجعلهم يخلون سبيله فوراً) .
و يكتب بلمور ملاحظة قد تبدو طريفة في تبرير انهيار (أربل) : (هناك احتمالاً بأن مرض الخوف من الأماكن الضيقة الذي عانى أربيل منه قد لعب هو الآخر دوراً في تصرفه في فترة التحقيق . مخاوفه من الجلوس في الغرفة وحيداً و في زنزانة صغيرة دفعته إلى البحث عن وسائل التودّد إلى محقّقيه و كسب سخائهم و صداقتهم . أربيل اعتقد أن مثل هذا الثمن يمكن الحصول عليه من خلال محادثات ودية صريحة) .
و ربما يوضح ما يسوقه بلمور، محاولة الاحتفاظ لديه و لغيره من الصهاينة بالصورة (السوبر) عن الموساد ، فلم يستطع ، بلمور ، و هو الدبلوماسي صاحب التجربة و الذي اقترب أكثر من غيره من أشهر عملية فشل للموساد في ليلهامر ، التصديق أنه يمكن ، هكذا و بكل بساطة ، أن ينهار عميل للموساد و يعترف ، كما يمكن أن يحدث لدى أيّ جهاز أمنى آخر في العالم .
و يسرد ملمان نقلاً عن كتاب بلمور (حتى تكون هذه المحادثات طويلة و هذه كانت تتم في مكاتب التحقيق في الزنزانة الصغيرة - كانت هناك حاجة لمدهم من التفاصيل في كلّ مرة . أربيل و غولدنيكوف هما الوحيدان (الخلية الإسكندنافية) اللذان تحدّثا بصراحة منذ البداية مع محقّقيهما) ..
و لكن المسألة لم تتوقف عند (آربيل) فهناك أيضاً من قدّم معلومات للمحقّقين (تسفي شتينبرغ و ميكي دورف اعترفا بحكاية التغطية التي زوّدا بها و لم يخرجا عنها خلال التحقيق معهما . طاقم التحقيق النرويجي استغل بشكلٍ جيّد المعلومات التي استطاع انتزاعها من كل من تطوّع لتزويده بالتفاصيل الهامة . المدعي العام استغل هذه النجاحات في التحقيق و وضع لائحة الاتهام بناء عليها) .
بلمور يوضح أيضاً أن (طاقم التحقيق حصل على تفاصيل أخرى من خلال تحليل قائمة دخول الأجانب إلى النرويج و فحص استبيانات النزلاء في الفندق في أوسلو و ليلهامر في الفترة التي سبقت حادثة القتل . النرويجيون لم يتكاسلوا بل على العكس قاموا بتوسيع اتجاهات التحقيق للدانمارك و السويد و فرنسا و إيطاليا و في مراحل المحاكمة الأولى حاول المدعي العام استغلال ثمار التحقيق من أجل توسيع الاتهامات وشمل الجهود "الإسرائيلية" الشاملة في مكافحة العنف) .
الصحافي ملمان يوضح أن بلمور ، بكلامه هذا (يقصد أن قسماً من الطاقم الذي تولى قضية ليلهامر ظهر في عواصم أوروبية أخرى كان الموساد قد اغتال فيها نشطاء (أيلول الأسود) خلال الأشهر العشرة بين أولمبياد ميونخ و عملية (الليلة المريرة) كما أطلق عليها الموساد) .
و يكتب ملمان ملاحظة عائداً إلى أفرايم هليفي ، مسؤول الموساد الذي كان له دوراً في عدم نشر الكتاب قائلاً إن هليفي ربما كان يخشى الجملة التالية التي وردت في الكتاب : ( المدعي العام تلقّى إشارة من المستويات الأعلى بالنزول عن الشجرة . النرويج لم تكن معنية بتطور القضية و تدحرجها إلى أبواب دول أخرى) .
و القصد واضح هنا (أي ربط المشبوهين بعمليات الاغتيال في باريس و روما و نيقوسيا ، هذا الأمر يصدر على ما يبدو من رئيس الحكومة النرويجي تريغواه برطلي نفسه الذي سعى لمساعدة "إسرائيل" المرتبكة من خلال تقليص الأضرار رغم حنقه عليها) .
و هذا كلام خطير ، و كان يجب أن يستلفت نظر المعنيين في الموضوع من الفلسطينيين و من العرب و هو يشكّل نموذجاً لتعامل هذا النوع من الدول مع "إسرائيل" (كطفل مدلل) ، و السؤال يبقى لماذا ؟ و ما هي الأسباب الجوهرية التي تجعل "إسرائيل" تحظى بكل هذا العطف ، و هي تخرق القانون بكل صلف ، في دول تختال على غيرها من دول أخرى ، بأنها تقوم أساساً على سلطة القانون .
يشير (ملمان) إلى إحدى الفقرات المثيرة في الكتاب و التي تدور حول كيفية حدوث الخطأ بقتل النادل المغربي بدلاً من علي حسن سلامة و يعيده إلى أنه (نبع من ملاحقة شتينبرغ و دورف لجزائري اسمه كامل بن آمنة الذي تبيّن أنه عضو في م. ت.ف و لكن ظهر في وقتٍ لاحق أنه كان الطعم الذي قاد المجموعة إلى بوشكي في ليلهامر . بن آمنة أعطى بعد العملية روايات مختلفة لمحققي الشرطة في النرويج و النمسا حيث تزوّج من امرأة نمساوية . مرة قال إنه طالب و مرة قال إنه عامل بسيط و ثالثة قال إنه بدأ العمل كموظف في مؤسسات الأمم المتحدة في جنيف . و لكنه وجد صعوبة في تفسير كيفية سماحه لنفسه بالتجوّل في النرويج و في أرجاء أوروبا و الشرق الأوسط . و لماذا كان بحوزته جوازان جزائريان و لماذا رافقه ممثل السفارة السعودية إلى المطار في جنيف في إحدى رحلاته) .
يقول ملمان : (في كل الأحوال ظهر بن آمنة و هو يتحدّث مع بوشكي و بذلك تحدد مصير النادل المغربي ، ثلاثة من أعضاء الموساد الذين زوّدوا بصورة (سلامة) قرّروا كلاً على حدة أن بوشكي هو المطلوب . هذا القرار حسم ضد مناقض لعضو آخر في القوة) .
و هذا الشخص كما يقول بلمور هي : (فماريان غولدنيكوف التي سبحت في البركة بجوار بوشكي و سمعته و هو يتحدّث النرويجية بطلاقة ، هذا الأمر جعلها تستنتج أن الشخص الذي يتقن النرويجية بهذه الطلاقة لا يمكن أن يكون أبو حسن سلامة (فالأمير الأحمر ليس معروفاً كشخص يتقن اللغة النرويجية) يقول بلمور. و لكن رأي غولدنيكوف لم يقبل . مما سيجعل "إسرائيل" تندم طويلاً ، إلى درجة الخشية من كتاب بلمور عن تلك العملية .
المحكمة قرّرت أن (المجموعة التي اعتقلت في ليلهامر قد نظّمت من قبل الأجهزة "الإسرائيلية" ، و أنها هي التي تقف وراءها) . و تم تبرئة عضو المجموعة (دورف) لعدم توفر الأدلة ..
و صدرت الأحكام على المقبوض عليهم كالتالي : شتينبرغ حكم عليه بالسجن لمدة سنة و غولدنيكوف لعامين و نصف ، أربيل حكم خمس سنوات و نصف السنة بالسجن الفعلي ، إلا أنهما لم يقضيا كامل العقوبة و أخليَ سبيلهما قبل ذلك .
و منذ أن عاد المشاركون في العملية إلى "إسرائيل" و هم يلتزمون الصمت (باستثناء سيلفيا رفائيل) ، و لم يجروا المقابلات مع الصحافة . و في عام 1996 وافقت "إسرائيل" على تعويض زوجة المغدور (توريل لارنس بوشكي) و ابنتهما و ابنان لبوشيكي من زواجه الأول بمبلغ 400 ألف دولار . و في نفس المناسبة عبّرت "إسرائيل" عن أسفها عن الحادث دون أن تحمّل نفسها المسؤولية عنه .
و يمكن أن تكون أرملة بوشكي ، و هي التي تابعت بشكلٍ فردي القضية ، حقّقت نصراً لصالحها في قضية زوجها الراحل ، و إن لم يكن كاملاً ما دامت "إسرائيل" تعفي نفسها عن (مسؤولية) اغتياله ، و هي التي لم تنسَ تلك الليلة المريرة في ليلهامر .
و ليس هناك ما يشير إلى أن الأطراف التي استهدفها ذراع الموساد الطويلة قد تعلّمت دروساً من ليلة ليهامر تلك ، رغم أنها كانت في معظمها دروساً مجانية ، دفع ثمنها المرحوم بوشكي و وفّرتها يقظة شرطي نرويجي ناعس ..!
تعليق
-
الرجل الثاني
و من أبرز الذين تم اغتيالهم خليل الوزير الرجل الثاني في حركة فتح و الذي وصلته كتيبة الموت إلى تونس في عام 1988 و الانتفاضة الفلسطينية الكبرى في أوجها ، في عملية جريئة كان تورّط "إسرائيل" فيها مؤكّداً رغم أنها لم تعلن مسئوليتها عنها ، رغم كل الإشارات و الاتهامات الموجهة للموساد بتنفيذ تلك العملية التي كان لها صدى لم ينته . و حطمت ما تصوّره البعض بأنها خطوط حمراء متفق عليها ، على الأقل ضمنياً ، بين "الإسرائيليين" و الفلسطينيين بعدم المساس بقيادات الصف الأول ، و يقصد بذلك ، لدى أصحاب اعتقاد الخطوط الحمراء ، القيادات الأبرز من الصف الأول ، لأن "إسرائيل" سبق و أن اغتالت عدداً من قادة الصف الأول مثل القادة الثلاثة في عملية ربيع فردان .
و كانت تفاصيل ما حدث كما روته انتصار الوزير أم جهاد ، أرملة الشهيد أبو جهاد ، و ابنته حنان ، معروفاً على نطاق واسع ، و يتلخص بتمكّن فرقة من الموساد من الوصول إلى ذلك الحي المهم في العاصمة التونسية الذي يوجد به المنزل الذي يقيم به أبو جهاد ، و تمكنه من الدخول إلى المنزل و قتل أبي جهاد أمام ناظري عائلته .
و في حين كتبت كتبٌ عن أبي جهاد و حرّرت مئات الأحاديث الصحافية و التقارير و الأخبار عن عملية الاغتيال إلا أن الصمت الصهيوني كان مطبقاً رغم أن كل الأصابع كانت تشير إلى جهة واحدة : إلى تل أبيب تحمّلها مسؤولية تلك العملية النوعية التي استهدفت الرجل الثاني في حركة فتح و الخليفة المتوقع لياسر عرفات .
و انتظر العالم تسع سنوات حتى نطقت "إسرائيل" .. !
ففي عام 1997 كشفت الصحف الصهيونية عن تفاصيل العملية الدقيقة و التي استخدمت فيها الطائرات و الزوارق و قبل ذلك عملاء "إسرائيل" .
صحيفة (معاريف) العبرية في عددها الصادر بتاريخ 4 تموز كانت ، أول جهة صهيونية تشير صراحة و بالتفصيل لتورط "إسرائيل" في العملية التي أودت بحياة نائب القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية .
و نشرت (معاريف) تفاصيل دقيقة للعملية مما يدعو للاعتقاد ، أن الجهات الأمنية الصهيونية (سرّبت) تلك المعلومات للصحيفة ، حتى أن أقلاماً فلسطينية و عربية دبجت مقالات في مغزى الكشف عن تورّط "إسرائيل" في العملية في تلك الفترة بالذات .
قالت معاريف ، دون أن يكذبها أحد في تل أبيب ، إن من نفّذ العملية وحدات كوماندوز خاصة تابعة لهيئة الأركان "الإسرائيلية" ، و هي الأقوى في الجيش "الإسرائيلي" . في منزل أبو جهاد ليلة 15 - 16 نيسان 1988 ، و تم تنظيم العملية كعملية عسكرية واسعة النطاق .
و تم نقل المشاركين في الاغتيال على متن أربع سفن ، من بينها اثنتان نقلت عليهما مروحيتين ، لاستخدامهما في حالة الاضطرار لعملية إخلاء طارئة إذا حدث أي خلل أو طارئ غير متوقع .
و كشفت الصحيفة أنه تم إعادة (بناء) فيلا أبو جهاد التي كان يقطن بها في تونس العاصمة بتفاصيلها الدقيقة في "إسرائيل" اعتماداً على عملاء لجهاز الموساد ، الذي ساعد رجاله في تدريب الوحدات العسكرية على العملية داخل الفيلا الشبيهة في "إسرائيل" .
و نوّهت لدور عملاء الموساد الفلسطينيين و التونسيين في العملية ، مشيرة إلى أن بعض العملاء التونسيين كانوا يعتقدون أنهم يعملون لجهاز مخابرات أوروبي لم تذكره الصحيفة .
و نشرت الصحيفة رسماً للطابق الأرضي لفيلا أبو جهاد ، لشرح كيف تمت العملية ، حيث اقتحم أفراد وحدة الكوماندوز الباب الرئيسي و تم قتل أبو جهاد عند طرف الدرج المؤدّي إلى الطابق الأول .
و قالت الصحيفة إن إيهود باراك (مساعد رئيس الأركان) وقت تنفيذ العملية ، و زعيم حزب العمل عند نشر هذا التقرير في معاريف ، هو الذي أعد للعملية و أشرف على عملية الاغتيال من البحر قبالة شواطئ تونس . و هو صاحب سجلّ حافل في عمليات الاغتيال .
و لكنه لم يكن وحده ، فمعاريف نشرت صور و أسماء القيادات الصهيونية التي خطّطت و نفّذت تلك العملية و أبرزهم : إسحاق شامير رئيس حكومة الاحتلال وقت ذاك الذي صادق على عملية الاغتيال و بعد تنفيذ العملية بنجاح أرسل برقية تهنئة لمنفّذيها ، و كذلك إسحاق رابين و زير الدفاع في حكومة (الوحدة الوطنية) الصهيونية الذي أيّد تنفيذ العملية في جلسة المجلس الوزاري المصغر ، و آمنون ليبكين شاحاك رئيس الاستخبارات العسكرية الذي وفّر معلومات لازمة لتنفيذ العملية بنجاح ، و ناحوم أدموني رئيس جهاز الموساد الذي قدّم أيضاً معلومات دقيقة لإنجاح العملية ، و إيل رجونيس ضابط الاستخبارات في دورية هيئة الأركان والذي بدا ، كما تقول الصحيفة بجمع معلومات في نهاية عام 1987 بعد تسريحه من الجيش ، و دان شومرون رئيس الأركان الصهيوني الذي صادق على عملية الاغتيال .
و أشارت (معاريف) إلى أنه بعد أن تقرّر اغتيال أبي جهاد ، بدأ جهاز الاستخبارات العسكرية و جهاز الموساد بجمع معلومات شخصية عن أبي جهاد و عن المنزل الذي يعيش فيه ، و تم توفير معلومات كثيرة في هذا المجال بمساعدة عملاء "إسرائيل" في تونس .
و لم يكتفِ هؤلاء العملاء ، كما تذكر الصحيفة العبرية بتوفير معلومات و صور منزل الشهيد من كافة الجهات ، بل قام هؤلاء العملاء بتقديم مساعدات (لوجستية) لوحدة الكوماندوز الصهيونية التي نفّذت الاغتيال .
و كشفت الصحيفة أنه بعد انتقال القيادة الفلسطينية إلى تونس بعد عام 1982 فإن "إسرائيل" استطاعت إيجاد قاعدة قوية من العملاء هناك ، و أن كثيرين من عملاء الموساد زاروا تونس كسياح أو كرجال أعمال أوروبيين ، و أن هؤلاء زاروا تونس كثيراً تحت هذا الغطاء و في فترات متقاربة ، و فتحوا فروعاً لشركات أوروبية في العاصمة التونسية كانت غطاء لنشاط الموساد .
و تشير الصحيفة إلى الرغبة الشديدة لدى "إسرائيل" بتجنيد عملاء تونسيين و تم رصد مبالغ كبيرة لذلك لإغراء هؤلاء ، و تم النجاح في ذلك بجهود بذلت داخل و خارج تونس ، و جنّد الموساد العديد منهم تحت غطاء أنهم يجمعون معلومات لأجهزة استخبارية أوروبية ، بالإضافة إلى ما وصفته الصحيفة بمحاولة الموساد تجنيد عددٍ من أفراد الفصائل الفلسطينية المختلفة في تونس .
و تؤكّد (معاريف) أنه بحلول منتصف الثمانينات من القرن العشرين كان هناك شبكة من العملاء منتشرة في مختلف أنحاء تونس تزود "إسرائيل" بمعلومات دقيقة .
و تضيف (معاريف) ، أن هذه الشبكة التي عملت على مدار سنوات في تونس ، استأجرت العديد من المنازل لإخفاء الأسلحة و التنصت على المكالمات ، و ادعت الصحيفة أن الموساد كان يتنصت على الهاتف الذي كان يستخدمه الشهيد أبو جهاد ، و أنها كانت على علم بالاتصالات الهاتفية التي أجراها أبو جهاد ، مع نشطاء و قيادات الانتفاضة ، و كانت هذه الاتصالات تجري عبر بدالات دولية في عواصم أوروبية لإخفاء مصدر تلك المكالمات .
و تكشف الصحيفة ، أن "إسرائيل" استعانت بطائرة بوينغ 707 كانت تحلّق قرب الشواطئ التونسية لجمع معلومات و بثها و التنصت على الهواتف التي يستخدمها القادة الفلسطينيون .
و أشارت الصحيفة إلى أنه أثناء الاستعداد لتنفيذ عملية الاغتيال ، تمكّنت دوريات بحرية (إسرائيلية) بمساعدة شبكة الموساد في تونس ، من التسلل إلى الشواطئ التونسية لتحديد المكان الأكثر أمناً لانطلاق وحدة الكوماندوز التي أوكل إليها مهمة تنفيذ الاغتيال .
و لم يكن الرأي العام و المتابعين ، بحاجة كثيراً للمعلومات التي كشفتها الصحيفة الصهيونية لمعرفة مدى قوة العملية و دقّتها و التحضير المنظم لها ، و الإيحاء بأن جهاز الأمن الصهيوني كان وحده يعمل و باقي الأجهزة التي تتولى الأمن في تونس كانت تأخذ غفوة طويلة ، و هو الأمر المستغرب ، فهذه الأجهزة التي تعمل في تونس و غيرها من البلدان العربية تعرف عن (دبة النمل) عندما يتعلق الأمر بأمن الحكام ، فأين كانت و عملاء الموساد يسرحون و يمرحون في تونس ، و ثم يدخلون إلى العاصمة و ينفّذون الاغتيال و يخرجون ، و لأن هذا الأمر غير منطقي ، فإن كثير من المتابعين شكّكوا بوجود دور لأجهزة الأمن التونسية في عملية الاغتيال ، إما بالتورّط المباشر أو بتسهيل العمل أو غض الطرف ، أو تسهيل خروج الكوماندوز منفّذي الاغتيال .
و من أهم ما نشرته الصحيفة (تفاصيل) اتخاذ القرار باغتيال أبو جهاد ، و ربما يساعد ذلك في فهم (التفكير) الصهيوني في مثل هذا النوع من الاغتيالات و الذي طال ، هذه المرة ، أعلى رتبة عسكرية و سياسية فلسطينية ضمن سلسلة الاغتيالات التي نفّذتها "إسرائيل" .
قالت (معاريف) إنه في 8/3/1988 ، و بعد انتهاء عملية اختطاف الباص الذي كان يقلّ موظفي مركز الأبحاث النووية في ديمونا ، عقد مجلس الوزراء الصهيوني المصغر ، و على رأس جدول الأعمال اقتراح قدّمه جهاز الموساد باغتيال أحد أفراد منظمة التحرير الفلسطينية و لكنه هذه المرة كان : أبو جهاد .
و يبدو أنه ليس من الدقة أن يوصف ذلك الاجتماع بأنه اجتماع للمجلس الوزاري المصغر ، لأن الحاضرين و المشاركين في النقاش كما تحدّدهم الصحيفة كان معظمهم أركان المؤسسة الأمنية الصهيونية التي لها الدور الأكبر ، في تحديد سياسة "إسرائيل" .
قالت الصحيفة إن الذي شارك في (النقاش) في ذلك الاجتماع كانوا رئيس الوزراء : إسحاق شامير ، وزير الدفاع : إسحاق رابين ، وزير الخارجية : شمعون بيرس ، و رئيس الأركان : دان شومرون و نائبه الجنرال إيهود باراك ، و مستشار حكومة "إسرائيل" لمكافحة الإرهاب : الجنرال يغال برسلر ، و رئيس الاستخبارات العسكرية : الجنرال آمنون ليبكين شاحاك ، و رئيس الموساد ناحوم أدموني و نائبه شبتاي شبيط .
و لكن أين كان السياسيون ؟
ما تذكره (معاريف) ، يؤكد الدور الذي المؤثر و الحاسم الذي تلعبه المؤسسة الأمنية في "إسرائيل" ، فبعد خمسة أسابيع ، من ذلك الاجتماع الذي يتضح أنه كان عملياً لأركان المؤسسة الأمنية ، في يوم الجمعة 15/4/1988 ، و عندما كان الكوماندوز الصهيوني في السفن مع تجهيزاتهم و طائراتهم و قواربهم ، في البحر في الطريق إلى تونس ، عقد المجلس الوزاري المصغر الذي تصفه الصحيفة بـ (السياسي) اجتماعاً للمصادقة على العملية .
و من الطبيعي و الحالة هذه أن لا يستغرق الاجتماع الصوري ، أكثر من نصف ساعة ، و على العموم فإن أعضاء المجلس الوزاري المصغر السياسي الذين أتوا بهم للمصادقة على عملية كانت في طريقها للتنفيذ وافقوا على العملية باستثناء عيزر وايزمن ، الذي ، و كما تقول الصحيفة عارض العملية بشدة ، لأنها حسب رأيه ستضر باحتمالات التوصل إلى تسوية سلمية مع الفلسطينيين ، و تذكر الصحيفة أن شمعون بيرس لم يتحمّس للعملية ، و أيّد العملية كل من إسحاق شامير رئيس الوزراء و وزراء حكومة الوحدة الوطنية من الحزبين الكبيرين العمل و الليكود : إسحاق رابين ، موشيه آرنس ، دافيد ليفي ، آرئيل شارون ، موسى قصاب ، حاييم بارليف ، إسحاق نافون .
و لم يصادق في هذا الاجتماع على العملية فقط ، بل اتخذ قرار ، بأن لا تعلن "إسرائيل" عن أية مسؤولية لها عن العملية سواء نجحت أم فشلت ، و هو ما حدث بالفعل ، و بقي القرار سارياً حتى الآن .
تعليق
-
............زو لكن لماذا اتخذ القرار باغتيال أبو جهاد ؟
تقرّ (معاريف) العبرية بأن هناك أسباباً عديدة كانت وراء قرار اغتيال أبو جهاد ، و وضعت في المقدمة من هذه الأسباب الدور الرئيس لأبى جهاد في الانتفاضة الفلسطينية الكبرى ، و لكن حديثها عن الأسباب الأخرى يكشف بأن قرار اغتيال أبو جهاد لم يكن وليد تلك الظروف المتعلقة بالانتفاضة ، فالصحيفة تدرج سبباً رئيساً آخر يتعلق بدور أبو جهاد السابق في العمل المسلح ضد "إسرائيل" خلال سنوات طويلة ماضية .
و باعتقادي أن مسؤولية أبو جهاد المباشرة عن عملية ديمونا كانت سبباً رئيساً في تنفيذ عملية الاغتيال . و من بين الأسباب أيضاً اعتقاد القيادة في "إسرائيل" أن اغتيال أبي جهاد سيكون له تأثير معنوي و نفسي على المنتفضين الفلسطينيين في الأرض المحتلة ، سيكون له انعكاساته العملية على الأرض ، و كذلك إلى رفع معنويات الجيش الصهيوني الذي تدهورت صورته في الانتفاضة ، و اقتراب موعد الانتخابات الصهيونية ، فقرّرت القيادات الصهيونية تنفيذ عملية كبيرة في عمق خطوط العدو ، و لم تنسَ الصحيفة أن تضيف لجملة الأسباب ما اعتبرته الطموحات الشخصية للقيادات الأمنية في "إسرائيل" أمثال شومرون و باراك .
و هنا لا بدّ من الإشارة إلى أن بعض التحليلات التي تناولت (هدف) الكشف عن تلك العملية بعد تسع سنوات ، غمزت من قناة باراك الذي كان يتزعم حزب العمل ، و باحتمال كونه وراء تسريب تلك المعلومات كنوعٍ من الدعاية الانتخابية له في معركة رئاسة الوزراء في "إسرائيل" التي كان سيخوضها مرشحاً لحزب العمل .
و يمكن أن نضيف هنا معلومات أخرى تجاهلها تقرير معاريف ، و تكشفت على مدار السنوات التي تلت الاغتيال ، كشف عنها نافذون في الموساد و أجهزة الأمن الصهيونية لكثير من الصحافيين الأجانب ، و كان الهدف منها الإبقاء على صورة الموساد (الأسطورية) في أعين الرأي العام ، خصوصاً بعد تعرّض تلك الصورة إلى الاهتزاز فيما بعد .
و من هذه المعلومات أن عملاء الموساد راقبوا فيلا أبو جهاد في تونس العاصمة لمدة شهرين مراقبة متواصلة و شملت هذه المراقبة كل شيء يتعلق بالداخلين و الخارجين من الفيلا و أفراد عائلته سواء كانوا داخل الفيلا أو خارجها ، و زرعوا أدوات تنصت في غرفة نوم أبو جهاد بالإضافة إلى التنصت على هاتفه .
و تدرّب فريق القتل في حيفا على فيلا شبيهة بالتي يسكنها أبو جهاد في تونس العاصمة ، و كان القرار بأن لا تزيد عملية الاغتيال عن 22 ثانية فقط بعد دخول الفيلا .
و يسرد الصحافي الايرلندي غوردون طوماس في كتابه (انحطاط الموساد) ما جرى في تلك اللحظات الحرجة "في 16 نيسان 1988 صدر الأمر بالتنفيذ ، في تلك الساعة أقلع عدد من طائرات بوينغ 707 التابعة لقوة الجو (الإسرائيلية) من قاعدة عسكرية تقع جنوبي تل أبيب ، كانت واحدة تقلّ إسحاق رابين و عدداً من كبار الضباط (الإسرائيليين) ، و كانت على اتصال دائم عبر لاسلكي سري بفريق الاغتيال الذي اتخذ أفراده مواقعهم بقيادة عميل اسمه الرمزي سورد ، كانت الطائرة الأخرى مكدسة بأدوات المراقبة و التشويش ، و كانت طائرتان أخريان تنقلان خزانات الوقود ، و على ارتفاع شاهق فوق الفيلا حام أسطول الطائرات في الفضاء و هو يتابع كل حركة على الأرض عبر تردّد لاسلكي ، و بعيد منتصف الليل في 16 نيسان سمع الضباط المحمولون جواً أن أبا جهاد قد عاد إلى منزله بسيارة المارسيدس التي كان ياسر عرفات قد قدّمها له كهدية عرسه" .
و يكمل طوماس : "من موقع قرب الفيلا ، أعلن سورد عبر ميكروفون يعمل بحركة الشفاه أنه يسمع أبا جهاد و هو يصعد السلالم و يذهب إلى غرفة نومه و يهمس شيئاً لزوجته و يمشي على أطراف أصابعه إلى الغرفة المجاورة لتقبيل ابنه النائم قبل أن يمضي إلى مكتبه في الطبقة الأرضية ، كانت طائرة الحرب الإلكترونية ، و هي النسخة (الإسرائيلية) لطائرة الرادار الأميركية إيواكس ، تلتقط هذه التفاصيل و تحوّلها إلى رابين في طائرة القيادة ، و عند الساعة 12:17 صباحاً صدر أمره بالتنفيذ" .
و بعد قرار التنفيذ هذا كان على (سورد) ، أن يأمر رجاله بالتنفيذ ، فأجهز أحد رجاله على سائق أبو جهاد الذي كان نائماً في سيارة المارسيدس .
ثم تحرّك (سورد) نفسه مع أحد رجاله و فجّرا بوابة الفيلا بمتفجرات بلاستيكية لا تحدث صوتاً ، ثم قتلا حارسين فوجئا بالموقف على ما يبدو ، و من هناك اندفع (سورد) إلى مكتب أبي جهاد فوجده يشاهد شريط فيديو ، و قبل أن ينهض أطلق النار عليه مرتين في صدره ، و لم يكتف (سورد) بذلك ، فأطلق رصاصتين إضافيتين على جبهته .
و بعد كل تلك السنوات من تنفيذ العملية كتبت معاريف في تقريرها أن العملية فشلت في هدفها الأساسي و هو إخماد الانتفاضة ، بل إن الانتفاضة تصاعدت أكثر فأكثر .
تلك حقيقة أقرّها و عاشها الفرقاء الفلسطينيون ، و لكن ما حدث من استثمار سياسي للانتفاضة سيكون مدار جدل لسنوات طويلة قادمة ، ما دامت ظروف الشعب الفلسطيني في مراحله المختلفة متشابهة ، من حيث ما يوجّه للقيادات الفلسطينية بأنها دائماً ما كانت دون جسامة الأحداث التي مرت بها القضية الفلسطينية ، و بأن الشعب الفلسطيني دائماً ما كان سابقاً لقيادته في مختلف الظروف .
و لا بد من التوقف هنا إلى ما أشارت إليه معاريف حول ما يمكن تسمّيه التغلغل المخابراتي (الإسرائيلي) في تونس بعد انتقال منظمة التحرير إليها إثر الخروج من بيروت عام 1982 ، فهذه حقيقة مؤكدة أكّدتها ليس فقط الأحداث و منها عملية اغتيال أبو جهاد ، و ما تم كشفه من عملاء قبل و بعد تلك العملية ، بل كان واضحاً أشد الوضوح ، و رغم ذلك فإن مكاتب المسؤولين الفلسطينيين كانت مشرعة للزوار (الإسرائيليين) سواء كانوا يحملون صفات إعلامية و صحافية أو سياسيين من مختلف ألوان الطيف السياسي (الإسرائيلي) ، و كان ذلك يندرج ضمن خطة المنظمة في (هجوم السلام) الذي (شنّته) باتجاه (إسرائيل) .
و قبل نشر تقرير معاريف بعدة سنوات ، فإن مصادر استخبارية صهيونية نشرت معلومات عن حجم التغلغل الصهيوني المخابراتي في تونس ، و مما نشر مثلاً عن وجود طائرة البوينغ 707 التي تحوم بالقرب من تونس و تسجّل مكالمات القادة الفلسطينيين ، و كذلك قيل إنه مع منتصف الثمانينات ، كان أعضاء الفرق الخاصة الصهيونية يدخلون و يخرجون إلى و من تونس بحرية كاملة متنكرين كرجال أعمال أو كسياح و أنهم كانوا يخطّطون و يرصدون عن قرب المواقع التي تهمهم و بأن عملاء محليين من فلسطينيين و تونسيين كانوا يساعدونهم .
و رغم التقدير مسبقاً لحساسيات وضع منظمة التحرير في تونس فإن أسئلة تبرز عن أين كان دور أجهزة الأمن الفلسطينية مما كان يحدث ، و إلى أي مدى بلغت مسألة التراخي الأمني ؟ .
و أين كانت أيضاً أجهزة الأمن التونسية التي (تسمع دبيب النملة) ؟؟
و كان الثمن الذي دفعه الفلسطينيون فادحاً فبعد صدمة اغتيال الرجل الثاني ، تعيّن عليهم بعد سنوات قليلة بأن يصدموا باغتيال ثلاثيّ مروع .
الرأس
بعد 19 عاماً من انطلاق حرب غولدا مئير غير المقدسة ، بذريعة ميونخ ، قتل صلاح خلف (أبو إياد) المسؤول الأمني الفلسطيني الأول ، و الرأس الأولى في منظمة أيلول الأسود و عملية ميونخ ، على حين غرة كما يقولون ، مع قياديين آخرين هامين أيضاً هما هايل عبد الحميد (أبو الهول) عضو اللجنة المركزية لفتح و من مسئولي الأمن و فخري العمري (أبو محمد) و هو مسؤول أمني ، و كلاهما له علاقة بميونخ و هما مساعدا أبو إياد القريبان منه ، في عملية واحدة استهدفت الثلاثة ، و لم يكن الموساد (يحلم) بها : عملية تتم بهذه السهولة و اليسر و في توقيت لا يمكن أن يكون مناسباً أكثر من غيره .
كان صلاح خلف مع ياسر عرفات و خليل الوزير (أبو جهاد) ، أهم قادة حركة فتح و كان يصنّف بأنه الرجل الثاني بعد عرفات و أحياناً الثالث بعد عرفات و أبو جهاد ، و لكنه بعد اغتيال أبو جهاد أصبح بلا شك الرجل القوي الثاني بعد عرفات .
و كان أبو إياد معروفاً على الأقل بالنسبة للصهاينة بمسئوليته المباشرة عن عملية ميونخ ، التي أطلقت وفقاً للمزاعم الصهيونية حملة الاغتيالات الطويلة تلك ، و ترؤسه لمنظمة أيلول الأسود ، التي تشكّلت بعد الحرب الأهلية في الأردن و التي عرفت باسم أيلول الأسود (أيلول 1970) ، و التي يوصفها كثير من الفلسطينيين بأنها المجازر التي ارتكبها النظام الهاشمي في الأردن ضد الفدائيين ، و التي انتهت في تموز 1971 بعد جمع ما تبقّى من الفدائيين ، وفقاً لاتفاقيات مع الحكومة الأردنية لم تلتزم بها بعد حين ، في أحراش جرش و عجلون ، و انتهت تلك المذابح بمحاصرة عجلون و جرش و قتل و تشريد و جرح و اعتقال نحو ثلاثة آلاف فدائي فلسطيني و على رأسهم قائدهم أبو علي إياد ، الذي اكتسب سمع طيبة جداً وسط الفدائيين و أجيال أخرى متتالية باعتباره زعيماً لا يساوم .
و قبل قتل أبو علي إياد الذي كان عضواً في اللجنة المركزية لحركة فتح استطاع أن يرسل رسالة لرفاقه ، يقول البعض إن فيها كثيراً من اللوم و الغضب و الوعيد ، باعتبار أنه ترك وحيداً في كمين بين أنياب رجال البادية ، و لكن يتفق الجميع على ما قاله بعد تلك الرسالة التي بثها لزملائه في القيادة عبر جهاز إرسال قام بتحطيمه بعد إنهاء الرسالة ليواجه و رجاله مصيرهم وحيدين .
و الجملة التي قالها أبو علي إياد (.. نموت واقفين و لن نركع) ، و هو ما حدث بالفعل ، و ردّدت كثيراً من قبل أجيال متتالية من الفدائيين الفلسطينيين ، و إلى اليوم تذكر هذه العبارة كلما ذكر الشهيد أبو علي إياد .
بعد مذابح جرش و عجلون التي تلكأ العرب في وقفها عمداً ، و عندما تدخّلوا كان كل شيء قد انتهى ، و في أجواء ما بعد المذابح تأسست منظمة أيلول الأسود في خريف 1971 ، للقيام بنوع جديد من العمليات التي يطلق عليها الكثيرون إرهابية ، و حاول أبو إياد إعطاءها نوعاً من المحتوى السياسي .
و في كتابه (فلسطيني بلا هوية) الذي أملاه على الصحافي الفرنسي المستعرب أريك رولو يتحدث أبو إياد عن أولى عمليات أيلول الأسود في تشرين الثاني 1971 ، و التي كانت اغتيال وصفي التل رئيس الوزراء الأردني العتيد ، الذي حملته الفصائل الفدائية مسؤولية عن المجازر التي ارتكبت ضد أفرادها في عمان و جرش و عجلون .
في يوم 28/تشرين الثاني/1971 ، كان وصفي التل محاطاً بحراسه و مرافقيه يدخل فندق شيراتون في القاهرة ، لحضور اجتماع مجلس الدفاع العربي المشترك ، عندما اغتاله رجال أيلول الأسود ، في عملية قال أبو داود فيما بعد إن المسؤول عن التخطيط لها هو أبو يوسف النجار .
و يصر أبو إياد على التفريق بين ما يسميه العنف الثوري و الإرهاب و الاغتيال السياسي ، معتبراً أن منظمة أيلول الأسود (لم تكن منظمة إرهابية مطلقاً بل تصرّفت دائماً كرديف ملحق بالمقاومة في الحين الذي لم يكن بوسع هذه الأخيرة فيه ، أن تضطلع بمهماتها العسكرية و السياسية كاملة) .
و يشير أبو إياد ، و هو لا يريد بالطبع أن يكشف في ذلك الكتاب كلّ ما يعرفه عن أيلول الأسود ، أو عن دوره المباشر في قيادتها ، إلى أن أعضاء أيلول الأسود كانوا يؤكّدون دائماً و أبداً (أنه ليست لهم أية صلة عضوية بفتح أو بمنظمة التحرير الفلسطينية ، و قد عرفت عدداً منهم ، و أستطيع أن أؤكد أنهم ينتمون في غالبيتهم إلى مختلف المنظمات الفدائية ، و بالنظر إلى أنهم خرجوا من صفوف هذه المنظمات فإنهم كانوا يترجمون ترجمة صادقة مشاعر الإحباط و السخط إزاء مذابح الأردن و إزاء التواطؤات التي مكّنت من تنفيذ هذه المذابح) .
و ليس كل ما قاله أبو إياد هنا صحيحاً ، خصوصاً من جهة نفي علاقة فتح بأيلول الأسود ، و كما سبق الإشارة فإن وقت صدور الكتاب (1978م) لم يكن ملائماً ، من وجهة نظر أبو إياد على الأغلب ، لنشر كل المعلومات التي هو خير من يعرفها باعتباره المسؤول عن أيلول الأسود ، و يمكن تفسير إشارته إلى تعدّد انتماءات أفراد أيلول الأسود ، إلى أن أيلول الأسود ، كانت تتكوّن من مجموعات مختلفة عنقودية التنظيم إذا جاز التعبير ، و بالنسبة لعملية اغتيال وصفي التل التي دشّنت منظمة أيلول الأسود ، فإن المسؤول عنها ، حسب شهادة أبو داود التي عرضنا لها في جزء سابق ، فإنه أبو يوسف النجار .
و مما يدلّ على ما ذهبنا إليه فإن أبو داود يشير إلى أن النجار لم يكن له علاقة بأيلول الأسود و أنه فقط أصدر بياناً باسم أيلول الأسود تتبنى عملية اغتيال وصفي التل ، و يمكن تفسير كلام أبو داود على أن منظمة أيلول الأسود كانت تضمّ عدة مجموعات ليس من الضروري أن تكون بينها رابطة تنظيمية .
المهم أن اغتيال وصفي التل المدوّي ، كان أول إعلان عن منظمة أيلول الأسود ، و التي ستكون عملية ميونخ ، العملية المدوية الأخيرة لها .. ! و بكثير من الحذر عرض أبو إياد لروايته لعملية ميونخ ، باعتباره كما قال استجوب (مطوّلاً الناجين الثلاثة من المجموعة) ، و تحرزاً أمام الأمانة التاريخية التي ستقف في يومٍ ما أمام الرواية الكاملة لعملية ميونخ فإن أبو إياد يشير إلى أن سرده للوقائع ، استناداً لاستجوابه للثلاثة ، محكوم بالقدر (الذي تسمح به القواعد الأمنية ، من تفصيل) .
و يمكن هنا الإشارة إلى ظروف إملائه لمذكراته لأريك رولو ، فرولو الصحافي الفرنسي الكفؤ الذي تربطه علاقات واسعة و متعددة و مع مختلف الطبقات و الأجيال في العالم العربي ، حضر إلى بيروت ليعدّ كتاباً عن ياسر عرفات لصالح إحدى دور النشر العالمية و لكن عرفات امتنع ، فبعد مشاورات مع جهة النشر تم الاتفاق مع أبو إياد الذي وافق بشرط أن لا يعلم ياسر عرفات عن تلك الجلسات التي كانت تتم في مناطق في بيروت و في ظروف الحروب الصغيرة و الكبيرة التي كان مسرحها لبنان ، و ينطلق فيها أبو إياد في الحديث و لكن كما يتبين من وراء سطور الكتاب أنه كان حذراً .. !
و بالطبع تتقاطع رواية أبو إياد (الناقصة) مع رواية أبو داود (الكاملة) لما حدث ، مع كثير من التمويه ، فمثلاً في حين تحدّث أبو داود ، على أن أبو إياد نفسه قام بإدخال الأسلحة إلى ألمانيا لتنفيذ العملية ، فإن أبو إياد يتحدّث ، لاعتبارات مفهومة بظروف زمن صدور الكتاب ، إلى قيام شخص و زوجته بإدخال الأسلحة .
و هناك تفاصيل يذكرها أبو إياد عن العملية و كيفية تنفيذها ، تبدو بعد رواية أبو داود ، بأن الكثير فيها كان غير صحيح و ربما للتمويه .
وهناك تفاصيل أخرى ذكرها أبو إياد تبين مدى علاقته الوثيقة بالعملية ، خصوصاً بقائدي المجموعتين الأول الذي يسميه عمر مصالحة ، و أبو داود أسماه محمد مصالحة ، و الثاني شي غيفارا .
عن مصالحة قال أبو إياد ، إنه كان غادر مسقط رأسه في حيفا و هو طفل ، و ينتمي لأسرة من الفلاحين الفقراء ، و هو حاصل على شهادة في الجيولوجيا ، و عمل في حركة فتح كمفوّض سياسي ، و كان يجيد اللغة الألمانية .
و قال عن تشي غيفارا ، إنه مثل مصالحة متمرس بالأعمال الفدائية و هو حاصل على شهادة الحقوق من فرنسا . و يروى أنه في مرحلة الإعداد الأولى للعملية تم اختيار خمسين شاباً تتراوح أعمارهم ما بين 17 و عشرين عاماً ، ليتلقوا تدريبات مكثفة و جميعهم من مخيمات اللاجئين في لبنان و سوريا و الأردن ، و كانوا يجهلون المهمة التي ربما ستوكل إليهم ، و لكنهم يتمتعون بحماس كبير للمشاركة في أيّ عمل فدائي ، و هنا يروي بأنه تم استبعاد أحد الفدائيين اليافعين لأنه سبق أن استشهد له اثنان من الإخوة في عمليات سابقة ، و لكن هذا الفدائي اليافع احتج و بكى و هدّد بالانتحار إذا لم يشارك في العملية ، و هو ما حدث فعلاً و سقط شهيداً فيها .
و يتطرّق أبو إياد إلى عناد غولدا مئير رئيسة وزراء الكيان الصهيوني بشأن الاستجابة لمطالب الفدائيين بإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال .
و يقول أبو إياد إن (عناد السيدة غولدا مئير رئيسة الحكومة "الإسرائيلية" في تلك الأثناء غير طبيعي تماماً ، من حيث إنها لم تظهر أية إرادة في إنقاذ حياة الرهائن ، أما المغاوير الذين كانت التعليمات الصادرة إليهم توصيهم بألا يقتلوا أسراهم ، فإنهم راحوا يمدّدون فترة الإنذار ساعة بعد أخرى ، على أمل أن تقدّم لهم صيغة تسوية ما) .
و يشير إلى أن الخاطفين كانوا يعلمون بأنهم لا يمكنهم الحصول على تلبية كامل مطالبهم و إطلاق سراح المائتي أسير فلسطيني في سجون الاحتلال ، و أنهم كانوا مستعدين عملياً لمبادلة رهائنهم بخمسين أو عشرين أو حتى بتسعة معتقلين ، و أن أملهم خاب عندما لم يقدّم لهم المفاوضون الألمان و الصهاينة إلا مبلغاً محدداً من المال (شيك على بياض) مقابل إطلاق سراح الرهائن و السماح لهم بالخروج سالمين .
و يكرّر فكرة أن الخاطفين قاموا بقتل أنفسهم مع المخطوفين ، رغم علمه بخطئها كما قال أبو داود ، و يذكر كيف أن قائدي المجموعة مصالحة و تشي سقطا برصاص القناصة الألمان و حين سقطا في بركة من الدماء زحفا نحو بعضيهما و تصافحا قبل أن يلفظا أنفاسهما الأخيرة .
و يؤكّد خطأ بأن (الفدائيين اللذين كانا يرافقان الرياضيين "الإسرائيليين" واحداً في كل طائرة ، لم يعمدا إلى قتل رهائنهما و الانتحار معهم ، إلا بعد أن لاحظا أنه لم يبقَ لديهما ما يأملانه ، أما الأعضاء الثلاثة الباقون ، فإنهم جرِحوا فسلّموا أنفسهم) .
و ينبّه أبو إياد إلى أن تضحيات (أبطال ميونخ ، لم تذهب هدراً ، فإذا كانوا لم يتوصّلوا كما يأملون إلى تحرير رفاقهم السجناء في "إسرائيل" ، إلا أنهم بلغوا الهدفين الآخرين المرسومين للعملية : فقد اطلع الرأي العام العالمي على المأساة الفلسطينية بفضل دويّ الألعاب الأولمبية ، كما فرض الشعب الفلسطيني حضوره على هذا التجمع الدولي الذي كان يسعى لاستبعاده ، أما الخاتمة – المجزرة فتتحمّل حكومتا جمهورية ألمانيا الاتحادية و حكومة "إسرائيل" خاصة ، المسؤولية الراسخة الجسيمة فيها) .
من خلال رواية أبو إياد في كتابه الذي أملاه على أريك رولو ، الصحافي الفرنسي العليم ببواطن الأمور في العالم العربي ، حاول كما قلنا نفي صلته بعملية ميونخ ، و كان يذكر الأفعال التي عرفنا أنه صاحبها هو منسوبة إلى مصادر قال إنها أخبرته بها و عمد كذلك إلى التمويه ، و حتى عندما ذكر توقيف السلطات الفرنسية لأبي داود بحجة ميونخ فإنه نفى ضلوع أبو داود فيها ، و لكن الصهاينة كانوا يعرفون حقيقة دوره في العملية .
و يذكر هو إشارة غائمة في كتابه ، في معرض حديثه عن الاغتيالات التي شنّتها "إسرائيل" بعد ميونخ ، ذات دلالة (.. و لا ريب في أن "الإسرائيليين" لم يتراجعوا عن مشروعهم القاضي بتصفية قادة الفدائيين لاعتقادهم أنهم يستطيعون بذلك تدمير الحركة الوطنية الفلسطينية ، و لا ريب في أنني أظلّ أحد أهدافهم الأولية ، فطوال سنوات ، غذت المخابرات "الإسرائيلية" ، و شريكاتها الأردنية و الأميركية ، حملة صحافية تهدف إلى إظهاري ليس كرئيس أيلول الأسود و حسب ، و إنما كمدبّر عددٍ من العمليات الإرهابية ، مع أن عدة منظمات أخرى ادعت القيام بها) ..
و تحدث أبو إياد عن عدة محاولات لاغتياله جرت في بيروت و دمشق ، و روى تفاصيل محاولة وصفها بأنها كانت (أكثر جدية) و أوشكت أن تكلّفه حياته و حياة أفراد عائلته في آب 1973م .
و المحاولة كما يرويها أبو إياد تشبه الأفلام البوليسية إلى حدّ ما ، ففي أحد الأيام و عندما كان أبو إياد في القاهرة حيث تقيم عائلته أبلغ أن أحد الشباب يريد أن يراه لأمر هام و بأن لديه معلومات هامة ، و عندما قابله الشاب القادم من الضفة الغربية كما قدّم نفسه ، قال له إنه مكلف من المخابرات "الإسرائيلية" بقتله و فتح حافظة صغيرة كانت معه و قدّم لأبي إياد مسدساً كاتماً للصوت ، كان من المفترض أن ينفذ به العملية ، و قال إنه عندما وصل الأردن قادماً من الضفة ، و السفر لمصر لتنفيذ المهمة الموكلة إليه ، أوقفته المخابرات الأردنية و حقّقت معه و بعد أن عرفوا مهمته وعده ضابط الاستخبارات الأردني فالح الرفاعي و الذي كان موكلاً بملف حركة فتح في جهاز المخابرات الأردنية بمكافأة إضافية إذا نجحت محاولته لقتل أبو إياد .
و أشار الشاب الذي قرّر الاعتراف لأبي إياد ، إلى أن "إسرائيل" و الأردن لديهما مخطّطاً تفصيلياً عن مكان إقامة أبو إياد ، و بأن جهازي المخابرات في البلدين زوّداه بمعلومات دقيقة عن العاملين مع أبي إياد و عن تنقلاته و تحركاته . و غادر الشاب بعد أن ترك لأبي إياد اسمه و عنوانه في فندق اللوتس و مسدسه .
و أبلغ أبو إياد دوائر الأمن المصرية بما حدث و التي فتّشت عن الشاب في فندق اللوتس فتبين أنه نزل هناك باسم غير الاسم الذي أعطاه لأبي إياد ، و عندما فتش رجال الأمن غرفته عثروا على حقيبة مغلقة بالمفتاح لم يستطيعوا أن يعرفوا ما بداخلها .
و بعد تلك الزيارة التي قام بها الشاب لأبي إياد بثلاثة أيام ، أيقظه أحد الحراس في الساعة السابعة صباحاً ليبلغه أن ذلك الشاب حضر و يريد مقابلته ، و عندما استقبله أبو إياد رأى بأنه يحمل في يده حقيبة صغيرة لها نفس المواصفات التي تحدّث عنها رجال الأمن المصريين عندما فتشوا تلك الغرفة في الفندق ، فطلب أبو إياد من الشاب أن يفتح تلك الحقيبة و لكنه ارتبك و تلعثم ثم انهار ، و اعترف بأن الحقيبة تحتوي على عبوة ناسفة تكفي لنسف المنزل بما فيه و أنه مكلّف بوضعها تحت أي مقعد قبل أن يغادر المنزل ، و اعترف بأن زيارته الأولى كانت تهدف لكسب ثقة أبو إياد ، و تم تسليمه للأمن المصري و وضع في أحد السجون .
و بمناسبة صدور كتابه عن عملية ميونخ ، و الذي أثار جدلاً أكّد أبو داود في مقابلة أجرتها معه صحيفة الخليج الإماراتية معرفة "إسرائيل" بدور أبو إياد في عملية ميونخ ، و نقل عن أبو إياد إخباره له لقاءه في باريس في إحدى المرات مع شخص يهودي في منزل إبراهيم الصوص ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في فرنسا ، و بعد تكرار لقائه مع هذا اليهودي الذي لاحظ أن لأبي إياد وجه طفولي و شعر بأنه ودود و لطيف و سأل أبو إياد إذا كان لا يمانع من مقابلة آرييل شارون ؟ فأجابه أبو إياد بالإيجاب و بأنه لا مانع لديه من لقائه ، و بعد تلقيه ذلك الجواب أخبر اليهودي أبا إياد بأنه تربطه علاقة بشارون ، و أنه يمكن أن ينقل له عدم ممانعة أبو إياد بلقائه ، و هو ما حدث ، و روى اليهودي لأبي إياد بأن شارون عندما علم بعرض اللقاء مع أبي إياد انتفض غاضباً و قال عن أبي إياد بأنه قاتل و أخبر الوسيط بعلاقة أبو إياد و أبو داود و آخرين بعملية ميونخ و غيرها .
و من المؤكد بأن أبو إياد ، بسبب ميونخ ، و غيرها كان من ضمن قائمة الاغتيال "الإسرائيلية" و هو ما تحقّق في ظروف مريبة و غريبة و صادمة . ففي الرابع عشر من كانون الثاني 1991 ، و العالم كله محبوس الأنفاس ، مشدود الأنظار إلى الخليج العربي ، حيث تستعد ما عرفت باسم دول التحالف لتوجيه ضربة للعراق على إثر دخوله الكويت ، كان أبو إياد في منزل مساعده هايل عبد الحميد (أبو الهول) في تونس و معه مساعد آخر هو فخري العمري (أبو محمد) ، و ربما كانوا مثل الآخرين يتابعون ، و بحكم مناصبهم الأمنية أيضاً ، ما يجري في الخليج لحظة بلحظة .
و لأنهم كانوا، ثلاثتهم ، يتوقّعون أي محاولة لاغتيالهم ستأتي من الخارج ، لم يخطر ببالهم أن أحد حراسهم كان يكيد لهم ، و ينتظر الفرصة أو الأمر .
و في أثناء وجودهم في إحدى الغرف يتقدّم الحارس حمزة أبو زيد و يطلب من زوجة أبو الهول كأساً من الماء ليشربه ، فتشير إليه بأن يدخل إلى المطبخ ليأخذ حاجته ، و تقول له إن الثلاجة لا تعمل ، و يتطوّع لإصلاحها ، و في المطبخ يجهّز سلاحه استعداداً لما هو مقبل عليه ، و يدخل غرفة القادة الثلاثة ، و لأنه كان يعرف مهمته جيداً أطلق النار على رأس أبو إياد أولاً ثم نحو فخري العمري و يقتله و يحاول أبو الهول ، الذي استوعب المفاجأة أن يردّ عليه ، و لكن أبو زيد يعاجله برصاصة تصيبه في مقتل ، و في حين توفي أبو إياد و العمري فوراً توفي أبو الهول لاحقاً في المستشفى .
و من سوء حظ أبو إياد و رفاقه أن توقيت العملية الذي أبهج ، و لا شك ، المتربصين بهم ، كان سيئاً بدرجة كبيرة بالنسبة للطرف الفلسطيني ، لأن الجميع كان مشغولاً بما سيحدث في الخليج ، و تم التحقيق مع أبو زيد الذي أعدم لاحقاً ، و نشر أنه من أتباع صبري البنا (أبو نضال) ، الذي يقود جماعة منشقة عن حركة فتح .
و في الواقع فإن معلومات كثيرة بقيت ناقصة و لم تستوفَ ، فيما نشر و قيل في حادث اغتيال ما وصف أنه العقل الأمني للثورة الفلسطينية و كذلك الإثنين الذين قضوا معه ، و إجمالاً فإن اغتيال أبو إياد و رفيقيه يسجّل إنجازاً للجهة التي وقفت وراء اغتياله ، فهو في النهاية وصولٌ لمسؤول جهاز المخابرات الفلسطينية الأول و مساعديه الرئيسين .
و على كلّ فإن أجيالاً جديدة من الفلسطينيين ترفع صور أبو إياد في المناسبات باعتباره أحد الشهداء الذين تمكّنت "إسرائيل" من اغتيالهم ، و لا توجد جهة أكثر من "إسرائيل" في رأينا لها مصلحة في تغيّبه عن الوجود ، خصوصاً و أن لها معه ثأراً ميونخ .
و لا يمكن إغفال التوقيت الذي تمت فيه العملية و الذي جاء و المنطقة بأسرها تدخل صفحة جديدة مأساوية من تاريخها و كان أبو إياد نفسه قبل اغتياله حاول أن يقوم بدور الوساطة في تلك الأزمة و قابل الرئيس العراقي صدام حسين ، و كان متشائماً جداً و سمعه الكثيرون و هو يتحدث من خلال إذاعة مونت كارلو (الله وحده يعلم بالمصيبة التي ستحل بالأمة العربية ، كم أنا متشائم من هذا الليل المظلم الزاحف نحونا) .
و لم يكن اغتيال أبو إياد في ذلك اليوم (المكفهر) في حياة المنطقة العربية و منطقة الشرق الأوسط ، حيث بدأت ليلاً عملية (عاصفة الصحراء) هو الرصاصة الأخيرة في مسدس "إسرائيل" اتجاه الشخصيات الفلسطينية القيادية الذي أشهرته بحجة مينوخ ، و إن كانت من أقواها رغم أنها لم تحتَج لكثير جهد ، ميّزت عملياتها الأخرى ، و هذه مفارقة من المفارقات في زمن عربي مليء بالمفارقات .
تعليق
-
طلقة غولدا الأخيرة
و إذا كان هناك اختلاف في الاجتهادات في النظر لعملية اغتيال أبو إياد و رفيقيه أبو الهول و أبو محمد ، فإن المؤكد الذي لا خلاف عليه لدى الجميع ، هو الإدراك لمدى الفراغ الذي تركه رحيلهم المفاجئ على أجهزة الأمن الفلسطينية .
و مع غياب أبو إياد و رفيقيه ، استلم مسؤولية الأمن الفلسطيني كوادر من تلامذة أبو إياد من بينهم عاطف بسيسو الذي يعتقد بأنه واحدٌ من ثلاثة حلّوا محل أبو إياد في قيادة الجهاز الأمني التابع لمنظمة فتح .
و تولى بسيسو ، مسؤولية العلاقات مع أجهزة الاستخبارات الأوربية و من بينها الفرنسية و متابعة شبكات من المتعاونين في العواصم المختلفة و أيضاً أنيطت به مسؤولية تأمين أمن مسئولي منظمة التحرير .
و في يوم 8/6/1992 ، كان عاطف بسيسو الذي وصل فجأة للعاصمة الفرنسية باريس للالتقاء مع مسؤولين من المخابرات الفرنسية ، عائداً مع صديقين لبنانيين إلى فندق المريديان مونفرانس في شارع كومندينت موشوط ، في العاصمة باريس ، عندما اقترب منه رجلان و أطلقا النار عليه من مسدسات مزوّدة بكواتم للصوت و جمعا فوارغ الرصاصات و غابا عن الأنظار .
و يعتبر هذا الفندق فألاً سيئاً على الشخصيات العربية المهدّدة بالاغتيال ، ففي 13/6/1980 ، تم اغتيال الدكتور يحيى المشد في إحدى غرف الفندق ، و المشد كما هو معروف كان مسؤولاً في المشروع الذري العراقي و كان في فرنسا في تلك الفترة لأسباب تتعلق بنشاطه ذاك ، و لكن بسيسو ، لم يأخذ ذلك على ما يبدو على محمل الجد ، رغم معلومات استخبارية كانت تتناثر في العاصمة الفرنسية عن تحول فندق المريديان ذاك إلى ساحة للنشاط الاستخباري .
و كان الصحافي المصري عادل حمودة في كتابه عن اغتيال الدكتور المشد قدّم صورة (مريبة) لهذا الفندق ، الذي قال عنه ، إن الشرقيين يفضّلونه (و قد نقلوا إلى إدارته الكثير من العيوب ، مثل البقشيش الذي يصل حدّ الرشوة ، و الخطأ المتعمّد في فواتير الحساب و الإهمال الذي لا يختلف كثيراً عن المؤامرة) .
و عن نزلائه كتب عادل حمودة أنهم (خليط من الأثرياء و الدبلوماسيين و التجار و الصحافيين و رجال الأعمال و نجوم السينما ، و كل شيء فيه مباح .. متاح .. حتى اللغة العربية ، فعندما تبرز النقود ، يتنازل الفرنسيون عن غطرستهم الشهيرة ، و يتحدثون لغة الشيطان) .
و أضاف و هو يجمع معلومات عن مسرح الجريمة التي قتل فيه المشد ، و فيما بعد عاطف بسيسو (و يعمل بعض العرب في أماكن الفندق الحساسة ، الحجز ، خدمة الغرف ، البار ، و الملهى الليلي الذي لا يخلو برنامجه من الرقص و الغناء الشرقي ، و الاستعراض و الاستربتيز الغربي) .
و أيضاً تتساهل إدارة الفندق مع العاهرات (و تسمح لهن بالوجود في الممرات و الكافتيريا و البار و الغرف دون خوفٍ إذا كن يعملن تحت إشرافها ، كما أن عاملة التليفون لا تتردد في خدمة النزلاء بإحضار عاهرات بالتلفون من شركات الرقيق الأبيض و الأسود ، المتخصصة في التوصيل من الباب إلى الباب ، و لمزيد من السرية فإن الغرف مبطنة بعازل و كاتم للصوت ، أي أنها غرف مناسبة للخطيئة و الجريمة معاً) .
و لأن بسيسو ، كما تبيّن فيما بعد حضر على وجه السرعة إلى باريس و لم يكن ضمن خطته المعلنة في رحلته أن يزورها ، فإنه لم يحجز في الفندق الذي اعتاد أن ينزل فيه مسئولو منظمة التحرير و هو فندق الميرديان بورت ، أو ربما حجز في الفندق (المشبوه) الذي قتِل على أعتابه إمعاناً في التمويه .
و يمكن القول إن اغتيال بسيسو شكّل ، على الأقل مفاجأة ، إن لم نقل صدمة لرفاقه ، فالرئيس عرفات و القيادة الفلسطينية كانت تخوض مفاوضات مع (إسرائيل) ضمن الترتيبات التي أفرزتها حرب الخليج الثانية و مؤتمر مدريد ، و فتح صفحة جديدة في العلاقات بين الفلسطينيين و (إسرائيل) .
و تردّدت أنباء صحافية أن تنظيم صبري البنا (أبو نضال) المنشق عن حركة فتح ، أعلن مسئوليته عن مقتل عاطف بسيسو ، و هذا أعاد للأذهان قضية اغتيال أبو إياد و رفيقيه على يد الحارس الذي قيل إنه ينتمي لتنظيم أبو نضال ، و ها هو أبو نضال يعود من جديد و يقتل أحد مساعدي أبو إياد ، و لكن تنظيم أبو نضال عاد و نفى مسئوليته عن الحادث ، بينما الرئيس عرفات الذي كان منهمكاً في العلاقة الجديدة مع (إسرائيل) ، اعتبر مقتل بسيسو ضربة لعملية السلام و اتهم (إسرائيل) صراحة بالوقوف وراء حادث الاغتيال .
و أمام أصابع الاتهام التي وجهت لـ (إسرائيل) ، نفى اللواء أوري ساغي رئيس شعبة الاستخبارات الصهيونية ، أية علاقة لـ (إسرائيل) في الحادث و أنه لا يعرف من قام بعملية الاغتيال ، و لم يصدّقه أحد .. !
و أضاف ساغي للصحافيين ، أن بسيسو مسؤولٌ عن قتل الرياضيين (الإسرائيليين) في ميونخ و عن المحاولات الفاشلة لضرب طائرة العال في روما عام 1978 .
و بقيت أصابع الاتهام متجهة نحو (إسرائيل) ، لعدة أسباب منها ضلوع عاطف بسيسو ، بحكم عمله مع أبو إياد ، في عملية ميونخ ، و هي التي نفّذت سلسة العمليات الكثيرة بحجة ميونخ ، و أضيف إلى ذلك سبب جديد ، هو بمثابة رسالة إلى المخابرات الفرنسية (دي.أس.تيه) بأن الموساد غير راضٍ عن علاقتها مع المخابرات الفلسطينية .
و مثلما يحدث في مرات كثيرة ، غابت قضية عاطف بسيسو ، عن اهتمامات الرأي العام الفلسطيني ، و لكن هناك من كان حادث الاغتيال يعنيه بصورة مباشرة مثل زوجته ديما ، و محاميها فرانسوا جيبو ، و القاضي جان لوي بروغيير ، الذي كلّف بالتحقيق في ملف اغتيال عاطف بسيسو في قلب العاصمة الفرنسية ، و معرفة الجهة التي تقف وراء حادث الاغتيال .
و بعد مرور سبع سنوات ، و في شهر آذار 1999م قدّم القاضي الفرنسي تقريره عن الحادث اتهم فيه (الموساد) "الإسرائيلي" بالوقوف وراء قتل بسيسو ، و أنه استعان بذلك بالجاسوس عدنان ياسين لتنفيذ عملية اغتيال بسيسو الذي كان على علاقة مع الاستخبارات الفرنسية .
و عدنان ياسين ربما يكون أشهر جاسوس يتم اكتشافه كان يعمل في منظمة التحرير عقب انتقالها من بيروت إلى تونس ، و كان مسؤولاً عن ترتيبات السفر في المنظمة و بحكم علاقاته كان يدخل إلى مكاتب كبار المسؤولين بسهولة و يسر ، و بفضل تعاونه مع (إسرائيل) كانت المخابرات (الإسرائيلية) تتطلع على كثير مما يدور في المكاتب الفلسطينية ، و خلال جولات المفاوضات الفلسطينية – (الإسرائيلية) التي سبقت توقيع اتفاق أوسلو ، كان المفاوضون الفلسطينيون يصابون بالذهول عندما يدركون بأن الطرف الآخر لديه معلومات كافية عما سيطرحونه و ما سيناورن عليه و خطط التفاوض التي عادة ما كانت توضع في مكتب محمود عباس (أبو مازن) .
و مع نشر تقرير القاضي الفرنسي ، ارتفعت أصوات في (إسرائيل) تحذّر من نشوب أزمة دبلوماسية بين (إسرائيل) و فرنسا على خلفية هذا الاتهام ، و في حين رفض أفيف بوشينسكي المستشار الإعلامي لرئيس الحكومة الصهيوني التعليق على التقرير الفرنسي ، فإن مصادر في ديوان رئيس الحكومة الصهيوني نقلت إلى صحيفة هآرتس العبرية (21/3/1999) مخاوفها الكبيرة من أن يؤدّي تطوّر القضية إلى أزمة في العلاقات الاستخبارية و الدبلوماسية بين (إسرائيل) و فرنسا .
و أشارت هذه المصادر التي لم تسمّها صحيفة هآرتس العبرية إلى أن قضية بسيسو قد تتحوّل إلى شبه ما حدث في قضية اغتيال رسام الكاريكاتير الفلسطيني الشهير ناجي العلي الذي اغتيل في حزيران 1997 ، و في حينها وجّهت أجهزة الأمن البريطانية اتهامات لـ (إسرائيل) بدعوى أن (الخلية التي انتمى لها القتلة كانت مخترقة من قبل عملاء الموساد) ، و بأنه كان يجب على الموساد إبلاغ المخابرات البريطانية بذلك ، و أعلنت بريطانيا عن أسماء عددٍ من رجال الموساد كأشخاص غير مرغوب فيهم في بريطانيا ، و حسب هآرتس فإن حادث اغتيال العلي تسبّب في ضرر فادح للعلاقات الاستخبارية بين بريطانيا و (إسرائيل) .
إذن كان الموساد في قضية بسيسو في وضع مشابه لما حدث معه في قضية ناجي العلي مع الفارق أن الغضب الفرنسي كان أكبر ، لأن بسيسو ، وفقاً لكل الاعتبارات كان ضيفاً على الـ (دي.أس.تيه) .
و كانت الأوساط الفلسطينية و العربية المعنية غائبة .. ! عن ما يحدث و لم (تستغل) الاتهام الفرنسي العلني لـ (إسرائيل) بمقتل رجل الأمن الفلسطيني لتثير قضية الإرهاب (الإسرائيلي) المستمر و الذي لا يتوقّف في ظلّ الحرب أو في ظلّ السلام ، حتى لو كان سلاماً وفق المعايير (الإسرائيلية) .
و لا بد هنا من الإشادة بجهد القاضي بروغير الفرنسي ، و مهنيته ، فهذا الرجل أخذ المسألة ، كما اتضح بشكلٍ جدي ، و ليس كما كانت تفعل الأجهزة المشابهة في الدول الغربية الأخرى عندما يتعلق الأمر بالإرهاب (الإسرائيلي) على أراضيها .
علم بورغيير بأن ثلاثة أشخاص فقط علموا بنية عاطف بسيسو التوجه إلى فرنسا خلال جولته الأوروبية ، و هؤلاء هم : زوجته ديما ، و أحد المسؤولين في المنظمة و عدنان ياسين ، و بعد التحقيق ، اشتبه القاضي الفرنسي بعدنان ياسين أنه وفّر المعلومات عن تحرّكات بسيسو للموساد (الإسرائيلي) .
و توجّه القاضي إلى منظمة التحرير الفلسطينية ، في مطلع عام 1993 ، مطالباً بتفاصيل المكالمات التي كان يجريها عدنان ياسين ، من مقر المنظمة في تونس في اليوم الذي سبق حادث الاغتيال ، و حسب مزاعم صحيفة هآرتس العبرية فإن المنظمة لم تستجب ، و لكن هذا القاضي المقدام الذي لا يكلّ و لا يملّ كما يقال ، وجد طريقة للوصول إلى هدفه ، و يعتقد أن المخابرات الفرنسية ساعدته بوضع يده على المكالمات التي كان يتركها عدنان ياسين في (آنسر مشين) الهواتف التي يتحدّث إليها في فرنسا و إيطاليا ، و بعد تحليل هذه الرسائل تأكّد الفرنسيون من علاقة عدنان ياسين بالموساد .
و هنا لا بدّ من التساؤل لماذا لم تتعاون منظمة التحرير مع القاضي الفرنسي ؟ و لماذا تم (السكوت) على عدنان ياسين نحو عشرة أشهر ، حيث تم اعتقاله في 25/10/1993 ، مع أنه كان من الواضح و من الطلب الفرنسي الرسمي بالاطلاع على مكالمات ياسين بأن هناك على الأقل شيئاً ما ضد الرجل من مخابرات قوية و (صديقة) هي المخابرات الفرنسية و في قضية تتعلق في النهاية بأحد قادة الأمن الفلسطيني : عاطف بسيسو .
و تكرّر موقف منظمة التحرير (السلبي) فيما بعد عندما طلب القاضي الفرنسي الاستماع إلى إفادة عدنان ياسين الذي أعلن أنه معتقل في أحد السجون التونسية ، و جاء الرد الفلسطيني ، بأن ياسين اختفى في العام 1996 ، بعد انتقال منظمة التحرير من تونس إلى غزة .
و قد لا يكون الرد الفلسطيني هذا صحيحاً ، لأن الأنباء الصحافية تحدّثت عن أن عدنان ياسين أعدِم بعد اكتشافه على ظهر سفينة في المياه الدولية ، و أنباء أخرى تحدّثت عن وجوده معتقلاً في اليمن أو في تونس .
المهم أن ما بدا في ربيع عام 1999 بداية لأزمة بين فرنسا و (إسرائيل) ، بعد انتهاء التحقيق في القضية و اتهام (إسرائيل) بالمسؤولية عن الاغتيال بمساعدة جاسوسها عدنان ياسين الذي أبلغ الموساد بتفاصيل وجود عاطف بسيسو في باريس ، أخذ في التراجع ، و ربما كانت الأسباب كثيرة و متنوعة و لكن لا يمكن هنا إبراء الجهات المسؤولة و المعنية العربية و الفلسطينية ، من مهمة المتابعة و الاستمرار و الضغط على الجانبين الفرنسي الذي كان متحمّساً لإدانة (إسرائيل) و (الإسرائيلي) الذي كان يدخل مع الفلسطينيين ، و العرب في حلقات مفرغة مسجلاً أهدافاً في ملعبهم و هم فرحون .. !
و لا بد من التوقف هنا عند ما أثير من قضية الجاسوس عدنان ياسين ، و التي أخذت مجالاً واسعاً في التداول ، فوفقاً لمعظم المصادر فإن ياسين الذي كان يتولى مسؤوليات استصدار أذونات السفر لكوادر المنظمة في تونس ، كان يعالج زوجته المريضة في فرنسا ، على حساب المنظمة ، و أنه كان يسافر كثيراً هناك لهذه الغاية ، و رغم أن مصادر فلسطينية قالت إنه لم يعانِ من مشاكل مادية لعلاج زوجته ، فإن مصادر أخرى أفادت أن المخابرات الصهيونية استطاعت النفاذ إليه من هذا الباب .
و قيل إن أول لقاء تم بين ياسين و ممثل عن الموساد كان في شهر آذار 1989 ، في باحة نفس الفندق الذي قتِل على أعتابه بعد ذلك التاريخ بأكثر من ثلاث سنوات عاطف بسيسو ، و هو الفندق (المشبوه) بعاهراته و إدارته و العاملين به و الكثير من رواده .. !
و قيل إن عدنان ياسين تجنّد على يد ضابط الموساد المدعو (حلمي) الذي (التقط) عدنان ياسين في ذلك الفندق ، و عرض عليه الدخول في مشاريع تجارية مشتركة ، و فيما بعد تولى الضابط (جورج) العلاقة مع ياسين .
و كان وقوع ياسين في الفخ ، نصراً مهماً للموساد ، لأن ياسين بحكم علاقاته و تدخّلاته جعل قيادة المنظمة مكشوفة للجانب الآخر . و مما تم الكشف عنه ، مثلاً ، أن عدنان ياسين الذي زوّده الموساد بأجهزة تجسّس حديثة جداً ، حصل من الموساد على مصباح فاخر للقراءة ، و على كرسي طبي متطوّر و جهاز فاكس صغير الحجم ، و تم وضع أجهزة تنصت في هذه الأجهزة ، و تشتغل هذه الأجهزة بمجرد الجلوس على الكرسي ، بفضل جهاز حساس للحرارة وضع في الكرسي ، و تستطيع هذه الأجهزة العمل ثماني ساعات دون تغيير البطارية .
و شحن ياسين هذه الحاجيات في سيارة رينو من فرنسا إلى تونس ، و لأنه أيضاً من مسؤولياته ، ترتيب إدخال الأثاث للكوادر الفلسطينية ، فبدا عادياً أن يقوم بتقديم هذا (الأثاث) إلى محمود عباس (أبو مازن) ، و استقرت أدوات التجسس هذه في مكتب أبو مازن ، و فيما بعد عرف السر ، الذي كان يحيّر رجال أبو مازن ، الذين كانوا يتفاوضون هناك بعيداً في أوسلو ، مع (الإسرائيليين) ، و بدوا أمامهم مكشوفي الظهر تماماً ، فقد كان (الإسرائيليون) يعرفون تماماً ما سيعرَض عليهم و حدود التكتيك الفلسطيني و المدى الذي يمكن أن يتنازل عنه الفلسطينيون .
و فيما بعد تحدّثت أوساط صهيونية أن القيادة (الإسرائيلية) شعرت أن ذلك (العري) الفلسطيني في المفاوضات السرية في أوسلو ، بدأ يعكر أجواء المفاوضات التاريخية بين الفلسطينيين و (الإسرائيليين) ، و أن الوفد الفلسطيني يشعر بمهانة كبيرة وهو يواجه الوفد (الإسرائيلي) المدعّم بالخبرات و المعلومات ، عارياً ، و لم يكن يعرف أحد أن سبب كل ذلك ، الكرسي الفاخر و الأدوات الملحقة الجميلة التي أعجبت قائد المفاوضات أبو مازن ، فسمح لعدنان ياسين بوضعها في مكتبه .
و بعد التحقيق مع ياسين الذي لم يكشف عنه الكثير ، فإن المعلومات المؤكدة كانت تتعلق بأن الموساد زوّده بأجهزة تنصت متطوّرة جداً ، و بعضها مثل الذي زرع في مكتب أبو مازن يمكن أن يعمل لخمس سنوات دون تغييره .
و بالطبع لم يقتصر دور ياسين على ذلك ، فأشارت التقارير التي نشرت بعد اعتقاله إلى تعاون ابنه هاني الذي يملك كراجاً للسيارات في العاصمة التونسية ، و كان يتم وضع أجهزة تنصت في السيارات التابعة للمنظمة و لرجالها التي تذهب للتصليح في كراج هاني .
و يبدو أن المخابرات الفرنسية أرادت أن تقدّم خدمة لمنظمة التحرير ضمن التعاون الاستخباري أو حتى .. ربما (تكفيراً) عن الإخفاق في حماية (ضيفها) عاطف بسيسو و الذي وصله رجال الموساد و قتلوه على أرضها ، أو أرادت أن تردّ صفعة الاغتيال إلى وجه الموساد ، و دبت الحرارة في الخطوط الساخنة الفرنسية و التونسية و الفلسطينية ، و قبل اعتقاله أخضع لرقابة مشدّدة و تم ضبط سيارة رينو 25 أرسلت إلى عدنان ياسين من ألمانيا ، فاعترضتها الجمارك التونسية ، و تم تفتيش السيارة و اكتشاف أجهزة تنصت دقيقة فيها ، و تم القبض على ياسين الذي وصف بأنه أخطر جاسوس لـ (إسرائيل) في منظمة التحرير ، و لكن ربما كان ياسين الذي قدّم معلومات وافرة لـ (إسرائيل) في منعطف تاريخي في العلاقات بين (إسرائيل) و المنظمة ، من الجواسيس المهمين الذين تم كشفهم ، و لكنه ربما لم يكن أخطرهم ، ففي عالمٍ مثل الجاسوسية لا يعترف بسهولة بأفعال التفضيل .
و لابد من الإشارة هنا إلى أن الأجواء التي كانت تشهدها العاصمة التونسية عشية القبض على ياسين و الكشف عن اعترافاته ، كانت تعج بالمفارقات ، ففي حين يتم إلقاء القبض على ما وصف بأنه (أبر) جاسوس لـ (إسرائيل) في منظمة التحرير ، كان الصحافيون الصهاينة المستعربون ، وثيقي الصلة بالاستخبارات (الإسرائيلية) ، يحجّون بشكلٍ شبه يومي إلى تونس و ينزلون في ضيافة منظمة التحرير ، و يستقبلهم كبار المسؤولين هناك ، و يدلون لهم بأحاديث صحافية عديدة و لمختلف وسائل الإعلام الصهيونية و من بينها التلفزيون العبري .
كانت الوفود الصهيونية تحجّ إلى تونس قبل ذلك و لكنها تكثّفت قبل و أثناء و بعد الإعلان عن اتفاق أوسلو ، و في حين أن (إسرائيل) بالكشف عن الجاسوس ياسين ، كانت تؤكّد بأنها ما زالت ترى في الفلسطينيين أعداء لا يؤتمنون مهما قدّموا من تنازلات ، كان القادة الفلسطينيون يستقبلون ممثلي أحد أذرع الدولة العبرية الهامة : الإعلاميون ، و كتبت في حينه تحقيقاً موسعاً ، عن تلك الظاهرة في الأراضي المحتلة و تونس ، و أسميتها (ظاهرة يوني) نسبة إلى يوني بن مناحيم مراسل التلفزيون العبري العليم ببواطن الأمور في الأراضي المحتلة ، و في تلك الفترة في تونس أيضاً ، و الذي كان مصدراً إخبارياً مهماً بما يجري في الساحة الفلسطينية في الداخل و في الخارج في تونس ، تصب عنده المعلومات الهامة و يتطوع المسؤولون الفلسطينيون للاتصال به و إمداده بالمعلومات ، و مثلما كان يصول و يجول في الأراضي المحتلة ، انتقل يوني بن مناحيم بكاميرته إلى تونس و أصبح يصول و يجول فيها أيضاً ، و يبث التقارير من هناك و أحياناً بشكلٍ مباشر ، و مرة بث تقريراً مباشراً من العاصمة التونسية عن وصول نايف حواتمة زعيم الجبهة الديمقراطية المعارض لأوسلو إلى تونس سراً و قال إن حواتمة قال له إذا كشفت عن زيارتي فسأنفي ذلك فوراً .. !
و قدّم و هو في تونس تقارير ، عرف فيها بالرموز التي ستلعب أدواراً في المرحلة المقبلة : مرحلة السلطة الفلسطينية مثل حسن عصفور و جبريل الرجوب و ياسر عبد ربه و غيرهم .
و خلال التحقيق الذي أجريته تبين أن كل الصحافيين الصحافيين المختصين بالشؤون العربية كانت لهم علاقات معلنة مع أجهزة الدولة العبرية و مع أجهزة الاحتلال في الضفة الغربية و قطاع غزة .
و يوني بن مناحيم الذي كان أبرزهم و أكثرهم ديناميكية ، هو أحد الذين شاركوا في عملية الليطاني في آذار 1978 في جنوب لبنان و يعمل محاضراً في مدرسة عسكرية صهيونية في مستوطنة مقامة على رأس مدينة بيت جالا ، و قابلت مناحيم على مدخل مقر الحاج إسماعيل جبر قائد القوات الفلسطينية في الضفة الغربية لدى دخوله أريحا ضمن اتفاق (غزة و أريحا أولاً) و عاتبني على التقرير الذي نشرته عن (ظاهرة يوني) مؤكّداً على تطوّع المسؤولين الفلسطينيين بالاتصال به و مدّه بالأخبار و المعلومات .
و أيضاً من رموز ظاهرة يوني (روني شكيد) الذي عمل في جهاز الشاباك الصهيوني و كان يحقّق مع المعتقلين الفلسطينيين في معتقل المسكوبية بالقدس ، و هذا المعتقل بالذات هو (مسلخ بشري) بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى كما خبِره كاتب هذه السطور أكثر من مرة .
و حتى الذي عرفوا بيساريتهم من الصحافيين الصهاينة الذين عمِلوا في الشؤون الفلسطينية و العربية فكانت لهم علاقات مع أذرع الاحتلال المختلفة ، فمثلاً يهودا ليطاني كان ناطقاً بلسان الجيش الصهيوني المحتل للضفة الغربية و قطاع غزة ، و يوسي تورفشتاين عمل مستشاراً لحاكم بيت لحم العسكري ، و بنحاس عنبري كان مسؤولاً عن دائرة الإحصاءات في الضفة الغربية التي تتبع الحكم العسكري .
و من جانب آخر كانت تصريحات المسؤولين الفلسطينيين الذي أصبحوا مفتوحي الأذرع للصحافيين الصهاينة ، يأخذونهم بالأحضان ، كما لو كانوا ينتظرون هذه الفرصة على أحرّ من الشوق ، غير موفقة فيما يطرحونه ، في معظم الحالات ، و مثلاً فإن حكم بلعاوي سفير منظمة التحرير في تونس و عضو اللجنة المركزية في فتح و المسؤول الأمني الكبير ، و الذي بحكم مسؤولياته الأمنية ، يتحمّل التقصير في عدم كشف عدنان ياسين ، توعّد على شاشة التلفزيون العبري بلجم المعارضين للاتفاقيات الموقّعة بين الجانبين الفلسطيني و (الإسرائيلي) ، و قال إنه جرى تعاون مع (إسرائيل) بهذا الشأن و خاطب يوني بن مناحيم قائلاً : "بإمكانك التأكد مما أقوله من المسؤولين عندكم" ...! .
و كان هناك من رأى فيما يقوله بلعاوي استفزازاً ، خصوصاً و أن معلومات تناثرت حول علاقته الوثيقة مع عدنان ياسين و أن الأخير هو نائبه كسفير للمنظمة في تونس ، و هو ما نفاه بلعاوي قائلاً إن ياسين مجرّد موظف صغير لديه ، و لكن يبدو أن ذلك و ربما غيره ، أر على دوره ، فعندما عاد إلى فلسطين ضمن ترتيبات اتفاق أوسلو ، لم يعد له دور يناسب وضعه السابق (كرجل تونس القوي) الذي كانت تتقاطع لديه كل الخطوط ، و في فيلته الفخمة التي يقيم بها في تونس العاصمة ترسم سياسات المنظمة الكبيرة و الصغيرة .
و للأسف لم يكن بلعاوي وحده الذي يوجّه سهامه للمعارضة ، فإن (الطرف الآخر) و هي التسمية التي تم إطلاقها على (إسرائيل) من قبل المسؤولين الفلسطينيين بعد اتفاق أوسلو ، كان مستمراً في سياسته و مصالحه كما يراها ، أو الأصح أنه كان مصمّماً على الاستمرار فيها : الاغتيالات للمعارضة ، بعد أن أيقن أن الثوار القدامى اتخذوا ليس قراراً بالتقاعد فقط بل إنهه مستعدون لأبعد من ذلك : لجم معارضي السلام (الإسرائيلي) .. ! .
و كان أول ضحاياها ، في عصر "السلام الإسرائيلي" : الشهيد هاني عابد .
كانت منظمة التحرير تتغير بسرعة، وبقيت إسرائيل لا تتغير..!
و إذا كان اغتيال عاطف بسيسو (8/6/1992) آخر طلقة من بندقية ميونخ ، و التي أمرت بإطلاقها غولدا مئير التي كانت شبعت موتاً في قبرها ، فإن اغتيال هاني عابد (2/11/1994) ، شكّل استمراراً لسياسة (إسرائيل) التي لا تتغير ، و التي ازدادت دموية مع كل تنازل جديد كانت تقدّمه القيادة الفلسطينية .. !
و لكن لا أحد يريد أن يتّعظ ..!
تعليق
-
الكف و المخرز
في أثناء البدء بتطبيق اتفاقيات الحكم الذاتي ، سمحت (إسرائيل) لرجالٍ من منظمة التحرير متهمون بالمشاركة بتدبير عملية ميونخ و التي قتل فيها عشر من الرياضيين الصهاينة ، بالدخول إلى فلسطين ، و بدا حينها للمراقبين بأن (إسرائيل) تخلّت عن سياستها بالإعدام و الاغتيال ، إلا أن حادثاً وقع في تلك الفترة له دلالته نسف تلك الفرضية .
ففي الساعة الثالثة من عصر يوم 2/11/1994 خرج هاني عابد أحد مسئولي الجهاد الإسلامي ، الذي كان يدير مكتب أبرار للصحافة بغزة ، ذو العلاقة بحركة الجهاد الإسلامي ، و يعمل محاضراً في كلية العلوم و التكنولوجيا بخانيونس من الكلية ، بعد انتهاء عمله ، و ركب سيارته من نوع (بيجو 104) و عندما أدار محرّكها انفجرت السيارة و سقط هاني عابد شهيداً ، و الذي اتهمته (إسرائيل) بتدبير عملية عسكرية استهدفت جنديين صهيونيين قرب حاجز بيت حانون (أبرز) في العشرين من أيار 1993 . و وصفته صحيفة هآرتس العبرية بعد اغتياله بأنه رئيس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة .
و فور اغتياله ، اتهمت الفصائل الفلسطينية (إسرائيل) بتدبير الاغتيال ، و في صيف 1997 قال الوزير في السلطة الفلسطينية فريح أبو مدين أثناء ردّه على منتقدين للسلطة ، في اجتماع مفتوح في قاعة الاتحاد النسائي العربي في مدينة بيت لحم ، إنه أعطى مسدسه الشخصي للشهيد عابد و حذّره من الاغتيال ، و ربما عنى ذلك أن السلطة كانت لديها معلومات حول المستهدفين من قبل (إسرائيل) .
و عابد ، المولود في عام 1960م في غزة لأسرة فلسطينية بسيطة و متدينة ، واحد من جيل فلسطيني خطا خطواته الأولى مع الاحتلال لباقي الأراضي الفلسطينية عام 1967م ، و كان مقدّراً لهاني أن يشهد اعتقال والده عام 1971م على يد الاحتلال بتهمة مقاومة الاحتلال ، و سيتذكر فيما بعد دائماً ، الزيارات التي كان يقوم بها مع والدته لوالده في السجن .
و في عام 1980م التحق بالجامعة الإسلامية بغزة ، و هناك اقترب من مجموعة طلابية صغيرة ، في ذاك الوقت ، بخلاف الأطر الطلابية الوطنية و القومية و اليسارية المتعددة ، كان اتجاهها إسلامياً .
و حسب سيرة شبه رسمية ، فإن عابد ، خلال اقترابه من هذه المجموعة فإنه (عرف أن فلسطين و الإسلام توأمان لا ينفصلان ، و أن مرحلة جديدة سوف يحمل فيها أبناء الإسلام راية الدفاع عن فلسطين آتية لا محالة) .
و في تلك الأثناء التقى مع الدكتور فتحي الشقاقي ، المثقف الفلسطيني العضوي ، نادر المثال ، الذي أسس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين ، تلك الحركة ، التي كان مقدّراً لها أن تلعب دوراً بارزاً بجانب فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية الأخرى .
و بعد تخرّجه من الجامعة عام 1984م من كلية العلوم قسم الكيمياء ، أكمل دراسته للماجستير في جامعة النجاح الوطنية عام 1988م ، و كان التيار الإسلامي في الحركة الطلابية في تلك الجامعة يتعاظم دوره .
و اعتقل عابد ، لأول مرة عام 1991م ، و أمضى ستة أشهر في معتقل النقب الصحراوي ، و بعد خروجه تولى مسؤولية الجماعة الإسلامية ، و هي الإطار الطلابي السياسي العلني لحركة الجهاد الإسلامي في الجامعات الفلسطينية ، و فيما بعد أصبح مسؤولاً إعلامياً في حركة الجهاد الإسلامي من خلال تأسيسه لجريدة الاستقلال في قطاع غزة و لمكتب أبرار للصحافة .
و بعد قيام السلطة الفلسطينية أصبح هاني عابد ، أول معتقل سياسي لدى السلطة ، بعد قيام مجموعة عسكرية تابعة للجهاد الإسلامي بتنفيذ عملية عسكرية شمال قطاع غزة أسفرت عن مقتل ثلاثة من جنود الاحتلال ، و اتهام (إسرائيل) لهاني عابد بالتخطيط للعملية .
و كان هذا الاعتقال مرحلة هامة في حياته و في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية ، و كانت بداية لخلافات من نوع جديد بين فرقاء الحركة الوطنية و الإسلامية الفلسطينية ، فالسلطة الفلسطينية كانت محكومة باتفاقيات و رؤى ، و تحاول فرض تصوّرها للعلاقة مع (إسرائيل) على الآخرين ، في حين كانت فصائل أخرى ، و من بينها الجهاد الإسلامي الذي ينتمي إليها عابد ، ترى أن من حقّها الاستمرار في النضال و القيام بعمليات ضد الاحتلال ، الذي أعاد تموضع قواته في الأراضي الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو الذي أفرز السلطة الفلسطينية ، و لم ينسحب منها .
و شكّل الاعتقال ما يشبه (الصدمة) لأوساط في الرأي العام الفلسطيني لم يكن بمقدورها هضم مسألة أن تقوم السلطة الفلسطينية باعتقال أحد (لأسباب وطنية) .
و يمكن استشفاف ذلك من البيان الذي أصدرته حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين في اليوم التالي للاعتقال (القدس/ 27/5/1994م)
و تميز البيان بقسوة نسبية اتجاه السلطة (لقد أقدمت أجهزة الأمن الفلسطينية في غزة و التي يترأسها المدعو أمين الهندي على اعتقال الأخ هاني عابد ، أحد الشخصيات و الفعاليات الإسلامية البارزة و المعروفة في مدينة غزة ، حيث اختطفته من مقر عمله ، و أودعته سجن غزة المركزي و هكذا تفتتح أجهزة القمع الصهيونية التي يفترض أنها غادرت غزة قبل أقل من أسبوعين و لكن يبدو أنها تركت وكلاءها و مندوبيها لإكمال الدور الصهيوني و لأجل الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني) .
و يمضي البيان غاضباً مستهجناً رابطاً بين سلطة الاحتلال و السلطة الفلسطينية الجديدة (ليعلم أمين الهندي و غيره من الزبانية الجدد أنهم برغم مديح و ثناء إسحاق رابين عليهم بأنهم يقومون بدورهم على أكمل وجه ، فإنهم ارتكبوا عملاً خطيراً و غبياً عندما اختطفوا الأخ هاني عابد ، فالذين قاوموا الاحتلال و الإرهاب الصهيوني ببسالة شهدها و شهد لها العالم لن ينكسروا أمام أي إرهاب جديد) .
و رأت مصادر في الجهاد الإسلامي في حينه ، أن اعتقال هاني عابد بمثابة (رهينة سياسية حتى نوقف عملياتنا الجهادية) كما قال الأمين العام للحركة الشهيد فتحي الشقاقي في تصريح نشرته صحيفة الحياة اللندنية (5/6/1994م) .
و أشار الشقاقي في تصريحه ذاك ، إلى أنه أجرى اتصالات غير مباشرة مع الرئيس عرفات و قيادة منظمة التحرير لإطلاق سراح هاني عابد ، و بأنه أبلغ تلك القيادة و عرفات ، بشكلٍ غير مباشر أيضاً ، أن أي اعتقال (لإخواننا سيصعّد من العمل العسكري ضد الاحتلال كي نبرهن لهم بأنه لا يمكن ابتزازنا عن طريق اعتقال أحد إخواننا في الحركة ، و أنه طالما بقي عابد معتقلاً ، فسنصعّد العمل العسكري ، و لن يكون استمرار إيقاف عابد سبباً لإيقاف العمل العسكري) .
و بالمناسبة اعتبر الشقاقي أن العمليات التي نفّذها الجناح العسكري للجهاد المعروف باسم (قسم) ، كشفت بأن (الانسحاب "الإسرائيلي" من غزة لم يكن حقيقياً ، و السيادة "الإسرائيلية" لا زالت موجودة و أن مرجعية الإدارة الفلسطينية هي "إسرائيل") .
و خرج هاني عابد ، أول معتقل سياسي فلسطيني لدى السلطة الفلسطينية ، من السجن ، و في حين كانت سلطات الاحتلال فشلت باعتقاله قبل إعادة تموضع قوات الاحتلال في قطاع غزة بنحو أسبوع ، بعد أن حاصرت منزله في حي الغفري بمدينة غزة ، و لكنه كان قرّر عدم تسليم نفسه لهم ، فإنها نجحت باغتياله ، بعد أن أنهى عمله في كلية العلوم و التكنولوجيا ، و ركب سيارته متوجّها لعمله الإعلامي ، و ما إن أدار المحرك حتى انفجرت به السيارة و خرّ شهيداً ، ليكون أول شهيد يتم اغتياله في المرحلة التي أطلق عليها مرحلة السلام ، مثلما كان أول معتقل سياسي فيها .
و رغم أن (إسرائيل) التزمت الصمت حول حادث الاغتيال ، و لكن هناك لدى متهمي (إسرائيل) بتدبير الاغتيال مبررات لاتهامهم خصوصاً و أن الاغتيال جاء بعد تهديدات أطلقها إسحاق رابين ، رئيس وزراء (إسرائيل) وقتذاك ، باتخاذ إجراءات ضد نشطاء حماس و الجهاد الإسلامي بعد عملية تل أبيب الاستشهادية في حينه ، على نحو ذكّر بما فعله بن غوريون في الخمسينات و غولدا مائير في السبعينات .
و بتاريخ 23/10/1994 أكّدت صحيفة (الأوبزيرفر) البريطانية ، أن رابين أعطى أوامره بملاحقة قادة فلسطينيين .
و في مقال افتتاحي بعد اغتيال عابد كتب صحيفة هآرتس العبرية بعنوان (الثواب و العقاب) مذكرة بسلسلة الاغتيالات التي نفّذتها "إسرائيل" بعد عملية ميونخ .
و اعترفت هآرتس أن عمليات الانتقام "الإسرائيلية" قد تخطيء هدفها أحياناً (و هو أمر مؤسف) حسب الصحيفة ، و لكنها قالت بوضوح ، و هي تتخلى عن رصانتها ، (إذا كان هاني عابد قد تورّط في عمليات قتل فإنه لا يستحق اعتذاراً ، بل لقي العقاب الذي يستحقه) .
و ربطت معظم الصحف الصهيونية ، التي خصّصت مساحات واسعة لتغطية حادث اغتيال عابد ، بين تهديدات رابين و حادث الاغتيال . و هو ما يؤكّد مسؤولية "إسرائيل" عن اغتيال عابد بعملية إعدام غير قضائي كما تسمّي ذلك منظمات حقوق الإنسان ، و أن "إسرائيل" مستمرة به حتى أثناء (العملية السلمية) و هو ما أكّده الواقع بعد ذلك .
و بعد حادث الاغتيال ، قال الدكتور الشقاقي إن الموساد وضع هاني عابد على رأس قائمة التصفيات بناء على قرار رابين ، و تنفيذاً لتهديداته ضد حماس و الجهاد الإسلامي .
و أضاف الشقاقي ، في حديث لصحيفة العرب (10/11/1994م) أن قادة "إسرائيل" يدّعون أن (هاني عابد مسؤول عسكري في الجهاد الإسلامي ، و كان مسؤولاً عن مقتل عددٍ من الجنود الصهاينة ، و نحن نؤكّد أن هاني كان من نشطاء الجهاد الإسلامي بالفعل ، و لكنه كان سياسياً ، إضافة لكونه أستاذاً جامعياً و صحافياً ، و عندما فشلوا في معرفة القادة العسكريين قاموا بتصفية هدف سياسي سهل) .
و ردّاً على سؤال للصحيفة إذا كانت حركة الجهاد تتهم السلطة الفلسطينية بالتعاون في قتل هاني عابد ، أجاب الدكتور الشقاقي (لا نتهم السلطة بمحاولة القتل ، و لكن السلطة تغض النظر عن عملاء الموساد الصهيوني الذين يحملون ضمانات بعدم التعرض لهم ، بل إن عملاء الموساد يخترقون هذه السلطة بقوة و في مستويات عديدة و هامة و من المفروض أن تتحمّل السلطة مسؤولية حماية المواطنين أو تعلن عن عجزها لتقوم القوى المجاهدة بهذه المسؤولية) .
و مثلما يحدث عادة ، فإن الصهاينة ينسون أنهم لا يستطيعون وحدهم رسم معادلة (الثواب و العقاب) حسب تعبير صحيفة هآرتس ، فبعد أيام قليلة من اغتيال عابد ، و في حين كان أصدقاؤه و مناصرو القوى الوطنية و الإسلامية يحضرون حفلاً لتأبينه في غزة (11/11/1994م) ، انطلق أحد تلامذة الشهيد عابد و اسمه هشام حمد ، راكباً دراجته الهوائية ، متمنطقاً بالمتفجرات ، في عملية استشهادية ، مقتحماً تجمعاً عسكرياً قرب مستوطنة نتساريم ، ففجّر نفسه فيها ، انتقاماً لهاني عابد ، فقتل خمسة من جنود الاحتلال ، و أصاب عشرة آخرين ، حسب مصادر صهيونية .
و أعلنت حركة الجهاد أن تلك العملية هي واحدة من سلسلة عمليات جهادية انتقاماً لعابد ، و هو ما حدث بالفعل ، خلال الأشهر التالية ، في عمليات كان لها صدى كبير ، مثل العملية التي فجّر فيها الشهيد خالد الخطيب سيارة كان يقودها في حافلة عسكرية ، في مستوطنة كفار داروم ، أسفرت عن قتل عشرة جنود يوم (9/4/1995م) ، و العملية الكبرى في بيت ليد التي نفّذها الشهيدان : صلاح شاكر و أنور سكر ، و فيما بعد اعتبرت "إسرائيل" هذه العمليات و غيرها مبرراً لقتل زعيم الجهاد الإسلامي فتحي الشقاقي .
عندما استشهد هاني عابد ، كان أربعة من البنين و البنات ، و كانت زوجته حاملاً ، ولدت بعد استشهاده بنتاً ، أسموها (قسم) تماهياً مع اسم الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي ، و التي خرج منها استشهاديون ، كانوا مع غيرهم من الاستشهاديين ، أنبل ظاهرة ، في عصر الانحطاط العربي .
تعليق
-
محمود الخواجا
و إذا كان هناك اختلاف في تقدير وضع الشهيد هاني عابد، العسكري كما قالت إسرائيل، والسياسي والإعلامي كما قالت حركة الجهاد الإسلامي، فإن "إسرائيل" تمكّنت من الوصول ، في حادث اغتيال مدوٍ أيضاً ، في زمن السلام ، لرجل لا اختلاف على هويته العسكرية ، بل استقر وصفه فيما بعد بأنه قائد الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي (قسم) و بهذه الصفة ما زالت الحركة و مناصروها يحيون سنوياً ذكرى استشهاد محمود عرفات الخواجا الذي قضى في يوم 22/6/1995م ، في عملية جريئة نفذتها أجهزة المخابرات الصهيونية أمام منزل الخواجا في مخيم الشاطئ بقطاع غزة .
و يبدو أن حادث اغتيال هاني عابد وسط الأراضي التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية لم يعطِ مؤشرات كافية للخواجا ، بأن هذه الأراضي غير مأمونة أمنياً ، خاصة لمطلوب كبير لسلطات الاحتلال مثله ، فاستشهد ليصبح لدى رفاقه أنموذجاً و رمزاً .
و تتشابه سيرة الخواجا ، مع سيرة هاني عابد ، فكلاهما من جيل واحد ، فالخواجا ولد عام 1960م ، لوالدين لاجئين من قرية حمامة المدمرة ، و نشأ في مخيم الشاطئ ، أمام الأفق الذي تحمله أمواج البحر الأبيض المتوسط ، و شهد احتلال ما تبقّى لأرض فلسطين عام 1967م و لم يتجاوز السابعة من عمره ، و شهد استشهاد عمه على أيدي جنود الاحتلال ، و تزامن التحاقه بالجامعة الإسلامية مع ظهور الدكتور فتحي الشقاقي و مشروعه الإسلامي الجهادي في قطاع غزة ، فالتحق بالحركة الجديدة و ترأس قائمة حركة الجهاد الإسلامي الطلابية لانتخابات مجلس الطلبة في الجامعة ، و تعرّض للاعتقال أكثر من مرة لنشاطه السياسي الإسلامي ، و اعتقل لمدة أربع سنوات بتهمة تتعلق بتحضير السلاح و المتفجرات ، و اعتقل معه في نفس القضية والده لمدة ستة أشهر .
و بعد خروجه من المعتقل بعد انتهاء محكوميته اعتقل أيضاً لمدة ستة أشهر إدارياً ، أي بدون محاكمة ، و بعد استلام السلطة الفلسطينية لزمام الأمور في قطاع غزة اعتقل مرتين في سجون السلطة ، ضمن الحملات التي نفّذتها السلطة بين الوقت و الآخر ضد الذين لهم نشاط مقاوم ضد الاحتلال ، و هي الاعتقالات التي كانت تثير خلافاً كبيراً في أوساط الرأي العام الفلسطيني ، و تركت أثراً سلبياً .
لا تتوفر معلومات دقيقة عن نشاط الخواجا العسكري ، و لكن بعض أدبيات حركة الجهاد الإسلامي تشير إلى نشاطه في الجناح العسكري (قسم) و الذي أصبح فيما بعد يعرف بأنه قائده ، بدأ قبل عامين من استشهاده ، و يشار إلى أنه من مؤسسيه ، و خلال هذين العامين ، هزّت عمليات هذا الجهاز العمق الصهيوني بسلسلة عمليات استشهادية مدوية ، أهمها العملية التي نفّذها الشهيدان من حركة الجهاد في بيت ليد و أسقطت عشرات القتلى و الجرحى ، و أدرك الخواجا أن حكماً بالإعدام صدر عليه من الصهاينة ، و هو ما تم تنفيذه من ثلاثة ملثمين حسب شهود عيان كمنوا له في سيارة بيجو 404 و عندما أدركوه أطلقوا عليه العيارات الكاتمة للصوت ، ليسقط شهيداً ، بينما تم الاحتفال في مكتبٍ ما في مكان ما بين ضباط المخابرات الصهيونية بنجاح قتل قائد (قسم) .
كان الخواجا ، و وفق متطلبات دوره الجديد ، في (قسم) قد ابتعد عن النشاط العلني لحركة الجهاد الإسلامي ، حتى أن رفاقاً له اعتقدوا بأنه لم يعد له علاقة بحركة الجهاد الإسلامي ، و لكن (إسرائيل) كما تبين فيما بعد لم تغفل عن نشاطه .
و بعد ستة أعوام من استشهاده ، دوّت في مخيم الشاطئ مسقط رأس الشهيد مفاجأة غير متوقعة ، عندما اعتقل جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني ، و بعد أشهر من انتفاضة الأقصى ، عميلاً من سكان المخيم رمز له بالحرفين (م.ش) ، و هو من أقرباء و جيران الشهيد الخواجا لضلوعه في حادث الاغتيال .
و المفاجأة أن العميل المذكور لم يكن معروفاً بأية ارتباطات مع الاحتلال ، بل بالعكس ، لا يمكن أن يكون ، بالنسبة لسكان المخيم محل شبهة . و حسب تقرير نشرته جريدة الاستقلال الناطقة باسم حركة الجهاد الإسلامي (21/6/2001) أعدّه مراسلها أكرم غالي ، فإن العميل المذكور الذي كان عمره لدى إلقاء القبض عليه (52) عاماً ، رجلاً ميسور الحال و له وضع اجتماعي و يحظى بالاحترام من قبل المواطنين ، مواظباً على الصلاة ، و يساعد المحتاجين ، و يحرص على القيام بواجباته الاجتماعية اتجاه الناس . و حسب اعترافه فإنه ارتبط مع المخابرات الصهيونية عام 1982 على يد ضابط مخابرات صهيوني يدعى (أبو طومر) .
و أوكلت له في بداية ارتباطه مع المخابرات الصهيونية ، مهمة جمع معلومات عن المناضلين في مكان سكناه ، و بعد تأسيس (قسم) ، طلب منه مراقبة الشهيد محمود الخواجا ، و فيما بعد زوّدته المخابرات الصهيونية بهاتف نقال ، ليمدّ مسؤوله الاستخباري بالمعلومات أولاً بأول .
و لم يكتفِ ما قيل إنه العميل (م.ش) برصد تحرّكات الشهيد الخواجا من بعيد ، فاستغل صلة القربى و الجوار ، و أخذ يوثق علاقاته مع الشهيد ، و يزور بيته باستمرار ، و أحياناً يدخل البيت بدون استئذان و في إحدى المرات مرة دخل غرفة كان يوجد فيها الشهيد محمود الخواجا مع بعض رفاقه من مقاومي (قسم) و كانوا يحملون أسلحتهم ، فمنعه الشهيد محمود و أغلق الباب في وجه .
و كان (م.ش) ينقل ما يرصده إلى مشغّله المباشر في المخابرات الصهيونية ، و تفرّغ ، بعد أن أتاه أمر بذلك ، في مراقبة محمود و رصد تحركاته ، و حسب اعترافاته ، فإنه قبل اغتيال الشهيد الخواجا بنحو عشرة أيام ، أعطيت له دورة مكثفة في الرسم (الكروكي) و قام بناء على طلب مشغّله برسم المنطقة التي يسكن فيها الشهيد الخواجا بتفاصيلها .
كان محمود الخواجا ، قد وقع في المحظور الأمني ، الذي يمكن أي جهاز مخابرات و ربما أي جهة من النجاح في تنفيذ عملية اغتيال و قتل ، فخط سير الشهيد محمود اليومي إلى عمله معروف و ثابت و روتيني ، و في صباح يوم الاغتيال ، أعطى (م.ش) عبر جهاز الهاتف النقال الذي بحوزته لمشغله المعلومات المطلوبة ، عن تحركات الخواجا : خروجه من المنزل .. سيره .. تحركه ، حتى توارى عن نظره ، فدخل لتناول إفطاره ، بينما كانت رؤيا محمود الخواجا التي أبلغ زوجته بها فور استيقاظه من النوم صباح ذلك اليوم ، أنه شاهد ثلاثة أشخاص يطلقون عليه النار فيستشهد ، و كان يتحدّث بروح مرحة و معنويات مرتفعة ، تتحقق .
كانت شوارع مخيم الشاطئ في ذلك الصباح (22/6/1995م) خالية إلا من بعض الطلبة الذاهبين لتقديم امتحانات الثانوية العامة ، عندما خرج القتلة الثلاثة من سيارتهم البيجو 404 ، و اقتربوا من محمود و عاجلوه برصاصهم من كواتم الصوت ، و التي ذكر تقرير طبي فيما بعد ، أن تسعة منها أصابت الشهيد ، منها رصاصة اخترقت رأس الشهيد و أخرى أسفل عينيه و ثالثة اخترقت رقبته . و عندما تنبّه الناس إلى ما حدث كان القتلة يخلون مسرح الجريمة .
و خلافاً لبعض التقديرات ، التي تشير إلى أنه ربما متعاونون مع الاحتلال نفّذوا العملية ، فإن هذه الفرضية لا تلقى قبولاً لمتتبعي النشاط الصهيوني في مجالات الاغتيالات ، فـ (إسرائيل) لم (تغامر) بتوكيل مهمة اغتيال إلى أحد عملائها من العرب و ربما لذلك أسبابه ، منها أنها لم تنجح (إسرائيل) حتى الآن بتجنيد عميل فلسطيني (أيديولوجي) لصالحها و لذلك فإنها تبقى (مغامرة) غير محسوبة ، و منها أيضاً أن (إسرائيل) لا تكشف خيوط القصة كاملة للعميل ، مثل آخرين فإن (م.ش) مثلاً الذي أدلى باعترافات كاملة عن تعاونه من المخابرات الصهيونية و رصده للشهيد الخواجا ، أنكر مشاركته بعملية الاغتيال أو معرفته بالذين قاموا بها أو علمه حتى بأن هناك نية لتنفيذ عملية اغتيال ، و إن كان هذا لا يعفيه من المسؤولية ، فإنه يشير ، مع اعترافات سابقة لعملاء آخرين ، إلى أن (إسرائيل) تستخدم عملاءها للمساعدة في تنفيذ عمليات الاغتيال دون أن يعرفوا تفاصيلها أو كنهها .
و يبقى الاحتمال أن عملاء صهاينة محترفين ، هم الذين قتلوا الخواجا ، و تجرّءوا و دخلوا (أرض العدو) لينفذوا عملية اغتيال هم لا شك متدربين عليها جيداً ، و هو أسلوب نادراً ما لجأت إليه المخابرات الصهيونية بعد ذلك في الأراضي الفلسطينية حيث كانت تستخدم تقنية (أقتل عن بعد) كما حدث في سلسلة الاغتيالات الرهيبة خلال انتفاضة الأقصى .
و اتضح فيما بعد ، أن قتل قائد (قسم) ما هو إلا خطوة في تنفيذ قرار (إسرائيل) باستهداف حركة الجهاد الإسلامي ، فكانت الخطة الأكبر اغتيال زعيم الجهاد الأول : الدكتور فتحي الشقاقي ، الذي يطلق عليه رفاقه لقب المعلم .
تعليق
تعليق