السلام عليكم ورحمه الله تعالى وبركاته
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
دخل الخطيب المسجد يمشي ببطء ، كأنما يجر خطواته جرا . أصوات قراءة القرآن ، التي يضج بها المسجد .. بدأت بالخفوت . ما إن اعتلى المنبر حتى كانت الأصوات قد تلاشت .
فترة الآذان كانت فرصة لأن يتأمل في وجوه الحاضرين . أخذ ينقل طرفه في زوايا المسجد .. يرى الوجوم على الوجوه ، و يرى علامات التبرم .. بل يرى حتى النائمين !! و حفظ كذلك ، وجوه أولئك الذين يلازمون حضور خطبته ، و يتخذون مواقع ثابتة في المسجد! يعرفهم تماما و يعرف (الغرض) الذي جاءوا من أجله ..!!
لكن ماذا يفعل لهؤلاء الذين يُبدُون الضيق من رتابة الخطبة ، خصوصا الشباب منهم . إنه لا يملك أن يفعل أكثر من هذا . يريدونه أن يثور ساخطا على (النظام) ، و يلقي بحمم كلماته على رموزه (!!) .. و لكن هل ينتهي الأمر بهذا ؟!
إن (الحمم) التي يريده هؤلاء أن يلقيها لتزعزع أركان النظام ، كما يقولون ، يود أن يلقيها ، و لكن ليس للغرض الذي يقصدونه ، بل ليفجر العفن ، و الوهن ، و الانهزام داخل النفوس ، التي قبلت بهذا الوضع المهين !! إن الثورة على الخور و العبودية لغير الواحد الأحد ، داخل النفوس ، يجب أن تسبق الثورة على النظام ، و هو ما يريده هؤلاء المُستَعْبَدين داخليا .
كل هذه الأفكار طافت برأسه ، و هو يتأمل الحاضرين ، و يحاول أن يقرأ في ملامح كل شخص وقعت عيناه عليه، خبايا ما يدور في فكره . لم يقطع حبل تفكيره إلا قيام المؤذن بتقريب مكبر الصوت إليه ليبدأ الخطبة . كان قد قرر شيئا في دخيلة نفسه ، رحمةً بالشباب الغض ، الذي يراه يتقاطر على المسجد ، و كله رغبة في أن يسمع كلمة رفض للانحراف و الفساد ، الذي يدفع إليه المجتمع دفعا.. باسم التحديث و التقدم .. أو إدانة .. لانتهاك حقوقه وسرقة أمواله و خيراته ، أو حتى يسمع عبارة احتجاج على الواقع المزري الذي ارتكست فيه الأمة .. لعلها تمنحه بعض العزاء لكبريائه الجريحة .
استهل الخطبة بالحديث عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و مكانته في المجتمع المسلم ، و استرسل في الخطبة مستشهدا بالحديث النبوي : " من رأى منكم منكرا فليغيره ..." . كان صوته يعلو حينا و يخفت آن آخر .. و استغرق في حالة من التفاعل مع الحديث الشريف ، لم يشعر خلالها بأي شيء آخر ، سوى حركات التحفز التي بدأت تظهر على المصلين ، و الشباب منهم خاصة ..!
في نهاية الخطبة لم يدر ماذا قال بالضبط .. لكنه واثق من أنه قد تجاوز الخطوط العريضة للخطبة ، التي دونها على ورقة صغيرة يحملها بيده .
كان هناك تقريران قد كتبا عن الخطبة .. الأول يقول:
"الخطيب يحرض على العصيان المسلح" !!
أما التقرير الثاني فيؤكد صاحبه على أن :
" الخطيب يدعو إلى الإطاحة بالنظام عن طريق (انقلاب) " !!
إضافة إلى ملاحظات سجلها (أحدهم) .. أشار فيها إلى أن " الخطيب يصف أعمال الحكومة بالمنكر".. !
كان على وشك أن يهجع إلى النوم .. بعد أن صلى الوتر ، حينما بدأ طرق عنيف ينهال على باب البيت .
ارتدى ثوبه ثم توجه نحو الباب .. و نادى :
- من هناك ؟!
- افتح .. افتـــــح ..!
- من أنت ؟!
- افتح .. و إلا اضطررنا لدخول البيت بالقوة .. !
- ! ! ! ! !
فتح الباب فاندفع الطارق إلى داخل البيت و معه ثلاثة رجال .. قال مخاطبا إياه :
- النقيب عوض من المباحث .. سنفتش البيت ..
- الآن ..؟! إن أهلي و أطفالي نائمون ..!
- لا بأس نفتش البيت ثم يعودون للنوم ثانية ..!
أشار للرجال الذين معه بأن يبدأوا التفتيش ..
- لحظة لو سمحت لأخبر أهلي ..
بعد أن انتهى التفتيش .. دون نتيجة ، قال له :
- تعال معنا ..
- إلى أين .. و لمــاذا ؟
أجاب و هو يدفعه أمامه :
- ستعرف فيما بعد .. !
وضع القيد في يديه و أركب شاحنة نقل بضائع صغيرة ، لا نوافذ لها ، سوى فتحات صغيرة ينفذ منها الهواء . بعد مسيرة نصف ساعة توقفت السيارة ، فصعد أحدهم إليه وعصب عينيه ، ثم اقتاده إلى داخل أحد المباني . أحس أنه صعد درجاً ، وسار في أكثر من ممر ، مرّة ذات اليمين و أخرى ذات الشمال ، و أخيرا أدخل إحدى الغرف ، و رفعت العصابة عن عينيه .. لم ير شيئا لأن الغرفة كانت مظلمة . قبل أن يخرج الجندي ، و يغلق الباب وراءه ، أدار مفتاح الضوء الذي كان باهتا ، لدرجة أنه لا يكاد يصل إلى أطراف الغرفة رغم صغرها .
تبين في الغرفة فراشا قديما ممدودا .. و طاولة و كرسي من البلاستيك . تمنى لو أن الجندي لم يشعل هذا النور، لأنه كان من الضعف بحيث يرسم تظليلا للأشياء الموجودة في الغرفة ، بشكل يبعث على الوحشة .. فهاهو يرى ظله و كأنه عمود مشنقة ، تمثل لحيته الكثة حبلها ، و بدا له ظل الطاولة ، و هو يقف خلفــهـــــــا ، و كأنها منصة المشنقة ..!
تساءل .. و قد أحس بكآبة تنوء بكلكلها على صدره : هل هذا جزء من برنامج الليلة ؟!
استمر على هذا الحال ثلاث ليال .. لا يكلمه أحد ، و لا يرى أحداً ، سوى جندي يفتح الباب ، و يضع له طعاما دون أن يتكلم .
ظلت الأفكار .. و الخيالات السيئة تعاوده ، و في الليلة الرابعة .. أفاق من تخيلاته على صوت الباب يفتح ، فالتفت فإذا بنور الغرفة الباهت يتسرب إلى الممر عبر فتحة الباب.
قال يحدث نفسه ، و يكتم آهة تكاد تفجر صدره : " يا رب حتى هذا النور الباهت لم يطق وحشة الغرفة ففر إلى الممر .. وما عسى أن يجد في الممر ، أو في ما بعــــــد الممـــــــر ؟! " ..
دخل الشخص و لم يستطع أن يتبين وجهه ، و لكن عرف أنه ضابط ، حينما وقعت حزمة من الضوء على كتفه فلمعت النجمة النحاسية التي تعلوه .. سحب الكرسي فكان له صرير خيل إليه و هو ينبعث من وسط الظلام ممزقا السكون ، و كأنه نحيب امرأة ثكلى . جلس الضابط على الكرسي مستظهرا النور و واضعا يديه على الطاولة . بعد فترة من الصمت المخيف ، لم يسمع فيها إلا أنفاسه المتلاحقة ، سأله الضابط :
- أين تتدرب على السلاح ، ومن هم شركاؤك في الانقلاب ؟
- أي سلاح ، وأي انقلاب ؟
- لا تماطل نحن نعرف عنك كل شيء .. و كنا نرصد تحركاتك جميعها !!
- ماذا لدي حتى تعرفونه .. و ما هي تحركاتي ؟!
- الإنكار لا يفيدك .. بل يؤخر تنفيذ (الحكم) ضدك ..!
-أنا لا أعرف شيئا مما تقول .. !
- نحن نعرف يا .. فضيلة الشيخ .. تحرض الشباب على العصيان المسلح ، و تدعوهم للمشاركة في (الانقلاب) الذي تخطط له ..!
-من قال هذا الكلام ..؟!
- أنت قلته .. هل نسيت بهذه السرعة ؟! أم أن ذاكرتك ضعيفة إلى حد أنك لا تتذكر خطبتك قبل يومين ..؟!
- . . . . . . . . . .
- من رأى (منكرا) فليغيره بيده .. أو (فبقلبه) !!هــاه ..؟
- هذا ليس كلامي .. إنه حديث .. !
- هذا ما نريده منك .. الشخص الذي تحدث بهذا ، أن تدلنا على صاحب هذا الكلام .. نعرف أنه مغرر بك .. نريد الرأس المدبر ..
- يا رجل هذا (حديث) من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم ماذا عساك تفهم من الحديث أكثر مما دل عليه؟!
- هكذا إذن ، تُجَهِلنا بالدين .. أنت المسلم فقط .. أما الحكومة التي جعلت الإسلام مصدر رئيسي من مصادر التشريع ، هي برأيك ليست إسلامية .. !
- أنا لم أقل هــذا .. !
- و تنكر أيضا .. لدينا تسجيلا لخطبتك ، التي تصف فيها سياسة الحكومة بالمنكر ، و تحرض الشباب على الإعتراض عليها بالعصيان المسلح ..!
- هذا لم يحصل قط .. و أنا حينما استشهدت بالحديث الشريف لم أعن شيئا مما تقول ..
- حينما بدأت تصرخ بجمهور المصلين ، و تقول من رأى منكم منكرا فليغيره بيده .. وترفع يديك أمامهم ، كما لو كنت تحمل بندقية .. ! هل هذا حديث أم دعوة للعصيان المسلح .. تحرض فيها الشباب المخدوع بشعاراتكم الدينية ..؟!
- ولكـــن ..!
- هل تظن عناصرنا من الغباء بحيث لا يعرفون (شفرتك) السرية هذه ..؟
- أقسم أن هذا لم يحصل .. قد تكون عناصركم فهمت حركاتي خطأ ، و من هنا حصل سوء الفهم ..!
- لو سلمنا معك جدلا .. بأنك لا تقصد بالمنكر السياسة الحكيمة للدولة ، و أن التغيير باليد لا تقصد به التحريض على العصيان المسلح ، فماذا تقول عن دعوتك الصريحة (للانقلاب) على الدولة و تغييرنظام الحكم ؟!
- أنــا ...؟!
- لا تعد للمماطلة .. كنت تصرخ : فليغيره بيده ، فإن لم يستطع (فبقلبه) ، و ظللت تكررها ثلاث مرات : فبقلبه .. فبقلبه .. فبقلبه .. لقد مضى عهد الانقلابات يا معتوه ..!
قال الضابط عبارته هذه .. و نهض و أغلق الباب خلفه بعنف .. مزق السكون الذي يخيم على المكان . أخذ الصوت الذي أحدثه إغلاق الباب يتردد .. فخيل إليه كأنما يكرر جملة الضابط الأخيرة : " مضى عهد الانقلابات .. مضى عهد الانقلابات ..." ..! رغم المرارة التي يشعر بها ، إلا أنه لم يتمالك نفسه أن انفجر ضاحكا على (الذكاء) الخارق الذي يتمتع به الضابط .. و جواسيسه الذين كتبوا له التقارير!!
في الصباح كان خبر مداهمة بيت الخطيب و اعتقاله قد انتشر في الحي .. و وصل إلى كل بيت في المنطقة .. قالوا :
- يستأهل ..! لماذا يحشرنفسه في أمور لا شأن له بها..!!!
في الجمعة التالية ذهب الناس إلى المسجد ليروا الخطيب الجديد ، الذي أخذ يكرر لهم ما كان الخطيب الأول يردده قديما .. نفس الكلام ، و نفس المواضيع الرتيبة . بدأ الملل يسري إلى نفوس الحاضرين ، و أخذوا بالتبرم ، و لكن الخطيب ظل يكرر ما يقوله في كل جمعة ، رغم تناقص المصلين ، و نوم معظم الباقين ، لأن الخطيب الأول .. (خرج و لم يعد )..
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
دخل الخطيب المسجد يمشي ببطء ، كأنما يجر خطواته جرا . أصوات قراءة القرآن ، التي يضج بها المسجد .. بدأت بالخفوت . ما إن اعتلى المنبر حتى كانت الأصوات قد تلاشت .
فترة الآذان كانت فرصة لأن يتأمل في وجوه الحاضرين . أخذ ينقل طرفه في زوايا المسجد .. يرى الوجوم على الوجوه ، و يرى علامات التبرم .. بل يرى حتى النائمين !! و حفظ كذلك ، وجوه أولئك الذين يلازمون حضور خطبته ، و يتخذون مواقع ثابتة في المسجد! يعرفهم تماما و يعرف (الغرض) الذي جاءوا من أجله ..!!
لكن ماذا يفعل لهؤلاء الذين يُبدُون الضيق من رتابة الخطبة ، خصوصا الشباب منهم . إنه لا يملك أن يفعل أكثر من هذا . يريدونه أن يثور ساخطا على (النظام) ، و يلقي بحمم كلماته على رموزه (!!) .. و لكن هل ينتهي الأمر بهذا ؟!
إن (الحمم) التي يريده هؤلاء أن يلقيها لتزعزع أركان النظام ، كما يقولون ، يود أن يلقيها ، و لكن ليس للغرض الذي يقصدونه ، بل ليفجر العفن ، و الوهن ، و الانهزام داخل النفوس ، التي قبلت بهذا الوضع المهين !! إن الثورة على الخور و العبودية لغير الواحد الأحد ، داخل النفوس ، يجب أن تسبق الثورة على النظام ، و هو ما يريده هؤلاء المُستَعْبَدين داخليا .
كل هذه الأفكار طافت برأسه ، و هو يتأمل الحاضرين ، و يحاول أن يقرأ في ملامح كل شخص وقعت عيناه عليه، خبايا ما يدور في فكره . لم يقطع حبل تفكيره إلا قيام المؤذن بتقريب مكبر الصوت إليه ليبدأ الخطبة . كان قد قرر شيئا في دخيلة نفسه ، رحمةً بالشباب الغض ، الذي يراه يتقاطر على المسجد ، و كله رغبة في أن يسمع كلمة رفض للانحراف و الفساد ، الذي يدفع إليه المجتمع دفعا.. باسم التحديث و التقدم .. أو إدانة .. لانتهاك حقوقه وسرقة أمواله و خيراته ، أو حتى يسمع عبارة احتجاج على الواقع المزري الذي ارتكست فيه الأمة .. لعلها تمنحه بعض العزاء لكبريائه الجريحة .
استهل الخطبة بالحديث عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و مكانته في المجتمع المسلم ، و استرسل في الخطبة مستشهدا بالحديث النبوي : " من رأى منكم منكرا فليغيره ..." . كان صوته يعلو حينا و يخفت آن آخر .. و استغرق في حالة من التفاعل مع الحديث الشريف ، لم يشعر خلالها بأي شيء آخر ، سوى حركات التحفز التي بدأت تظهر على المصلين ، و الشباب منهم خاصة ..!
في نهاية الخطبة لم يدر ماذا قال بالضبط .. لكنه واثق من أنه قد تجاوز الخطوط العريضة للخطبة ، التي دونها على ورقة صغيرة يحملها بيده .
كان هناك تقريران قد كتبا عن الخطبة .. الأول يقول:
"الخطيب يحرض على العصيان المسلح" !!
أما التقرير الثاني فيؤكد صاحبه على أن :
" الخطيب يدعو إلى الإطاحة بالنظام عن طريق (انقلاب) " !!
إضافة إلى ملاحظات سجلها (أحدهم) .. أشار فيها إلى أن " الخطيب يصف أعمال الحكومة بالمنكر".. !
كان على وشك أن يهجع إلى النوم .. بعد أن صلى الوتر ، حينما بدأ طرق عنيف ينهال على باب البيت .
ارتدى ثوبه ثم توجه نحو الباب .. و نادى :
- من هناك ؟!
- افتح .. افتـــــح ..!
- من أنت ؟!
- افتح .. و إلا اضطررنا لدخول البيت بالقوة .. !
- ! ! ! ! !
فتح الباب فاندفع الطارق إلى داخل البيت و معه ثلاثة رجال .. قال مخاطبا إياه :
- النقيب عوض من المباحث .. سنفتش البيت ..
- الآن ..؟! إن أهلي و أطفالي نائمون ..!
- لا بأس نفتش البيت ثم يعودون للنوم ثانية ..!
أشار للرجال الذين معه بأن يبدأوا التفتيش ..
- لحظة لو سمحت لأخبر أهلي ..
بعد أن انتهى التفتيش .. دون نتيجة ، قال له :
- تعال معنا ..
- إلى أين .. و لمــاذا ؟
أجاب و هو يدفعه أمامه :
- ستعرف فيما بعد .. !
وضع القيد في يديه و أركب شاحنة نقل بضائع صغيرة ، لا نوافذ لها ، سوى فتحات صغيرة ينفذ منها الهواء . بعد مسيرة نصف ساعة توقفت السيارة ، فصعد أحدهم إليه وعصب عينيه ، ثم اقتاده إلى داخل أحد المباني . أحس أنه صعد درجاً ، وسار في أكثر من ممر ، مرّة ذات اليمين و أخرى ذات الشمال ، و أخيرا أدخل إحدى الغرف ، و رفعت العصابة عن عينيه .. لم ير شيئا لأن الغرفة كانت مظلمة . قبل أن يخرج الجندي ، و يغلق الباب وراءه ، أدار مفتاح الضوء الذي كان باهتا ، لدرجة أنه لا يكاد يصل إلى أطراف الغرفة رغم صغرها .
تبين في الغرفة فراشا قديما ممدودا .. و طاولة و كرسي من البلاستيك . تمنى لو أن الجندي لم يشعل هذا النور، لأنه كان من الضعف بحيث يرسم تظليلا للأشياء الموجودة في الغرفة ، بشكل يبعث على الوحشة .. فهاهو يرى ظله و كأنه عمود مشنقة ، تمثل لحيته الكثة حبلها ، و بدا له ظل الطاولة ، و هو يقف خلفــهـــــــا ، و كأنها منصة المشنقة ..!
تساءل .. و قد أحس بكآبة تنوء بكلكلها على صدره : هل هذا جزء من برنامج الليلة ؟!
استمر على هذا الحال ثلاث ليال .. لا يكلمه أحد ، و لا يرى أحداً ، سوى جندي يفتح الباب ، و يضع له طعاما دون أن يتكلم .
ظلت الأفكار .. و الخيالات السيئة تعاوده ، و في الليلة الرابعة .. أفاق من تخيلاته على صوت الباب يفتح ، فالتفت فإذا بنور الغرفة الباهت يتسرب إلى الممر عبر فتحة الباب.
قال يحدث نفسه ، و يكتم آهة تكاد تفجر صدره : " يا رب حتى هذا النور الباهت لم يطق وحشة الغرفة ففر إلى الممر .. وما عسى أن يجد في الممر ، أو في ما بعــــــد الممـــــــر ؟! " ..
دخل الشخص و لم يستطع أن يتبين وجهه ، و لكن عرف أنه ضابط ، حينما وقعت حزمة من الضوء على كتفه فلمعت النجمة النحاسية التي تعلوه .. سحب الكرسي فكان له صرير خيل إليه و هو ينبعث من وسط الظلام ممزقا السكون ، و كأنه نحيب امرأة ثكلى . جلس الضابط على الكرسي مستظهرا النور و واضعا يديه على الطاولة . بعد فترة من الصمت المخيف ، لم يسمع فيها إلا أنفاسه المتلاحقة ، سأله الضابط :
- أين تتدرب على السلاح ، ومن هم شركاؤك في الانقلاب ؟
- أي سلاح ، وأي انقلاب ؟
- لا تماطل نحن نعرف عنك كل شيء .. و كنا نرصد تحركاتك جميعها !!
- ماذا لدي حتى تعرفونه .. و ما هي تحركاتي ؟!
- الإنكار لا يفيدك .. بل يؤخر تنفيذ (الحكم) ضدك ..!
-أنا لا أعرف شيئا مما تقول .. !
- نحن نعرف يا .. فضيلة الشيخ .. تحرض الشباب على العصيان المسلح ، و تدعوهم للمشاركة في (الانقلاب) الذي تخطط له ..!
-من قال هذا الكلام ..؟!
- أنت قلته .. هل نسيت بهذه السرعة ؟! أم أن ذاكرتك ضعيفة إلى حد أنك لا تتذكر خطبتك قبل يومين ..؟!
- . . . . . . . . . .
- من رأى (منكرا) فليغيره بيده .. أو (فبقلبه) !!هــاه ..؟
- هذا ليس كلامي .. إنه حديث .. !
- هذا ما نريده منك .. الشخص الذي تحدث بهذا ، أن تدلنا على صاحب هذا الكلام .. نعرف أنه مغرر بك .. نريد الرأس المدبر ..
- يا رجل هذا (حديث) من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم ماذا عساك تفهم من الحديث أكثر مما دل عليه؟!
- هكذا إذن ، تُجَهِلنا بالدين .. أنت المسلم فقط .. أما الحكومة التي جعلت الإسلام مصدر رئيسي من مصادر التشريع ، هي برأيك ليست إسلامية .. !
- أنا لم أقل هــذا .. !
- و تنكر أيضا .. لدينا تسجيلا لخطبتك ، التي تصف فيها سياسة الحكومة بالمنكر ، و تحرض الشباب على الإعتراض عليها بالعصيان المسلح ..!
- هذا لم يحصل قط .. و أنا حينما استشهدت بالحديث الشريف لم أعن شيئا مما تقول ..
- حينما بدأت تصرخ بجمهور المصلين ، و تقول من رأى منكم منكرا فليغيره بيده .. وترفع يديك أمامهم ، كما لو كنت تحمل بندقية .. ! هل هذا حديث أم دعوة للعصيان المسلح .. تحرض فيها الشباب المخدوع بشعاراتكم الدينية ..؟!
- ولكـــن ..!
- هل تظن عناصرنا من الغباء بحيث لا يعرفون (شفرتك) السرية هذه ..؟
- أقسم أن هذا لم يحصل .. قد تكون عناصركم فهمت حركاتي خطأ ، و من هنا حصل سوء الفهم ..!
- لو سلمنا معك جدلا .. بأنك لا تقصد بالمنكر السياسة الحكيمة للدولة ، و أن التغيير باليد لا تقصد به التحريض على العصيان المسلح ، فماذا تقول عن دعوتك الصريحة (للانقلاب) على الدولة و تغييرنظام الحكم ؟!
- أنــا ...؟!
- لا تعد للمماطلة .. كنت تصرخ : فليغيره بيده ، فإن لم يستطع (فبقلبه) ، و ظللت تكررها ثلاث مرات : فبقلبه .. فبقلبه .. فبقلبه .. لقد مضى عهد الانقلابات يا معتوه ..!
قال الضابط عبارته هذه .. و نهض و أغلق الباب خلفه بعنف .. مزق السكون الذي يخيم على المكان . أخذ الصوت الذي أحدثه إغلاق الباب يتردد .. فخيل إليه كأنما يكرر جملة الضابط الأخيرة : " مضى عهد الانقلابات .. مضى عهد الانقلابات ..." ..! رغم المرارة التي يشعر بها ، إلا أنه لم يتمالك نفسه أن انفجر ضاحكا على (الذكاء) الخارق الذي يتمتع به الضابط .. و جواسيسه الذين كتبوا له التقارير!!
في الصباح كان خبر مداهمة بيت الخطيب و اعتقاله قد انتشر في الحي .. و وصل إلى كل بيت في المنطقة .. قالوا :
- يستأهل ..! لماذا يحشرنفسه في أمور لا شأن له بها..!!!
في الجمعة التالية ذهب الناس إلى المسجد ليروا الخطيب الجديد ، الذي أخذ يكرر لهم ما كان الخطيب الأول يردده قديما .. نفس الكلام ، و نفس المواضيع الرتيبة . بدأ الملل يسري إلى نفوس الحاضرين ، و أخذوا بالتبرم ، و لكن الخطيب ظل يكرر ما يقوله في كل جمعة ، رغم تناقص المصلين ، و نوم معظم الباقين ، لأن الخطيب الأول .. (خرج و لم يعد )..
تعليق