الشيخ العقلا ؛ علم شامخ في زمان الانحطاط
كنت أبحث عن طريق للقائه بأي وسيلة ، حاولت كثيراً عن طريق رفاقه و "زملائه "، اعتذر الجميع بأدب خوفاً من الأوضاع المتأزمة وعيون المخبرين وأقلامهم ، بقينا في حيرة ، فأيامنا هناك معدودة محسوبة ، إلى أن انبرى أخونا ... فرج الله كربه فقال : أنا أوصلكم إليه بنفسي ، وفي سيارتي ، ولا عجب فأخونا من أهل الجهاد ، غبر قدميه في أفغانستان والبوسنة ، وكان من عشاقه ومحبيه .
انطلقت بنا سيارته تنهب المسافات ، وتطوي المراحل، وكان هذا بمثابة الإقدام على عملية بطولية ، فالهاجس الأمني كان كبيراً ، كانت تلك الأيام عصيبة حقاً ، إذ لم يمض على قتل أبطال الرياض الأربعة سوى أيام معدودات ، والشيخ من المعروفين بمعارضتهم لبني سعود ، فلم يكن يجرؤ على هذه المغامرة ، ويقدم لنا هذه الخدمة الجليلة إلا رجل مقدام ، فقد كنا مطلوبين هناك ، وكان إخواننا آنذاك يسكنون في سجن الرويس بجدة ، يفطرون على إبر الهلوسة ، وتزورهم السياط والعصي صباح مساء ، وباعتبارنا "وافدين" فليس لنا الحق في ما سوى مكة والمدينة وجدة ، إذ كان هذا هو ما جادت به نفوس بني سعود على المسلمين من تركة أبيهم .
لم نكن نعرف مكانه ، لكن كان يحدونا السؤال الحذر ، والاسترشاد المترقب ، إلى أن وصلنا بشق الأنفس ، واستقبلتنا لافتة عتيقة كتب عليها : مزرعة العقلا .
دخلنا ثلاثتنا ، وأنا أحاول رسم صورة في ذهني لهذا العالم الذي سمعنا عنه الكثير ، نجحت بعد مجهود ذهني في رسم صورة للشيخ ، ولكن ما كان أبعدها عن الحقيقة ..
أدخلونا على مصلى الشيخ ، كان المصلى مفروشاً بالحصى محوطاً بحاجز من الحجارة ، كان الوقت عصراً ، وكان الشيخ قد فرغ لتوه من صلاة العصر ، وبدأ في إلقاء درسه في "جموع المصلين" و " جمهور الطلبة " .
أين الشيخ ؟
ها هو ذاك يلقي درسه !!
تبخرت الصورة الذهنية ، وحصحص الحق ، كان الشيخ مرتدياً قميصاً قصير الكمين غير مكوي ، حاسر الرأس ، اقتربت قليلاً لأسمع كلماته ، وإذا بي أسمعه يشرح قول سفيان بن عيينة : ( من فسد من علمائنا ففيه شبه اليهود ، ومن فسد من عُبَّادنا ففيه شبه النصارى ) .
لم يكن على الشيخ شيء من الأبهة المزيفة ، لكنه والله كان مهيباً للناظر ، وعادت ذاكرتي بسرعة إلى الإمام أحمد ، وزهده ومواقفه من السلطان ، وقلت في نفسي : سار هذا الشيخ الحنبلي على درب إمامه فهو المتبع له حقاً !
كانت جموع الحاضرين عبارة عن شخصين مستمعين ، والثالث يظهر أنه جاء لحاجة ، وكأن حضور الدرس في تلك الأيام العصيبة ، مغامرة كبيرة !
رحب الشيخ بنا وأخذنا إلى خيمته ، وطلب من أحد الصبيان إحضار القهوة ..
ابتدأ رفيقنا الحديث بسؤال الشيخ : هل يجوز دفع الأموال للجماعات التي تقاتل الأنظمة العلمانية ؟
فقال الشيخ : بل يجب ، من الزكاة ومن غيرها فقال أحد الحاضَرينِ : لكن يا شيخ هذه الجيوش فيها كثير من المصلين .
فغضب الشيخ وقال : ولماذا يبقون في جيوش العلمانيين ويقاتلون معهم ؟ هؤلاء لا يعذرون .
قلت له : يا شيخنا نحن من ليبيا من الجماعة الإسلامية المقاتلة ،جئنا لنحكي للعلماء عن مأساتنا وقضيتنا ، فقال : أنا أتابع أخباركم أسبوعياً ، ويخبرني بها " فلان " ثم قال لي: يابني ، كثير من علماء هذه البلاد فاسدون ، يريدون من الشباب أن يكونوا إمعة ويقولون : لا يجوز الإنكار العلني على ولي الأمر .
قال له ذلك المعترض : لكن عندنا الشيخ " فلان " في الجامعة - نسيت اسمه - قال إن النقد العلني يشبه الخروج على الحاكم ويثير الفتنة وهذا لا يجوز ?
فرد عليه الشيخ بقوله : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم وأفضل الخلق كان الصحابة يناقشونه علناً في اجتهاداته غيرالمبنية على الوحي ، ثم ذكر قصة السعدين رضي الله عنهما يوم الأحزاب ، وقال : لم يقل لهما ليس لكما أن تعترضا لأن هذا يثير الفتنة فمن هو الملك أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم انتقد "ربيع المدخلى" ، وقال بحسرة : أنا وقعت له على رسالته في الأسماء والصفات ، وبتوقيعي صار أستاذاً ، كانت الرسالة جيدة ولكن لم أعلم أنه سيصير إلى ما صار إليه - أو كلاماً هذا معناه -
وبعد خلو المجلس حدثته عن بعض عمليات المجاهدين في ليبيا فبدأ ألشيخ بالتكبير ، ثم قال أوصي الإخوة بالاهتمام بالإعداد والتدريب الجيد ، وأن يحرصوا عليه ، وأوصيهم ألا يرهبوا قوة الطاغوت وبطشه ، وأوصيهم ألا يستبطئوا النصر فإنه قادم .
صلينا معه المغرب ثم ودعناه فقال لنا مشفقاً : إذا خرجتم فاحذروا ، فكم من زائر أخذته المخابرات عند خروجه من عندي !
خرجنا من عنده وفي النفس معانٍ عظيمة ودروس تربوية ، الفعال فيها أبلغ من المقال .
نعم والله .. إن أعظم شيء أثر في نفسي هو زهده في المناصب والأبهة وهو الذي لو أراد الدنيا لاغترف منها ما شاء ، ولو ابتغى أن يبيع دينه بعرض منها لاستطاع ، كيف لا وهو شيخ المشايخ الكبار أمثال الشيخ العثيمين وغيره ، ولكنه آثر أن يكتفي بقول الحق من خيمته ومزرعته التي لا منة فيها للطواغيت عليه ، فرفع الله درجته ، ووضع له القبول ، وصار مرجعاً للمجاهدين يؤمونه من كل فج عميق ، ويستفتونه من مشارق الأرض ومغاربها لما علموا من علمه وورعه وزهده .
لا أعرف إن كان هناك من ترجم للشيخ ..
ولكني أهيب بطلبته ومحبيه أن يترجموا له ترجمة وافية , فإن هذا من الوفاء لهذا العلم الجليل لعل الله أن يحيي بسيرته قلوباً ويحرك به آخرين ليحملوا اللواء من بعده .
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
فاحفظ لنفسك عند موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثان
ونسأل الله تعالى أن يعلي درجته في عليين ، وأن يبلغه منازل الشهداء ... آمين
والحمد لله رب العالمين
[أبو أنس الليبي]
كنت أبحث عن طريق للقائه بأي وسيلة ، حاولت كثيراً عن طريق رفاقه و "زملائه "، اعتذر الجميع بأدب خوفاً من الأوضاع المتأزمة وعيون المخبرين وأقلامهم ، بقينا في حيرة ، فأيامنا هناك معدودة محسوبة ، إلى أن انبرى أخونا ... فرج الله كربه فقال : أنا أوصلكم إليه بنفسي ، وفي سيارتي ، ولا عجب فأخونا من أهل الجهاد ، غبر قدميه في أفغانستان والبوسنة ، وكان من عشاقه ومحبيه .
انطلقت بنا سيارته تنهب المسافات ، وتطوي المراحل، وكان هذا بمثابة الإقدام على عملية بطولية ، فالهاجس الأمني كان كبيراً ، كانت تلك الأيام عصيبة حقاً ، إذ لم يمض على قتل أبطال الرياض الأربعة سوى أيام معدودات ، والشيخ من المعروفين بمعارضتهم لبني سعود ، فلم يكن يجرؤ على هذه المغامرة ، ويقدم لنا هذه الخدمة الجليلة إلا رجل مقدام ، فقد كنا مطلوبين هناك ، وكان إخواننا آنذاك يسكنون في سجن الرويس بجدة ، يفطرون على إبر الهلوسة ، وتزورهم السياط والعصي صباح مساء ، وباعتبارنا "وافدين" فليس لنا الحق في ما سوى مكة والمدينة وجدة ، إذ كان هذا هو ما جادت به نفوس بني سعود على المسلمين من تركة أبيهم .
لم نكن نعرف مكانه ، لكن كان يحدونا السؤال الحذر ، والاسترشاد المترقب ، إلى أن وصلنا بشق الأنفس ، واستقبلتنا لافتة عتيقة كتب عليها : مزرعة العقلا .
دخلنا ثلاثتنا ، وأنا أحاول رسم صورة في ذهني لهذا العالم الذي سمعنا عنه الكثير ، نجحت بعد مجهود ذهني في رسم صورة للشيخ ، ولكن ما كان أبعدها عن الحقيقة ..
أدخلونا على مصلى الشيخ ، كان المصلى مفروشاً بالحصى محوطاً بحاجز من الحجارة ، كان الوقت عصراً ، وكان الشيخ قد فرغ لتوه من صلاة العصر ، وبدأ في إلقاء درسه في "جموع المصلين" و " جمهور الطلبة " .
أين الشيخ ؟
ها هو ذاك يلقي درسه !!
تبخرت الصورة الذهنية ، وحصحص الحق ، كان الشيخ مرتدياً قميصاً قصير الكمين غير مكوي ، حاسر الرأس ، اقتربت قليلاً لأسمع كلماته ، وإذا بي أسمعه يشرح قول سفيان بن عيينة : ( من فسد من علمائنا ففيه شبه اليهود ، ومن فسد من عُبَّادنا ففيه شبه النصارى ) .
لم يكن على الشيخ شيء من الأبهة المزيفة ، لكنه والله كان مهيباً للناظر ، وعادت ذاكرتي بسرعة إلى الإمام أحمد ، وزهده ومواقفه من السلطان ، وقلت في نفسي : سار هذا الشيخ الحنبلي على درب إمامه فهو المتبع له حقاً !
كانت جموع الحاضرين عبارة عن شخصين مستمعين ، والثالث يظهر أنه جاء لحاجة ، وكأن حضور الدرس في تلك الأيام العصيبة ، مغامرة كبيرة !
رحب الشيخ بنا وأخذنا إلى خيمته ، وطلب من أحد الصبيان إحضار القهوة ..
ابتدأ رفيقنا الحديث بسؤال الشيخ : هل يجوز دفع الأموال للجماعات التي تقاتل الأنظمة العلمانية ؟
فقال الشيخ : بل يجب ، من الزكاة ومن غيرها فقال أحد الحاضَرينِ : لكن يا شيخ هذه الجيوش فيها كثير من المصلين .
فغضب الشيخ وقال : ولماذا يبقون في جيوش العلمانيين ويقاتلون معهم ؟ هؤلاء لا يعذرون .
قلت له : يا شيخنا نحن من ليبيا من الجماعة الإسلامية المقاتلة ،جئنا لنحكي للعلماء عن مأساتنا وقضيتنا ، فقال : أنا أتابع أخباركم أسبوعياً ، ويخبرني بها " فلان " ثم قال لي: يابني ، كثير من علماء هذه البلاد فاسدون ، يريدون من الشباب أن يكونوا إمعة ويقولون : لا يجوز الإنكار العلني على ولي الأمر .
قال له ذلك المعترض : لكن عندنا الشيخ " فلان " في الجامعة - نسيت اسمه - قال إن النقد العلني يشبه الخروج على الحاكم ويثير الفتنة وهذا لا يجوز ?
فرد عليه الشيخ بقوله : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم وأفضل الخلق كان الصحابة يناقشونه علناً في اجتهاداته غيرالمبنية على الوحي ، ثم ذكر قصة السعدين رضي الله عنهما يوم الأحزاب ، وقال : لم يقل لهما ليس لكما أن تعترضا لأن هذا يثير الفتنة فمن هو الملك أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم انتقد "ربيع المدخلى" ، وقال بحسرة : أنا وقعت له على رسالته في الأسماء والصفات ، وبتوقيعي صار أستاذاً ، كانت الرسالة جيدة ولكن لم أعلم أنه سيصير إلى ما صار إليه - أو كلاماً هذا معناه -
وبعد خلو المجلس حدثته عن بعض عمليات المجاهدين في ليبيا فبدأ ألشيخ بالتكبير ، ثم قال أوصي الإخوة بالاهتمام بالإعداد والتدريب الجيد ، وأن يحرصوا عليه ، وأوصيهم ألا يرهبوا قوة الطاغوت وبطشه ، وأوصيهم ألا يستبطئوا النصر فإنه قادم .
صلينا معه المغرب ثم ودعناه فقال لنا مشفقاً : إذا خرجتم فاحذروا ، فكم من زائر أخذته المخابرات عند خروجه من عندي !
خرجنا من عنده وفي النفس معانٍ عظيمة ودروس تربوية ، الفعال فيها أبلغ من المقال .
نعم والله .. إن أعظم شيء أثر في نفسي هو زهده في المناصب والأبهة وهو الذي لو أراد الدنيا لاغترف منها ما شاء ، ولو ابتغى أن يبيع دينه بعرض منها لاستطاع ، كيف لا وهو شيخ المشايخ الكبار أمثال الشيخ العثيمين وغيره ، ولكنه آثر أن يكتفي بقول الحق من خيمته ومزرعته التي لا منة فيها للطواغيت عليه ، فرفع الله درجته ، ووضع له القبول ، وصار مرجعاً للمجاهدين يؤمونه من كل فج عميق ، ويستفتونه من مشارق الأرض ومغاربها لما علموا من علمه وورعه وزهده .
لا أعرف إن كان هناك من ترجم للشيخ ..
ولكني أهيب بطلبته ومحبيه أن يترجموا له ترجمة وافية , فإن هذا من الوفاء لهذا العلم الجليل لعل الله أن يحيي بسيرته قلوباً ويحرك به آخرين ليحملوا اللواء من بعده .
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
فاحفظ لنفسك عند موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثان
ونسأل الله تعالى أن يعلي درجته في عليين ، وأن يبلغه منازل الشهداء ... آمين
والحمد لله رب العالمين
[أبو أنس الليبي]
تعليق