بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله القائل في كتابه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
والصلاة الكاملة وأفضل السلام على محمد بن عبد الله الذي صح عنه أنه قال: (إنّ الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم).
والقائل أيضاََ: (إنَََّ الرجل ليعمل بعمل الآخرة فيما يبدوا للنّاس حتي ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراعاََ فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النّار... الحديث).
إخواني حفظكم الله ورعاكم:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
أسال الله أن تكونوا جمعياََ طيبين.
وبعد...
أضع بين يدي كلماتي هذه ما مر عليكم من القرآن والحديث، عرفانا من العبد الفقير لرحمة ربه وموالاه، وعلماً لا ينازعني فيه شك - علم الله - أن عمل أهل الجنة والخالصين من عذاب الله غير مرتبط بمكان أو بلاد أو قطر ولا هيئة أو تنظيم بعينه أو قضية محددة أو زمرة مخصوصة، بل هو توفيق الله وهدايته وأصطفائه.
ثم كل ذلك محفوف بمخاطر العجب والكبر والتنكر لصلاح الآخرين وإزدراء الناس فتلكم المهلكات نسأل الله بمنّه وكرمه الإخلاص في القول والعمل.
أيا رب عاملنا بلطفك إننا نرى بجميل الظن ما أنت فاعل
أعذنا من الأهواء والفتن التي أواخرها توهي القوى والأوائل
وحبب إلينا الحق واعصم قلوبنا من الزيغ والأهواء يا خير عاصم
إخواني...
إنما هي كلمات مزجتها آداب الرفقة وماضي الصحبة والخوف من سوء المنقلب في الدين والنفس، فأستعين بالله فأقول:
قال الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
يا إخوتي...
بكل جدية وموضوعية وإختصار وصفاء أقول - وقد وصلنا إلى قعر الأزمة والكارثة، وبكل التسليم بقضاء الله تعالي والرضى بقدره خيره وشره -:
إذا - بكل ذلك - إلتفتنا إلى تحليل واقعنا وأسباب ما جرى لنا، ونحن الذين نعتقد أننا نحمل خلاصة دعوة الحق ورايته الصافية وقد قدّم قادتنا وكوادرنا وباقي إخواننا جهودهم بكل إخلاص وتضحية، لنسأل لماذا كانت النتيجة في أنفسنا هكذا؟!
وما هي حصتنا من قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}.
وإلى أي مدى من المنطق الصحيح؛ لا نتحمّل مسؤوليّة هذه النتائج؟! وهل بإمكاننا إلقاءها صادقين محقين على عوامل خارجية، ونردد مستريحين؛ قدّر الله وما شاء فعل؟! وإلى أي مدى نحن مسؤولون لمخالفتنا السنن ولعدم أخذنا بالأسباب الممكنة؟
ليس هذا من أجل انتقاص أحد ولا التشفّي في المخطئين... لا... إنما من أجل فعل إيجابي يحفظ للسابقين منزلتهم وللعاملين عملهم، متخذين من هدى ربنا سبيل رشد إذ يأمرنا أن نكون من الصالحين: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.
وعلينا أن نتعرّض لعللنا بلا حرج ودراستها واستعراض أساليب عملنا وتناولها بعيداً عن التقديس، لأنها آلة ووسيلة، وبذلك يتم تطويرها أو إلغاؤها أو إستحداث ما يناسب الوقت والحال مما لم يسبق تجربته كأسلوب، وأحياناً تكون فيها التجارب والأساليب السابقة مستهلكة وتجاوزها الزمن، بمعنى أنها لم تكن خطأ ولم تعد صواباً.
سائل يسأل؛ هل خسرنا حربنا مع عدونا في كل الميادين وفشلنا في تحقيق الأهداف التي وضعناها؟ وعقمنا استحداث الوسيلة وانكسرنا في المواجهة؟ وقائمة هائلة من الخسائر صبّت علينا؟!
فهل يجب علينا أن نعترف بكل ذلك؟! ونستسلم للواقع؟!
أُجيب محاولاً الوضوح:
نعم منْ ذلك كان في أرض المعركة، ولكن المحاربون منا خرجوا على حالين؛
أحدهما؛
تخلى عن مواصلة السعي بنفس المنهج وعلى ذات الوتيرة لاحقاق الحق وتشعبت بهؤلاء الوديان، نسأل الله لجميعنا العفو والعافية وأن يرد من صار منا إلى هذا الحال ردَّا جميلاً - وبدون سب ولا شتائم ولاغيبة ولا أسماء -
إخواني...
إسمحوا لي أن أتملى في هذا المقام لأقول؛ إن هذا حال الكثير منا - اللهم لا شماتة - طأطؤوا هاماتهم وانكسرت همتهم، انبطحوا تدوسهم سلاسل الدبابات الأمريكية وأحذية جنودها، وصمت أذانهم هدير طائراتهم وصواريخهم عن سماع صوت الحق تعالى يصدع؛ "الله اكبر حي على الفلاح"، {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}، بشرط مهم؛ {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
ولكن للأسف خارت قواهم، ومهدودة عزائمهم، وهم يستسلمون لعالمية العدوان ولقانون الغزاة.
نعم، الأمثلة صارخة الوضوح على ذلك مما يغنى عن السرد، ومهما بالغوا وتفنّنوا في المخارج والتسميات والاعذار والتعهدات؛ فهم - وبكل صراحة - قد انتكسوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وأما الفريق الثاني؛
من عرف أنها جولة تحقق فيها للعدو زيادة في الجرم وتوغلاً في الكفر، وخرجنا منها بزيادة إيمان بموعود الله سبحانه وتعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}؛ هذا الفريق الذي أثخنته الجراح لم تنحني هامته ولم تنكسر همته، يناطح القرن الحادي والعشرين ويكسر فيه الروم ذات القرون، ليجعله قرن الإسلام وسيكون بإذن الله تعالى.
نعم، هذه هي نهاية المسير - بإذن الله تعالى - وهي محصلة النتيجة في جسد المحاربين الذين لم يلقوا أسلحتهم؛ أصالة الأمة وعزتها وشموخها، طليعة الركب... الأشلاء والدماء التي ستُذهب الزبد والغثاء وتكشف الزور والخداع، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}.
إنّ ذلك القضاء والقدر كتبه من قال في كتابه تبارك وتعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}، {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
وكل ذلك لسبب عظيم جليل مقدّس، لخّصه الشعار الجليل؛ "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله"، ولأنّ الله أكبر، ولأنّه لا إله إلا الله؛ فليعل هبل فالله أعلى وأجلّ.
إنّ هذه العقيدة المقاتلة التي صمد عليها القلّة المتناثرة هنا وهناك؛ هي وحدها التي تستطيع أن تتأقلم مع شراسة هجمة الأعداء عليها، وبالتالي تُقلّم أظافره الناخرة في أجسادنا ونعود عليه بالشّراسة نفسها، ولكن ليس في الجسد بل لنقتلع القلب من جذره بإذن الله؛ {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
آن الأوان لأن يصير القتل والتدمير والإزهاق والاثخان بكل مقدور مسموح؛ هو الحكم بين فسطاط الدين والمجاهدين المقاتلين وغيرهم من ملل الكفر والردة ومن في سياجهم.
هذا العدو الذي يبدو للكل عنفوانه وقوته، المحاربون وحدهم هم الذين قدروا له قدره، فإن إتّفق الجميع في شدّة الضرب وشراسة المعركة والحملة التي استباح بها منّا الداخل والخارج بكلّ وسائل البطش والتنكيل بالجهاديين وقياداتهم وعناصرهم، وتجاوز ذلك إلى البطش بالأعراض والتنكيل بكل ما وصلته أيديهم من الأباء والأمهات والنساء والأطفال والدين والحياة، وتعدّى ذلك كل طوائف الصحوة الإسلامية، ثم بالتبع وبالطبع العالم الإسلامي في مخطّط ظاهر للعيان يراد به الإسلام ودمار ديار المسلمين.
أقول: إن اتفق الجميع في هذا التوصيف الأليم إلا أنّه نال قصب السبق وبجدارة مستحقة لا منازع فيها من أحد؛ إنهم المجاهدون، المحاربون، استلموا راية رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم.
والحكم هو التاريخ الماضي والمستقبل.
قال الشيخ عبد الله عزام رحمه الله تعالى: (إني أرى أنه لا يعفى عن مسؤوليّة ترك الجهاد شيء، سواء كان ذلك دعوةًَ أو تأليفاً أو تربيةً، إني أرى أنّ كلّ مسلم في الأرض اليوم منوط في عنقه تبعة ترك الجهاد والقتال في سبيل الله، وكل مسلم يحمل وزر ترك البندقيّة وكل من لقي الله - غيرُ أولى الضرر - دون أن تكون البندقيّة في يده فإنه يلقى الله آثماً، لأنه تارك للقتال، والقتال الآن فرض عين على كل مسلم في الأرض) أهـ.
وعن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الجهاد حلواً خضراً ما قطر القطر من السماء، وسيأتي على الناس زمانٌ يقول فيه قراءٌ منهم؛ ليس زمان جهاد، فمن أدرك ذلك الزمان فنعم زمان الجهاد)، قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدٌ يقول ذلك؟! فقال: (نعم من عليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين).
وفى النسائى بسند صحيح؛ أنّ رجلاً جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أذال الناس الخيل ووضعوا السلاح وقالوا؛ لا جهاد، قد وضعت الحرب أزورها فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه وقال: (كذبوا الآن جاء دور القتال، ولاتزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويُزيغ الله لهم قلوب أقوامٍ ويرزقهم منهم، حتى تقوم الساعة وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة).
نعم، إنّ الانتصارات في تجارب المواجهات والقتال قليلة إذا قيست بالتجارب الفاشلة، ولكنّ دروس الفشل أكثر إغناءً من دروس الأنتصارات وأفدح منها ثمناً، وهي بفوائدها تسير بالعاملين نحو النصر المؤزر.
يقول ابن القيم في ذلك: (أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة ذلوّا وانكسروا وخضعوا فاستوجبوا منه العز والنصر، فإن خُلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}، وقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}، فهو سبحانه إذا أراد أن يعز عبده وينصره كسره أولاً ويكون جبره له ونصره على مقدار ذله وانكساره) اهـ.
وراية الحق تبكى أهل نصرتها فليس في أرضنا من يرتجى حينا
وأصبح القرد والخنزير يحكمنا وارتج في حلقه دمع المواسينا
غبار خيل الوغى تشتاقه رئتي ومقبض السيف يبكي من تجافينا
هل ينبري فارس لله بيعته يحي قلوبا ً عتت عن أمر بارينا
ويبعث الطهر نوراً في أجبتها ويقتفي راشداً درب النبيينا
ثم إن هناك مسألة يجب الوعظ فيها وكشفها وعدم قبول أي لبس عليها؛
وهي أن انتصار المجاهدين على الأعداء وتحقيق نتائج الانتصار وأهدافه بالحكم بما أنزل الله تعالى، هو في الحقيقة انتصار للأمة والشعوب المسلمة ونعمة من الله عليها لما تستأهل ذلك أحوالها.
فهل أحوال هذه الشعوب المسماة "إسلامية" اليوم تستأهل فرج الله؟!
فأكثر المعتقدات فاسدة، وغالب الأفكار ضالة، وسلوك الأكثرية منحرف، والعادات والتقاليد مستوردة من الكفار، واكثر المكاسب من الحرام، وقد عمّ الزنا والفجور والخلاعة والاختلاط والسفور، وتقنن أكل الربا، وفشا أكل أموال الناس بالباطل، وظهر الغش والخداع والرذيلة، وغدا التسابق في ميادين الميوعة والسفه مألوفاً، وصار التيه في ميادين الرفاهية والعبث والبذخ طابع حياة الميسورين، والحسد والضغينة والنفاق طابع أكثر المعوزين.
وصار المصلون في الناس قلة، وأكثر الصائمين يفطرون في رمضان على موائد المرح والسهر على المعاصي وبرامج الكفر بالله، يفتتحون صيامهم بترك صلاة الفجر بعد ما ملؤوا ليلهم بالموبقات، وصار لا يؤدي من الناس الزكاة إلا أقلهم، ولا يحج إلا النادر منهم وأكثر حجهم نزهة وفخراً وتجارة.
فأين القوم الذين يسمون مسلمين من حقيقة الإسلام؟! وأين هم من منازل الإيمان بالله سبحانه وتعالى وصفاته وملائكته وكتبه ورسله؟! وماذا بقي على إيمانهم باليوم الآخر وقضاء الله خيره وشره؟!
بالله عليكم هل هذا حال أمة تستحق فرج الله ونصره؟! اللهم كلا!
وهل واقع حكامهم المرتدين الظالمين الكافرين الفاسقين يستأهل الفرج والعون؟! اللهم كلا!
وأعتقد أن هذا يفسر ما نحن فيه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.
إن انتصار معظم الجهاديين حيثما قام جهاد؛ كان نصراً خاص بهم.
لقد استشهدوا ولاقوا ربهم شهداء؛ {فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، لقد أعطى الله المقبولين المخلصين منهم النصر الأعظم وقربهم إليه وخلصهم من هذا الواقع المنكود.
إن النصر الظاهر المشهود بهزيمة الأعداء الكافرين وانهيار الطغاة المرتدين واندحار الظلمة والفاسقين وتحكيم شرع رب العالمين في الأمة هو نعمة تتنزل من الله على هذه الشعوب لمّا تستأهلها بعد، وهذا ما تقتضيه السنن وتدل عليه شواهد التاريخ.
العين تبكى من مصابك أمتي فإلى متى يأمتي ننعاك؟!
هذه هي أمتنا بلا زيف وتزوير، أعيت مناديها، واستمرئت حبائل مغتصبيها، وتلذذت بقهر جلاديها، ترسف بالنوم في أغلالها.
نامي فإن لم تشبعي من يقظة فمن المنام
نامي على زبد الوعود يُداف في عسل الكلام
نامي تزرك عرائس الأحلام في جنح الظلام
نامي إلى يوم النشور ويوم يؤذن بالقيام
نامي على المستنقعات تموج باللجج الطوامي
نامي على قتل الرضيع كأنه سجع الحمام
نامي على لون الدماء كأنه شهد الطعام
نامي على هتك النسا كأنه طهر التمام
نامي على ذبح الرجال كأنهم أُضحى اللئام
نامي على مهد الأُذى وتوسدي خدّ الرغام
واستفرشي صُمّ الحصى وتلحفي ظلل الغمام
فالشمس لن تؤذيك بعدُ بما توهج من ضرام
والنور لن يعمي جفوناً قد جبلن على الظلام
نامي إليك تحيتي وعليك نائمة سلامي
إن النظرية الجهادية العملية لا تولد في رؤوس المؤلفين والمفكرين فوق المكاتب، ولا من خلال حياة الدعة المريحة، ولا تتنزل على أصحابها من قمة الهرم التنظيمى لحركتهم، بل تولد من خنادق القتال وساحات الأعداء ومسار المحنة وأتونها.
نظرية الجهاد ومبادئه تكلف أصحابها العناء، وتجعلهم يدفعون ثمن كل خطأ وتجربة من دماءهم ومعاناتهم، حتى يلتمس اللاحقون ما يناسب كل مرحلة قادمة من الخطوات الصائبة.
يتبع..............
الحمد الله القائل في كتابه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
والصلاة الكاملة وأفضل السلام على محمد بن عبد الله الذي صح عنه أنه قال: (إنّ الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم).
والقائل أيضاََ: (إنَََّ الرجل ليعمل بعمل الآخرة فيما يبدوا للنّاس حتي ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراعاََ فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النّار... الحديث).
إخواني حفظكم الله ورعاكم:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
أسال الله أن تكونوا جمعياََ طيبين.
وبعد...
أضع بين يدي كلماتي هذه ما مر عليكم من القرآن والحديث، عرفانا من العبد الفقير لرحمة ربه وموالاه، وعلماً لا ينازعني فيه شك - علم الله - أن عمل أهل الجنة والخالصين من عذاب الله غير مرتبط بمكان أو بلاد أو قطر ولا هيئة أو تنظيم بعينه أو قضية محددة أو زمرة مخصوصة، بل هو توفيق الله وهدايته وأصطفائه.
ثم كل ذلك محفوف بمخاطر العجب والكبر والتنكر لصلاح الآخرين وإزدراء الناس فتلكم المهلكات نسأل الله بمنّه وكرمه الإخلاص في القول والعمل.
أيا رب عاملنا بلطفك إننا نرى بجميل الظن ما أنت فاعل
أعذنا من الأهواء والفتن التي أواخرها توهي القوى والأوائل
وحبب إلينا الحق واعصم قلوبنا من الزيغ والأهواء يا خير عاصم
إخواني...
إنما هي كلمات مزجتها آداب الرفقة وماضي الصحبة والخوف من سوء المنقلب في الدين والنفس، فأستعين بالله فأقول:
قال الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
يا إخوتي...
بكل جدية وموضوعية وإختصار وصفاء أقول - وقد وصلنا إلى قعر الأزمة والكارثة، وبكل التسليم بقضاء الله تعالي والرضى بقدره خيره وشره -:
إذا - بكل ذلك - إلتفتنا إلى تحليل واقعنا وأسباب ما جرى لنا، ونحن الذين نعتقد أننا نحمل خلاصة دعوة الحق ورايته الصافية وقد قدّم قادتنا وكوادرنا وباقي إخواننا جهودهم بكل إخلاص وتضحية، لنسأل لماذا كانت النتيجة في أنفسنا هكذا؟!
وما هي حصتنا من قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}.
وإلى أي مدى من المنطق الصحيح؛ لا نتحمّل مسؤوليّة هذه النتائج؟! وهل بإمكاننا إلقاءها صادقين محقين على عوامل خارجية، ونردد مستريحين؛ قدّر الله وما شاء فعل؟! وإلى أي مدى نحن مسؤولون لمخالفتنا السنن ولعدم أخذنا بالأسباب الممكنة؟
ليس هذا من أجل انتقاص أحد ولا التشفّي في المخطئين... لا... إنما من أجل فعل إيجابي يحفظ للسابقين منزلتهم وللعاملين عملهم، متخذين من هدى ربنا سبيل رشد إذ يأمرنا أن نكون من الصالحين: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.
وعلينا أن نتعرّض لعللنا بلا حرج ودراستها واستعراض أساليب عملنا وتناولها بعيداً عن التقديس، لأنها آلة ووسيلة، وبذلك يتم تطويرها أو إلغاؤها أو إستحداث ما يناسب الوقت والحال مما لم يسبق تجربته كأسلوب، وأحياناً تكون فيها التجارب والأساليب السابقة مستهلكة وتجاوزها الزمن، بمعنى أنها لم تكن خطأ ولم تعد صواباً.
سائل يسأل؛ هل خسرنا حربنا مع عدونا في كل الميادين وفشلنا في تحقيق الأهداف التي وضعناها؟ وعقمنا استحداث الوسيلة وانكسرنا في المواجهة؟ وقائمة هائلة من الخسائر صبّت علينا؟!
فهل يجب علينا أن نعترف بكل ذلك؟! ونستسلم للواقع؟!
أُجيب محاولاً الوضوح:
نعم منْ ذلك كان في أرض المعركة، ولكن المحاربون منا خرجوا على حالين؛
أحدهما؛
تخلى عن مواصلة السعي بنفس المنهج وعلى ذات الوتيرة لاحقاق الحق وتشعبت بهؤلاء الوديان، نسأل الله لجميعنا العفو والعافية وأن يرد من صار منا إلى هذا الحال ردَّا جميلاً - وبدون سب ولا شتائم ولاغيبة ولا أسماء -
إخواني...
إسمحوا لي أن أتملى في هذا المقام لأقول؛ إن هذا حال الكثير منا - اللهم لا شماتة - طأطؤوا هاماتهم وانكسرت همتهم، انبطحوا تدوسهم سلاسل الدبابات الأمريكية وأحذية جنودها، وصمت أذانهم هدير طائراتهم وصواريخهم عن سماع صوت الحق تعالى يصدع؛ "الله اكبر حي على الفلاح"، {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}، بشرط مهم؛ {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
ولكن للأسف خارت قواهم، ومهدودة عزائمهم، وهم يستسلمون لعالمية العدوان ولقانون الغزاة.
نعم، الأمثلة صارخة الوضوح على ذلك مما يغنى عن السرد، ومهما بالغوا وتفنّنوا في المخارج والتسميات والاعذار والتعهدات؛ فهم - وبكل صراحة - قد انتكسوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وأما الفريق الثاني؛
من عرف أنها جولة تحقق فيها للعدو زيادة في الجرم وتوغلاً في الكفر، وخرجنا منها بزيادة إيمان بموعود الله سبحانه وتعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}؛ هذا الفريق الذي أثخنته الجراح لم تنحني هامته ولم تنكسر همته، يناطح القرن الحادي والعشرين ويكسر فيه الروم ذات القرون، ليجعله قرن الإسلام وسيكون بإذن الله تعالى.
نعم، هذه هي نهاية المسير - بإذن الله تعالى - وهي محصلة النتيجة في جسد المحاربين الذين لم يلقوا أسلحتهم؛ أصالة الأمة وعزتها وشموخها، طليعة الركب... الأشلاء والدماء التي ستُذهب الزبد والغثاء وتكشف الزور والخداع، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}.
إنّ ذلك القضاء والقدر كتبه من قال في كتابه تبارك وتعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}، {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
وكل ذلك لسبب عظيم جليل مقدّس، لخّصه الشعار الجليل؛ "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله"، ولأنّ الله أكبر، ولأنّه لا إله إلا الله؛ فليعل هبل فالله أعلى وأجلّ.
إنّ هذه العقيدة المقاتلة التي صمد عليها القلّة المتناثرة هنا وهناك؛ هي وحدها التي تستطيع أن تتأقلم مع شراسة هجمة الأعداء عليها، وبالتالي تُقلّم أظافره الناخرة في أجسادنا ونعود عليه بالشّراسة نفسها، ولكن ليس في الجسد بل لنقتلع القلب من جذره بإذن الله؛ {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
آن الأوان لأن يصير القتل والتدمير والإزهاق والاثخان بكل مقدور مسموح؛ هو الحكم بين فسطاط الدين والمجاهدين المقاتلين وغيرهم من ملل الكفر والردة ومن في سياجهم.
هذا العدو الذي يبدو للكل عنفوانه وقوته، المحاربون وحدهم هم الذين قدروا له قدره، فإن إتّفق الجميع في شدّة الضرب وشراسة المعركة والحملة التي استباح بها منّا الداخل والخارج بكلّ وسائل البطش والتنكيل بالجهاديين وقياداتهم وعناصرهم، وتجاوز ذلك إلى البطش بالأعراض والتنكيل بكل ما وصلته أيديهم من الأباء والأمهات والنساء والأطفال والدين والحياة، وتعدّى ذلك كل طوائف الصحوة الإسلامية، ثم بالتبع وبالطبع العالم الإسلامي في مخطّط ظاهر للعيان يراد به الإسلام ودمار ديار المسلمين.
أقول: إن اتفق الجميع في هذا التوصيف الأليم إلا أنّه نال قصب السبق وبجدارة مستحقة لا منازع فيها من أحد؛ إنهم المجاهدون، المحاربون، استلموا راية رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم.
والحكم هو التاريخ الماضي والمستقبل.
قال الشيخ عبد الله عزام رحمه الله تعالى: (إني أرى أنه لا يعفى عن مسؤوليّة ترك الجهاد شيء، سواء كان ذلك دعوةًَ أو تأليفاً أو تربيةً، إني أرى أنّ كلّ مسلم في الأرض اليوم منوط في عنقه تبعة ترك الجهاد والقتال في سبيل الله، وكل مسلم يحمل وزر ترك البندقيّة وكل من لقي الله - غيرُ أولى الضرر - دون أن تكون البندقيّة في يده فإنه يلقى الله آثماً، لأنه تارك للقتال، والقتال الآن فرض عين على كل مسلم في الأرض) أهـ.
وعن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الجهاد حلواً خضراً ما قطر القطر من السماء، وسيأتي على الناس زمانٌ يقول فيه قراءٌ منهم؛ ليس زمان جهاد، فمن أدرك ذلك الزمان فنعم زمان الجهاد)، قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدٌ يقول ذلك؟! فقال: (نعم من عليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين).
وفى النسائى بسند صحيح؛ أنّ رجلاً جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أذال الناس الخيل ووضعوا السلاح وقالوا؛ لا جهاد، قد وضعت الحرب أزورها فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه وقال: (كذبوا الآن جاء دور القتال، ولاتزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويُزيغ الله لهم قلوب أقوامٍ ويرزقهم منهم، حتى تقوم الساعة وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة).
نعم، إنّ الانتصارات في تجارب المواجهات والقتال قليلة إذا قيست بالتجارب الفاشلة، ولكنّ دروس الفشل أكثر إغناءً من دروس الأنتصارات وأفدح منها ثمناً، وهي بفوائدها تسير بالعاملين نحو النصر المؤزر.
يقول ابن القيم في ذلك: (أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة ذلوّا وانكسروا وخضعوا فاستوجبوا منه العز والنصر، فإن خُلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}، وقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}، فهو سبحانه إذا أراد أن يعز عبده وينصره كسره أولاً ويكون جبره له ونصره على مقدار ذله وانكساره) اهـ.
وراية الحق تبكى أهل نصرتها فليس في أرضنا من يرتجى حينا
وأصبح القرد والخنزير يحكمنا وارتج في حلقه دمع المواسينا
غبار خيل الوغى تشتاقه رئتي ومقبض السيف يبكي من تجافينا
هل ينبري فارس لله بيعته يحي قلوبا ً عتت عن أمر بارينا
ويبعث الطهر نوراً في أجبتها ويقتفي راشداً درب النبيينا
ثم إن هناك مسألة يجب الوعظ فيها وكشفها وعدم قبول أي لبس عليها؛
وهي أن انتصار المجاهدين على الأعداء وتحقيق نتائج الانتصار وأهدافه بالحكم بما أنزل الله تعالى، هو في الحقيقة انتصار للأمة والشعوب المسلمة ونعمة من الله عليها لما تستأهل ذلك أحوالها.
فهل أحوال هذه الشعوب المسماة "إسلامية" اليوم تستأهل فرج الله؟!
فأكثر المعتقدات فاسدة، وغالب الأفكار ضالة، وسلوك الأكثرية منحرف، والعادات والتقاليد مستوردة من الكفار، واكثر المكاسب من الحرام، وقد عمّ الزنا والفجور والخلاعة والاختلاط والسفور، وتقنن أكل الربا، وفشا أكل أموال الناس بالباطل، وظهر الغش والخداع والرذيلة، وغدا التسابق في ميادين الميوعة والسفه مألوفاً، وصار التيه في ميادين الرفاهية والعبث والبذخ طابع حياة الميسورين، والحسد والضغينة والنفاق طابع أكثر المعوزين.
وصار المصلون في الناس قلة، وأكثر الصائمين يفطرون في رمضان على موائد المرح والسهر على المعاصي وبرامج الكفر بالله، يفتتحون صيامهم بترك صلاة الفجر بعد ما ملؤوا ليلهم بالموبقات، وصار لا يؤدي من الناس الزكاة إلا أقلهم، ولا يحج إلا النادر منهم وأكثر حجهم نزهة وفخراً وتجارة.
فأين القوم الذين يسمون مسلمين من حقيقة الإسلام؟! وأين هم من منازل الإيمان بالله سبحانه وتعالى وصفاته وملائكته وكتبه ورسله؟! وماذا بقي على إيمانهم باليوم الآخر وقضاء الله خيره وشره؟!
بالله عليكم هل هذا حال أمة تستحق فرج الله ونصره؟! اللهم كلا!
وهل واقع حكامهم المرتدين الظالمين الكافرين الفاسقين يستأهل الفرج والعون؟! اللهم كلا!
وأعتقد أن هذا يفسر ما نحن فيه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.
إن انتصار معظم الجهاديين حيثما قام جهاد؛ كان نصراً خاص بهم.
لقد استشهدوا ولاقوا ربهم شهداء؛ {فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، لقد أعطى الله المقبولين المخلصين منهم النصر الأعظم وقربهم إليه وخلصهم من هذا الواقع المنكود.
إن النصر الظاهر المشهود بهزيمة الأعداء الكافرين وانهيار الطغاة المرتدين واندحار الظلمة والفاسقين وتحكيم شرع رب العالمين في الأمة هو نعمة تتنزل من الله على هذه الشعوب لمّا تستأهلها بعد، وهذا ما تقتضيه السنن وتدل عليه شواهد التاريخ.
العين تبكى من مصابك أمتي فإلى متى يأمتي ننعاك؟!
هذه هي أمتنا بلا زيف وتزوير، أعيت مناديها، واستمرئت حبائل مغتصبيها، وتلذذت بقهر جلاديها، ترسف بالنوم في أغلالها.
نامي فإن لم تشبعي من يقظة فمن المنام
نامي على زبد الوعود يُداف في عسل الكلام
نامي تزرك عرائس الأحلام في جنح الظلام
نامي إلى يوم النشور ويوم يؤذن بالقيام
نامي على المستنقعات تموج باللجج الطوامي
نامي على قتل الرضيع كأنه سجع الحمام
نامي على لون الدماء كأنه شهد الطعام
نامي على هتك النسا كأنه طهر التمام
نامي على ذبح الرجال كأنهم أُضحى اللئام
نامي على مهد الأُذى وتوسدي خدّ الرغام
واستفرشي صُمّ الحصى وتلحفي ظلل الغمام
فالشمس لن تؤذيك بعدُ بما توهج من ضرام
والنور لن يعمي جفوناً قد جبلن على الظلام
نامي إليك تحيتي وعليك نائمة سلامي
إن النظرية الجهادية العملية لا تولد في رؤوس المؤلفين والمفكرين فوق المكاتب، ولا من خلال حياة الدعة المريحة، ولا تتنزل على أصحابها من قمة الهرم التنظيمى لحركتهم، بل تولد من خنادق القتال وساحات الأعداء ومسار المحنة وأتونها.
نظرية الجهاد ومبادئه تكلف أصحابها العناء، وتجعلهم يدفعون ثمن كل خطأ وتجربة من دماءهم ومعاناتهم، حتى يلتمس اللاحقون ما يناسب كل مرحلة قادمة من الخطوات الصائبة.
يتبع..............
تعليق