إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مقالات للأمين العام أبو عبد الله

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مقالات للأمين العام أبو عبد الله

    مداخلة الدكتور رمضان عبدالله شلّح، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين بمناسبة انعقاد ندوة:

    «العرب ومواجهة إسرائيل: احتمالات المستقبل»

    التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت من 10ـ13 آذار 1999.



    بسم الله الرحمن الرحيم

    أشكر الأخوة الأعزاء منظمِّي هذه الندوة وعلى رأسهم الأستاذ الكبير خير الدين حسيب، وأشكر لهم حرصهم على أن أدلي بدَلْوِيَ المتواضع في هذه الندوة. وحتى لا يكون حديثي في نظر البعض من باب «المنفستو» العقائدي أو الأيديولوجي فإنني أُقسِّمُ حديثي إلى مستويين:

    الأول: عبارة عن مقدمة نظرية، والثاني والأهم هو في الجانب العملي.

    المقدمة النظرية تستدعيها عدة أسباب أهمها؛ حرص الكثير من الناس معرفة طبيعة الموقف الإسلامي في ظل اختلاط الرؤى والمفاهيم، بل وفوضى المفاهيم كما يحاول أن يصورها الإعلام الغربي ومن سار في فلكه، بالنَّظر إلى الحركات الإسلامية ورؤيتها اليوم للصراع مع إسرائيل.

    في الجانب النظري، مهما كان رفض البعض للحديث عن الأيديولوجيا في عصر العولمة، فإن المقدمة تطرح مفاهيم ومحددات وموجهات للاستراتيجية المطروحة للتعامل مع هذا الصراع. بداية لا أتصور أن تكون هناك استراتيجية بدون محددات وموجهات للصراع مع العدو.

    لا أريد أن أسرد قائمة من المحددات والمرتكزات وأكتفي بمحدد وموجّهٍ أساسي لهذا الصراع ألا وهو فلسطين. فلسطين، بالنسبة لنا كإسلاميين، هي آية من الكتاب، مَن فرّط في فلسطين فرّط في الكتاب. فلسطين بما تعنيه من أبعاد عقدية وسياسية واستراتيجية وتاريخية هي الإيديولوجيا، وهي المحك الذي يجب أن نلتقي ونفترق عليه.

    من هنا، قد يتساءل البعض هل الحديث عن فلسطين والبعد العقائدي فيها يطرح فكرة الحرب الدينية مع اليهود من وجهة نظر الإسلاميين؟ بالتأكيد لا، وأنا هنا أسجل أن معركتنا في فلسطين، برغم دور الدين في قراءة وإدارة الصراع من وجهة نظرنا، فإننا لا نقاتل اليهود لأنهم يهود، أو من أجل أن يتحولوا إلى مسلمين.

    نحن نقول إن المعركة مع اليهود هي على فلسطين. هي بسبب الظلم الذي وقع علينا باغتصاب أرضنا وتشريد شعبنا. فلذلك نحن سنقاتل اليهود في فلسطين حتى لو أسلموا. فلو أسلم اليهود وتشبثوا بفلسطين بهذا الظلم وهذا البغي والعدوان فالحكم الشرعي هو قول الله تعالى «فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله». والموقف الشرعي هو الذي يعصمنا من الوقوع في الخلط حين نأتي لنقترح بعض جوانب الاستراتيجية في التعامل مع القضية الفلسطينية.

    سمعت بالأمس كلاماً مهماً في الحقيقة من كثير من الإخوة، لكن هذه المقدمة تصحح بعض المفاهيم وتضبطها كميزان محدد وموجّه. فعندما يقول بعض الإخوة إن إقامة دولة فلسطينية في حدود 1967، هو حل عادل للقضية الفلسطينية، نحن نتساءل: ما هي موازين العدل؟ هل هو الحق المكتسب الذي أنشأته القوة الصهيونية في فلسطين؟ الحل الذي تفرضه موازين القوة المختلة هو بالنسبة لمن يقبل به منا حل المضطر الضعيف، حل المغلوب على أمرهم، وليس حلاً عادلاً بأيٍ حال من الأحوال. لأننا لو سلمنا بالحق المكتسب بالقوة وقلنا إنه حل عادل فسينتهي بنا الأمر إلى هنود حمر. هل يستطيع أحد مع مرور الوقت أن يُنشىء حركة تحرير تطالب الآن بتحرير أمريكا من المستوطنين البيض؟ أمريكا كقارة وكمركز للحضارة ونموذج للحداثة عند البعض، هل يجرؤ أحد أن يطالب بتحريرها؟ الناس ستقول عنه مجنون! الحق المكتسب للمستوطنين البيض بقوة السلاح مع مرور الوقت أصبح يتعامل معه البشر كأنه حق طبيعي لا يُناقَش.

    من هنا، فنحن نعتقد أن فلسطين، بما تعنيه لنا من أبعاد عقدية وسياسية واستراتيجية، يجب التعاطي معها على قاعدة أنها المقدس الديني، والمقدس الوطني، والمقدس القومي، الذي لا يمكن التفريط في ذرة منه بكل أبعاده. وهذا ينطبق في نظرنا على ما سيوصلنا إلى فلسطين. لذلك عندما نطرح الكفاح المسلح، وهو الأمر الذي طرحته الثورة الفلسطينية وتعاملت معه في حدود «المقدس الوطني» أو المصلحة الوطنية، نحن نعتبر أن هذا لا يكفي ولا يصمد. لأنه في خلال ربع قرن تحول «المقدس الوطني» إلى «محرم وطني». والآن، على قاعدة ما يسمى بالمصلحة الوطنية، يتم ذبح حركات الجهاد والمقاومة داخل فلسطين لصالح المدنس (العدو).

    كيف يمكن أن نعصم هذا المقدس من الضياع أو الإبادة؟ يجب أن نخرجه من الدائرة الضيقة، دائرة القرار الوطني الفلسطيني المستقل إلى أفقه القومي والإسلامي الواسع والرحب باعتباره مقدساً دينياً في المقام الأول. لذلك، الجهاد بالنسبة لنا هو حكم شرعي، هو تكليف وواجب شرعي لا يمكن أن يتحول بجرة قلم من مقدس إلى محرم يُذبح كل من يطالب به أو يمارسه. وكما فرض علينا الصيام والصلاة والحج، فرض علينا القتال. الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه «كتب عليكم القتال» كما يقول «كتب عليكم الصيام». والأستاذ عادل حسين تساءل بالأمس هل الأمة مستعدة لتقديم ثلاثة ملايين شهيد؟ عندما يكون الجهاد عقيدة في ضمير الأمة تقدم هؤلاء الشهداء بكل بساطة، لأن الحج وصل تعداده في بعض السنوات ثلاثة ملايين حاج مثلاً. وعندما يشد الناس رحالهم إلى الجهاد كفريضة كما يشدون رحالهم لأداء فريضة الحج، على قاعدة «كتب عليكم القتال»، وليس على قاعدة القتال كأداة لبرنامج سياسي تفرضه ضرورات المرحلة اليوم وتلغيه غداً، عندها تتحقق الإجابة على سؤال الشهادة والنصر أيضاً.

    من هنا، فإنِّني أؤكد أنه لابد للاستراتيجية المطروحة أن تؤكِّد على ثوابت هذا الصراع ولتحفظ كوثيقة وسند حق للأجيال.

    أنتقل الآن للحديث عن الجانب العملي. أتوقع من هذه الاستراتيجية التي أسهم الإخوة الأفاضل في صياغتها أن تقدم خطة عمل تكون بمثابة دليل يسترشد به المعنيون بالصراع في مواقع المسؤولية على اختلاف توجهاتهم ومستوياتهم. ولا أعتقد أنه من الممكن وضع سياسات صحيحة وعملية دون توصيف دقيق للأشياء والأطراف المعنية بالصراع اليوم. وسأضرب أمثلة على ذلك من خلال ما سمعته وما قرأته في الأوراق المقدمة للندوة.

    تحدث بعض الأخوة عن إحياء منظمة التحرير، وتوحيد الشعب الفلسطيني، ودعوا إلى إحياء التضامن العربي. بدون التوصيف الدقيق لهذه المسميات لا يمكن أن نصوغ سياسة للتعامل مع هذه الأطراف المطروحة. فعندما نتحدث عن «إحياء» منظمة التحرير الفلسطينية ففي ذلك إغفال لكل ما يجري الآن باعتباره ثمرة لنهج مارسته منظمة التحرير الفلسطينية طيلة العقود الماضية.

    أيضاً فيه إغفال لطبيعة العلاقة بين منظمة التحرير وما يجري الآن، أي العلاقة بين المنظمة والسلطة. في لا شعورنا جميعاً إحساس بل وعي يجعلنا نعترف أن منظمة التحرير، التي أُنشأت لتحرير فلسطين، وتستمد اسمها من هذا الشعار، قد ماتت، لذلك يتحدث البعض عن «إحياء» المنظمة. لقد وقّع ياسر عرفات على شهادة وفاة هذه المنظمة، في ما سمي برسائل الاعتراف المتبادل مع إسرائيل. لذلك، فإنني أطالب الأخوة الذين يتحدثون عن «إحياء» منظمة التحرير في الاستراتيجية المطروحة أن يقولوا لنا كيف يمكن أن يتم هذا الإحياء؟ دون الأمل بعودة المسيح عليه السلام حتى يحيي الأموات بمعجزة. نريد أن نعرف كيف يمكن إحياء منظمة التحرير وهي الآن لا تعيش على التمسك بمشروعية النضال؛ بل تعيش على اعترافها بإسرائيل، واعتراف إسرائيل بها، وعلى توظيفها في مشروع أوسلو الذي يهدف إلى حماية إسرائيل.

    أما موضوع السلطة، حيث يسألنا البعض دائماً ما هو موقفكم من السلطة الفلسطينية، فنحن نطلب من الأخوة من المفكرين والمثقفين أن يدلوا بدلوهم، وأن يساعدوننا في الإجابة عن هذا السؤال. لأننا لسنا في مجال مبارزة الطروحات والبرامج. نحن جميعاً مطالبون أن نضع على الطاولة قضايا مصيرية، لها علاقة بوجود الأمة ومستقبلها. فعند التساؤل عن كيفية التعامل مع هذه السلطة. أولاً، لابد من توصيف وتعريف من هي السلطة؟ وهنا أقول: إن السلطة هي ثمرة حقيقية لمشروع أوسلو. السلطة وظيفة أمنية بالدرجة الأولى. السلطة الآن واقعة في مثلث إسرائيلي ـ أميركي ـ فلسطيني ـ للأسف، ولأن وظيفتها حماية أمن إسرائيل، فالرغبة الإسرائيلية والأميركية والإملاء الإسرائيلي والأميركي هو الذي يسيّر الأمور، والسلطة مجرد أداة ضعيفة في أيديهم.. والسلطة، لتحقيق هذه الوظيفة الأمنية، مدججة بأجهزة أمنية عسكرية قوامها أكثر من خمسين ألف شخص تحت بالسلاح. السلطة لديها استعداد أن تذهب لأقصى الحدود في سحق الشعب الفلسطيني حتى القتل كما حدث بالأمس القريب. السلطة مستنقع آسن للفساد والإفساد، ورأيتم أن المفسدين يكافأون بتعيينهم وزراء. السلطة لا يهمها شيء له علاقة بمصلحة وطنية أو قومية وكل همها مشروع أوسلو الذي يصب في مصلحة العدو. بعد هذا التوصيف أنا أسأل الجميع اقترحوا علينا كيف نتعامل مع السلطة؟

    إن واقع السلطة هذا يدفعنا إلى الصدام بل والاقتتال مع السلطة إذا كانت فلسطين هي المحدد والموجه للسياسة. وأنا أقول لكم إن الجهاد الإسلامي وحماس لم ولن يفعلوا ذلك حتى يعلم الجميع حجم التضحية والمعاناة بل حجم الألم والعض على الجرح الذي نتحمله.

    أما الحديث عن الواقع العربي وما ذكره الإخوة من الدعوة للتضامن، فإننا نتساءل ماذا نريد من الواقع العربي؟ وإلى أي حد يمكن أن نذهب في تثوير هذا الواقع العربي والاستفادة منه في تنفيذ هذه الاستراتيجية؟ كلنا يعرف أن الواقع العربي ليس متجانساً الآن. فهناك عرب أمريكا، وعرب إسرائيل، وعرب العرب. وعرب العرب قله، لكن ـ والحمد لله ـ موجودون، وخير دليل على وجود عرب العرب هذا الجمع وهذا الحضور الكريم الذي تمثلونه في هذا اللقاء.

    لكن النظام العربي في معظمه متحالف مع السلطة. متحالف مع مشروع أوسلو، وكلنا يعرف أن الخبرة التي تلقتها المؤسسة الأمنية للسلطة لقمع الشعب الفلسطيني، تمت في أحضان الأنظمة العربية. ومن الذي سيُقمع بهذا الخبرة الأمنية؟ إنه الشعب الفلسطيني، المتضرر من أوسلو. النظام العربي يعتقد أن المشكلة نتنياهو، لذلك هو متحالف مع حزب العمل. ودعنا ننتظر إذا فاز حزب العمل لنرى هل سيختلف الوضع عما هو عليه الآن أم لا؟

    نحن نقول إن اللاءات التي رفعها المشروع الصهيوني برمته على منظمة التحرير وعلى المشروع الوطني الفلسطيني بكل أطيافه لا زالت موجودة. واللاء الوحيدة التي أسقطت هي التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية. فعندما تنازلت المنظمة عن «لا» لإسرائيل و«نعم» للمقاومة. وحولتها إلى «نعم» لإسرائيل و«لا» للمقاومة، حينها حدث هذا التزاوج الخبيث والتحالف غير المقدس بينهما، والذي أسأل مؤتمركم الموقر كيف يمكن الإفلات منه؟

    نقطتان أختم بهما حديثي. أولاً، إننا مطالبون جميعاً في أية استراتيجية نصوغها أن نسعى جاهدين، لوقف الانهيار، وقف الهرولة التي قال عنها المرحوم نزار قباني «ليس هذا العرس عرسي، ليس هذا العار عاري».

    الآن أصبح السلام يرادف إسرائيل.. لا أحد يسألك ما هو موقفك من إسرائيل؟ يقول لك ما هو موقفك من السلام؟ إنه تعبير مبطن عن موقفك من إسرائيل. القضية المركزية الآن ليست فلسطين، بل هي إسرائيل، هل تقبل بإسرائيل أم لا؟ ولا أحد يسألك عن فلسطين ومصيرها. وكما تنبأ جورج أورويل الروائي البريطاني يوماً، إن كلمة سلام ستصبح مرادفة للحرب، فنقول وزير السلام تعبيراً عن وزير الحرب، جاء وزير الحرب الأمريكي يطوف الآن في المنطقة يبشرنا بالسلام والاستقرار. وفي مواجهة من؟ في مواجهة إيران وسوريا، في مواجهة حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي وقوى الصمود في الأمة. وقد تنبأ بذلك شاعرنا الكبير محمود درويش أيضاً عندما تحدث عن هذا السلام قائلاً: «فلنسلِّم مفاتيح فردوسنا لوزير السلام وننجو» وهو القائل «إن هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار».

    لذلك، نحن مطالبون جميعاً بوقف هذا الانهيار على المستوى الرسمي العربي والفلسطيني. ثانياً على المستوى الشعبي، نحن مطالبون بالحفاظ على ما تبقى من تماسك ومن أمل وتفاؤل، ومن روح للصمود والمقاومة في داخل شعبنا وأمتنا. شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية والإسلامية أكبر من هذا المسخ الحاصل. وبإذن الله، لن نتحول إلى هنود حمر. وليس هناك مجال للسرد التاريخي، حتى نثْبت لهم أن هذه الغيمة ستمر، وأنهم عابرون في استسلام عابر.

    المصدر · الموقع الرسمي للمعلم رمضان شلح
    السماء الزرقاء تنتصر


  • #2
    استضاف الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين ـ فرع سورية ـ الدكتور رمضان عبدالله، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، في 6/6/2000 في محاضرة حملت عنوان «القضية الفلسطينية وانتصار المقاومة في لبنان».



    في حديثه توقف الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، أمام الانتصار الذي حققه حزب الله ومعاني هذا الانتصار. وكيف قرأت الأمة هذا النصر وانعكاساته على مجرى الصراع مع الكيان الصهيوني. مؤكداً عبر الوقائع والاستدلالات الممنهجة أن العدو الصهيوني المدجج بالسلاح والمحمي بالقوة الأمريكية وفرضياته التي يبني عليها مشروعه لتصفية القضية؛ يمكن للشعب الفلسطيني أن يكسر شوكته كما كسرتها المقاومة الإسلامية في لبنان.

    ولأهمية ما جاء في الندوة الحوارية تنشر مجلة «الإسلام وفلسطين» النص الكامل لها:

    بسم الله الرحمن الرحيم

    أحييكم أطيب تحية، وسلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته.

    بداية، أشكر الأخوة في اتحاد الكتاب على هذه الفرصة الطيبة التي نلتقي فيها بأهلنا وجمهورنا ومثقفينا وكتابنا، في مرحلة تستدعي اللقاء والحوار. ومن رحمة الله بنا أننا نلتقي في حزيران، هذا العام، في أجواء نستطيع أن نسميها أجواء فرح وسرور، أجواء النصر الذي عاشته الأمة كلها بدحر وجلاء العدو الصهيوني عن أرض لبنان العربي.

    كان حزيران يأتينا كل عام محملاً بذكرى النكبة الثانية، أو النكسة كما سماها البعض. ذكرى سقوط القدس وأجزاء أخرى عزيزة من الأرض العربية، ذكرى الهزيمة المرة التي ما زلنا نعيش آثارها حتى هذه اللحظة. لكن حزيران هذا العام، ولو بقدر محدود، جاء وله مذاق مختلف، مذاق الفرحة والسعادة بالنصر والأمل الذي يشع في قلوب الأمة مهما كانت عتامة المرحلة.

    موضوعنا هو الانتصار اللبناني وانعكاساته على مجرى الصراع مع الكيان الصهيوني، باعتبار أن هذا الانتصار ربما بشكل نقطة فاصلة في مجرى الصراع، وقد لا تظهر آثاره اللحظة، لكن لابد أن يكون له تداعياته المستقبلية على أكثر من صعيد.

    سنتعاطى مع حدث الانتصار من خلال طرح جملة من الأسئلة، ومن ثم الإجابة عليها لاستخلاص بعض النتائج والعبر التي يمكن أن تفيدنا في إدارة هذا الصراع ومساره الطويل.

    أولاً، كيف قرأت الأمة هذا النصر؟ بكل بساطة لو أجرينا استفتاءً في الشارع العربي من المحيط إلى الخليج، بل لو امتد الاستفتاء إلى الشارع الإسلامي بدلالته الواسعة أو حتى في العالم كله، لكانت القراءة الواحدة بأن هذا النصر هو ثمرة حقيقية للنضال والجهاد والمقاومة والتضحية، ثمرة لدماء الشهداء. وأن هذا النصر تأكيد جديد على أن هذا العدو لا يفهم إلا لغة واحدة هي لغة القوة، وأن ما أخذ بالقوة لا يمكن أن يسترد بغيرها أبداً. على مدار السنوات الماضية كانت هناك مسارات كثيرة مفتوحة وكلنا رأينا ماذا كانت حصيلة تلك المسارات. المسار الوحيد الذي أتى ثماره كاملة هو مسار القوة والمقاومة والتضحية. هذا مجمل ما تقرأه الأمة في هذا الانتصار.

    هناك قراءة أخرى، تبرع بها بعضهم نيابة عن العدو الإسرائيلي، بأن هذا النصر هو نتيجة استجابة إسرائيل لقرار 425 والشرعية الدولية. هذا الكلام للأسف تبرع به من هم محسوبون على الشعب الفلسطيني، أو من ابتلي بهم هذا الشعب كقيادة رسمية في هذه المرحلة. وهذا الكلام مهما كانت النوايا خلفه وأنه محاولة لتلزيم إسرائيل على الجانب الفلسطيني، فهو في المحصلة يصب في خدمة إسرائيل، وهو محاولة لتلميع وجهها، بعد أن قدر لها أن يسوء اللبنانيون والعرب والمسلمون وجهها بهذه الهزيمة المرة. يريدون تبييض وجه إسرائيل وإظهارها بأنها (محترمة)، ملتزمة بالشرعية الدولية وطبقت قرارات الأمم المتحدة وكأن هذا القرار لم يكن عمره 22 سنة، وكأنها لم تسمع به من قبل وهي تمارس القتل والدمار اليومي، والطائرات تصب جحيمها على رؤوس الأبرياء والعرب في لبنان.

    وكأنه ليس هناك العديد من القرارات الدولية التي تضرب بها «إسرائيل» عرض الحائط فيما يتعلق بفلسطين، ولا تفعل إلا ما هو في مخططاتها ومصالحها.

    في الحقيقة إن هدف هذه القراءة التي يقدمها البعض نيابة عن العدو الإسرائيلي هو محاولة شطب النموذج، نموذج الانتصار، لأن هذا يشكل حرجاً كبيراً لهم، بل إن النموذج إذا ظل ماثلاً في أذهان الناس لا بد أن يشكل مجدداً شرارة للنهوض بالمقاومة، وهذا ما لا يتحمله هؤلاء وشركاؤهم، لذلك كان طبيعياً أن يتحركوا للتقليل من قيمة الانتصار وتبهيته إلى حد شطب النموذج وتغييبه.

    المحطة الأخرى، في التعاطي مع الحدث، هي من الضروري أن نتفحص ما هي الفرضيات التي انطلقت على أساسها حركة المقاومة في لبنان التي حققت هذا الانتصار الساحق على إسرائيل.

    قبل أن نبحث في فرضيات المقاومة التي انطلقت على أساسها، لابد أن نتحدث عن الفرضيات التي زرعها الآخرون في طريق المقاومة كألغام تقول لنا باستحالة المقاومة. وهي ذات الفرضيات التي قامت عليها عملية التسوية في المنطقة، الفرضيات التي سوقت مشروع التسوية باعتباره خيار الأمة وقدرها الذي لا يرد ولا يصد. هذه الفرضيات كان المطلوب من المقاومة أن تتعاطى معها وأن تهزمها أو تتجاوزها حتى تضع فرضيتها الأساسية في الميدان في الاختبار.

    عندما بدأ مشروع المقاومة قبل عشرين سنة، كان الحديث عن هزيمة إسرائيل، أي هزيمة، نوعاً من الجنون أو الخيال. وكان هناك فرضيات تؤسس لذلك.

    الفرضية الأولى، هي أحادية القوة الأمريكية المهيمنة على العالم. وقد تعززت هذه الفرضية بعد حرب الخليج وانتهاء ما يسمى بالحرب الباردة في السنوات القليلة الماضية كان الخطاب السائد في العالم والذي على أنغامه تتقدم قاطرة التسوية هو أحادية القوة الأمريكية أو الهيمنة الأمريكية على هذا العالم. لا يوجد توازن قوى يسمح بالمقاومة، لا يوجد هامش للمناورة، لا يوجد اتحاد سوفياتي لا توجد قوى اشتراكية. لا يوجد حرب باردة. هناك جبار أوحد يسيطر على العالم ولابد أن تقبلوا وأن تقنعوا بما يقسمه لكم هذا الجبار. هذه هي الفرضية الأساسية التي تحكم ميزان القوى المختل في العالم لصالح إسرائيل ولصالح مشروع الهيمنة الأمريكية ـ الصهيونية على العالم وعلى المنطقة.

    كان المطلوب من المقاومة أن تدرك من الأساس أن أمريكا تنظر إلى منطقة الوطن العربي أو ما يسمى الآن بالشرق الأوسط، باعتبارها مزرعة أمريكية فيها قليل من النفط وفيها إسرائيل. وعندما حدث الانسحاب الأول بعد حرب 1982، التي جرت بهدف تكسير المقاومة الفلسطينية وسحقها وإخراج م.ت.ف، جاءت أمريكا وهرعت بأساطيلها إلى المنطقة، لتؤكد أنها هي الذراع الأقوى الذي يضمن الأمن والسلام واستقرار لبنان وأمن إسرائيل. فكان لابد للمقاومة التي أثبتت من تلك اللحظة أنها تحمل مشروعاً للانتصار، أن تذهب بالمعركة لأبعد الحدود وتوجه ضربتها إلى الرأس الأكبر رأس أمريكا. ومن هنا كانت عملية المقاومة في تشرين 1983، التي استهدفت مقر قوات الأمريكية (المارينز) وقدمت المقاومة الإسلامية استشهادياً واحداً (أبو زينب) دخل بسيارته المفخخة ليأخذ في وجهه 241 جندياً أمريكياً و 58 جندياً فرنسياً. كانت هذه العملية أقسى ضربة توجه لأمريكا ولجيشها خارج حدودها بعد حرب فيتنام.

    كان هذا أول تعامل للمقاومة مع أصعب فرضية وهي أن المعركة سقفها أمريكا. منذ ذلك التاريخ زرعت المقاومة بذرة الانتصار في معركتها.

    الفرضية الثانية هي: أحادية القوة الإسرائيلية في المنطقة.. جبروت بل فجور القوة الإسرائيلية التي تستبيح لنفسها أن تتمدد خارج حدود فلسطين المغتصبة وتقتطع أجزاء من الأرض العربية كأحزمة وكأشرطة تؤمن استقرارها واغتصابها لفلسطين.

    عندما انطلقت المقاومة كان هناك من يسخر من المقاومين والمجاهدين، ماذا سيفعل هؤلاء المسحوقون والأصوليون في مواجهة إسرائيل التي هزمت كل العروش والجيوش ولديها أقوى ترسانة أسلحة في المنطقة وأحد أقوى الجيوش في العالم.. الجيش الذي يقال عنه بأنه لا يقهر.

    والعقيدة العسكرية الإسرائيلية تتعاطى مع المنطقة كأنظمة قطرية في واقع تجزئة هو الوجه الآخر لإسرائيل في الحقيقة، وبالتالي لا يمكن الحديث عن ميزان عربي ـ إسرائيلي، ولا ميزان عربي ـ إسلامي ـ إسرائيلي، هناك ميزان قطري إسرائيلي. في الميزان القطري، إسرائيل وصلت بالحديث في السنوات الأخيرة عن دول الطوق بناتجها القومي، دول الطوق بميزانها العسكري، دول الطوق بقوتها الاقتصادية والتقنية كلها لا توازي شيئاً في مواجهة إسرائيل.

    إسرائيل حريصة على واقع التجزئة، لأننا إذا تكلمنا عن ميزان عربي (عسكري ـ بشري ـ تقني)، في مواجهة إسرائيل تصبح المقارنة بين قدرات إسرائيل في مواجهة إمكانات العرب، كالمقارنة بين الفيل والنملة. الفيل هم العرب والنملة هي إسرائيل. لكن إسرائيل لا تسمح، وأمريكا لا تسمح، والنظام الدولي لا يسمح، بأن يتم تجاوز واقع التجزئة وهذه القطرية، حتى تبقى إسرائيل هي الفيل وكل العرب هم النمل الفرادى الذين تدوسهم إسرائيل وقتما وكيفما تشاء.

    العقيدة العسكرية الإسرائيلية تقول بأن الهزيمة العربية هزيمة نهائية وأبدية، وبعد تشرين (أكتوبر) 1973 قالوا إن العرب حققوا نصراً جزئياً، لكن جاءت كامب ديفيد، كما تعرفون، وحدث التفاف على هذا النصر، أدى إلى تفريغه من محتواه ومضمونه وصادر نتائجه، بل جيره لصالح الصلح مع إسرائيل.

    إسرائيل لا تقبل في استراتيجيتها بأن يتم تجاوز واقع الهزيمة العربية أو واقع التجزئة العربية بأي حال من الأحوال. إسرائيل لا تقبل بأن تهزم في أي معركة مع العرب، ولا تقبل أن تمس هيبة جيشها بقوته الأسطورية.

    إسرائيل لا تسمح بأن تشرع في حرب ثم تنتهي الحرب في وضع لا تكون فيه إسرائيل أمنياً واستراتيجياً ومعنوياً في حال أفضل مما بدأت عليه الحرب. كل هذه الفرضيات جرى ترسيخها في أذهان الناس في المنطقة كمسلمات، وهم ينظرون إلى إسرائيل وقوتها، ويصلون إلى نتيجة استحالة التعاطي العسكري معها، استحالة هزيمتها، استحالة تحقيق نصر عربي ولو محدود على إسرائيل، كل هذه المستحيلات كان من المفروض للمقاومة أن تتعاطى معها وتؤسس لوضعية مقاتلة وتهزمها وتتجاوزها، حتى تصل إلى فرضيتها الأساسية التي ستضعها على المحك أمام الأمة وتختبرها، وهي فرضية بسيطة وليس فيها أي تعقيد: صحيح أن إسرائيل عدو لديه جبروت القوة الأسطورية، ومدعوم من الجبار الأوحد أمريكا، لكن نحن أمة حية وأمة تستطيع أن تنهض بأحلك الظروف وتستطيع أن تصمد وتقاتل وتحقق الانتصار.

    هذه الفرضية لو وضعها طالب في بحث ماجستير، أو دكتوراه في الجامعة في العلوم السياسية أو في الاستراتيجية العسكرية أو العلاقات الدولية، بتقديري لا يوجد أستاذ جامعة عربي يقبل بها، وسيقول هذا كلام إنشائي، كلام عاطفي ليس له وزن ولا يمكن اختباره في مواجهة ميزان القوى والتكنولوجيا وجبروت السلاح الإسرائيلي والأمريكي.. المقاومة وضعت هذه الفرضية حتى تثبت المحور الغائب في الشواهد، وهو إمكانية تحقيق الانتصار على أرض الواقع. عندما نتكلم عن إمكانية النصر على إسرائيل ونلجأ إلى شواهد قرآنية مثلاً، ماذا يقولون لنا؟ تتحدثون بالغيبيات والخرافات، وإسرائيل الآن التعاطي معها بموازين ومعادلات قوى دقيقة على طريقة المختبر (مختبر الكيمياء والفيزياء) وإذا أردت أن تتحدث بالمنطق التاريخي للصراع وتستحضر انتصارات بدر واليرموك وحطين وعين جالوت، أيضاً كله ينظر إليه كركام أصبح جزءاً من الماضي والعبارة الوحيدة التي يرددونها: كونوا واقعيين! هناك واقع مختلف، والواقعية تستدعي الإذعان والتسليم لإسرائيل، وأن تقبل بما هو مفروض في عملية التسوية الراهنة.

    المقاومة أرادت أن تثبت أن هناك واقعاً آخر، يمكن أن تجترحه الأمة بإمكاناتها البسيطة والمحدودة في مواجهتها للمشروع الآخر. هذه الفرضية هي التي اشتغلت المقاومة على أساسها وكان الحديث عن النصر أو حتى التماسك والصمود، ومحاولة الاستمرار في البدايات، نوعاً من الخيال أو الحلم الطوباوي إن لم يكن نوعاً من الجنون السياسي أو الانتحار السياسي.

    لكن على أرض الواقع المقاومة بما حققت من نتيجة أثبتت أن هذه الفرضية كانت صحيحة. فالمقاومة استطاعت بأقل إمكانات كانت متوفرة لها في أحلك الظروف أن تجترح المعجزة وأن تصنع الانتصار، ورأينا إسرائيل وجيشها الذي لا يقهر يهرب تحت جنح الظلام، وحليفه الذي احتمى به 22 سنة وربط مصيره به يتركه ولا يلتفت له. رأيناهم يتيهون يهيمون على وجوههم ما بين لبنان وبين الهروب والنكوص إلى العدو الإسرائيلي.

    وهنا درس آخر، أشرت إليه في مناسبة سابقة، أن كل الذين يربطون مصيرهم بمصير إسرائيل في المنطقة لن تكون نهايتهم أفضل من نهاية «جيش لحد».

    إذا وقفنا عند هذه النتيجة وأردنا أن نتقدم أكثر في الحديث عن الانتصار لابد أن نتوقف لحظة عند أسباب هذا الانتصار. كيف انتصر إخواننا في حزب الله والمقاومة في لبنان؟

    الحقيقة أن هناك أسباباً كثيرة للانتصار لسنا في مجال استقصائها أو حصرها الآن، لكن هناك بعض النقاط الهامة التي لها علاقة بالتجربة الفلسطينية لاحقاً وسابقاً لابد أن نتوقف عندها.

    العامل الأول، من عوامل انتصار المقاومة برأينا هو العنصر البشري. بمعنى أن إسرائيل طرحت نفسها كقوة متفوقة عسكرياً، وأن ميزان القوى مختل في غير صالحنا لصالح العدو الإسرائيلي بشكل فادح ومخيف، في جانب التقنية العسكرية والتكنولوجيا المتقدمة والكفاءة والتنظيم والقدرة القتالية والتسليح والعلم، وكل ما يمكن أن يقال عنه في جانب القوة المادية وصولاً إلى الأسلحة الذَريّة.

    نحن لا نستطيع على صعيد الجيوش النظاميّة في ظل ميزان القوى الراهن الذي يعكس تفوقاً إسرائيلياً هائلاً، أن نأتي إسرائيل من هذا الباب ونحقق انتصاراً عليها. بمعنى أنه لابد أن يكون هناك نوع من التفادي والالتفاف على هذا التفوق الإسرائيلي، ومن ثم البحث عن عناصر تفوق أخرى، نستطيع أن نجابه بها هذا الميزان المختل لصالح العدو.

    من هنا، فإن العنصر البشري والتفوق المعنوي لإنسان المقاومة كان يشكل نوعاً من التعويض في هذا الميزان. لو أردنا أن نقارن بين العنصر البشري على الجبهة الإسرائيلية والعنصر البشري على الجبهة اللبنانية، لوجدنا أن هذا الجيش الإسرائيلي المدجج بأحدث أنواع الأسلحة يأتي إلى لبنان وهو مرعوب، ومحبط، ومتردد. يأتي وهو خائف ومذعور يتكلم عن «المستنقع اللبناني»، وعن «اللعنة اللبنانية» ولا يشعر بأي أمن. كل أنواع الأسلحة الحديثة والذكية المحيطة به لا تعطيه الشعور بالأمان ولا تمنعه من الفرار والاتصال المستمر بأمهاتهم، لتشكل حركات سياسية ضاغطة في المجتمع الإسرائيلي تطالب بالفرار من لهيب وجحيم ونار المستنقع اللبناني. الحالة المعنوية لهذا العدو الغازي المعتدي وصلت في اللحظات الأخيرة إلى درجة الانهيار، ولم يستطع أن يتحمل ساعات، وكان لابد أن يهرب ليلاً. على الجبهة الأخرى وجدنا المقاتل اللبناني يأتي إلى الموت وهو مبتسم ومعنوياته عالية جداً. تذكرون أن الإعلام رصد بأن الشخص الذي فجر مقر المارينز في 1983 عندما كان يقود سيارته باتجاه التفجير كان مبتسماً.

    هنا تبرز ظاهرة العمل الاستشهادي، أو ما يطلق عليها الإعلام الغربي والمعادي بالعمليات الانتحارية. معروف أنك تستطيع أن تواجه أي سلاح بسلاح مضاد. يوجد أسلحة مضادة للدبابات، وهناك أسلحة مضادة للطائرات، هناك أنظمة صواريخ متطورة مضادة للصواريخ. لكن هل يمكن لإسرائيل أن تطور سلاحاً لمواجهة إنسان أخذ قراراً مسبقاً بالموت، وجاء إلى الموت مبتسماً؟ رابين كان يصرخ: «ماذا يمكن أن نفعل في مواجهة من جاءنا وقد قرر الموت؟». تستطيع إسرائيل تطوير صاروخ يبطل صاروخاً يحمل رأساً نووياً أو تقليدياً أو كيماوياً، لكن كيف يمكن أن تطور إنساناً أو سلاحاً مضاداً للاستشهاديين؟ إلا إذا أرادوا أن يحسنوا في جيناتهم ويستفيدوا الآن من التطور الحاصل في علم الوراثة والاستنساخ لعله يفيدهم في تخصيب نوعيات جديدة لا تعرف الخوف على طريقة مقاتلي حزب الله.

    فالعنصر البشري بما يملك من روحية ومعنوية عالية، أثبت أن مقولة التفوق النوعي الإسرائيلي مقولة غير صحيحة. كانوا ينظرون إلى العرب بأنهم مجرد كم، 250 مليون عربي، أو مليار وربع المليار مسلم، هذا الكم البشري مهمل، ليس له أي قيمة، أمام النوعية العالية high quality والعقلية المبدعة لليهودي (الجينيوس ـ العبقري) المتفوق نوعياً على الهمجي العربي.. لقد سقطت هذه المقولة الآن. والذي أثبت تفوقاً نوعياً كعنصر بشري في المعركة هو الإنسان العربي حتى عندما يتعاطى مع التقنية ومع السلاح، لأن حزب الله لم يتنصر فقط بالمعنويات. حزب الله عندما كان يصل إلى رأس عقل هاشم على باب بيته، ويصور عملية الاغتيال ويبثها على التلفزيون لم ينتصر بالدعاء فقط. كان عنده تنظيم وكانت عنده تقنية. حزب الله عندما كمن في أنصارية للجيش الذي كان يخترق المنطقة أمنياً وعسكرياً، كان ينظر للجيش الإسرائيلي بمنظار ليلي. مقاتل حزب الله ليس مقاتلاً تائهاً في الصحراء.. مقاتله كان مقاتلاً مسلحاً أيضاً بأحدث أسلحة ممكنة. صحيح أنها إمكانات بسيطة لكن لم يغفل جانب التقنية. فعنصر التقنية والعلم لم يكن مغفلاً إلى جانب العنصر البشري وإنسان المقاومة ومعنوياته.

    هذا العامل يقودنا إلى عامل آخر من عوامل النصر طالما أننا نتكلم بدائرة الإنسان وتفوقه النوعي على المستوى الروحي والمستوى العلمي والعقلي، هناك عنصر العقيدة الراسخة والصلبة التي قاتل بها مجاهدو ومقاتلو حزب الله. عندما نتكلم عن العقيدة فنحن نتكلم عن الإيمان الحقيقي الذي استقر في قلوب هؤلاء المقاتلين وولد لديهم قناعة بالقضية التي يقاتلون من أجلها. هذه العقيدة الصلبة هي التي زرعت في قلوبهم التضحية، والفداء، والانضباط، والقدرة على التحرك، والقدرة على تحمل المشقات والأذى، وكل المعاني التي يمكن أن يتجلد بها الإنسان في جو المعركة، لا يمكن أن تتولد لو لم يكن قلب هذا المقاتل مسكوناً بالإيمان، ومسكوناً بالقضية التي يقاتل من أجلها. إنه يقاتل في سبيل حق وإنه يواجه باطلاً، وأن هذا الباطل في النهاية زائل.

    هذه العقيدة تلفت انتباهنا إلى مسألة أساسية، وهي موقع الدين في حياتنا كمسلمين وعرب، للأسف كثير من الناس في مجتمعاتنا وبعض مثقفينا كانت نظرتهم إلى الدين نظرة سلبية بناءً على حسابات وتجارب وخلاصات ليس لها علاقة بواقعنا العربي أو تاريخنا أو تجربتنا في التعاطي مع الدين الذي كان دائماً مصدر انتصارنا وعزتنا.

    الموقف المعادي للدين كان موقفاً مفتعلاً وطارئاً وليس أصيلاً في مجتمعاتنا العربية. الدين لم يكن يوماً ضد الجهاد ولا ضد الحرية ولا ضد التنمية ولا ضد الشورى ولا ضد العدالة ولا ضد الديمقراطية. عندما جاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم صنع ثورة في هذه الأمة وغير الواقع البدوي المتخلف، إلى واقع متقدم استطاع أن ينشئ حضارة من أعظم الحضارات التي أقامتها البشرية. فهذا بنظري مدعاة لأن يعيد البعض حساباته أو يراجع موقفه حول قضية الدين ودور الدين في المجتمع ودور الدين في السياسة. الغرب هو المعادي للدين والعروبة، الغرب هو الذي يخوف الأنظمة من الإسلاميين، مستفيداً أو مستغلاً بعض السقطات أو بعض الممارسات التي لا تمثل حجة لا على الإسلام ولا على جمهور المسلمين قاطبة، حتى يخوف الناس من بعضهم البعض، ويظهر أن إسرائيل والنّظام العربي والنظام الدولي في كفة، و«الخطر الأصولي» أو«الإرهاب الإسلامي» الذي ابتدع كبديل للخطر السوفياتي في كفة. ما يسمى بـ «الإرهاب» الإسلامي المزعوم أثبت ممثلاً بتجربة حزب الله وبجزء كبير من نضال الحركة الإسلامية في فلسطين أن الإسلام المطروح الآن في الأمة، هو الإسلام المقاتل، هو الإسلام المخلص للأمة، ليس الإسلام العبء الذي تخوفنا منه أمريكا وتمرر مخططاتها عليه. أمريكا تريد لنا كما قال بعضهم ما يسمى بالإسلام الأمريكاني، تريد إسلاماً مستأنساً يضمن لها أن تأخذ النفط وأن تبقى إسرائيل، وأن تكون مسلماً على طريقة عسكر تركيا، وأن تدخل معها في أحلاف وأن تبارك قوة إسرائيل وأمريكا في المنطقة.

    الإسلام أو الدين الذي هزم إسرائيل في جنوب لبنان هو الدين الذي يحض الناس على الجهاد والثورة وعلى مقاومة الظلم، وليس هناك أي تناقض بين الدين والثورة، عندما يكون هناك تناقض بين الدين والثورة، لا تكون الثورة ثورة ولا يكون الدين ديناً. الدين الذي يناقض الثورة كنيسة. المسجد في تاريخنا لم يكن كنيسة حتى ندعو إلى الثورة على المسجد على غرار الثورة على الكنيسة في أوروبا. لسنا مطالبين بأن نحذو حذو تجربة أوروبا؛ لأن الدين الذي ثارت عليه أوروبا ليس هو الدين الذي قام في منطقتنا، وحتى مسيحيي هذه الأمة لم يكن لهم مشكلة مع الإسلام كدين، وكانوا يقولون نحن مسلمون ثقافة وحضارة ومسيحيون ديانة.

    العامل الآخر في عوامل النصر، هو نظام التعبئة الذي استحدثته المقاومة. المقاومة لم تكن عملاً ارتجالياً، أو اعتباطياً. المقاومة واجهت جيشاً منظماً وقوة عسكرية جبارة في المنطقة. فكان لابد من قيادة هذه المعركة بإرادة قوية، وإدارة حكيمة تستطيع أن تحقق أقصى فعالية في القتال والعمل السياسي، والإعلامي، وفي العمل التعبوي، والتنظيمي والأمني على وجه الخصوص.

    إذا نظرنا إلى تجربة المقاومة في لبنان وبالذات تجربة حزب الله، نجد أننا أمام أنماط مختلفة يحتار الدارس أو الباحث أو المتأمل، لعمق وثراء هذه التجربة.

    هل حزب الله تنظيم حديدي مقاتل تحت الأرض؟ إذا نظرت إليه من زاوية معيّنة تستطيع أن تقول: إن حزب الله حلقة أمنية محكمة استطاعت أن تخترق إسرائيل ولا تخترقها إسرائيل.

    هل حزب الله حالة جماهيرية شعبية تتسع لكل تيارات الأمة؟ إذا نظرت من هذه الزاوية إنّك فعلاً أمام حالة شعبية بكل معنى الكلمة. الذين استمعوا إلى خطاب السيد حسن نصر الله يوم الانتصار في بنت جبيل كان عددهم لا يقل عن 200 إلى 300 ألف. وهؤلاء الذين استطاعوا أن يصلوا من مناطق الجنوب. عندما يحشد حزب الله مسيراته في ذكرى كربلاء، كان الإعلام يتكلم هذا العام عن 400 ألف أحيوا ذكرى كربلاء في لبنان، منهم حوالي ربع مليون من أنصار حزب الله، صلى بهم السيد حسن نصر الله صلاة الظهر في الضاحية في قلب بيروت. نحن إذاً أمام حالة جماهيرية شعبية ملتحمة بالجماهير، وليس فقط أمام تنظيم حديدي مغلق تحت الأرض مهمته تنفيذ عمليات. وفي الحقيقة، فإن المستويين موجودان، التنظيم الحديدي المحكم والحالة الشعبية المفتوحة.

    أيضاً هناك علاقة المقاومة والمقاوم بالحياة والمجتمع الأهلي. فحزب الله لم يجيش الناس. كما فعلت الثورة الفلسطينية. ونحن نقول هذا من باب المراجعة والنقد الذاتي. نظام التجييش ذاك جعل الناس تعتاش على الثورة الفلسطينية، ماذا تشتغل؟ أنا أشتغل بالثورة. لكن ما هي وظيفة هذا المقاتل، ما هو موقعه في الثورة؟ لا أحد يعرف. قوائم على المعاشات. وحين «ينزنق» التنظيم يرمي الناس في الشارع.. وليس مهماً أن يموتوا من الجوع ويتشرد أولادهم.. طالما أن التنظيم والمسؤول بخير، فلا علاقة لنا بما يمكن أن يحدث للشعب.

    حزب الله لم يسلك هذا الطريق. 1276 شهيداً الذين قدمهم حزب الله، لم يكونوا جيشاً نظامياً متفرغاً للعسكر، هم جاؤوا من الجامعات.. جاؤوا من الحقل.. جاؤوا من المصنع، جاؤوا من المعهد، منهم الموظف، المدرس، والعامل، والطالب، والفلاح، يأتون من مقاعد الدرس في الجامعة إلى الجبهة. هناك نظام تعبئة لمدة شهور ثم يعود إلى الجامعة. فيقدم امتحانه ثم يلتحق بالمقاومة. حالات كثيرة من الطلبة ظهرت نتائج نجاحهم في الجامعة وكان عزاؤهم قائماً بعد أن سقطوا شهداء. هذه العلاقة ما بين الجبهة والمجتمع الأهلي بكل تفاعلاته هي من أسرار الانتصار. هذا نظام تعبئة لم تعرفه الثورة الفلسطينية المعاصرة، وهذه التجربة نحن مازلنا نقترب منها، ومازلنا ندرسها ونتعلم تفاصيلها حتى يستطيع المقاومون في فلسطين أو في أي مكان آخر أن يأخذوا بنظام التعبئة الذي ابتكره حزب الله. إن أخطر الأمراض التي عانت منها الحركة الوطنية الفلسطينية هي غياب روح التطوعية في العمل الوطني وشيوع نظام التفرغ، الذي خلق جيوشاً جرارة من العاطلين عن العمل فأوجد بهم نظام إعاشة ولم يوجد نظام تعبئة للقتال. ونحن لسنا ضد أن تتكفل الثورة أبناءها، لكن قتل قيم العمل والإبداع في الناس وشيوع نوع من الاتكالية لديهم كان له آثار مدمرة على نوعية الإنسان وقدراته.

    النقطة الأخرى، هي القيادة الموحدة للمقاومة والتي رأس حربتها حزب الله. ونحن الفلسطينيين، للأسف، مما يتندر به الآخرون عنا إذا كان هناك ثلاثة فلسطينيون يعملون أربع تنظيمات. لقد عانت الثورة الفلسطينية تاريخياً من غياب القيادة الموحدة التي تشكل مرجعية حقيقية للشعب الفلسطيني وتعبر عن كافة قواه وقطاعاته وتمثل طموحاته وتطلعاته، حتى القيادة الموحدة التي جرى تداول اسمها كشعار في الانتفاضة لم تكن موجودة بالفعل. ولم يكن هناك قيادة موحدة وكلكم تعرفون القصة كيف كانت. حزب الله كان له رأس واحد، له قيادة واحدة وهو الثقل الأساسي في المقاومة، في التجربة الفلسطينية الوضع مختلف، هناك تعددية كبيرة تصل إلى حد التفتت والشرذمة. لذلك القيادة في الشعب الفلسطيني كانت دوماً مشكلة. ومنظمة التحرير لم تحل المشكلة، بل ربما فاقمتها بنمط القيادة الذي قدمته للشعب. والتنظيم القائد أو الفصيل القائد ـ ممثلاً بحركة فتح مثلاً في يوم من الأيام ـ لم يحل المشكلة. للأسف إذا وجد التنظيم القائد أو الفصيل القائد، فإننا نجابه بمشكلة أخرى هي أن هذا التنظيم القائد يكون تنظيماً غير عقائدي في حين أن التنظيمات العقائدية هي تنظيمات صغيرة ومهمشة في الساحة الفلسطينية. أما التنظيم القائد فهو تنظيم «فاتحها» لكل من هب ودب، لا تعرف له لوناً ولا طعماً ولا رائحةً. يفتقد عنصر العقيدة الصلبة والراسخة التي ترسم مساراً وترسم هدفاً وترسم منهجاً لهذا النضال وأدواته وآليته كما هو حال حزب الله.

    فالقيادة الموحدة للتنظيم القائد للمقاومة وهو حزب الله، قيادة متجانسة عقائدياً وروحياً وفكرياً وسياسياً.. قيادة تعيش حالة من التفاعل الوثيق مع القاعدة التي تدين لها بدرجة عالية جداً من الولاء..

    القيادة أثبتت قدرة ليست على إدارة العملية القتالية فقط، بل العملية السياسية، فتمتعت بدرجة عالية من اللياقة والكفاءة السياسية التي حافظت بها على التوازن والعلاقة مع الجميع، فلم ترتكب أي خطأ سياسي في حق أي طرف من أطراف المعادلة الداخلية، ولا حتى الإقليمية،وتعاملت مع الجميع بكل تواضع وهي في أوج انتصارها فلم يصبها الغرور الذي يصيب الأحزاب والفصائل في الساحة العربية بدون مبرر أحياناً. لذلك حظيت باحترام الجميع.. وقد تعززت هذه الثقة بالمصداقية الكبيرة التي اكتسبتها القيادة من جراء التضحية. وقد تجلى هذا بعد استشهاد ابن الأمين العام لحزب الله السيد هادي حسن نصر الله.

    من هنا، نقول: إن هذه العوامل وغيرها استطاعت فعلاً أن تتكاتف وتحقق الانتصار.

    هل يمكن لهذه التجربة أن تعمم وأن تنتقل إلى فلسطين؟ وكيف يمكن أن تؤثر على مجرى الصراع؟

    قبل أن أجيب عن هذا السؤال لابد أن أشير إلى الذي حدث في فلسطين في السنوات الأخيرة. وأين نقف الآن في الساحة الفلسطينية؟

    تجربة الثورة الفلسطينية، (أفترض أن الجميع في هذه القاعة يعرفها جيداً). لكن دعنا نبدأ بالانتفاضة. الانتفاضة كحدث كانت هي ذروة النضال الفلسطيني الجماهيري، والعدو الإسرائيلي سماها الحرب السادسة، وكلنا سمعنا ورأينا رابين، كيف كان يصرخ من نار الانتفاضة لدرجة أنه كان يحلم بقطاع غزة ويرى الكوابيس ويتمنى أن يستيقظ فيجد قطاع غزة غرق في البحر. ما الذي حدث نتيجة الانتفاضة؟ إن إسرائيل لم تكن تقبل وتسلم بنتيجة الانتفاضة أو أن تقطف الانتفاضة ثمرة الانتصار على غرار المقاومة في لبنان. لذلك سارعوا بالالتفاف عليها. وجاءت عملية التسوية ومن ثم أوسلو ثم جيء بمشروع الحكم الذاتي والسلطة الفلسطينية. وعندما أجهضت الانتفاضة وفرضت أوسلو كواقع وكخيار أصبح المطلوب من الشعب أن يرضخ ويذعن له.

    كانت هناك مرحلة أخرى من النضال امتداداً للانتفاضة هي ما عرفت بمرحلة العمليات الاستشهادية. فعندما قال لنا العدو وحلفاؤه ماذا ستعملون؟ الانتفاضة لم تجلب أي نتيجة. وهذا هو السقف الذي يمكن أن تصل إليه المقاومة الفلسطينية وليس أمامكم إلا الاستسلام والإذعان. عندها كان لابد من توجيه رسالة للعدو الإسرائيلي، ولمن يرعى مشروعه، أنه إذا قبل بأن يخرج من أجزاء من الضفة الغربية مقابل تسليمها لحليف (على غرار لحد)، يعطيه الضفة الغربية كوديعة وقاعدة تكفل أمن إسرائيل ـ وهو بالمناسبة لم يتراجع عن فكرته بأن الخط الأخضر أو حتى نهر الأردن هي الحدود الآمنة لإسرائيل. بل أراد أن يوقع الشعب الفلسطيني في هذا الفخ ـ فلا ما يسمى بالخط الأخضر ولا نهر الأردن هي الحدود الآمنة لإسرائيل، حتى لو تحقق الانسحاب من بعض أجزاء في الضفة الغربية وقطاع غزة. الرسالة كانت واضحة في العمل الاستشهادي؛ بأن كل عتبة بيت في إسرائيل لا تصلح بأن تكون حدوداً آمنة له. وبالتالي كان لابد أن ينطلق العمل الاستشهادي إلى ما يسمى بالقلب الحيوي في هذه البقعة المسماة اغتصاباً إسرائيل. في النهاية ما هي إسرائيل؟ إسرائيل إذا تأملناها هي شريط. تماماً كما يتكلمون عن حدود أو عن الشريط والحزام الأمني في لبنان. إذا نظرنا إلى خريطة فلسطين وأخذنا التقسيم الجغرافي ووضع الجغرافيا السياسية، والجيو ـ استراتيجيا نلاحظ أن إسرائيل لا يوجد فيها عمق استراتيجي. إسرائيل هي هذا الشريط الساحلي، من قلقيليا أو طولكرم إلى الساحل 12 كيلو متراً. إذا نظرت إلى القلب الحيوي في منطقة يافا وتل أبيب، تجد أن 37 بالمئة من السكان اليهود يتركزون في مائة كيلو متر مربع. إذا وسعت الدائرة إلى 200 كيلو متر مربع، يمكن الحديث عن 46 بالمئة من السكان اليهود. فشلت إسرائيل منذ قيامها أن تحول الشمال إلى منطقة مأهولة، وبالتالي كان ساقطاً أمنياً. وشاهدتم في (كريات شمونة) كيف كانوا يصرخون: «ليأتي حزب الله ويسكن لا نريد أن نبقى تحت الأرض طوال الوقت في الملاجئ». لم تفلح إسرائيل بكل الحوافز أن تجعل من الشمال منطقة مأهولة باعتباره منطقة حدودية، وعاش تهديد المقاومة الفلسطينية أولاً، ثم المقاومة اللبنانية ثانياً؛ يضاف إلى ذلك وعورة الشمال، فلم تستطع زراعته وجذب السكان إليه، رغم كل الحوافز التي قدمتها لإعادة جدولة أو توزيع الخريطة السكانية حتى تخفف من هذه الكثافة التي تجعل إسرائيل ساقطة استراتيجياً في مواجهة أي عدوان خارجي أو أي تحدٍ خارجي (مثل سوريا أو أي قوة عربية خارج حدودها). شاهدتم كيف أن 12 صاروخاً في حرب الخليج ـ بعضهم قال عنها صواريخ تلفزيونية، لكنها في النهاية صواريخ ـ عندما سقطت جعلتهم تحت الأرض طوال الوقت.

    أما الترسانة النووية التي أرادت إسرائيل أن تخوف بها العرب، فإن أحداً لم يسأل نفسه هل يمكن أن تستخدم إسرائيل هذا السلاح النووي أساساً؟ حتى هذه اللحظة إسرائيل لم تستخدمه. إسرائيل عانت ما عانت وكان لديها سلاح نووي، وكل التقارير أكدت ذلك، ولكنها لم تستخدمه. والسلاح النووي كقوة ردع لم يمنع الانتفاضة، السلاح النووي وصواريخ باتريوت لم تمنع وصول الاستشهاديين إلى قلب تل أبيب والقدس وعسقلان. وأصبح أي مكان في هذا الكيان لا يصلح أن يكون حدوداً آمنة. أصبحت إسرائيل تضع الحواجز في قلب شارع ديزنكوف وتغلق المحلات التجارية أبوابها نتيجة معلومات بأن هناك استشهاديين يريدون القيام بعمليات. أصبحت الحدود الآمنة هي حواجز الشرطة المقامة في قلب القدس وتل أبيب. من الذي استطاع أن يلغي هذه المعادلة وأن يكسر هذا الميزان الذي أصبح في غير صالح العدو؟ لقد بات في صالحنا ووصل إلى ذروته في عام 1996، عندما صرخوا إبان (شرم الشيخ) وقالوا أمام أربع عمليات للجهاد وحماس «نحن موجودون في المكان الخطأ».. هل هناك (شعب) يمكنه أن يذهب في الحافلات إلى أماكن عمله، ليعود كتلاً من اللحم لقد تم تحقيق نوع من توازن الرعب لم يسبق في تاريخ الصراع، بل لم يتحقق على الجبهة اللبنانية ذاتها في تلك المرحلة. هذه الوضعية لم يستطع أن يوقفها أحد، لا أمريكا ولا إسرائيل ولا السلاح النووي، ولكن الذي أوقفها فقط هو ياسر عرفات. لماذا؟ لأن دوره هو ذات الدور الذي كان مقرراً لجيش لحد. السلاح الذي خرج من المخازن الإسرائيلية وحمله جيش لحد، خرج مثله سلاح من مخازن إسرائيل إلى السلطة. والسلطة بطبيعة الحال لم تصنع سلاحاً فهل من أحد يعتقد أن لدى السلطة مصانع أسلحة، أو أن الجيوش العربية أهدت عرفات سلاحاً؟ نحن لم نسمع بذلك. إن السلاح الذي يحمله رجال عرفات وأجهزة أمنه، ويحرسون به السجون للشعب الفلسطيني ومناضليه هو سلاح إسرائيلي، وحتى الملابس العسكرية لأجهزة الشرطة هي من صنع إسرائيلي، هي ليست مثل الملابس الموحدة التي يرتديها الجيش الإسرائيلي وجيش لحد، ولكن صنعت هذه الملابس لأجهزة السلطة في مصانع إسرائيلية، ربما في بيت رومانو في يافا. اختلاف في الزي لكن التكامل الوظيفي والدور واحد.

    وهنا نقترب من الحدث اللبناني ونقول: هل يمكن أن تنتقل هذه التجربة، تجربة انتصار المقاومة إلى فلسطين؟ لا أريد أن أكرر النغمة الموجودة هذه الأيام، من أن الفلسطينيين يحاولون أن ينظّروا ويتحدثوا عن اختلاف الحالة الفلسطينية وبالتالي استحالة تطبيق نموذج الانتصار اللبناني في فلسطين. حتى لا نقع في هذا المطب ونردد مثل هذا الكلام، نقول بكل بساطة كعنوان أولي: يمكن تطبيق ما حدث في لبنان، مع تسليمنا بوجود اختلاف. أين هو الاختلاف؟

    من العناصر التي وفِّقت فيها المقاومة في لبنان هو وجود حاضنة. فالمقاومة قاتلت في الشريط الذي يمثل 10 بالمئة من أرض لبنان، لكن التسعين في المئة كانت قاعدة آمنة وتمثل ظهراً يحمي هذه المقاومة. السلطة في لبنان كانت في تكامل وظيفي مع المقاومة كل حسب إمكاناته وحسب قدراته في متطلبات المعركة. يعني تكاملاً لخدمة المقاومة بين السلطة والشعب الذي نهض بالمقاومة. لكن داخل فلسطين نجد أن هناك تكاملاً وظيفياً بين السلطة والاحتلال لسحق المقاومة، وليس بين المقاومة والسلطة لسحق الاحتلال. هذا فارق موجود، لكنه لا يمنع من تكرار التجربة؟ لأن المقاومة لم تحظَ بالإجماع اللبناني من اليوم الأول. وجميعكم يعلم أنه من اليوم الأول للمقاومة كان هناك من يعاديها ومن يسخر منها، وكان هناك من يضع الألغام والعراقيل في طريقها. ولما وقفت المقاومة على الأرض واشتد عودها وأثبتت نفسها، وأصبحت شوكتها قوية وقادرة على كسر شوكة إسرائيل لم يستطع أحد أن يظهر عداءه لها. حتى الذين ظهروا الآن بعد الانتصار كطابور خامس يتكلمون بلسان العدو في لبنان، كانوا قبل شهرين يقولون إنهم مع المقاومة. ولكننا كنا نعرف أنهم لم يكونوا في يوم من الأيام مع المقاومة، هم الآن يساوون ما بين دور سوريا في دعم المقاومة، وما بين الوجود الإسرائيلي.. هذه المفارقات المخيفة التي لا يمكن أن يقع فيها عقل سوي، أو نفسية عربية سوية كانت دائماً موجودة لكن الذي أطفأها فخمدت في السنوات الأخيرة هي قصة المقاومة. والمقاومة في فلسطين إذا أرادت أن تتذرع بوجود السلطة أو وجود قوى لا تريد المقاومة في الشعب الفلسطيني فهذا الموقف كان دائماً موجوداً في لبنان، لكن الإرادة والإصرار الذي سكن المقاومين في لبنان هو سر الانتصار وهو أخطر ما يواجه المقاومة في فلسطين أن لا تنكسر الإرادة وأن لا تنكسر روح المقاومة وجذوتها في قلوب المجاهدين. هناك الاختلاف آخر لكنه في صالح فلسطين، فالمقاومة في داخل فلسطين ربما تتمتع بميزة غير موجودة في لبنان، وهي أن المعركة في داخل فلسطين هي في عقر دار الاحتلال. في لبنان العدو ينظر إلى الحرب وإلى المواجهة بأنها تتم في الحديقة الخلفية للبيت، أو تتم في خاصرته، يعني أنه في وضع مريح ويؤمّن وجوده في فلسطين بهذا التمدد في الشريط، لكن عندما يخرج الفدائي بعملية استشهادية أو فدائية في قلب تل أبيب، فإن هذا يحدث في غرفة نومه لذلك الأثر المعنوي والنفسي والمادي على هذا الكيان هو أضعاف مضاعفة لأي عمل يتم في جنوب لبنان. ولذلك الفرصة في فلسطين لإيذاء هذا العدو ومواجهته أكبر منها في لبنان. ومع تقديرنا لتجربة كفاح وجهاد الشعب اللبناني، يجب أن لا نغفل أن التباين الموجود على المستوى الطائفي والتركيبة السكانية والسياسية والعقائدية، هي تركيبة معقدة في لبنان، في حين أن درجة التجانس الموجودة في الشعب الفلسطيني تسمح بانصهار وطني في بوتقة واحدة، تفرز قيادة موحدة، لنضال متكامل، دون وجود حساسيات طائفية وعقائدية معقدة على الطريقة اللبنانية. هذه المشكلة ليست موجودة لدى الشعب الفلسطيني، فالشعب الفلسطيني يتمتع بنوع من التجانس العقائدي والمذهبي والطائفي والعرقي، وهو في غالبيته شعب عربي مسلم وليست لديه مشكلة مذهبية على مستوى مسيحي ومسلم. مطلقاً نحن لم نعرف في فلسطين هذه المشكلة ولم نشعر بها طيلة تاريخ الصراع. والأحزاب والقوى التي ناضلت لم تتعرض لذلك، والحاج أمين الحسيني كان رجل دين معمماً وكان معه مسيحيون محسوبون في نضالهم على المجلس الإسلامي، وعز الدين القسام كان رجل دين مجاهد، ولم يكن لديه حساسية في الموضوع الطائفي أو العقائدي، فالموضوع الطائفي لم يكن عامل نفور أو تحدٍ، كما هو في الساحة اللبنانية، لكن استطاعت قيادة المقاومة في لبنان أن تحقق أعلى درجة من التماسك وأن تتغلب على كل الانقسامات السياسية والعقائدية والطائفية والمذهبية وتحقق لحمة المقاومة.

    في فلسطين نحن نؤكد ونقول، وهذا شيء معروف للجميع، أن فرصة تحقيق إجماع على المقاومة أقوى. العقبة هي هذا المشروع المطروح الآن على الشعب الفلسطيني. هذا المشروع الذي جاء لإجهاض الحلم الفلسطيني والقضية الفلسطينية وتصفيتها. أين وصل هذا المشروع؟ كلكم تعرفون أن القصة أصبحت الآن مكشوفة ولم يعد شيء مخفي. إنهم يتكلمون الآن في الحل النهائي، ولكن ما هو الحل النهائي؟ الحل النهائي يعني لا قدس، ولا لاجئين، ولا تفكيك للمستوطنات، ولا سيادة ولا جيش ولا دولة بمعنى الدولة، هناك مسمى دولة قادمة، هناك يافطة بعنوان الدولة الفلسطينية ولكن هل هذه الدولة هي حلم الشعب الفلسطيني؟ هل هي أمل الشعب الفلسطيني؟

    إذا أردنا أن نسأل ما هي الفكرة التي ستقوم عليها هذه الدولة؟ هل هي فعلاً تحقيق الاستقلال الحقيقي، وتقرير مصير الشعب الفلسطيني واستعادته لأرضه وعودته لوطنه وإقامته دولته وسيادته على أرضه؟ هل فعلاً هذه هي الفكرة، وهذه هي تفاصيلها التي تقبع خلف مفهوم الدولة الذي يتحدثون عنه؟ بالتأكيد لا. هذه الدولة تفاصيلها ـ كما يقولون ـ مقروءة على الحيطان للجميع: لا جيش، لا سيادة، حتى قمم الجبال والمرتفعات في الضفة الغربية تسيطر عليها إسرائيل. الأجواء ستكون ملك إسرائيل.. البحر سيكون ملك إسرائيل، والسيادة ستكون بيد إسرائيل، حزام أمني غرب النهر سيكون بيد إسرائيل، جزر تفصل المناطق السكانية ستكون بيد إسرائيل. وسيرفض الإسرائيليون الخروج من الضفة الغربية وقد تحدثنا قبل قليل بأن الضفة الغربية بجغرافيتها واستراتيجيتها التي تعلو الساحل الفلسطيني، لا يمكن أن ينزل الإسرائيلي عنها، إلا إذا اطمأن أنه نزل ولم ينزل، خرج ولم يخرج، ولابد أن يتحقق أمنه من خلال من ينوب عنه بالكامل. وفي اللحظة التي تختل فيها هذه المعادلة سوف تقوم إسرائيل بتخريب كل شيء وتعود إلى نقطة الصفر، فهي غير جاهزة لدفع الثمن الأمني المترتب على التخلي عن الضفة الغربية.

    إذا كانت إسرائيل تساوم على سنتمترات أو على متر أو على عشرة أمتار في الجولان، وترفض أن تنزل عنها، بما يعني ذلك من خطر في عقلها الأمني على أمنها، فكيف يمكن أن تنزل عن قمم ومرتفعات وجبال الضفة الغربية وهضابها؟! إسرائيل أرادت أن تتخلص من قنبلة موقوتة اسمها ثلاثة ملايين فلسطيني، فأعطتهم حكماً للسكان وليس للأرض، فالأرض ستبقى ملكيتها لها في نظرها، والسيادة عليها لإسرائيل. ستوضع الأرض وديعة عند ياسر عرفات حيث يدير الثلاثة ملايين بمجموعة من الشروط. وفي اللحظة التي يخل عرفات بشروط هذه الوديعة ستسحب إسرائيل هذه الأرض لتحتلها، كما تسحب وديعتك أنت من البنك عندما لا تعجبك شروط الإيداع. هذا ما تفكر فيه إسرائيل وهذا هو ما يسمى الآن بالمستقبل الفلسطيني، والاستقلال الفلسطيني. إسرائيل كمشروع هي دولة فكرة عقائدية، وكلنا يعرف ذلك. دولة الفكرة الصهيونية التي إن تخلت إسرائيل فيها الآن عن فكرة «إسرائيل الكبرى» فهي تحولت إلى فكرة «إسرائيل العظمى» التي تستهدف الهيمنة على المنطقة ومقدراتها عبر التسوية. أما الدولة الفلسطينية فتولد بلا فكرة. بل إن الفكرة الوحيدة التي تنشأ عليها الدولة الفلسطينية المزعومة هي المشاركة في الحفاظ على أمن واستقرار إسرائيل بما يعني خدمة دولة الفكرة الصهيونية، أي أن دولة عرفات هي امتداد للفكرة الصهيونية، وبالتالي التصدي لهذا المشروع أو عدم اكتماله هو أمل الشعب الفلسطيني وليس العكس كما يروج.

    نحن كلنا ثقة بأن الواقع الفلسطيني الآن بما هو مطروح من إفلاس على صعيد التسوية وبما هو موجود من فساد ومن قمع وبطش لسلطة عرفات الشعب الفلسطيني في الداخل، كل ذلك بنظرنا يراكم مخزون الصبر والصمود والتحمل لهذا الشعب الذي لم تكن عوامل الانفجار عشية الانتفاضة بأي حال من الأحوال أكثر منها في هذه اللحظة في داخل الشعب الفلسطيني. لكن لابد لهذا الشوط أن يأخذ مداه، فالشعب يعيش حالة من الانتظار والصبر والتأمل، لكننا على ثقة مطلقة أن الشعب الفلسطيني ليس هو الشعب الذي يفرط بحقوقه وبأرضه وبتاريخه وعقيدته ومقدراته ومستقبله ويجعله رهناً في خدمة عدوه. لا تاريخ الشعب الفلسطيني ولا واقعه ولا حتى جيناته يمكن أن توصلنا إلى هذه النتيجة، وسيثبت مجدداً، مستلهماً هذا الانتصار، أن هذا العدو وإن كان مدججاً بالسلاح ومحمياً بالقوة الأمريكية، فإن هذه الفرضيات التي يقوم عليها مشروع تصفية القضية الفلسطينية، يمكن للشعب الفلسطيني أن يكسرها كما كسرتها المقاومة في لبنان. هذه الفرضيات ليست أبدية، وميزان القوى يمكن أن يتغير، ومحددات هذا الصراع بما نملك من إنسان ومعنويات وعقيدة وروحية، وبما نملك من طاقات علمية تستطيع أن تتكيف وأن تقتنص الفرص، كلها تبشر أننا على المدى الطويل، ننتظر بإذن الله مستقبلاً أفضل. ونحن الآن لا نتحدث بالغيبيات، لكن قراءتنا لهذا الكيان أنه ليس الآن في أفضل أحواله. قبل سنوات كنا نتكلم عن إسرائيل الكبرى كعقيدة لا يمكن أن تفرط إسرائيل بها، والآن، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لم تعد فكرة إسرائيل الكبرى في الكيان الصهيوني أكثر من مجرد أسطورة أو حلم أو أمنية في قلب اليمين الإسرائيلي. لكن، حتى بالنسبة لإسرائيل الكاملة، بمعنى فلسطين الكاملة بحدودها التاريخية، أبدى المشروع الصهيوني استعداداً لأن يقدم تنازلاً عن جزء منها مقابل أن يدعم الاستقرار في الجزء الباقي. لكن المستقبل سيثبت أن وجود أربعة ملايين فلسطيني عرضة لأن يتضاعفوا على امتداد السنوات القادمة في محيط عربي ضاغط، سيؤدي بإسرائيل إلى أن تواجه مصيرها الحتمي الذي واجهته كل الكيانات الغريبة التي ضغط عليها المحيط البشري المعادي والرافض لها، وستواجه ماواجهته الكيانات الأجنبية، وتنتهي طال النهار أم قصر.



    المصدر الموقع الرسمي للمعلم رمضان شلح
    السماء الزرقاء تنتصر

    تعليق


    • #3
      محاضرة الدكتور رمضان عبدالله شلّح

      الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين



      التي ألقيت في ذكرى النكبة الثالثة والخمسين بدعوة من الاتحاد العام للكتاب العرب



      بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد، أحييكم جميعاً أطيب تحية، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

      في البداية أتوجه لكم جميعاً بالشكر على هذا الحضور وما تحملتموه من مشقة وعناء، وأتوجه أيضاً بالشكر إلى الأخوة في اتحاد الكتاب العرب وعلى رأسهم الأخ والصديق الدكتور علي عقلة عرسان، على هذه الدعوة الطيبة. ونحن كلما سمعنا الدكتور علي أدركنا كم بقي في هذه الأمة من خير وأمل بالمستقبل والحياة. أيضاً أتوجه بالشكر للإخوة في اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين فرع دمشق، على جهدهم في التنسيق لهذه الدعوة.

      سأحاول ألاَّ أطيل عليكم الحديث في ذكرى النكبة فيكفيكم ثقل الذكرى، ولسنا في مقام فتح المواجع في هذا اليوم، ولكن سنحاول أن نتحدث في بعض المحاور الأساسية التي تتعلق بالمناسبة من حيث صلتها بالواقع، أي النكبة كحدث مستمر. ولا نريد أن نحيل حديثنا فيها إلى بحث أكاديمي، بل سنتحدث بشفافية وبصراحة تامة وبلا رتوش، حديثاً من القلب إلى القلب، كما نرى الأمور اليوم على حقيقتها في كل المحاور والاتجاهات.

      وكمقدمة لذلك نسأل: هل النكبة كحدث هي نكبة الفلسطينيين؟ هل هي نكبة العرب؟ هل هي نكبة المسلمين؟

      باختصار، النكبة هي نكبة الأمة جمعاء. ليس الفلسطينيون وحدهم هم المعنيُّون بالنكبة. والنكبة لها مظاهر كثيرة تحمل بها هذا الجرح المتجدد في القلب. لذلك، النكبة لا تعني فقط أن جزءاً عزيزاً من أرض العرب، والمسلمين، اسمه فلسطين، اقتطع منها وضاع، بفعل عدوان وبطش وإرهاب اليهود. يكفي أن نتحسس عمق وحجم النكبة عندما نرى، بعد ثلاثة وخمسين عاماً، كيف أن الشتات اليهودي استطاع أن يتوحد، وأن يؤسس لنفسه كياناً واحداً، بينما العرب ما زالوا في حالة من الشتات الممزق والمتشظي في اثنين وعشرين كياناً، بمعنى آخر، إن الشتات اليهودي توحد في كيان أو على كيان واحد، بينما المتحد العربي، بفعل التجزئة وسايكس بيكو، تشتت إلى أكثر من عشرين كياناً. ربما كان هذا المشهد أكثر إيلاماً، وأكثر تجسيداً لعمق النكبة، من ضياع مساحة من الأرض، كان يمكن أن يقوم عليها كيان آخر ليصطف في طابور هذه الكيانات الإقليمية العربية.

      باختصار، سأتحدث في خمسة عناوين أو محاور، بعضها يتعلق بالثابت في هذا الصراع، وبعضها يتعلق بالمتغير.

      المحور الأول، طبيعة الصراع:

      لا أريد أن أعيد كلاماً مكروراً نعرفه جميعاً، لكن أقرأ عليكم عبارة وردت في رسالة الشاعر محمود درويش، التي أذيعت اليوم على أنها رسالة الشعب الفلسطيني إلى العالم. يقول فيها: "وإذا كان صناع النكبة الإسرائيليون يعلنون في هذه الذكرى أن حرب العام 48 لم تنته بعد، فإنهم لا يفضحون سوى سراب سلامهم الذي لاح خلال العقد الماضي، ملوحاً بإمكانية التوصل إلى وضع نهاية للصراع تقوم على اقتسام الأرض".

      هذه العبارة تتكلم عن سراب كان عنوانه إمكانية وضع نهاية للصراع على أساس اقتسام الأرض. وهذا القول يستبطن أن الصراع كان يدور حول الأرض فقط، لكنه ليس كذلك. عندما نردد شعار أن "الصراع ليس صراع حدود بل صراع وجود"، هذا الشعار صحيح ويجب على الأمة، بكل فئاتها وقواها، أن تتمسك به، إلى نهاية هذا الصراع حتى النصر والتحرير. الأرض في هذا الصراع عنصر جوهري، لكنها ليست هي أول المطاف وآخره. الصراع لم يكن على بضعة أمتار من الأرض؛ أن تكون حدودنا هنا أو هناك. الصراع هو على الوجود، بكل مقومات الوجود: صراع العقيدة، الحضارة، الهوية، الثقافة، التاريخ، الاقتصاد، الاستراتيجيا، الخيرات، الإمكانات، الموقع، الجغرافيا.. كل هذه العناصر التي تمثل مقومات الوجود، وتعطي للأمة معنى وقيمة لوجودها، هي من مكونات هذا الصراع. ولذلك، عندما اختزل الصراع أنه على أمتار من الأرض، انظروا ما الذي حدث؟

      دخلنا من الأساس في ما سمي بالتسوية على أساس اقتسام الأرض.. وليس كما توحي العبارة (اقتسام الأرض مناصفة مثلاً).. دخلنا على أساس نسبة 8:2، لكنهم لم يقبلوا بذلك. لماذا؟ لأن نسبة 8:2 في نظرهم غير عادلة، وتخل بمقومات وجودهم هم في عناصرها الأساسية، التي لها علاقة بالتوراة والتاريخ والهوية والثقافة كما يزعمون، فلم يستسلموا لهذه النسبة أمام ضغط الرأي العام، واعتبروا أنها من وجهة النظر اليهودية غير عادلة وغير مقبولة. وانظروا المقابلة هنا: الآخر يرى أن وجودنا في 20 بالمئة خطر على وجوده وغير مقبول، ونحن اعتبرنا أن وجوده في 80 بالمئة مقبول ومتنازل عنه سلفاً، ولنا أن نتخيل ما هي نتيجة المساومة على العشرين في المائة الباقية بين من يتنازل عن الـ 80 مقدماً وبين من يتمسك بالعشرين ويلاحقها. وهنا أذكركم بمسألة عاصرتموها جميعاً: المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية. في اللقاء الأخير في جنيف، لماذا انهارت تلك المفاوضات؟ كل العالم قال لنا: اختلفوا على عشرة أمتار على شواطئ طبريا.. هل يعقل أن كل الجهد الذي بذل، والاستثمار الذي وضعته أميركا في عملية التسوية، من أجل إخراج سوريا من الصراع، كما خرجت مصر، وطي ملف الصراع..هل يعقل أن هذا يتوقف عند عشرات أو مئات الأمتار؟ ألا تستطيع أميركا دفع ثمن هذه الأمتار وتحل المشكلة"؟ ولماذا لم تقبل سوريا بالتنازل؟ لماذا رفض الرئيس حافظ الأسد ـ رحمه الله ـ أن يتنازل عن أرض الجولان وأرض سوريا بالسنتيمترات، بينما التنازل في فلسطين بالجملة؟ لأنه يعرف أن القصة ليست قصة متر هنا أو متر هناك. إنه يدرك أن هذا التوقيع أو هذا الاتفاق ـ لو تم ـ فهو يعني تجسيد لانتصار المنتصر على المهزوم؛ الاتفاق سيعبّر عن ميزان قوة يعكس لحظة انتصار هذا الغازي في الأرض العربية. والذي يستطيع أن يملي شروطه في المئة متر سيملي شروطه في مستقبل الأمة ومصيرها. من هنا كان الموقف السوري متمسكاً حتى بالسنتيمتر، لأن هذا السنتيمتر له دلالة سياسية وتاريخية واستراتيجية وحضارية، لذلك لم يتم التفريط وانهارت المفاوضات ولم يسأل الرئيس الأسد ـ رحمه الله ـ ماذا ستقول أميركا، وماذا ستفعل أميركا؟!

      من هنا، فإن مقولة إنهاء الصراع على أساس اقتسام الأرض خدعة كبيرة، وإذا كنا نقول إن الأرض عنصر جوهري، دعونا نعود قليلاً بالشريط خمس سنوات إلى الوراء، وننظر ما الذي حدث في ظل أوسلو..؟ حتى معادلة 8:2 أنسونا إياها، بعد أن فرطنا بكل العناصر الأخرى في الصراع؛ حتى الأرض سقطت من المعادلة، وصار هناك هدف وهمي جديد تم اختراعه هو "الدولة الفلسطينية"، فأصبح المتمسكون منا بأصول الصراع وجذوره يقولون إن الأصل هو الأرض، أمام الهجمة الجديدة على الأرض، والعدو طبعاً فرح بأن العاقل فينا والوطني جداً اليوم يقول "الأصل هو الأرض" لأن هذا الوطني، استطاعوا أن ينسوه كل عناصر الصراع الأخرى في ظل حمى نهب الأرض وتهويدها، فماذا كانت النتيجة؟ ضاعت كل العناصر الأخرى، ولحقت بها الأرض التي تم شطبها خلال سنوات أوسلو، فأصبح المتمسك بالحق فينا يصرخ أن الموضوع هو الأرض، لأن العدو يريد أخذها ونخرج نحن بلا شيء… وبعض الناس يُروجون أن الهدف اليوم هو "الدولة" وليس الأرض، وهذا أخطر من كل شيء. إذاً المسألة في هذا الصراع ليست هي مسألة اقتسام الأرض، وهذا السراب الذي ذُكر اليوم في ما وصف برسالة الشعب الفلسطيني، كان فعلاً سراباً.. لا يمكن مطلقاً وضع حد لهذا الصراع تحت عنوان معادلة اقتسام الأرض لأنها معادلة ظالمة من الأساس.. من الذي حدد هذه المعادلة؟ ومن يقبل أن يدخل إلى طاولة المفاوضات على أساس8:2 والعدو هو الذي يتشدد ويرفض؟!.. هذا الصراع لا يمكن أن ينتهي وفي الأمة إحساس بمرارة الهزيمة. يجب أن نعرف أن هناك هجوماً استعمارياً بدأ على الأمة منذ قرون.. وتتويج الانتصار الغربي والحضاري علينا كان من أحد عناصره غرس هذا الكيان في قلب الأمة، إلى جانب التجزئة التي تمثل الوجه الآخر لمشروع الكيان في قلب الأمة، ولا يمكن لأحد في الأمة أن يقبل بإنهاء هذا الصراع ونحن مازلنا نحمل مرارة الهزيمة. لا أحد فينا يقبل أن يبتلع هذه الهزيمة، حتى ولا الحكام الذين وقعوا اتفاقات مع إسرائيل، ولا يمكن لأحد منا أن يتحرر من الإحساس بمرارة الهزيمة بينما نتائجها كما هي. هناك من يعيش مرارة الهزيمة على مدار الساعات والدقائق والثواني، وهناك ـ كحد أدنى ـ من يتذكرها مرة في العام في 15 أيار. لكن بالإجماع، كلنا نعاني من مرارة الهزيمة، وإلا لماذا فرحت الأمة وهللت بانتصار حزب الله"؟.. هل كنا فعلاً حققنا انتصاراً بحجم هزيمة إسرائيل هزيمة نهائية؟ لا؛ الأمةormal" dir="rtl" style="************-align: justify; ************-kashida: 0%; margin-left: 40; margin-right: 60"> ماذا تعني الانتفاضة في ظل هذا الوضع، حيث الخروج عن أصل وطبيعة الصراع، ثم أوسلو و "الاستعمار أو الاحتلال النظيف" وطبقة الوكلاء للقيام بالدور القذر نيابة عن إسرائيل، وعرب غسلوا أيديهم من فلسطين ووضعوا أيديهم في يد إسرائيل.. ماذا تعني الانتفاضة أمام كل هذا الحطام؟ الانتفاضة جاءت لتشطب كل هذا السياق، وتمثل انقلاباً حقيقياً عليه. هذا لا يعني أن الانتفاضة جاءت بقرار من شخص جلس في غرفة وقرأ هذه القراءة وخط على الورق أننا غداً نريد انتفاضة لنشطب هذا السياق.. لا.. الانتفاضة كانت ثمرة ظرف موضوعي، ولكن عندما تجسدت على الأرض نقرأ فيها هذه الدلالات والمعاني.

      في الظرف الموضوعي، الانتفاضة كان لها عوامل كثيرة وأسباب كثيرة؛ زيارة شارون إلى المسجد الأقصى ـ كما تعرفون ـ مثلت الشرارة أو الصاعق، لكن عوامل التفجير الحقيقية تجسدت في: أولاً، الانتصار الحقيقي المدوي والمبهر الذي حققته المقاومة في لبنان. فلأول مرة الشعوب العربية والإسلامية، والشعب الفلسطيني خاصة، يتنفس الصعداء ويشعر أن هناك بصيصاً من أمل، وأن هناك طريقاً آخر غير هذا القدر المكتوب علينا، الاتفاق مع اليهود.

      العامل الثاني، هو ركام أوسلو وحطامه على الأرض، ووصول ما سمي بالتسوية إلى طريق مسدود في كامب ديفيد. لقد تبين لأصحاب هذا المشروع أن المعادلة التي دخلوا على أساسها.. بأن نضع الخريطة على الطاولة ونقبل سلفاً بنسبة 8:2 لم تفلح، والآن يقولون عن شركاء الأمس أنهم "لا يفضحون سوى سراب سلامهم الذي لاح خلال العقد الماضي". الآن يعترف الناطق باسم مرحلة، أو باسم حقبة أو حالة معينة أننا كنا خلال هذه السنوات، نركض خلف السراب. هذا اعتراف جميل لكن من سيدفع فاتورته؟

      العامل الثالث، هو تراجع خطاب العولمة.. ما وعدونا به في التسعينات، من أن العالم أصبح قرية صغيرة، وبدأ عصر التعايش والسلام والوئام بين الشعوب، وأن الحواجز تسقط والدول تسقط.. هذا الخطاب هو الذي سقط اليوم. والعالم يعيد دورة استقطابه من جديد: صراعات، وبؤر صراعات.. بوش بالأمس يتحدث عن حاجز وعن حائط صواريخ، "الدولة التي ركّعت الاتحاد السوفييتي" وانهار أمامها تريد حائط أو درع صواريخ، خوفاً من مَن؟!

      إنهم يطلقون سُعار وحمى سباق التسلح في العالم ويتحدثون عن السلام، أي سلام وأي خير يمكن أن يتحقق للبشرية، في ظل أن تبقى الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة المهيمنة على العالم؟ هذا الوضع لن يستمر، وهناك قوى أخرى متضررة من هذا الوضع ولن تقبل باستمراره إلى ما لا نهاية، هناك قوى أوروبية، هناك العملاق الصيني، هناك روسيا التي تبحث عن استعادة موقعها كدولة عظمى على الساحة الدولية لتخلف الاتحاد السوفييتي لكن بطريقة مختلفة..

      إذن، الانتفاضة جاءت لتشطب واقعاً سيئاً صنعه اتفاق أوسلو في فلسطين وصنعته التسوية ومناخها في المنطقة، وتنشئ واقعاً جديداً.. هم فرضوا «أمر واقع»، والانتفاضة اليوم تفرض «أمر واقع» جديد، لا يمكن تجاوزه أو الرجوع عنه بأي حال من الأحوال.. ولأنهم يدركون أن الانتفاضة تمحو وتلقف كل ما صنعه السحرة خلال السنوات الماضية، فهم يعملون ليل نهار من أجل وقفها أو الالتفاف عليها، تارة بأوراق ومبادرات عربية كالورقة (المصرية ـ الأردنية)، وتارة بتقارير دولية مثل ما سمي بتقرير ميتشل.. وكلاهما عبارة عن حبال نجاة أو طوق نجاة يرمى لشارون لإنقاذه وإنقاذ الكيان الصهيوني من المأزق التاريخي الذي وضعته فيه الانتفاضة، فهل يفلحون في ذلك؟ هذا هو السؤال الذي يشغل الجميع الآن وسنتعرض له في المحور الأخير.

      المحور الخامس، أفق الانتفاضة:

      السؤال المطروح في أذهان الجميع في هذه المرحلة هو: ما هو أفق هذه الانتفاضة، وأين يمكن أن تصل بالشعب الفلسطيني؟ وأين موقع الأمة العربية والإسلامية في المعادلة؟

      لا أريد أن أضيف إحباطاً لمن يعاني من إحباط وأقول إن الكرة للأسف في ملعب العرب وليست في ملعب الشعب الفلسطيني فقط، لأن الشعب الفلسطيني ـ بإمكاناته الضعيفة ـ شعب مغلوب على أمره، وهو حتى هذه اللحظة قدم كل ما في وسعه، كل يوم شهداء، وكل يوم تضحيات. أكثر من الصمود والتصدي لهذا العدوان الذي يمارسه شارون بكل بشاعة وبكل فظاعة، ماذا يمكن أن يقدم الشعب الفلسطيني؟ الشعب الفلسطيني ما زال صابراً، ما زال صامداً، لكنه للأسف يتطلع إلى واقع الأمة العربية والإسلامية، فلا يجد ما يمكن أن يمثل دعماً وعوناً حقيقياً له على الاستمرار في الانتفاضة. وعندما نقول إن الكرة في ملعب العرب فنحن نتحدث على مستويين: مستوى الحكام، ومستوى الشعوب. بالنسبة للحكام، يجب أن يُطرح هذا السؤال، وهذه مهمة المثقفين والكتاب العرب؛ هل الدول العربية تريد فعلاً أن تتخلى عن الآثام التي اقترفتها بعد توقيع اتفاق أوسلو بنفض يدها من قضية فلسطين وقطع الحبل السري بين فلسطين والأمة، وتعيد وصل هذا الحبل، أم أنها تريد أن تلعب وتناور؟ مؤتمر قمة اليوم، صندوق.. صندوقان.. بضعة ملايين.. حفنة دولارات.. إضاعة الوقت على دماء الشهداء، وتلهية الشارع حتى يفصح البيت الأبيض عما في عقله الجديد.. هذا هو الخطاب الذي يجب أن نتوجّه به إلى الحكّام العرب لنعرف إن كانوا جادين فعلاً أم لا؟ إذا أراد النظام العربي أن يعود إلى فلسطين وأن يتصل بفلسطين كقضية حيوية ومركزية للأمة، فهذه الانتفاضة يمكن لها أن تعيش ويمكن لها أن تستمر، وإذا استمر الحال على ما نحن عليه الآن فربما يجب أن نعد أنفسنا لأن نرى جولة جديدة من الخذلان، ولو حدث هذا ـ لا سمح الله ـ فإن النتائج ستكون وخيمة. إذا كانت الانتفاضة الأولى بيعت وعلى أنقاضها جاؤوا لنا بأوسلو التعيس، فلكم أن تتخيلوا ماذا يمكن أن تكون النتيجة لو أجهضت الانتفاضة الحالية.. ربما كان الوضع الذي يخططون له ويبيتون له أكثر سوءاً، من أوسلو في طبعته الأولى.

      نتمنى أن لا يحدث ذلك، والضمانة الوحيدة لأن لا يحدث، هو التوجه للمستوى الثاني في العرب، مستوى الشعوب.. صحيح أن الشعوب مقموعة، محاصرة، مغيبة، لكن وظيفة القوى الحية في الأمة أن تستنهض الشعوب، وأن لا تستقيل من دورها التعبوي والتحريضي.. إذا كانت النخب المثقفة والواعية قد استقالت من دورها، فماذا ننتظر من الناس المغلوبين على أمرهم، المطحونين بالفقر والبطالة والمرض والفساد، والمحاصرين بالقمع والبطش من قبل الأنظمة المتحالفة مع إسرائيل؟ إن المحافظة على استمرار الانتفاضة والمقاومة مهمتنا جميعاً، وثقتنا بشعبنا وأمتنا كبيرة ألا يسمحوا لهذه الشرارة أن تخمد، ولهذا النفس، الذي يعبِّر عن الأمة كلها في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ألا ينطفئ، لأن ذلك لو حدث ـ لا قدّر الله ـ فسيكون الثمن أكبر مما نتصور جميعاً.

      كلنا تصميم، وكلنا عزم، وكلنا إرادة، أن تستمر الانتفاضة وأن تستمر المقاومة حتى النصر والتحرير بإذن الله، وحتى العودة إلى فلسطين كل فلسطين.

      أخيراً وبعد أن أثقلت عليكم بهذا الكلام المر والموجع في ذكرى النكبة، أختم حديثي بهذه الأبيات لشاعر من شعراء فلسطين، الشاعر مريد البرغوثي، علّها تبعث فيكم الأمل وتجدد الشوق والحنين وتنعش فيكم الحلم بالعودة إلى فلسطين بإذن الله:



      وأنت تمعنُ بعداً أيها الوطنُ
      طال الشتات وعافت خطونا المدن

      ونحن نركض لا نبطي ولا نهنُ
      كأن عشقك ركضٌ نحو تهلكةٍ

      كأن أجملهم بالموت قد فتنوا
      يقول من لم يجرب ما نكابدهُ

      كفى ازدحاماً على كفّي واتزنوا
      ولو حكى الموت بالفصحى لصاح بنا

      هل مات بالنار أم أودى به الشجنُ
      يهوي الشهيد وفي عينيه حيرتنا

      وقهرنا في فم البارود مختزنُ
      أشواقنا إن طواها الصدر باديةٌ

      فبعثرتنا على أمواجها السفنُ
      لك اتجهنا وموج الحلم يجمعنا

      فدونك الأرضُ لا قبرٌ ولا سكنُ
      ارجع ـ فديتك ـ إن قبراً وإن سكناً


      أشكركم جميعاً.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

      في المزة بدمشق ـ بتاريخ 15/5/2001



      المصدر الموقع الرسمي للمعلم رمضان شلح
      السماء الزرقاء تنتصر

      تعليق


      • #4
        محاضرة الدكتور رمضان عبدالله شلّح

        الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين في مدرج جامعة دمشق

        في الحادي عشر من تموز 2001

        الانتفاضة: طبيعة الصراع ـ إدارته ـ أدواته ـ آفاقه

        بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد إمام المجاهدين، وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين.

        أما بعد، أحييكم أطيب تحية وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

        بداية، يطيب لي أن أتوجه بجزيل الشكر إلى الأخوة الرفاق والأخوات في قيادة فرع جامعة دمشق لحزب البعث العربي الاشتراكي وقيادة الحزب والجامعة؛ إخواني أعضاء الهيئة التدريسية وإخواني الطلبة والطالبات في الجامعة، وإخواني الطلاب والطالبات في الأقطار العربية الشقيقة، أشكركم جميعاً على هذا الاهتمام وعلى هذا الحضور في هذه الدعوة، في هذه الذكرى والمناسبة الطيبة مناسبة تجديد العهد وتجديد النهج باستمرار قيادة الرئيس الراحل المناضل العربي الكبير الرئيس حافظ الأسد المتجددة في شباب الرئيس القائد بشار الأسد.

        العنوان الذي اقترحه الرفاق للحديث فيه اليوم هو انتفاضة الأقصى. كيف ولا وهي الحدث الذي يقف العالم كله اليوم على أطراف أصابعه ليرقب ساحات المجد والبطولة، ساحات الفداء التي يسطرها شعب فلسطين"> كم يساوي العرب بدون الإسلام؟.. العرب مسلمون ومسيحيون ـ بعض الإخوان الطيبون، في لحظة من اللحظات قالوا يا أخي التأكيد على العروبة والقومية فقط هي من أجل إخواننا المسيحيين..

        طيب إخواننا المسيحيين من قال أنهم "زعلانين" من الإسلام؟!.. المستشارون الذين كانوا في بيوت الخلفاء من معاوية.. من بغداد إلى دمشق إلى الأندلس إلى صلاح الدين.. هل يصدق أحد أن في مستشاري صلاح الدين الأيوبي ومساعديه كان مسيحيون في مواجهة حرب صليبية؟! ما كان في مشكلة مطلقاً بين مسيحي ومسلم في هذه الأمة.. المسيحي يقول تاريخياً: أنا مسيحي ديانة ولكنني مسلم هوية وثقافة وحضارة.

        هكذا عاشت الأمة موحدة في كنف الإسلام.. وحتى اليهود، نحن لا نقاتلهم لأنهم يهود بل نقاتلهم لأنهم مغتصبون.. لأنهم اغتصبوا أرض فلسطين، اليهودي عاش على مدار التاريخ الإسلامي في ظل الدولة الإسلامية آمناً.. في سوريا هناك يهود، في المغرب، في اليمن، في مصر… المكان الوحيد في العالم الذي يمكن أن يكون لنا مشكلة فيه مع اليهودي هو فلسطين، لأنه مغتصب ـ وهذه النقطة سأشير إليها لاحقاً في تبعات وفي ذيول ونتائج هذا الصراع.

        إذاً، الفصام والمعركة التي تم تبديد طاقة الأمة، كما قلت، أن العرب ماذا يساوون في ميدان الشعوب بدون الإسلام؟.. أقول المسلمون بدون العرب ماذا يمكن أن تكون بوصلتهم وعلاقتهم بالإسلام؟

        العرب هم مادة الإسلام. القرآن هو لسان عربي.. هذا القرآن العربي الذي جاء ليقول للناس كافة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).. كان هناك دول عظمى، كان الفرس والرومان وكان هناك إمبراطوريات. الصحراء العربية التي ينزل فيها القرآن باللسان العربي كان اصطفاءً إلهياً للعرب للقيام بدور تاريخي حتى يكونوا أساتذة للعالم والبشرية وأستاذهم الأول والأخير محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.

        لماذا يكون لنا مشكلة في داخل البيت تحت عنوان عروبة وإسلام؟!.. الإسلام الذي نستمد منه مفاهيم وقيم؛ الاستشهاد والجهاد والمقاومة والكفاح وعدم إعطاء الدنية في ديننا وعدم إعطاء الدنية في أرضنا وعرضنا.. لا أحد له مشكلة مع هذا الإسلام.. لكن عندما تحدث انحرافات وتحدث أخطاء ويحمل البعض الإسلام ما ليس منه، بممارسات الإسلام منها، عندها تقع المصائب وننشغل بأنفسنا وببعضنا البعض بدل أن توجه طاقاتنا في الاتجاه السليم في معركة مصيرية ضد أعداء الأمة.

        أيضاً، في إدارة الصراع نحن للأسف ـ وهذا موضوع شائك يعرفه إخواننا الطلاب في العلاقات الدولية والسياسة الدولية ـ على مدار تاريخ هذا الصراع نحن لم ندرك القيمة الاستراتيجية لهذه المنطقة، هذا القلب في الشرق، القلب الحيوي للعالم، لم نوظف هذه القيمة الاستراتيجية في الصراع الدولي وفي كل معادلات التوازنات الدولية توظيفاً جديداً، في الحرب الأولى خرجنا منها صفر اليدين ـ بريطانيا وعدت الشريف حسين قائد الثورة العربية الكبرى بخلافة فخرج بخفي حنين.. لماذا؟ لأننا صدقنا بريطانيا، صدقنا بريطانيا وقلنا إن بريطانيا هي التي ستعيد مجد العرب للعرب وتعيدها خلافة عربية، وإذ ببريطانيا، بليل، تعد العدة مع فرنسا وترسم خريطة هذه المنطقة حتى نقع فريسة للاستعمار وكأننا غير موجودين على هذه الأرض.

        في زمن الحرب الباردة لم نحسن إدارة هذا الصراع ولم نلقن الطرفين العظميين درساً يومها بأننا نحن أصحاب القرار، نحن أصحاب الإمكانات، نحن الذين يمكن أن نقلب كل الموازين أيضاً، حتى هذه اللحظة عندما انتهت الحرب الباردة، ما زال هناك الكثير من الخلل الذي يعاني منه الموقف العربي، وستنكشف حقائق هذا الخلل في التفاصيل القادمة.

        أدوات هذا الصراع:

        في أدوات هذا الصراع ـ النقطة الثالثة ـ سنتكلم عن ثلاث أدوات رئيسية: النقطة الأولى هي الحرب النظامية. النقطة الثانية هي الكفاح المسلح. النقطة الثالثة هي ما سميت بعملية التسوية في المنطقة، والتي تدور عجلتها منذ عقد من الزمان تقريباً.

        ـ بالنسبة للحرب النظامية، كلكم تعرفون أن الكيان الصهيوني عودنا على أنه هو المنتصر والمتفوق في كل الحروب التي خاضها تقريباً، أو معظم الحروب. الكيان اعتاد على الحرب الخاطفة والسريعة؛ هو من يحدد المعركة وينقلها إلى أرض الخصم ويحسم نتائجها بما يملك من قوة في ظل اختلال موازين القوة وفي ظل واقع الانقسام والضعف العربي. كل هذه المقدمات أوصلتنا في الوضع العربي إلى حقيقة، أصبح الجميع يقول لا طاقة لنا بأن نخوض حرباً نظامية ضد إسرائيل.. لماذا؟ لأن ميزان القوة مختل بشكل فادح لصالحه.

        أولاً، حتى لو سلمنا بهذه الحقيقة، فيجب أن ندرك أن قوة إسرائيل هنا ليست ذاتية. قوة إسرائيل ـ أولاً ـ مستمدة من ضعفنا نحن وانقسامنا وتشرذمنا وتفككنا.. "ما في" استراتيجية عربية‍!.. إسرائيل عندها وزير دفاع واحد، نحن كم وزير دفاع عندنا ما شاء الله!!؟ 22 وزير دفاع، وإذ "بدك تحكي" عن الأمة الإسلامية "بتحكي" عن 55 وزير دفاع!! طيب، كيف 55 وزير دفاع "بدهم" يواجهون وزير دفاع واحد وجيش واحد وقيادة واحدة!!؟ لذلك، النقطة الأولى في قوة إسرائيل هي ضعفنا.

        النقطة الثانية هي المدد الخارجي..، هل تستطيع إسرائيل أن تعيش لحظة واحدة بدون الدعم الأميركي بكل أشكاله؟! إسرائيل لا يمكن أن تعيش لحظة واحدة بدون الدعم الأميركي والمدد الأميركي. وفي الحرب النظامية، كلنا رأينا كيف أن العرب عندما خاضت دولتان حرباً واحدة هي حرب تشرين ما الذي حلّ بإسرائيل؟ اقرؤوا مذكرات قادة العدو، و"شوفوا" المفاجئات سواء ما كتبه هيكل في أسرار المفاوضات، أو ما كتبه الفرنسي مندرلين في موسوعته (مجلدان).. موشي دايان عندما كان وزيراً للدفاع وفاجأته الحرب حتى اللحظة الأخيرة، فاجأته الجبهة المصرية والسورية، موشي دايان كان يصرخ كالمجنون ويقول: إني أرى الدولة تنهار.. كل ما بنيناه الآن ينهار..

        كان وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي بن أليعازر وقتها رئيس أركان. الجيش العربي السوري والجيش العربي المصري مرغا أنف أليعازر ودايان في التراب. لكن للأسف كلكم تعرفون الملابسات وكيف توقفت الحرب، وكيف تحملت سوريا وحدها العبء وكيف تمت تسريبات مسبقة من خارج سوريا ومن خارج مصر المعنيين بالحرب لكن من أطراف عربية للأسف.. هذه صفحات لا نريد أن نفتحها لكن ربما بعضكم يعرفها واطلع عليها وقرأها.

        إسرائيل لا تستطيع أن تخوض حرباً في مواجهة دولتين بحجم سوريا ومصر في المنطقة. يجب أن تكونوا متأكدين من ذلك. بل أقول لكم إن مصر منذ أن خرجت من ميزان الصراع وتحملت سوريا طيلة سنوات، من كمب ديفيد إلى اليوم، تحملت سوريا العبء المزدوج، العبء الذي تمثله مصر وعبء سوريا بنفسها وذاتها..، عملت التسوية في المنطقة كان مقدراً لقاطرتها أن تصل إلى محطة ما فيها شيء اسمه فلسطين. الذي عرقل هذه القاطرة الصهيونية والمشروع الأميركي الصهيوني في المنطقة، بالدرجة الأولى هو صمود سوريا. لو لم يكن الموقف السوري الداعم للمقاومة في لبنان، والذي يستطيع أن يقول لا لهذا المشروع، لقطع المشروع مراحل، لكان من الصعب فرملته وإلجامه.. هذا الانتصار وهذا الصمود كان يعتمد بدرجة أساسية على صمود سوريا كرافعة للشعب الفلسطيني والمقاومة اللبنانية.

        الحرب النظامية، إذا سلمنا أنها الآن غير ممكنة في ظل ميزان القوة، لكن نحن أمة شعارها "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة".. ليس معنى أننا لا نستطيع الحرب اليوم، فإلى ما لا نهاية "ما في" حرب. وهذا الموقف العربي للأسف الذي يراه البعض ويصرخ منه ويشكو منه، أحياناً لا تستطيع أن نستوعبه ونفهمه. يعني ما هو المبرر أن تهرول دول عربية بعيدة عن هذا الصراع المباشر وهي ليست مضغوطة حتى تنافس سلطة الحكم الذاتي مثلاً، في الهرولة إلى الكيان الصهيوني. ليس لها من مبرر. الذي لا يستطيع أن يخوض الحرب اليوم، أن يتماسك وأن يصمد وأن يعد ما استطاع من قوة حتى تستطيع الأجيال القادمة أن تؤدي واجبها في مسيرة النضال والتحرير، وهذا فرض وواجب قومي ووطني وديني وأخلاقي وإنساني. "ما في" أمة.. "ما في" شعب… أنت إذا جئت إلى طائر هل تستطيع أن تهاجم صغير في عشه ـ ليجرب أحدكم محاولة أن يأخذ فراخ العش الصغيرة، ماذا يمكن أن تفعل الأم أو العصفور الكبير؟.. يتركك تمد يدك؟‍‍!.. يقاوم. القط، حاول أن تقترب من صغاره، عندها يمكن أن يعمل بك عملية الإسرائيليون يسمونها عمليات "انتحارية".. لا يستطيع كائن أو مخلوق أن يستسلم طائعاً ويقول: حقي ليس حقي وأرضي ليست أرضي وعرضي ليس عرضي. لا. هذا حق نحن نصر على أنه لنا، والأمم، كل الأمم والشعوب دائماً جاهزة لأن تدفع ثمن الحرية، وثمن الحرية هو الدم والتضحية والشهداء.

        ـ النهج الآخر هو نهج الكفاح المسلح. إذا تعذرت الحرب النظامية لاختلال موازين القوى فعندنا تجارب كل الشعوب التي تعرضت للاستعمار والغازي الأجنبي. لماذا واجهت الشعوب الحرة الاستعمار الأجنبي. لم تواجهه بباقات الورود، واجهته بالمقاومة، حدث ذلك في كل مكان؛ في الجزائر، في مواجهة الاستعمار الفرنسي، في فيتنام، في كوبا، في كوريا، في الصين، في أفغانستان، في كل مكان.. ليس هناك أمة على وجه الأرض تعرضت لغزو ولاستعمار واحتلال أجنبي إلا وقاومت.

        في فلسطين، الحرب الشعبية والمقاومة الشعبية، منذ بداية القرن العشرين وهي على أشدها؛ ثورات وموجات. وليس صحيحاً أن الثورة الفلسطينية انطلقت بالكفاح المسلح في 1/يناير/1965.. يعني مجازاً نقول الثورة المعاصرة، وإلا ماذا نقول عن الشيخ القسام؟.. الشيخ القسام ترك مسقط رأسه في جبلة بعد أن قاتل في مواجهة الاستعمار الفرنسي، وذهب إلى فلسطين ليقاتل الاستعمار البريطاني والصهيوني وتعرفون قصة القسام ـ إذا قرأتموها ـ قالوا له عندما حوصر في أحراش يعبد، وكان معه ثمانية أشخاص، وبندقية ومصحف في جيبه بريطانيا نادت عليه بمكبر الصوت ـ هذا الشيخ المعمم الأزهري القادم بعمامته وبندقيته وقرآنه ـ قالوا له: يا قسام، سلّم ونعطيك ما شئت. نعينك نائباً للمفتي.. كل الأموال، كل المناصب، كل ما تريد يا قسام حكومة بريطانيا العظمى تتعهد لك.

        ضحك رضوان الله عليه والتفت إلى رفاقه وقال: هذا جهاد نصر أو استشهاد، موتوا شهداء في سبيل الله.

        هذه المعركة، وهذا الكلام، في تشرين الثاني 1935، قبل أكثر من 65 سنة.. اليوم، القسام ـ هل تعلمون بأن القسام عندما استشهد ما سار في جنازته أي شخص من القيادات الوطنية الفلسطينية والزعامات التقليدية والإقطاعية المرتبطة ببريطانيا، لكن لا أحد يذكر اسم هؤلاء البتة، فقط اسم القسام يفجر استشهاديين في قلب فلسطين.. القسام فقط اسمه للآن يشتعل في فلسطين كنموذج للثورة، ونموذج على أن المعركة سواء كانت في سوريا، أو في حيفا أو في عكا هي معركة أمة واحدة. "ما في" فرق بين استعمار فرنسي وبريطاني ولا صهيوني.. القسام تميز عن الحاج أمين الحسيني كقيادة وطنية وقاتل معركة ضد بريطانيا، والصهيونية لا تنفصل فالمعركة واحدة.. "ما فينا نفرق" ونقول بريطانيا صديقتنا.. لا.. هذا كان وعي القسام المتقدم على الزعامات التقليدية التي تصدت للصراع آنذاك.

        النقطة الأساسية التي أود أن ألفت إليها انتباه أخواني وأخواتي اليوم، في مسألة الكفاح المسلح، هي أن كل كفاح مسلح في العالم. بحاجة إلى قاعدة آمنة. حتى الإسلام عندما بدأ، عندما انطلق من مكة إلى يثرب، ماذا كانت تمثل يثرب دار الهجرة؟ يثرب كانت هي القاعدة الآمنة التي انطلق بعد ذلك فيها مشروع الجهاد الإسلامي في آفاقه الكبيرة بالفتوحات والغزوات والانتصارات. كانت يثرب هي قاعدة ذاك الجهاد، وقبل وجود هذه القاعدة الآمنة تعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم بقي ثلاثة عشر عاماً في الدعوة ولم يكن مسموحاً به من الله سبحانه وتعالى، وأذن به في المرحلة المدنية عندما نزل قول الله تعالى (أذن للذين يُقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير).

        القاعدة الآمنة لابد أن تتوفر. العدو الصهيوني عندما واجه هذه الأمة وواجه الكفاح المسلح الفلسطيني والثورة الفلسطينية في كل مراحلها، كان يدرك أين هي القواعد الآمنة. عندما رأى أن سوريا قاعدة آمنة كان يستهدف سوريا. ودفعت سوريا ثمناً باهظاً لأن تكون قاعدة آمنة للكفاح المسلح، واحتضنت المقاومة الفلسطينية وقدمت الشهداء وخاضت الحروب. وكذلك فعلت مصر، وكذلك تواجدت المقاومة في الأردن، ومثلت الأردن في مرحلة صغيرة قاعدة آمنة للمقاومة. لكن العدو استهدف كل بقعة مثلت قاعدة آمنة، كما حصل أيضاً في لبنان مع المقاومة الفلسطينية. إلى أن وصل الوضع العربي إلى حالة ميزان القوى الراهن أصبح غير قادر على توفير هذه القاعدة الآمنة للثورة الفلسطينية. ليس ضعفاً، وليس من باب الخلل في الجبهة العربية فقط، بل من باب الخلل الذي دب في جسم الثورة الفلسطينية نفسها. من باب النقد والمراجعة الذاتية؛ إذا كان قادة الثورة الفلسطينية يعتبرون أنفسهم معصومين فهذه دلالة سيئة، لابد من مواجهة ونقد التجربة. الخلل الذي كان موجوداً في الجانب الفلسطيني أيضاً وكان موجوداً في الوضع العربي برمته. الذي حدث في لبنان شيء مختلف ـ وهذه النقطة يجب أن تنتبهوا إليها ـ في المعركة في لبنان حصل شيء لم تلتفت له بشكل واضح وكبير، وهو أن المقاومة في لبنان، فهم العدو وفهمت المقاومة أن هناك قاعدة آمنة لها وأن هناك ظهيراً لها. القاعدة الآمنة للمقاومة في لبنان كانت سوريا. والعدو يعرف أن سوريا عادت من الباب الخلفي لتمارس دور القاعدة الآمنة في معركة أشرس من معركة المقاومة الفلسطينية في لبنان. لكن هل استطاع العدو أن يفقد سوريا هذا الدور؟ لم يستطع. ومن رحمة الله بمن صنع هذا الدور بأن أنعم عليه بأن عاش إلى أن رأى ثمرة إدارة هذه المعادلة ذلكم هو الرئيس حافظ الأسد الذي رأى ثمرة انتصار المقاومة.

        إسرائيل كانت تعلم ما فعلته سوريا مع المقاومة، وفتحت لنا آفاق كمقاومين فلسطينيين أن القاعدة الآمنة يمكن أن تتوفر إذا توفر المجاهدون والمخلصون والمقاومون الذين هم على غرار حسن نصرالله وحزب الله. لكن لماذا ابتلع الإسرائيلي هذا الطعم وسكت عن سوريا في هذه المسألة ولم يسكت عنها في الغابر؟ هذا سؤال مهم، وهنا أنا لا أريد أن أتكلم بالأسرار ولكن من حقي أن أطمئنكم؛ العدو يدرك أن سوريا سنة 2000، ليست هي سوريا عام 1970، وبالتالي أن ميزان القوى يجب أن ندرك جميعاً ـ أنه ليس في صالح العدو بالكامل أو بالدرجة التي يقولها لنا العدو ويروجها في أوساطنا ويخوفنا بها. العدو يعرف أن سوريا ذاتياً تملك من القوة ما يمكن أن يوقع ضرر كبير به وبأمنه وعمقه.. عنده سلاح نووي، لكن هو يعرف أن الوضع العربي يحاول أن يحقق نوع من التوازن الآن بسلاح اسمه الصواريخ طويلة المدى. العدو يعرف أن هذا موجود لدى سوريا وموجود لدى مصر، وأن الوضع العربي يعيد بناء نفسه. ثم لا ننسى أن العمق الآخر الذي مثل عامل إسناد كبير للمقاومة ولسوريا ومن حق هذا العمق أن نذكره في هذا المقام ـ وهو الجمهورية الإسلامية في إيران بما قدمت من دعم وإسناد للمقاومة اللبنانية وحزب الله وبما يمثله من رصيد استراتيجي. يعني إذا جاز لي أن أعود قليلاً إلى نقطة سابقة لها علاقة بإدارة الصراع ـ لاحظوا الخلل الذي كان يصيب بعض أجزاء من الوضع العربي لما كان الشاه، أكبر حليف لإسرائيل في المنطقة، يسقط.. هذه القلعة الصهيونية في طهران تسقط ويقوم نظام حليف للأمة العربية؛ ثورة إسلامية تقفل سفارة إسرائيل وتقول هذه سفارة فلسطين وشعارها زوال إسرائيل من الوجود..، بعض العرب جيش الجيوش وأدخل الأمة العربية في حرب ثماني سنوات، استنزف طاقة الأمة وطاقة إيران. سارت المدافع، التي كان يجب أن تسير باتجاه القدس ـ .. الناس قالوا يا جماعة القدس في هذا الاتجاه، وإذ بطرف عربي يقول لا، القدس صارت في "قم"‍‍!!.. نقلوا القدس في قم، ومعركتنا الآن مع قم!!.. وحدها دمشق، عرين الأسد، ظلت حليفاً استراتيجياً للجمهورية الإسلامية وللثورة الإسلامية وكان هذا التحالف ـ الثورة الإسلامية وسوريا الأسد ومقاومة لبنان بقيادة حزب الله ـ يحقق الانتصار المعجز للأمة في هذا العصر.

        العدو، قبل يومين، وزير دفاعه في تركيا يصرخ ـ ربما كان في سياق التحريض ـ ويقول: إيران يا أتراك انتبهوا لها. إيران بعد أربع سنوات تملك سلاحاً نووياً. وهو يعرف أن إيران الآن أصبح لديها صواريخ طويلة المدى وجربوا بعضها مداه 1500 كم. هذه جزء من معادلة القوة العربية الإسلامية. إذاً، عندما نحقق توازناً مع العدو، ويكون هناك قاعدة آمنة اسمها سوريا ورأس حربة في لبنان، وظهير في طهران العدو يدرك أن معركته ليست هينة. فقط جزء منا لا يرى هذه المعادلة، فقط حامل "المتر" ويتصل ببلديات العواصم العربية بحثاً عن مكان لفتح سفارة أو قنصلية لإسرائيل!!.. لا يرون عناصر القوة في الأمة.. لا يرون كيف يمكن لاستشهادي ـ شخص واحدة ـ من فلسطين يدخل إلى قلب تل أبيب أن يحول حياة اليهود إلى جحيم ويحول كل سلاح إسرائيل النووي إلى صفر في مخازنه. هل تستطيع إسرائيل أن تستخدمه؟.. لا تستطيع.

        إذاً، الكفاح المسلح بحاجة إلى قاعدة آمنة، القاعدة الآمنة يمكن أن تتوفر في الأمة، والتجربة التي حدثت في لبنان هي خير دليل وبرهان ويمكن أن يتحقق ذلك في المعركة من أجل فلسطين.

        ـ النهج الثالث، الذي لن أطيل فيه، هو ما قيل عنه نهج التسوية… كلكم تعرفون الظروف والملابسات التي حدثت بعد حرب الخليج الثانية وكيف خرجت أميركا، بعد انتهاء الحرب الباردة، كقوة وحيدة مهيمنة على العالم، وأرادت أن تعيد ترتيب خريطة هذه المنطقة على مزاجها ووفق مصالحها، فأطلق شمعون بيريز نظريته التي تعرفونها "الشرق الأوسط الجديد" معلناً أنه لم يعد هناك شيء اسمه وطن عربي، هناك شرق أوسط "فسيفساء".. إسرائيل مثلها مثل أي دولة في هذه المنطقة كأنها جزء له الحق التاريخي والعقائدي والاستراتيجي.

        انطلقت التسوية من مدريد، ثم تفاقمت إلى أن وصلت إلى محطة أوسلو.. وثمرتها على الأرض معروفة، ولم يتحقق منها شيء، والصراع تحول من كونه من أجل فلسطين، في السنوات الأخيرة، ليتم اختراع شيء اسمه الدولة الفلسطينية!

        هذه الدولة الفلسطينية بلا أرض بلا جيش بلا سيادة بلا موارد مياه وبحر وجو وسماء وحدود ومطارات، وكل شيء في يد إسرائيل وقبضتها. وعرفات عندما يريد التحرك فإن الموظف الإسرائيلي في المطار أو عبر نقاط الحدود هو الذي يحدد مساره وانطلاقته، وعرفات يصرخ للحصول باستمرار على إذن للخروج.

        الشعب الفلسطيني أدرك أن هذا المشروع القصد منه قتل كل ما يمت بصلة لفلسطين..

        أوسلو حاولت أن تقتل الروح، حاولت أن تقتل في الشعب الفلسطيني همة الجهاد والاستشهاد. أوسلو أراد بها العدو الصهيوني اختراع نوع جديد من الاستعمار ـ هذه مسألة خطيرة يجب أن نلتفت لها. كلنا يعرف أن الاستعمار عندما يحتل أرض، تقوم علاقة بين المستعمِر والمستعمَر على قاعدة أسياد وعبيد؛ بمعنى أن هناك قوة غاشمة تتحكم بالحديد والنار في شعب أعزل. هذا حصل في كل مكان.. حصل في جنوب أفريقيا، في الهند، في أوغندة، في الجزائر.. في كل مكان.. أسياد وعبيد.

        في ظل النظام الدولي الجديد، الإسرائيلي خرج علينا بأخلاقية جديدة. بعد كل ما فعلوه بالشعب الفلسطيني، ماذا قالوا لنا؟ قالوا لا نحتمل أن نتحكم بشعب آخر.. يتفضل الشعب الفلسطيني ويأخذ حكم ذاتي، إدارة ذاتية. ما هي المواصفات المطروحة لهذا الحكم الذاتي؟.. لمّا الإسرائيلي يتراجع خلف الستار ويؤتى بجزء من الشعب الفلسطيني كوكلاء يمارسون بالوكالة دور المحتل والمستعمر: نفتح سجون للمجاهدين، نقمعهم، نسحقهم، غرس المستوطنات، ننسق ونقول نحن "شركاء".. الإسرائيليون يقولون نحن "شركاء" في عملية السلام مع زيد وعبيد. كيف يمكن أن يكون الفلسطيني شريكاً لليهودي على أنقاض قضيته وشعبه وأرضه.

        الانتفاضة جاءت لتشطب هذا الواقع. وهنا نقترب من العنوان الأخير وهو:

        آفاق الصراع:

        الفلسطيني أمام الإحباط واليأس من عملية التسوية، أمام نموذج الانتصار المدوي في لبنان، الشعب الفلسطيني وقف يعيد حساباته ويقول: العدو هو ذات العدو، والسلاح الإسرائيلي هو ذات السلاح، والمجاهدون هم من بني جلدتهم؛ عرب مسلمين لبنانيين، ونحن فلسطينيون ـ قاتلوا بنفس الروحية، بنفس المنهجية، بنفس العقلية، لماذا يحققون الانتصار، ونحن مطلوب منا أن نكون حراساً لأمن مستوطنات اليهود؟!

        الشعب الفلسطيني أخذ قراره من جديد وانطلق في انتفاضة الأقصى. وعندما يكون اسم الانتفاضة انتفاضة الأقصى، هذه إشارة إلى أهمية المقدسات، إلى أهمية المقدس، إلى أهمية الدين في هذه المعركة. بعض الناس ربما ـ بشكل مقصود أو غير مقصود ـ يدركون أو لا يدركون، في لحظة من اللحظات، كان هنا تنظير في الأمة بأن الدين لا علاقة له مطلقاً بهذا الصراع. كيف الدين لا علاقة له؟ طيب أنا من يعلمني أن الجهاد واجب؟! وأن الجهاد فرض عين علي، وإذا احتل العدو أرضاً.. الحكم الشرعي في الإسلام إذا نزل العدو بأرض، بقطعة أرض، من أرض الإسلام والمسلمين، فحكم الجهاد ليس فرض كفاية، يعني إذا قام به جزء من الأمة سقط عن بقيتها.. لا.. هو فرض عين على أهل الأرض المحتلة، وإذا ما كفت قوتهم ينسحب الفرض حكمه على من يلونهم من الأمة إلى من يلونهم إلى من يلونهم، حتى يشمل حكم فرض العين الأمة الإسلامية بأسرها، وإذا لم تفعل ذلك فهي آثمة.

        هذا الحكم الشرعي هو الذي يستنهضني إضافة الواجب القومي. أنا أدافع عن أرضي وقوميتي وشعبي ووطنيتي إضافة إلى الجانب الإنساني لأن إسرائيل تمثل قمة الظلم والانحطاط في العالم. كيف يمكن للإنسانية أن تدعي أنها عادلة وأنها تتحدث عن حقوق الإنسان والمساواة والفلسطيني يسحق. أميركا تريد أن تحاكم ميلوسيفتش. طيب "ماشي. كويس" بدها تأخذ العدالة مجراها، "بس" والله شارون "مبين" في الإعلام أكثر وأضخم والرجل واضح، يعني "مش شايفينو" بحجم الشاشة "بس شايفين" الرجل الآخر (ميلوسيفتش) "خلي العدالة تأخذ مجراها على الجميع. لماذا تقوم الدنيا ولا تقعد إذا كان هناك إسرائيلي مجروح في الضفة الغربية، ويأتي رئيس وزراء ألمانيا يضع أكاليل من الورد على قبور من يقتل من الإسرائيليين أو مكان إصابتهم، لكن كل يوم عشرات الشهداء لا أحد يعلم بهم؟!! إذاً مقاومة إسرائيل هي انتصار للحق والخير والعدل في مواجهة الظلم والعنف والبطش الذي تعاني منه البشرية في ظل قيادة أميركا لها.

        هذه الواجبات كلها جزء أساسي منها الإحساس بأن هناك واجب ديني وإسلامي إلى جانب القومي والوطني والإنساني. نحن في تاريخنا كلنا نقرأ.. عبد المطلب جد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عندما جاءت قوة عظمى، بمنطق العصر السالف، لتهدم الكعبة (أبرهة الحبشي) وما كان عند قريش سلاح لمواجهة أبرهة الحبشي. ماذا فعل؟ لم يستنفر قريش وقال كلمة بسيطة. قالت له قريش: البيت سيهدم، الكعبة، بيت العرب، وأنت زعيم قريش. قال: "للبيت رب يحميه". نحن أخذنا هذه العبارة ورحنا نقول لا، هذه لا تنطبق على أحد، للبيت أهل يحمونه.

        هذا التفسير صحيح. لكن عندما ينام أهل البيت، أو عندما يضعف أهل البيت، يجب ألا يتجرأ أهل البيت على الله ويقولوا في لحظة من لحظات الضياع والانحطاط بأن الله "ما خصه" في هذا الصراع.

        عبد المطلب في عصر الجاهلية يقول للغيب دور. والمسلمون عندما واجهوا قريش الظالمة انتصر بالملائكة في بدر، القرآن وثّق الواقعة وقال: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى).

        قبل أن آتي إلى هنا، كان الإخوان يتصلون من فلسطين ويبلغونني أنه، اليوم، أحد الأخوة الاستشهاديين انطلق إلى مدينة العفولة، أراد أن يفجر نفسه، وهو يحمل حقيبة متفجرات. رجال من الشرطة الإسرائيلية لاحظوا حركته وانقضوا عليه. أخذوا منه الحقيبة فارتبك وما قدر أن يفجر نفسه. وفشلت العملية. عندما سمعنا الخبر، ماذا نقول ـ رغم أنني جئت ـ والله ـ إلى هذه المحاضرة منقبضاً على هذه الواقعة وعلى هذا الإنجاز الذي لم يتحقق اليوم في قلب قلب العمق الصهيوني، في شمال فلسطين في مدينة العفولة..، لكننا بالإيمان بالله نصمد على مواجهة كل الصعاب.. قلت الحمد لله، قدر الله وما شاء فعل. لو لم تكن هذه الروحية والإحساس بوجود الله في هذه المعركة.. ما يريده يكون وما لا يريده لا يكون لا نقوى على القتال ساعات. هذا هو الزاد، وهذا هو المنهج الذي يخرج هذا الشاب ـ هذا شاب مثلكم.. كيف يخرج ليفجر نفسه، وقبله أيضاً عشرات أيضاً فجروا أنفسهم.. عنده أهل وعنده مستقبل وعنده دراسته الجامعية، ومعظم الاستشهاديين جامعيين.

        أنا أقول لكم أن اليهود في كل مكان في العالم آمن إلا في فلسطين. المكان الوحيد الذي يقتل فيه اليهود اليوم هو فلسطين. ليس لأنهم يهود ـ كما أشرت سابقاً ـ بل بسبب الجريمة التي اقترفوها باغتصاب أرض، ليست أرضهم. لذلك هم ما زالوا يدركون أن الحرب مستمرة وأن المعركة لم تنتهِ. هذه المقولة، الانتفاضة تضربها في الصميم وتقول أن فلسطين ليست مكاناً آمناً لليهود. فلسطين تتحول الآن إلى مكان للرعب والفزع.. مصحة.. مصحة نفسية كبيرة، خطوط هاتف، والتلفزيون والراديو ووزارة الصحة.. كله في خدمة الجمهور الصهيوني، يستقبل مكالمات كلها أثر الخوف والجزع والفزع والرعب بسبب عمليات الفدائيين الاستشهاديين في قلب فلسطين. هذه البلد "إسرائيل" التي اسمها بلد متقدم وجزء من الغرب ومن أميركا ومن أوروبا، الآن تزدهر صناعة قارئي الكف في إسرائيل. يذهبون لقارئي الخط والمنجمين ويرون منامات تزعجهم، ولا يستطيعون أبداً أن يعيشوا يوماً بلا أرق. لماذا؟ لأنهم في كل يوم يشعرون بالرعب حتى أنهم يشكون ببعضهم، لأن فيهم شرقيين وجوههم وملامحهم مثلنا. كثيراً ما يستوقف البوليس الإسرائيلي في داخل فلسطين أشخاصاً صهاينة، يفتشهم "ويعمل معهم مشاكل" يظن أنهم استشهاديين فلسطينيون يمكن أن ينفجروا!.. هذه الحياة لا يمكن أن تطاق بدأت هجرة معاكسة. السياحة تضرب، الاقتصاد يضرب. الأمن يضرب. شارون لا يملك أية خيارات. عندما نقول: شارون في مأزق تاريخي ـ قبل أسبوع كانوا يتحدثون عن دراسة الـ "فنتانك" مركز الأبحاث الذي يمثل الذراع الفكري للوبي الصهيوني في أميركا، وهو معهد دراسات الشرق الأدنى الذي أسسه مارتن إنديك سفير أمريكا بإسرائيل ـ هذا مارتن إنديك يهودي أسترالي أخذ الجنسية في شهر ليصل إلى مركز مرموق في طاقم كلينتون. في عام 1973 عندما كان طالباً يدرس الماجستير، جاء إلى الكيان الصهيوني متطوعاً. ذهب إلى الكيبوتسات والبلديات الإسرائيلية والدفاع المدني الإسرائيلي وقال لهم: يا جماعة أنا يهودي. أريد أن أتطوع في الدفاع عن إسرائيل ـ إسرائيل تنهار. قالوا له حاضر ماذا تعرف "تشتغل" قال: أي شيء (وهذا أنا قرأته في البروفايل الخاص به فقد عشت في أميركا خمس سنوات كنت خلالها أدرس دراسات دولية عند الأميركان في بطن الحوت، لكن كجندي صغير مجهول في الجهاد الإسلامي لا يعرفه الأميركان والصهاينة) مارتن إنديك قالوا له لا وظيفة عندنا لك إلا أن تجمع القمامة في سيارات البلدية. لدينا نقص في عمال القمامة في الشوارع. فقال لهم: أقبل ذلك. وجمع مارتن إنديك في حرب 1973 القمامة في شوارع الكيان الصهيوني. تطوع في الدفاع عن إسرائيل، والآن هو سفير بلد اسمها أميركا، وبلد تمثل دور المحايد في هذا الصراع. هذا المركز الذي أسسه مارتن إنديك في واشنطن كذراع فكري للوبي الصهيوني، غادره والآن يرأسه واحد اسمه روبرت سافلوف، عمل دراسة للرئيس بوش، ما هي الخيارات التي يمكن أن تتعرض لها الانتفاضة الفلسطينية؟

        قال "ما في" إلا أحد أربعة احتمالات: الأول، أن يحقق طرف من الأطراف انتصاراً على الآخر.. يعني الفلسطينيين أو الإسرائيليين ينتصروا. وقالوا: في الظرف الراهن هذا مستحيل.. طيب نحن نفهم أن يقول الأميركان أن الفلسطينيين مستحيل ينتصروا على الإسرائيليين لأن إسرائيل دولة عملاقة وقوية، لكن أن يقولوا بأن إسرائيل يستحيل أن تنتصر على الفلسطينيين في مواجهة حجر مثل حجر فارس عودة الذي واجه الدبابة الصهيونية في غزة وعمره عشر سنوات!!.. هكذا في أميركا يفكرون.

        الاحتمال الثاني، قالوا أن يتعب أحد الطرفين. والعقل الأميركي يكتب للرئيس الأميركي: الفلسطينيون غير مرشحين للتعب. الطرف المرشح للتعب في حرب من هذا النوع هو الطرف الإسرائيلي، وكما ظهرت إبان حرب لبنان حركة أمهات أربع، إذا استمرت المقاومة والانتفاضة ستكون هناك حركة أمهات أربع وأربعمائة وأربعة آلاف تطالب بالانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة على الأقل.

        والاحتمال الثالث، كانوا يتكلمون عن أن يرتكب أحد الطرفين خطأ كبيراً فيجبر العالم على التدخل لإطفاء الحريق، كأن ترتكب إسرائيل مجزرة كبيرة، لكن حتى هذه اللحظة، كل يوم هناك مجازر تديرها إسرائيل بحقنا ولا يتدخل أحد هم يقصدون أن يكون الخطأ من جانب الفلسطينيين ـ إذا جاز تسميته خطأ وهو مقاومة مشروعة من قبلنا ـ فترد عليه إسرائيل ويحدث حريق كبير في المنطقة وحرب في المنطقة.

        الأمر الرابع، قالوا أن يحدث أمر من خارج السياق، لا علاقة له بالأحداث، بمعنى أنه مثلاً كغياب ياسر عرفات، يمكن أن يعمل إرباكاً في الساحة الفلسطينية وصراعاً داخلياً على خلافته في داخل الأجهزة.

        كل هذه السيناريوهات تقول الآتي ـ بصرف النظر عن التفاصيل: شارون لا يستطيع اليوم وقف الانتفاضة بالقوة. شارون لا يستطيع أن يفصل الضفة الغربية وقطاع غزة بسد عازل كما يقول.. الجدار الذي يتحدثون عنه ليس هناك إجماع عليه حتى هذه اللحظة. شارون لا يستطيع أن يضم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الكيان الصهيوني لأنه يخشى القنبلة الديموغرافية الفلسطينية تنفجر في وجهه وبعد عشرين سنة تصبح الأغلبية هي فلسطينيون يطيحون بأقلية يهودية. هكذا يفكرون في مراكز أبحاثهم. شارون لا يستطيع أن يقوم بترانسفير جماعي ويهجر 3.5 مليون من الضفة وغزة.

        إذاً ماذا يفعل شارون؟.. ليس أمامه إلا أن يتعلم كيف يتعايش مع النار الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية إلى أن يصرخ كما صرخ باراك من قبله وكل جنرالات إسرائيل، وخرجوا من جنوب لبنان من طرف واحد.

        هذا هو هدف الانتفاضة وهذا هو الأفق الذي يمكن أن تصله، وأي محاولة للالتفاف عليها، أو إجهاضها، وخاصة بعد مجيء أميركا إلى المنطقة وما سمي بوثيقة تينت. يريدون جاهدين الآن، شق الصف الفلسطيني لأن أهم منجزات الانتفاضة هو تحقيق الوحدة بين كل القوى والفصائل الفلسطينية اليوم في خندق واحد هو خندق المقاومة والانتفاضة. يريدون إحداث شرخ جديد وأن تعود السلطة وأجهزة أمن السلطة إلى سابق عهدها في قمع وملاحقة المجاهدين حفظاً وخدمة لأمن العدو الصهيوني. نأمل ألا يحدث ذلك، وشعبنا إن شاء الله سيكون في مستوى التحدي ومستوى المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقه، وسيواصل نضاله حتى التحرير. وأنا عندما أتحدث عن التحرير ربما كان هدف الانتفاضة الآني والمرحلي هو الضفة الغربية وقطاع غزة، لكن عقيدتنا الجهادية والنضالية كل فلسطين، بالنسبة لنا، هي أرضنا وهي ملكنا وهي حقنا الذي من أجله نناضل نضالنا المشروع، ولا يمكن أن تلقي سلاحنا مهما كانت التحديات ومهما كان الثمن ومهما كانت التضحيات. هذه فلسطين مثوى الأنبياء والأجداد والشهداء وكل الذين سالت دماؤهم من أجلها لا يمكن أن نتنازل عن ذرة منها فدونها أرواحنا وحياتنا وكل ما نملك إلى أن تعود فلسطين حرة عربية إسلامية من نهرها إلى بحرها إن شاء الله وبعون الله وبإذن الله. وأشكركم جميعاً والسلام عليكم.

        المصدر الموقع الرسمي للمعلم رمضان شلح
        السماء الزرقاء تنتصر

        تعليق


        • #5
          مدخل إلى فهم الحركة الإسلامية في تركيا


          محمد الفاتح

          لا شك أن إحدى أهم مميزات الحركة الإسلامية عالميتها، ونجاح الحركة الإسلامية في أهدافها، على صلة وثيقة مع شعور أبنائها بشمولية تلك الحركة ولا محدوديتها.

          ولا شك أن ظروف وشروط كل عصر وبلد لها تأثيرها المباشر على ظهور الحركة الإسلامية في تركيبة وتشكيلة معينة هنالك. وفي نفس الوقت لا نستطيع أن ننكر أن أحوال ومصادر المشاكل ترجع إلى نفس الأسباب التاريخية والثقافية والاجتماعية، وطرق الحل أيضاً ستعتمد على نفس المبادئ.

          إن إحدى أهم قضايا الحركة الإسلامية العالمية اليوم، قضية الإعلام بمعناها الأوسع وهي عدم توافر معلومات لمسلمي كل بقاع الأرض عن الآخرين، وعدم تبادل الخبرات، وعدم الاستفادة من التجارب الفاشلة أو الناجحة على مستوى العالم، وكل ذلك يؤخر استحقاق أهداف الحركة الإسلامية مثل إقامة العدل بين الناس وحكم الله في الأرض.

          إن القضاء على وسائل الجهل يتم عن طريق اللغة الواحدة والتفكير المتقارب. بالاجتماع المستمر والمثمر في طريق مشترك واحد، وأيضاً يتم بالدراسات حول واقع وإيجابيات وسلبيات الحركة الإسلامية العالمية وطرح البدائل للعمل الإسلامي.

          وكل هذا يلزم بناء وتطوير مؤسسات إعلامية، ينطلق من احتياجات المجتمع الإسلامي ويراعي مصالح الحركة الإسلامية، ليكون لها عيونها الراصدة في كل مكان وآذانها المتيقظة لكل ما لها وما عليها. كما لأعدائنا باع طويل في تعبئة المجتمعات وإبعاد المسلمين عن بعضهم البعض. لذا يتعين علينا بناء شبكتنا الخاصة للإعلام بحيث نستقي منها كل ما نحتاج إليه من معلومات عن طريق مصادرها الأولى، حتى تستقيم لنا صورة العالم والحركة الإسلامية ونحاول تلبية احتياجاتها.

          يقول الحق سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا، إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا، أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين( (سورة الحجرات) صدق الله العظيم. ويقول:
          )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة( (سورة الأنفال) فإعداد العدة يكون من جنس عدة العدو، إلا أنه محدود باستطاعتنا . وإذا قمنا بما استطعنا فسيفتح الله لنا آفاقاً للعمل الإسلامي. كما قال: )والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا(.

          ومن هنا، نرى أن المعلومات السائدة في العالم العربي عن تركيا وخاصةً عن الحركة الإسلامية، معلومات سطحية وقديمة وغير كافية. وغالباً غير مؤكدة ومعظم هذه المعلومات عبارة عن تخمين وظن ولا يصح تسميته بـ "المعلومة" أصلاً وسنحاول إن شاء الله سرد الخطوط العريضة لسير الحركة الإسلامية في تركيا خلال العصور الحديثة باختصار شديد جداً. ونسأل الله أن يهدينا إلى الصدق في حمل الأمانة.

          أزمة الهوية:

          بدأ توجه الدولة العثمانية المسلمة إلى الغرب في مستهل القرن الثامن عشر الميلادي، وعبر عدة مراحل حتى يومنا هذا، منذ 300 عام استمر وجود الغربيين الذين يدعون إلى تقليد الحضارة الغربية والاندماج في المجتمع الغربي من جانب، والإسلاميين الذين يدعون إلى العودة إلى الحضارة الإسلامية وقيمها وإلى الجامعة الإسلامية من جانب آخر. واستمرت المعركة وما زالت مستمرة بين الفريقين.

          أحياناً تشتد المواجهة بينهما وأحياناً تهدأ إلى حدٍ ما: إلا أنها لم تنته إطلاقاً.. وهي تعبّر في حد ذاتها عن هوية ليست فقط خاصة بالشعب، بل هي مسألة كل الشعوب المسلمة في العصور الحديثة. إلا أن تركيا كانت مركز الزلزال وأول نقطة إحتدام بين حضارتين (الغربية والإسلامية).

          تنظيمات:

          لقد انتهى عهد الترف والإسراف والفساد الذي قام به أصحاب الاتجاه الغربي في أوائل القرن الـ 18 بثورة "باترونية خليل" التي قادها العلماء، وحظي بتأكيد كبير من الشعب: (1730). ويعتبر "فرمان تنظيمات" الشهير باسم "قوالخانة" خط "همايوني" الذي أعلنه مصطفى رشيد باشا في جنينة قوالخانة باسطنبول، نقطة التحول بالنسبة للاتجاه الغربي: (1839). بعد ذلك التاريخ صار الاتجاه الغربي هو الأيديولوجيا الرسمية للدولة والقانون. كما أيد "فرمان أحلامات" (1856) نفوذ الغرب على الدولة العثمانية من جديد.

          السلطان عبد الحميد الثاني والجامعة الإسلامية:

          تمسك السلطان عبد الحميد الثاني بفكرة الجامعة الإسلامية كطوق نجاة للدولة العثمانية، وأرسل رسله إلى أنحاء العالم الإسلامي واتصل بشعوبها. وقام بإنشاء خط السكك الحديدية الممتد من اسطنبول إلى الشام وإلى المدينة المنورة. لكنه كان قد فات الأوان، واستولى الغربيون على الجيش والمواقع الحساسة في هرم الدولة. واتحدث القوى المعادية للإسلام من الداخل والخارج ولم تفلح هذه المحاولة الأخيرة للعودة إلى الذات واسترجاع مجد الماضي المشرف حيث عهود الإقبال والعز للدولة العثمانية.

          ونتيجة الأحداث التي تسمى بـ "حادثة 31 مارس" أمسكت "فرقة الإتحاد والترقي" بزمام الحكم في البلاد وخلع السلطان عبد الحميد الثاني ونجحت بصعوبة، عصابة الخيانة الغربية هذه خلال عشر سنوات بعد خلع عبد الحميد، في تفريق وتوزيع ميراث الدولة العظمى في سوق المزاد العلني الدولي.

          أما ظهور الدولة التركية الجديدة باسم "جمهورية تركيا" فهو عبارة عن سيطرة كاملة للعسكر البيروقراطيين وتم إعلان الجمهورية في تركيا في عام 1923 وإلغاء الخلافة في 1924 وهذه ليست بداية الأمر، بل هي نتيجة للتراكم التاريخي والثقافي منذ فترة غير قصيرة.

          ونلاحظ هنا أن الشعب، فاجأه ذلك التحول السريع في أنظمة الحكم، فلقد كان التوجه الغربي مقصوراً على قطاع مهم من طبقة المثقفين، ولا يشمل كل المثقفين بالطبع. لكنهم استطاعوا السيطرة على مرافق الدولة الرئيسية، واستولوا على الحكم متعاونين مع قوى أجنبية، وبدأوا في وضع البرامج لتغريب المجتمع من أعلى إلى أسفل. فحاربوا كل من يقف في طريقهم فعادوا الإسلام وأهله. وأبادوا العلماء، حتى صار الإسلام وأهله "غرباء في منزلهم الذاتي، وغرباء في وطنهم الأصلي" على حد تعبير الشاعل التركي نجيب فاضل..

          الثورة الكمالية والثورات المضادة

          وبعد إلغاء الخلافة حدثت إنقلابات الكمالية: إنقلاب في الملبس، وفي الكلمات، وفي التقويم والساعة وانقلاب في القانون المدني (الأحوال الشخصية) وفي القوانين الأخرى.. الخ، وبطبيعة الحال رفض الشعب التركي انقلابات الكمالية التي تعارض كل ما عرفه عن دينه وتراثه، وأظهر ردود أفعال شديدة، إلا أن ديكتاتورية الكمالية قضت عليها بأشد الوسائل وأعنفها. وانفجرت عدة ثورات ضد انقلابات الكمالية في شبه جزيرة الأناضول في شرقها وغربها، إلا أن أهمها وأكبرها كانت ثورة الشيخ سعيد (1925).

          ونرى أن محاكم الاستقلال التي انشئت عقب هذه الثورات تشبه محاكم "انكليزيسيون" في أوروبا في عصورها الوسطى. فقد كان يحدث أحياناً أن يشنقوا بعض الضحايا مقدماً، ويكتبوا مذكرة الإعدام بعد يومين أو ثلاثة.

          وهناك أحد أبرز النماذج لإعدام الأبرياء، وهو استشهاد الشيخ عاطف أفندي الاسكيليبلي، بسبب كتاب نشره قبل سنوات من انقلاب الملبس ينتقد فيه تقليد الغرب في الحياة والسلوك وفي الزي أيضاً. ويوضح موقف الشريعة من التشبه بالكفار باسلوب علمي وموضوعي. حتى المدعي العام لم يطلب إعدامه أصلاً. دعوه إلى المحكمة لأجل تحقيق فقط! وحكمت إحدى المحاكم ببراءته ومع ذلك، أخذوه مرة ثانية وأعدموه.

          وأحياناً كانت تقام مظاهرات صورة ضد النظام ويبقض على العماء والمشايخ البارزين ليعدموا استناداً إلى تهمة تشجيع الشعب للثورة ضد النظام الجديد. أهم تلك المظاهرات المنظمة كان من يسمى بـ "حادث مانامان" حيث جمع كثير من العلماء والمشايخ المتصوفة من أنحاء تركيا وتم الحكم على أكبرهم بالإعدام. واستشهد قطب شيوخ النقشبندية (محمد أسعد الأربلي) بوضع السم في طعامه بعد أن عجز المتآمرون عن إعدامه لتجاوز سنه فوق 70 سنة وكان الشيخ أسعد هو المطلوب الأول للمحاكمة.

          أما ثورة الشيخ سعيد فهي حركة دفاع مخلص عن الشريعة الإسلامية ورد فعل غاضب ضد الانقلابات. يقول قائد الثورة أمام المحكمة التي حكمت بإعدامه كما جاء في سجل المحكمة أجابة لسؤال رئيس المحكمة: "لماذا قمتم ضد الدولة؟" يقول: "للدفاع عن الشريعة المحمدية. رأينا في الكتب أن القيام ضد هذا النظام واجب شرعي".

          ويقول عصمت إينونو الذي أصبح رئيساً للوزراء في حالة الطوارئ التي أعلنت أثر إنفجار ثورة الشيخ سعيد وأصدر "قانون تقرير السكون" وقضى على الثورة بالقوة الشيخ سعيد يقول في مذكراته الشخصية المطبوعة إننا كنا نقول في الداخل عن الثورة أنها "ثورة كردية" حتى لا يميل إليها الشعب التركي، ونقول إزاء العالم الخارجي إنها "ثورة إسلامية" حتى يسامحنا الإنكليز والغرب".

          وفي الآونة الأخيرة تحاول الحركة الكردية القومية أن تقلد ثورة الشيخ سعيد الإسلامية بحثاً لها عن جذر تاريخي لتستغلها كنقطة للإنطلاق.

          تحيا جنهم للظالمين:

          لقد ظهرت ونمت حركة أخرى جنباً إلى جنب مع هذا الخط الثوري، معتدلة نسبياً من ناحية طريقة عملها وإن لم تختلف عنها من حيث أهدافها. وهي الحركة التي بناها العلامة الكردي الذي اشتهر بلقبه "بديع الزمان" سعيد النورسي وقد سمي الشيخ تلاميذه "إخوان النور" وسميت حركته بعده "الحركة النورية" نسبة إلى كتب الشيخ سعيد النورسي. وأطلق على مجموع كتبه "كليات رسائل النور" أما اسم الشيخ نفسه فهو نسبة إلى قريته التي ولد بها وهي قرية "نورس" في شرق الأناضول. وبالمناسبة، إذا أطلقت كلمة "الأستاذ" في تركيا يقصد بها بديع الزمان سعيد النورسي.

          يعتبر سعيد النورسي رجل فكر وحركة (ورجل سياسة في أوائل مسيرته) وآمن بأمنية الجامعة الإسلامية، ويذكره السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده بقوله: "وأستاذي". ناضل ضد استبداد السلطان عبد الحميد خان الثاني مع إسلاميين آخرين مثل الشاعر محمد عاكف: وشارك في تأسيس جمعية "الاتحاد المحمدية" في مواجهة "الإتحاد والترقي". ودافع أمام المحكمة أثر حادث 31 مارس وطلب المدعي إعدامه. صرخ وقال ما يؤمن به. رداً لسؤال رئيس المحكمة "هل أنت تطالب بالشريعة؟" كان يقول: "لو كنت أملك ألف روح، لأفتديت كلاً منها لأجل حقيقة واحدة هي الشريعة!".

          دافع عن قضيته بكل الصدق والبراعة، وحكمت المحكمة ببراءته وبدلاً من أن يشكر هيئة القضاء كما يتوقع الجميع، خرج إلى الشارع حيث اجتمع الشعب راح يصرخ ويقول: "تحيا جهنم للظالمين". كان يردد هذا الشعار دوماً وسط حشد كبير من الناس. هكذا مشى من ميدان بايزيد إلى ميدان السلطان أحمد وهو يقول:

          تحيا جهنم للظالمين! تحيا جهنم للظالمين!..

          ثم واصل جهاده في عهد الجمهورية أيضاً بقلمه ضد ديكتاتورية الكمالية. عندما دعاه مصطفى كمال إلى أنقرة ليخطب في المجلس القومي، طلع منبر المجلس ودعا أعضاء المجلس إلى الصلاة. فأجاب دعوته ستون من أعضاء المجلس من الذين لا يصلون من قبل، في ذلك اليوم عندما طلع مصطفى كمال المنبر بعده وقال: "يا أستاذ، نحن دعوناك إلى هنا لنستفيد من آراءك العليا، لا لتشغلنا بالصلاة"، قام الأستاذ من مكانه وخطا بضع خطوات، وأشار بإصبعه السبابة والوسطى إلى عيني كمال، كأنه يخطفهما بهما وصرخ بحرف واحد:

          "باشا، باشا! إن الحقيقة العظمى في الكون هي الإيمان. وتلي الإيمان الصلاة. من ترك الصلاة فهو خائن. وحكم الخائن إنه مردود".

          وكان يهدف بديع الزمان (سعيد النورسي) بكتاباته وتلاميذه إلى تربية أجيال تركيا على الإيمان والإسلام. وكانت جميع كتبه تركز على مباحث إيمانية، وعندما رأى بشارات نواة الجيل المؤمن بالله بكتاب الله وبأحكام الله الذي من أجله قضى أغلب حياته في السجن والمنفى وتحت ضغوط قصوى قال: "أخذت ثأراً في سعيد".

          يقصد الشيخ سعيد الذي استشهد بعد أن فشل في ثورته المجيدة.

          أولى خطوات الديمقراطية:

          في الخمسينيات فكر حزب الجمهورية الشعبي (الحزب الحاكم والوحيد في البلاد)، الذي أسسه مصطفى كمال وورثه عصمت اينونو، في تحرير القيود وقرر الانتقال إلى نظام تعددية الأحزاب السياسية. وفي الحقيقة كان ذلك قد جرب في عهد مصطفى كمال، وكان مصطفى كمال قد كلف أحد أصدقائه بإنشاء حزب منافس لحزبه. إلا أن المعارضة الإسلامية التفت حول ذلك الحزب، وألغي الحزب فوراً. وهكذا فشلت التجربة الأولى.

          وجاءت التجربة الثانية في الخمسينيات أيضاً، وصعد عدنان ماندريس زعيم الحزب الديمقراطي المنافس لحزب الدولة إلى مقعد رئاسة الوزراء بأصوات الناخبين ضد الديكتاتورية. وقد حول ماندريس الآذان من اللغة التركية إلى الحديث العربي من جديد، وأتاح للشعب فرصة العيش طبقاً لتعاليم الإسلام في حياتهم الشخصية. كذلك اكتسب عدنان ماندريس شعبية، واستجاب لبعض طموحات الشعب. ولكن الزمام كان ما زال في أيدي الكماليين الغربيين الذين أرادوا إتاحة الفرصة في الحكم لمعارضة متوازنة. وإمتصاص غضب الشعب الذي يكاد ينفجر.

          وتكررت عادة الجيش في السياسة. العادة التي ورثها من الجيش العثماني القديم "الجيش الياني جاري" (يكتب بالعربية أحياناً "الانكشارية" وهو خطأ). وتعود عليها. تكررت هذه العادة، وتحرك الجيش ليمسك الحكم بالقوة بزعم حماية نظام الدولة. (1960). وانتهت هذه الحركة إلى إعدام رئيس الوزراء عدنان ماندريس وكان معه اثنان من أصحابه من الوزراء (زورلو- بولاط قان).

          أصبح عدنان ماندراس بطلاً أو أسطورة في نظر الشعب. وأعيد اعتباره الشخصي بعد سنوات من اعدامه. وبُني له ولصاحبيه "مزاراً تذكارياً" باسطنبول في عهد أوزال، ونقلت عظامهم إلى هذا المزار. ويعتبر ابنه أيدين ماندريس أحد أثقل مدافع "اليمين" في سياسة تركيا. انتظر السيد آيدين وقتا طويلاً، ولم يدخل السياسة الساخنة. وتترد الأخبار عنه هذه الأيام أنه في صدد استعداد لإنشاء حزب جديد في اليمين.

          ظهر في السبعينات أول حزب ذي اتجاه إسلامي على مسرح السياسة التركية. أنشئ حزب النظام الوطني أولاً وحزب الإنقاذ الوطني وراءه. وقادهما المهندس البروفيسور نجم الدين أربكان (المهندس أربكان كان رئيساً مساعداً لاتحاد غرف التجارة التركية آنذاك وكان دميريل رئيسه).

          كانت الرسالة التي يقدمها حزب الإنقاذ الوطني هي "الأخلاق والقيم أولاً" و "حملة الصناعة الثقيلة للتنمية". بفضل منظماته الشبابية وبفتحه ثانويات الأئمة والخطباء التي تدخل المواد الدينية بنسبة كبيرة في برامجها التعليمية وقد أسهمت حركة الإنقاذ الوطني بقيادة أربكان إسهاماً كبيراً في إيقاظ الشعب وتكوين الأجيال المسلمة.

          عفواً!.. استراحة من الديمقراطية:

          تكررت من جديد عادة الجيش القديمة. أعلن رئيس هيئة أركان الحرب، الجنرال كنعان في صباح يوم 12 من أيلول (سبتمبر) 1980 أن الجيش قد استولى على الحكم. وقبض على كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وزعماء الأحزاب السياسية وكان المبرر الظاهري هو الإرهاب المتصاعد من تنظيمات شيوعية متشددة وعناصر قومية متشددة، وحالة الفوضى السائدة في البلاد.

          أما في الحقيقة، فكان تصاعد الحركة الإسلامية الممثلة في شخصية حزب الإنقاذ الوطني، أحد أهم أسباب الإنقلاب العسكري الأخير. فمظاهرات الإسلاميين هنا وهناك قد ساقت الجيش إلى الضجر (خاصة مظاهرة قونيا الشهيرة قبيل الإنقلاب) تحرك محافظوا الجمهورية مرة أخرى خوفاً على العلمانية ودقوا الجرس كأنهم قالوا في همس: عفواً.. خذوا استراحة من الديمقراطية!..

          وفرضت على البلاد الطوارئ أثر الإنقلاب، وقام رجال الجيش بعملية تنظيف للمحافظين وأصحاب الاتجاه الإسلامي في أجهزة الدولة. وحوكم الزعماء السياسيون ومنعوا من السياسة لمدة تتراوح بين عشر سنوات (للزعماء) وسبع سنوات (لأعوانهم البارزين) إلا أنهم استردوا حقوقهم السياسية بعد استفتاء شعبي عام 1987.

          وشكل الإنقلاب أرضية ملائمة لمحاسبة ذاتية وتكوين جديد داخل قطاعات مختلفة في الساحة السياسية والثقافية في تركيا. ومن أبرز التغيرات إنفصال عناصر كبيرة عن الحركة القومية وإنضمامهم إلى الحركة الإسلامية بعد أن وضع معظم مناضلي الحركة القومية في السجون. وبدأوا في قراءة الإسلام من جديد وآمنوا به من جديد.

          كذلك حركة "ملي كوروش" (الراية الوطنية = حركة أربكان) قد تقدمت في أفكارها وأهدافها من الوطنية إلى العالمية بقليل. ومع ذلك لم تسلم من الانفصالات أيضاً. فقد كان البعض قد يئس من أسلوب الديمقراطية، بعد أن أخذوا يبحثون عن أساليب جديدة للجهاد، لتكون كلمة الله هي العليا في تركيا وفي كل مكان.

          أهداف الانقلاب العسكري وتأثيره:

          كان من أهم أهداف إنقلاب 12 أيلول 1980 تقليل تأثير الثورة الإسلامية في إيران على تركيا لكن لم يستطيعوا تجميد الإعجاب بالثورة على وجه أمثل. وانعكست رسالة الثورة في تركيا على مستويات مختلفة فترجمت في غضون هذه الأعوام، كتب الدكتور علي شريعتي ومطهري وبهشتي وغيرهم وأسهمت هذه الكتب في تكوين جيل الثمانينات.

          فمعظم مسلمي تركيا رأوا الثورة الإسلامية في جارتهم إيران من منظور تاريخي ضيق حيث لم تنته معركة العثمانيين مع الصوفيين. هذا البعد التاريخي أثار برودة ملموسة وأثار الشك في التعامل مع الثورة، إلا أن الثورة استطاعت أن تثير المسلمين من حيث الفكر والثقافة.

          ويستخدم بعض أبناء الحركة الإسلامية في تركيا في تقييم الثورة الإسلامية مصطلحي "الشيعة والسنة" ويكتفي بوجهات نظر تقليدية، والبعض الآخر ينجذب بعظمة الثورة ويقتنع بها كما هي.

          المهم بالنسبة لنا الآن في الدراسة عن الحركة الإسلامية في تركيا، أن نجد في ساحة العمل الإسلامي في تركيا جماعات أو فئات عديدة تسمى بـ "الأصولية أو الراديكالية أو حزب الله.." وتختلف فيما بينها سياسياً. ولا نستطيع إلا أن نرى تأثير الثورة الإسلامية إما بشكل مباشر أو غير مباشر وفي صور هذه الفئات وفي استمرار وجودها أيضاً.

          ومن بين هذه الفئات من انتمى لمذهب الجعفرية، وبايع السلطة السياسية القائمة في إيران حالياً، ودعا الآخرين إلى البيعة، ومن ليست لها علاقة عضوية إلا أنهم يدعون إلى عدم التركيز على مسائل خلافية وذلك من أجل وحدة الأمة الإسلامية، وهم يدافعون عن ضرورة التسامح والتضحية المتبادلين. ونلاحظ هنا أن نشاطات هذه الفئات المسماة بالأصولية ظلت محدودة في صفوف شباب الجامعة وبعض المدن خلال الثمانينات.

          منظمات ما بعد إنقلاب 1980:

          وجد العاملون في الحركة الإسلامية في تركيا فرصة تنظيم قانوني تحت أشكال وأسماء شتى، مثل الوقف (أو الجمعية الخيرية) والشركة التجارية ودار النشر والمجلة.

          واكتملت حركة الراية الوطنية (أربكان) كبرى منظمات العمل الإسلامي في البلاد، وكان تنظيمها بين الشعب والشباب من خلال "وقف الشباب الوطنيين" وشكلت فروع هذا الوقف مراكز نشاط الحركة في أعماق طبقات الشعب المختلفة، علاوة على تنظيمها السياسي وهو حزب الرفاه (أي الرفاهية والرخاء)، أحد فروع جماعة النورية التي برزت في الساحة في الثمانينات وتشكل تنظيمها في صفوف الشباب من الطلبة والشعب (خاصة التجار) وصار أشمل وأوسع تنظيم إسلامي في تركيا. وزعيم هذه الحركة الشيخ فتح الله قولان واعظ في المعاش – وهو من أنجح الخطباء تأثيراً في ضمير الشعب التركي، واشتهر الشيخ فتح الله ببكائه الشديد أثناء خطبه ووعظه. وترتكز نشاطات الجماعة في بناء بيوت الطلبة لاسكان الشباب وتربيتهم على مناهج الجماعة، وإنشاء المدارس الثانوية العامة. وتقوم الجماعة بجمع المال اللازم من التجار المتعاطفين مع نهج هذه الحركة.

          حاولت الجماعة إدخال رجالها إلى صفوف الجيش ضباطاً، وقد نجحت نسبياً. ولكن طرد أنصارها من الجيش في دفعات متعددة، ومن الجدير بالذكر أن من عرف أنه يصلي الفرائض ولو كان سراً، يطرد من الجيش فوراً وكذلك لا يأتي بزوجته إلى اجتماعات جاهلية وهي كاشفة الوجه والشعر والصدر، أو رفض تعاطي الخمور في كثير من الأحيان.

          الإعلام الإسلامي:

          تمتلك هاتان الجماعتان صحيفتين يوميتين. تمتلك جماعة أربكان "ملي جازاتا" وجماعة الشيخ فتح الله "الزمان". الأولى "ملي جازاتا" تعطي انطباع نشرة الحزب الرسمية تماماً. أما "الزمان" فتستهدف مخاطبة الشباب الملتزمين وكتلة المثقفين والبيروقراطيين المتحفظين. وكان انحيازها البارز والعنيد لسياسات وشخصية أوزال في السنوات الأخيرة انتقد نقداً شديداً في أوساط الحركة الإسلامية.

          ودون ذلك كانت كل جماعة تمتلك مجلة أو مجلتين. وإذا عددنا المجلات العادية نجدها تتجاوز عدد المجلات الإسلامية، ونرى خمسين مجلة شهرية أو أسبوعية. أما الكتب الإسلامية فهي منتشرة جداً ومما يلفت النظر أن يقل التأليف وتكثر التراجم أما من العربية أو الفارسية أو اللغات الغربية ونوعية الكتب غالباً فكرية أو سياسية.

          وفي السنوات الأخيرة دخل الإسلاميون إلى أسواق السينما أيضاً. وهناك شركتان للإسلاميين لانتاج أعمال سينمائية، ومن قبل كانت تنتج أفلام تسمى دينية تعرض الإسلام كتراث القرية أو كعنصر فولكلوري أما الآن فالمخرجون الإسلاميون يستطيعون إنتاج أفلام تحمل رسالة اجتماعية. فمثلاً صدرت أفلام عن المسلم النموذجي الواعي وسط مجتمع جاهلي، أو عن مجادلة الحجاب في الجامعات وهل هو واجب شرعي على المرأة المسلمة أم لا؟ والدفاع عن "حقوق الإنسان" الخ!

          تركيا إلى أين؟

          وفي النهاية نستطيع القول بأن تركيا قد دخلت إلى شارع التطورات السياسية والاجتماعية وتتقدم سريعاً نحو مجتمع أكثر إنفتاحاً، لتتحول إلى مجتمع مدني وديمقراطي. سعى أوزال في الثمانينات ويواصل نفس النهج الآن داميرال، يقودون تركيا نحو أوروبا ويعدونها للإندماج الكامل بها انتهت الكمالية منذ سنوات وبدأت الدولة تبحث عن أسطورة جديدة لخداع الشعب لأطول فترة ممكنة. (وقد وجدت) وهي: اللحاق بركب الحضارة الغربية، والحفاظ على الديمقراطية والعلمانية، لكن هناك مشكلة بسيطة..

          المشكلة هي وجود وازدهار الحركة الإسلامية، والتي توشك أن تكون بديلاً للحكم في البلاد هذه الحقيقة المرة تحرم أصحاب الاتجاه الغربي من النوم وتجعلهم يجتهدون ليلاً ونهاراً للقضاء على بشارات الحركة الإسلامية بكل وسيلة ممكنة.

          وإذا أردنا أن نشير إلى مأزق الحركة الإعلامية في تركيا باختصار شديد، نستطيع تحديده كالآتي:

          - مع اهتمامهم البالغ بالحركة الإسلامية العالمية، يبقى هذا الاهتمام عاطفياً ولا يتحول إلى مؤسسات وتنظيمات للتنسيق والعلاقة العضوية.

          - لا يخبرون العالم الإسلامي بأحوالهم وأفكارهم وتجاربهم عن طريق نشرات باللغة العربية أو الإنجليزية وكذلك تبقى تركيا صندوقاً مقفلاً في نظر العالم الإسلامي.

          - وللأسف بعض العاملين في صفوف الحركة الإسلامية لا يطّلعون على مصادر الإسلام الأساسية.



          ونسأل الله أن يتقبل منا، ويهدينا إلى سواء السبيل وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب

          الأمة العدد الخامس، أيار 1992، ص 26.

          الموقع الرسمي للمعلم رمضان شلح
          السماء الزرقاء تنتصر

          تعليق


          • #6
            هل أصبحت فلسطين أندلس ثانية؟
            18/07/2007 - 21:29:07


            --------------------------------------------------------------------------------


            في دراسة للدكتور رمضان عبدالله شلّح

            الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين

            هل أصبحت فلسطين أندلس ثانية؟

            تحرير وعرض: طاهر النونو

            في ظل التغيرات التي طرأت على النظام الدولي، ومع الإحساس بأن البشرية تمر بمخاض عسير نحو الدخول في قرن جديد، وفي عالم جديد يتشكل اليوم، تتزاحم الأسئلة حول موقع الأمة العربية والإسلامية ومستقبلها على خريطة النظام العالمي، وحول قضاياها المصيرية، تتفاعل الكثير من الأسئلة بخاصة في ما يتعلق بفلسطين، ويحاول رمضان شلّح الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي الإجابة عنها في دراسة له بعنوان «الغرب والصراع على فلسطين في القرن الحادي والعشرين»، وتحديداً على سؤال افتراضي وضعه وهو: «هل أصبحت فلسطين أندلس ثانية؟».

            يرى د. شلّح أنه لا يمكن الإجابة عن هذا التساؤل بمعزل عن السياق التاريخي للمواجهة الحضارية الشاملة بين الأمة الإسلامية والنظام الدولي بأطواره المختلفة وبنيته القاعدة الأوسع «الغرب»، موضحاً أنه ضمن هذا السياق يبرز موقع فلسطين في الصراع التاريخي مع الغرب وصولاً إلى تداعيات المنعطف التاريخي.

            ويقدم الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، في دراسته التي نشرها له «مركز فلسطين للدراسات والبحوث»، الذي يترأسه أحد قادة «الجهاد» في غزة، قراءة إسلامية لهذا الصراع بأبعاده العقائدية والثقافية والسياسية والاقتصادية، مقابل ما اعتبره القراءة الخاطئة التي قدمت تفسيرها للصراع في ظل مفاهيم الغرب نفسه، والتي قال إنها «طمست» مركزية فلسطين في الصراع التاريخي بين الأمة والغرب وحولتها إلى مجرد قضية تحرر وطني وأسست في ما بعد لنهج «التفريط» بفلسطين والقبول بالعيش في ظل إمبراطورية «إسرائيل العظمى»، ضمن تبريرات اختلال موازين القوى الساحق، والتي اعتبر أنها لن تكون، بأي حال، قدراً محتوماً، بل في حالة تغير مستمر وفق قانون التدافع بين الأمم.

            ويقول د. شلّح، إنه يمكن اختزال الغرب إلى شكل ذي ثلاثة أبعاد رئيسة، فهو «هيليني ـ مسيحي ـ يهودي»، أي مزيج بين الإغريقية والرومانية والمسيحية البروتستانتية التي أضافت إلى هذا المزيج بعداً توراتياً جعل اليهودية أحد العناصر الأساسية في المركب الحضاري الغربي.

            وفي ذات السياق، يشير إلى أن محاولة وضع تعريف دقيق للنظام الدولي لا تقل تعقيداً عن محاولات تعريف «الغرب»، بل إن التداخل بينهما يزيد المسألة تعقيداً، معتبراً أن الغرب هو الحامل للنظام الدولي الذي هو محصلة لتفاعلات الغرب ومكوناته وأدواته في العالم كله والتوازنات التي تنشأ عن هذه التفاعلات في سياق «مباراة دولية» رهانها الأكيد في نظر القوى «الاستكبارية» هو محاولة السيطرة على العالم.

            ويضيف، حين تكون اليهودية والمسيحية أحد المكونات الأيديولوجية الأساسية للغرب، فمن الطبيعي القول إن الصدام بين الغرب والأمة قديم قدم الإسلام، الذي هو جوهر شخصية الأمة وهويتها الحضارية. موضحاً أن الوطن الإسلامي، وعلى مدار القرون الأربعة الأخيرة، تعرض لهجمة غربيّة من قبل قوى استعمارية مختلفة ظهرت ثمارها في الهجمة المعاصرة، والتي مازالت مستمرة حتى اللحظة الراهنة معبراً عن اعتقاده بأنها الهجمة الأخطر على مدار تاريخ الأمة من حيث ضعفها وتفككها وتجريدها من قوى فاعلة ليس على صعيد الحكومات فقط، بل على صعيد الشعوب التي كانت بفعل تماسكها تعيد بناء توازنها وتقاوم وتدحر.

            ويشير د. شلّح، في دراسته المطولة، إلى أن الوطن الإسلامي ظل هدفاً للاستراتيجية الغربية والنظام الدولي على مدار التاريخ، نظراً لتمتعه بالعديد من المزايا، أهمها الجغرافيا والاقتصاد والعرق والديموغرافيا، حيث يشكل الوطن الإسلامي، جغرافياً، كياناً قارياً يتجاوز في أهميته الجيوبوليتيكية الكيانات الدولية الأخرى للقوى العظمى، فيما يملك الوطن الإسلامي اقتصادياً ثروة طبيعية واقتصادية هائلة لجهة احتوائه على أضخم ثروة بترولية يحوز بها أكثر من 60 بالمئة من مخزون النفط العالمي وغيرها من الثروات المعدنية والزراعية والحيوانية التي تشكل أداة تحكم سياسية كبيرة لو أحسن استخدامها، بينما عرقياً يشمل أعراقاً قومية وإثنية متعددة مثل العرب والترك والفرس، حمل بعضها ميراث حضارات قديمة عريقة وتاريخياً يحمل خصوصيات تفوّقٍ ونبوغٍ. وديموغرافياً يشكل المسلمون اليوم خُمس سكان الأرض، ويتجاوز وجودهم حدود الرقعة الجغرافية للوطن الإسلامي، ممثلاً بالبلدان العربية والإسلامية، حيث الأقليات الإسلامية التي تعد بعشرات الملايين في أنحاء مختلفة من العالم، وهي أقليات تشكل كيانات ثقافية حضارية في قلب أوروبا والأمريكيتين وداخل الحضارات الآسيوية المعاصرة. إضافة إلى رسالة الإسلام العالمية الخالدة التي صنعت من عرب الصحراء أمة عملاقة وقدمت للبشرية واحدة من أهم الحضارات التي عرفها التاريخ.

            ويقول، إن فلسطين أرض مباركة ومقدسة، ونقطة التقاء القارات ومهبط الديانات وصعود الحضارات وصراع الاستراتيجيات. مؤكداً أن كل هذه الميزات يمكن أن تخلق من العالم الإسلامي قوة عظمى تستطيع التفوق على القوة الأخرى، لكن الواقع أنّها جعلت منها هدفاً للأطماع الأجنبية التي كانت فلسطين، ومازالت، مجالاً لأكثرها بشاعة وهي الأطماع الصهيونية.

            ويعتبر أمين عام «الجهاد» أن اغتصاب فلسطين كان الصيغة الغربية الجديدة لحل المسألة اليهودية بعد فشل الحل النازي بإبادة اليهود، وقال: لقد عكس خروج اليهود من أوروبا إلى فلسطين دوراً بارزاً للمسيحية الغربية بشقيها الكاثوليكي والبروتستانتي في إقامة الدولة اليهودية، مؤكداً أن الصراع بين اليهود والكاثوليك شكل عامل طرد لليهود من أوروبا على قاعدة الكراهية لهم، أما البروتستانتية التي أنتجت الصهيونية المسيحية، فاليهود من وجهة نظرهم أداة لخلاص العالم الذي لن يتحقق إلا بعودة اليهود إلى أرض «الميعاد» فلسطين.

            ويوضح أن الدين شكل أهم عنصر تعبئة للصهيونية، حيث خلعت القداسة عن مشروعها أرضاً، «أرض الميعاد»، وشعباً، «شعب الله المختار»، فكانت «الدولة اليهودية» في المشروع الصهيوني وطناً منحه الرّب ليهود العالم.

            وعبّر عن اعتقاده بأن مركز الثقل الغربيّ انتقل في دعم الكيان الصهيوني منذ نشأته إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي دخلت إلى الحلبة منذ مؤتمر بلتيمور العام 1942، وتأكد دخولها بقوة بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر العام 1956. ولقد تحركت الولايات المتحدة لتوفير الحماية المباشرة لـ «إسرائيل» التي انتهت إلى حالة من التماهي بين الطرفين الأمريكي والصهيوني في المنطقة، معتبراً أن الغرب يرى في الكيان الصهيوني بتكوينه العقدي والفلسفي امتداداً له ورأس حربة في قلب العالم الإسلامي.

            ويقول د. شلّح: إن زرع الكيان الصهيوني في قلب فلسطين كان إحدى ثلاث حلقات مركزية استكمل بها الغرب هجمته على الوطن الإسلامي، حيث من أجل أن يضمن هذا الكيان العيش ويقوم كانت التجزئة في اتفاقية سايكس ـ بيكو لضرب وحدة الأمة التاريخية، والتي تزامنت مع انقلاب الحركة العربية ضد الدولة العثمانية لصالح الاجتياح الغربي للمنطقة. والحلقة الثالثة هي تدمير هوية الأمة وشخصيتها من خلال الغزو الثقافي الذي تمثل في استيراد وكلاء الغرب في بلادنا منظومات وقوالب فكرية غربية لتدمير عقولنا وأرواحنا وقطع صلتنا بالإسلام الذي أوجد هذه الأمة وصنع حضارتها.

            يؤكد أن الصراع مع دولة الكيان الصهيوني هو من صميم الفلسفة التأسيسية للمشروع الحضاري الإسلامي الذي يجب أن تكون فلسطين فيه ليس مجرد أرض لشعب مسلم مشرد ومضطهد تجب نصرته، بل هي مركز الصراع «الكوني» ونقطة صدام الأمة الإسلامية التاريخي ضد حضارة نهج الشرك التي تستهدف التوحيد في صراع مفتوح إلى يوم القيامة، كما أشار إلى ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «من اختار منكم ساحلاً من سواحل الشام فهو في رباط إلى يوم القيامة».

            صراع حضاري

            ويوضح د. شلّح أن الصراع على فلسطين في المنظور الإسلامي ليس صراعاً على الأرض أو الثروات أو الموقع الاستراتيجي فحسب، بل هو صراع حضاري كامل له جوانبه وأبعاده العقدية والثقافية والاستراتيجية والعسكرية والسياسية والاقتصادية، وهي جميعها منشأ فكرة مركزية فلسطين في الصراع الاستراتيجي والإقليمي الدولي والحضاري الراهن.

            ويعتبر أن القراءة الخاطئة لطبيعة صراع الأمة الإسلامية كلفت عقوداً من التضحيات حتى أفصحت الاستراتيجية الغربية بقيادة الولايات المتحدة عن نفسها بعد انتهاء الحرب الباردة، وأعلنت أن الإسلام عدوٌ وحيدٌ للغرب، وأنه الخطر الذي يتهدد المصالح الغربية في المنطقة وعلى رأسها «إسرائيل».

            ويؤكد أن القراءة «المغلوطة» للصراع لم تتوقف عند حد استبعاد الإسلام كأيديولوجيا وعقيدة حية على قيادة الصراع وإشعاله في السياق التاريخ والقرآني الذي يقود ضمن سنن وشروط إلهية إلى النصر الحتمي، بل استبعدت الإسلام ككتلة بشرية يصل تعدادها اليوم لمليار مسلم من غير العرب، فحرمت الأمة في صراعها مع الغرب ميزة العامل الديموغرافي وميزة التنوع العرقي الذي وظف إبداع الأعراق والأجناس المختلفة في بناء حضارة الإسلام ومجده.

            ويوضح الأمين العام لحركة «الجهاد» أنّه بعد قرن على انطلاق المشروع الصهيوني ونصف قرن من قيام الدولة اليهودية، يجمع المراقبون لمسيرة الصراع على أنّه لم تكن هناك استراتيجية عربية إسلامية للتصدي للمشروع الصهيوني تاريخياً من خلال نهجين رئيسين، الأول، نهج الرفض والمقاومة، والثاني، نهج التسوية السلمية، مشيراً إلى أن ثمة محددات موضوعية مختلفة يتوقف عليها مستقبل الصراع وفلسطين كان أهمها العامل العقدي والتاريخي، مبيناً أن التجربة التاريخية للأمة الإسلامية أثبتت أن العقيدة هي السلاح الأمضى، والعامل الأهم الذي حفظ الأمة عندما سقطت الدول والنظم السياسية الإسلامية المختلفة. ويقول «إن العقيدة وروح الجهاد كفريضة ربانية وتكليف شرعي هي التي حشدت المسلمين وأعطت الدول الإسلامية قدرة على التعبئة أكبر من طاقاتها وإمكاناتها التي كانت تتآكل بفعل الصدامات والصراعات الداخلية»، مؤكداً أن الإسلام كان وما زال هو حصانة الأمة في مواجهة الغزو الاستعماري والتحدي الخارجي بأشكاله كافةً العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية.

            ويرى أن العامل التقني والقوة باتا حقيقة لا تقبل الجدل، موضحاً أن المشروع الصهيوني يولي اهتماماً كبيراً ببناء القاعدة العلمية والتقنية للدولة اليهودية، مشيراً إلى أن حالة الانفتاح التي عاشها هذا الكيان بعد انطلاق عملية السلام في مدريد أسهمت في ضخ روافد جديدة للتكنولوجيا من مختلف أنحاء العالم.

            ويشير إلى أنه في مقابل ذلك تواجه «إسرائيل» المحاولات العربية والإسلامية لامتلاك قدرات دفاعية في مواجهة ترسانة أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها لإجهاضها عبر أكثر من طريق.. فمن تدمير الإمكانات العسكرية العراقية على يد الولايات المتحدة، إلى تطوير «إسرائيل» بمساعدة أميركا لصواريخ مضادة للصواريخ البالستية التي تمتلكها مصر وسورية وإيران، مضيفاً «إذا اعتقد البعض بأن إسرائيل لم تعد تشكل تهديداً أمنياً مباشراً لهم اليوم، في ظل اتفاقات السلام، فإنها تمثل تبديداً مزمناً لكل قواهم وعبئاً يشل قدراتهم على النهوض».

            ويشير في الوقت نفسه إلى أن الدولة اليهودية تعاني من صغر القاعدة الديموغرافية مقارنة بالقوة البشرية العربية، فضلاً عن الإسلامية، وفي حين توفر الموارد البشرية والاقتصادية التي يملكها العرب والمسلمون فرصة لخوض حرب طويلة المدى إذا توافرت إرادة القتال، فإن صغر القاعدة الديموغرافية لا تسمح للكيان الصهيوني بتعبئة عسكرية شاملة لفترة طويلة، ويبين شلّح أن الشرق الأوسط الذي تحلم «إسرائيل» بأن تكون قطعة في نسيجه سيفوق تعداد سكانه العرب والمسلمين ثلاثة أرباع المليار خلال عقدين من الزمان، بل أن تقديرات الميزان الديموغرافي الفلسطيني ـ الصهيوني لذات الفترة تتحدث عن وجود 8 ملايين فلسطيني داخل فلسطين مقابل 6 ملايين يهودي العام 2020، فأي مستقبل ينتظر الأقلية اليهودية في هذا المحيط البشري الرافض لها؟

            ويستعرض شلّح واقع المشروع الصهيوني ومستقبله، مؤكداً أن المشروع الصهيوني يعاني من مأزق كبير على أكثر من مستوى، وأن حالة الاستقطاب التي تشهدها الساحة الصهيونية في الدولة اليهودية والعالم حول أساسيات وأهداف ومنجزات المشروع الصهيوني في ظل التطورات العالمية والإقليمية، تظهر عمق الأزمة التي تعيشها الصهيونية اليوم، موضحاً أن التجارب التاريخية تؤكد أن حالة ميزان القوة الدولي ليست مسألة ثابتة غير قابلة للتغير، بل أن سنن التدافع بين الدول والحضارات تنعكس في صعود بعضها وهبوط بعضها الآخر.

            وقال: إن قادة الكيان الصهيوني قادوا، منذ انتهاء الحرب الباردة، حملة واسعة من الانفتاح على معظم دول العالم وتوثيق العلاقات بها تحسباً لأي انقلاب في موازين القوى العالمية مستقبلاً، مشيراً إلى أن الكيان الصهيوني لا يحمل مقومات بقائه واستمراره في داخله، بل هو يستمد قوته من دولة عظمى ترعاه وتكفله، فأي تدهور على خريطة النظام العالمي لابد من أن ينعكس سلباً على وضع الكيان الصهيوني.

            ويشير شلّح، في ختام دراسته، إلى أن المرحلة قاتمة والمنطقة توشك أن تدخل حقبة من الإذعان للمشروع الصهيوني، معتبراً أن السلام الذي تفرضه «إسرائيل» بقوة السلاح لن يكون سلاماً، ولن يجلب الأمن والاستقرار لأحد، بل سيزرع عوامل تفجير جديدة في المنطقة. وقال: إن الغزوة الصهيونية ستندحر، وانتخاب الغرب للإسلام عدواً هو انزياح طبيعي بالصراع إلى سياقه التاريخي الذي سيوصل إلى نقطة الحسم لمصلحة الإسلام، ولن تكون فلسطين، بأي حال من الأحوال، أندلساً ثانية، بل إن «إسرائيل» المملكة الصليبية الجديدة هي التي ستمحى من الوجود طال التاريخ أم قصر.



            الإسلام وفلسطين العدد 65

            \\

            · الموقع الرسمي للمعلم رمضان شلح
            السماء الزرقاء تنتصر

            تعليق


            • #7
              الحركة الإسلامية ومهام المرحلة الراهنة

              د.رمضان عبدالله شلّح

              لا يمكن الحديث عن مستقبل الحركة الإسلامية أو واقعها الراهن في ظل التحولات الدولية أو ما يسمى بالنظام الدولي الجديد – التي كانت حرب الخليج الثانية ثمرة لترتيباته – إلا بتحديد موقع الحركة الإسلامية في هذا النظام ومكانها بين موضوعاته وقضاياه. لقد ظلت قضايا كسباق التسلح ومشكلة الطاقة ومشكلة الغذاء والصراع على موارد الثروة تشكل صلب قضايا النظام العالمي لفترة طويلة وتحدد سياساته تجاه منطقة الوطن العربي والإسلامي لما له من أهمية استراتيجية في هذه المجالات. ومنذ سنوات والغرب يرصد "الأصولية الإسلامية" – كما يحلو له تسميتها – ويراقب نموها ويجعلها في صلب اهتمامه باعتبارها القوة التي لو قدر لها الوصول إلى مرحلة التمكين، فستقطع عليه الطريق وتحول دونه ودون مصالحه وأهدافه في المنطقة. وخلال العقد ونصف العقد السابقين كانت هناك نقاط تحول ومنعطفات هامة يظهرها "الترمومتر" الغربي في مقياس ظاهرة الأصولية بدءاً بالثورة الإسلامية في إيران ومروراً بالانتفاضة في فلسطين وانتهاء بحرب الخليج الأخيرة.

              بغض النظر عما يمكن أن يقال عن هامشية دور الحركة الإسلامية أثناء أزمة الخليج وعدم قدرتها على التأثير في مجرى الأحداث، إلا أن تصدر قطاع كبير منها لحركة الغضب الجماهيري والرفض العربي للتدخل الأجنبي وضرب العراق، وجعلها المرشح الأول للضرب عندما تبدأ مرحلة تصفية الحسابات، لقد بدا وضاحاً أن على رأس أهداف النظام الدولي الجديد في المنطقة في مرحلة ما بعد الحرب تصفية شيئين إثنين: الحركة الإسلامية، والقضية الفلسطينية، أي الحركة الإسلامية وما تعتبره قضيتها المركزية ومحور الاستقطاب الرئيسي في مشروعها النهضوي.

              إذاً كان هذا هو الحال، فما هو موقف الحركة الإسلامية نفسها، وما هي استعداداتها لمواجهة هذه المرحلة، وما هي خياراتها المطروحة أمام هكذا تحدي؟ بمعنى آخر إذا كان النظام العالمي الجديد يضع ضرب الحركة الإسلامية وتصفية قضيتها المركزية على رأس مهامه في المرحلة الراهنة في المنطقة، فهل تفكر الحركة الإسلامية في المقابل في صياغة المهام الملقاة على عاتقها في هذه المرحلة.. هل هناك تصور واضح لمهام وخطوات عاجلة يجب القيام بها ولا تحتمل أي تأجيل، وأخرى آجلة يمكن أن يخطط لها على مدى أطول؟ إن وجود مثل هذا التصور قد يعفينا مهمة التنظير الذي يستغرق صفحات طويلة من الحديث المتكرر في أشياء ربما قد تمر سنوات طويلة حتى تشرع الحركة فيها، دون أدنى ذكر لما يجب فعله الآن. إن أول ما يجب أن تفعله الحركة الإسلامية الآن هو أن تحدد بقوة وموضوعية مجموعة المهام الملقاة على عاتقها في المرحلة الراهنة، مع ملاحظة ما يمكن تحقيقه وما لا يمكن، وفي اعتقادنا أن هذه المهام يجب أن تشمل الآتي: مواقف أجنحة الحركة الإسلامية وآرائها إبان أزمة الخليج والتي اتسعت لتصل إلى حد وجود النقيضين عن الأزمة التي تعانيها الحركة في موضع تحالفاتها، أي التقائها مع أو ابتعادها عن قوى أخرى بشأن قضايا مصيرية تتعلق بواقع الأمة ومستقبلها.

              وحتى تتخلص الحركة الإسلامية من الارتجالية في مواقفها أو اتخاذ خطوات غير محسوبة سلباً أو إيجاباً فإن عليها أن تبادر الآن بصياغة الأسس الموضوعية التي تحكم تحالفاتها مع غير الإسلاميين في المرحلة الراهنة. إن مجرد الدعوة إلى إعلان المصالحة بين الإسلاميين والقوميين أو العروبيين لا تكفي لتكون أساساً في النضال المشترك للطرفين، فلا بد من تحديد المحاور الأساسية والأسس الموضوعية التي تحتمها المصالح المشتركة في مواجهة العدو الواحد.

              المصدر الموقع الرسمي للمعلم رمضان شلح
              السماء الزرقاء تنتصر

              تعليق


              • #8
                الحركة الإسلامية والجهاد في فلسطين : ملاحظات أولية

                د. رمضان عبدالله شلّح

                منذ اندلاع الصراع مع المشروع الغربي الصهيوني على أرض فلسطين من بدايات القرن الماضي تعددت أشكال المقاومة التي خاضها شعبنا وأمتنا ضد هذا المشروع والكيان الذي انبثق عنه.

                وعبر مراحل النضال الفلسطيني المختلفة، ومنذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، سيطر مفهوم "الكفاح المسلح" باعتباره الطريق الوحيد للتحرير، على برامج وخطاب معظم الفصائل الفلسطينية، واحتل العمل الفدائي ضد الاحتلال الصدارة في أشكال النضال الفلسطيني. وبرغم الدور البارز والمبكر الذي لعبته القيادات والزعامات الإسلامية في تاريخ النضال الفلسطيني، سواء على صعيد الجهاد المسلح، (حركة الشيخ عز الدين القسام) أو القيادة السياسية (الحاج أمين الحسيني) إلا أن الحركة الإسلامية المعاصرة في فلسطين لم تكن تدرج ضمن فصائل الثورة الفلسطينية المعاصرة، حيث لم تنخرط في الكفاح المسلح ضد العدو الصهيوني لأسباب ذاتية وموضوعية، حتى منتصف الثمانينات حين برز دور "الجهاد الإسلامي" منذ ذلك التاريخ، وأخذ يتبلور كتنظيم مقاتل في الساحة الفلسطينية.

                كان السادس من أكتوبر / تشرين 1987 نقطة تحول بارزة في تاريخ الكفاح المسلح الفلسطيني، وتاريخ الحركة الإسلامية في فلسطين، عندما خاض مجاهدو حركة الجهاد الإسلامي اشتباكاً مسلحاً مع قوات الاحتلال الصهيوني عُرف فيما بعد بـ "معركة الشجاعية" التي كانت أحد أهم العوامل المبكرة التي أشعلت الانتفاضة الأولى.

                في الانتفاضة الأولى برز دور الحركة الإسلامية الفلسطينية ممثلاً في حركتي الجهاد الإسلامي وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي تأسست بعد انطلاقة الانتفاضة. لقد قطفت الحركة الإسلامية من الانتفاضة ثمار التحول الشعبي العارم في المنطقة، وفي الساحة الفلسطينية نحو الإسلام، إلا أنها لم تستطع أن تطرح برنامجاً إسلامياً ثورياً يستوعب طاقات الشعب وقواه، ولم تقدم خطة شاملة لتحويل الانتفاضة إلى حالة نهوض شاملة توصل للتحرير.

                وعندما بدأت شعلة الانتفاضة تخبو، وبدا المناخ العام يسير في غير صالح استمرارها، وأخذ العدو وحلفاؤه يدفعون الشعب الفلسطيني إلى الإحساس بعدم جدوى النضال وأن الانتفاضة التي بدت وكأنها الطلقة الأخيرة في جعبة الشعب الفلسطيني، لم تحقق شيئاً، في ظل هذه الظروف اندفعت حركة الجهاد الإسلامي كعادتها لكسر الطوق عن عنق الشعب، وأخذت زمام المبادرة بالعمليات الاستشهادية والعمل الجهادي المسلح، الذي وصل هذه المرة إلى عمق الكيان الصهيوني، وسرعان ما انضمت حركة حماس إلى الركب لتسجل الحركة الإسلامية حضوراً نوعياً ومميزاً في ساحة الكفاح المسلح ولتحدث توازناً غير مسبوق في ميزان الرعب في الصراع مع العدو الصهيوني.

                أحدث بروز الدور الإسلامي في الانتفاضة، ومن ثم في الكفاح المسلح والعمليات الاستشهادية، حالة من الفزع لدى قادة العدو الصهيوني، حاولوا تصديرها إلى قيادة منظمة التحرير في الساحة الفلسطينية فأطلقوا فزّاعة البديل الإسلامي للمنظمة وللمشروع الوطني الذي تعبر عنه، ونجحوا من خلال تلك الفزاعة اصطياد قيادة منظمة التحرير في شرك التسوية فجرى توقيع اتفاق "أوسلو" المشؤوم في أيلول / سبتمبر 1993.

                مثل اتفاق أوسلو وما أفرزه على الأرض انقلاباً حقيقياً في تاريخ الشعب الفلسطيني. انقلاباً حاول نسف أسس وثوابت النضال الفلسطيني وأخطر من ذلك نسف أسس الوعي الفلسطيني للقضية والصراع مع العدو.

                وعلى مدار أكثر من سبع سنوات عجاف حاولت أطراف أوسلو تجفيف كل الينابيع الجهادية في الشعب الفلسطيني، ودخلت الحركة الإسلامية طوراً من المحنة والابتلاء الحقيقي الذي أسفر تقريباً عن تكسير بنيتها العسكرية وفقدانها لمعظم إمكاناتها الجهادية مادياً وبشرياً، بل إن الروح المعنوية لدى قطاعات واسعة من أبناء الحركة الإسلامية سجلت انخفاضاً ملحوظاً وصل أدنى نقطة له بدرجات عالية من التشاؤم والإحباط وربما اليأس!

                بيد أن انتصار المقاومة الإسلامية وهزيمة الجيش الصهيوني النكراء في جنوب لبنان، ثم انسداد أفق التسوية بعد فشل قمة كامب ديفيد بين السلطة الفلسطينية وحكومة باراك الصهيونية، فتحا نافذة جديدة من الأمل للشعب الفلسطيني بالعودة إلى خيار الانتفاضة والمقاومة الأمر الذي أشعل شرارته دخول شارون محمياً بقوات الاحتلال إلى ساحة الحرم القدسي الشريف في أواخر أيلول / سبتمبر الماضي.

                أعادت "انتفاضة الأقصى" إلى الأذهان صورة وحقيقة الشعب الفلسطيني كشعب مكافح لديه درجة عالية من الاستعداد للتضحية، ويسكنه إصرار غير عادي على مواصلة الكفاح من أجل تحرير أرضه واسترداد حقوقه في وطنه.

                كشفت الانتفاضة الكثير من العبر والدروس لكل قوى الشعب الفلسطيني والأمة، الأمر الذي يحتم على الجميع إجراء مراجعة شاملة لمجمل الوضع الفلسطيني وخيارات الشعب وأدوات نضاله وآفاق وأهداف هذا النضال في ظل الظرف الراهن، الذي يتسم بدرجة عالية من الحساسية والتعقيد، نظراً لاستمرار الانتفاضة والمقاومة من جهة، وعدم تخلي السلطة الفلسطينية وحركة فتح عن عملية التسوية مع العدو الصهيوني من جهة أخرى.

                وتبقى الحركة الإسلامية في طليعة القوى المطلوب منها إجراء مراجعة لمسيرة جهادها من حيث منطلقاته وآفاقه وأهدافه ووسائله وأدواته، كي لا تبقى الحركة محصورة في دائرة ردود الأفعال والموجات الموسمية والهبات الشعبية التي تجعل من جهادها نوعاً من "اغتنام الفرصة" أكثر منه "مبادرة بالفعل".

                ونحن بالطبع لا نستطيع إجراء هذه المراجعة في مثل هذه العجالة، لكن ثمة مسألة جوهرية تتعلق بجوهر وبنية الحركة الإسلامية ككيان سياسي جهادي في الساحة الفلسطينية لابد من مناقشتها.

                قبل الحديث عن بنية الحركة الإسلامية لابد من الإشارة إلى أن الحركة الإسلامية في فلسطين شأنها شأن سائر الحركات الإسلامية في المنطقة والعالم عانت وبشكل ملموس من غياب التأصيل الإسلامي والمنهجي للمواقف والبرامج والخطط التي تطرحها الحركة الإسلامية. فعلى سبيل المثال، مازالت الحركة الإسلامية تعاني من عدم وضوح في الرؤية ينعكس في عدم وضوح الأهداف والخلط بين الغاية العليا للحركة وبين أهدافها الاستراتيجية وأهدافها المرحلية في فلسطين، إضافة إلى الارتجالية والتقلب في الخطاب بشأن الكثير من المفاهيم الأساسية المرتبطة بالقضية الفلسطينية.

                فلو سألت قطاعات واسعة من أبناء حركتي الجهاد وحماس عن هدف الحركة الإسلامية في فلسطين، وليس غريباً أن تسمع إجابات من نوع "مرضاة الله" "تطبيق شرع الله في الأرض" "إعادة الخلافة الإسلامية"... إلخ. وكلها إجابات بريئة وصحيحة تتفق فيها كل الحركات الإسلامية أينما وجدت، لكنها لا تلحظ الخصوصية الفلسطينية ولا تجيب على السؤال الفلسطيني: ما هو هدف الحركة الإسلامية في فلسطين في ظل الاحتلال الصهيوني لها؟

                ثانياً: إن طبيعة العدوان والاحتلال الصهيوني لفلسطين، تؤكد أن وسيلة التحرير وتصفية الاحتلال لفلسطين هي القتال. وحكمه في حالة احتلال العدو لأرض المسلمين كما هو واقع في فلسطين، "فرض عين"، قال تعالى ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم﴾. وقال: ﴿كتب عليكم القتال وهو كره لكم﴾.

                وتعيين الوسيلة (القتال) كحكم شرعي وفرض عين يعني أنه لا يجوز للحركة الإسلامية الهروب للمعنى الواسع والمطاط للجهاد الذي يستند إلى الأساس اللغوي لكلمة جهاد، وتطرح بدائل مدنية للقتال تحت مسميات الجهاد التعليمي، أو الجهاد التربوي، أو الجهاد الإعلامي، أو الجهاد المالي أو غيره من العناوين التي لا تفي بالمعنى الاصطلاحي والفقهي لكلمة جهاد. قال القسطلاني في شرحه لصحيح البخاري "الجهاد في الاصطلاح يعني قتال الكفار لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله". وقال صاحب البدائع: "أما الجهاد في عرف الشرع: يستعمل في بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله".

                ومثل تلك العناوين المتعددة التي يمكن أن تندرج تحت المعنى الواسع للجهاد كما هو حال الدعوة بالقرآن في قوله تعالى "وجاهدهم به جهاداً كبيراً"، يمكن أن تكون في خدمة القتال وليس بديلاً عنه.

                ثالثاً: في ظل غياب الحاكم المسلم أو الإمام الذي يعلن النفير العام لخوض حرب التحرير، فإن فريضة القتال لا تسقط عن المسلم، وهي كما أسلفنا فرض عين لم يتعين على المسلمين بسبب وجود الإمام أو غيابه، بل تعين عليهم بوقوع العدوان على أرض المسلمين. وطالما أن الحركة الإسلامية تطرح نفسها كممثل للشرعية الإسلامية في غياب السلطة السياسية الإسلامية، وكمعبر عن ضمير الأمة وعقيدتها، فإن غياب الإمام أو الحاكم المسلم لا يعفي الحركة الإسلامية من مسؤولية الجهاد في فلسطين كما تزعم بعض الحركات الإسلامية، بل يحمّلها ويضع على عاتقها مسؤولية النهوض بواجب القتال، واستنفار وتعبئة جماهير الشعب والأمة لأداء هذه الفريضة.

                وعليه، يصبح قيام الحركة الإسلامية بمهمة استنفار الجماهير وحشدهم للقتال واجباً شرعياً لا يجوز التخلف أو القعود عنه بأي ذريعة أو حجة. قال تعالى: ﴿انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله﴾ فالأمر الإلهي هنا ﴿انفروا﴾ أي اخرجوا إلى القتال ﴿خفافاً وثقالاً﴾ أي خف ذلك عليكم أو شق على أي حالة كنتم (شباباً وشيوخاً، نشاطاً وغير نشاط، مشاغيل وغير مشاغيل، فقراء وأغنياء، عزاباً ومتأهلين.. وغيرها من أحوال الإنسان التي شملتها أقوال المفسرين).

                رابعاً: إذا كان القتال والنهوض بواجبه هو فرض عين على المسلمين، فإن توفير الآلية والأداة التي تمكن من القتال هو واجب شرعي وفريضة إسلامية أيضاً عملاً بالقاعدة الشرعية "ما لا يتم الواجب به فهو واجب".

                وعليه، فإن واجب الحركة الإسلامية من أجل الوصول لهدف أو فريضة التحرير عبر فريضة القتال، هو بناء "التنظيم المقاتل" الذي يستوعب طاقات وقدرات الشعب وينتظم فيه المجاهدون لأداء فريضة الجهاد. أما عن حجم وبنية هذا "التنظيم المقاتل" في الحركة الإسلامية في فلسطين فهو أمر تحدده حاجة الجهاد والقتال إلى مستوى تحصل به الكفاية وإلا امتد الحكم إلى المسلمين خارج فلسطين. فليس من المنطق أو الشرع أن نطالب المسلمين أو الحركة الإسلامية في الأردن، أو سوريا أو لبنان أو مصر أو العراق أو إيران أو أي بلد عربي أو إسلامي أن تعد كتائب الجهاد من أجل فلسطين وترسل المتطوعين لقتال اليهود فيها، بينما الحركة الإسلامية في فلسطين لا تفعل ذلك، أو تفعله بشكل محدود، لا ينم عن بذل الحركة كل ما في وسعها وطاقتها في الجهاد سعياً إلى تحقيق الكفاية في المواجهة، التي هي بطبيعة الحال غير ممكنة في ظل ميزان القوة الراهن مع العدو.

                والتنظيم المقاتل ليس بضعة خلايا أو عشرات من المجاهدين ينهضون بواجب القتال حتى يسقط عن البقية العظمى لأعضاء الحركة الإسلامية، الذين يعتبرون أنفسهم من باب الاختصاص غير معنيين بالمسألة الجهادية، ولا يتلقون أية تعبئة أو تأهيل يؤهلهم للانخراط في الفعل الجهادي مع اشتداد أوار الحرب الدائرة مع العدو الصهيوني. مثل هذا النوع من توزيع الأدوار قد يصلح أو يجري في حال "فرض الكفاية" لكن لا يجوز في حال "فرض العين". فهروب الحركة الإسلامية في فلسطين تحت أي ظرف وفي أي مرحلة، للعمل في أي مجال اجتماعي أو ثقافي أو رياضي يغيب معه الجهاد والمجاهدون لا يعفيها من التقصير والإثم مهما كانت المبررات.

                إن الحركة الإسلامية في زمن الشهيد حسن البنا، رحمه الله، وفي موقع غير فلسطين، لم تكن لتقبل أن تصبح جمعية خيرية على حساب واجباتها السياسية والجهادية. وعندما يتحدث الشهيد حسن البنا عام 1945 عن أولئك الذين يسألون الإخوان المسلمين عن طبيعتهم "هل أنتم طريقة صوفية؟ أم جمعية خيرية؟ أم مؤسسة اجتماعية؟ أم حزب سياسي؟" يجيب البنا، رحمه الله، "هل يتوهم أحد أن تكون (الحركة الإسلامية) في عرف القانون، ومنطق الأوضاع كجماعة لتكفين موتى الفقراء؟ وجماعة قطرة الحليب (التي توزع الحليب على الفقراء)؟ وجماعة أنصار الإحسان؟ وعلم الله أننا لا نستصغر ناحية من نواحي البر ولا ننتقص عملاً من أعمال الخير مهما كان ولكن لكل مقام مقال".

                ونحن ـ كما يقول الشهيد حسن البنا ـ لا ننتقص من قيمة أعمال الخير، لكن لكل مقام مقال.. والمقام في فلسطين هو مقام "الاحتلال والعدوان الصهيوني الواقع على أرضنا وشعبنا" وليس له مقال في الإسلام.. وليس له حكم في الشرع سوى القتال والجهاد.

                خامساً: إن التزام الحركة الإسلامية فريضة "التحرير"، وفريضة "القتال" وفريضة "بناء التنظيم المقاتل" ليست مسألة اختيارية خاضعة لحسابات الربح والخسارة، بل هي من باب التكليف الشرعي الذي يؤثم تاركه فرداً كان أو جماعة إثم ترك الصلاة. إن عدم النهوض بهذا التكليف والتخلف عن القتال يضع الحركة الإسلامية وأبناءها في موقع حرج تحدثت عنه العديد من الآيات القرآنية مثل قول الله تعالى: "فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون".

                فالقرآن يطرح قضية التخلف والاعتذار عن الجهاد بسبب أو ظرف "لا تنفروا في الحر" لكن الله سبحانه وتعالى يوصد الطريق على دعاة الأعذار والحجج برد حاسم تلوح فيه جهنم والعياذ بالله "قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون". وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم في فريضة القتال واضح وقاطع "مَن مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية".

                ونحن هنا لا نريد الحديث عن فضائل الجهاد والقتال والترغيب فيه فالآيات والأحاديث في ذلك كثيرة ويكفي ما رواه البخاري من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها". ولكن ما نود إبرازه هو سوء العاقبة المترتبة على ترك الجهاد والقتال وعدم النية بالمشاركة فيه، من قول النبي صلى الله عليه وسلم (مات ميتة جاهلية)!

                سادساً: من أجل بناء "التنظيم المقاتل" للقيام بفريضة الجهاد، فلا بد من توفر عدة مطالب أساسية لا مجال لتفصيلها الآن، لكن أهمها أمران: توفر نخبة قيادية مؤهلة تحض على القتال وتعد له "يا أيها النبي حرض المؤمنين"؛ ووجود استجابة شعبية لذلك.

                فالخطوة الأولى في النهوض نحو الجهاد والقتال أن تكون قيادة الحركة الإسلامية مقتنعة بذلك، وتتحمل المسؤولية الشرعية والأخلاقية للقيام بهذا الواجب. وقيادة المشروع الجهادي يجب أن تتصف بمواصفات خاصة من التقوى، والتجرد والإخلاص والوعي والحكمة والشجاعة والحزم والقدرة على اتخاذ القرار في أصعب الأوقات. أما الاستجابة الشعبية والجماهيرية فتعني إقبال الشعب على التطوع للجهاد والقتال، وهذا الإقبال من عدمه لا يؤثر على فرضية الجهاد كواجب شرعي لابد منه، بل يحدد قدرة أصحاب المبادرة على تكوين الإطار المقاتل الذي يستوعب طاقات الشعب وينظمها ويسخرها للقتال. والدراسات الحربية والعسكرية تقول إن وجود استجابة شعبية بنسبة 20 بالمئة من مجموع السكان في البلد المحتل تكفي لقيام قيادة مؤهلة بالنهوض بعبء الجهاد والمقاومة.

                ومعروف أن الشعب الفلسطيني في فلسطين وفي أسوأ أحواله النفسية والمعيشية في ظل (أوسلو) لم تهبط نسبة تأييده للكفاح المسلح إلى هذا المستوى، وحسب استطلاعات غير المتعاطفة مع الكفاح المسلح لم تقل النسبة عن 30 بالمئة وأحياناً كانت تصل نسبة المؤيدين حتى للعمليات الاستشهادية إلى أكثر من 60 بالمئة. وهذا يجعل مسؤولية الحركة الإسلامية الشرعية والتاريخية كبيرة في استيعاب جماهير الشعب الفلسطيني وتأطيرها في حالة جهادية قتالية قادرة على دحر المشروع الصهيوني وهزيمته على أرض فلسطين.

                · المصدر: مجلة المجاهد

                · الموقع الرسمي للمعلم رمضان شلح
                السماء الزرقاء تنتصر

                تعليق


                • #9
                  وأخير تقرير مع أبو طارق زياد النخالة

                  القيادي النخالة: نجري اتصالات مع الطرفين وأطراف عربية في محاولة لإيجاد حل

                  لهذا المأزق الكبير والخطير



                  بوابة الأقصى // وكالات

                  تراوحت قراءة سورية وبعض المنظمات الفلسطينية لنتائج سيطرة «حركة المقاومة الاسلامية» (حماس) على قطاع غزة ان الحركة «استدرجت الى الفخ» الذي كان يُعد لها، وبين تأكيد قيادة «حماس» ان ما حصل هو «التطور الطبيعي للاحداث لمعالجة المعضلة الامنية»، وسط قلق من احتمال انتقال الصراع الى الضفة الغربية.



                  وقال لـ «الحياة» عضو المكتب السياسي لـ «حماس» محمد نصر أبو عمر: «ارجو ان يفهم الجميع ان هناك خطر ان توضع حماس في وضع تضطر للدفاع عن نفسها في الضفة، لأنها امام هذه الاعتداءات لن تقف مكتوفة الايدي. الطرف الآخر يعرف حماس في الضفة كما يعرفها في غزة». واكد انه «ليس لدى حماس اي نية للانقلاب على ابو مازن ولا على السلطة» وان اي «اقتتال يخدم اسرائيل».



                  وكان وزير الخارجية السوري وليد المعلم استقبل الاحد الماضي وفداً من «حماس» بقيادة رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل، قبل ان يستقبل نائب الرئيس فاروق الشرع ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت عباس زكي ويتسلم منه رسالة من الرئيس عباس الى الرئيس بشار الاسد.



                  وقالت مصادر فلسطينية لـ «الحياة» امس ان الجانب السوري عبر عن «القلق من احتمال ان تكون الحركة استدرجت الى فخ» قبل ان ينصح بـ «بحث الموضوع بعمق لتلافي المخاطر على القضية الفلسطينية وحماس» وسط حرص دمشق ان «تتبع سياسة حذرة بأن لا تدافع عن حماس بما فعلته مع الحرص على عدم لومها وانتقادها علنا». واشارت المصادر الى ان الشرع اعرب لزكي عن «الحزن لاراقة الدم الفلسطيني وضرورة العمل على تحقيق الوفاق الفلسطيني والاستعداد لبذل كل الجهود للوصول الى ذلك».



                  وردا على ما قيل من ان «حماس» استدرجت الى فخ، قـــال أبو عمر: «عـــندما فــزنا بالانتخابات قيل اننا استدرجنا الى فخ. لكن المجتمع الدولي سعى بكل جهوده للانقلاب على نتائج الانتخابات والكل يعرف حجم الاستعدادات التي كان يجريها تيار (النائب محمد دحلان) للسيطرة على حماس». وزاد: «لم نستدرج الى فخ، هذا هو التطور الطبيعي للاحداث».



                  في المقابل، لا يخفي قادة باقي المنظمة القلق ازاء ما حصل ومنعكساته المستقبلية، بالتزامن مع السعي الى ايجاد حلول بعدما فرض امر واقع. وقال نائب الأمين العام لـ «الجهاد الاسلامي» زياد نخالة لـ «الحياة» امس ان ما حدث «هو صفحة مأساوية في تاريخ الشعب الفلسطيني يجب ان تطوى ويجب ان تنصب جهود الجميع للبحث عن مخرج من هذا المأزق الكبير والا فإن القضية الفلسطينية في هذه المرحلة مهددة فعلاً بالضياع»، مشيراً الى «اننا نجري اتصالات مع الطرفين وأطراف عربية في محاولة لايجاد حل لهذا المأزق الكبير والخطير».



                  وكان نائب الامين العام لـ «الشعبية - القيادة العامة» طلال ناجي قال لـ «الحياة» امس ان الحل يجب ان يتضمن «وقف التصعيد الاعلامي والامني في الضفة والقطاع، وتجنب الفعل ورد الفعل، وضرورة عدم معاقبة مليون ونصف مليون فلسطيني بشكل جماعي في حال كانت هناك مآخذ على حماس» وصولا الى «ضرورة العودة الى مائدة الحوار». ودعت «الجبهة الديموقراطية» بزعامة نايف حواتمة الجميع الى «الارتقاء الى مستوى المسؤولية وتغليب المصلحة الوطنية على اي مصالح فصائلية او فئوية».
                  السماء الزرقاء تنتصر

                  تعليق

                  يعمل...
                  X