مداخلة الدكتور رمضان عبدالله شلّح، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين بمناسبة انعقاد ندوة:
«العرب ومواجهة إسرائيل: احتمالات المستقبل»
التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت من 10ـ13 آذار 1999.
بسم الله الرحمن الرحيم
أشكر الأخوة الأعزاء منظمِّي هذه الندوة وعلى رأسهم الأستاذ الكبير خير الدين حسيب، وأشكر لهم حرصهم على أن أدلي بدَلْوِيَ المتواضع في هذه الندوة. وحتى لا يكون حديثي في نظر البعض من باب «المنفستو» العقائدي أو الأيديولوجي فإنني أُقسِّمُ حديثي إلى مستويين:
الأول: عبارة عن مقدمة نظرية، والثاني والأهم هو في الجانب العملي.
المقدمة النظرية تستدعيها عدة أسباب أهمها؛ حرص الكثير من الناس معرفة طبيعة الموقف الإسلامي في ظل اختلاط الرؤى والمفاهيم، بل وفوضى المفاهيم كما يحاول أن يصورها الإعلام الغربي ومن سار في فلكه، بالنَّظر إلى الحركات الإسلامية ورؤيتها اليوم للصراع مع إسرائيل.
في الجانب النظري، مهما كان رفض البعض للحديث عن الأيديولوجيا في عصر العولمة، فإن المقدمة تطرح مفاهيم ومحددات وموجهات للاستراتيجية المطروحة للتعامل مع هذا الصراع. بداية لا أتصور أن تكون هناك استراتيجية بدون محددات وموجهات للصراع مع العدو.
لا أريد أن أسرد قائمة من المحددات والمرتكزات وأكتفي بمحدد وموجّهٍ أساسي لهذا الصراع ألا وهو فلسطين. فلسطين، بالنسبة لنا كإسلاميين، هي آية من الكتاب، مَن فرّط في فلسطين فرّط في الكتاب. فلسطين بما تعنيه من أبعاد عقدية وسياسية واستراتيجية وتاريخية هي الإيديولوجيا، وهي المحك الذي يجب أن نلتقي ونفترق عليه.
من هنا، قد يتساءل البعض هل الحديث عن فلسطين والبعد العقائدي فيها يطرح فكرة الحرب الدينية مع اليهود من وجهة نظر الإسلاميين؟ بالتأكيد لا، وأنا هنا أسجل أن معركتنا في فلسطين، برغم دور الدين في قراءة وإدارة الصراع من وجهة نظرنا، فإننا لا نقاتل اليهود لأنهم يهود، أو من أجل أن يتحولوا إلى مسلمين.
نحن نقول إن المعركة مع اليهود هي على فلسطين. هي بسبب الظلم الذي وقع علينا باغتصاب أرضنا وتشريد شعبنا. فلذلك نحن سنقاتل اليهود في فلسطين حتى لو أسلموا. فلو أسلم اليهود وتشبثوا بفلسطين بهذا الظلم وهذا البغي والعدوان فالحكم الشرعي هو قول الله تعالى «فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله». والموقف الشرعي هو الذي يعصمنا من الوقوع في الخلط حين نأتي لنقترح بعض جوانب الاستراتيجية في التعامل مع القضية الفلسطينية.
سمعت بالأمس كلاماً مهماً في الحقيقة من كثير من الإخوة، لكن هذه المقدمة تصحح بعض المفاهيم وتضبطها كميزان محدد وموجّه. فعندما يقول بعض الإخوة إن إقامة دولة فلسطينية في حدود 1967، هو حل عادل للقضية الفلسطينية، نحن نتساءل: ما هي موازين العدل؟ هل هو الحق المكتسب الذي أنشأته القوة الصهيونية في فلسطين؟ الحل الذي تفرضه موازين القوة المختلة هو بالنسبة لمن يقبل به منا حل المضطر الضعيف، حل المغلوب على أمرهم، وليس حلاً عادلاً بأيٍ حال من الأحوال. لأننا لو سلمنا بالحق المكتسب بالقوة وقلنا إنه حل عادل فسينتهي بنا الأمر إلى هنود حمر. هل يستطيع أحد مع مرور الوقت أن يُنشىء حركة تحرير تطالب الآن بتحرير أمريكا من المستوطنين البيض؟ أمريكا كقارة وكمركز للحضارة ونموذج للحداثة عند البعض، هل يجرؤ أحد أن يطالب بتحريرها؟ الناس ستقول عنه مجنون! الحق المكتسب للمستوطنين البيض بقوة السلاح مع مرور الوقت أصبح يتعامل معه البشر كأنه حق طبيعي لا يُناقَش.
من هنا، فنحن نعتقد أن فلسطين، بما تعنيه لنا من أبعاد عقدية وسياسية واستراتيجية، يجب التعاطي معها على قاعدة أنها المقدس الديني، والمقدس الوطني، والمقدس القومي، الذي لا يمكن التفريط في ذرة منه بكل أبعاده. وهذا ينطبق في نظرنا على ما سيوصلنا إلى فلسطين. لذلك عندما نطرح الكفاح المسلح، وهو الأمر الذي طرحته الثورة الفلسطينية وتعاملت معه في حدود «المقدس الوطني» أو المصلحة الوطنية، نحن نعتبر أن هذا لا يكفي ولا يصمد. لأنه في خلال ربع قرن تحول «المقدس الوطني» إلى «محرم وطني». والآن، على قاعدة ما يسمى بالمصلحة الوطنية، يتم ذبح حركات الجهاد والمقاومة داخل فلسطين لصالح المدنس (العدو).
كيف يمكن أن نعصم هذا المقدس من الضياع أو الإبادة؟ يجب أن نخرجه من الدائرة الضيقة، دائرة القرار الوطني الفلسطيني المستقل إلى أفقه القومي والإسلامي الواسع والرحب باعتباره مقدساً دينياً في المقام الأول. لذلك، الجهاد بالنسبة لنا هو حكم شرعي، هو تكليف وواجب شرعي لا يمكن أن يتحول بجرة قلم من مقدس إلى محرم يُذبح كل من يطالب به أو يمارسه. وكما فرض علينا الصيام والصلاة والحج، فرض علينا القتال. الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه «كتب عليكم القتال» كما يقول «كتب عليكم الصيام». والأستاذ عادل حسين تساءل بالأمس هل الأمة مستعدة لتقديم ثلاثة ملايين شهيد؟ عندما يكون الجهاد عقيدة في ضمير الأمة تقدم هؤلاء الشهداء بكل بساطة، لأن الحج وصل تعداده في بعض السنوات ثلاثة ملايين حاج مثلاً. وعندما يشد الناس رحالهم إلى الجهاد كفريضة كما يشدون رحالهم لأداء فريضة الحج، على قاعدة «كتب عليكم القتال»، وليس على قاعدة القتال كأداة لبرنامج سياسي تفرضه ضرورات المرحلة اليوم وتلغيه غداً، عندها تتحقق الإجابة على سؤال الشهادة والنصر أيضاً.
من هنا، فإنِّني أؤكد أنه لابد للاستراتيجية المطروحة أن تؤكِّد على ثوابت هذا الصراع ولتحفظ كوثيقة وسند حق للأجيال.
أنتقل الآن للحديث عن الجانب العملي. أتوقع من هذه الاستراتيجية التي أسهم الإخوة الأفاضل في صياغتها أن تقدم خطة عمل تكون بمثابة دليل يسترشد به المعنيون بالصراع في مواقع المسؤولية على اختلاف توجهاتهم ومستوياتهم. ولا أعتقد أنه من الممكن وضع سياسات صحيحة وعملية دون توصيف دقيق للأشياء والأطراف المعنية بالصراع اليوم. وسأضرب أمثلة على ذلك من خلال ما سمعته وما قرأته في الأوراق المقدمة للندوة.
تحدث بعض الأخوة عن إحياء منظمة التحرير، وتوحيد الشعب الفلسطيني، ودعوا إلى إحياء التضامن العربي. بدون التوصيف الدقيق لهذه المسميات لا يمكن أن نصوغ سياسة للتعامل مع هذه الأطراف المطروحة. فعندما نتحدث عن «إحياء» منظمة التحرير الفلسطينية ففي ذلك إغفال لكل ما يجري الآن باعتباره ثمرة لنهج مارسته منظمة التحرير الفلسطينية طيلة العقود الماضية.
أيضاً فيه إغفال لطبيعة العلاقة بين منظمة التحرير وما يجري الآن، أي العلاقة بين المنظمة والسلطة. في لا شعورنا جميعاً إحساس بل وعي يجعلنا نعترف أن منظمة التحرير، التي أُنشأت لتحرير فلسطين، وتستمد اسمها من هذا الشعار، قد ماتت، لذلك يتحدث البعض عن «إحياء» المنظمة. لقد وقّع ياسر عرفات على شهادة وفاة هذه المنظمة، في ما سمي برسائل الاعتراف المتبادل مع إسرائيل. لذلك، فإنني أطالب الأخوة الذين يتحدثون عن «إحياء» منظمة التحرير في الاستراتيجية المطروحة أن يقولوا لنا كيف يمكن أن يتم هذا الإحياء؟ دون الأمل بعودة المسيح عليه السلام حتى يحيي الأموات بمعجزة. نريد أن نعرف كيف يمكن إحياء منظمة التحرير وهي الآن لا تعيش على التمسك بمشروعية النضال؛ بل تعيش على اعترافها بإسرائيل، واعتراف إسرائيل بها، وعلى توظيفها في مشروع أوسلو الذي يهدف إلى حماية إسرائيل.
أما موضوع السلطة، حيث يسألنا البعض دائماً ما هو موقفكم من السلطة الفلسطينية، فنحن نطلب من الأخوة من المفكرين والمثقفين أن يدلوا بدلوهم، وأن يساعدوننا في الإجابة عن هذا السؤال. لأننا لسنا في مجال مبارزة الطروحات والبرامج. نحن جميعاً مطالبون أن نضع على الطاولة قضايا مصيرية، لها علاقة بوجود الأمة ومستقبلها. فعند التساؤل عن كيفية التعامل مع هذه السلطة. أولاً، لابد من توصيف وتعريف من هي السلطة؟ وهنا أقول: إن السلطة هي ثمرة حقيقية لمشروع أوسلو. السلطة وظيفة أمنية بالدرجة الأولى. السلطة الآن واقعة في مثلث إسرائيلي ـ أميركي ـ فلسطيني ـ للأسف، ولأن وظيفتها حماية أمن إسرائيل، فالرغبة الإسرائيلية والأميركية والإملاء الإسرائيلي والأميركي هو الذي يسيّر الأمور، والسلطة مجرد أداة ضعيفة في أيديهم.. والسلطة، لتحقيق هذه الوظيفة الأمنية، مدججة بأجهزة أمنية عسكرية قوامها أكثر من خمسين ألف شخص تحت بالسلاح. السلطة لديها استعداد أن تذهب لأقصى الحدود في سحق الشعب الفلسطيني حتى القتل كما حدث بالأمس القريب. السلطة مستنقع آسن للفساد والإفساد، ورأيتم أن المفسدين يكافأون بتعيينهم وزراء. السلطة لا يهمها شيء له علاقة بمصلحة وطنية أو قومية وكل همها مشروع أوسلو الذي يصب في مصلحة العدو. بعد هذا التوصيف أنا أسأل الجميع اقترحوا علينا كيف نتعامل مع السلطة؟
إن واقع السلطة هذا يدفعنا إلى الصدام بل والاقتتال مع السلطة إذا كانت فلسطين هي المحدد والموجه للسياسة. وأنا أقول لكم إن الجهاد الإسلامي وحماس لم ولن يفعلوا ذلك حتى يعلم الجميع حجم التضحية والمعاناة بل حجم الألم والعض على الجرح الذي نتحمله.
أما الحديث عن الواقع العربي وما ذكره الإخوة من الدعوة للتضامن، فإننا نتساءل ماذا نريد من الواقع العربي؟ وإلى أي حد يمكن أن نذهب في تثوير هذا الواقع العربي والاستفادة منه في تنفيذ هذه الاستراتيجية؟ كلنا يعرف أن الواقع العربي ليس متجانساً الآن. فهناك عرب أمريكا، وعرب إسرائيل، وعرب العرب. وعرب العرب قله، لكن ـ والحمد لله ـ موجودون، وخير دليل على وجود عرب العرب هذا الجمع وهذا الحضور الكريم الذي تمثلونه في هذا اللقاء.
لكن النظام العربي في معظمه متحالف مع السلطة. متحالف مع مشروع أوسلو، وكلنا يعرف أن الخبرة التي تلقتها المؤسسة الأمنية للسلطة لقمع الشعب الفلسطيني، تمت في أحضان الأنظمة العربية. ومن الذي سيُقمع بهذا الخبرة الأمنية؟ إنه الشعب الفلسطيني، المتضرر من أوسلو. النظام العربي يعتقد أن المشكلة نتنياهو، لذلك هو متحالف مع حزب العمل. ودعنا ننتظر إذا فاز حزب العمل لنرى هل سيختلف الوضع عما هو عليه الآن أم لا؟
نحن نقول إن اللاءات التي رفعها المشروع الصهيوني برمته على منظمة التحرير وعلى المشروع الوطني الفلسطيني بكل أطيافه لا زالت موجودة. واللاء الوحيدة التي أسقطت هي التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية. فعندما تنازلت المنظمة عن «لا» لإسرائيل و«نعم» للمقاومة. وحولتها إلى «نعم» لإسرائيل و«لا» للمقاومة، حينها حدث هذا التزاوج الخبيث والتحالف غير المقدس بينهما، والذي أسأل مؤتمركم الموقر كيف يمكن الإفلات منه؟
نقطتان أختم بهما حديثي. أولاً، إننا مطالبون جميعاً في أية استراتيجية نصوغها أن نسعى جاهدين، لوقف الانهيار، وقف الهرولة التي قال عنها المرحوم نزار قباني «ليس هذا العرس عرسي، ليس هذا العار عاري».
الآن أصبح السلام يرادف إسرائيل.. لا أحد يسألك ما هو موقفك من إسرائيل؟ يقول لك ما هو موقفك من السلام؟ إنه تعبير مبطن عن موقفك من إسرائيل. القضية المركزية الآن ليست فلسطين، بل هي إسرائيل، هل تقبل بإسرائيل أم لا؟ ولا أحد يسألك عن فلسطين ومصيرها. وكما تنبأ جورج أورويل الروائي البريطاني يوماً، إن كلمة سلام ستصبح مرادفة للحرب، فنقول وزير السلام تعبيراً عن وزير الحرب، جاء وزير الحرب الأمريكي يطوف الآن في المنطقة يبشرنا بالسلام والاستقرار. وفي مواجهة من؟ في مواجهة إيران وسوريا، في مواجهة حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي وقوى الصمود في الأمة. وقد تنبأ بذلك شاعرنا الكبير محمود درويش أيضاً عندما تحدث عن هذا السلام قائلاً: «فلنسلِّم مفاتيح فردوسنا لوزير السلام وننجو» وهو القائل «إن هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار».
لذلك، نحن مطالبون جميعاً بوقف هذا الانهيار على المستوى الرسمي العربي والفلسطيني. ثانياً على المستوى الشعبي، نحن مطالبون بالحفاظ على ما تبقى من تماسك ومن أمل وتفاؤل، ومن روح للصمود والمقاومة في داخل شعبنا وأمتنا. شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية والإسلامية أكبر من هذا المسخ الحاصل. وبإذن الله، لن نتحول إلى هنود حمر. وليس هناك مجال للسرد التاريخي، حتى نثْبت لهم أن هذه الغيمة ستمر، وأنهم عابرون في استسلام عابر.
المصدر · الموقع الرسمي للمعلم رمضان شلح
«العرب ومواجهة إسرائيل: احتمالات المستقبل»
التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت من 10ـ13 آذار 1999.
بسم الله الرحمن الرحيم
أشكر الأخوة الأعزاء منظمِّي هذه الندوة وعلى رأسهم الأستاذ الكبير خير الدين حسيب، وأشكر لهم حرصهم على أن أدلي بدَلْوِيَ المتواضع في هذه الندوة. وحتى لا يكون حديثي في نظر البعض من باب «المنفستو» العقائدي أو الأيديولوجي فإنني أُقسِّمُ حديثي إلى مستويين:
الأول: عبارة عن مقدمة نظرية، والثاني والأهم هو في الجانب العملي.
المقدمة النظرية تستدعيها عدة أسباب أهمها؛ حرص الكثير من الناس معرفة طبيعة الموقف الإسلامي في ظل اختلاط الرؤى والمفاهيم، بل وفوضى المفاهيم كما يحاول أن يصورها الإعلام الغربي ومن سار في فلكه، بالنَّظر إلى الحركات الإسلامية ورؤيتها اليوم للصراع مع إسرائيل.
في الجانب النظري، مهما كان رفض البعض للحديث عن الأيديولوجيا في عصر العولمة، فإن المقدمة تطرح مفاهيم ومحددات وموجهات للاستراتيجية المطروحة للتعامل مع هذا الصراع. بداية لا أتصور أن تكون هناك استراتيجية بدون محددات وموجهات للصراع مع العدو.
لا أريد أن أسرد قائمة من المحددات والمرتكزات وأكتفي بمحدد وموجّهٍ أساسي لهذا الصراع ألا وهو فلسطين. فلسطين، بالنسبة لنا كإسلاميين، هي آية من الكتاب، مَن فرّط في فلسطين فرّط في الكتاب. فلسطين بما تعنيه من أبعاد عقدية وسياسية واستراتيجية وتاريخية هي الإيديولوجيا، وهي المحك الذي يجب أن نلتقي ونفترق عليه.
من هنا، قد يتساءل البعض هل الحديث عن فلسطين والبعد العقائدي فيها يطرح فكرة الحرب الدينية مع اليهود من وجهة نظر الإسلاميين؟ بالتأكيد لا، وأنا هنا أسجل أن معركتنا في فلسطين، برغم دور الدين في قراءة وإدارة الصراع من وجهة نظرنا، فإننا لا نقاتل اليهود لأنهم يهود، أو من أجل أن يتحولوا إلى مسلمين.
نحن نقول إن المعركة مع اليهود هي على فلسطين. هي بسبب الظلم الذي وقع علينا باغتصاب أرضنا وتشريد شعبنا. فلذلك نحن سنقاتل اليهود في فلسطين حتى لو أسلموا. فلو أسلم اليهود وتشبثوا بفلسطين بهذا الظلم وهذا البغي والعدوان فالحكم الشرعي هو قول الله تعالى «فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله». والموقف الشرعي هو الذي يعصمنا من الوقوع في الخلط حين نأتي لنقترح بعض جوانب الاستراتيجية في التعامل مع القضية الفلسطينية.
سمعت بالأمس كلاماً مهماً في الحقيقة من كثير من الإخوة، لكن هذه المقدمة تصحح بعض المفاهيم وتضبطها كميزان محدد وموجّه. فعندما يقول بعض الإخوة إن إقامة دولة فلسطينية في حدود 1967، هو حل عادل للقضية الفلسطينية، نحن نتساءل: ما هي موازين العدل؟ هل هو الحق المكتسب الذي أنشأته القوة الصهيونية في فلسطين؟ الحل الذي تفرضه موازين القوة المختلة هو بالنسبة لمن يقبل به منا حل المضطر الضعيف، حل المغلوب على أمرهم، وليس حلاً عادلاً بأيٍ حال من الأحوال. لأننا لو سلمنا بالحق المكتسب بالقوة وقلنا إنه حل عادل فسينتهي بنا الأمر إلى هنود حمر. هل يستطيع أحد مع مرور الوقت أن يُنشىء حركة تحرير تطالب الآن بتحرير أمريكا من المستوطنين البيض؟ أمريكا كقارة وكمركز للحضارة ونموذج للحداثة عند البعض، هل يجرؤ أحد أن يطالب بتحريرها؟ الناس ستقول عنه مجنون! الحق المكتسب للمستوطنين البيض بقوة السلاح مع مرور الوقت أصبح يتعامل معه البشر كأنه حق طبيعي لا يُناقَش.
من هنا، فنحن نعتقد أن فلسطين، بما تعنيه لنا من أبعاد عقدية وسياسية واستراتيجية، يجب التعاطي معها على قاعدة أنها المقدس الديني، والمقدس الوطني، والمقدس القومي، الذي لا يمكن التفريط في ذرة منه بكل أبعاده. وهذا ينطبق في نظرنا على ما سيوصلنا إلى فلسطين. لذلك عندما نطرح الكفاح المسلح، وهو الأمر الذي طرحته الثورة الفلسطينية وتعاملت معه في حدود «المقدس الوطني» أو المصلحة الوطنية، نحن نعتبر أن هذا لا يكفي ولا يصمد. لأنه في خلال ربع قرن تحول «المقدس الوطني» إلى «محرم وطني». والآن، على قاعدة ما يسمى بالمصلحة الوطنية، يتم ذبح حركات الجهاد والمقاومة داخل فلسطين لصالح المدنس (العدو).
كيف يمكن أن نعصم هذا المقدس من الضياع أو الإبادة؟ يجب أن نخرجه من الدائرة الضيقة، دائرة القرار الوطني الفلسطيني المستقل إلى أفقه القومي والإسلامي الواسع والرحب باعتباره مقدساً دينياً في المقام الأول. لذلك، الجهاد بالنسبة لنا هو حكم شرعي، هو تكليف وواجب شرعي لا يمكن أن يتحول بجرة قلم من مقدس إلى محرم يُذبح كل من يطالب به أو يمارسه. وكما فرض علينا الصيام والصلاة والحج، فرض علينا القتال. الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه «كتب عليكم القتال» كما يقول «كتب عليكم الصيام». والأستاذ عادل حسين تساءل بالأمس هل الأمة مستعدة لتقديم ثلاثة ملايين شهيد؟ عندما يكون الجهاد عقيدة في ضمير الأمة تقدم هؤلاء الشهداء بكل بساطة، لأن الحج وصل تعداده في بعض السنوات ثلاثة ملايين حاج مثلاً. وعندما يشد الناس رحالهم إلى الجهاد كفريضة كما يشدون رحالهم لأداء فريضة الحج، على قاعدة «كتب عليكم القتال»، وليس على قاعدة القتال كأداة لبرنامج سياسي تفرضه ضرورات المرحلة اليوم وتلغيه غداً، عندها تتحقق الإجابة على سؤال الشهادة والنصر أيضاً.
من هنا، فإنِّني أؤكد أنه لابد للاستراتيجية المطروحة أن تؤكِّد على ثوابت هذا الصراع ولتحفظ كوثيقة وسند حق للأجيال.
أنتقل الآن للحديث عن الجانب العملي. أتوقع من هذه الاستراتيجية التي أسهم الإخوة الأفاضل في صياغتها أن تقدم خطة عمل تكون بمثابة دليل يسترشد به المعنيون بالصراع في مواقع المسؤولية على اختلاف توجهاتهم ومستوياتهم. ولا أعتقد أنه من الممكن وضع سياسات صحيحة وعملية دون توصيف دقيق للأشياء والأطراف المعنية بالصراع اليوم. وسأضرب أمثلة على ذلك من خلال ما سمعته وما قرأته في الأوراق المقدمة للندوة.
تحدث بعض الأخوة عن إحياء منظمة التحرير، وتوحيد الشعب الفلسطيني، ودعوا إلى إحياء التضامن العربي. بدون التوصيف الدقيق لهذه المسميات لا يمكن أن نصوغ سياسة للتعامل مع هذه الأطراف المطروحة. فعندما نتحدث عن «إحياء» منظمة التحرير الفلسطينية ففي ذلك إغفال لكل ما يجري الآن باعتباره ثمرة لنهج مارسته منظمة التحرير الفلسطينية طيلة العقود الماضية.
أيضاً فيه إغفال لطبيعة العلاقة بين منظمة التحرير وما يجري الآن، أي العلاقة بين المنظمة والسلطة. في لا شعورنا جميعاً إحساس بل وعي يجعلنا نعترف أن منظمة التحرير، التي أُنشأت لتحرير فلسطين، وتستمد اسمها من هذا الشعار، قد ماتت، لذلك يتحدث البعض عن «إحياء» المنظمة. لقد وقّع ياسر عرفات على شهادة وفاة هذه المنظمة، في ما سمي برسائل الاعتراف المتبادل مع إسرائيل. لذلك، فإنني أطالب الأخوة الذين يتحدثون عن «إحياء» منظمة التحرير في الاستراتيجية المطروحة أن يقولوا لنا كيف يمكن أن يتم هذا الإحياء؟ دون الأمل بعودة المسيح عليه السلام حتى يحيي الأموات بمعجزة. نريد أن نعرف كيف يمكن إحياء منظمة التحرير وهي الآن لا تعيش على التمسك بمشروعية النضال؛ بل تعيش على اعترافها بإسرائيل، واعتراف إسرائيل بها، وعلى توظيفها في مشروع أوسلو الذي يهدف إلى حماية إسرائيل.
أما موضوع السلطة، حيث يسألنا البعض دائماً ما هو موقفكم من السلطة الفلسطينية، فنحن نطلب من الأخوة من المفكرين والمثقفين أن يدلوا بدلوهم، وأن يساعدوننا في الإجابة عن هذا السؤال. لأننا لسنا في مجال مبارزة الطروحات والبرامج. نحن جميعاً مطالبون أن نضع على الطاولة قضايا مصيرية، لها علاقة بوجود الأمة ومستقبلها. فعند التساؤل عن كيفية التعامل مع هذه السلطة. أولاً، لابد من توصيف وتعريف من هي السلطة؟ وهنا أقول: إن السلطة هي ثمرة حقيقية لمشروع أوسلو. السلطة وظيفة أمنية بالدرجة الأولى. السلطة الآن واقعة في مثلث إسرائيلي ـ أميركي ـ فلسطيني ـ للأسف، ولأن وظيفتها حماية أمن إسرائيل، فالرغبة الإسرائيلية والأميركية والإملاء الإسرائيلي والأميركي هو الذي يسيّر الأمور، والسلطة مجرد أداة ضعيفة في أيديهم.. والسلطة، لتحقيق هذه الوظيفة الأمنية، مدججة بأجهزة أمنية عسكرية قوامها أكثر من خمسين ألف شخص تحت بالسلاح. السلطة لديها استعداد أن تذهب لأقصى الحدود في سحق الشعب الفلسطيني حتى القتل كما حدث بالأمس القريب. السلطة مستنقع آسن للفساد والإفساد، ورأيتم أن المفسدين يكافأون بتعيينهم وزراء. السلطة لا يهمها شيء له علاقة بمصلحة وطنية أو قومية وكل همها مشروع أوسلو الذي يصب في مصلحة العدو. بعد هذا التوصيف أنا أسأل الجميع اقترحوا علينا كيف نتعامل مع السلطة؟
إن واقع السلطة هذا يدفعنا إلى الصدام بل والاقتتال مع السلطة إذا كانت فلسطين هي المحدد والموجه للسياسة. وأنا أقول لكم إن الجهاد الإسلامي وحماس لم ولن يفعلوا ذلك حتى يعلم الجميع حجم التضحية والمعاناة بل حجم الألم والعض على الجرح الذي نتحمله.
أما الحديث عن الواقع العربي وما ذكره الإخوة من الدعوة للتضامن، فإننا نتساءل ماذا نريد من الواقع العربي؟ وإلى أي حد يمكن أن نذهب في تثوير هذا الواقع العربي والاستفادة منه في تنفيذ هذه الاستراتيجية؟ كلنا يعرف أن الواقع العربي ليس متجانساً الآن. فهناك عرب أمريكا، وعرب إسرائيل، وعرب العرب. وعرب العرب قله، لكن ـ والحمد لله ـ موجودون، وخير دليل على وجود عرب العرب هذا الجمع وهذا الحضور الكريم الذي تمثلونه في هذا اللقاء.
لكن النظام العربي في معظمه متحالف مع السلطة. متحالف مع مشروع أوسلو، وكلنا يعرف أن الخبرة التي تلقتها المؤسسة الأمنية للسلطة لقمع الشعب الفلسطيني، تمت في أحضان الأنظمة العربية. ومن الذي سيُقمع بهذا الخبرة الأمنية؟ إنه الشعب الفلسطيني، المتضرر من أوسلو. النظام العربي يعتقد أن المشكلة نتنياهو، لذلك هو متحالف مع حزب العمل. ودعنا ننتظر إذا فاز حزب العمل لنرى هل سيختلف الوضع عما هو عليه الآن أم لا؟
نحن نقول إن اللاءات التي رفعها المشروع الصهيوني برمته على منظمة التحرير وعلى المشروع الوطني الفلسطيني بكل أطيافه لا زالت موجودة. واللاء الوحيدة التي أسقطت هي التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية. فعندما تنازلت المنظمة عن «لا» لإسرائيل و«نعم» للمقاومة. وحولتها إلى «نعم» لإسرائيل و«لا» للمقاومة، حينها حدث هذا التزاوج الخبيث والتحالف غير المقدس بينهما، والذي أسأل مؤتمركم الموقر كيف يمكن الإفلات منه؟
نقطتان أختم بهما حديثي. أولاً، إننا مطالبون جميعاً في أية استراتيجية نصوغها أن نسعى جاهدين، لوقف الانهيار، وقف الهرولة التي قال عنها المرحوم نزار قباني «ليس هذا العرس عرسي، ليس هذا العار عاري».
الآن أصبح السلام يرادف إسرائيل.. لا أحد يسألك ما هو موقفك من إسرائيل؟ يقول لك ما هو موقفك من السلام؟ إنه تعبير مبطن عن موقفك من إسرائيل. القضية المركزية الآن ليست فلسطين، بل هي إسرائيل، هل تقبل بإسرائيل أم لا؟ ولا أحد يسألك عن فلسطين ومصيرها. وكما تنبأ جورج أورويل الروائي البريطاني يوماً، إن كلمة سلام ستصبح مرادفة للحرب، فنقول وزير السلام تعبيراً عن وزير الحرب، جاء وزير الحرب الأمريكي يطوف الآن في المنطقة يبشرنا بالسلام والاستقرار. وفي مواجهة من؟ في مواجهة إيران وسوريا، في مواجهة حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي وقوى الصمود في الأمة. وقد تنبأ بذلك شاعرنا الكبير محمود درويش أيضاً عندما تحدث عن هذا السلام قائلاً: «فلنسلِّم مفاتيح فردوسنا لوزير السلام وننجو» وهو القائل «إن هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار».
لذلك، نحن مطالبون جميعاً بوقف هذا الانهيار على المستوى الرسمي العربي والفلسطيني. ثانياً على المستوى الشعبي، نحن مطالبون بالحفاظ على ما تبقى من تماسك ومن أمل وتفاؤل، ومن روح للصمود والمقاومة في داخل شعبنا وأمتنا. شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية والإسلامية أكبر من هذا المسخ الحاصل. وبإذن الله، لن نتحول إلى هنود حمر. وليس هناك مجال للسرد التاريخي، حتى نثْبت لهم أن هذه الغيمة ستمر، وأنهم عابرون في استسلام عابر.
المصدر · الموقع الرسمي للمعلم رمضان شلح
تعليق