الإعلام الحربي – خاص
تسقط كل الكلمات في أبريل، ولكن لا تسقط ذكريات مخيمٍ عبّد أبناؤه بالدم رحلة الحياة، تسقط خيارات المتخاذلين، ولكن في كل عامٍ من أبريل دم الشهداء يُنبت زهراً وحنون، تسقط كل القلاع المنهارة، ولكن يبقي مخيم جنين قلعةً غرسها دماء أبنائها وثمرها جيلٌ يصنع النصر من وقتٍ لِحين.
عامٌ يتلوه آخر، وتبقى ذكريات الصمود في ذاك المخيم الفقير يتناولها جيلٌ بعد جيل، ويتلقفها الصغار قبل الكبار، يروون رحلة الدم الذي هزم السيف، ذاك الدم المتدفق في أزقة المخيم الذي سطر ملحمةً من ملاحم الصمود، فكانت جدران المخيم المنهارة تتعرض لصواريخ حقد الحاقدين، ولكن بقوة إيمان المجاهدين، وبصبر الصابرين، وعزم المقاتلين، كانت تذوب كل الصواريخ، ولا تنهار جدران وحصون وقلاع ذاك المخيم الجريح.
11 عاماً.. هو العمر الذي سيمتد على مدار التاريخ، لمعركة بين جيشين، جيشٌ لا يملك إلا الإيمان، وآخر لا يملك إلا قوة السلاح، فانهارت أساطير السلاح، وذابت كل الأهداف والأحلام، لينتفض في كل مرة أهل الحق والإيمان، يُعلمون الجيش الذي لا يقهر أن النصر لا يأتي فقط من فوهة البنادق، بل أن النصر تصنعه الرجال بصبرها وعزمها وإيمانها، وبقضيتهم التي يدافعون عنها.
جسدت معركة الصمود في جنين، ثلاثة عشر يوماً من القتال، أثخنت فيها المقاومة الفلسطينية بقيادة سرايا القدس بكافة مقاتليها الجراح بعدوهم الذي كان يتفوق عليهم عدةً وعتاداً، سطر المقاتلون ملاحمَ من عنفوان، أقضوا بها مضاجع العدو، صنعوا بإيمانهم ووحدتهم ووجدانهم روح المقاتل العتيد، فكانت تنهار أحلام العدو باقتحام هذا المخيم الصغير على عتباته برشقات سلاح ملثمٍ تعلو حاجبيه عُصبةٌ "سوداء ملونة الكتابة بالأصفر"، وآخر يُخفي ملامح وجهه بقناع "الكوفية البيضاء"، ومقابلهم آخر يتشح بالعُصبة "الخضراء، وإلي جانبه مقاتل يتشح بـِ "الكوفية الحمراء".
واجهت قوة أولئك الملثمين على اختلاف ألوان عصبهم التي تلتف على رؤوسهم واختلاف سكنهم من قرية لأخرى، قوة عدو يغتصب الأرض والحق بقوة السلاح، فكانت قوة الفلسطيني الأقوى بدم أبنائهم المتدفق، وبرصاصات سلاحهم الهادر، وبتكبيرات أشبالهم ودعوات نسائهم وعجائزهم، وكانت محاولات العدو في القضاء على مقاومة هؤلاء الثائرين، تفشل مع كل طلقة تصيب جنوده، ومع كل عبوة تتفجر حمماً بآلياته، كان يتراجع ودماء جنوده تملأ ساحات حدود المخيم الذي يصمد في كل مرحلة صمودٌ أسطوري، في وقت كانت تنهار فيه دولٌ خلال ساعات.
ومرت الأيام، ومع مرورها كانت من آن لآخر تضرب أساطير جنين العدو في هذا المخيم الجريح، وفي عمق الأراضي المحتلة، فكان "محمود طوالبة" ورفاقه يُثخنون الجراح ويفجرون المنازل والعدو بداخلها ويقضون عليهم قتلاً، فيما كان يخرج الاستشهاديون من كل حدبً وصوب ليفجروا أحزمتهم الناسفة، وأجسادهم الطاهرة، في عمق مدن العدو الذي شُلت أركانه من هول ما يرون ويسمعون، فتوقفت كل الكلمات أمام "أسطورة جنين"، وتحركت كل القوات العسكرية لمواجهة تلك الأسطورة التي سماها وزير الحرب آنذاك "شاؤول موفاز" (طوالبة ورفاقه).
واتخذت العملية منحاً من الهمجية الصهيونية على مرور العصور، وأقدم العدو على قصف المدنيين وعلى استهدافهم داخل منازلهم وقتلهم بكل وحشية، لكن لم يثنِِ ذلك المقاتلين وقياداتهم التي وصفها العدو بـ "الأسطورة"، من تأمين حياة المدنيين قدر المستطاع، في الوقت الذي كانت تتخذ المجموعات الأخرى وضعية القتال، واستمرت العملية والعدو متوحش بصواريخ الحقد التي تطلقها الطائرات، فاستشهد الكثير من المدنيين والمقاتلين، وأصيب في المعركة من أصيب.
وبعد معركة طويلة تمكن العدو من اقتحام المخيم، وبدأت معها المفاجآت، حيث المنازل المفخخة، والمواجهات المباشرة، وسقوط الجنود الصهاينة صرعى رصاص المقاومة، ومع اشتداد العملية، وبعد أكثر من نحو أسبوعين آخرين، قضى المئات من الفلسطينيين شهداء، بعد معركة أسطورية للمقاومة في قلب المخيم، أدت لقتل وإصابة العشرات من الجنود الصهاينة .
خرج المجرم "موفاز" يتفاخر بالنصر على هذا المخيم الصغير، لكن لم يكن يعلم أن هذه المعركة الأسطورية لم تنتهِ بعد، وأنها كانت البداية لسلسلة من عمليات غضب المخيمات التي قادتها سرايا القدس داخل الأراضي المحتلة عام 48.
استشهد من استشهد في أرض المعركة كالقادة "طوالبة – بدير – الزبيدي – النوباني – العامر – وأبو الهيجاء"، وغيرهم، واعتقل من اعتقل خلال المعركة كالقادة "مرداوي- السعدي- الصفوري- أبو الهيجاء" وغيرهم الكثيرين، لكن شهادة واعتقال هؤلاء الأبطال لم توقف هدير رصاص المقاتلين، ولم تمنع الاستشهاديين من اختراق الحصون، ومن استهداف العدو حتى في عمق الأراضي المحتلة، وبقيت "جنين" عصية على الانكسار، وأنبتت الدماء النصر، فمن منا ينسى "راغب جرادات- حمزة السمودي- هنادي جرادات – هبة دراغمة- نضال أبو شادوف – محمد نصر- رأفت أبو دياك – حسن أبو زيد- أشرف الأسمر – محمد حسنين خالد زكارنة ..."، والكثير من الشهداء والاستشهاديين التي لا تحصيهم الصفحات، ولا تسعني العبارات كي أوفيهم بكلمات عابرة، فدماؤهم هي التي تتحدث اليوم، ولغتهم هي التي يبحث عنها طفلٌ قد أزهر يسأل عن والده الذي غيبته رصاصات غدرٍ عن الوجود، أو قد غيبته السجون مكبلاً بين جنبات الزنازين، وطفله يئن وينادي "يا أبتي – يا أبتي – متى اللقاء- أم حان الرحيل؟".
من منا ينسى "إياد صوالحة – إياد أبو الرب- حمزة أبو الرب- حسام جرادات- وليد عبيدي – أشرف السعدي – محمود أبو عبيد- بلال كميل..."، من ينسى هذا الدم المتدفق من جنين على مر 11 عاماً، من منا لم يفتقد لذاك الزمان، من منا لم يفتقد القائد "أبا عبد الله طوالبة"، من منا لا يحّن لتلك السنوات من الفخر والعزة والكرامة، إننا بِكِ نفخر يا جنين، نعم نفخر بشهدائك وبأبطالك وبأبنائك، نفخر بكل شبر في جنين، نفخر بتلك الدماء على مر الأزمان والعصور من عهد القائد "عصام براهمة" مروراً بالقادة "أنور حمران – إياد حردان"، وصولاً للأسطورة "محمود طوالبة".
هذه هي جنين الأسطورة،، من مهد المقاومة وصولاً للحن الشهادة الذي لا يزال يتدفق، فلم تجف بعد دماء شهداء سرايا القدس وقادتها، ولن تجف تلك الدماء إلا بنصر الله ووعده "وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ".
تعليق