قراءة في حوارات الغرب "الإجبارية" مع حماس
عدنان أبو عامر
ابتداء، لا غرابة في العنوان المذكور آنفا، فالغرب أوروبيا كان أو أميركيا دخل "مضطرا" لإجراء الحوار مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بعد أعوام قليلة من إدراج مكتبها السياسي ضمن اللائحة الأوروبية للإرهاب.
ولو كان الأمر بيد الغرب الأوروبي لما توانى لحظة في إتمام التبعات المترتبة على خطوته تلك، وأن يواصل اتخاذ الإجراءات العملية الميدانية لترجمة قراره الذي لم تحسب عواقبه، بحق حركة تحظى بثقل شعبي، ووجود سياسي ليس بالإمكان تجاهله ولا التغاضي عنه.
منطلقات الغرب في محاورة حماس
وأتت جولة الرئيس الأسبق جيمي كارتر هذه الأيام وما دار بشأنها من جدال حاد ونقاش ساخن في الأوساط الإسرائيلية والحمساوية تحديدا، لتثير من جديد قناعات بدأت تتعزز لدى الكثيرين مفادها أن إدراك الغرب الرسمي -والإدراك الأميركي "غير الرسمي"- لخطأ تقديراتهم المتعلقة بحركة حماس، يسجل نقطة لصالحها على حساب القوة الأكبر في هذا العالم، التي تعج بمراكز الأبحاث والدوائر الاستشارية لصانعي القرار.
لكن الغرب الرسمي للأسف لم يتمكن من رؤية –أو بالأصح لم يرد- رؤية ما رآه الآخرون من مؤشرات تدل على أن حركة حققت نجاحات على مستوى الكثير من الأصعدة، لم يعد بالإمكان معاملتها كتيار هامشي بالإمكان إقصاؤه أو تهميشه، ومن ثم القضاء عليه تلقائيا.
ولئن كان الأميركيون مصرين على صواب مواقفهم من حركة حماس لاعتبارات "العلاقة الوجودية" التي تربطهم بإسرائيل، وليس لاعتبارات أميركية بالأساس، فدعونا نناقش في هذه العجالة أبرز ملامح الحوار الغربي "المضطر" مع حماس، ومستقبل الحوار بين الطرفين، رسميا كان أو غير رسمي.
1- كان واضحا منذ اللحظة الأولى التي تراجع فيها الاتحاد الأوروبي عن قراره مقاطعة حماس، أن قراره الذي اتخذ منتصف أغسطس/ آب 2003 حين أدرج المكتب السياسي للحركة ضمن لائحة "الإرهاب"، لم يكن قرارا أوروبيا خالصا، بقدر ما اتخذ تحت ضغوط أميركية وإسرائيلية.
2- رغم القرار فقد دلت العديد من المؤشرات على مواصلة الغربيين للقاءاتهم مع بعض قيادات حماس وعدد من الصحفيين والباحثين المقربين منها، في الداخل والخارج. وجاءت جميع هذه اللقاءات بمبادرة أوروبية منفردة.
3- الحوارات واللقاءات التي تمت لم تكن حبا من الغربيين في سواد عيون قادة حماس وكوادرها، بل في ضوء التمدد الشعبي الذي تحققه الحركة يوما بعد يوم، على جميع الأصعدة السياسية والكفاحية والإغاثية، رغم قرار الحصار المفروض على قطاع غزة الذي تسيطر عليه الحركة.
ولذلك لا عجب إذا لاحظنا خلال السنوات الأخيرة تكثيف الزيارات التي يقوم بها القناصل والمسؤولون الغربيون القادمون من القدس وتل أبيب للمؤسسات المقربة من حماس في الأراضي الفلسطينية، بل والخروج من هذه الزيارات بالإشادة بالجهود.
4- ليس بالإمكان في ضوء تشخيصنا لأسباب الحوار الغربي "المضطر"، تجاهل النتائج المفاجئة للانتخابات البلدية والتشريعية التي جرت قبل أكثر من عامين، وحققت فيها الحركة تقدما بارزا فاجأ الغربيين الذين يستقون الكثير من تقييماتهم للوضع الفلسطيني من مراكز البحوث والاستطلاع "الاسترزاقية" المنتشرة في الضفة والقطاع.
أجندة الغرب مع حماس
هذا من ناحية أسباب المبادرة لإجراء الحوار، فما هي أجندة الغربيين في حوارهم مع حماس؟ ما الذي يطلبونه؟ وما هي أهدافهم؟
بغض النظر عما دار من مناقشات مطولة بين قادة حماس والرئيس كارتر ومستشاريه، ومن سبقه ومن سيلحقه من المسؤولين الغربيين، سرا وعلنا، فإن هناك العديد من الحوافز والدوافع التي تجعل الغرب ساعيا بكل قوة "مكرها ومجبرا"، لإجراء هذه الحوارات مع رموز الحركة والمقربين منها.
أهم تلك الأسباب:
1- التوجه الغربي الحالي إلى إجراء مراجعة شاملة لسياساته تجاه الأحزاب والحركات الإسلامية ذات التوجهات "المعتدلة" في المنطقة العربية، انطلاقاً من إدراكه لقوتها وتأثيرها في الرأي العام داخل مجتمعاتها، ولعل الحوارات التي جرت مؤخرا في أكثر من عاصمة، جزء من هذا التوجه الجديد.
2- رغبة الغربيين في معرفة المزيد من المواقف "الحمساوية" تجاه عدد من القضايا السياسية والاجتماعية والفكرية، فبعدما ثبت لديهم أن هناك مسافة كبيرة بين الفكر الذي تحمله الحركة -أي الفكر الإخواني المتسم بالعديد من سمات الاعتدال والوسطية والانفتاح على الآخر- وبين المدارس الفكرية الأخرى في حقل العمل الإسلامي، تشوق الغرب أكثر فأكثر لمعرفة المزيد من مؤشرات هذه الوسطية والاعتدال والانفتاح.
3- محاولة "عزل" الخصم التقليدي للغرب المتمثل في إيران عما يقال من امتدادات لها في بعض الساحات الإقليمية كبيروت ودمشق وغزة، وجعلها وحيدة في ساحة المواجهة المتوقعة، بعيدا عن أي تأثيرات في ساحات أخرى، وحرمانها من أي استعانة ببعض الأذرع التي قد تشاغل بها خصومها في تل أبيب وبعض العواصم.
وفي ظل ضيق الخناق سياسيا وماليا على الحكومة التي تقودها حركة حماس رغم بعض التنفيسات، ما زالت المطالب ذاتها مشرعة في وجهها حتى في ظل الحوارات التي تجريها بعض الأوساط الغربية مع الحركة.
وهذا ما عبر عنه كارتر دون مواربة أو تورية: الاعتراف أو الاعتراف، بمعنى آخر، لا مناص لحماس من الاختيار بين البقاء في الحكم مع الاعتراف بإسرائيل، أو مغادرة ما وصلت إليه ديمقراطيا، عقابا لها على عدم انصياعها لإرادة العالم.
هذا هو منطق القوة الإسرائيلي الأميركي يصارع قوة المنطق الفلسطيني، وقد تكرر ذلك في أكثر من مناسبة خلال العقد الأخير، وفي مراحل متعددة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي تديره واشنطن بالنيابة عن تل أبيب.
وفي بعض الحالات لم تستطع الكف الفلسطينية أن تقاوم المخرز الأميركي، خاصة في ظل افتقار الفلسطينيين للظهير العربي عمليا للأسف الشديد.
ولو أن العرب كانوا يرفعون العتب بين الحين والآخر عن أنفسهم بعبارات التضامن التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وكانوا "يكفرون" عن تقصيرهم هذا بأموال ومنح علها تغفر زلتهم أمام التاريخ، لكنهم في الحصار الأخير على غزة تراجعوا حتى عن سلة المساعدات "المتواضعة" هذه، وارتضى بعضهم أن يكون مشاركا عمليا في فرض الحصار..
الحقيقة أن وقائع العامين الماضيين، ومنذ صباح اليوم التالي لفوز حماس في الانتخابات التشريعية، لم تغير شيئا ذا مغزى في إدارة المجتمع الدولي لطبيعة الحوارات التي يديرها مع الفلسطينيين، باستثناء بعض الملامح العامة بالإمكان اعتبارها تكتيكات أو محددات أساسية لا ضير في ذلك.
1- لم تكتف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والرباعية الدولية عبر حواراتهم مع حماس مباشرة أو عبر وساطات، بالتلميح لها ولحكومتها بضرورة السير في عملية التسوية المعطلة والمشلولة منذ زمن، بل شدد الجميع على ضرورة انتزاع اعتراف فلسطيني جديد بإسرائيل، لكن هذه المرة متسلح بعباءة دينية إسلامية، وبالتالي سيكون اعترافا مجزيا، لاسيما أن حماس تنظر في بعض أدبياتها إلى أن جذور الصراع مع إسرائيل عقائدية باعتباره صراع وجود لا نزاع حدود.
2- يترافق مع هذه الحوارات التي تخفق في بعض الأحيان، حصار مالي واقتصادي مطبق يزيد من حدة الأزمة الضاغطة على حماس، لاسيما أن المحاصرين يحكمون حصارهم، ويمنعون أي بادرة إيجابية ترفع من معاناة الفلسطينيين.
وبالتالي لم يعد هناك شك في أن الرغبة المتمثلة في عقاب الفلسطينيين على انتخابهم لحماس لم تعد تجدي فيها عبارات المجاملة كالفصل بين الحركة والشعب، لأن المتضرر أساسا من هذا الحصار هو الشعب، هذا مكون جديد في إدارة الأزمات الدولية، وكأن الشعب الفلسطيني بعمومه قد "شب" عن الطوق الأميركي وبالتالي يستحق ما يجري له.
3- اجتهاد بعض المؤسسات البحثية والسياسية في وضع تقديرات زمنية للحكومة التي تقودها حماس، لاسيما بعد سيطرتها على قطاع غزة قبل عشرة أشهر، وكأن الوضع السياسي الفلسطيني تحول إلى مزاد علني لتجار السياسة الدولية.
هذه التقديرات الزمنية وطلب بعض المسؤولين الغربيين من حماس خلال هذه الحوارات أن تقدم على الاعتراف بإسرائيل، وإلا سيستمر الحصار، أزعم أن فيه تغافلا وتناسيا لأبجديات التعامل مع الحكومات والحركات السياسية، لاسيما الأيدولوجية، ومنها حماس.
هل تستنسخ تجربة منظمة التحرير؟
الكثير من المتابعين نظروا لحوارات حماس الأخيرة مع الغرب -لاسيما خلال جولة كارتر- على أنها عودة بالتاريخ إلى منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حين بدأ الحوار الأميركي "الخجول" مع منظمة التحرير الفلسطينية التي وصفت في معجم المصطلحات الأميركية بأنها منظمة "إرهابية".
وحتى لو كانت حركة حماس تنظيما سياسيا بالأساس ينطلق من ثوابت سياسية ميدانية، وبالتالي إمكانية أن تعيد من جديد "استنساخ" تجربة منظمة التحرير، فلم يعد سرا أن حماس منذ تأسيسها قبل عشرين عاما، قامت بحملة تعبئة عقائدية وسياسية وكفاحية لأعضائها ومناصريها ضد الاعتراف بإسرائيل، وأنها غدة سرطانية يجب استئصالها، وأن زوالها حتمية قرآنية، وغيرها من المفردات التي غدت مكونا أساسيا من الخطاب السياسي "الحمساوي".
وبالتالي ليس من السهل على حماس بين عشية وضحاها وتحت أي مبرر، أن تعتذر لكل هؤلاء وتستجيب لظروف الواقعية السياسية والأمر الواقع، وتقول لهم: سنعترف ولو تحت شعار "مكره أخاك لا بطل"!
ورغم التصريحات المعلنة على ألسنة المسؤولين الغربيين -وآخرهم كارتر- حول ضرورة تغيير حماس لإستراتيجيتها وإلغاء ميثاقها والتعاطي مع عملية التسوية الجارية، فإنهم لم يتمكنوا من انتزاع موقف من حماس بالتجاوب مع مطالبهم.
لذلك تم إجراء هذه الحوارات بالقفز عن تلك المطالب التي بقيت "لحفظ ماء وجوههم" في مؤتمراتهم الصحفية، ما يسجل لصالح الحركة في ثباتها على مواقفها!
وبالتالي فإن إعادة التاريخ إلى الوراء أمر غير وارد على الأقل في المدى المنظور، لأن حماس بإقدامها على استنساخ تجربة منظمة التحرير والاعتراف بإسرائيل ونبذ "العنف"، واتخاذ السلام خيارا وحيدا إستراتيجيا لن تكون حماس، وليختر لها السياسيون والباحثون اسما غير هذا الاسم.
فأدبيات حماس وميثاقها حتى اليوم، وخطابات زعمائها وتصريحات وزرائها لا تشي بشيء من هذا القبيل، ما يؤكد أن قواعدها ومستوياتها التنظيمية ليست مستعدة لهذا الأمر، وإن بدا هذا الموقف السياسي معارضا لمعظم المواقف الدولية والعربية والمحلية.
لكن المطلوب من حماس كي تنسجم مع التوجهات الدولية والإقليمية هو دفع ثمن باهظ يتمثل في أن تغادر مقاعدها الفكرية والأيدولوجية جملة.
ليس المطلوب من حماس أن تصم آذانها عما يطرح محليا وإقليميا ودوليا، وإن كانت رغبة جميع الأطراف بلا استثناء هي أن تعترف بإسرائيل، لهدف وراء ذلك ليس بعيدا عن تصفيتها سياسيا وفكريا، بعدما فشلت "ربيبة" الغرب إسرائيل في تصفيتها عسكريا في ساحة المعركة.
أخيرا.. وبعدما خطا الحوار الغربي "المضطر" مع حماس خطوات متقدمة، ووفقا لما يرشح عن هذه اللقاءات، فقد بات واضحا للغربيين -أوروبيين وأميركيين- أن هذه الحركة تمثل ركنا أساسيا في معادلة إدارة الصراع القائم في المنطقة.
وهذا يحتم عليها التمسك بثوابتها ومواقفها، وأن تبدي في نفس الوقت تجاوبا وانفتاحا مع الكثير من الأطروحات التي يمكن أن تقدم خلال هذه الحوارات... كيف ذلك؟
سؤال مطروح أمام صناع القرار في حركة حماس التي باتت أمام تحديات وتهديدات لم يتوقعها أكثر المتشائمين لها، لكنها السياسة التي قد تباغت الكثير من لاعبيها بمفاجآت تسرهم أحيانا، كما حصل خلال فوزها في الانتخابات التشريعية، وتربكهم أحيانا، حين ترأست حكومة "محكومة آخر النهار" بقرار دولي إقليمي لا يرغب في رؤية قادتها يتسيدون الموقف السياسي الفلسطيني.
------
المصدر الجزيرة نت
عدنان أبو عامر
ابتداء، لا غرابة في العنوان المذكور آنفا، فالغرب أوروبيا كان أو أميركيا دخل "مضطرا" لإجراء الحوار مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بعد أعوام قليلة من إدراج مكتبها السياسي ضمن اللائحة الأوروبية للإرهاب.
ولو كان الأمر بيد الغرب الأوروبي لما توانى لحظة في إتمام التبعات المترتبة على خطوته تلك، وأن يواصل اتخاذ الإجراءات العملية الميدانية لترجمة قراره الذي لم تحسب عواقبه، بحق حركة تحظى بثقل شعبي، ووجود سياسي ليس بالإمكان تجاهله ولا التغاضي عنه.
منطلقات الغرب في محاورة حماس
وأتت جولة الرئيس الأسبق جيمي كارتر هذه الأيام وما دار بشأنها من جدال حاد ونقاش ساخن في الأوساط الإسرائيلية والحمساوية تحديدا، لتثير من جديد قناعات بدأت تتعزز لدى الكثيرين مفادها أن إدراك الغرب الرسمي -والإدراك الأميركي "غير الرسمي"- لخطأ تقديراتهم المتعلقة بحركة حماس، يسجل نقطة لصالحها على حساب القوة الأكبر في هذا العالم، التي تعج بمراكز الأبحاث والدوائر الاستشارية لصانعي القرار.
لكن الغرب الرسمي للأسف لم يتمكن من رؤية –أو بالأصح لم يرد- رؤية ما رآه الآخرون من مؤشرات تدل على أن حركة حققت نجاحات على مستوى الكثير من الأصعدة، لم يعد بالإمكان معاملتها كتيار هامشي بالإمكان إقصاؤه أو تهميشه، ومن ثم القضاء عليه تلقائيا.
ولئن كان الأميركيون مصرين على صواب مواقفهم من حركة حماس لاعتبارات "العلاقة الوجودية" التي تربطهم بإسرائيل، وليس لاعتبارات أميركية بالأساس، فدعونا نناقش في هذه العجالة أبرز ملامح الحوار الغربي "المضطر" مع حماس، ومستقبل الحوار بين الطرفين، رسميا كان أو غير رسمي.
1- كان واضحا منذ اللحظة الأولى التي تراجع فيها الاتحاد الأوروبي عن قراره مقاطعة حماس، أن قراره الذي اتخذ منتصف أغسطس/ آب 2003 حين أدرج المكتب السياسي للحركة ضمن لائحة "الإرهاب"، لم يكن قرارا أوروبيا خالصا، بقدر ما اتخذ تحت ضغوط أميركية وإسرائيلية.
2- رغم القرار فقد دلت العديد من المؤشرات على مواصلة الغربيين للقاءاتهم مع بعض قيادات حماس وعدد من الصحفيين والباحثين المقربين منها، في الداخل والخارج. وجاءت جميع هذه اللقاءات بمبادرة أوروبية منفردة.
3- الحوارات واللقاءات التي تمت لم تكن حبا من الغربيين في سواد عيون قادة حماس وكوادرها، بل في ضوء التمدد الشعبي الذي تحققه الحركة يوما بعد يوم، على جميع الأصعدة السياسية والكفاحية والإغاثية، رغم قرار الحصار المفروض على قطاع غزة الذي تسيطر عليه الحركة.
ولذلك لا عجب إذا لاحظنا خلال السنوات الأخيرة تكثيف الزيارات التي يقوم بها القناصل والمسؤولون الغربيون القادمون من القدس وتل أبيب للمؤسسات المقربة من حماس في الأراضي الفلسطينية، بل والخروج من هذه الزيارات بالإشادة بالجهود.
4- ليس بالإمكان في ضوء تشخيصنا لأسباب الحوار الغربي "المضطر"، تجاهل النتائج المفاجئة للانتخابات البلدية والتشريعية التي جرت قبل أكثر من عامين، وحققت فيها الحركة تقدما بارزا فاجأ الغربيين الذين يستقون الكثير من تقييماتهم للوضع الفلسطيني من مراكز البحوث والاستطلاع "الاسترزاقية" المنتشرة في الضفة والقطاع.
أجندة الغرب مع حماس
هذا من ناحية أسباب المبادرة لإجراء الحوار، فما هي أجندة الغربيين في حوارهم مع حماس؟ ما الذي يطلبونه؟ وما هي أهدافهم؟
بغض النظر عما دار من مناقشات مطولة بين قادة حماس والرئيس كارتر ومستشاريه، ومن سبقه ومن سيلحقه من المسؤولين الغربيين، سرا وعلنا، فإن هناك العديد من الحوافز والدوافع التي تجعل الغرب ساعيا بكل قوة "مكرها ومجبرا"، لإجراء هذه الحوارات مع رموز الحركة والمقربين منها.
أهم تلك الأسباب:
1- التوجه الغربي الحالي إلى إجراء مراجعة شاملة لسياساته تجاه الأحزاب والحركات الإسلامية ذات التوجهات "المعتدلة" في المنطقة العربية، انطلاقاً من إدراكه لقوتها وتأثيرها في الرأي العام داخل مجتمعاتها، ولعل الحوارات التي جرت مؤخرا في أكثر من عاصمة، جزء من هذا التوجه الجديد.
2- رغبة الغربيين في معرفة المزيد من المواقف "الحمساوية" تجاه عدد من القضايا السياسية والاجتماعية والفكرية، فبعدما ثبت لديهم أن هناك مسافة كبيرة بين الفكر الذي تحمله الحركة -أي الفكر الإخواني المتسم بالعديد من سمات الاعتدال والوسطية والانفتاح على الآخر- وبين المدارس الفكرية الأخرى في حقل العمل الإسلامي، تشوق الغرب أكثر فأكثر لمعرفة المزيد من مؤشرات هذه الوسطية والاعتدال والانفتاح.
3- محاولة "عزل" الخصم التقليدي للغرب المتمثل في إيران عما يقال من امتدادات لها في بعض الساحات الإقليمية كبيروت ودمشق وغزة، وجعلها وحيدة في ساحة المواجهة المتوقعة، بعيدا عن أي تأثيرات في ساحات أخرى، وحرمانها من أي استعانة ببعض الأذرع التي قد تشاغل بها خصومها في تل أبيب وبعض العواصم.
وفي ظل ضيق الخناق سياسيا وماليا على الحكومة التي تقودها حركة حماس رغم بعض التنفيسات، ما زالت المطالب ذاتها مشرعة في وجهها حتى في ظل الحوارات التي تجريها بعض الأوساط الغربية مع الحركة.
وهذا ما عبر عنه كارتر دون مواربة أو تورية: الاعتراف أو الاعتراف، بمعنى آخر، لا مناص لحماس من الاختيار بين البقاء في الحكم مع الاعتراف بإسرائيل، أو مغادرة ما وصلت إليه ديمقراطيا، عقابا لها على عدم انصياعها لإرادة العالم.
هذا هو منطق القوة الإسرائيلي الأميركي يصارع قوة المنطق الفلسطيني، وقد تكرر ذلك في أكثر من مناسبة خلال العقد الأخير، وفي مراحل متعددة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي تديره واشنطن بالنيابة عن تل أبيب.
وفي بعض الحالات لم تستطع الكف الفلسطينية أن تقاوم المخرز الأميركي، خاصة في ظل افتقار الفلسطينيين للظهير العربي عمليا للأسف الشديد.
ولو أن العرب كانوا يرفعون العتب بين الحين والآخر عن أنفسهم بعبارات التضامن التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وكانوا "يكفرون" عن تقصيرهم هذا بأموال ومنح علها تغفر زلتهم أمام التاريخ، لكنهم في الحصار الأخير على غزة تراجعوا حتى عن سلة المساعدات "المتواضعة" هذه، وارتضى بعضهم أن يكون مشاركا عمليا في فرض الحصار..
الحقيقة أن وقائع العامين الماضيين، ومنذ صباح اليوم التالي لفوز حماس في الانتخابات التشريعية، لم تغير شيئا ذا مغزى في إدارة المجتمع الدولي لطبيعة الحوارات التي يديرها مع الفلسطينيين، باستثناء بعض الملامح العامة بالإمكان اعتبارها تكتيكات أو محددات أساسية لا ضير في ذلك.
1- لم تكتف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والرباعية الدولية عبر حواراتهم مع حماس مباشرة أو عبر وساطات، بالتلميح لها ولحكومتها بضرورة السير في عملية التسوية المعطلة والمشلولة منذ زمن، بل شدد الجميع على ضرورة انتزاع اعتراف فلسطيني جديد بإسرائيل، لكن هذه المرة متسلح بعباءة دينية إسلامية، وبالتالي سيكون اعترافا مجزيا، لاسيما أن حماس تنظر في بعض أدبياتها إلى أن جذور الصراع مع إسرائيل عقائدية باعتباره صراع وجود لا نزاع حدود.
2- يترافق مع هذه الحوارات التي تخفق في بعض الأحيان، حصار مالي واقتصادي مطبق يزيد من حدة الأزمة الضاغطة على حماس، لاسيما أن المحاصرين يحكمون حصارهم، ويمنعون أي بادرة إيجابية ترفع من معاناة الفلسطينيين.
وبالتالي لم يعد هناك شك في أن الرغبة المتمثلة في عقاب الفلسطينيين على انتخابهم لحماس لم تعد تجدي فيها عبارات المجاملة كالفصل بين الحركة والشعب، لأن المتضرر أساسا من هذا الحصار هو الشعب، هذا مكون جديد في إدارة الأزمات الدولية، وكأن الشعب الفلسطيني بعمومه قد "شب" عن الطوق الأميركي وبالتالي يستحق ما يجري له.
3- اجتهاد بعض المؤسسات البحثية والسياسية في وضع تقديرات زمنية للحكومة التي تقودها حماس، لاسيما بعد سيطرتها على قطاع غزة قبل عشرة أشهر، وكأن الوضع السياسي الفلسطيني تحول إلى مزاد علني لتجار السياسة الدولية.
هذه التقديرات الزمنية وطلب بعض المسؤولين الغربيين من حماس خلال هذه الحوارات أن تقدم على الاعتراف بإسرائيل، وإلا سيستمر الحصار، أزعم أن فيه تغافلا وتناسيا لأبجديات التعامل مع الحكومات والحركات السياسية، لاسيما الأيدولوجية، ومنها حماس.
هل تستنسخ تجربة منظمة التحرير؟
الكثير من المتابعين نظروا لحوارات حماس الأخيرة مع الغرب -لاسيما خلال جولة كارتر- على أنها عودة بالتاريخ إلى منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حين بدأ الحوار الأميركي "الخجول" مع منظمة التحرير الفلسطينية التي وصفت في معجم المصطلحات الأميركية بأنها منظمة "إرهابية".
وحتى لو كانت حركة حماس تنظيما سياسيا بالأساس ينطلق من ثوابت سياسية ميدانية، وبالتالي إمكانية أن تعيد من جديد "استنساخ" تجربة منظمة التحرير، فلم يعد سرا أن حماس منذ تأسيسها قبل عشرين عاما، قامت بحملة تعبئة عقائدية وسياسية وكفاحية لأعضائها ومناصريها ضد الاعتراف بإسرائيل، وأنها غدة سرطانية يجب استئصالها، وأن زوالها حتمية قرآنية، وغيرها من المفردات التي غدت مكونا أساسيا من الخطاب السياسي "الحمساوي".
وبالتالي ليس من السهل على حماس بين عشية وضحاها وتحت أي مبرر، أن تعتذر لكل هؤلاء وتستجيب لظروف الواقعية السياسية والأمر الواقع، وتقول لهم: سنعترف ولو تحت شعار "مكره أخاك لا بطل"!
ورغم التصريحات المعلنة على ألسنة المسؤولين الغربيين -وآخرهم كارتر- حول ضرورة تغيير حماس لإستراتيجيتها وإلغاء ميثاقها والتعاطي مع عملية التسوية الجارية، فإنهم لم يتمكنوا من انتزاع موقف من حماس بالتجاوب مع مطالبهم.
لذلك تم إجراء هذه الحوارات بالقفز عن تلك المطالب التي بقيت "لحفظ ماء وجوههم" في مؤتمراتهم الصحفية، ما يسجل لصالح الحركة في ثباتها على مواقفها!
وبالتالي فإن إعادة التاريخ إلى الوراء أمر غير وارد على الأقل في المدى المنظور، لأن حماس بإقدامها على استنساخ تجربة منظمة التحرير والاعتراف بإسرائيل ونبذ "العنف"، واتخاذ السلام خيارا وحيدا إستراتيجيا لن تكون حماس، وليختر لها السياسيون والباحثون اسما غير هذا الاسم.
فأدبيات حماس وميثاقها حتى اليوم، وخطابات زعمائها وتصريحات وزرائها لا تشي بشيء من هذا القبيل، ما يؤكد أن قواعدها ومستوياتها التنظيمية ليست مستعدة لهذا الأمر، وإن بدا هذا الموقف السياسي معارضا لمعظم المواقف الدولية والعربية والمحلية.
لكن المطلوب من حماس كي تنسجم مع التوجهات الدولية والإقليمية هو دفع ثمن باهظ يتمثل في أن تغادر مقاعدها الفكرية والأيدولوجية جملة.
ليس المطلوب من حماس أن تصم آذانها عما يطرح محليا وإقليميا ودوليا، وإن كانت رغبة جميع الأطراف بلا استثناء هي أن تعترف بإسرائيل، لهدف وراء ذلك ليس بعيدا عن تصفيتها سياسيا وفكريا، بعدما فشلت "ربيبة" الغرب إسرائيل في تصفيتها عسكريا في ساحة المعركة.
أخيرا.. وبعدما خطا الحوار الغربي "المضطر" مع حماس خطوات متقدمة، ووفقا لما يرشح عن هذه اللقاءات، فقد بات واضحا للغربيين -أوروبيين وأميركيين- أن هذه الحركة تمثل ركنا أساسيا في معادلة إدارة الصراع القائم في المنطقة.
وهذا يحتم عليها التمسك بثوابتها ومواقفها، وأن تبدي في نفس الوقت تجاوبا وانفتاحا مع الكثير من الأطروحات التي يمكن أن تقدم خلال هذه الحوارات... كيف ذلك؟
سؤال مطروح أمام صناع القرار في حركة حماس التي باتت أمام تحديات وتهديدات لم يتوقعها أكثر المتشائمين لها، لكنها السياسة التي قد تباغت الكثير من لاعبيها بمفاجآت تسرهم أحيانا، كما حصل خلال فوزها في الانتخابات التشريعية، وتربكهم أحيانا، حين ترأست حكومة "محكومة آخر النهار" بقرار دولي إقليمي لا يرغب في رؤية قادتها يتسيدون الموقف السياسي الفلسطيني.
------
المصدر الجزيرة نت
تعليق