نثرية محمود درويش في يوم رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير توفيق زياد (أوائل تموز/ يوليو 1994)
آخر أصوات العاصفة
في انطفاء توفيق زياد المفاجئ ينطفئ آخر أصوات العاصفة.
الغبار يعانق الغبار والشيء يشبه الشيء ولا مطر على المشهد...
بيد أن هذا المسافر، أمس، كانت طلائع عالمه القديم قد سافرت من قبل، وبقي هو حيث شاءت لغته... قابضا على شبكة الأعصاب التي تربط الفكرة بحاملها.
كم كان يتمزق أكثر، كلما رأيته أكثر:
كان يودع الذاهبين، من بشر وأفكار وأحلام، لكنه لم يذهب معهم إلى طقس الندم. إذ، لا يقاس صواب الفكرة بمدى نجاح الفكرة المضادة. ولا تقاس جدوى الحرية بمدى قدرة الاستبداد على الفتك والاستبعاد.
ولا تحاسب العدالة بمقياس قدرة الظلم على أخذ بعض المثقفين إلى جماليات لوم الضحية!.
وهو لم يمت من قبل في مرّة سابقة، كما يواصل الموت أحياء لا يعرفون أنهم موتى. ولم تأخذه الحيرة إلى التساؤل عن الأرض التي سيموت فيها ولا عن الطريقة التي سيموت بها...
كان يريد أن يموت هناك، لأن في وسعه أن يموت هناك.
كان يعرف أنه سيموت في حادث التصادم التاريخي، على مفترق الطرق التاريخي، حيث يرتطم الثلاثة الكبار: الماضي والحاضر والغد، في فوضى الانعطاف.
بين أريحا، أقدم المدن مبنى، وبين القدس، أغنى المدن معنى، كان الشاعر الحائر فيه ينتشي بخط العودة على خطى المفارقات الناضجة.
كان يقود قطيع أحلامه المشتت إلى مرعاه المحاصر بالجفاف. ولكن حفنة من الحلم في قبضة يده كانت كافية لأن يغمض عينيه على ختام النشيد الدامي.. نشيده الطويل.
ونشيده، نشيد توفيق زياد، الذي نحته من عتبة بيته الفقير في الجليل، سرعان ما تحول إلى صوت الفقراء الحالمين برغيف نظيف وحرية عادية. لقد حفر اسمه الشخصي والجماعي، في آن، على جذع زيتونة صارت هوية، لأن الذائقة العامة عثرت فيه على مرآة واضحة لصورتها، وعلى معنى أوضح لكرامة السنديان فيها فقط. بل لأنه رمى في بحيرة الشعر الساكنة آنئذ، أحجارا حركت الموج، فلم تعد "أنا" الشاعر تقيم في داخله وحده، بل صار في وسعها أن تكون مشهدا عموميا تمر فيها السابلة.
هكذا ارتفعت درجة الحرارة في الكلمات وسار الشعر إلى طقسه الاحتفالي العام. وصار جزءا من حياة، حياة مأهولة بالسكان.. بأسمائهم وأشيائهم وغربائهم.
وكنا أصغر منه، أصغر منه قليلا. وكنا نعجب: أيتسع هذا الشعر لكل هذه الشوارع والساحات؟ أيتسع السجن، سجننا، لكل هذا الهتاف، لكل هذه النوافذ؟
وكنا نتعلم..
ومن القصيدة إلى المظاهرة، من المظاهرة إلى الزنزانة إلى فضاء اللغة.. كان توفيق زيادة يصير إلى ظاهرة: إلى قائد وإلى بطل ورمز، يلهب الحماسة والمرح ويزوج الحرير للحديد، وكان هو، كما هو الحماسة والمرح، هو الحديد والحرير، وهو الحث على الحياة، وعلى حب الحياة حتى نشوة الصعاليك.
وكنا نتعلم.. وهو أحد أبراج القلاع الأخيرة، ذات الأجراس القصوى، المطلة على جهات اللازورد وعلى شمال الباقين، حيث هم، في عيد العلاقة الأبدية- الأخضر والأسود.. بين شعب وأرض وتاريخ.
هو العلامة الشاهقة على شمولية الواجب، وعلى وحدة المستويات المنسجمة في ذات الفرد. وهو أحد أسماء الجليل العالي، العالي إلى ما لا نهاية.
وفيه، أكثر مما في سواه، التموج الهادئ والعاصف بين صلابة الفرفحينة وبين سيولة الرخام!
فإلى من أشير بعد الآن؟
ومع من أضحك حتى آخر الشارع؟
مع من أكسر نظام الزجاج؟
مع من أستعيد الحكاية؟
ولمن أتهيأ للزيارة هنا، أو هناك؟
آن لي ان أعرف، وأن لي أن أعترف بأن أشياء كثيرة تموت فيّ، تموت فيّ على مهل على مهل، في أوج هذا الفراغ.
ولم يعد للعاصفة صوت.
6/7/1994
تعليق