درويش .."ليس موتا بل معرض فاكهة" * وليد حسني
في رحلتي الى رامة الله بحثت عن مثوى محمود درويش، كانت ثمة اليات وعمال بناء وحجارة بيضاء ورخام، وغبار كثيف يغلف المكان الذي تحول الى ورشة عمل من أجل تشييد ضريح يليق بالشعر، ويليق بدرويش وبزائريه أيضا.
وقفت في حضرة البهي على درج "بتونيا" استذكر اللغة التي تجرح، والقلب الذي طالما بكاه درويش في سنيه العشرين الاخيرة، لم يخنه قلبه، بل نحن الذين ابتعدنا عن دقاته، وزفراته، فلم يكن امام درويش غير فسحة من الزمن ليكتب لنا ما يراه الرائي، وما يستلهمه الشعراء من قابلات الأيام في أماسيها وأضاحيها.
كان المكان يشبه ورشة عمل كبرى، وقفت طويلا امام الشمس أسأل نفسي كم مرة في هذا القبر سيتململ درويش ليقول لنا قصيدته التي لم يكتبها على جداريته، بينما كان شاهد قبره يحمل بيتا بالدنيا كلها "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"..
عدت لفندقي وكتبت ما جال في خاطري، فقد حملت من ضريح درويش ما يكفيني للكتابة لفترة أطول مما تحتمله الزيارات العابرة لمقابر الأحياء.
ولم انشر ما أمليته على نفسي، فقد اخترت أن يبقى بيني وبين درويش فقط، حتى إذا ما لجَّ البعض في انتقاداتهم لمسلسل "في حضرة الغياب" استنهضت النفس لعلها تجرؤ قليلا على البوح، وتجرؤ قليلا على استعادة ما سطرته في يوم كان ولا يزال مني اقرب من حبل الوريد .
.........
..............
ماذا يعني ارتفاق جدار نهز به الروح حتى اذا ما سقط على لحمنا اكلناه، وأي معنى لشوق غائب في التفاصيل لا تدنيه حوادث الموت العادي، ولا تعنيه حرفة الموت الرخيص..
بالامس لم يكن في حديقة الشعر غير قلة ترسم بالحرف نياشين المنتصرين خلف الكواليس، واليوم، لم يعد لهم غير يتم يفضح شوقهم لسرفانتس حين يقاتل الهواء بالطموح..
ويا درويش..
لم نعلق الحرف على قماش الشادر والخيام الا بعد ان تحول الشعر الى حلم يرقص في الخنادق، ولم نعلق الشعر على صفائح الزينكو الا بعد ان صار الشعر صرخة في واد اليتم والعذاب والتفاصيل الجارحة.
ويا درويش..
هل نرثي فيك غيابنا ، ام نرثي فيك جدران همنا، ونزوعنا للإصطفاف خلف بوصلة تلهث باسم الدولة تارة، وباسم الخطوط الحائرة تارة أخرى..
وأسأل من فجيعتي فيك، كم موتا نحتاج لنموت معا، ولنشعر بأن ثمة قضية في الأفق تنتظر فراغنا من رشف آخر القبلات مع موت ينتظر بالقرب من السرير متعجلا لحظة تسجيل انتصاره الأخير على اللحم والروح.
ويا درويش
نطفة أخرى تضيع من آلهة الكلمات، فكيف سنستبدل بك سربا من الكلام الذابل الذي يأخذ غفوة في حضن السكين..
ويا درويش..
كم يلزمنا من قسوة حتى ندرك الفرق بين الطموح بالموت، والطموح للموت، وكم يلزمنا من صوت لنعرف الفرق بين لسان يجرح البندقية، وكلام لا يقدر على البوح.
بالأمس لم يكن في الجدار غير كلام كان بالدنيا كلها، واليوم لم يعد على الجدار غير بقايا صور، وحروف تبكي، ولغة حائرة بين الثواب المجزي، والعقاب البذيء.
كأنك نحن، وكأننا انت، أبهذه السهولة يمكن ان نفقد شيئا من بقايانا على الطريق، أبهذه السهولة المضنية يمكننا الزحف باتجاه بيادق آخر الفاتحين لآخر الأرض.
ويا درويش، ليس الموت ما يغيّبنا، وإنما النسيان وتلك فضيلة لا نعرفها.
ولست انت من يغيب، وليس نحن من يتغيبون، وستعرف حين لقاء يوشك، كم الفرق بين زلّة اللسان، وهوس الموت بالتفاصيل.
ويا درويش ..
شددنا بك الخاصرة حتى لا ننحني باتجاه الريح، وخفنا عليك من حبنا، ألم تقل ذات يوم مبكر جدا "انقذونا من هذا الحب"، كان ذلك في الستينيات من قرن كان كل ما فيه يشي بالضرب على طبول الحرب، والإحتلال والقتل باسم طموحات الأنبياء، وأحلام اللصوص.
ويا درويش..
موتك ليس موتا، بل معرض فاكهة ، قال ذلك غارثيا لوركا الذي نحبه كطفل فلسطيني اكثر من كونه اندلسيا ، وهو يرثي الموت الذي يموت فينا، ولا نموت فيه..
وليس موتك حياد بين لونين، ليس غرفتين في قلب يفصلهما لحن على الخلاف بين القبعة ورغيف الخبز، وليس موتك فرجة في السوق، وليس موتك رحلة من يبحث عن خلود ضيّعه"إنكيدو"، وليس موتك موتا بل معرض فاكهة، وخلاف بين حبيبين ضلا الطريق قبل ان يعرفا الموت بالعواطف.
هل ضيّعناك حقا؟!
كأن السؤال يفرّ من الإجابات السريعة، وكأنه سورة خوف نلقيها على من نخاف عليه من الهواء والشمس والماء...
هل ضيّعناك..؟!.
ثمّة تفاصيل لا تنزوي في المتون، ولا تضيع في الشروح، وثمّة قسوة في الغياب، ثمة هوة بين قلب قاد صاحبه للموت، بينما قاده صاحبه للحياة، وتلك معضلة الإختيار بين نقيضين، واحد يلهث نحو الماء، وآخر يقع في جحيم الأسئلة.
ويا درويش..
لم يكن الشعر خيارك العربي، بالقدر الذي كان خيار التاريخ والجغرافيا منذ أن كانت الرحلة إلى الكون على ظهر الطموح، إلى أن صارت الرحلة كلها على ظهر دبابة، وبطن طائرة تنثر أحمالها على الكون الضعيف، والناس السكارى بالحياة يلهثون فيها إلى غد لا يقبضونه.
ويا درويش..
نذرناك لنا، ونحن على النذر قائمون، فليس على هذه الأرض أقوى من صرخة تمسك بالكون كله، وتدوي في البرّية كنبوءة نبي صدقه أهله فـ "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".
حقا ..
على هذه الارض ما يستحق الموت من اجله أيضا حتى "تحيا الحياة.. تحيا الحياة"..
في رحلتي الى رامة الله بحثت عن مثوى محمود درويش، كانت ثمة اليات وعمال بناء وحجارة بيضاء ورخام، وغبار كثيف يغلف المكان الذي تحول الى ورشة عمل من أجل تشييد ضريح يليق بالشعر، ويليق بدرويش وبزائريه أيضا.
وقفت في حضرة البهي على درج "بتونيا" استذكر اللغة التي تجرح، والقلب الذي طالما بكاه درويش في سنيه العشرين الاخيرة، لم يخنه قلبه، بل نحن الذين ابتعدنا عن دقاته، وزفراته، فلم يكن امام درويش غير فسحة من الزمن ليكتب لنا ما يراه الرائي، وما يستلهمه الشعراء من قابلات الأيام في أماسيها وأضاحيها.
كان المكان يشبه ورشة عمل كبرى، وقفت طويلا امام الشمس أسأل نفسي كم مرة في هذا القبر سيتململ درويش ليقول لنا قصيدته التي لم يكتبها على جداريته، بينما كان شاهد قبره يحمل بيتا بالدنيا كلها "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"..
عدت لفندقي وكتبت ما جال في خاطري، فقد حملت من ضريح درويش ما يكفيني للكتابة لفترة أطول مما تحتمله الزيارات العابرة لمقابر الأحياء.
ولم انشر ما أمليته على نفسي، فقد اخترت أن يبقى بيني وبين درويش فقط، حتى إذا ما لجَّ البعض في انتقاداتهم لمسلسل "في حضرة الغياب" استنهضت النفس لعلها تجرؤ قليلا على البوح، وتجرؤ قليلا على استعادة ما سطرته في يوم كان ولا يزال مني اقرب من حبل الوريد .
.........
..............
ماذا يعني ارتفاق جدار نهز به الروح حتى اذا ما سقط على لحمنا اكلناه، وأي معنى لشوق غائب في التفاصيل لا تدنيه حوادث الموت العادي، ولا تعنيه حرفة الموت الرخيص..
بالامس لم يكن في حديقة الشعر غير قلة ترسم بالحرف نياشين المنتصرين خلف الكواليس، واليوم، لم يعد لهم غير يتم يفضح شوقهم لسرفانتس حين يقاتل الهواء بالطموح..
ويا درويش..
لم نعلق الحرف على قماش الشادر والخيام الا بعد ان تحول الشعر الى حلم يرقص في الخنادق، ولم نعلق الشعر على صفائح الزينكو الا بعد ان صار الشعر صرخة في واد اليتم والعذاب والتفاصيل الجارحة.
ويا درويش..
هل نرثي فيك غيابنا ، ام نرثي فيك جدران همنا، ونزوعنا للإصطفاف خلف بوصلة تلهث باسم الدولة تارة، وباسم الخطوط الحائرة تارة أخرى..
وأسأل من فجيعتي فيك، كم موتا نحتاج لنموت معا، ولنشعر بأن ثمة قضية في الأفق تنتظر فراغنا من رشف آخر القبلات مع موت ينتظر بالقرب من السرير متعجلا لحظة تسجيل انتصاره الأخير على اللحم والروح.
ويا درويش
نطفة أخرى تضيع من آلهة الكلمات، فكيف سنستبدل بك سربا من الكلام الذابل الذي يأخذ غفوة في حضن السكين..
ويا درويش..
كم يلزمنا من قسوة حتى ندرك الفرق بين الطموح بالموت، والطموح للموت، وكم يلزمنا من صوت لنعرف الفرق بين لسان يجرح البندقية، وكلام لا يقدر على البوح.
بالأمس لم يكن في الجدار غير كلام كان بالدنيا كلها، واليوم لم يعد على الجدار غير بقايا صور، وحروف تبكي، ولغة حائرة بين الثواب المجزي، والعقاب البذيء.
كأنك نحن، وكأننا انت، أبهذه السهولة يمكن ان نفقد شيئا من بقايانا على الطريق، أبهذه السهولة المضنية يمكننا الزحف باتجاه بيادق آخر الفاتحين لآخر الأرض.
ويا درويش، ليس الموت ما يغيّبنا، وإنما النسيان وتلك فضيلة لا نعرفها.
ولست انت من يغيب، وليس نحن من يتغيبون، وستعرف حين لقاء يوشك، كم الفرق بين زلّة اللسان، وهوس الموت بالتفاصيل.
ويا درويش ..
شددنا بك الخاصرة حتى لا ننحني باتجاه الريح، وخفنا عليك من حبنا، ألم تقل ذات يوم مبكر جدا "انقذونا من هذا الحب"، كان ذلك في الستينيات من قرن كان كل ما فيه يشي بالضرب على طبول الحرب، والإحتلال والقتل باسم طموحات الأنبياء، وأحلام اللصوص.
ويا درويش..
موتك ليس موتا، بل معرض فاكهة ، قال ذلك غارثيا لوركا الذي نحبه كطفل فلسطيني اكثر من كونه اندلسيا ، وهو يرثي الموت الذي يموت فينا، ولا نموت فيه..
وليس موتك حياد بين لونين، ليس غرفتين في قلب يفصلهما لحن على الخلاف بين القبعة ورغيف الخبز، وليس موتك فرجة في السوق، وليس موتك رحلة من يبحث عن خلود ضيّعه"إنكيدو"، وليس موتك موتا بل معرض فاكهة، وخلاف بين حبيبين ضلا الطريق قبل ان يعرفا الموت بالعواطف.
هل ضيّعناك حقا؟!
كأن السؤال يفرّ من الإجابات السريعة، وكأنه سورة خوف نلقيها على من نخاف عليه من الهواء والشمس والماء...
هل ضيّعناك..؟!.
ثمّة تفاصيل لا تنزوي في المتون، ولا تضيع في الشروح، وثمّة قسوة في الغياب، ثمة هوة بين قلب قاد صاحبه للموت، بينما قاده صاحبه للحياة، وتلك معضلة الإختيار بين نقيضين، واحد يلهث نحو الماء، وآخر يقع في جحيم الأسئلة.
ويا درويش..
لم يكن الشعر خيارك العربي، بالقدر الذي كان خيار التاريخ والجغرافيا منذ أن كانت الرحلة إلى الكون على ظهر الطموح، إلى أن صارت الرحلة كلها على ظهر دبابة، وبطن طائرة تنثر أحمالها على الكون الضعيف، والناس السكارى بالحياة يلهثون فيها إلى غد لا يقبضونه.
ويا درويش..
نذرناك لنا، ونحن على النذر قائمون، فليس على هذه الأرض أقوى من صرخة تمسك بالكون كله، وتدوي في البرّية كنبوءة نبي صدقه أهله فـ "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".
حقا ..
على هذه الارض ما يستحق الموت من اجله أيضا حتى "تحيا الحياة.. تحيا الحياة"..