الإعلام الحربي – غزة:
كان مرحلة من مراحل بروز دور حركة الجهاد الإسلامي في الضفة الغربية المحتلة، كان مُنظّرا ً ومفكرا ً في عالم اختلطت فيه الألوان وتباينت الرؤى والتحليلات، فكان رجلا ً يعشق الدم كما أراد له والده أن يكون، فسماه نعمان فكان من معنى اسمه "الدم"، إنه الشهيد القائد نعمان طحاينة. التقينا بالحسين بن نعمان في مدينة نابلس تلك المدينة التي عاش فيها والده، فكانت جامعة النجاح موطئاً للعشق الكتابي والإبداع الفكري، فشهدت له أروقة الجامعة التي أرسى فيها قواعد العمل الطلابي لحركة الجهاد الإسلامي.
كان نعمان حقا ً الرجل الصامت في أعماله، فقد كان يعمل بصمت يرفض الظهور العلني الذي يعتبره أداة للقتل السريع، قاد الحركة في الضفة الغربية وعمل على إنشاء عدة مؤسسات لها، فكان رجلا ً مارداً مقاتلاً مجاهداً من أجل مشروع إسلامي نهضوي تجديدي.
كان نعمان أينما ذهب له من الثقافة بصمة، اعتقل لدى قوات الاحتلال الصهيوني ما يقارب من أربع سنوات ، فكان له الأثر في تحويل السجن إلى مركز ثقافي.
اعتقلته أجهزة "أمن" السلطة، وكان من أوائل القيادات الذين يتم اعتقالهم آنذاك وأمضى ما يقارب السنتين في سجونها.
كان نعمان بمثابة الهمّة التي أحيت الأمة من بعده، فكتب عنه الكثيرون من مدرسين وزملاء، وكان له الأثر العظيم في طلبة جامعة النجاح الذين لم يعرفوه بل كان السؤال عنه في امتحاناتهم بالإعلام الفلسطيني، كيف لا وهو قائد إعلامي بارع كتب قلمه للشهداء ولمعركة مخيم جنين التي سطرها أبطال سرايا القدس بدمائهم إلى جانب إخوانهم في جميع التشكيلات العسكرية المقاومة.
إن تذكر نعمان في التاريخ، فلك أن تذكر الشهداء العظام تذكر خالد زكارنة وراغب جرادات وإياد صوالحة ومحمود طوالبة وأسعد دقة ووائل عساف وإياد الحردان وقائمة الشهداء في تاريخ أبي الحسين طويلة.
ولا يقف الأمر عند شهدائنا بل عند أولئك الأبطال الذين عشقوا أبا الحسين، فكان ثابت مردواي صهرا ً له، وكان الشيخ بسام السعدي وخالد جردات وهاني جردات وطارق قعدان رفاقاً له.
ولد الشهيد نعمان طاهر صادق طحاينة في قرية "سيلة الحارثية" عام 1970م، ونشأ على مائدة القرآن في مساجد البلدة وتميز بذكاء خاص في دراسته فقد أنهى الثانوية العامة في الفرع العلمي بتقدير جيد جدا مع انه كان مطاردا للاحتلال وقتها.
تزوج من شقيقة الأسير القائد الشيخ ثابت المردواي المحكوم 21 مؤبدا لعمله الجهادي، ورزق منها بطفلين "الحسين" و"فاطمة الزهراء" وسكنا في مخيم جنين. انضم إلى حركة الجهاد الإسلامي وهو فتىً صغير لم يتجاوز الثانية عشر من العمر، وعرف عنه الخلق الحسن وقوة الحجة وسلامة المنطق وصلابة الشخصية والشكيمة العالية، درس الشيخ نعمان في جامعة النجاح الوطنية - قسم الصحافة والإعلام، وكان أميرا للجماعة الإسلامية فيها وهزت كلماته الرنانة أرجاء جامعة النجاح لتكشف للقاصي والداني حقيقة صاحبها بأنه رجل سياسي ومفكر ومنظم لأبعد الدرجات، ذو ثقافة عالية موسوعية يرافقه الكتاب في حله وترحاله، ولكن تلبيته لنداء الواجب الجهادي المقدس أوجب عليه ترك جامعة النجاح والدراسة في جامعة القدس المفتوحة، ولكن القدر لم يسعفه بمواصلة تحصيله الجامعي، فقد كان يوصف بأنه مكتبة تمشي على الأرض فخلال فترة مطاردته الطويلة والتي تجاوزت الخمسة عشر عاما كان يتنقل حاملا حقيبة ملابس صغيرة وحقيبة كتب كبيرة لمواصلة القراءة في كل الظروف.
لم يكن قد تجاوز الثانية عشر من عمره المبارك حيث كانت بدايات المشروع و كان الشقاقي الشهيد يطوف البلاد يبحث عمن يحمل الهم والواجب فحط رحاله في سيلة "الأحرار" حيث وجد اثنين من الأنصار يشاطرونه الهم المقدس وبدءا يبشران بالحلم الجديد فكان نعمان من أوائل الملتزمين بهذا الخط و تحول إلى ابرز المنظرين داخل هذا المشروع فقد تمتع بقدرات عالية في التفكير والإبداع وبرزت عليه علامات العبقرية والتفاني الإخلاص مجبولة بعناد عجيب كل ذلك يجيره في سبيل إحياء مفهوم الجهاد على أرض فلسطين ولقد تميز الشهيد القائد بالحيوية الدؤوبة و الهمة العالية فلم يكن يعرف معنى الراحة والهدوء، بدأ يغرد خارج أسراب الهزيمة والقعود وخاض سجالا وجولات من الحوار والتحريض للفكر الجهادي الجديد.
شخصية أبو الحسين تميزت بمزيج غريب ونادر من التواضع والعزة والجرأة والحكمة والدفاع عن المستضعفين والمظلومين، مجبولة بثقافة عالية ومتنوعة مع وعي عميق وروح ثائرة ونفس مثابرة بقيت ترافقه في كل محطات حياته حتى يوم استشهاده.
على خطى الفدائي الأول في الإسلام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، نجح نعمان في تضليل المخابرات الصهيونية لتهريب الشهيد الشيخ صالح طحاينة من فترة حكم وصلت لثلاثين عاماً.
كان عقله المتقد بالذكاء يعمل ويعمل حتى هداه الله إلى هكذا خطة فقد تقرر نقل الشيخ نعمان من سجن جنيد إلى سجن النقب لقضاء فترة حكم إدارية لستة أشهر، وكان الشيخ صالح في "جنيد" في ذلك الوقت وعن طريق تبديل الملفات وللشبه الخلقي بينهما فقد أفرج عن الشيخ صالح بعد مرور ستة أشهر ليستشهد بعد عدة أشهر في شقة في رام الله على أيدي مجموعة مأجورة للاحتلال الصهيوني.
أما الشيخ نعمان الذي بقي بدوره مكان الشيخ صالح في السجن حتى كشفت أجهزة المخابرات أمره، فقد واجه عقابا قاسيا يتنافى مع الأخلاقيات والأعراف بتمديد اعتقاله لفترة إدارية وصلت إلى خمس سنوات ونصف السنة.
شهد له العدو الصهيوني ببراعته وذكائه من خلال ما فعله من عملية تبادل معقدة التخطيط.
كان للشهيد جولات وصولات مع محاولات الاعتقال والاغتيال حتى وصل الأمر إلى كمين نصبته الوحدات الصهيونية الخاصة المتخفية بالزي المدني، حيث باغتته عقب مغادرته المشفى في "حي الزهراء" في جنين حيث كان يتلقى العلاج، وكان ذلك بتاريخ 13-7-2004 . ورد آنذاك من شهود العيان: "أن الوحدات الخاصة حاصرت طحاينة وأطلقت النار عليه مباشرة ومن جميع الاتجاهات مما أدى لاستشهاده وإصابة مرافقه". ويؤكد الشهود "أن قوات الاحتلال قصدت تصفية طحاينة حيث كان من الممكن اعتقاله، ولكنهم أصابوه بأكثر من عشرين عيارا ناريا".
وهكذا مضى الشهيد المجاهد إلى ربه ملبياً، بعد أن أدى واجبه الجهادي رغم قلة الإمكانات.
الشيخ المربي هاني جرادات قال في الشهيد : "بدأت ألاحظ نعمان وهو لم يزل في بدايات فتوته أن بين يديه كتبا جديدة، ليست في مكتبة مسجدنا، فكنت أسأله من أين لك هذه الكتب ؟؟ فكان يقول: " اشتريتها من مكتبة السوق ، فكنت أساله ثانية: من أين لك ثمنها وهو ابن الرابعة عشر ؟؟ فكان يقول رحمة الله: " اشتريتها من مصروفي، وكان صادقا ً فيما يقول".
أما الشيخ الفاضل خالد جرادات فقال فيه : "عرفته صغيراً في رحاب المسجد ، ومنذ اللحظة الأولى لرؤيته كان يحمل كتاباً وكان يجلس في المسجد كثيراً، يقلب أوراق الكتاب ويدرس بصبر ، لم يكن الكتاب يفارقه حتى عندما خرجنا في رحلة للترفيه ، سألني ذات مرة مجموعة من الأسئلة العميقة والمتخصصة فأجبته بكل أمانة وصدق وصراحة بأنني لم أعد أستطيع مساعدته في هذا المجال لأن ثقافته ووعيه واطلاعه أصبح يفوق ما عندي بكثير".
بدوره تحدث أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية، البروفيسور عبد الستار قاسم ، فقال : " كنت ألاحظ قيادات كثيرة تهزأ من الآخرين وكأن أحدا لم يُخلق على شاكلتها، أما الشيخ نعمان فكان يدرك أن القيادة لا تؤتى إلا بالتواضع واحترام الآخرين، كان الشيخ ثروة إنسانية وجهادية كبيرة، وفي استشهاده كان لمسيرة الجهاد في فلسطين تأثر كبير ، لكن العزاء أن البلاد لا تنضب وروح الجهاد دائما تتجدد بنور الذين سبقوه".
من جهته قال أستاذ الفقة المقارن في جامعة النجاح الوطنية، د. ناصر الدين الشاعر: "أخي نعمان .. أجل لقد رحلت بجسدك ، مع الراحلين ، كي تبقى صورة حية بروحك وبمحياك ، ولا نملك لكم أيها الراحلون سوى الدعاء والتضرع إلى العلي القدير بأن تكون خاتمة ترحالكم إلى مستقر رحمته" .
كتب الشهيد نعمان طحاينة "القدس بحاجة إلينا "....
باستمرار يتحدّث الجميع عن قداسة القدس أرض المقدسات أولى القبلتين وثالث الحرمين البعض يوهمنا أو يكاد أنه لا ينام ولا يستيقظ, ولا يأكل ولا يشرب, لا يسكن أو يتحرك إلا بالقدس وللقدس.
وفيما يتماهى الجميع بالقدس في حالة عشق ووله على هذا النحو تتماهى القدس بحكم الوقائع الصهيونية المتوالية في "أورشليم" ونحن هنا لا نتحدّث عن موضوع "القدس" ذاته وما يُحيط به من مخاطر وإنما من موقع أن القدس في هذه الحالة كشّاف لا يُخطىء عن الواقع الفلسطيني الذي يُعاني من الإهتراء والتفكُّك والاختلاط في بعض أجزائه وقسماته.
فبعد قرار الحكومة الصهيونية المُتَعّلق بتوسيع حدود بلدية القدس انطلقت عدة نشاطات وفعاليات للتضامن مع القدس ولمواجهة عملية تهويد المدينة وتدمير الوجود العربي داخلها, لكن المُلفت للنظر أن بعض مسيرات التضامن لم يحتشد فيها سوى العشرات وأن هناك هناك إحجاماً على صعيد المُشاركة العامة في قضية بمثل هذه الخطورة والقداسة.
وفي الوقت الذي تشهد فيه العديد من المناسبات الحزبية والجماهيرية والرسمية حشوداً أعظم وأكبر بكثير من أولئك الذين تضامنوا مع "القدس" .. ولا يكتمل المشهد إلا إذا أضفنا له "قسمة" أُخرى تتجلى في بعض المهرجانات والاحتفالات الغنائية التي تشهد هي الأخرى حضوراً أضخم بكثير من ذلك الذي احتشد من أجل "القدس".!! هذا المشهد ربما كان مُحبطاً وداعياً لليأس للوهلة الأولى, لكن القراءة بهذه الحدود لا تعدو أن تكون وقوفاً عند السطح وهي قراءة ضد "الرؤية النهضوية", الأصح أن نحفر القاع لنكتشف "العوامل" ونضع أيدينا على "الجراح".
ونحن فيما يلي نفترض مجموعة من الاحتمالات كعوامل تفسر هذه الظاهرة وتجعلها مفهومة تماماً أو قريباً من ذلك فيما نظن أول احتمال يتداعى به المشهد إلى الأذهان يتجلّى من خلال المُفارقة الهائلة ما بين الاحتشاد الضخم الذي التف حول قضية بالتأكيد هي مهمة لكنها "قزمة"بجانب قضية بخطورة القدس وقداستها وما بين ذلك العدد الذي احتشد في العديد من المسيرات التضامنية مع القدس, هذا الخلل في الموازين, في المعايير .. في الأولويات وفي "جدول الأعمال الوطني والإسلامي" ربما كان هو الوجه الأول للمشهد المأساوي على الساحة الفلسطينية, وربما العربية والإسلامية بشكل عام لو أن عشرات الآلاف احتشدوا في سائر المدن من أجل القدس بالتأكيد أن احتشادهم كان سيُحدث أثراً أعمق بكثير وأعظم على المستوى الوطني والعربي والإسلامي لصالح النهضة والتحرر.
الاحتمال أعلاه يقودنا إلى احتمال آخر كعامل مُفسر للحالة الشخصية هو تغييُب "المشروع الوطني الجامع" والذي يمتلك القدرة على الإشعاع والجذب والتحريك.
حركة الواقع السياسي بتداعياتها فلسطينياً وعربياً ودولياً تكفلت بكشف "أوسلو" وعجزه عن أن يكون مشروعاً وطنياً بل ليس من قبيل المُبالغة الزعم بأن أوسلو ساهم في تفكيك العناصر التي كانت تحتشد في الواقع الفلسطيني أثناء الانتفاضة ليخرج من أحشائها مشروع نهضوي يمتلك الإشعاع والتحريك على المستوى الفلسطيني والعربي والإسلامي مُتجسّداً في حالة جهادية ونضالية عامّة ضد الوجود الصهيوني وباتجاه تطوير امكانات النهوض على الساحة الفلسطينية والعربية والإسلامية.
أصبح الإنسان الفلسطيني العادي يشعر بالعبثية واللاجدوى وربما كانت الأعداد القليلة من مسيرات التضامن تُعَبّر بشكل أو بآخر عن الحساسية العامة تجاه كل شيء يصدر عن جهات رسمية أو يبدو كذلك.
إذن, تغييُب المشروع الوطني الجامع بدد إمكانية ترتيب جد ولأعمال وطني جامع يحتشد من حوله الكل.
إذ أن نزع المُبادرة من يد الجماهير, مُحاصرة إمكانات المُشاركة الحرة لصالح بيع "الإلزام الفوقي" بشكل أو بآخر إضافة إلى إجواء القمع والتسلُّط تلعب دوراً حاسماً في إشاعة السلبية والفردية.
إن ثمة تناقضاً ما بين "الخيار الشعبي" بتوجهاته وأدواته وخيار أوسلو لا يمكن للخيار الشعبي أن تكون قاعدته "أوسلو" كذلك استدعت بعض أدوات أو إمكانات الخيار الأول لبثّ الحياة في جُثة الخَيار الثاني "أوسلو" يبدو أمراً يفتقد للمنطقين, بالإضافة إلى أنه أصبح محروقاً جماهيرياً, لا ستطيع الناس أن يضحوا ويُقدموا ثمناً باهظاً في سياق يختزل هذا العطاء إلى حدود الصفر بل ربما يحوله للسلب.
هناك أيضاً منظومة القيم الأخلاقية والوطنية وهذه المنظومة تعرضت للتفسُخ والتفكيك والإهتراء من خلال العطاء العملي والتطبيقي لاتفاقية "أوسلو".
فالقمع الفلسطيني الفلسطيني من خلال الاعتقالات في سجون السُلطة وغيرها من المظاهر, بالإضافة للفساد الإداري والمالي الذي استشرى إلى حد خيالي ثم هناك جملة التعريفات الجديدة التي أفرزها أوسلو للعديد من الظواهر الفلسطينية والنضالية والجهادية والتي هي في الأساس تعريفات صهيونية (خّذ مثلاً -ونحن نتحدّث عن القدس- وثيقة بيلين - أبو مازن, والتي أبو ديس مع مسرب إلى المسجد الأقصى بأنها القدس الفلسطينية ..!!
كل ذلك كان حتماً سيعمل على تدمير منظومة القيم الأخلاقية والوطنية ليحل مكانها جوّاً من الفوضى والعبث المأساوي ..!!
وفي هذا الصدد, ما معنى نجاح المهرجانات الغنائية في التحشيد أكثر من قضية القدس؟!
العمل التنظيمي والحزبي في الكثير من الاحيان أصبح بحاجة للتغذية بروحية "المشروع النهضوي العام" وليس الاستثمار السياسي والاجتماعي المحدود بآفاق حزبية.
أليس من المشروع أيضاً التساؤل حول سر تعاظم الاحتشاد في المناسبات الحزبية الخاصة عنه في القضايا العامة خاصة إذا كانت بمثل أهمية وخطورة قضية القدس ...!!
حالة العجز التي تعيشها منظمات العمل الأهلي (المدني) سواء القديم منا أو الحديث ومؤسساته هي أيضاً بحاجة إلى وقفة مُراجعة, ما سر محدودية دور المسجد, النقابات, الجامعة, الجمعيات الوطنية المُختلفة ... ألخ؟!
ربما كان بإمكان بعض العوامل المُشار إليها سابقاً أ تتُساعد على التفسير, مثلاً: غياب المشروع الوطني الجامع والمُشع, حالة القمع والتسلُّط تناقض برنامج أوسلو مع "الخيار الشعبي" قد نُضيف أن جدول أعمال بعض هذه المؤسسات والمُنظمات يخضع لتأثيرات أجنبية كذلك بعض هذه المؤسسات يخضع لعملية تهميش ومُحاصرة تحت ذرائع مختلف مثلا المسجد), يبقى القول أن هذه مُحاولة للتشخيص ووضع اليد على الجرح الذي ينز.
كان مرحلة من مراحل بروز دور حركة الجهاد الإسلامي في الضفة الغربية المحتلة، كان مُنظّرا ً ومفكرا ً في عالم اختلطت فيه الألوان وتباينت الرؤى والتحليلات، فكان رجلا ً يعشق الدم كما أراد له والده أن يكون، فسماه نعمان فكان من معنى اسمه "الدم"، إنه الشهيد القائد نعمان طحاينة. التقينا بالحسين بن نعمان في مدينة نابلس تلك المدينة التي عاش فيها والده، فكانت جامعة النجاح موطئاً للعشق الكتابي والإبداع الفكري، فشهدت له أروقة الجامعة التي أرسى فيها قواعد العمل الطلابي لحركة الجهاد الإسلامي.
كان نعمان حقا ً الرجل الصامت في أعماله، فقد كان يعمل بصمت يرفض الظهور العلني الذي يعتبره أداة للقتل السريع، قاد الحركة في الضفة الغربية وعمل على إنشاء عدة مؤسسات لها، فكان رجلا ً مارداً مقاتلاً مجاهداً من أجل مشروع إسلامي نهضوي تجديدي.
كان نعمان أينما ذهب له من الثقافة بصمة، اعتقل لدى قوات الاحتلال الصهيوني ما يقارب من أربع سنوات ، فكان له الأثر في تحويل السجن إلى مركز ثقافي.
اعتقلته أجهزة "أمن" السلطة، وكان من أوائل القيادات الذين يتم اعتقالهم آنذاك وأمضى ما يقارب السنتين في سجونها.
كان نعمان بمثابة الهمّة التي أحيت الأمة من بعده، فكتب عنه الكثيرون من مدرسين وزملاء، وكان له الأثر العظيم في طلبة جامعة النجاح الذين لم يعرفوه بل كان السؤال عنه في امتحاناتهم بالإعلام الفلسطيني، كيف لا وهو قائد إعلامي بارع كتب قلمه للشهداء ولمعركة مخيم جنين التي سطرها أبطال سرايا القدس بدمائهم إلى جانب إخوانهم في جميع التشكيلات العسكرية المقاومة.
إن تذكر نعمان في التاريخ، فلك أن تذكر الشهداء العظام تذكر خالد زكارنة وراغب جرادات وإياد صوالحة ومحمود طوالبة وأسعد دقة ووائل عساف وإياد الحردان وقائمة الشهداء في تاريخ أبي الحسين طويلة.
ولا يقف الأمر عند شهدائنا بل عند أولئك الأبطال الذين عشقوا أبا الحسين، فكان ثابت مردواي صهرا ً له، وكان الشيخ بسام السعدي وخالد جردات وهاني جردات وطارق قعدان رفاقاً له.
بطاقة شخصية
ولد الشهيد نعمان طاهر صادق طحاينة في قرية "سيلة الحارثية" عام 1970م، ونشأ على مائدة القرآن في مساجد البلدة وتميز بذكاء خاص في دراسته فقد أنهى الثانوية العامة في الفرع العلمي بتقدير جيد جدا مع انه كان مطاردا للاحتلال وقتها.
تزوج من شقيقة الأسير القائد الشيخ ثابت المردواي المحكوم 21 مؤبدا لعمله الجهادي، ورزق منها بطفلين "الحسين" و"فاطمة الزهراء" وسكنا في مخيم جنين. انضم إلى حركة الجهاد الإسلامي وهو فتىً صغير لم يتجاوز الثانية عشر من العمر، وعرف عنه الخلق الحسن وقوة الحجة وسلامة المنطق وصلابة الشخصية والشكيمة العالية، درس الشيخ نعمان في جامعة النجاح الوطنية - قسم الصحافة والإعلام، وكان أميرا للجماعة الإسلامية فيها وهزت كلماته الرنانة أرجاء جامعة النجاح لتكشف للقاصي والداني حقيقة صاحبها بأنه رجل سياسي ومفكر ومنظم لأبعد الدرجات، ذو ثقافة عالية موسوعية يرافقه الكتاب في حله وترحاله، ولكن تلبيته لنداء الواجب الجهادي المقدس أوجب عليه ترك جامعة النجاح والدراسة في جامعة القدس المفتوحة، ولكن القدر لم يسعفه بمواصلة تحصيله الجامعي، فقد كان يوصف بأنه مكتبة تمشي على الأرض فخلال فترة مطاردته الطويلة والتي تجاوزت الخمسة عشر عاما كان يتنقل حاملا حقيبة ملابس صغيرة وحقيبة كتب كبيرة لمواصلة القراءة في كل الظروف.
مشواره مع الجهاد الإسلامي
لم يكن قد تجاوز الثانية عشر من عمره المبارك حيث كانت بدايات المشروع و كان الشقاقي الشهيد يطوف البلاد يبحث عمن يحمل الهم والواجب فحط رحاله في سيلة "الأحرار" حيث وجد اثنين من الأنصار يشاطرونه الهم المقدس وبدءا يبشران بالحلم الجديد فكان نعمان من أوائل الملتزمين بهذا الخط و تحول إلى ابرز المنظرين داخل هذا المشروع فقد تمتع بقدرات عالية في التفكير والإبداع وبرزت عليه علامات العبقرية والتفاني الإخلاص مجبولة بعناد عجيب كل ذلك يجيره في سبيل إحياء مفهوم الجهاد على أرض فلسطين ولقد تميز الشهيد القائد بالحيوية الدؤوبة و الهمة العالية فلم يكن يعرف معنى الراحة والهدوء، بدأ يغرد خارج أسراب الهزيمة والقعود وخاض سجالا وجولات من الحوار والتحريض للفكر الجهادي الجديد.
شخصية أبو الحسين تميزت بمزيج غريب ونادر من التواضع والعزة والجرأة والحكمة والدفاع عن المستضعفين والمظلومين، مجبولة بثقافة عالية ومتنوعة مع وعي عميق وروح ثائرة ونفس مثابرة بقيت ترافقه في كل محطات حياته حتى يوم استشهاده.
قرباناً للمقاومة
على خطى الفدائي الأول في الإسلام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، نجح نعمان في تضليل المخابرات الصهيونية لتهريب الشهيد الشيخ صالح طحاينة من فترة حكم وصلت لثلاثين عاماً.
كان عقله المتقد بالذكاء يعمل ويعمل حتى هداه الله إلى هكذا خطة فقد تقرر نقل الشيخ نعمان من سجن جنيد إلى سجن النقب لقضاء فترة حكم إدارية لستة أشهر، وكان الشيخ صالح في "جنيد" في ذلك الوقت وعن طريق تبديل الملفات وللشبه الخلقي بينهما فقد أفرج عن الشيخ صالح بعد مرور ستة أشهر ليستشهد بعد عدة أشهر في شقة في رام الله على أيدي مجموعة مأجورة للاحتلال الصهيوني.
أما الشيخ نعمان الذي بقي بدوره مكان الشيخ صالح في السجن حتى كشفت أجهزة المخابرات أمره، فقد واجه عقابا قاسيا يتنافى مع الأخلاقيات والأعراف بتمديد اعتقاله لفترة إدارية وصلت إلى خمس سنوات ونصف السنة.
شهد له العدو الصهيوني ببراعته وذكائه من خلال ما فعله من عملية تبادل معقدة التخطيط.
الشهادة في حي الزهراء
كان للشهيد جولات وصولات مع محاولات الاعتقال والاغتيال حتى وصل الأمر إلى كمين نصبته الوحدات الصهيونية الخاصة المتخفية بالزي المدني، حيث باغتته عقب مغادرته المشفى في "حي الزهراء" في جنين حيث كان يتلقى العلاج، وكان ذلك بتاريخ 13-7-2004 . ورد آنذاك من شهود العيان: "أن الوحدات الخاصة حاصرت طحاينة وأطلقت النار عليه مباشرة ومن جميع الاتجاهات مما أدى لاستشهاده وإصابة مرافقه". ويؤكد الشهود "أن قوات الاحتلال قصدت تصفية طحاينة حيث كان من الممكن اعتقاله، ولكنهم أصابوه بأكثر من عشرين عيارا ناريا".
وهكذا مضى الشهيد المجاهد إلى ربه ملبياً، بعد أن أدى واجبه الجهادي رغم قلة الإمكانات.
قالوا في الشهيد
الشيخ المربي هاني جرادات قال في الشهيد : "بدأت ألاحظ نعمان وهو لم يزل في بدايات فتوته أن بين يديه كتبا جديدة، ليست في مكتبة مسجدنا، فكنت أسأله من أين لك هذه الكتب ؟؟ فكان يقول: " اشتريتها من مكتبة السوق ، فكنت أساله ثانية: من أين لك ثمنها وهو ابن الرابعة عشر ؟؟ فكان يقول رحمة الله: " اشتريتها من مصروفي، وكان صادقا ً فيما يقول".
أما الشيخ الفاضل خالد جرادات فقال فيه : "عرفته صغيراً في رحاب المسجد ، ومنذ اللحظة الأولى لرؤيته كان يحمل كتاباً وكان يجلس في المسجد كثيراً، يقلب أوراق الكتاب ويدرس بصبر ، لم يكن الكتاب يفارقه حتى عندما خرجنا في رحلة للترفيه ، سألني ذات مرة مجموعة من الأسئلة العميقة والمتخصصة فأجبته بكل أمانة وصدق وصراحة بأنني لم أعد أستطيع مساعدته في هذا المجال لأن ثقافته ووعيه واطلاعه أصبح يفوق ما عندي بكثير".
بدوره تحدث أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية، البروفيسور عبد الستار قاسم ، فقال : " كنت ألاحظ قيادات كثيرة تهزأ من الآخرين وكأن أحدا لم يُخلق على شاكلتها، أما الشيخ نعمان فكان يدرك أن القيادة لا تؤتى إلا بالتواضع واحترام الآخرين، كان الشيخ ثروة إنسانية وجهادية كبيرة، وفي استشهاده كان لمسيرة الجهاد في فلسطين تأثر كبير ، لكن العزاء أن البلاد لا تنضب وروح الجهاد دائما تتجدد بنور الذين سبقوه".
من جهته قال أستاذ الفقة المقارن في جامعة النجاح الوطنية، د. ناصر الدين الشاعر: "أخي نعمان .. أجل لقد رحلت بجسدك ، مع الراحلين ، كي تبقى صورة حية بروحك وبمحياك ، ولا نملك لكم أيها الراحلون سوى الدعاء والتضرع إلى العلي القدير بأن تكون خاتمة ترحالكم إلى مستقر رحمته" .
كتب الشهيد نعمان طحاينة "القدس بحاجة إلينا "....
باستمرار يتحدّث الجميع عن قداسة القدس أرض المقدسات أولى القبلتين وثالث الحرمين البعض يوهمنا أو يكاد أنه لا ينام ولا يستيقظ, ولا يأكل ولا يشرب, لا يسكن أو يتحرك إلا بالقدس وللقدس.
وفيما يتماهى الجميع بالقدس في حالة عشق ووله على هذا النحو تتماهى القدس بحكم الوقائع الصهيونية المتوالية في "أورشليم" ونحن هنا لا نتحدّث عن موضوع "القدس" ذاته وما يُحيط به من مخاطر وإنما من موقع أن القدس في هذه الحالة كشّاف لا يُخطىء عن الواقع الفلسطيني الذي يُعاني من الإهتراء والتفكُّك والاختلاط في بعض أجزائه وقسماته.
فبعد قرار الحكومة الصهيونية المُتَعّلق بتوسيع حدود بلدية القدس انطلقت عدة نشاطات وفعاليات للتضامن مع القدس ولمواجهة عملية تهويد المدينة وتدمير الوجود العربي داخلها, لكن المُلفت للنظر أن بعض مسيرات التضامن لم يحتشد فيها سوى العشرات وأن هناك هناك إحجاماً على صعيد المُشاركة العامة في قضية بمثل هذه الخطورة والقداسة.
وفي الوقت الذي تشهد فيه العديد من المناسبات الحزبية والجماهيرية والرسمية حشوداً أعظم وأكبر بكثير من أولئك الذين تضامنوا مع "القدس" .. ولا يكتمل المشهد إلا إذا أضفنا له "قسمة" أُخرى تتجلى في بعض المهرجانات والاحتفالات الغنائية التي تشهد هي الأخرى حضوراً أضخم بكثير من ذلك الذي احتشد من أجل "القدس".!! هذا المشهد ربما كان مُحبطاً وداعياً لليأس للوهلة الأولى, لكن القراءة بهذه الحدود لا تعدو أن تكون وقوفاً عند السطح وهي قراءة ضد "الرؤية النهضوية", الأصح أن نحفر القاع لنكتشف "العوامل" ونضع أيدينا على "الجراح".
ونحن فيما يلي نفترض مجموعة من الاحتمالات كعوامل تفسر هذه الظاهرة وتجعلها مفهومة تماماً أو قريباً من ذلك فيما نظن أول احتمال يتداعى به المشهد إلى الأذهان يتجلّى من خلال المُفارقة الهائلة ما بين الاحتشاد الضخم الذي التف حول قضية بالتأكيد هي مهمة لكنها "قزمة"بجانب قضية بخطورة القدس وقداستها وما بين ذلك العدد الذي احتشد في العديد من المسيرات التضامنية مع القدس, هذا الخلل في الموازين, في المعايير .. في الأولويات وفي "جدول الأعمال الوطني والإسلامي" ربما كان هو الوجه الأول للمشهد المأساوي على الساحة الفلسطينية, وربما العربية والإسلامية بشكل عام لو أن عشرات الآلاف احتشدوا في سائر المدن من أجل القدس بالتأكيد أن احتشادهم كان سيُحدث أثراً أعمق بكثير وأعظم على المستوى الوطني والعربي والإسلامي لصالح النهضة والتحرر.
الاحتمال أعلاه يقودنا إلى احتمال آخر كعامل مُفسر للحالة الشخصية هو تغييُب "المشروع الوطني الجامع" والذي يمتلك القدرة على الإشعاع والجذب والتحريك.
حركة الواقع السياسي بتداعياتها فلسطينياً وعربياً ودولياً تكفلت بكشف "أوسلو" وعجزه عن أن يكون مشروعاً وطنياً بل ليس من قبيل المُبالغة الزعم بأن أوسلو ساهم في تفكيك العناصر التي كانت تحتشد في الواقع الفلسطيني أثناء الانتفاضة ليخرج من أحشائها مشروع نهضوي يمتلك الإشعاع والتحريك على المستوى الفلسطيني والعربي والإسلامي مُتجسّداً في حالة جهادية ونضالية عامّة ضد الوجود الصهيوني وباتجاه تطوير امكانات النهوض على الساحة الفلسطينية والعربية والإسلامية.
أصبح الإنسان الفلسطيني العادي يشعر بالعبثية واللاجدوى وربما كانت الأعداد القليلة من مسيرات التضامن تُعَبّر بشكل أو بآخر عن الحساسية العامة تجاه كل شيء يصدر عن جهات رسمية أو يبدو كذلك.
إذن, تغييُب المشروع الوطني الجامع بدد إمكانية ترتيب جد ولأعمال وطني جامع يحتشد من حوله الكل.
إذ أن نزع المُبادرة من يد الجماهير, مُحاصرة إمكانات المُشاركة الحرة لصالح بيع "الإلزام الفوقي" بشكل أو بآخر إضافة إلى إجواء القمع والتسلُّط تلعب دوراً حاسماً في إشاعة السلبية والفردية.
إن ثمة تناقضاً ما بين "الخيار الشعبي" بتوجهاته وأدواته وخيار أوسلو لا يمكن للخيار الشعبي أن تكون قاعدته "أوسلو" كذلك استدعت بعض أدوات أو إمكانات الخيار الأول لبثّ الحياة في جُثة الخَيار الثاني "أوسلو" يبدو أمراً يفتقد للمنطقين, بالإضافة إلى أنه أصبح محروقاً جماهيرياً, لا ستطيع الناس أن يضحوا ويُقدموا ثمناً باهظاً في سياق يختزل هذا العطاء إلى حدود الصفر بل ربما يحوله للسلب.
هناك أيضاً منظومة القيم الأخلاقية والوطنية وهذه المنظومة تعرضت للتفسُخ والتفكيك والإهتراء من خلال العطاء العملي والتطبيقي لاتفاقية "أوسلو".
فالقمع الفلسطيني الفلسطيني من خلال الاعتقالات في سجون السُلطة وغيرها من المظاهر, بالإضافة للفساد الإداري والمالي الذي استشرى إلى حد خيالي ثم هناك جملة التعريفات الجديدة التي أفرزها أوسلو للعديد من الظواهر الفلسطينية والنضالية والجهادية والتي هي في الأساس تعريفات صهيونية (خّذ مثلاً -ونحن نتحدّث عن القدس- وثيقة بيلين - أبو مازن, والتي أبو ديس مع مسرب إلى المسجد الأقصى بأنها القدس الفلسطينية ..!!
كل ذلك كان حتماً سيعمل على تدمير منظومة القيم الأخلاقية والوطنية ليحل مكانها جوّاً من الفوضى والعبث المأساوي ..!!
وفي هذا الصدد, ما معنى نجاح المهرجانات الغنائية في التحشيد أكثر من قضية القدس؟!
العمل التنظيمي والحزبي في الكثير من الاحيان أصبح بحاجة للتغذية بروحية "المشروع النهضوي العام" وليس الاستثمار السياسي والاجتماعي المحدود بآفاق حزبية.
أليس من المشروع أيضاً التساؤل حول سر تعاظم الاحتشاد في المناسبات الحزبية الخاصة عنه في القضايا العامة خاصة إذا كانت بمثل أهمية وخطورة قضية القدس ...!!
حالة العجز التي تعيشها منظمات العمل الأهلي (المدني) سواء القديم منا أو الحديث ومؤسساته هي أيضاً بحاجة إلى وقفة مُراجعة, ما سر محدودية دور المسجد, النقابات, الجامعة, الجمعيات الوطنية المُختلفة ... ألخ؟!
ربما كان بإمكان بعض العوامل المُشار إليها سابقاً أ تتُساعد على التفسير, مثلاً: غياب المشروع الوطني الجامع والمُشع, حالة القمع والتسلُّط تناقض برنامج أوسلو مع "الخيار الشعبي" قد نُضيف أن جدول أعمال بعض هذه المؤسسات والمُنظمات يخضع لتأثيرات أجنبية كذلك بعض هذه المؤسسات يخضع لعملية تهميش ومُحاصرة تحت ذرائع مختلف مثلا المسجد), يبقى القول أن هذه مُحاولة للتشخيص ووضع اليد على الجرح الذي ينز.
تعليق