في حديثٍ عن طائفةٍ من البشرِ .. عن الشهداء !
الحمدُ لله ثمَّ الحمدُ لله
الحمدُ للهِ القائل :
( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ
خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ
وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ )
و الصَّلاةُ و السَّلامُ على نَبيِّنا مُحَمَدٍ القائل :
" والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيدِه لَوَدِدْتُ أنْ أغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ فَأقْتَل ثُمَّ أغْزُو فَأقْتَل ثُمَّ أغْزُو فَأقْتَل "
عِنْدَ الحديثِ عن الشُّهَدَاءِ تمتزجُ المشَاعرُ بينَ فَرحٍ و تَرحٍ
الحديثُ عنهُم يجعلُكَ تَشْعُرُ بِما لا يُوصَفُ بِقَليلٍ مِنَ الكَلِماتِ
أولئكَ الشهداءُ .. مَثَلُهُم كَمَثَلِ النَّاسِ أجمعين
كانوا يأكلونَ و يشرَبُونَ .. يتنفسونَ .. يتنقلونَ
كانوا يضحكونَ و يبكونَ .. لم يكن الواحِدُ مِنْهُم بعشرةِ أيدي و أرجل
و لم يكن الواحِدُ منهُم يحملُ بينَ جَنْبَيهِ سبعَ أرواح
كانت تجري في عروقِهم دماء .. تماماً كما هُم جميعُ البشرِ !
كانوا بشراً كغيرهم .. فلماذا اصطفاهم ربُّهم دونَ غيرِهِم ؟!
لماذا شرَّفَهُم الله بهذهِ الدرجةِ الرفيعةِ و هذِهِ المكانةِ العظيمةِ ؟!
ببساطةٍ لأنَّهم جادوا بأغلى ما يمكلونَ و حمَلوا أرواحَهُم على أكفِّهِم
و ساروا في هذِهِ الدُّنيا الدَّنِية للهِ و في سبيلِ اللهِ
مَلَكُوا أنفسَهُم و هَانت عليهِم دُنياهُم
أقبَلت عليهِم بزُخرُفِها فأعرَضوا عنها حتَّى وُصِفُوا بأشنعِ الأوصافِ
و ما زادَهُم ذلكَ إلا صَبراً و يقيناً
أحدُهُم يحملُ شهاداتَ الدراساتِ العُليا و غيرَه يملكُ من المالِ مَا يملكه الملوك
فما الذي يدفعُ ذلكَ إلى تفجيرِ نفسِه و الآخرَ للهجرةِ إلى الجبالِ ؟!
ما الذي يدفعُ طبيباً ناجحاً يملكُ مالاً و بنيناً و زوجاً حسناء
إلى أن يخوضَ الصِّعابَ و يهجرَ الأهلَ و الأحبابَ و الأقرانَ و الأصحابَ ..
ليفجِّرَ نفسَه بحزامٍ ناسفٍ مُصَنَّع بمادةِ الـ c4 شديدة الانفجار !
و ما الذي يحملُ مهندساً كانَ يعيشُ في أعظمِ دولِ أوروبا
على الانتقال من بلدٍ إلى آخر و من مكانٍ إلى مكانٍ حتى
ينهي حياتَه الدُّنيا بطائرةٍ مَدنيةٍ يصدِمُها ببرجِ التجارةِ العالمي ؟!
هل هُم أولئِكَ الجهلةَ المتخلفين الذينَ تحُدِّثنَا عَنْهُم أمريكا ؟ هل هُم أولئك فعلاً ؟!
هل هُم أولئك الذينَ ضَاقَت بهم الدُّنيا فَفَروا مِنَ حَياةِ البُؤسِ ليقتُلُوا أنفسَهم ؟!
لا شَكَّ بأنَّه ما مِنْ عاقلٍ يتركُ حياةَ السَّعة إلا لحياةٍ أكثرَ دَعَة
أولئك الشهداء .. وحدُهم مَنْ سعَوا لمرادِهِم بصدقٍ .. و صَدَقوا الله فصدَقَهُم الله
مضى أولئكَ الأبطال .. الفرقُ بينَنَا و بينَهُم
أنَّهم قامُوا يومَ أنْ قَعَدْنا و نَفَروا يومَ أنْ تخاذَلنا
يمضي الواحدُ مِنْهُم رَافعَ الرأسَ ، عزيزَ النَّفْسَ
حراً أبياً .. لم يرضَ في دينِهِ الدَّنِيَة
يقهرُ الواحدُ مِنْهُم نَفسَه و يُربِيها على الطاعةِ
يُربيها على الِعفَّةِ .. يُربيها على العِزَّةِ .. على الإبِاءِ
ربَّوا نفوسَهُم و علَّمُوها ألا تَرضَى بالدُّونِ و ألا تقنعَ
بما دونِ النجومِ .. هُنا لم يكونوا كغيرِهِم مِنَ البَشَرِ
لم يرضَوا بالقليلِ الدَّنيء في هذهِ الدُّنيا الفانيةِ
لم يصدَّهُم خوفٌ ولا جبنٌ كالكثيرِ مِنَ البَشَرِ
و صَدَقَ الشَّاعِرُ حينَ قالَ :
حبُّ الجبانِ النَّفْسَ أورَدَهُ البَقا * وحبُّ الشُّجاعِ الحربَ أورَدَهُ الحَربَ
وما الفرقُ ما بينَ الأنامِ وبينَه * إذا حذِرَ المحذورَ واستَصْعَبَ الصَّعبَ
هُنا الفرق ..
لم يستصعبوا صعباً
و لم يحذروا محذوراً
فتحَ الله عَليهِم فخاضُوا غِمَارَ الحربِ
و أخذوا بثأرِ المُستَضْعَفِينَ في الأرضِ
فَحَيَّروا سَادَةَ الأمريكانِ و قادَتهم
و زُعَماءَ اليَهودِ و حاخاماتهم
و أطاشوا عقولهَم و شتَّتُوا أفهَامَهُم
أثخنوا فيهِم أيَّما إثخان
فقتلوا رجالهَم
و دمَّروا بنيانهم
و استنزفوا أموالهَم
و شتتوا شملَهُم
و أذلُّوا كبرياءَهُم
مضى أولئكَ الأبطال بإصرارٍ و حزمٍ و إباءٍ
فكانَ حقاً لهم أن تخلَّدَ سيَرَهُم في سيِّر أعلامِ النُّبَلاءِ
طلبوا الموتَ رغبةً في الحياةِ
و امتَشَقوا أسلحَتَهُم رغبةً في النَّجاةِ
و هبَّوا صفوفاً ليوثاً أباة
علموا أنَّها ميتة واحدة فاختاروا لأنفسِهم ميتةً شريفةً عزيزةً
لم يرضَوا لأنفسِهِم موتَ الضُّعفاءِ فعَزَمُوا ألا يموتُوا إلا شهداءَ
مضَوا و لسانُ حالهِم يقولُ :
دَعُوني في الحُروبِ أمُتْ عزيزاً * فَمَوتُ العِزِّ خَيْرٌ مِنْ حَياتِي
إنَّ أولئكَ الأبطال علَّموا البَشَريةَ دُروساً عَمَليةً عظيمةً في كيفيةِ انتزاعِ الحرِيَّة
فالحرِيَّةُ لا تُوهَبُ ولا تُعطَى منَّة ، إنَّما تُنتَزعُ انتزاعاً و لا تُرتَجى من المجتمعاتِ الدّولية !
أثبتوا للعالمِ أنَّ أُسْدَ الشَّرى لم يخنسوا و لم يضعفوا
يومَ أنْ وقفوا سَداً مَنيعاً في وجهِ البَاطلِ
و غيرُهم لم تحملْهُم أقدَامُهُم مِنْ شِدَّةِ الوقعِ الهائلِ
وقفوا رغمَ هولِ المصيبةِ
و الشُبهات العجيبةِ الرهيبةِ
فتحَدَوا بثباتِهم خُنوعَ الخانعين و فَتَاوَى عُلماءِ السَّلاطينِ
رجالٌ رجال .. ولا أشباهَ رجال
تواثقوا و تعاهدوا و عاهدوا ربَّهم أن ينصرُوا دِينَه أو يهلَكُوا دونَه
لاطمُوا بوجوهِهِم أمواجَ الشَّر و جيوشَ الكُفر
أعظَموا حقَّ الله في قلوبهِم
و رُزِقوا التوحيدَ ، و مَن رُزِقَ التوحيدَ تميدُ الجبالُ الرواسي و لا يميد
أعظَمُوا حقَّ اللهِ في قلوبهِم
فزالت من أذهانِهم أسطورةُ الدّولِ العُظمى
و أكذُوبَةُ القوى العالميةِ
و سَرَابُ الهَيمنةِ الغَربِيةِ
فأشعَلوا فتيلَ الجِهَادِ و عَزَمُوا على الاستشهادِ
و فَجَّروا طاقاتهم و أشعلوا النيرانَ في ساحاتهِم
و جَعلوا الأرضَ تغلي من تحتِ أقدامِ أعدائِهِم
لم يكونوا كغيرِهِم من البَشَرِ
يومَ أنْ فرَّ النَّاسُ مِنَ الموتِ
و طَاردُوا هُم الموتَ في كلِّ محفل
ركِبُوا الأخطارَ و الأهوالَ مِن أجلِ تِلكَ اللَّحظةِ
حِينَ يَسقط الواحدُ مِنْهُم مُجَندَلاً في سَبِيلِ الله
تلكَ اللَّحظة التي لطالما ترَّقَبُوهَا
و عَمِلُوا ليلَ نهار مِن أجلِها
و صدَّقوا القولَ بالأفعالِ مِن أجلِ مَنالِها
تلكَ اللحظة و تلكَ اللحظة فقط
هيَ التي يكسَبُ بها الإنسانُ ذلكَ الشرفَ الرفيعَ
الذي لا ينالَهُ كلُّ أحدٍ !
تلكَ اللحظة التي يَبْلغُ بِها الإنسانُ منازِلاً
لا ينالهُا كلُّ ساعٍ و طالب !
و صَدَقَ المولى إذ قَالَ :
" وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ "
يقولُ أبو يَحْيَى اللِّيبي حَفِظَهُ الله و رَعَاه :
إنَّها منزلةُ الشهادةِ ،
وسامُ عزٍ ،
و لقَبُ فَخْرٍ ،
و حَياةُ رَغَدٍ ،
و بُشرى مِنَ الله .
و يقولُ حَفِظَهُ الله :
" إنَّها شَهادةٌ لا تُنَالُ في قَاعَاتِ الجَامِعاتِ ، ولا على كَرَاسيِّ المَدارِس ، و إنَّما تُطلَبُ
في ساحاتِ النِّزالِ و مَعَامِعِ القِتالِ وعِندَ مُجالَدَةِ الرِّجالِ و مُصَاوَلِةِ الأبطالِ ، و تحتَ
ظِلالِ السُّيوفِ وتَقَابُلِ الزُّحُوفِ "
أولئكَ الأبطال
آمِنُونَ في نُفوسِهم
لا مكانَ لمَخَافَةِ البَشَر في قلوبِهم
فلقد امتَلأت قلوبُهُم خوفاً مِنَ اللهِ و رغبةً في رَحمَتِه
أمِنُوا رغمَ القَتْل و القتال
و نزيفُ الدِّماء و تقطُّع الأوصال
و خافَ غيرُهُم رغمَ كَثرَةِ العَدَدِ
و زيادةٍ في المالِ و الولدِ
فرِحُوا و اطمَأَنَت قلوبُهم برغمِ ظُلمَةِ اللَّيلِ البَهِيمِ
و الجِسمِ السَّقيمِ و الفِرَاقِ الأليمِ و حَزِنَ غَيرَهُم
رغمَ سَعَةِ الحَيَاةِ و كَثْرَةِ النَّعِيمِ !
سَرَت في أوصَالِهِم حَياةُ الإيمانِ
فمَا عَادوا يأبهُونَ بِظُلمٍ وَ عُدوان
و لا مَكَانَ في قلوبِهِم للخوفِ مِنَ الشَّيطانِ
تَنَافَسُوا عَلى المَوتِ في سَبيلِ اللهِ
و تَنَافَسَ غيرُهُم عَلى الحَياةِ في سَبِيلِ الشَّيطَانِ
سَمِعوا قولَ نبي الجهادِ عَلَيهِ الصَّلاة والسَّلام :
" إنَّ في الجَّنةِ مائةَ دَرَجَة أعدَّهَا الله للمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، مَا بَينَ الدَّرَجَتَينِ
كمَا بَينَ السَّمَاءِ و الأرض ، فإذا سألتُم الله فَسَلُوهُ الفِردَوسَ فإنَّه أوسَطُ الجنَّة
و أعلى الجنَّة و فَوقَه عَرشُ الرَّحمنِ ، و مِنهُ تفجَّرُ أنهارُ الجنَّة "
فَطَمِعُوا بما عِندَ اللهِ مِن نَعِيمٍ مُقِيمٍ
أعَدَّهُ الله لعبادِهِ المجاهِدِينَ في سَبيلِ رَفعِ كَلَمةِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ
فَخَاضُوا الذي خَاضُوا بِعزمٍ و هِمَّةٍ * و أرْوَاحهُم في جَنَّةِ الخُلدِ تَسرَحُ
فَهَانَ عَلَيهِم بَذلُها يَومَ بَيعِها * فَرُضَوانُ رَبِّ العَرْشِ أغلَى و أربَحُ
لم يأبهوا بما قِيلَ عَنْهُم و كُتبَ فيهِم مِن تَشْهِيرٍ و تَسْعِير
و لم يبالِ أحدُهُم بالطَّعْنِ و التَّنْفيرِ مِن دِينِ الإلَهِ العَزِيزِ القَدِير
فَسَارُوا مُعْتَجِلينَ الخُطَا كَمَسِيرِ أهْلِ الحُبِّ للِمِيعَادِ
ليَحُطُّوا رِكَابهم في نهَايةِ المَطافِ في هَذِه الحياةِ الدُّنيا
و ترتقي نفوسُهُم إلى مَا كَانَوا إليهِ يَسْعَونَ و إلى نَعِيمِهِ يَتَطَلَّعُونَ
و في خُلدِهِ يَرغَبُونَ و في سبِيلِهِ يُجاهِدُونَ و يَعْمَلُونَ !
أولئكَ الشُّهَداء
عاشوا للهِ و في سَبِيلِ اللهِ
و مَاتُوا لله و في سَبِيلِ اللهِ
هَنيئاً يا شهيدُ جِوارَ ربٍ * كريمٍ منعمٍ أنعِم جوارَ
تَقَلَّب في جنانِ الخلدِ و انعَم * معَ الشُّهداءِ و الصَّحبِ الكِرامِ
و غَرِّد عَذبَ صَوتِكَ للحَوارِي * و نادِهِنَّ هيَّا للمقامِ
فَقَد حَانَ ارتِياحُكَ يا شَهِيدُ * أتَتْكَ الحُورُ خَجْلَى وهيَ تَرنُو
بِطَرفٍ نَاعِسٍ شَعَتْ ضَياءَ * دَنَتْ هَمَسَتْ و قَالَت عِيلَ صَبْري
فَقَد ذَابَ الهَوى فِيكَ اشتِهَاءَ * ليَهْنَا الحُورَ عُرسُكَ يا شَهِيدُ
فَهَنِيئاً لهم والله
ثمَّ هَنِيئاً لهم والله
الحَدِيثُ عَن أولئكَ الأبطال لا يَنتَهي و لَو أنَّكَ تَركْتَ لِقَلَمِكَ أن يَبُوح بكلِّ شيء لما اكتفى
بِكتَابٍ أو حَتَّى بمجَلدَات !
وَ كَتَبَ /
مُسْلِمُ شَنْغَهَاي
فجر يوم الخميس _ الرابع عشر من ذي الحجة
لـ عام ألف و ربعمائة و اثنين و ثلاثين هجرية
الحمدُ لله ثمَّ الحمدُ لله
الحمدُ للهِ القائل :
( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ
خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ
وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ )
و الصَّلاةُ و السَّلامُ على نَبيِّنا مُحَمَدٍ القائل :
" والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيدِه لَوَدِدْتُ أنْ أغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ فَأقْتَل ثُمَّ أغْزُو فَأقْتَل ثُمَّ أغْزُو فَأقْتَل "
عِنْدَ الحديثِ عن الشُّهَدَاءِ تمتزجُ المشَاعرُ بينَ فَرحٍ و تَرحٍ
الحديثُ عنهُم يجعلُكَ تَشْعُرُ بِما لا يُوصَفُ بِقَليلٍ مِنَ الكَلِماتِ
أولئكَ الشهداءُ .. مَثَلُهُم كَمَثَلِ النَّاسِ أجمعين
كانوا يأكلونَ و يشرَبُونَ .. يتنفسونَ .. يتنقلونَ
كانوا يضحكونَ و يبكونَ .. لم يكن الواحِدُ مِنْهُم بعشرةِ أيدي و أرجل
و لم يكن الواحِدُ منهُم يحملُ بينَ جَنْبَيهِ سبعَ أرواح
كانت تجري في عروقِهم دماء .. تماماً كما هُم جميعُ البشرِ !
كانوا بشراً كغيرهم .. فلماذا اصطفاهم ربُّهم دونَ غيرِهِم ؟!
لماذا شرَّفَهُم الله بهذهِ الدرجةِ الرفيعةِ و هذِهِ المكانةِ العظيمةِ ؟!
ببساطةٍ لأنَّهم جادوا بأغلى ما يمكلونَ و حمَلوا أرواحَهُم على أكفِّهِم
و ساروا في هذِهِ الدُّنيا الدَّنِية للهِ و في سبيلِ اللهِ
مَلَكُوا أنفسَهُم و هَانت عليهِم دُنياهُم
أقبَلت عليهِم بزُخرُفِها فأعرَضوا عنها حتَّى وُصِفُوا بأشنعِ الأوصافِ
و ما زادَهُم ذلكَ إلا صَبراً و يقيناً
أحدُهُم يحملُ شهاداتَ الدراساتِ العُليا و غيرَه يملكُ من المالِ مَا يملكه الملوك
فما الذي يدفعُ ذلكَ إلى تفجيرِ نفسِه و الآخرَ للهجرةِ إلى الجبالِ ؟!
ما الذي يدفعُ طبيباً ناجحاً يملكُ مالاً و بنيناً و زوجاً حسناء
إلى أن يخوضَ الصِّعابَ و يهجرَ الأهلَ و الأحبابَ و الأقرانَ و الأصحابَ ..
ليفجِّرَ نفسَه بحزامٍ ناسفٍ مُصَنَّع بمادةِ الـ c4 شديدة الانفجار !
و ما الذي يحملُ مهندساً كانَ يعيشُ في أعظمِ دولِ أوروبا
على الانتقال من بلدٍ إلى آخر و من مكانٍ إلى مكانٍ حتى
ينهي حياتَه الدُّنيا بطائرةٍ مَدنيةٍ يصدِمُها ببرجِ التجارةِ العالمي ؟!
هل هُم أولئِكَ الجهلةَ المتخلفين الذينَ تحُدِّثنَا عَنْهُم أمريكا ؟ هل هُم أولئك فعلاً ؟!
هل هُم أولئك الذينَ ضَاقَت بهم الدُّنيا فَفَروا مِنَ حَياةِ البُؤسِ ليقتُلُوا أنفسَهم ؟!
لا شَكَّ بأنَّه ما مِنْ عاقلٍ يتركُ حياةَ السَّعة إلا لحياةٍ أكثرَ دَعَة
أولئك الشهداء .. وحدُهم مَنْ سعَوا لمرادِهِم بصدقٍ .. و صَدَقوا الله فصدَقَهُم الله
مضى أولئكَ الأبطال .. الفرقُ بينَنَا و بينَهُم
أنَّهم قامُوا يومَ أنْ قَعَدْنا و نَفَروا يومَ أنْ تخاذَلنا
يمضي الواحدُ مِنْهُم رَافعَ الرأسَ ، عزيزَ النَّفْسَ
حراً أبياً .. لم يرضَ في دينِهِ الدَّنِيَة
يقهرُ الواحدُ مِنْهُم نَفسَه و يُربِيها على الطاعةِ
يُربيها على الِعفَّةِ .. يُربيها على العِزَّةِ .. على الإبِاءِ
ربَّوا نفوسَهُم و علَّمُوها ألا تَرضَى بالدُّونِ و ألا تقنعَ
بما دونِ النجومِ .. هُنا لم يكونوا كغيرِهِم مِنَ البَشَرِ
لم يرضَوا بالقليلِ الدَّنيء في هذهِ الدُّنيا الفانيةِ
لم يصدَّهُم خوفٌ ولا جبنٌ كالكثيرِ مِنَ البَشَرِ
و صَدَقَ الشَّاعِرُ حينَ قالَ :
حبُّ الجبانِ النَّفْسَ أورَدَهُ البَقا * وحبُّ الشُّجاعِ الحربَ أورَدَهُ الحَربَ
وما الفرقُ ما بينَ الأنامِ وبينَه * إذا حذِرَ المحذورَ واستَصْعَبَ الصَّعبَ
هُنا الفرق ..
لم يستصعبوا صعباً
و لم يحذروا محذوراً
فتحَ الله عَليهِم فخاضُوا غِمَارَ الحربِ
و أخذوا بثأرِ المُستَضْعَفِينَ في الأرضِ
فَحَيَّروا سَادَةَ الأمريكانِ و قادَتهم
و زُعَماءَ اليَهودِ و حاخاماتهم
و أطاشوا عقولهَم و شتَّتُوا أفهَامَهُم
أثخنوا فيهِم أيَّما إثخان
فقتلوا رجالهَم
و دمَّروا بنيانهم
و استنزفوا أموالهَم
و شتتوا شملَهُم
و أذلُّوا كبرياءَهُم
مضى أولئكَ الأبطال بإصرارٍ و حزمٍ و إباءٍ
فكانَ حقاً لهم أن تخلَّدَ سيَرَهُم في سيِّر أعلامِ النُّبَلاءِ
طلبوا الموتَ رغبةً في الحياةِ
و امتَشَقوا أسلحَتَهُم رغبةً في النَّجاةِ
و هبَّوا صفوفاً ليوثاً أباة
علموا أنَّها ميتة واحدة فاختاروا لأنفسِهم ميتةً شريفةً عزيزةً
لم يرضَوا لأنفسِهِم موتَ الضُّعفاءِ فعَزَمُوا ألا يموتُوا إلا شهداءَ
مضَوا و لسانُ حالهِم يقولُ :
دَعُوني في الحُروبِ أمُتْ عزيزاً * فَمَوتُ العِزِّ خَيْرٌ مِنْ حَياتِي
إنَّ أولئكَ الأبطال علَّموا البَشَريةَ دُروساً عَمَليةً عظيمةً في كيفيةِ انتزاعِ الحرِيَّة
فالحرِيَّةُ لا تُوهَبُ ولا تُعطَى منَّة ، إنَّما تُنتَزعُ انتزاعاً و لا تُرتَجى من المجتمعاتِ الدّولية !
أثبتوا للعالمِ أنَّ أُسْدَ الشَّرى لم يخنسوا و لم يضعفوا
يومَ أنْ وقفوا سَداً مَنيعاً في وجهِ البَاطلِ
و غيرُهم لم تحملْهُم أقدَامُهُم مِنْ شِدَّةِ الوقعِ الهائلِ
وقفوا رغمَ هولِ المصيبةِ
و الشُبهات العجيبةِ الرهيبةِ
فتحَدَوا بثباتِهم خُنوعَ الخانعين و فَتَاوَى عُلماءِ السَّلاطينِ
رجالٌ رجال .. ولا أشباهَ رجال
تواثقوا و تعاهدوا و عاهدوا ربَّهم أن ينصرُوا دِينَه أو يهلَكُوا دونَه
لاطمُوا بوجوهِهِم أمواجَ الشَّر و جيوشَ الكُفر
أعظَموا حقَّ الله في قلوبهِم
و رُزِقوا التوحيدَ ، و مَن رُزِقَ التوحيدَ تميدُ الجبالُ الرواسي و لا يميد
أعظَمُوا حقَّ اللهِ في قلوبهِم
فزالت من أذهانِهم أسطورةُ الدّولِ العُظمى
و أكذُوبَةُ القوى العالميةِ
و سَرَابُ الهَيمنةِ الغَربِيةِ
فأشعَلوا فتيلَ الجِهَادِ و عَزَمُوا على الاستشهادِ
و فَجَّروا طاقاتهم و أشعلوا النيرانَ في ساحاتهِم
و جَعلوا الأرضَ تغلي من تحتِ أقدامِ أعدائِهِم
لم يكونوا كغيرِهِم من البَشَرِ
يومَ أنْ فرَّ النَّاسُ مِنَ الموتِ
و طَاردُوا هُم الموتَ في كلِّ محفل
ركِبُوا الأخطارَ و الأهوالَ مِن أجلِ تِلكَ اللَّحظةِ
حِينَ يَسقط الواحدُ مِنْهُم مُجَندَلاً في سَبِيلِ الله
تلكَ اللَّحظة التي لطالما ترَّقَبُوهَا
و عَمِلُوا ليلَ نهار مِن أجلِها
و صدَّقوا القولَ بالأفعالِ مِن أجلِ مَنالِها
تلكَ اللحظة و تلكَ اللحظة فقط
هيَ التي يكسَبُ بها الإنسانُ ذلكَ الشرفَ الرفيعَ
الذي لا ينالَهُ كلُّ أحدٍ !
تلكَ اللحظة التي يَبْلغُ بِها الإنسانُ منازِلاً
لا ينالهُا كلُّ ساعٍ و طالب !
و صَدَقَ المولى إذ قَالَ :
" وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ "
يقولُ أبو يَحْيَى اللِّيبي حَفِظَهُ الله و رَعَاه :
إنَّها منزلةُ الشهادةِ ،
وسامُ عزٍ ،
و لقَبُ فَخْرٍ ،
و حَياةُ رَغَدٍ ،
و بُشرى مِنَ الله .
و يقولُ حَفِظَهُ الله :
" إنَّها شَهادةٌ لا تُنَالُ في قَاعَاتِ الجَامِعاتِ ، ولا على كَرَاسيِّ المَدارِس ، و إنَّما تُطلَبُ
في ساحاتِ النِّزالِ و مَعَامِعِ القِتالِ وعِندَ مُجالَدَةِ الرِّجالِ و مُصَاوَلِةِ الأبطالِ ، و تحتَ
ظِلالِ السُّيوفِ وتَقَابُلِ الزُّحُوفِ "
أولئكَ الأبطال
آمِنُونَ في نُفوسِهم
لا مكانَ لمَخَافَةِ البَشَر في قلوبِهم
فلقد امتَلأت قلوبُهُم خوفاً مِنَ اللهِ و رغبةً في رَحمَتِه
أمِنُوا رغمَ القَتْل و القتال
و نزيفُ الدِّماء و تقطُّع الأوصال
و خافَ غيرُهُم رغمَ كَثرَةِ العَدَدِ
و زيادةٍ في المالِ و الولدِ
فرِحُوا و اطمَأَنَت قلوبُهم برغمِ ظُلمَةِ اللَّيلِ البَهِيمِ
و الجِسمِ السَّقيمِ و الفِرَاقِ الأليمِ و حَزِنَ غَيرَهُم
رغمَ سَعَةِ الحَيَاةِ و كَثْرَةِ النَّعِيمِ !
سَرَت في أوصَالِهِم حَياةُ الإيمانِ
فمَا عَادوا يأبهُونَ بِظُلمٍ وَ عُدوان
و لا مَكَانَ في قلوبِهِم للخوفِ مِنَ الشَّيطانِ
تَنَافَسُوا عَلى المَوتِ في سَبيلِ اللهِ
و تَنَافَسَ غيرُهُم عَلى الحَياةِ في سَبِيلِ الشَّيطَانِ
سَمِعوا قولَ نبي الجهادِ عَلَيهِ الصَّلاة والسَّلام :
" إنَّ في الجَّنةِ مائةَ دَرَجَة أعدَّهَا الله للمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، مَا بَينَ الدَّرَجَتَينِ
كمَا بَينَ السَّمَاءِ و الأرض ، فإذا سألتُم الله فَسَلُوهُ الفِردَوسَ فإنَّه أوسَطُ الجنَّة
و أعلى الجنَّة و فَوقَه عَرشُ الرَّحمنِ ، و مِنهُ تفجَّرُ أنهارُ الجنَّة "
فَطَمِعُوا بما عِندَ اللهِ مِن نَعِيمٍ مُقِيمٍ
أعَدَّهُ الله لعبادِهِ المجاهِدِينَ في سَبيلِ رَفعِ كَلَمةِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ
فَخَاضُوا الذي خَاضُوا بِعزمٍ و هِمَّةٍ * و أرْوَاحهُم في جَنَّةِ الخُلدِ تَسرَحُ
فَهَانَ عَلَيهِم بَذلُها يَومَ بَيعِها * فَرُضَوانُ رَبِّ العَرْشِ أغلَى و أربَحُ
لم يأبهوا بما قِيلَ عَنْهُم و كُتبَ فيهِم مِن تَشْهِيرٍ و تَسْعِير
و لم يبالِ أحدُهُم بالطَّعْنِ و التَّنْفيرِ مِن دِينِ الإلَهِ العَزِيزِ القَدِير
فَسَارُوا مُعْتَجِلينَ الخُطَا كَمَسِيرِ أهْلِ الحُبِّ للِمِيعَادِ
ليَحُطُّوا رِكَابهم في نهَايةِ المَطافِ في هَذِه الحياةِ الدُّنيا
و ترتقي نفوسُهُم إلى مَا كَانَوا إليهِ يَسْعَونَ و إلى نَعِيمِهِ يَتَطَلَّعُونَ
و في خُلدِهِ يَرغَبُونَ و في سبِيلِهِ يُجاهِدُونَ و يَعْمَلُونَ !
أولئكَ الشُّهَداء
عاشوا للهِ و في سَبِيلِ اللهِ
و مَاتُوا لله و في سَبِيلِ اللهِ
هَنيئاً يا شهيدُ جِوارَ ربٍ * كريمٍ منعمٍ أنعِم جوارَ
تَقَلَّب في جنانِ الخلدِ و انعَم * معَ الشُّهداءِ و الصَّحبِ الكِرامِ
و غَرِّد عَذبَ صَوتِكَ للحَوارِي * و نادِهِنَّ هيَّا للمقامِ
فَقَد حَانَ ارتِياحُكَ يا شَهِيدُ * أتَتْكَ الحُورُ خَجْلَى وهيَ تَرنُو
بِطَرفٍ نَاعِسٍ شَعَتْ ضَياءَ * دَنَتْ هَمَسَتْ و قَالَت عِيلَ صَبْري
فَقَد ذَابَ الهَوى فِيكَ اشتِهَاءَ * ليَهْنَا الحُورَ عُرسُكَ يا شَهِيدُ
فَهَنِيئاً لهم والله
ثمَّ هَنِيئاً لهم والله
الحَدِيثُ عَن أولئكَ الأبطال لا يَنتَهي و لَو أنَّكَ تَركْتَ لِقَلَمِكَ أن يَبُوح بكلِّ شيء لما اكتفى
بِكتَابٍ أو حَتَّى بمجَلدَات !
وَ كَتَبَ /
مُسْلِمُ شَنْغَهَاي
فجر يوم الخميس _ الرابع عشر من ذي الحجة
لـ عام ألف و ربعمائة و اثنين و ثلاثين هجرية
تعليق