ولد شهيدنا عرفات طلال أبو كويك في مدينة غزة في 28/2/1979م وبلدته الأصلية " اللد " التي هجر عنها آباؤه وأجداده عام 1948م فلم يتسّن له إلا أن يضع هذه المدينة في قلبه ،لأنه لا يستطيع أن يذهب إليها ولو لمرّة واحدة بسبب سياسة العدو. و منذ بداية نشأته ونعومة أظافره تربى في المساجد تربى على تلاوة وحفظ القرآن الكريم ، كان هادئاً خجولاً حتى نما هذا الطفل بين إخوانه وأصدقائه في المسجد الغربي وتعلّق حبه للجهاد في سبيل الله .
التواق للشهادة
لقد كان كثير الصوم ،كثيراً ما يقوم الليل ،كان يصلّي الضحى ،وكان ينصت باهتمام للدعاة والشيوخ ، وكان يحرص على أن يصلّي الفجر جماعة في المسجد ، فكان كلّما صحا من النوم متأخراً عن صلاة الفجر يقبّح نفسه ،لأنه أضاع فرضاً من فروض الله. و كان شهيدنا المجاهد عرفات يحب إخوانه كثيراً في الحركة ،وكان يزداد حبّه حين يسمع عن عملية بطولية للسرايا و يتمنى أن يكون هو منفذ العملية في كل العمليات.
هؤلاء هم الأبطال يتمنون الشهادة في كل لحظة ، يتسللون إلى المواقع لتنفيذ عمليات ضد اليهود و لا ينامون الليل حتى ينام الشعب. هذا الطفل البريء ،هذا الشبل الجريء ،هذا الشاب الشجاع ،هذا الرجل المتمسك بدين الله ،هذا الشيخ المتواضع ابن الأسرة المتواضعة ، هذا الشاب الخلوق قد تخرّج من بين هؤلاء الأخوة ليقول لهم: إنكم تمنيتم أن تعيشوا في بيت جميل وكبير… هاأنا اليوم أحقق لكم أمنيتكم ،سآخذكم معي إلى ذاك البيت الواسع الفسيح الجميل الذي فيه ما تشتهي الأنفس ،إنّها الجنّة وما أدراكم ما الجنة ،سأتشفّع لكم وأدخلكم معي في الجنّة.
نعم يا عرفات لقد نشأت في ذلك البيت المتواضع وفي تلك الأسرة المتواضعة، تربيت على الأخلاق الحميدة ،والصّفات الحسنة ،كنت عطوفاً على الصغار تلاعب أبناء حارتك الصغار وتشتري لهم الحلوى ،حتى أنهم حزنوا على فراقك الذي أحزن الجميع.
كان هذا الشاب يساعد أمه في أعمال البيت ،فكان يطبخ ويجلي وينظف في البيت ،كان يذهب إلى الجامعة يتعلّم ،ثم يعود إلى البيت فيرتاح قليلاً ،ثمّ يذهب إلى العمل ، وبعدما يرجع من العمل ،كان يناقش أخوته الصغار في أمور الدين ،وكان يسألهم عن الصلاة والعبادات ، ثمّ يذهب إلى المسجد يصلي ويتعبّد لله ،ثمّ يجلس مع أصدقائه علي وعماد ووسام ورامي وحمادة وأبو يحيى.
كان حتى رحيما بالحيوانات فكان يربي القطط ويشربها ويطعمها ،حتى إنه كانت هناك قطة بيضاء شديدة البياض ،كانت قد لاحقته يوم استشهاده وهو ذاهب إلى صلاة الفجر وصلّت بجانبه ،وبعدما استشهد البطل حضرت هذه القطة في بيت العزاء لمدة ثلاث أيام جالسة على كرسي لا تأكل ولا تشرب حزينة على البطل.
هذا الشاب ذو الخط الحسن لم يترك بيتاً في حارته إلا وفيها لوحة من لوحاته الجذابة أو عملا من أعماله البارعة . و كان هذا الشاب في الابتدائية من المتفوقين وكذلك في الإعدادية والثانوية العامة ،لم يكن معه نقوداً لكي يكمل تعليمه فبحث الشهيد عن عمل يجعله يكمل تعليمه … فعمل مع والده في القصارة ،وعمل في الكهرباء مع عمه تيسير الذي يروي ويقول عنه:(لقد كان ابن أخي عرفات أثناء عمله معي لا يردد على لسانه إلا ذكر الله وكان يعمل بنشاط وهمة زائدة) ،وعمل في تركيب الأقمار الصناعية والهوّايات مع أخيه عامر الذي يقول:(من يركّب لي الهوايات من بعد اليوم، لقد كان الشهيد مصدر رزقي) .. وعمل في أمور متعددة حتى يجلب قوت أهله ويكمل تعليمه.
لقد كان لهذا الشهيد أثر كبير في تربية أخوته الصغار وتعليمهم القرآن ومرافقتهم إلى المساجد ، لقد كان هذا الشهيد بمثابة أب لأخوته فكان يشتري لهم الطعام ،ويشتري لهم الملابس ،وكان يعلمهم ،وكان شديد الاهتمام بهم على تحفيظهم القرآن الكريم ،حتى إنه ذكر في الوصية أن يحلّ أخوته الكبار محله في تربية وتعليم أخوته الصغار.
تربية جهادية و صحبة للشهداء
لقد تربّى الشهيد عرفات في أحضان حركة الجهاد الإسلامي ، وكان أميرا للجماعة الإسلامية الإطار الطلابي لحركة الجهاد في جامعة الأقصى وكان صديقاً لعدد من الشهداء من بينهم الشهيد القائد حازم ارحيم ومحمود جودة وعلي سمور ورامي المعصوابي رحمهم الله . .
لقد كان الشهيد عرفات ابن الجهاد الإسلامي واحداً من آلاف المتشوّقين للشهادة ،لقد لعب الشهيد عرفات دوراً كبيراً في الانتفاضة فكان ينتظر الجنود في شوق لكي يرمي عليهم الحجارة ،وهو على يقين بأنّ الحجر لا يجدي أي نفع أمام السلاح الصهيوني المطوّر ،ولكن ليعلن للعالم أجمع بأنّ شعب فلسطين إن لم يكن يملك السلاح ،فإنّه يملك الحجر الذي يزرع الخوف في صفوف اليهود.
الشهادة
كان الشهيد عرفات يُصلّي في المسجد الغربي ، ولكن قبل استشهاده بأسبوع بات غريباً عن المسجد ، فأصبح يصلي في مسجد آخر ،حتّى لا يشعر أصدقاؤه بالفرقة بعد استشهاده ،ولكن أخوته علاء وعامرا لاحظوا عليه ذلك ،ولكن هل يمنعوه عن الشهادة التي بات ينتظرها طوال حياته ،وهل يقدروا أن يمنعوها شاباً يريد أن يموت . كانوا على علم وعلى يقين بأن الشهيد ليس بميّت ،بل هو حيّ يُرزق عند الله،يقول الله تعالى في محكم التنزيل: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ).
في صباح يوم الاثنين 14/5/2001م ، اغتسل الشهيد وتوضّأ ،وذهب إلى المسجد هو وصديقه وهو صائم ، لاحظا قطّة بيضاء تلاحقهم ،وكأنّها تعرف أن هذا اليوم هو يوم الرحيل ،فلاحقتهما إلى المسجد وصلّت بجوار عرفات ،ثُمّ بعد خروجهما من المسجد ظلّت تجري وراءهما ،فحملها الشهيد وداعبها ثُمّ تركها ،وبعدها ذهب الشهيد عرفات إلى البيت فنام قليلاً ،ثُمّ استيقظ فجهّز نفسه وأعدّ القنابل والخنجر والمصحف الذي ينير طريقه أثناء ذهابه إلى تنفيذ العملية الاستشهاديّة ،وكتاب زاد المسلم اليومي ،ثُمّ كتب الوصيّة بجانب أخوته الذين لم يلاحظوا على عرفات أنه يكتب الوصية ،بل أوهمهم أنه يكتب بحثاً .
كان قبل أن يكتب الوصية بيوم قد التقط عدة صور مع والده ووالدته وأخوته وأصدقائه ،وبعدما كتب الوصية نزل إلى والده وجلس بجانبه وطلب منه أن يسامحه وأن يرضى عنه هو وأمه ثُمّ قال لهما مع السلامة باللغة الإنجليزية (buy) فلاحظ الوالد ذلك وأراد اللحاق به ليمنعه ،لكن كان عرفات أسرع إلى الشهادة ،فذهب عرفات إلى المطاحن أرض المواجهات، ترجّل من سيارة كان يركبها ،وألقى ثلاث قنابل يدوية على مجمّع لليهود فأصاب وقتل العديد ،ولكن العدو لم يعلن عن قتلاه ،حتّى لا ينشر الرّعب في صفوف جيشه ،فرأته دبّابة من الخلف فأطلقت عليه النار ،وقذائف أنيرجه ، فأصيب بأكثر من ثلاث عشرة رصاصة وصاروخين أنيرجه في يده ورجله التي سبق له أن عالجها في الخارج،دلالة على قوة العملية التي نفّذها المجاهد عرفات .. وبعدما أن قتلوه أطلقوا النار تجاه المواطنين ودمّروا موقعاً فلسطينياً كان قريباً من موقع العملية فقتلوا المواطن محمد يوسف القصّاص وأصابوا سبعة مواطنين بإصابات بين الخطيرة والمتوسطة والطّفيفة . وأفاد بعض المصابين أنهم رأوا انفجاراً قويّاً قد وقع بين مجموعة من اليهود وبعدها بقليل هرعت طائرة وسيارات الإسعاف لنقل القتلى والجرحى اليهود. وبعد تنفيذ العملية رفض جيش الاحتلال تسليم الجُثة لأهله ،ولكن كانت إرادة الله أكبر ، فبتنسيق أمني بين السلطة و الصهاينة وصلت الجُثة إلى دار الشّفاء في منتصف الليل وبعدها بساعات عدة كانت فلسطين على موعد مع الرحيل ،رحيل البطل ،رحيل شهيد فلسطين في ذكرى اغتصابها ،فحمل جثمانه الطّاهر آلاف من المواطنين الذين أحبّوه وأحبوا الطّريق الذي سار فيه ،فانطلقت المسيرة الحاشدة إلى دار الشّفاء بغزة ،ثُمّ رجعت إلى بيت الشهيد ، حيث ودعه أطفال ونساء وشيوخ وشباب مخيم الشاطئ في بيت الجيران لضيق بيته ،ثُمّ حُمل على أكتاف أهله بين زقاق مخيم الشاطئ إلى المسجد العمري الكبير فصلّوا عليه صلاة الجنازة ،ثُمّ انطلقت المسيرة إلى مقبرة الشيخ رضوان ودفن فيها .
نعم يا عرفات ... إنه مشهد لم تشهد فلسطين له مثيلاً منذ بداية الانتفاضة، نودعك يا عرفات يا ذاك الشاب المتمسك بدين الله ،يا ذاك الشاب الخلوق المهذّب يا ذاك الشاب الرّافع للواء الله يوم أنزله الجميع ،نرى صورتك يا عرفات وأنت حاملاً للمصحف والقنابل ،ونرى صورتك وحزام ناسف حول وسطك ،لا بل إنّه أقوى من حزام ناسف … رأينا صورتك وأنت في ذلك البيت المتواضع وفي تلك الغرفة المتواضعة وأنت حامل للمصحف يوم نساه الجميع ،ستبقى صورتك في قلوبنا يا عرفات لن ننساك ولن ننسى أصدقاءك الشهداء .
وصية الشهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة على سيد المرسلين وإمام المتقين وعلى من والاه إلى يوم الدين...
يقول الله تعالى :"إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ،وذلك الفوز العظيم ". والقائل :"انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير إن كنتم تعلمون ".
وصدق رسول الله "صلى الله عليه وسلم " ،حين قال: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها " . والقائل : "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض".
تحية طيبة وبعد :
إخواني الأكارم /
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يا أبي ويا أمي يا أعز النّاس إلى قلبي يا أخواني ويا أخواتي يا أصحابي ... "إن الحياة بجوار رب العزة لهي أفضل حياة ،وخير من أي حياة والله إنّها لبئس حياة يتحكم بها الطغاة والمستكبرون، والله إنها لشهادة لا تنتهي في ساعة ولا تنتهي في ليلة ولا يصل الحبيب إلى الحبيب إلا شريدا أو شهيدا ".
*لقد اخترت هذا الطريق لإيماني العميق بهذا الطريق طريق الجنة طريق مرضاة حبيبي ربي ،وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبّلني الله شهيداً في سبيله ،فلا تهنوا ولا تحزنوا على فراقي فإذا كان هذا الفراق إلى جوار ملك الملوك فإنّه خير فراق.
إلى أمي إخواني أخواتي أوصيكم بإتباع منهج الحياة الأبدية القرآن الكريم، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ،لأنه لا خير ولا نجاة من نار الله وعذاب الله ،إلا بالسير وراء هذا المنهج الرباني الذي يريح البال والحال .
أوصيكم بعدم ترك صلاة الفجر والصلوات كلها ،لأن ترك هذا الفرض لهو مصيبة من أكبر المصائب ،إن تركها يخلفه نار جهنم نار شديدة الحر ،والله يا إخواني ويا أهلي وأصحابي إننا لا نقوى والله على حر جهنم فلا تحرموا أنفسكم رضى الله وجنته.
أعلم أن الفراق صعب ولكن الجنة تطلبنا أن هبوا والأقصى يشتكي ظلم الظالمين ينادينا أيضاً أن هبوا .
إخواني الأفاضل وأنا أكتب هذه الكلمات قبل لقائي لله عز وجل أقول لكم أن اثبتوا على هذا الدين العظيم ،وأدوا فرائضه على أكمل وجه ،وابحثوا عن معرفة الله واعبدوا الله كأنكم تروه ،وابتعدوا عن كل شيء يغضب الله ،ولا تغرنكم الحياة الدنيا وزينتها كما أغوتنا ، فالدنيا "دار مقر وليست دار مستقر"، وابتعدوا عن الغيبة والنميمة والفتن والحقد .
إلى أمي و يا أهلي أوصيكم أن تبذلوا كل جهد مستطاع من أجل العمل على تحفيظ القرآن لإخواني وأخواتي الصغار والكبار .. علموهم وعودوهم على الدين، حيث يقول مولانا عز وجل "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها النار والحجارة ،عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون "،اعلموا أن هذه الدنيا والله زائلة ومتاعها ناقص لا يساوى عند الله وجنّته شيئا ،فبادروا بفعل الخيرات والثبات على ديننا الحنيف ، "وما عند الله خيراً وأبقى " .. وأوصيكم يا إخواني ويا أخواتي ، يا أبي ويا أمي خيراً وأخي كامل وعبد الله على وجه الخصوص بتعليمهم ومتابعتهم ، وتحفيظهم ما تيسر من كتاب الله .
وأخيراً أقول لك يا أبي ويا أمي ألا تحزنوا وأن تسامحوني إذا ما أخطأت بحقكم في يوم من الأيام . وأقول لمن عرفني ومن لم يعرفني أو رد السلام علي ولأصدقائي جميعاً - علي وعماد وأبو يحيى وحمادة ، وأخي عامر وعلاء وأولاد عمتي أن يسامحوني إذا ما أخطأت في حق أحد منهم في هذه الدنيا ، وأخي وائل ومصطفى وكامل وعبد الله وسماح ونداء كلهم جميعاً أقول لهم سامحوني ، وأقول لكل من له حق أو دين علي أن يراجع أخواني ويأخذ حقوقه إن شاء الله . وأسأل الله أن يجمعني معكم في جنّاته سبحانه وتعالى ويكتبني مع الشهداء والصدّيقين وحسن أولئك رفيقا.
أخوكم المحب عرفات طلال أبو كويك
التواق للشهادة
لقد كان كثير الصوم ،كثيراً ما يقوم الليل ،كان يصلّي الضحى ،وكان ينصت باهتمام للدعاة والشيوخ ، وكان يحرص على أن يصلّي الفجر جماعة في المسجد ، فكان كلّما صحا من النوم متأخراً عن صلاة الفجر يقبّح نفسه ،لأنه أضاع فرضاً من فروض الله. و كان شهيدنا المجاهد عرفات يحب إخوانه كثيراً في الحركة ،وكان يزداد حبّه حين يسمع عن عملية بطولية للسرايا و يتمنى أن يكون هو منفذ العملية في كل العمليات.
هؤلاء هم الأبطال يتمنون الشهادة في كل لحظة ، يتسللون إلى المواقع لتنفيذ عمليات ضد اليهود و لا ينامون الليل حتى ينام الشعب. هذا الطفل البريء ،هذا الشبل الجريء ،هذا الشاب الشجاع ،هذا الرجل المتمسك بدين الله ،هذا الشيخ المتواضع ابن الأسرة المتواضعة ، هذا الشاب الخلوق قد تخرّج من بين هؤلاء الأخوة ليقول لهم: إنكم تمنيتم أن تعيشوا في بيت جميل وكبير… هاأنا اليوم أحقق لكم أمنيتكم ،سآخذكم معي إلى ذاك البيت الواسع الفسيح الجميل الذي فيه ما تشتهي الأنفس ،إنّها الجنّة وما أدراكم ما الجنة ،سأتشفّع لكم وأدخلكم معي في الجنّة.
نعم يا عرفات لقد نشأت في ذلك البيت المتواضع وفي تلك الأسرة المتواضعة، تربيت على الأخلاق الحميدة ،والصّفات الحسنة ،كنت عطوفاً على الصغار تلاعب أبناء حارتك الصغار وتشتري لهم الحلوى ،حتى أنهم حزنوا على فراقك الذي أحزن الجميع.
كان هذا الشاب يساعد أمه في أعمال البيت ،فكان يطبخ ويجلي وينظف في البيت ،كان يذهب إلى الجامعة يتعلّم ،ثم يعود إلى البيت فيرتاح قليلاً ،ثمّ يذهب إلى العمل ، وبعدما يرجع من العمل ،كان يناقش أخوته الصغار في أمور الدين ،وكان يسألهم عن الصلاة والعبادات ، ثمّ يذهب إلى المسجد يصلي ويتعبّد لله ،ثمّ يجلس مع أصدقائه علي وعماد ووسام ورامي وحمادة وأبو يحيى.
كان حتى رحيما بالحيوانات فكان يربي القطط ويشربها ويطعمها ،حتى إنه كانت هناك قطة بيضاء شديدة البياض ،كانت قد لاحقته يوم استشهاده وهو ذاهب إلى صلاة الفجر وصلّت بجانبه ،وبعدما استشهد البطل حضرت هذه القطة في بيت العزاء لمدة ثلاث أيام جالسة على كرسي لا تأكل ولا تشرب حزينة على البطل.
هذا الشاب ذو الخط الحسن لم يترك بيتاً في حارته إلا وفيها لوحة من لوحاته الجذابة أو عملا من أعماله البارعة . و كان هذا الشاب في الابتدائية من المتفوقين وكذلك في الإعدادية والثانوية العامة ،لم يكن معه نقوداً لكي يكمل تعليمه فبحث الشهيد عن عمل يجعله يكمل تعليمه … فعمل مع والده في القصارة ،وعمل في الكهرباء مع عمه تيسير الذي يروي ويقول عنه:(لقد كان ابن أخي عرفات أثناء عمله معي لا يردد على لسانه إلا ذكر الله وكان يعمل بنشاط وهمة زائدة) ،وعمل في تركيب الأقمار الصناعية والهوّايات مع أخيه عامر الذي يقول:(من يركّب لي الهوايات من بعد اليوم، لقد كان الشهيد مصدر رزقي) .. وعمل في أمور متعددة حتى يجلب قوت أهله ويكمل تعليمه.
لقد كان لهذا الشهيد أثر كبير في تربية أخوته الصغار وتعليمهم القرآن ومرافقتهم إلى المساجد ، لقد كان هذا الشهيد بمثابة أب لأخوته فكان يشتري لهم الطعام ،ويشتري لهم الملابس ،وكان يعلمهم ،وكان شديد الاهتمام بهم على تحفيظهم القرآن الكريم ،حتى إنه ذكر في الوصية أن يحلّ أخوته الكبار محله في تربية وتعليم أخوته الصغار.
تربية جهادية و صحبة للشهداء
لقد تربّى الشهيد عرفات في أحضان حركة الجهاد الإسلامي ، وكان أميرا للجماعة الإسلامية الإطار الطلابي لحركة الجهاد في جامعة الأقصى وكان صديقاً لعدد من الشهداء من بينهم الشهيد القائد حازم ارحيم ومحمود جودة وعلي سمور ورامي المعصوابي رحمهم الله . .
لقد كان الشهيد عرفات ابن الجهاد الإسلامي واحداً من آلاف المتشوّقين للشهادة ،لقد لعب الشهيد عرفات دوراً كبيراً في الانتفاضة فكان ينتظر الجنود في شوق لكي يرمي عليهم الحجارة ،وهو على يقين بأنّ الحجر لا يجدي أي نفع أمام السلاح الصهيوني المطوّر ،ولكن ليعلن للعالم أجمع بأنّ شعب فلسطين إن لم يكن يملك السلاح ،فإنّه يملك الحجر الذي يزرع الخوف في صفوف اليهود.
الشهادة
كان الشهيد عرفات يُصلّي في المسجد الغربي ، ولكن قبل استشهاده بأسبوع بات غريباً عن المسجد ، فأصبح يصلي في مسجد آخر ،حتّى لا يشعر أصدقاؤه بالفرقة بعد استشهاده ،ولكن أخوته علاء وعامرا لاحظوا عليه ذلك ،ولكن هل يمنعوه عن الشهادة التي بات ينتظرها طوال حياته ،وهل يقدروا أن يمنعوها شاباً يريد أن يموت . كانوا على علم وعلى يقين بأن الشهيد ليس بميّت ،بل هو حيّ يُرزق عند الله،يقول الله تعالى في محكم التنزيل: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ).
في صباح يوم الاثنين 14/5/2001م ، اغتسل الشهيد وتوضّأ ،وذهب إلى المسجد هو وصديقه وهو صائم ، لاحظا قطّة بيضاء تلاحقهم ،وكأنّها تعرف أن هذا اليوم هو يوم الرحيل ،فلاحقتهما إلى المسجد وصلّت بجوار عرفات ،ثُمّ بعد خروجهما من المسجد ظلّت تجري وراءهما ،فحملها الشهيد وداعبها ثُمّ تركها ،وبعدها ذهب الشهيد عرفات إلى البيت فنام قليلاً ،ثُمّ استيقظ فجهّز نفسه وأعدّ القنابل والخنجر والمصحف الذي ينير طريقه أثناء ذهابه إلى تنفيذ العملية الاستشهاديّة ،وكتاب زاد المسلم اليومي ،ثُمّ كتب الوصيّة بجانب أخوته الذين لم يلاحظوا على عرفات أنه يكتب الوصية ،بل أوهمهم أنه يكتب بحثاً .
كان قبل أن يكتب الوصية بيوم قد التقط عدة صور مع والده ووالدته وأخوته وأصدقائه ،وبعدما كتب الوصية نزل إلى والده وجلس بجانبه وطلب منه أن يسامحه وأن يرضى عنه هو وأمه ثُمّ قال لهما مع السلامة باللغة الإنجليزية (buy) فلاحظ الوالد ذلك وأراد اللحاق به ليمنعه ،لكن كان عرفات أسرع إلى الشهادة ،فذهب عرفات إلى المطاحن أرض المواجهات، ترجّل من سيارة كان يركبها ،وألقى ثلاث قنابل يدوية على مجمّع لليهود فأصاب وقتل العديد ،ولكن العدو لم يعلن عن قتلاه ،حتّى لا ينشر الرّعب في صفوف جيشه ،فرأته دبّابة من الخلف فأطلقت عليه النار ،وقذائف أنيرجه ، فأصيب بأكثر من ثلاث عشرة رصاصة وصاروخين أنيرجه في يده ورجله التي سبق له أن عالجها في الخارج،دلالة على قوة العملية التي نفّذها المجاهد عرفات .. وبعدما أن قتلوه أطلقوا النار تجاه المواطنين ودمّروا موقعاً فلسطينياً كان قريباً من موقع العملية فقتلوا المواطن محمد يوسف القصّاص وأصابوا سبعة مواطنين بإصابات بين الخطيرة والمتوسطة والطّفيفة . وأفاد بعض المصابين أنهم رأوا انفجاراً قويّاً قد وقع بين مجموعة من اليهود وبعدها بقليل هرعت طائرة وسيارات الإسعاف لنقل القتلى والجرحى اليهود. وبعد تنفيذ العملية رفض جيش الاحتلال تسليم الجُثة لأهله ،ولكن كانت إرادة الله أكبر ، فبتنسيق أمني بين السلطة و الصهاينة وصلت الجُثة إلى دار الشّفاء في منتصف الليل وبعدها بساعات عدة كانت فلسطين على موعد مع الرحيل ،رحيل البطل ،رحيل شهيد فلسطين في ذكرى اغتصابها ،فحمل جثمانه الطّاهر آلاف من المواطنين الذين أحبّوه وأحبوا الطّريق الذي سار فيه ،فانطلقت المسيرة الحاشدة إلى دار الشّفاء بغزة ،ثُمّ رجعت إلى بيت الشهيد ، حيث ودعه أطفال ونساء وشيوخ وشباب مخيم الشاطئ في بيت الجيران لضيق بيته ،ثُمّ حُمل على أكتاف أهله بين زقاق مخيم الشاطئ إلى المسجد العمري الكبير فصلّوا عليه صلاة الجنازة ،ثُمّ انطلقت المسيرة إلى مقبرة الشيخ رضوان ودفن فيها .
نعم يا عرفات ... إنه مشهد لم تشهد فلسطين له مثيلاً منذ بداية الانتفاضة، نودعك يا عرفات يا ذاك الشاب المتمسك بدين الله ،يا ذاك الشاب الخلوق المهذّب يا ذاك الشاب الرّافع للواء الله يوم أنزله الجميع ،نرى صورتك يا عرفات وأنت حاملاً للمصحف والقنابل ،ونرى صورتك وحزام ناسف حول وسطك ،لا بل إنّه أقوى من حزام ناسف … رأينا صورتك وأنت في ذلك البيت المتواضع وفي تلك الغرفة المتواضعة وأنت حامل للمصحف يوم نساه الجميع ،ستبقى صورتك في قلوبنا يا عرفات لن ننساك ولن ننسى أصدقاءك الشهداء .
وصية الشهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة على سيد المرسلين وإمام المتقين وعلى من والاه إلى يوم الدين...
يقول الله تعالى :"إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ،وذلك الفوز العظيم ". والقائل :"انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير إن كنتم تعلمون ".
وصدق رسول الله "صلى الله عليه وسلم " ،حين قال: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها " . والقائل : "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض".
تحية طيبة وبعد :
إخواني الأكارم /
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يا أبي ويا أمي يا أعز النّاس إلى قلبي يا أخواني ويا أخواتي يا أصحابي ... "إن الحياة بجوار رب العزة لهي أفضل حياة ،وخير من أي حياة والله إنّها لبئس حياة يتحكم بها الطغاة والمستكبرون، والله إنها لشهادة لا تنتهي في ساعة ولا تنتهي في ليلة ولا يصل الحبيب إلى الحبيب إلا شريدا أو شهيدا ".
*لقد اخترت هذا الطريق لإيماني العميق بهذا الطريق طريق الجنة طريق مرضاة حبيبي ربي ،وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبّلني الله شهيداً في سبيله ،فلا تهنوا ولا تحزنوا على فراقي فإذا كان هذا الفراق إلى جوار ملك الملوك فإنّه خير فراق.
إلى أمي إخواني أخواتي أوصيكم بإتباع منهج الحياة الأبدية القرآن الكريم، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ،لأنه لا خير ولا نجاة من نار الله وعذاب الله ،إلا بالسير وراء هذا المنهج الرباني الذي يريح البال والحال .
أوصيكم بعدم ترك صلاة الفجر والصلوات كلها ،لأن ترك هذا الفرض لهو مصيبة من أكبر المصائب ،إن تركها يخلفه نار جهنم نار شديدة الحر ،والله يا إخواني ويا أهلي وأصحابي إننا لا نقوى والله على حر جهنم فلا تحرموا أنفسكم رضى الله وجنته.
أعلم أن الفراق صعب ولكن الجنة تطلبنا أن هبوا والأقصى يشتكي ظلم الظالمين ينادينا أيضاً أن هبوا .
إخواني الأفاضل وأنا أكتب هذه الكلمات قبل لقائي لله عز وجل أقول لكم أن اثبتوا على هذا الدين العظيم ،وأدوا فرائضه على أكمل وجه ،وابحثوا عن معرفة الله واعبدوا الله كأنكم تروه ،وابتعدوا عن كل شيء يغضب الله ،ولا تغرنكم الحياة الدنيا وزينتها كما أغوتنا ، فالدنيا "دار مقر وليست دار مستقر"، وابتعدوا عن الغيبة والنميمة والفتن والحقد .
إلى أمي و يا أهلي أوصيكم أن تبذلوا كل جهد مستطاع من أجل العمل على تحفيظ القرآن لإخواني وأخواتي الصغار والكبار .. علموهم وعودوهم على الدين، حيث يقول مولانا عز وجل "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها النار والحجارة ،عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون "،اعلموا أن هذه الدنيا والله زائلة ومتاعها ناقص لا يساوى عند الله وجنّته شيئا ،فبادروا بفعل الخيرات والثبات على ديننا الحنيف ، "وما عند الله خيراً وأبقى " .. وأوصيكم يا إخواني ويا أخواتي ، يا أبي ويا أمي خيراً وأخي كامل وعبد الله على وجه الخصوص بتعليمهم ومتابعتهم ، وتحفيظهم ما تيسر من كتاب الله .
وأخيراً أقول لك يا أبي ويا أمي ألا تحزنوا وأن تسامحوني إذا ما أخطأت بحقكم في يوم من الأيام . وأقول لمن عرفني ومن لم يعرفني أو رد السلام علي ولأصدقائي جميعاً - علي وعماد وأبو يحيى وحمادة ، وأخي عامر وعلاء وأولاد عمتي أن يسامحوني إذا ما أخطأت في حق أحد منهم في هذه الدنيا ، وأخي وائل ومصطفى وكامل وعبد الله وسماح ونداء كلهم جميعاً أقول لهم سامحوني ، وأقول لكل من له حق أو دين علي أن يراجع أخواني ويأخذ حقوقه إن شاء الله . وأسأل الله أن يجمعني معكم في جنّاته سبحانه وتعالى ويكتبني مع الشهداء والصدّيقين وحسن أولئك رفيقا.
أخوكم المحب عرفات طلال أبو كويك