إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الاسير : ثابت المرداوي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الاسير : ثابت المرداوي

    الخروج من المخيم

    (شهادة القائد ثابت المرداوي)



    ثابت المرداوي أحد قادة سرايا القدس وواحد من الذين صنعوا ملحمة الصمود في مخيم جنين كان قبل الاجتياح الصهيوني الأخير للمخيم أحد أبرز المطلوبين للعدو الصهيوني، فقد شارك في العديد من معارك المواجهة ضد القوات الصهيونية وأسهم في التخطيط والتنفيذ للعديد من العمليات الاستشهادية في عمق الوطن المحتل، أما في المعركة الأخيرة للدفاع عن المخيم، فقد شارك إلى جانب الشهيد محمود طوالبة وبقية المجاهدين في المخيم في الإعداد والتحضير لمعركة المواجهة، وتولى فترة الحرب قيادة مجموعة من المجاهدين في محور حارة الدمج في مخيم جنين. وصمد مع إخوانه المجاهدين أمام جحافل الجيش الصهيوني لمدة عشرة أيام كاملة أوقعوا خلالها العديد من الإصابات في صفوف العدو. ولم يتمكن العدو من اختراق هذا المحور إلا بعد أن نفذت ذخيرة المجاهدين فيه، وبعد أن أصيب المجاهد ثابت المرداوي بعدة إصابات بالغة في أنحاء مختلفة من جسده، فتمكن العدو من أسره مع عدد من رفاقه المجاهدين يوم 12/4/2002.

    ومن داخل سجنه، ورغم ظروف القهر والتنكيل الصهيوني، أبى المجاهد ثابت المرداوي إلا أن يقدم لأبناء شعبه وأمته، خلاصة تجربة الصمود والبطولة في مخيم جنين لتكون درساً لأجيال الأمة، وإنصافاً لكوكبة من شهداء شعبنا العظام الذين صنعوا هذه الملحمة الخالدة.

    وبتواضع المجاهدين الكبار، كتب المرداوي ممجداً بطولة كل من سبقه إلى الشهادة من أبطال المخيم دون أن يتطرق إلى دوره الكبير في صمود المخيم. لكن المجاهد ثابت المرداوي لم يتح له أن يستكمل في شهادته كل فصول معركة مخيم جنين، فقد حالت ظروف أسره في المعتقل الصهيوني دون إرسال بقية هذه الشهادة الحية لتجربة الصمود في معركة مخيم جنين. وبانتظار استكمالها فإن ما بين أيدينا منها يستحق أن يقرأ بعناية بالغة لأنه يجسد الروح الجهادية العالية التي خاض بها أبطال معركة جنين معركتهم الخالدة والمستمرة.

    إهداء

    إلى سادتنا الشهداء ..

    إلى أخي وحبيبي...

    إلى القائد البطل محمود طوالبة هنيئا لك النصر والمجد وهنيئا لك الشهادة والفوز.. نم قرير العين يا أخي فهذه ورودك التي زرعتها ما زالت فلسطين كلها تستنشق عبيرها وما زال عبقها ينتشر أكثر وأكثر مع كل طلقة رصاص تخرج من فوهة بندقية تحملها يد مجاهد..

    توكل على الله يا محمود فوالله إنا لنخجل منك فكيف بنا إذا ما سولت لنا أنفسنا بأن لا ننحاز وبتعصب لخياركم ولنهجكم وللطريق الذي سلكتموه يا سادتنا الشهداء..

    ثابت مرداوي

    الخروج إلى المخيم

    تقديم:
    رواية واحدة للتاريخ وجه واحد للتاريخ.. و من أجل الحفاظ على هذا الوجه كما هو دونما تلاعب ودونما إضافات تأتي هذه المساهمة لتكون بمثابة شهادة للأجيال والتاريخ نفسه .

    لقد احتلت ملحمة مخيم جنين مساحة واسعة من وقت وفكر الكثيرين من العرب والمسلمين وغيرهم من المعنيين والمهتمين وذلك لما مثلته وستبقى تمثله من معاني العزة والكرامة والأنفة ولما أكدت عليه من أن هذا الشعب وهذه الأمة لازالت تملك الكثير من الإرادة والصلابة وأن عندها من القوة ما لم تظهره بعد.. ومما لا شك فيه أن هذه الملحمة البطولية ستظل تحتل هذه المساحة .. والتي ستزداد مع الزمن في ذاكرة الأمة والأجيال القادمة. من أجل ذلك ومن أجل الحفاظ على هذه الذاكرة وحمايتها من التشويه والزيف ، تأتي هذه المساهمة من أحد الذين كان لهم شرف المشاركة في هذه الملحمة من ثوانيها الأولى إلى ثوانيها الأخيرة وشاهد على كل التحضيرات التي سبقت الملحمة .

    دماء شهدائنا الأبطال وجهد كل المقاومين الحقيقيين وتعبهم أمانة في أعناقنا.. ولن نسمح لأحد كائنا من كان بأن يسرق هذه الأمانة والتعب عبر بعض الروايات والقصص حول ملحمة المخيم والتي لا تمت في معظمها للواقع بصلة.. من أجل كل ذلك تأتي هذه المساهمة المتواضعة ليأخذ كل ذي حق حقه وليبقى التاريخ هو التاريخ العصي على التحريف ولتبقى ذاكرة فلسطين والأمة.. هي ذات الذاكرة النقية الصافية العصية بدورها أيضا على التشويه والتزوير.

    الحرب عند الصغار هي لعبة من ألعابهم التي يمارسونها في طفولتهم .. لكنها عند الكبار خيار لا مفر منه ولابد من اتخاذه .. ففي لحظة معينة هناك قرار معين عليك أن تتخذه، وممارسة واقع ملموس تتحمل كل تبعاته وأعبائه مهما كانت الظروف وبعيدا عن حسابات الربح والخسارة.

    لو قدر لعجلات الزمن أن تعود بنا إلى ما قبل الأول من نيسان من عام ألفين واثنين أي ما قبل الاجتياح الصهيوني الهمجي في مخيم جنين ووجه إلينا عندها (الشهداء والأحياء) السؤال التالي:

    الآن وبعد أن رأيتم ما وقع، وحصل لكم ما حصل ماذا تختارون؟؟ هل تختارون البقاء في المخيم أم تختارون الخروج منه ولو من ناحية تكتيك عسكري يفرضه واقع اختلال ميزان القوة الفاضح..؟؟

    أجزم هنا (نيابة عني وعن جميع أخواني الشهداء والأحياء) بأن القرار سيكون هو ذاته: قرارنا الذي كان، وبأن الجميع سيهتف بصوت واحد لا للخروج من المخيم نعم للبقاء في المخيم وليكن ما يكون..

    فهذا صوت الشهيد البطل محمود طوالبه يمزق صمت هذا العار.. لن تمر جنازير دباباتكم إلا على جسدي.. سيكون صدى صوته صوت الشهيد الطاهر طه الزبيدي.. لن تحرق نيرانكم بيوت مخيم قبل أن تحرق جسدي، ومثلهم ستكون إجابة جميع الشهداء من منير الوشاحي وعبد السارة مرورا بزياد العامر ونضال النوباني والشيخ المجاهد رياض بدير ومحمود الحلوة وشادي النوباني ومحمد وأمجد الفايد وصولا إلى الشهيد البطل أبو جندل وكل الشهداء العظام الذين صنعوا هذا المجد وكتبوا بدمائهم الزكية فصلا مشرفا ومشرقا من فصول تاريخ وحياة هذه الأمة.

    أما نحن الأحياء الذين قدر لنا أن لا نحوز ما حازوه من نصر ومجد الشهادة.. فلا نملك إلا أن ننحاز وبتعصب لخيار وقرار سادتنا الشهداء ونعلن نعم للخروج إلى المخيم نعم للدخول إلى المخيم.

    لربما كان هناك للبعض رأي آخر ينطلق من جانب مادي عسكري بحت.. وإن كنت أخالف هذا الرأي مع إقرار في ذات الوقت لبعض الأخطاء التي وقعت بها المقاومة في مخيم جنين على أكثر من صعيد والتي لابد من دراستها جيداً لأخذ العبر والدروس.. إلا أن المساحة هنا ليست لمناقشة هذا الأمر الآن على أنه من الضروري أن تناقش هذه التجربة وتطرح في دراسات لاحقة.

    وطبيعي أن ترى وجهة النظر المخالفة في ما جرى في مخيم جنين خسارة للمقاومة وفقا للحسابات العسكرية المادية الصرفة، ولكن من الزاوية التي أنظر منها.. اعتبر أن ما جرى هو انتصار بكل معنى الكلمة.. انتصار للروح والإرادة المقاتلة الصلبة، وانتصار للدم الطاهر الزكي على الدبابات والمدرعات والطائرات الصهيونية.. وهو فوق كل ذلك شهادة للتاريخ بأن هذه القلة المجاهدة التي صمدت وصدقت استطاعت أن تحقق أسطورة بإمكانيات قليلة متواضعة نخجل أحيانا من تعدادها خوفا من أن يقال أهذا فقط ما كنتم تمتلكون؟؟!!

    أضف إلى ذلك أن المقاومة استطاعت خلال فترة وجيزة جدا أن تتأقلم مع الظرف الجديد القائم وتتجاوز عقباته وتحدياته وتوجه للاحتلال ومستوطنيه ضربات موجعة ومؤلمة، أكثر قوة وأكبر حجما من تلك التي وجهتها له في الفترة التي سبقت ملحمة المخيم.. وذلك لعدة أسباب منها: وجود تجربة سابقة وأرضية جاهزة وإمكانيات جيدة، إضافة لأنها، وهذا الأهم، تجاوزت الامتحان والاختبار الأصعب ببراعة مطلقة، وهو ما أشرنا إليه سابقا، والمتمثل بالتعامل مع الواقع الجديد والعمل تحت الأرض التي تقف عليها دبابات الاحتلال ومدرعاته.. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المقاومة قادرة على مواجهة أي تحد أو ملاحقة خارجية مهما كان حجمها وشدتها .. لكن الخوف الحقيقي على المقاومة يأتي من تلك الخناجر المشبوهة التي ستعمل على طعنها من الخلف.. وهذا ما على المقاومة أن تنتبه له جيدا في الفترة القصيرة المقبلة، ولكون معركتنا مع هذا العدو ليست بمعركة أيام ولا جولات، فإن هناك الكثير من الدروس والعبر التي يمكن الاستفادة منها للمستقبل.. دروس تبين حقيقة هذا الجيش الصهيوني الذي يمتلك من الجبن والخوف أكثر بكثير مما يملك من معدات وترسانة عسكرية على كثرتها.

    ولا أبالغ إن قلت بأن الملحمة البطولية التي شهدها مخيم جنين تمثل نقطة تحول في تاريخ المقاومة الفلسطينية… وتدشن في الوقت نفسه لمرحلة هامة جداً سيشهدها التاريخ الفلسطيني القادم وأن ملامح هذه المرحلة قد خرجت من رحم معركة مخيم جنين .

    عشرات قليلة من البنادق بأيدي قلة قليلة من المجاهدين كانت تدافع عن شرف وكرامة وتراب هذا الشعب وهذه الأمة.. في وجه أكثر من أثني عشر ألفا من الجنود الصهاينة ومئات الآليات العسكرية والعديد من الطائرات ومنصات الصواريخ.. وكانت تؤكد للمرة المليون على هشاشة وضعف هذا الجيش.. وأن هذا الكيان الغاصب لأرض فلسطين إنما هو قائم على ضعف وشرذمة أمة العرب والإسلام، وليس على قوته وإمكانياته التي بالإمكان إلحاق الهزائم والخسائر الفادحة بها.. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه القلة القليلة من البنادق كانت مع كل طلقة تطلقها ومع كل نقطة دم تنزف منها تصفع وتلعن تلك الجيوش وأرتال الدبابات والمدرعات وأسراب الطائرات المترامية من محيط أمة العرب إلى خليجها…

    ولمن لا يعرف مخيم جنين بجغرافيته وإمكانياته نقول أنه من حيث المساحة فإن المخيم يقع في حدود الكيلومتر مربع وهذه الكيلومتر مربع تغطي منطقة جغرافية معقدة جدا في غير صالح المقاومة التي هي في حالة دفاع حيث تنحدر هذه المساحة من أسفل قمة جبل الجابريات بأمتار قليلة باتجاه قلب المخيم المنبسط نوعا ما ويلاحظ هنا أنه عندما تقف أرتال الدبابات الصهيونية على قمة الجابريات يكون مخيم جنين والمدينة مثل الكف المنبسط أسفل منها وتكون كل حركة في معظم أرجاء المخيم مكشوفة لهذه الدبابات.. ففي صفحات لاحقة سأطرح إنشاء الله لماذا لا يمكن المقاومة أن تتمركز وتسيطر على هذه القمة الجبلية..

    ومن حيث عدد المقاتلين فقد كانوا في حدود المئة بإمكانيات بسيطة متنوعة لدرجة أن البعض كان معه بنادق من تصنيع محلي وقسم آخر كان معه بنادق قديمة جداً.. هذه البقعة الجغرافية الصغيرة بحجمها القليلة بإمكانياتها.. هي التي صمدت أمام كل هذه العنجهية الصهيونية صمدت بإيمانها العميق بضرورة خوض هذه المعركة وخاضت المعركة من أجل أن تثبت أن هناك مدافعين أشداء عن الحق الفلسطيني وعن التراب الفلسطيني.. خاضت المعركة لتؤكد من جديد على أن الإرادة الصلبة الحرة لا يمكن إلا أن ينحني لها الأعداء قبل الأصدقاء احتراماً وإجلالاً وهي قبل كل شيء خاضت المعركة لتعيد من جديد صياغة فهم الآية الكريمة (إن يكن منكم عشرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) صدق الله العظيم.

    وهي فوق ذلك رسمت بالرصاص بعض ملامح وصور بدر وأحد واليرموك وحطين..

    احتفالاً بالموت القادم:
    ما أن تناهت إلى أسماعنا أن الحملة الصهيونية الجديدة على معاقل المقاومة باتت قاب قوسين أو أدنى حتى دبت في المخيم حركة غريبة لا يفهمها ويدرك مبعثها إلا من يتحركها.. حركة أقرب ما تكون إلى البركان الثائر لكنها في ذات الوقت سلسة هادئة أشبه ما تكون بالسكون والثبات الذي لا حراك فيه .. كل شيء في المخيم كان يتحرك.. كان يتكلم .. مكان يقوم بعملية الوداع الأخير .. ولكنه حتى الشجر والحجر وحتى البيوت كانت تودع ساكنيها وحواريها وأزقتها.

    هذه المرة تختلف بكل تأكيد عن سابقاتها. على كل لسان في المخيم تجد هذه العبارة تتردد وتحتل مركز الصدارة بين كل العبارات التي يمكن أن تقال. وبلا شك فإن كل من لاحظ طبيعة وحجم التحضيرات الصهيونية العسكرية والسياسية والإعلامية، وكل من قرأ الواقع السياسي جيدا أدرك مدى المأزق الذي بات يمثله مخيم جنين للكيان الصهيوني ولغيره لما أصبح عليه من معقل لحركة الجهاد الإسلامي ولجناحها العسكري سرايا القدس خاصة، ولبقية الفصائل المقاومة بعامة. كل من لاحظ وأدرك ما سبق كان على دراية تامة بأن هذه المرة أشد وأعنف وأنها كما يقولون ستكون عملية كسر عظم.

    كل ذلك وأكثر علمناه وعلمنا ما حاكه البعض وما حاول تمريره من مؤامرات بضرب الروح المعنوية العالية التي سادت المخيم بسكانه ومقاتليه على قلتهم، وكيف أن هذا البعض قام ببث الإشاعات وطلب في ذات الوقت من بعض المقاتلين مغادرة المخيم بحجة الخوف على حياتهم لأن الطرف الآخر«، أي العدو، »مصمم على دخول المخيم هذه المرة حتى لو اضطره الأمر إلى هدم المخيم على رؤوس أهله. هذه هي دوما وظيفة الطابور الخامس على مر العصور، وصدق الله العظيم حيث قال (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم).

    أكرر وأقول أن كل ذلك وأكثر علمناه وعلمنا نحن الذين كنا داخل المخيم أن من الصعوبة بمكان أن يخرج منا أحد على قيد الحياة.. لكن وعلى الرغم من كل ذلك كان قرارنا واضحاً جلياً لخوض هذه المعركة تحت كل الظروف ومهما كان الثمن.

    نعم.. كنا نعلم أنه من الممكن أن نستشهد جميعا وأنه من الممكن أيضا أن نخسر المخيم كقاعدة لنا. ولكن كنا على أتم اليقين من أن المقاومة لن تكسر ولن تهزم كما يراد لها من الاحتلال، لأن رصيدها ورأس مالها هو هذا الشعب العظيم، ولأن عندها تجربة غنية غذتها الدماء الزكية لشهدائنا العظام.

    لجنين جغرافيّا أربعة مداخل، وباللغة العسكرية أربعة محاور، ومن هذه المحاور الأربعة تدخل وتتقدم أرتال الدبابات القادمة من معسكر دوتان القريب من بلدة عرّابة.. ومحور جنين حيفا وعليه يقع معسكر سالم ويعتبر بمثابة نقطة حدودية.. ومحور جنين الناصرة.. والمحور الشرقي محور الألمانية ومنه تدخل الدبابات القادمة من معسكر بيزك قرب الزبابدة.

    ما إن تحركت أرتال المدرعات والدبابات من المحورين الرئيسين (دوتان وسالم) باتجاه جنين حتى انتشر الخبر كالنار في الهشيم، لأن الجميع كان في حالة ترقب وانتظار وما هي إلا ثوان معدودة حتى تحول المخيم إلى بركان هادر، فالتكبيرات انطلقت وملأت سماء المخيم.

    ليلة عيد حقيقية يحتفل بها المخيم لحظة اقتراب ساعة الصفر فالطلقات النارية جزء منها كان يوقظ النيام والآخر كان احتفالاً وكلمات ومواعظ الشيوخ والخطباء كانت تنطلق من كل أزقة المخيم وشوارعه، هذا يصف الجنة، وذلك يتحدث عن أهمية وضرورة خوض هذا الصراع مع العدو، وآخر يؤكد على ضعف وانعدام الروح المعنوية لجيش الغزاة وإننا نملك من الإرادة الصلبة ما يكفينا لخوض أشد المعارك ضراوة ببسالة وإقدام منقطع النظير، ومن هناك تسمع خطابات الحث على الثبات والصمود.

    هنا يغلي الدم الثائر في عروق المجاهدين، وتعلو من جديد تكبيرات الله أكبر فيرتد صدى الصوت هادرا لكأنه صوت فلسطين والأمة كلها.. بهذه الروح المعنوية وبهذه الفرحة وبهذا التحدي والإصرار على الصمود استقبلت المقاومة المجاهدة في المخيم الزحف الصهيوني والنتيجة التي حصلت ليست ببعيدة عن ناظريها كما أشرنا سابقاً.

    ما بين الاجتياحين:
    المسافة الزمنية التي تفصل ما بين الاجتياح الأخير للمخيم والمدينة وما بين الاجتياح الذي سبقه شهر كامل، شهر حافل وملئ بالأحداث.. كله استعداد وحركة وعمل.. ولو أن ما فيه من الإحداث أعطيت لسنة بأكملها لشغلت كل ثوانيها. ففيه بالإضافة إلى الاجتياحين في أوله وآخر استشهد صقر سرايا القدس القائد أيمن قاسم ضراغمه وبصحبته الشهيد البطل فؤاد بشارات أثناء محاولتهما تنفيذ عملية جهادية. وبعد أيام قليلة استشهد القائد البطل محمد صالح ياسين في اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال اشتركت فيه وحدات من الجيش والقوات الخاصة وبعض الآليات العسكرية المدرعة، حيث أوقع في صفوفهم العديد من الإصابات.

    استشهاد قادة وأبطال السرايا والمجزرة التي حصلت في مخيم جنين كل ذلك لم يكن ليمر دون عقاب ودون أن يدفع الاحتلال الصهيوني ولو جزءا يسيرا من فاتورة ديونه لنا.

    هنا لابد من توضيح نقطة مهمة يختلف فهمها عند الكثيرين وهي أن عملياتنا ضد الاحتلال لا تأتي فقط في سياق الفعل ورد الفعل، وإنما هي واقعة ضمن دائرة وجوب مقاومة الاحتلال بكل الوسائل العسكرية المتاحة لنا والتي تستطيع أيادينا وعقولنا الوصول إليها.. وعمليات العدو الإرهابية ضد أبناء شعبنا وعمليات الرد التي نقوم بها تقع ضمن هذه الدائرة الكبرى وليس من منطلق الانتقام، وذلك حتى يعلم الاحتلال أن مجازره الإرهابية ضد أبناء شعبنا وعمليات اغتياله لقادتنا لا يمكن أن تمر دون عقاب و دون حساب.

    وكما هو معلوم فإن الاجتياح ما قبل الأخير لمخيم جنين رافقه اجتياح شبه كامل للضفة الغربية، وارتكب الاحتلال الصهيوني جملة من المجازر المتفرقة في مخيم جنين ومخيم طولكرم وبيت لحم ومخيم جباليا في هذه الفترة. ضمن هذه الظروف ومن المنطلق الذي بيناه سابقا جاءت عمليات سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وحملت عنوان (سلسلة عمليات غضب المخيمات) حيث نفذت عملية استشهادية في قطاع غزة وعملية استشهادية في القدس نفذها أحد أبناء السريا من بيت لحم والعملية الاستشهادية الثالثة نفذها الاستشهادي البطل عبد الكريم طحاينه بتاريخ 5/2/2002 بإحدى الحافلات الصهيونية بمستوطنة العفولة فقد قتل في هذه العملية ثلاثة من الصهاينة وأصيب ثمانية عشراً آخرين حسب اعتراف إذاعة العدو.

    وبتاريخ 20/3/2002 نفذ الاستشهادي البطل رأفت أبو دياك العملية الاستشهادية الرابعة في السلسلة في وادي عارة بالقرب من قرية مصمص، فقد قتل فيها عشرة من الصهاينة معظمهم من العسكريين وأصيب ما يزيد عن اثنين وعشرين منهم، وفي هذه الأثناء تم التحضير للعملية الخامسة والتي نفذت أثناء الاجتياح الصهيوني في مفترق الياجور بحافلة صهيونية بتاريخ 10/4/2002 وقد قتل فيها اثني عشر من الصهاينة وأصيب حوالي خمسين آخرين بجراح ونفذ هذه العملية الاستشهادي البطل راغب جرادات.

    وإذا ما علمنا أن المقاومة في المخيم استنفذت معظم مخزونها من الذخيرة والمتفجرات والعبوات الناسفة (أقصد منها مخزون سرايا القدس) في صد الاجتياح ما قبل الأخير الذي كان أيضا على قدر عال من الضراوة والشراسة.. فإننا يمكن أن نتصور المجهود الضخم الذي بذلته المقاومة في التحضير والتجهيزات.

    تعرض مخيم جنين والمدينة لستة اجتياحات كل اجتياح منها كان أكثر عنفا وشدة من سابقاته. وكان الاحتلال يقوم بعمليات جس نبض يستخلص منها العبر والدروس في كل مرة وذلك من أجل أن يتكون لديه تصور كامل وشامل عن بؤرة المقاومة هذه طبيعتها ومدى قدرتها على الصمود وإمكانياتها وكيف تتعامل في مثل هذه الحالات، وأماكن القوة والضعف لديها. كل هذه التصورات والمعلومات التي جمعها الاحتلال بالممارسة من خلال الاجتياحات السابقة وعن طريق عملائه وظفها لخدمة الهدف النهائي والمتمثل طبعا في القضاء على المخيم كقاعدة للمقاومة.

    بعد انتهاء الاجتياح ما قبل الأخير، انكبت عناصر المقاومة في المخيم (وأقصد تحديدا سرايا القدس لاطلاعي على ما قامت بعمله كوني عضواً فيها) على العمل في اتجاهين.

    الاتجاه الأول :

    تنفيذ ومواصلة العمليات كونها الخيار الوحيد الأوحد في مواجهة الاحتلال، ولأن الوضع الطبيعي الذي يجب أن يحكم علاقاتنا بالاحتلال ويحددها هو مواصلة المواجهة المسلحة معه تحت كل الظروف، دونما النظر إلى خرافة الوضع الدولي والموازين والقياسات الدولية.

    فالمنطق والتاريخ والتجارب السابقة والراهنة أثبتت جميعا بما لا يدع مجالاً للشك فشل الرهان على السلام مع العدو كونه ضرباً من الوهم والعبثية ومضيعة للوقت وإراقة لماء الوجه لهذا الشعب العظيم لما يقدمه من تضحيات جسام دفاعا عن أرضه ودينه وتراثه، لا أن يهان عبر ما يقدم له من فتات على موائد اللئام.

    ولا ننسى أن هذه المؤسسات والدول لم نجن منها إلا الويلات وفي أفضل الأحوال بعض المواقف الكلامية التي تنسجم وتتلائم مع مصالحها وحساباتها السياسية داخليا وخارجيا ، كما أن ما عجل في تنفيذ هذه العمليات هو حجم الجرائم التي ارتكبها الاحتلال في هذا الاجتياح حيث في أثنائه جاءت عمليات السرايا في مستوطنة العفولة وفي وادي عارة والتحضير للعملية التي حصلت في مفرق (الياجور).

    الاتجاه الثاني:

    الذي عملت علية سرايا القدس، تعويض النقص الذي حصل في الذخيرة والمواد المتفجرة وكل المستلزمات التي استنفذت وتم استخدامها في صد هذا الاجتياح.

    كانت سياستنا باستمرار هي الحفاظ على مخزون كاف نوعا ما وفق ما تسمح به إمكانياتنا وما يمكن أن تجود به الأسواق الخاصة.

    وانطلاقا من هذه السياسة عملنا على شراء ما وجد وما يمكن أن نصل إليه من ذخائر ومن قطع سلاح، بالإضافة إلى المواد الأولية اللازمة لتحضير المواد المتفجرة وكل الإضافات المتعلقة بها وبتحضيرها لإعدادها بشكلها النهائي.

    وقد كان لذلك لجان وطواقم. كل منها له اختصاصاته في شراء وتحضير ما مر ذكره من مستلزمات. وكل هذه التجهيزات كانت من باب تعويض النقص الحاصل والحفاظ على المخزون في حدوده التي يجب أن يبقى عليها. ولم تكن من باب التحضير للاجتياح الأخير عند هذه اللحظة، لأننا عندها لم نكن نفكر أو نتوقع أن يكون الاجتياح التالي والأخير على هذه الدرجة والسرعة والعجلة.

    أراد الاحتلال و»غيره«!! أن ينتهوا من عقدة اسمها المخيم .. ولكن في تقديرنا أن ما عجل في تنفيد هذا الأمر سببان…

    الأول: عدم إعطاء مهلة وفرصة للمقاومة لالتقاط أنفاسها وإعادة تحضير نفسها وتجميع أوراقها من جديد، وذلك عبر الاجتياحات والضربات المتلاحقة، وصولا إلى الاجتياح الأخير والضربة الأخيرة كما يتوهمون.

    والسبب الثاني: أن الاحتلال حصل على معلومات مفادها أن هناك أساليب ومواد متفجرة جديدة قوية جدا وسهلة التحضير ويمكن تحضير كميات كبيرة منها في فترة زمنية قصيرة نسبياً إذا ما قورنت بغيرها من المواد.

    وهذا ما تبين لنا في أثناء التحقيق معنا من قبل المخابرات الصهيونية بعد الاعتقال حيث كان واضحاً لنا مدى تركيزهم على هذه المواد وكيف كانوا ينظرون إليها بأهمية وخطورة بالغة. وكانوا يعتقدون بشكل جازم أن هناك نقلة نوعية حصلت في تنفيذ العمليات واختيار الأهداف وطبيعة المواد المستخدمة فيها، ولم يخفوا أن هذا من جملة الأمور التي عجلت في عملية الاجتياح، فنتائج العمليات الأخيرة كانت أكبر واضخم من تلك التي نفذت قبل الاجتياح وخاصة عمليتي مجدو ومفترق كركور، اللتين نفذتهما السرايا، وهو ما يتضح من خلال العدد الكبير من الجنود الذين قتلوا في هاتين العمليتين.

    عندما تبين لنا أن الاجتياح التالي بات قريبا جداً وأن المسالة مسألة أيام معدودة فقط. تم استنفار جميع أفراد وعناصر سرايا القدس بكافة المجموعات ووضعوا في حالة تأهب قصوى وجاهزية تامة للمواجهة.

    في هذه الأيام القلية تمت مضاعفة الجهود المبذولة في التحضير والتجهيز أضعافا مضاعفة. حيث أن بعض الطواقم كانت توصل الليل بالنهار في العمل دونما راحة، الكل دؤوب على إنجاز المهام الموكلة إليه وما هو مطلوب منه عمله في مجال تخصصه. على صعيد السلاح والذخيرة، تم شراء بعض القطع وهذا راجع لعدم توفرها وارتفاع سعرها الذي وصل إلى أكثر من الضعف. فهي في النهاية سلعة تخضع لقواعد السوق وقوانين العرض والطلب (!!) كما تم شراء كثير من الذخائر وأيضا بأسعار مرتفعة.

    أما على صعيد المواد المتفجرة اللازمة لإعداد العبوات بأنواعها المختلفة، فقد انصبت جهودنا في تحضير مادة قوية وبكميات ضخمة قياسا بعامل الزمن والإمكانات.

    وهذه المادة تحضر من مادتين فرعيتين حيث تم شراء ما يقارب ثلاثة أطنان من كل مادة والطاقم المختص في هذا الجانب الذي كان على رأسه البطل القائد محمود طوالبة هو الذي كان يصل الليل بالنهار حتى استطاع أن يجهز طنين من هذه المادة بشكلها النهائي في غضون عشرة أيام فقط.

    بعد تحضير وتجهيز هذه المادة انكب نفس الطاقم على إعداد العبوات الناسفة بأحجامها وأشكالها المختلفة، حيث صنعت عبوات كبيرة الحجم مخصصة للآليات والمدرعات، كما تم إعداد عبوات متفاوتة الأحجام وكانت مخصصة ضد الأفراد.

    هذا بالإضافة إلى تصنيع وتحضير أكثر من ألف من العبوات الصغيرة التي كانت تضرب باليد، وتعد بمقام القنابل اليدوية (الميلز) من حيث المهام وطبيعة الاستخدام وهي ما كانت تسمى بالأكواع.

    بعد الانتهاء من تحضير العبوات الناسفة وبعد أن أخذت شكلها النهائي الجاهز للاستخدام تم توزيعها على جميع المحاور والمداخل حيث زرعت ونصبت في الأماكن المحددة وهي بذلك مستوحاة من خطوط الدفاع في المعارك العسكرية، بحيث إذا لم ينجح الخط الأول في الصمود وتم تجاوزه يكون خط الدفاع الثاني والثالث وهكذا.. وطبعا هذا التوزيع ينطبق على كافة أنواع العبوات سواء منها تلك المخصصة للآليات المدرعة أو تلك المخصصة للأفراد.

    كما تم الإبقاء على كمية من العبوات الناسفة الجاهزة دونما زراعة أو نصب وذلك تحسباً لأي طارئ ولسد أي ثغره أو نقطة أهملت ولم تؤخذ بالحسبان.

    والمناطق والمحاور التي تم زرع العبوات كبيرة الحجم فيها بشكل أساسي هي تلك التي يمكن أن تدخل منها وتتجمع فيها الآليات العسكرية الصهيونية، وهي على وجه الخصوص الشارع الرئيسي للمخيم والممتد من الشرق إلى الغرب بمدخليه، وشارع السكة في المنطقة الغربية وشارع الغبز ومدخل حارة الدمج والساحات الرئيسية في المخيم ومنطقة دوار مستشفى جنين على مدخل المخيم الشرقي، بالإضافة إلى منطقة الجابريات، وهذه لا يمكن للمقاومة أن تفعل بها أكثر من زرع بعض العبوات وذلك لكونها قمة جبلية مرتفعة قياسا مع المدينة والمخيم وهي منبسطة نوعا ما، ومساحتها أكثر من ضعفي مساحة المخيم، لذا فإن كل من يقف فيها يكون مكشوفاً وجه لوجه مع صواريخ الطائرات ونيران المدفعية، وهذا ما لا تقدر المقاومة عليه بهذا الشكل وببنادقها الفردية الخفيفة.

    وهذا ما يجعل منها (قمة الجابريات) هدفا سهلا للدبابات الصهيونية كونها لا تواجه بمقاومة شرسة إلا ببعض العبوات الناسفة التي تنجح في تفجيرها أحيانا وتفشل في أحيان أخرى.. وما إن تتربع الدبابات على قمة التلة أو الجبل حتى تحكم خناقها على المخيم بأكمله لكون المخيم بمعظم أجزائه مكشوفا لها وفي مرمى نيرانها.

    مشكلة أخرى واجهتها المقاومة في المخيم، أرى من الضروري التطرق لها وهي متعلقة بصواعق القنابل اليدوية المصنعة محلياً (الأكواع). فقد كانت هذه الصواعق متوفرة في الأسواق بشكل كبير وغير ملفت للنظر، إلى أن عرضت إحدى الفضائيات برنامجا قبل الاجتياح بفترة وجيزة، وقد بين هذا البرنامج ماهية هذه الصواعق.

    في الواقع فإن الخطأ هنا ليس خطأ وذنب الفضائية بقدر ما هو خطأ الأخ من عناصر المقاومة الذي شرح مثل هذه المعطيات عبر الفضائيات، حيث أن هذه المادة المستخدمة كصاعق تضاءلت كمياتها في السوق حتى انعدمت تماماً، وهذا بدوره أدى إلى إضعاف دور وتأثير هذه القنابل المحلية في المعركة لما تتمتع به من أهمية قصوى ودور فعال، وذلك لأنه من الصعوبة بمكان إيجاد بدائل لهذه الصواعق بنفس الفعالية وسرعة التحضير.

    ولا ننسى أننا نتحدث عن فترة زمنية قصيرة لا تتعدى الأيام القلائل. بالإضافة إلى كل ما تقدم فإنه لم يغب عن بالنا أمر المأكل والمشرب، وبعض المستلزمات الطبية، حيث قمنا بشراء كميات معينة من المعلبات وتحسبا لانقطاع الماء قمنا بتعبئة الكثير من الأوعية الخاصة مثل الجالونات وغيرها كما لم ننس إحضار العديد من المصابيح الكهربائية لاستخدامها في حالة انقطاع التيار الكهربائي، وذهبنا إلى أبعد من ذلك حيث أحضرنا مولد كهربائي إلا أن هذا المولد لم نستفد منه بالشكل المطلوب بسبب القصف المتواصل من قبل الطائرات للمواقع التي كان يوجد فيها.

    إضافة إلى ذلك، أحضرنا مكبرات الصوت لاستخدامها في الخطابات ورفع الروح المعنوية وأيضا لاستخدامها في التخاطب مع الجنود الاحتلال للتأثير على معنوياتهم المنهارة أصلا ولنشرح لهم عبثية ما يصنعون، وأن حكومتهم أرسلتهم إلى هنا ليلاقوا حتفهم ليس إلا. على صعيد التجهيزات الطبية قمنا بشراء وتحضير بعض الإسعافات الأولية من شاش وقطن ومعقمات ومطهرات وبعض الأدوية التي تساعد على وقف النزيف وتمنع التهاب الجرح و تعفنه، إلا أن ذلك لم يكن كافيا حيث لا بد من وجود طاقم طبي مختص ومجهز لأننا كنا نتوقع أن لا يتم السماح لنا بإخراج الجرحى كما لن يتم السماح لسيارات الإسعاف بالوصول إلينا (وهذا ما حدث بالفعل). قمنا بإنشاء طاقم طبي وإن بتجهيزات متواضعة.. وتم الاتفاق على أن تتولى الخدمات الطبية العسكرية في الأمن الوطني هذه المهمة بمساعدة الجهات المختصة.

    وفي الليلة التي سبقت الاجتياح قمنا بتفقد المستشفى الميداني، حيث كان به بالإضافة إلى طاقم من الممرضات خمسة أسره وقليل من أسطوانات الأكسجين وبعض الإسعافات الضرورية اللازمة.. ورغم تواضع هذا المشفى وتجهيزاته إلا أننا ارتحنا لوجوده وأزاح عن صدورنا هما ثقيلا لا يمكن وصفه أو تحليله فليس هنالك ما هو أصعب على النفس من أن ترى عضواً فيها أو صديقا لها ينزف دماً بسب رصاصة أو شظية أو قذيفة وصرخات ألمه تردد صدى صوت المستنجدة بالمعتصم لكن لا معتصم لهذا الزمان…

    في الساعات الأولى من ليلة الاجتياح في المحور الذي كنت فيه (حارة الدمج) و(شارع الغبز) وقعت عندنا أول إصابتين وأول شهيد في الاجتياح. بالمناسبة، فإن شارع الغبز هو الخط الفاصل ما بين المخيم والمدينة.. حيث يقع المخيم على حافته الغربية والمدينة على حافته الشرقية.. على حافة الشارع الشرقي استشهدت فتاة في العشرينات من عمرها وأصيبت شقيقتها بجروح خطيرة، ووفق ما علمنا كان هناك إمكانية لنقلهما إلى مستشفى جنين الحكومي كونهما على الحافة الشرقية. أما الفتى ضياء الذي أصيب بيننا على الحافة الغربية فقد حملناه وذهبنا به إلى المشفى الميداني وفوجئنا إذ وجدنا هذا المشفى مغلقاَ!! وبعد طول سؤال واستفسار تبين أن الشهيدة على الحافة الشرقية من الشارع هي الممرضة فدوى الجمال التي كان من المفروض أن تدير المشفى..!!

    رحم الله الشهيدة.. فباستشهادها اغتيل حلماً بإقامة المشفى الميداني !! ولكنني عندها تساءلت ومازال معي الكثيرون يتساءلون: هل من المنطقي أن يعهد لممرضة بإدارة مشفى ميداني في معركة يتوقع إصابة المئات بها..!!؟؟ وأين بقية الطاقم؟ إن المدير والطاقم والعاملين هم فقط هذه الشهيدة البطلة..؟!

    مجرد صدفة أم ماذا؟؟ ترى أين اختفى دور الخدمات الطبية العسكرية التي تعهدت بفتح وإدارة هذا المشفى؟

    وبالنظر إلى ما حصل في الاجتياح ما قبل الأخير، حيث عمد الاحتلال إلى فتح ثغرات في جدران البيوت وعبرها فكان يتحرك ويتنقل ويغير مواقعه ويتسلل من خلالها، انتبهنا لأهمية هذه النقطة وضرورتها، حيث قمنا كجزء من التحضيرات للاجتياح الأخير، بعمل ثغرات وفتحات في جدران البيوت.. ولولا هذه الثغرات لتقلصت حركتنا وقدرتنا بشكل كبير ولربما حدث الشلل الكامل، وذلك نتيجة للقصف المتواصل على مدار الساعة من قبل الطائرات، التي لم تغادر سماء المخيم ولو للحظة واحدة كانت تقصف وتضرب كل من يتحرك سواء كان مقاتلا أم مدنيا شيخا أم امرأة. كما استفدنا من هذه الثغرات في نصب الكمائن التي استطعنا أن نقتل بواسطتها العديد من جنود الاحتلال.

    من الأمور الهامة التي استفدناها من تجربة الاجتياحات السابقة، ضرورة وجود قناصة على بعض الأسطح ومن خلال النوافذ.. وهذا كان جزءاً هاما من التحضيرات حيث نصبت بعض النقاط للمراقبة والقنص وتم التمويه عليها بما تسعفنا به إمكانياتنا وخبراتنا، وذلك حتى تتجنب هذه النقاط صواريخ الطائرات وقذائف الدبابات. وكان لهذه النقاط دور فعال في صد الاجتياح وإيقاع الإصابات في صفوف جنود الاحتلال.. وقد عملنا على أن تأخذ هذه النقاط شكل الكمائن .. وكان من الضروري أن لا يشعر أحد وتحديداً العدو المهاجم بوجودها حتى تعطي الفائدة القصوى من إقامتها وتقوم بواجبها على أكمل وجه.

    نصب الكمائن وتوفير عوامل النجاح لها من حيث السرية وحسن اختيار العناصر المقاتلة الكامنة فيها من أهم الأمور التي يجب أخذها بعين الاعتبار لمن كان في حالة دفاع لأنها تستطيع أن تعوض بشكل ملحوظ نقص الأفراد والإمكانيات، وتعدل نوعاً ما اختلال ميزان القوة، وذلك لقدرتها العالية على إلحاق الخسائر البشرية الفادحة بالعدو المهاجم.

    لتحقيق قدر من السرية المطلوبة لما ورد في الفقرة السابقة، ولخطورة المحاور التي كنا فيها، ولأهميتها ومن أجل الحفاظ على الأخوة المقاتلين عموما والمطلوبين خصوصاً، قمنا بإبعاد أي شخص مشتبه به أو مشكوك في أمره أمنيا عن هذه المحاور ومنعناهم من التواجد فيها أو حتى الاقتراب منها.

    بالانتهاء من كل التحضيرات السابقة، وبوضع المقاتلين في مجموعات كل منها استلمت محوراً أو منطقة خاصة بها، وبتوزيع الذخيرة والعبوات على المقاتلين وفي المحاور ونقاط التماس الأساسية، وبعد أن عرف كل فرد مجموعته، اتخذ موقعه في الثغرة التي سيغطيها، وأدرك المهام الموكلة إليه… بكل ذلك تكون المقاومة فرغت من تحضير ذاتها وفق ما تسمح به إمكانياتها المتواضعة، وبما يسمح به عامل الزمن، وبذلك أيضا تكون على بعد دقائق معدودة من المواجهة.. حيث أن التحضيرات استمرت حتى بدء المواجهة وبعد أن بدأت.

    بداية المعركة:
    ما أن اختفت شمس الثلاثاء 2/4/2002 حتى كانت الدبابات والآليات الصهيونية تحكم طوقها على مخيم جنين وتتمركز على مقربة من جميع مداخله وتسيطر على جبال الجابريات. المدينة لم يكن حالها مختلفاً حيث كانت الأخرى مسرحا للدبابات وتحت سيطرتها باستثناء البلدة القديمة التي تمركزت فيها عناصر المقاومة وخاضت بدورها معارك متفرقة وشرسة فيما بعد مع قوات الاحتلال الغازية.

    بينما كانت الدبابات تزحف وتحكم الخناق على المخيم كانت الطائرات تحلق في سمائه استعداداً لصب جام حقدها على عشرات المقاتلين وآلاف المواطنين المدنيين. وقد سبق على عملية الزحف والإحكام هذه مسح شامل لكل موقع وبؤرة وشارع وزقاق وبيت وتصوير كامل لكل ما تقدم ذكره بواسطة طائرة الاستطلاع، والتي كانت تبعث بصور حية ومباشرة إلى مركز عمليات العدو الذي يقوم بدوره بتوزيعها على الطائرات الهجومية والفرق القتالية الميدانية .. وعملية الاستطلاع والمسح هذه استمرت قبل وأثناء الاجتياح حتى يومه الأخير.

    وفي ذات الوقت كانت طائرات الهيلوكبتر تقوم بعمليات قصف مكثف ممهدة لذلك الاجتياح البري، الذي بدوره يحكم المعركة تماما مثل الحروب والمعارك العسكرية الكبرى إن جاز لنا التعبير.

    في هذه اللحظة الأولى وحتى اللحظة الأخيرة، لم تتوقف الطائرات عن القصف وعلى مدار الساعة، حيث أنه لا يوجد بيت أو زقاق أو حتى متر مربع واحد إلا وأخذ نصيبه من صواريخ الطائرات وقذائف الدبابات.

    كان القصف شديداً وعنيفاً حتى وصل حد الجنون، وصل أحياناً كثيرة إلى سقوط صاروخ كل ثمانية ثوان بالإضافة إلى قصف بالرشاشات الثقيلة من عيار (800) و(1200ملم) من الطائرات ذاتها وأكثر المناطق عرضة للقصف كانت حارة الدمج والحارة الغربية وحارة الحواشين التي تمثل قلب المخيم هذه الحارات الثلاث هي التي شهدت معظم المعارك الأشد ضراوة.

    وظيفة سلاح الطيران في المعارك معروفة، ومن أهمها ضرب خطوط الدفاع والتجمعات العسكرية وقطع خطوط الإمدادات والاتصالات وإضعاف قوة الخصم وتشتيتها وإفقادها التوازن حتى يتم سحقها وإلحاق الهزيمة بها.. وفق هذا المنطق تماما تعامل معنا جيش الاحتلال الصهيوني.

    خطوط الدفاع لنا تمثلت في العبوات الناسفة المزروعة والمقاتلين المتمركزين على المحاور والمداخل الرئيسية وهذه كانت من أهم الأهداف لقصف الطائرات، و لأن العبوات الناسفة كانت تمثل أهم عوامل الدفاع التي بواسطتها نستطيع تفجير وإعطاب المدرعات العسكرية الغازية، فنحن لا نملك سواها ما يمكننا به مقاومة وصد هذه المدرعات.. لذا كانت في الاجتياح من أحد أهم الأهداف التي قصفتها الطائرات لإدراك العدو خلال الاجتياحات السابقة مدى خطورة هذه العبوات ومدى فعالياتها وأهميتها بالنسبة لنا.

    ولكن كيف استطاع العدو أن يبطل مفعول العشرات من هذه العبوات وهي مدفونة في الأرض أو منصوبة على حواف الشوارع والطرق؟

    من الأخطاء التي وقعنا بها أن معظم العبوات كنا نعتمد في تفجيرها على أسلاك كهربائية ممدودة من العبوة وموصلة للبطارية الكهربائية عندنا وهذه الطريقة معروفة ومكشوفة للاحتلال. تقطيع هذه الأسلاك أدى إلى إبطال مفعول العبوات. القصف المتواصل المكثف قطع هذه الأسلاك وبالتالي خسرنا هذه العبوات كسلاح فعال وجيد بالنسبة لنا.

    عبوات قليلة انفجرت في ساعات وأيام الاجتياح الأولى ، ولكن كلما مر الوقت وزاد القصف تضاءلت إمكانية التفجير وقارب الاحتمال إلى الصفر بالإضافة إلى القصف عمد الاحتلال إلى إدخال كاسحات الألغام قبل تقدم الدبابات ، فمثلا مدخل المخيم الشرقي على دوار المشفى الحكومي كان محوراً أساسياً لتقدم الدبابات، ولكن لتحصين هذا المحور جيدا بالعبوات والسواتر الترابية الضخمة لم تقترب منه الدبابات إلا في البداية لتنظيف المنطقة من العبوات، تقدمت أول دبابة من المدخل السابق ذكره واتجهت صوب حفرة كبيرة حفرها الاحتلال عند دوار المشفى الحكومي في الاجتياح السابق لتتربع فيه آلياته، وما أن استقرت الدبابة حتى انفجرت عبوة أسفلها مباشرة أصابت جميع من كان فيها وفق شهود العيان.

    من الاجتياح السابق علمنا أنه لابد من أن تتمركز دبابة في هذه الحفرة لذا قمنا بزرع عبوتين كبيرتين فيها . ما لم نعلمه هو هل كان انفجاراً نتيجة تيار كهربائي فجر الصواعق، أم أن ثقل وزن الدبابة هو الذي ضغط على الصاعق فانفجر وفجر العبوة؟ ولربما كان هذا هو السبب وراء انفجار الأعداد القليلة من العبوات التي انفجرت. أما البقية العظمى من العبوات فلم ننجح في تفجيرها لتقطيع أسلاك التفجير كما مر ذكره ولو كانت لدينا الإمكانيات والوقت الكافيين لتشغيل كافة العبوات عن بعد لكانت النتائج أفضل بكثير ولربما تغير شكل المعركة ولم تنته على مثل هذه الصورة التي انتهت إليها.

    أولى العبوات التي انفجرت كانت في منطقة الجابريات حيث انفجرت كل منها في دبابة وأصابتها إصابة مباشرة وذلك في اليوم الأول من الاجتياح، والعبوات التي زرعت في منطقة الجابريات نجت تمديداتها اللاسلكية من القصف لأن هذه المنطقة لم تتعرض لقصف مكثف إنما لبعض الصواريخ التي أطلقت على مقاوم لاحظت الطائرات حركته في المنطقة.

    القصف المكثف جعل من مساحة الميز في أعيننا لا تتعدى الأمتار المربعة القليلة حيث لم نكن نقدر على فعل أي شيء لمواجهة هذا الكم الهائل من الصواريخ سوى ترديد الشهادتين وانتظار الصعود لملاقاة الله عز وجل.

    قطع القصف أوصال الحارات والشوارع والأزقة في المخيم، وجعل من الأمتار القليلة التي تفصل بين كل زقاق آخر وكأنها كيلومترات طويلة تفصل ما بين بلدان وبلدان… ولأن ليس فقط كل محور وإنما كل زقاق أيضا في أحيانا كثيرة كان يشكل جبهة حرب مستقلة بذاتها، فإن المقاتلين في هذه الأزقة كانوا يحتاجون إلى إمدادات بشرية وذخائر وعبوات. وكان نقل كمية بسيطة من الذخيرة والعبوات أو انتقال مقاتل أو أكثر من زقاق لأخر يستغرق ساعات وساعات في بعض الأحيان، وفي ذات الوقت يشكل مجازفة خطيرة بحياة من يقوم بذلك لكثافة القصف ولأن رصاص قناصة الاحتلال الذين تمركزوا في أعلى المخيم وفي منطقة شارع ميهوب كان يغطي ويصل إلى كافة أزقة وحواري المخيم. وبالمناسبة فإن النسبة الأعلى من الشهداء استشهدت برصاص القناصة، فمثلاً الشهيد البطل طه الزبيدي ابن سرايا القدس استشهد بينما هو واقف على مدخل البيت الذي كنا نتمركز فيه برصاصة قناص، والشهيد البطل زهير النوباني ابن كتائب الأقصى استشهد برصاصة قناص وهو يحاول أن يقطع زقاق يفصل بين بيت وآخر، والأمثلة على ذلك تطول.

    من خلال ما سبق يتضح لنا أن العدو استطاع بالقصف المكثف والمركز بطائرات الهليكوبتر أن يحقق أهم الأهداف بضرب خطوط الدفاع وقطع الاتصالات ما بين المجموعات وعناصر المقاومة. وقد وصلت الأمور في أحيان كثيرة أن نكون في بيت أو موقع ومجموعة مقاومة أخرى لا يفصل بيننا وبينهم سوى بضعة أمتار ولا يدري أحد بما يحدث عند الآخر من شدة القصف وضراوة الاشتباكات.

    هنا أود أن أشير إلى نقطة هامة في معرض الحديث عن الطيران وهي لماذا لم يستخدم العدو الطائرات المقاتلة (طائرات إف 16) لقصف وضرب معاقل وتجمعات المقاومين أثناء الاجتياح والمعارك التي شهدها المخيم؟؟

    من البداية كانت أهداف العدو واضحة متمثلة في تصفية بعض الشخصيات التي يعتبر أنها مسؤولة عن العمل العسكري، بالإضافة إلى الخلاص من المخيم كقاعدة وبؤرة للمقاومة والقضاء على البنية التحتية للمقاومة من إمكانيات وعناصر. ومن طبيعة وكيفية الحصار والطوق الذي ضرب حول المخيم بالآليات العسكرية، ومن أعداد القناصة الذين أحاطوا المخيم وأحكموا مراقبته وتحديداً مع بداية اشتداد المعارك ضراوة لليوم الثالث كان واضحاً لنا إنهم لا يريدون نجاة أو خروج أي من عناصر المقاومة خارج المخيم.. إذ كان الطوق قريبا من عناصر المقاومة وبؤرها حتى الالتصاق والتلاحم.. ولهذا القرب بين عناصر المقاومة وما بين جنود الاحتلال وآلياته لم يكن بالإمكان أن يستخدم طائرات إف 16 بكثافة، ومن جهة أخرى لو أراد الاحتلال أن يستخدم طائرات إف 16 قبل أن يحكم حصاره وقبل أن يكون قد حصل على كل هذا الاقتراب المسافة ما بينه وبيننا لكان بالإمكان نجاة ومغادرة الكثير من عناصر المقاومة للمخيم أو اللجوء إلى أماكن أكثر أمناً، وبالتالي فشل الاحتلال في تحقيق الأهداف التي أرادها من وراء اجتياحه للمخيم.

    أما ما أريد التأكيد عليه، فهو أن الاحتلال لم يستخدم هذا النوع من الطائرات ليس تخوفاً من وقوع أعداد كبيرة من القتلى أو حرصاً منه على سلامة المواطنين.. وإنما جاء عدم الاستخدام لهذه الأسباب التي طرحت مسبقاً، أي لم يأخذ الاحتلال بحسبانه عدم المس بالمدنيين. لقد كانت صواريخه وقذائف دباباته تتساقط علينا دون مراعاة لوجود نساء أو أطفال بيننا، وفي أحيان كثيرة كانت تطلق صواريخ على مجموعة من المدنيين لوجود مقاتل واحد بينهم وحدث هذا كثيرا معي ومع غيري.

    للتذكير فقط فإن الاجتياح السابق للذي نتحدث عنه استشهد فيه أربعة وعشرون شهيداً وكان هناك مقاتل واحد من بينهم هو الشهيد البطل أمجد الفاخوري أما بقية الضحايا فكانوا مدنيين مستضعفين من شيوخ ونساء وولدان.

    كما أن الاحتلال لم تكن عنده مشكلة أو تخوف من وقوع أعداد كبيرة جداً من القتلى ، فعند اعتقالنا في تاريخ 11/4/2002 كنا نعتقد أن عدد الشهداء ما بين المائتين والمائتين والخمسين شهيدا وأثناء وجودنا في التحقيق والزنازين كان أفراد المخابرات الصهيونية يقولون لنا إن وسائل الإعلام العربية تتحدث عن خمسمائة شهيد فهل هذا صحيح؟؟ وسؤالهم كان سؤال المستفسر غير العالم بحقيقة الرقم.. وإن كان اعتقادهم قريبا من اعتقادنا لحظة اعتقالنا. وعندما بدأت حقيقة الأرقام تتضح أصابتهم صدمة حقيقية، وأعتقد ـ ما سمعته من كلامهم ورأيته من تصرفاتهم ـ بأنهم لو كانوا يعرفون حقيقة الرقم لقاموا بعمليات قتل جماعية أخرى، ليعيدوا ميزان خسارتهم البشرية والمتمثلة بتسعة وعشرين قتيلا ومائة وستة وأربعين جريحا من الجنود وفق إحصائية مخابراتهم.

    التقسيمات والقيادة الميدانية:
    قبل الخوض بتفاصيل بعض المعارك والاشتباكات التي شهدتها وسمعت عنها أرى من الضروري: المساعدة في فهم بعض الأمور والجوانب، والتطرق لتقسيم المجموعات وطبيعة القيادة التي كانت موجودة في المخيم وما سمي بغرفة العمليات المشتركة بين فصائل المقاومة.

    فيما يتعلق بالمجموعات وتقسيماتها، فقد كان تشكيل المجموعات قائماً على أساس العلاقة الشخصية داخل التنظيم الواحد أو بين أفراد أكثر من تنظيم، طبعاً برضى وموافقة تنظيماتهم. وهؤلاء الأفراد يتمتعون بدرجة عالية من الانسجام فيما بينهم تجعل كلاً منهم على استعداد كبير للتضحية والصمود إلى جانب رفيق سلاحه حتى الرمق الأخير.

    إن هذه المجموعات هي التي كانت تختار ذاتيا المحور والموقع الذي ستغطيه وتتمركز فيه، وطبعا هذا لا ينفي أن نكون قد طلبنا نحن في »سرايا القدس« من بعض المجموعات والعناصر التواجد في مواقع محددة.

    ومن ناحية قيادة وإدارة المحاور والمعارك فإنها لم تكن قيادة بالمعنى التقليدي السائد في الجيوش، كما أن قراراتها وتعليماتها لم تأخذ طابع الأمر والإلزام، وإنما هي أقرب ما تكون إلى قرارات القيادة والمشاركة والمشاورة التي لا تأخذ أي قرار إلا برضى وقبول الجميع. وفي معظم الأحيان كان يطغى على هذه القرارات صفة الطلب وذلك لطبيعة العلاقة الشخصية ما بين هذه القيادات وعناصرها، هذا بالإضافة إلى أن جميع من شاركوا في الدفاع عن المخيم (باستثناء قلة شاركت على خجل خوفا من أن يقال أنها انسحبت وفرت) ـ كانت مشاركته تطوعية ذاتية أكثر منها التزام بقرارات تنظيمية، وإن كانت التنظيمات قد طلبت وحثت عناصرها على المشاركة في الدفاع عن المخيم، وهذا ما فعلناه في سرايا القدس.

    فنحن في النهاية من جهة علاقتنا بأبناء شعبنا ومقاتليه لسنا بجيش منظم ولا نملك إمكانية وسلطة الجيوش في الأمر والضبط والتنظيم. هذا مع التنويه إلى أن أكثر الجيوش انضباطا وتسلحا لو تعرضت وفق المعارك لمعادلة النسبة والتناسب لما تعرضنا له، ووضعت في ذات الظروف التي كنا نقاوم فيها لانعدمت معها سلطة وإمكانية الضبط والإلزام بالمفهوم العسكري، فما بالك بعشرات المقاتلين الذين كانوا يشاركون بقرار ذاتي قبل كل شيء.. وما كان يعطي الشخصيات القيادية صفة القيادة كونها قيادات في تنظيمها وبالتالي استمرت وتكرست هذه القيادة في أثناء المعارك كما أن ما دعم هذه القيادة هو الدور المميز الذي لعبته أثناء الاجتياح وأنها كانت دوما في المقدمة وحيث تكون المخاطر، فمثلا الشهيد البطل محمود طوالبة وهو من أبرز إن لم يكن أبرز القادة الذين كانوا في المخيم، كان بالإضافة للبعد الرمزي والمعنوي الذي يضفيه على الموقع المتواجد فيه دوماً في مقدمة المقاومين والمقاتلين المشتركين معه في المحور الذي يغطيه، وليس أدل على ذلك من تمركزه في منزل جواد أبو طالب ( حارة الزبيدي) برفقة صديقيه الحميمين الشهيد البطل عبد الرحيم فرج والشهيد البطل شادي النوباني أبناء سرايا القدس ورفضهم الانسحاب من المنزل مع علمهم أن جميع المقاتلين قد غادرا الموقع. وأصر القائد محمود مع إخوانه على البقاء حتى يلقوا ربهم شهداء مقبلين غير مدبرين.

    كان التنسيق فيما بين الفصائل قائما على أساس العلاقات الشخصية اكثر من كونه قرارات رسمية تنظيمية، وان كان الناظر من بعيد يرى ان هناك تنسيقاً أمنياً على أعلى المستويات وفي أغلب الأحيان كان التنسيق ميدانياً تفرضه معطيات الواقع ومستجداته، فلم يحدث في سرايا القدس أن كان لدينا تصور وسيناريو محدد.. وبناءً عليه جاءت تجهيزاتنا الدفاعية وتوزيع مجموعاتنا على أهم المحاور في الحارة الغربية وحارة الدمج وحارة الحواشين ومنطقة شارع مهيوب لكن… ما إن تبدأ المعارك ويشتد القصف وتشعر تدريجيا بفقدان التوازن حتى تصبح تصرفاتك وقراراتك وليدة اللحظة واستجابة لمعطيات اللحظة الآتية… دونما تفكير كثير بما قد يستجد من معطيات اللحظة المقبلة.

    الخطة المشتركة لم تكن موجودة... والتنسيق اخذ طابعا شخصيا أكثر منه رسمياً وتنظيمياً... طبعا هذا لا ينفي وجود تعاون وتقديم مساعدات بإمكانياتنا المحلية... وما ندخره من عبوات كانت في متناول أعضاء الفصائل الأخرى. كنا أحياناً نضعها على حواف الطرقات لمن يريد ويحتاج ولا نتأخر عن تقديم أية مساعدة منا ونقدر عليها.

    ولكن إن جاز لنا أن نقول انه كانت هناك غرفة عمليات مشتركة، فإن الشهيد القائد محمود طوالبة كان الأساس القائم على هذه النقطة وذلك لعلاقاته الواسعة مع الجميع داخل المخيم والمجهود الضخم الذي بذله قبل وأثناء الاجتياح حتى استحق عن جداره وبحق إن يكون أسطورة وأسد المخيم وكان أهم توجيهاته للجميع بأن يتم الاقتصاد في استخدام الذخيرة وان يتم الاعتماد على أسلوب القنص (والحد أدنى) ويا حبذا لو أن كل رصاصه ترد راس مالها!!.

    اليوم الثالث كان هادئاً ولم يسجل فيه سوى حادث إطلاق نار من مسافة بعيده مع العلم أن الاشتباكات كانت مستمرة في محاور أخرى. في اليوم الرابع عادت المحاولات لما كانت علية !! ولكن المختلف في هذه المرة أن كانت تجري عدة محاولات للاختراق في ذات الوقت، وأصبحت المسافة ما بيننا وما بين جنود الاحتلال أكثر قرباً.. وبدا واضحاً لنا أن اشتباكات هذا اليوم اكثر حدة وعنفا من سابقتها.. جيش الاحتلال كان لدية مجموعة من الخطط تطبق التالية في حالة فشل السابقة.

    وابرز اشتباكات هذا اليوم كانت بيننا وبين فرقة من جنود الاحتلال المشاة في عمارة أبو الرب المطلة على المدخل الشرقي لحارة الدمج… والمسافة فيما بيننا وبينهم في حدود العشرين متراً.. وللتذكر فقط فإن هذه العمارة كنا قد زرعنا فيها بعض العبوات وعلى ما يبدو فإن جيش الاحتلال لم يدخلها إلا بعد أن تأكد من أن هذه العبوات لن تنفجر.. وهذا ما قد تم!!

    في هذه الحارة كانت تواجهنا مشكلة متمثلة بان حجمها صغير جدا بحيث لا يسمح بتواجد أعداد كبيرة من المقاتلين بها حيث أن مسافة هذا المحور هي مساحة قطعة أرض عليها سبعة بيوت من بيوت المخيم المتلاصقة المتراصة.. كما أن طبيعة المحور جغرافيا وأمنياً لا تسمح بالتوسع والانتشار شرق المخيم… وبالمقابل فان أي تراجع من قبلنا باتجاه المخيم غربا ولو بمقدار بيتين فقط معناه سيطرة قوات الاحتلال على المحور ثم على الحارة بأكملها على ما تمثله من أهمية استراتيجية بالنسبة لنا.. لذا كان مطلوبا من هذه المجموعة أن تعمل في هذه البقعة الجغرافية الصغيرة جداً وان تتحمل كل ضغط يمكن أن تتعرض له لأنها تعلم أن تراجع أمتار معدودة إلى الخلف يعني تراجعنا وخروجنا من الحارة بأكملها.

    توزيعاتنا الرئيسية نحن في سرايا القدس كانت على النحو الآتي… مجموعة تحت إمرة الشهيد القائد محمود طوالبة وتغطي المحور الغربي .. مجموعة تحت إمرة الحاج علي الصفوري تتمركز في حارة الحواشين… مجموعة تحت إمرة كاتب هذه السطور وتغطي محور حارة الدمج بالإضافة إلى بعض المجموعات الفرعية المتوزعة في عدة مناطق من المخيم فيما يتعلق بمحور حارة الدمج فقد كان تحت مسؤولية سرايا القدس بشكل عام وان تواجد وشاركنا فيه أعضاء من فصائل أخرى.. بالإضافة إلى مجموعتنا الرئيسية المكونة من اثني عشر مقاتلا كان هناك ثلاثة مقاتلين من كتائب عز الدين القسام ومقاتلان من كتائب الأقصى ومقاتل من أفراد الشرطة وهو من سكان مخيم أصلاً.

    ولا ننسى قائد الفرقة المتمردة في الأمن الوطني الشهيد البطل يوسف قبها »أبو جندل« بالإضافة إلى الشهيد البطل زياد العامر (كتائب شهداء الأقصى) وان كان استشهاده مبكراً إلا أن دوره على هذا الصعيد كان واضحا وبارزاً ولا أنسى تلك الليالي السابقة للاجتياح التي شاركني والشهيد طوالبة الشهيد العامر والحاج علي الصفوري جزءاً منها ونحن نزرع العبوات ونتهيأ ونحضر الكمائن في منطقة الجابريات وشارع مهيوب والمناطق العليا من المخيم..

    (التقدم بالمشاة)
    أوضحت سابقاً أنه كان هناك قصف مكثف لصواريخ الطائرات وبالرشاشات الثقيلة قد سبق عملية التقدم من قبل جنود الاحتلال المشاة باتجاه المنازل في أطراف المخيم.

    في البداية عمد الاحتلال إلى عمليات توغل في أكثر من محور… على ما يبدو أنها كانت عمليات قليلة لجس نبض المقاومة ومحاولة التعرف على الحلقة الأضعف في المحاور، عله يستطيع أن يحدث خلالها ثغره تكون نقطة انطلاق لمحاولات أخرى ينفذ من خلالها إلى باقي المخيم.. هكذا بدت الأمور في اليومين الأول والثاني محاولات وعمليات بحث وتسلل تواجه برصاص القناصة.. اشتباكات متفرقة.. عدم إحراز أي تقدم واضح لصالح العدو .. يليه تراجع وانسحاب لقوات الاحتلال بغطاء جوي ومدفعي.. قصف مكثف بصواريخ الطائرات من جديد ومحاولات أخرى للتوغل..

    حارة الدمج
    قدم الحديث عن هذه الحارة كونها المحور الذي كنت فيه من البداية حتى خروجي منها ووقوعها تحت سيطرة قوات الاحتلال.

    حارة الدمج تمثل خط الدفاع الأول عن المخيم جغرافيا وعسكريا وفق الحال الدفاعية التي كنا عليها .. لأن قوات الاحتلال ما إن تسيطر عليها حتى تصبح مطلة ومشرفة على حارة الحواشين (قلب المخيم) ولأن السيطرة عليها تعني أن تتم السيطرة على المناطق العليا من المخيم وبالتالي لم يبق منه سوى حارة الحواشين.. سيتجمع فيها المقاومون مرغمين فيما بعد..

    ولمعرفتنا بأهمية وخطورة هذه الحارة جاءت تحضيراتنا على قدر أهميتها.

    وتعرضت حارة الدمج مثل غيرها من الحارات والمحاور إلى محاولات توغل مصحوبة بقصف جوي مكثف.. وفي اليوم الأول جرت عدة محاولات للتوغل ووجهت بمقاومة كثيفة وبأساليب مختلفة عن تلك التي اعتادها الاحتلال في الاجتياحات السابقة.. فما إن تقدمت قوات الاحتلال متسللة باتجاه محورنا حتى تصدى لهم رصاص قناصتنا المنتشرين بشكل جيد باشتباكات عنيفة… ولم يفلح العدو حيال هذا التصدي في إحراز أي تقدم كما انه لم يكن يملك أمام هذا الصمود سوى الانسحاب والتراجع مرة أخرى بغطاء من الصواريخ والرشاشات الثقيلة.. وبعد فترة زمنية قصيرة نسبيا جاءت محاولة أخرى انتهت على مثل ما انتهت عليه سابقتها…

    وتوالت المحاولات وان كانت حدتها تختلف… لدرجة أننا كنا نتمازح فيما بيننا ونقول ما هذا؟ إنها لعبة أكثر منها اشتباكات.. طبعاً وبلا شك فإن الاحتلال كان يسعى إلى تحقيق أهداف محددة من وراء ذلك .

    هذه المحاولات كانت تستمر طوال النهار لكن ما إن يحل الغروب ويهبط الليل على المخيم حتى تتوقف هذه المحاولات.. وكأنها هدنة غير معلنة بيننا وبين قوات الاحتلال… الليل لم يكن يشهد أي تحرك لقوات الاحتلال على الأرض إلا في حالات قليلة جداً. واستمر هذا الوضع طوال فترة الاجتياح.. لكن القصف بالصواريخ والرشاشات الثقيلة ورصاص القناصة لم يكن يتوقف إطلاقاً بل على العكس، كان يشتد حدة ليلاً في أحيان كثيرة.

    الصورة في اليوم الثاني لم تكن تختلف كثيرة عن اليوم الأول، لكن ما ميزه عن الأول هو تسجيل إصابتين في صفوف العدو.

    الشيء الذي لفت نظرنا في هذا اليوم هو ان هذه المحاولات والاشتباكات التي رافقتها كانت تستغرق نصف الساعة تقريبا مما جعلنا نتشكك في ان يكون الهدف من ورائهما الإضافة إلى الإرهاق ما هو إلا محاولة للعمل على إحداث نقص حاد في الذخيرة التي بحوزتنا. لذا كانت تعليماتنا واضحة منذ البداية بالاقتصاد الشديد في الذخيرة.

    أيضاً كان عندنا (سرايا القدس) في ذات الحارة مجموعتان للإسناد تمركزت الأولى بصحبة أفراد من الأمن الوطني اسفل جامع الأنصار، بينما تمركزت الثانية بصحبة أفراد أيضاً من الأمن الوطني في مقابل شارع (طلعة رشيد) لمراقبة أي تحرك لقوات الاحتلال لمنع الالتفاف علينا في محورنا.

    بعد أن مالت شمس اليوم الرابع للغروب ذهب بعض المقاتلين لأخذ قسط من الراحة لكن مع تجدد الاشتباكات والقصف في اليوم التالي تعذر عليهم العودة إلى المحور مما زاد من الضغط على المجموعة المقاتلة الصغيرة المتبقية.

    الشهيد البطل محمود طوالبة كان كما بينا سابقاً مسؤولاً عن المحور الغربي (منطقة سكناه) لكنه في ذات الوقت كان كثير التنقل بين المحاور ومنذ الأيام الأولى وحتى منتصف اليوم الأخير لنا في حارة الدمج قضينا معظم الوقت معاً. فهذه الحارة كانت تربطنا بها علاقة وثيقة علاقة كنا أحياناً لا نقوى على تفسيرها ونعجز عن فهم السر من ورائها، إلا أننا كنا ننشد إليها وتنشد إلينا في سمفونية انتماء غريبة لا تعرف مشاعرنا ما يماثلها حتى تجاه مساقط رؤوسنا. فعندما كنا نتساءل فيما بينا عن سبب العلاقة مع هذه الحارة وعندما كنت أرى هذا الحب الكبير الذي يكنه قلب هذه الحارة وقلوب مثيلاتها لمحمود، كانت تقفز في ذهني صور مثقفين ومفكرين ونظرياتهم العلمية حول التغيير الاجتماعي والسياسي وكنت أقول لنفسي فليأت أولئك بكل تواضع إلى المخيم وليتعلموا من محمود كيف يكون التغيير وكيف تكون الجماهير رهن إشارة فارسها.

    معادلة التعامل مع الجماهير عند محمود كانت واضحة، فكلما اقتربت من الناس ولامست آلامهم وحاولت مداواة جراحهم ورسمت البسمة والفرحة على شفاههم، كلما اقتربوا منك واحتضنوك وأعطوك بلا انقطاع. هذه هي المعادلة التي كتبها محمود بعرقه وبدمه، وبهذه المعادلة احتضن محمود قلب المخيم. ولنا أيضا اصبح محمود أسطورة المخيم وفارسه حتى صارت حكاياه تقص على الأطفال قبل نومهم.

    ذات ليلة كنت ومحمود نتفقد بعض بيوتات المخيم فقالت لنا إحدى النسوة إن ابنها نام قبل قليل من شدة البكاء لأنه أراد أن يخرج ليلاً ليرى محمود، وبسبب الليل والخوف حالت الأم بينه وبين الخروج فانفجر الإبن من بالبكاء لم يخرج منه إلا بنوم سبقه سماع حكاية من حكايا فارس المخيم الحامل على كتفيه كل هموم التشرد واللجوء. ووعدها الفارس بأنه سيأتي صباحاً ليراه ليرى ذلك الطفل الذي نام على صور حكاية فارسه.

    وفي الصباح ذهبنا وكان الطفل قد علم أن الفارس قد مر على بيته ليلا فبكى أكثر ولم تذهب بقايا الدموع إلا بتلك الابتسامة البريئة على وجه الطفل لرؤيته فارسه قبل أن يذهبا في عناق طويل.

    كنت أغبط أخي محمود وأقول لعل الله احب محمودا فنادى في الملائكة أنه أحبه فأحبوه نادت في الناس إن الله يحب محموداً فاحبوه واجعلوا له بينكم القبول.

    وقضينا معا الليلة المطلة على اليوم الخامس للاجتياح.. تناقشنا.. ضحكنا.. حزنا.. وتحدثنا كثيرا عن الماضي والبدايات، وإذا ما مر المستقبل في حديثنا شعر كلينا أن القدر سيعاجلنا قبل رؤيته وان ما يخبئه لنا قاب قوسين أو أدنى. وكان محمود في هذه الليلة كثير الصمت شارد الذهن ولربما كان يدعو أثناء صمته الاستعجال في وقوع القدر من رب القدر.. وغالباً ما كنت أقطع عليه حالته هذه وأبادر في الحديث وفي وقت متأخر قال لي: اذهب لتنام قليلاً. فقلت له: اذهب أنت أنا لا أريد النوم نهض وفي هذه اللحظة أردت أن أحدثه عن فكرة مرت لتوها في ذهني.. محمود إذا انتهى الاجتياح ونحن ما نزال أحياء.. عندها التفت نحوي وكأن كلمة أحياء استفزته وقالت عيناه ما لم يصرح به لسانه »والله لن ادعها تفلت مني هذه المرة«، فقاطعني قائلاً والبسمة على وجهه اكثر عباراته ترديداً »توكل على الله«!!! ولم يمض وقت طويل حتى حان أذان الفجر فصلى الجميع على مجموعتين وبعدها بوقت قصير بدأت معركة اليوم الخامس واشتباكاته.

    الساعة تشير إلى ما قبل الخامسة بقليل.. الفجر راح يبدد عتمة الظلام رويداً رويداً هدوءً حذر بلف المحور لا تحركات عندنا ولا مقابلة لدى العدو.

    فجأة لمحت من فتحات الجدار التي عملناها في الطابق الثالث تحركات وسمعت همسات ووقع خطى في الطرف القريب لنا من حديقة عمارة أبو الرب أدركت للتو أنها فرقة من جنود الاحتلال قادمة لتأخذ نصيبها من الموت الذي ستوزعه عليها بنادقنا. ومر ذلك في أجزاء من الثانية ففتحت عليهم نيران بندقيتي بكثافة حيث هنا لا مكان ولا زمان الاقتصاد في الذخيرة فهذه مجموعة مغرية من جنود الاحتلال والمسافة ما بين فوهة بندقيتك وما بين أجسادهم لا تتعدى الأمتار المعدودات تقذف عليهم الموت والرعب تحمله أكبر كميه ممكنة من رصاصك ولكن اعمل على أن يستقر الرصاص في النصف الأعلى من أجسام هؤلاء الذين زرعوا الموت والدمار في أرضك.

    أطلقت الرصاص كبرت وصرخت ليستيقظ النيام، ومثلي فعل الشهيد البطل عبد الهادي العمري الذي كان معي لحظتها والذي سيكون له دور مميز فيما بعد في إحدى معارك المخيم لم يكن هناك حاجة لصراخنا ليفيق من هو نائم لكنها ردات فعل عفوية وتصرفات تلقائية يصدرها الجانب اللاإرادي من ذواتنا في مثل هذه المواقف، فصوت الرصاص أقوى من كل الأصوات وصوت بندقية عبد الهادي القديمة ارتداد قعقعة سيف الشهداء في بدر وأحد ويا قعقعة سيفك يا حمزة. بجانبنا كان ينام ثلاثة مقاتلين أحدهم كان شبلاً سلاحه عدد من الأكواع وبندقية تصنيع محلي نهض من نومه كفارس متمرس قضى جل عمره في التمرن على التعامل مع مثل هكذا ظرف، كان يقاتل ولسان حالة يقول إن هذه البندقية لا تستطيع أن تقف في وجه الدبابات الصهيونية فقط وإنما قادرة أيضاً على إلحاق أبشع الهزائم بها لان من خلفها تقف الإرادة والحق الفلسطينيين.

    والحمد لله رب العالمين

  • #2
    مشكورين اخى الكريم واللهم فك اسر اسرانا الابطال

    تعليق


    • #3
      مشكورررررررررررر ويعطيك الف عافية

      اللهم فك اسرانا واشف جرحانا وداوي مرضانا

      دمت بحفظ الرحمن
      إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
      نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
      جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

      تعليق

      يعمل...
      X