فتحي الشقاقي.. لم نكن بحاجة إلى اغتياله في (26/10/1995)، حتى نعرفه جيداً ونبكي غيابه.. كنا بحاجة، نحن الذين عرفناه، إلى أن نعرف كيف ننهل من حضوره.
لا أعرف في ذكرى رحيله الرابعة عن أي فتحي الشقاقي أتحدث.. فتحي الإنسان، أم فتحي القضية، أم علاقتي بالاثنين معاً؟
ومصدر حيرتي هذه أنني لم أقرر أن أكسر الصمت وأبوح بسر العاشق، لكنني أردت أن أعلن البراءة كل البراءة من «الحياد» و«البرود» إلى حد الصقيع، الذي استوطن أفئدتنا حيال سخونة دمه على رصيف «حي سليمة» في مالطا، فلم نفتح مخابئ النور لتندلع نار العشق وتهزم حجب الظلام التي نثرها رصاص الغدر الصهيوني اللعين.
حين ينساب فتحي الشقاقي خيطاً من اللآلئ على خد طفلة في رفح، يصبح اسمه سياجاً لصيانة الذاكرة من اجتثاث أكيد. وحين يفقد المناضل في زمننا «عذريته الوطنية»، ويبسط جناح الذل تحت أقدام الغزاة، يطلع فتحي الشقاقي على رأس مظاهرة العائدين من الموت، لتتحول سيرة الشهداء من نشيد ملحمي حزين إلى ملحمة شاملة للحزن والفرح.
فتحي الشقاقي رفض أن يستجدي الحياة من العدو، أو يلتمس العفو من الجلاد.. رفض الحفاظ على ذاته ورأسه ووجوده بأي ثمن كما فعل كثيرون.. وعندما يفرض قانون غابة العصر على النور أن يسلم أوراقه للظلام، وأن يمنح الذئب اسم غزالة، كان خيار الشقاقي واضحاً، أن لا شيء على هذه الأرض يغري بهذه الحياة.
كان فتحي الشقاقي جميلاً يحب الحياة الجميلة.. منذ اللحظة الأولى التي عرفته فيها، كانت روحه نسبح في مدارات الخطر: (الحرية، العشق، الثورة، الشهادة..).
كما كل أبناء الجيل الذي ولد ما بين النكبتين، كانت الأسئلة الحائرة أحد مكونات الروح الفلسطينية، التي جادت بها النكبة الأولى على الشقاقي، فكانت إجابة الواقع العربي هي النكبة الثانية!
داهمت النكبة الثانية عقل الشقاقي الفتى، الذي أحب جمال عبد الناصر، ولم يكن ناصرياً بالمعنى الذي دشن بعد موت عبد الناصر.. بحث الشقاقي عن طريق آخر، وفِكر آخر أكثر إضاءة وأكثر قدرة على فهم حكمة الطوفان ودرس الهزيمة.
رست مركب الشقاقي على بر الإسلام العظيم عبر مرفأ الحركة الإسلامية في فلسطين.
في الحركة الإسلامية كانت مشكلة الشقاقي في وعيه المتقدم جداً، وكما قال أحد المفكرين الكبار يوماً «عندما يأتي شكل من أشكال الوعي قبل زمنه يكون مأساوياً».
لم تكن فلسطين حاضرة في التكوين الوجداني لأبناء الحركة الإسلامية، ولا في الدروس الباردة التي تستخف بفلسطين الجغرافيا استخفافاً على التاريخ.. بل إن «الأرض» بما هي «أرض» لم يكن مسموحاً أو مقبولاً مجرد الكلام فيها.
أشعل الشقاقي الحوار في جدل الديني والوطني داخل الحركة الإسلامية. أتقن الشقاقي فن اختبار ما اصطلح علـى تسميته «المسلمات»، في الوسط الإسلامي التقليدي، لأنه أتقن فن مساءلة التاريخ وتفكيك رواياته السائدة، ليعيد تشكيل الوعي الإسلامي في فضاء تكون فلسطين بؤرته المركزية.
لم يأتِ الشقاقي في الحقيقة من الفضاء الوطني، أو العروبي، إلى الفضاء الإسلامي أو العكس، بل بوقوفه على أرض الإسلام في فلسطين، رسم لفلسطين فضاءً واحداً مربع الأضلاع (وطني ـ عروبي ـ إسلامي، إنساني). بيد أن اقتحام مساحة المربع كان يتطلب أداة واحدة: الجهاد.
أدرك الشقاقي بإيمانه المؤسس على المعرفة، ووعيه المرتبط بالواقع، حاجة المرحلة إلى المشروع الذي يعيد اكتشاف إسلامية الفلسطيني وفلسطينية الإسلامي، بما يعيد اكتشاف فلسطين من جديد؛ فعبّر بذلك عن ضمير «الجماعة الوطنية» الذي هو ضمير الأمة.
كان الشقاقي يدرك أن تجاوز الهزيمة لا يتم في الفراغ، بل في دائرة الفعل، فأبدع اقتحامه المشهد الجهادي، بتأسيس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين..
تضيق مساحة البياض أمامي، فأختم معتذراً وكلي إحساس، أنني لم أفرغ من كتابة الحرف الأول في كتاب مفتوح على الأمل والوعد والنصر.. اسمه فتحي الشقاقي..
لا أعرف في ذكرى رحيله الرابعة عن أي فتحي الشقاقي أتحدث.. فتحي الإنسان، أم فتحي القضية، أم علاقتي بالاثنين معاً؟
ومصدر حيرتي هذه أنني لم أقرر أن أكسر الصمت وأبوح بسر العاشق، لكنني أردت أن أعلن البراءة كل البراءة من «الحياد» و«البرود» إلى حد الصقيع، الذي استوطن أفئدتنا حيال سخونة دمه على رصيف «حي سليمة» في مالطا، فلم نفتح مخابئ النور لتندلع نار العشق وتهزم حجب الظلام التي نثرها رصاص الغدر الصهيوني اللعين.
حين ينساب فتحي الشقاقي خيطاً من اللآلئ على خد طفلة في رفح، يصبح اسمه سياجاً لصيانة الذاكرة من اجتثاث أكيد. وحين يفقد المناضل في زمننا «عذريته الوطنية»، ويبسط جناح الذل تحت أقدام الغزاة، يطلع فتحي الشقاقي على رأس مظاهرة العائدين من الموت، لتتحول سيرة الشهداء من نشيد ملحمي حزين إلى ملحمة شاملة للحزن والفرح.
فتحي الشقاقي رفض أن يستجدي الحياة من العدو، أو يلتمس العفو من الجلاد.. رفض الحفاظ على ذاته ورأسه ووجوده بأي ثمن كما فعل كثيرون.. وعندما يفرض قانون غابة العصر على النور أن يسلم أوراقه للظلام، وأن يمنح الذئب اسم غزالة، كان خيار الشقاقي واضحاً، أن لا شيء على هذه الأرض يغري بهذه الحياة.
كان فتحي الشقاقي جميلاً يحب الحياة الجميلة.. منذ اللحظة الأولى التي عرفته فيها، كانت روحه نسبح في مدارات الخطر: (الحرية، العشق، الثورة، الشهادة..).
كما كل أبناء الجيل الذي ولد ما بين النكبتين، كانت الأسئلة الحائرة أحد مكونات الروح الفلسطينية، التي جادت بها النكبة الأولى على الشقاقي، فكانت إجابة الواقع العربي هي النكبة الثانية!
داهمت النكبة الثانية عقل الشقاقي الفتى، الذي أحب جمال عبد الناصر، ولم يكن ناصرياً بالمعنى الذي دشن بعد موت عبد الناصر.. بحث الشقاقي عن طريق آخر، وفِكر آخر أكثر إضاءة وأكثر قدرة على فهم حكمة الطوفان ودرس الهزيمة.
رست مركب الشقاقي على بر الإسلام العظيم عبر مرفأ الحركة الإسلامية في فلسطين.
في الحركة الإسلامية كانت مشكلة الشقاقي في وعيه المتقدم جداً، وكما قال أحد المفكرين الكبار يوماً «عندما يأتي شكل من أشكال الوعي قبل زمنه يكون مأساوياً».
لم تكن فلسطين حاضرة في التكوين الوجداني لأبناء الحركة الإسلامية، ولا في الدروس الباردة التي تستخف بفلسطين الجغرافيا استخفافاً على التاريخ.. بل إن «الأرض» بما هي «أرض» لم يكن مسموحاً أو مقبولاً مجرد الكلام فيها.
أشعل الشقاقي الحوار في جدل الديني والوطني داخل الحركة الإسلامية. أتقن الشقاقي فن اختبار ما اصطلح علـى تسميته «المسلمات»، في الوسط الإسلامي التقليدي، لأنه أتقن فن مساءلة التاريخ وتفكيك رواياته السائدة، ليعيد تشكيل الوعي الإسلامي في فضاء تكون فلسطين بؤرته المركزية.
لم يأتِ الشقاقي في الحقيقة من الفضاء الوطني، أو العروبي، إلى الفضاء الإسلامي أو العكس، بل بوقوفه على أرض الإسلام في فلسطين، رسم لفلسطين فضاءً واحداً مربع الأضلاع (وطني ـ عروبي ـ إسلامي، إنساني). بيد أن اقتحام مساحة المربع كان يتطلب أداة واحدة: الجهاد.
أدرك الشقاقي بإيمانه المؤسس على المعرفة، ووعيه المرتبط بالواقع، حاجة المرحلة إلى المشروع الذي يعيد اكتشاف إسلامية الفلسطيني وفلسطينية الإسلامي، بما يعيد اكتشاف فلسطين من جديد؛ فعبّر بذلك عن ضمير «الجماعة الوطنية» الذي هو ضمير الأمة.
كان الشقاقي يدرك أن تجاوز الهزيمة لا يتم في الفراغ، بل في دائرة الفعل، فأبدع اقتحامه المشهد الجهادي، بتأسيس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين..
تضيق مساحة البياض أمامي، فأختم معتذراً وكلي إحساس، أنني لم أفرغ من كتابة الحرف الأول في كتاب مفتوح على الأمل والوعد والنصر.. اسمه فتحي الشقاقي..
تعليق