منذ ولادتها على خريطة الزمان وهي لو تأملتم فكرها جيدا وهي تصدر للدنيا المحبة بكل أنواعها... في مخيماتها, نشأ الكثير من القادة المرموقين والزعماء النجباء..
هي لم تشبه ولن تشبه في يوم من الأيام "دراكولا" أو "بيكاسو " أو "موسوليني ". في أزقتها وحاراتها ترى الكثير من الهوايات التي انحنت لها جبهة الزمان وهاماتها وسطعت في ربوعها المنارات الشاهقات, والأعلام المبرزين …والشموس التي لا قبل للسحب الداكنة بحجب نورها اللامع... هي تملك كل الهوايات, وكل المواهب, و تحتضن كل الطاقات والإبداعات إلا هواية واحدة لا تتقنها –ألا وهي هواية الإرهاب.
منذ ولادتها وهي متفرغة لجعل مساحة الحب في العالم اكبر…ومساحة الحقد والإرهاب اصغر...
منذ ولادتها وهي تعمل بكل طاقاتها الإبداعية في التنقيب عن الإنسان وإعداده ليكون العمدة... أنا غزة هاشم ,هل تعرفوني؟
لا ولم ,ولن, وحاشا, وكلا أن أكون "كارلوس" الذي يتعقبه الانتربول والبوليس الدولي من مكان إلى مكان...
أنا غزة هاشم التي منذ الأزل آمنت بالحرية بكل مشتقاتها ,وكرهت القمع بكل مشتقاته وكذا الذين يمتصون دم أبناء شعبي وكل الشعوب...
فلم كل دجاج الدنيا تنقر جسدي وكل القطط تموء باتجاهي ,وكل الضفادع تجتمع في صعيد واحد تنق مانعة مني النوم الهني…؟لم كل كلاب الدنيا العقورة تنبح صوبي وتكشر عن أنيابها كي تقضمني … لم كل الفئران تعضني؟...
ولا أظن أحدا يتابع الأخبار والموجات الإذاعية الا وهو يرى ويسمع غزة النازفة وكأنها أصبحت منسفا شعبيا يؤكل فيها لحمها نيئا ,يطلق الرصاص عليها كما يطلق الرصاص على الشعراء قبل أن تنطق حرفا.أو تنبس ببنت شفة… يضرم النار فيها كما اللوحة الثائرة قبل أن نبصرها ونراها ونفهم مقاصدها.
أنا غزة الصمود والكبرياء والعنفوان, وعنوان البقاء, وبحر الشموخ يغمر سيوف الجلادين ويكتم أنفاسهم وعلى صدرهم جاثم.
أنا غزة … الحصان الأصيل لا الهجين التي ركضت دائما بمهارة وحضارة وتناسق في ميادين التنافس وأتعبت بمهارتها كل الخيول المترهلة التي تسللت إلى الميدان والتي لا تصلح إلا لتوزيع المازوت, والكاز ,ونقل المحصولات الزراعية...
فلم تستعمل ضدي اخطر أنواع الأسلحة وأقذرها لقتلي وتهشيم أضلعي؟
أنا غزة هاشم " تنتزعون زماني من زمانكم ينشطر العمر إلى نصفين, تنزف في صدري الأيام ,تصبح طوفانا يغرقني, ينشطر العمر
من حولي ,وجه الأيام بلا عينين, رأس التاريخ, بلا قدمين.. تنقسم الشمس إلى نصفين ,يذوب الضوء وراء الأفق ,تصير الشمس بغير شعاع.. ينقسم الليل إلى لونين.. الأسود يعصف بالألوان.. الأبيض يسقط حتى القاع, انتزع زماني من زمانكم تتراجع كل الأشياء اتلون بعدكم كالأيام ...في الصبح أصير بلون الليل... في الليل أصير بلا ألوان .أنا غزة العلم الشامخ وحيدة ,أريد جليسا يؤنس وحدتي ,مكشوف الظهر أريد سندا أو مسندا. ملهوفة أريد غوثا. شاحبة أريد لونا ..عريشه أريد سقفا يمنع عني الصقيع.. مقاتلة أريد غطاء لقضيتي العادلة... مقرورة أريد شمسا,مشتعلة أريد بردا وسلاما..." .
أنا غزة التي تصحو كلها مع آذان الفجر...
اليوم وكعادتي التي رافقني سنوات استيقظ عند الفجر ابحث عن نظارتي فلا أجدها بجانبي, ابحث عن خفي المنزلي فلا أجده قرب بساطي الذي أنام علية وأتدثر فيه... اذهب كي اغتسل فلا أجد الصنبورة. أفتش عن المرآة فلا أجدها.. لأعد إفطارا فلا أجد المطبخ... أن اكتب ملاحظة خطرت لي في الليل فلا أجد قلما ولا ورقا ... أن ارتدي ثيابي فلا أجد خزانتي... أن اخرج كما أنا فلا أجد الباب, أن امشي فلا أجد قدمي ... أن أضم إلى صدري صور أطفالي الغائبين فلا أجد ذراعي ... أن استغيث فلا أجد لساني, أن افتح النافذة على مصراعيها فلا أجد الافق من ظلمة ما خلفته الحرائق المشتعلة...
ولان رام الله وصوتها يرن في أذني... كل يوم لا أجد بجانبي إلا الهاتف الجوال ,كل يوم اطلب رقم بيتي في رام الله, واعرف انه لن يجاوبني احد ,واعرف أنني موجود في غزه ومقطوع عن العالم, ومع هذا استمر في لعبتي العبثية , فلربما تحدث المعجزة والخارقة فيرد علي صدى صوتي الموجود في رام الله ... علي احمد وحسن ومحمود وعمرو وطه و... الموجود في غزه إلى اجل غير مسمى.
واعرف في قرارة نفسي أن هذه (خفة عقل) ولكنني متعلق بحبال الأمل , وأقوم بمكالمة هاتفيه مع المستحيل, لان هاتفي الجوال بلا بطاقة ...لا لشيء , وإنما لأتأكد أن رام الله سترد علي بمعجزه...
كل يوم أعانق السماعة خمس دقائق ثم أضعها في مكانها , وهذا الذي تفعله غزه يذكرني بمئات الأزواج من سراييفو الذين يعرفون أن زوجاتهم قد قتلن بعد عملية اغتصاب جماعية لكنهم مع كل هذا يصرون أن يشتروا ورده حمراء كل يوم... ثم يضعونها تحت شرفة بيوتهم المهدمة...
أنا غزه المحبة والعاشقة لكل وطنها فلم المعظم ينأى عني لأنسى وطني وهويتي؟ لم المعظم يغترب ويرفرف بجناحيه بعيدا عني ؟ وأنا ما فعلت ما فعلت إلا ليكون الالتحام أقوى , لم المعظم يتآمر كي أنسى لون عيني وأنسى ملامح وجهي وتقاسيمه . ثم لأنسى بعد ذلك كل وطني؟
صرت لا اسمع صوتي, ليس عندي أي كلام, ليس عندي ما يقال, كل حزن الناس أضحى بين حزني بعض دمعي, صرت لا اعرف نفسي, اسأل الطرقات سرا أين أنا ...أين بيتي من أكون؟ امضي أسائل نفسي ترى أين وجهي قد نسيت ملامح وجهي وما زلت اسأل هل من دليل؟
أحضرت لونا وفرشاة رسم تذكرت عينا , تذكرت أنفا, تذكرت فيهما البريق الحزين ...تذكرت بعض ملامح وجهي, بعض التجاعيد, بعض الخطوط حاولت أن ارسم وارسم وارسم , وأخيرا صادفت مرآة , نظرت فيها ولكن وجهي ما عاد وجهي.. ضاعت ملامح وجهي القديم.
منذ سنوات طويلة وأنا انزف , ومن كثرتها كدت أموت وابعث من جديد . منذ سنوات وسيرتي الذاتية نفس السيرة وليس لدي سيره ذاتيه سواها أقدمها لكل المعنيين بأمري من المحيط إلى المحيط ...فهل عسى عقلاء العالم أن يفعلوا شيئا كي يشطبوا اسمي من ملف المشبوهين وقائمة المطلوبين حيا أو ميتا...
أنا غزه النازفة, غزة المأزق, أولادي كل يوم يسألوني لماذا أنت حزينة وكأنك لم تبتسمي من ألف عام ...مع كل مساء و صباح يطاردني نفس السؤال ماذا أقول لأولادي ... أقول لهم أني نسيت من أين ابتسم, من خاصرتي أم من راسي من شدة الحصار ...محاصر أنا في قلب الحصار محاصر من الشرق والغرب والشمال والجنوب ...ولا احد بمقدوره أن يرفع عني الحصار كأن الكون إلا قلة مؤمنه بعدالة قضيتي- قد اتفقوا على انه لا لزوم لي في الحياة والخريطة, واني في نظرهم كزائدة دوديه لا ضر من قطعها...
أنا غزه ... أعلن اليوم بكامل مسؤوليتي أنني رغم الحصار والقتل والتجويع, فقد حملت روحي على راحتي فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا.
تعليق