القرصنة والقراصنة 1 د. أكرم حجازي
الصومال أرض المشاع الدولي
القراصنة ومنطقة القرصنة
(1)
د. أكرم حجازي
24/11/2008
في دولة مجاورة على الضفة الأخرى للبحر الأحمر كان ثمة امرأة صومالية فاضلة عزيزة النفس، تحمل في أحشائها جنينا وترعى أربعة أطفال أكبرهم في الحادية عشرة من عمره، كان زوجها في سفر، ولما حانت ساعة ولادتها ذهبت، سليمة معافاة، إلى مستشفى خاص وحدها كي لا تزعج جيرانها، ولم يكن في حسبانها أن تصبح مجرد فريسة لوحوش المال كي يبتزوها ويجبروها على وضع مولودها قسرا ثم تركها دون عناية حتى تقضي نحبها بعد سويعات! ولما اعترض صديقي جار المرأة على هذه الفاجعة عاجَلَه أحد الممرضين بالقول: وماذا يهمك منها فهي صومالية؟!!! هذا نموذج مما يعيشه الصوماليون في مواطن اللجوء بعد أن انتسي بلدهم عربيا وانتسي إسلاميا وانتسي دوليا، وغدا مشاعا سائغ المذاق لقرصنة داخلية وخارجية استهدفت البشر والبحر والحرث والزرع منذ انهيار حكم الرئيس سياد بري سنة 1991وإلى يومنا هذا.
ولا شك أن صيرورة هذا الكنز الجغرافي بكل ما يحتويه إلى مشاع يعتبر مغنما كبيرا لمن يقدر على استغلاله والانتفاع بخيراته، فلماذا إذن هذا الضجيج الدولي الذي صدّع الرؤوس خاصة منذ اختطاف اليخت الفرنسي (4/4/2008) ثم سفينة الأسلحة الأوكرانية (2/9/2008) وأخيرا ناقلة النفط السعودية العملاقة (18/11/2008)؟ ومن الذي حول الصومال إلى مشاع للقاصي والداني من القوى الدولية؟ ومن هم القراصنة؟ وكيف يعملون؟ من يكافح القرصنة والقراصنة؟ ولماذا يكافحهم؟ وهل أن القوى الدولية جادة في مساعيها ضد القرصنة؟ بل هل من مصلحتها تأمين الملاحة في المنطقة؟ والأهم ما الذي كشفته عمليات القرصنة من خفايا الخسة الدولية في التعامل مع الصومال والتي لولاها ما تحول البلد إلى مشاع؟
الأكيد أن باستطاعتنا طرح مائة سؤال وأكثر خاصة وأن المعلومات المتوفرة عن الظاهرة إما أنها غامضة وملغومة وإما أن مروجيها من وسائل الإعلام الدولية تعمدوا إثارة البلبلة بحيث يصعب تتبع الحدث ومراقبة السلوك الدولي وردود الفعل الشعبية تجاهه خاصة وأنها قدمت دفقا إعلاميا ضخما غير مبرر وكأن المقصود منه إيقاع المراقبين في حيرة. لكن ما هي الحقيقة؟ وما هو رأي القوى الإسلامية في البلاد خاصة وأنها تسيطر على سواحل طويلة في جنوب البلاد؟
أولا: القراصنة
بداية يمكن ملاحظة تمايز في الموقف الشعبي تجاه القراصنة، فالمتعاطفون معهم يعتبرونهم أبطالا وحراسا للحدود والمياه، كما يحب بعض القراصنة أن يطلقوا على أنفسهم، فهم مبعث فخر بما أنهم استطاعوا تلقين من يعتبرونهم لصوص الثروات دروسا جديدة في الحماية والدفاع عن الحقوق وتحصيلها بالقوة جزئيا أو كليا من مغتصبيها. أما المناهضون لهم فيحرضون على التدخل الدولي ويستنجدون بالحماية الدولية ويتحرقون شوقا لسحق من يصفونهم بالمجموعات الهمجية والرعاع والإرهابيين الذين ينبغي إزالتهم من على الأرض بدعوى اعتدائهم على الحضارة والتحضر وانعدام ضمائرهم وتهديد سلامة الملاحة الدولية التي تخدم البشرية جمعاء. والمحايدون بعضهم حائرون، وأكثرهم يوصون بإنزال الحكم الشرعي عليهم من قبل وليّ الأمر، على أن تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف وينفوا من الأرض جزاء ما يعيثونه من فساد بين الناس.
فالغالبية الساحقة إذن من هؤلاء الذين عبروا عن مواقفهم في مواضع مختلفة يدركون أن القرصنة في الصومال ليست لعبة يتلهى بها صيادون بائسون لكسب بعض الغنائم السائبة في البحار، إذ أن بعضهم يدرك جانبا من المشكلة ويشعر بها، فيما اختار بعضهم الآخر، عن سبق الإصرار، الوقوف في صف القوى الدولية بوصفها حامية الحمى أو في صف الموقف الشرعي الذي يجري استحضاره فقط لكي يتوافق مع تصريحات ولي الأمر الذي وصف الظاهرة برمتها بالإرهاب وهو ما لم تقره حتى القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن. والحقيقة أن للمسألة تاريخية سياسية بدأت صياغتها في أعقاب التدخل الأمريكي في الصومال ثم الانسحاب منه بحيث يتمخض عنها:
1) تحويل الصومال إلى مشاع يمكن استباحته لأطول فترة ممكنة تمهيدا للتدخل الدولي المستمر في المنطقة وإشاعة الفوضى بها كي يسهل التحكم بها وتهديدها كلما استدعى الأمر ذلك.
2) إتاحة الفرصة أمام النهب الدولي المنظم للثروات السمكية في الصومال والتي لا تقل أهميتها وقيمتها عن أهمية الثروة النفطية في البلدان العربية.
3) توفير منطقة مثالية لاستعمالها مكبّا للنفايات السامة بشتى أنواعها.
هذا ما حصل فعلا في الصومال حيث تنتهك مياهه مئات السفن وتسرق ثرواته جهارا نهارا دون أن تدفع مليما واحدا لقاء المرور في مياهه أو الصيد فيها أو تلويث البيئة بالمواد السامة، وهو وضع مثالي تطلب خلقه والحفاظ عليه عقدين من الزمن. فالعالم لم ينس الصومال بقدر ما استغله أبشع استغلال ومارس ضده أحط القيم، وخرّب حتى قيم المجتمع الصومالي وأشاع فيه من الفساد ما لم يشعه في أي بلد آخر حتى دبت الصراعات الدامية بين قبائله وانتشر قطاع الطرق وزعامات الحرب والبلطجة في كل مدينة وحي وقرية وساحل.
في مثل هذه البيئة الاجتماعية نمت القرصنة، فقد كان صيادو الأسماك المحليين ينصبون شباكهم ليقتاتوا على منتجات البحر، وما كان أمامهم من خيار آخر لولا أن سفن الصيد كانت تدمر مراكبهم وشباكهم فتحيلها أثرا بعد عين. الأمر الذي اضطرهم إلى سلوك سبل أخرى للعيش كانت القرصنة إحداها. لكن هل هؤلاء الصيادون هم الذين تنسج حولهم الأساطير؟
تقول إحدى المنظمات البحرية المتمركزة في كينيا أن عدد القراصنة المنتشرين على طول السواحل الصومالية يقدر بنحو 1100 رجل معظمهم ممن كانوا يعملون في خفر السواحل الصومالية سابقا! وهذا يؤشر على أن القرصنة إما أنها ابتدأت احترافية أو أنها تطورت من مجرد صيادين إلى بحريين صوماليين متمرسين ركبوا الموجة مستفيدين من الوضع القائم. وعليه فليس غريبا أن يجري الحديث عن تمتعهم بخبرات عسكرية تؤهلهم لممارسة القرصنة. لكن السؤال هو: من هي الجهات التي تزودهم بالتقنيات المتقدمة التي كانت كافية لنقلهم من طور القرصنة المحلية ذات المدى المحدود بعشرات الكيلومترات إلى مدى يمكنهم من مدّ نشاطهم إلى مئات الكيلومترات في عرض البحر؟
فهم بحسب الأميرال جيرار فالان قائد القوات البحرية الفرنسية في المحيط الهندي، أصبحوا قوات شبه عسكرية حقيقية مجهزين بشكل جيد ومحترفين، لدرجة أن: صيادي السمك المزعومين هؤلاء لا يحتاجون سوى لربع ساعة لشن هجوم على سفينة تجارية واحتجاز طاقمها رهينة. وبعض المعلومات تقول أنهم يمتلكون أسلحة هجومية وقاذفات صاروخية أرضية وأخرى مضادة للطائرات وأجهزة اتصال متطورة جدا وأخرى عبر الأقمار الصناعية ووسائل تقنية في الاستطلاع كأنظمة تحديد المواقع والتوجيه المرتبطة بالأقمار الصناعية. لكن الأهم في تكتيكات القراصنة أنهم يستخدمون سفنا تقل زوارقهم السريعة التي يستعملونها في الهجوم والمباغتة.
ومن جهته أوضح الكابتن بوتنجال موكوندان مدير مكتب النقل البحري الدولي الذي يراقب حوادث القرصنة الدولية من لندن عن وجود: أربع سفن يستخدمها القراصنة ويعيشون فيها ويخزنون فيها الأسلحة والوقود ومؤنا أخرى ثم يستهدفون السفن التي قد يكون بينها ناقلات نفط عن طريق مطاردتها بزوارق سريعة والصعود على متنها بسلالم من الحبال وهم مدججون بالسلاح، وأشار إلى وجود قواعد انطلاق لها، وأن: مواقع السفن الأم معروفة جيدا! لكن أين تقع هذه المواقع التي لم يفصح عنها؟
ثانيا: منطقة القرصنة
بحسب المعلومات الشائعة عن مناطق السفن المخطوفة فإن منطقة القرصنة تمتد من خليج عدن وبحر العرب شمالا إلى السواحل الكينية جنوبا. وابتداء من خليج عدن حيث مضيق باب المندب على البحر الأحمر وصولا إلى نهاية السواحل الكينية فإن طول سواحل منطقة القرصنة تصل إلى 4654 كلم منها 3700 كلم سواحل صومالية إحدى أطول السواحل في العالم و640 كلم سواحل كينية و314 كلم سواحل جيبوتية. وتاريخيا كانت السواحل الصومالية مرتعا لنشاط القراصنة الذي لم يهدأ إلا في عهد سياد بري الذي امتد لثلاثين عاما ثم عاد للظهور ليختفي ثانية في فترة حكم المحاكم الإسلامية قبل الغزو الأثيوبي.
إذن المنطقة ذات نشاط تاريخي في القرصنة، لكن على امتداد السواحل الصومالية نشأت جمهورية أرض الصومال سنة 1996(صومالي لاند)، ومنطقة حكم ذاتي تقع شمال شرق الصومال على بعد حوالي 800 كلم شمال العاصمة مقاديشو، وتدعى بونت لاند سنة 1998. وهذه الأخيرة تحكمها أكبر القبائل الصومالية المعروفة باسم مجرتين والتي ينسب البعض تسمية المنطقة باسمها (مجيرتينيا). وتعتبر الملاذ الآمن للقراصنة الذين يسوقون السفن المخطوفة إليها أكثر من غيرها حيث يقع ميناء مدينة أيل على سواحلها. بل أن وسائل الإعلام تنسب أغلب القراصنة إلى هذه المنطقة.
ومن الواضح أن الموقع الاستراتيجي لمنطقة بونت لاند على جانبي القرن الأفريقي مقارنة بالمناطق الأخرى من الصومال يوفر لها امتيازات تخدم نشاط القراصنة بما لا توفره أية منطقة أخرى من البلاد خاصة وأن سواحلها تطل على جانبي القرن الأفريقي البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي. وهذا يطرح سؤالا جوهريا ليس عن هوية القراصنة فحسب بل عن أولئك الذين أرادوا لهذه المنطقة أن تلعب دور رأس الحربة في عمليات القرصنة بغض النظر عما إذا كان سكانها أو حكامها أو حتى القراصنة متورطون أو لا في تنمية الظاهرة أو احتضانها؟ فالملاحظ أن المنطقة تمَكِّن أية قوة سواء كانوا قراصنة أو غير ذلك من:
(1) مراقبة حركة الملاحة البحرية القادمة (من) أو العابرة (إلى) قناة السويس باتجاه البحر الأبيض المتوسط وعبره إلى أوروبا والعالم.
(2) سهولة خطف السفن المارة في عرض المحيط الهندي وعلى امتداد السواحل الصومالية حتى كينيا.
(3) سهولة خطف السفن القادمة من البحر الأحمر عبر مضيق باب المندب وخليج عدن والانزواء بها على الساحل الشرقي للصومال.
الحقيقة أنه يمكننا تفهم القراصنة كمجموعات محترفة وخبيرة يمكنها ممارسة القرصنة، لكن من الصعب علينا رد اختيار المنطقة إلى عبقرية خفر السواحل أو لصيادين بسطاء لا تتجاوز أقصى أمانيهم سد رمقهم، فكيف لهم أن يهددوا أنشط الممرات المائية في العالم ويتجرؤوا على خطف ناقلات عملاقة ويستعْدوا العالم عليهم!؟ كما أنه من الصعب تصور أن العدد المقدر للقراصنة قادر على التمركز في قواعد آمنة والاستطلاع والهجوم، والأسوأ من ذلك قدرة هؤلاء على إدارة عمليات القرصنة بهذا الحجم الكثيف والبالغ الخطورة وسط عشرات السفن الحربية الدولية في المنطقة أو في عرض البحر. وحتى اختطاف ناقلة النفط السعودية ما زال القراصنة يحتفظون باثنتي عشرة سفينة وعشرات المخطوفين، فمن يسهر على أمن المخطوفين صحيا وغذائيا؟ ومن يسهر على حراستهم؟ ومن يسهر على حراسة السفن ذاتها من عمليات تسلل مضادة من السهل أن تقوم بها القوى الدولية؟
هذه المعطيات وغيرها دفعت الكثير من المراقبين والمسؤولين إلى التشكيك بحقيقة الظاهرة، ويميل البعض إلى وجود أهداف سياسية تقف خلفها، وربما قوى أمنية تدعمها وتوفر لها سبل البقاء والاستمرارية، فلا أحد ينكر أن المنطقة ذات نشاط تاريخي في القرصنة، لكن من يصدق أن تفاقم هذا النشاط في أقل من عامين على سقوط المحاكم له علاقة بالتاريخ؟ ومن يصدق أن أثيوبيا وكينيا ليستا متورطتين في دعم القرصنة ولو بشكل غير مباشر؟ ومن يصدق أن هذا النشاط المحموم ليس له علاقة فيما يجري في الصومال من معارك بين القوى الإسلامية والقوات الحكومية المدعومة من أثيوبيا؟ ومن يصدق أن مجلس الأمن وبعض الدول العربية غير متورطة حتى النخاع في إبقاء الوضع في الصومال على ما هو عليه مشاعا سائبا ونهبا لمن حط الرحال؟
سنرى في الحلقة القادمة
القرصنة والقراصنة 1
الصومال أرض المشاع الدولي
القراصنة ومنطقة القرصنة
(1)
د. أكرم حجازي
24/11/2008
في دولة مجاورة على الضفة الأخرى للبحر الأحمر كان ثمة امرأة صومالية فاضلة عزيزة النفس، تحمل في أحشائها جنينا وترعى أربعة أطفال أكبرهم في الحادية عشرة من عمره، كان زوجها في سفر، ولما حانت ساعة ولادتها ذهبت، سليمة معافاة، إلى مستشفى خاص وحدها كي لا تزعج جيرانها، ولم يكن في حسبانها أن تصبح مجرد فريسة لوحوش المال كي يبتزوها ويجبروها على وضع مولودها قسرا ثم تركها دون عناية حتى تقضي نحبها بعد سويعات! ولما اعترض صديقي جار المرأة على هذه الفاجعة عاجَلَه أحد الممرضين بالقول: وماذا يهمك منها فهي صومالية؟!!! هذا نموذج مما يعيشه الصوماليون في مواطن اللجوء بعد أن انتسي بلدهم عربيا وانتسي إسلاميا وانتسي دوليا، وغدا مشاعا سائغ المذاق لقرصنة داخلية وخارجية استهدفت البشر والبحر والحرث والزرع منذ انهيار حكم الرئيس سياد بري سنة 1991وإلى يومنا هذا.
ولا شك أن صيرورة هذا الكنز الجغرافي بكل ما يحتويه إلى مشاع يعتبر مغنما كبيرا لمن يقدر على استغلاله والانتفاع بخيراته، فلماذا إذن هذا الضجيج الدولي الذي صدّع الرؤوس خاصة منذ اختطاف اليخت الفرنسي (4/4/2008) ثم سفينة الأسلحة الأوكرانية (2/9/2008) وأخيرا ناقلة النفط السعودية العملاقة (18/11/2008)؟ ومن الذي حول الصومال إلى مشاع للقاصي والداني من القوى الدولية؟ ومن هم القراصنة؟ وكيف يعملون؟ من يكافح القرصنة والقراصنة؟ ولماذا يكافحهم؟ وهل أن القوى الدولية جادة في مساعيها ضد القرصنة؟ بل هل من مصلحتها تأمين الملاحة في المنطقة؟ والأهم ما الذي كشفته عمليات القرصنة من خفايا الخسة الدولية في التعامل مع الصومال والتي لولاها ما تحول البلد إلى مشاع؟
الأكيد أن باستطاعتنا طرح مائة سؤال وأكثر خاصة وأن المعلومات المتوفرة عن الظاهرة إما أنها غامضة وملغومة وإما أن مروجيها من وسائل الإعلام الدولية تعمدوا إثارة البلبلة بحيث يصعب تتبع الحدث ومراقبة السلوك الدولي وردود الفعل الشعبية تجاهه خاصة وأنها قدمت دفقا إعلاميا ضخما غير مبرر وكأن المقصود منه إيقاع المراقبين في حيرة. لكن ما هي الحقيقة؟ وما هو رأي القوى الإسلامية في البلاد خاصة وأنها تسيطر على سواحل طويلة في جنوب البلاد؟
أولا: القراصنة
بداية يمكن ملاحظة تمايز في الموقف الشعبي تجاه القراصنة، فالمتعاطفون معهم يعتبرونهم أبطالا وحراسا للحدود والمياه، كما يحب بعض القراصنة أن يطلقوا على أنفسهم، فهم مبعث فخر بما أنهم استطاعوا تلقين من يعتبرونهم لصوص الثروات دروسا جديدة في الحماية والدفاع عن الحقوق وتحصيلها بالقوة جزئيا أو كليا من مغتصبيها. أما المناهضون لهم فيحرضون على التدخل الدولي ويستنجدون بالحماية الدولية ويتحرقون شوقا لسحق من يصفونهم بالمجموعات الهمجية والرعاع والإرهابيين الذين ينبغي إزالتهم من على الأرض بدعوى اعتدائهم على الحضارة والتحضر وانعدام ضمائرهم وتهديد سلامة الملاحة الدولية التي تخدم البشرية جمعاء. والمحايدون بعضهم حائرون، وأكثرهم يوصون بإنزال الحكم الشرعي عليهم من قبل وليّ الأمر، على أن تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف وينفوا من الأرض جزاء ما يعيثونه من فساد بين الناس.
فالغالبية الساحقة إذن من هؤلاء الذين عبروا عن مواقفهم في مواضع مختلفة يدركون أن القرصنة في الصومال ليست لعبة يتلهى بها صيادون بائسون لكسب بعض الغنائم السائبة في البحار، إذ أن بعضهم يدرك جانبا من المشكلة ويشعر بها، فيما اختار بعضهم الآخر، عن سبق الإصرار، الوقوف في صف القوى الدولية بوصفها حامية الحمى أو في صف الموقف الشرعي الذي يجري استحضاره فقط لكي يتوافق مع تصريحات ولي الأمر الذي وصف الظاهرة برمتها بالإرهاب وهو ما لم تقره حتى القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن. والحقيقة أن للمسألة تاريخية سياسية بدأت صياغتها في أعقاب التدخل الأمريكي في الصومال ثم الانسحاب منه بحيث يتمخض عنها:
1) تحويل الصومال إلى مشاع يمكن استباحته لأطول فترة ممكنة تمهيدا للتدخل الدولي المستمر في المنطقة وإشاعة الفوضى بها كي يسهل التحكم بها وتهديدها كلما استدعى الأمر ذلك.
2) إتاحة الفرصة أمام النهب الدولي المنظم للثروات السمكية في الصومال والتي لا تقل أهميتها وقيمتها عن أهمية الثروة النفطية في البلدان العربية.
3) توفير منطقة مثالية لاستعمالها مكبّا للنفايات السامة بشتى أنواعها.
هذا ما حصل فعلا في الصومال حيث تنتهك مياهه مئات السفن وتسرق ثرواته جهارا نهارا دون أن تدفع مليما واحدا لقاء المرور في مياهه أو الصيد فيها أو تلويث البيئة بالمواد السامة، وهو وضع مثالي تطلب خلقه والحفاظ عليه عقدين من الزمن. فالعالم لم ينس الصومال بقدر ما استغله أبشع استغلال ومارس ضده أحط القيم، وخرّب حتى قيم المجتمع الصومالي وأشاع فيه من الفساد ما لم يشعه في أي بلد آخر حتى دبت الصراعات الدامية بين قبائله وانتشر قطاع الطرق وزعامات الحرب والبلطجة في كل مدينة وحي وقرية وساحل.
في مثل هذه البيئة الاجتماعية نمت القرصنة، فقد كان صيادو الأسماك المحليين ينصبون شباكهم ليقتاتوا على منتجات البحر، وما كان أمامهم من خيار آخر لولا أن سفن الصيد كانت تدمر مراكبهم وشباكهم فتحيلها أثرا بعد عين. الأمر الذي اضطرهم إلى سلوك سبل أخرى للعيش كانت القرصنة إحداها. لكن هل هؤلاء الصيادون هم الذين تنسج حولهم الأساطير؟
تقول إحدى المنظمات البحرية المتمركزة في كينيا أن عدد القراصنة المنتشرين على طول السواحل الصومالية يقدر بنحو 1100 رجل معظمهم ممن كانوا يعملون في خفر السواحل الصومالية سابقا! وهذا يؤشر على أن القرصنة إما أنها ابتدأت احترافية أو أنها تطورت من مجرد صيادين إلى بحريين صوماليين متمرسين ركبوا الموجة مستفيدين من الوضع القائم. وعليه فليس غريبا أن يجري الحديث عن تمتعهم بخبرات عسكرية تؤهلهم لممارسة القرصنة. لكن السؤال هو: من هي الجهات التي تزودهم بالتقنيات المتقدمة التي كانت كافية لنقلهم من طور القرصنة المحلية ذات المدى المحدود بعشرات الكيلومترات إلى مدى يمكنهم من مدّ نشاطهم إلى مئات الكيلومترات في عرض البحر؟
فهم بحسب الأميرال جيرار فالان قائد القوات البحرية الفرنسية في المحيط الهندي، أصبحوا قوات شبه عسكرية حقيقية مجهزين بشكل جيد ومحترفين، لدرجة أن: صيادي السمك المزعومين هؤلاء لا يحتاجون سوى لربع ساعة لشن هجوم على سفينة تجارية واحتجاز طاقمها رهينة. وبعض المعلومات تقول أنهم يمتلكون أسلحة هجومية وقاذفات صاروخية أرضية وأخرى مضادة للطائرات وأجهزة اتصال متطورة جدا وأخرى عبر الأقمار الصناعية ووسائل تقنية في الاستطلاع كأنظمة تحديد المواقع والتوجيه المرتبطة بالأقمار الصناعية. لكن الأهم في تكتيكات القراصنة أنهم يستخدمون سفنا تقل زوارقهم السريعة التي يستعملونها في الهجوم والمباغتة.
ومن جهته أوضح الكابتن بوتنجال موكوندان مدير مكتب النقل البحري الدولي الذي يراقب حوادث القرصنة الدولية من لندن عن وجود: أربع سفن يستخدمها القراصنة ويعيشون فيها ويخزنون فيها الأسلحة والوقود ومؤنا أخرى ثم يستهدفون السفن التي قد يكون بينها ناقلات نفط عن طريق مطاردتها بزوارق سريعة والصعود على متنها بسلالم من الحبال وهم مدججون بالسلاح، وأشار إلى وجود قواعد انطلاق لها، وأن: مواقع السفن الأم معروفة جيدا! لكن أين تقع هذه المواقع التي لم يفصح عنها؟
ثانيا: منطقة القرصنة
بحسب المعلومات الشائعة عن مناطق السفن المخطوفة فإن منطقة القرصنة تمتد من خليج عدن وبحر العرب شمالا إلى السواحل الكينية جنوبا. وابتداء من خليج عدن حيث مضيق باب المندب على البحر الأحمر وصولا إلى نهاية السواحل الكينية فإن طول سواحل منطقة القرصنة تصل إلى 4654 كلم منها 3700 كلم سواحل صومالية إحدى أطول السواحل في العالم و640 كلم سواحل كينية و314 كلم سواحل جيبوتية. وتاريخيا كانت السواحل الصومالية مرتعا لنشاط القراصنة الذي لم يهدأ إلا في عهد سياد بري الذي امتد لثلاثين عاما ثم عاد للظهور ليختفي ثانية في فترة حكم المحاكم الإسلامية قبل الغزو الأثيوبي.
إذن المنطقة ذات نشاط تاريخي في القرصنة، لكن على امتداد السواحل الصومالية نشأت جمهورية أرض الصومال سنة 1996(صومالي لاند)، ومنطقة حكم ذاتي تقع شمال شرق الصومال على بعد حوالي 800 كلم شمال العاصمة مقاديشو، وتدعى بونت لاند سنة 1998. وهذه الأخيرة تحكمها أكبر القبائل الصومالية المعروفة باسم مجرتين والتي ينسب البعض تسمية المنطقة باسمها (مجيرتينيا). وتعتبر الملاذ الآمن للقراصنة الذين يسوقون السفن المخطوفة إليها أكثر من غيرها حيث يقع ميناء مدينة أيل على سواحلها. بل أن وسائل الإعلام تنسب أغلب القراصنة إلى هذه المنطقة.
ومن الواضح أن الموقع الاستراتيجي لمنطقة بونت لاند على جانبي القرن الأفريقي مقارنة بالمناطق الأخرى من الصومال يوفر لها امتيازات تخدم نشاط القراصنة بما لا توفره أية منطقة أخرى من البلاد خاصة وأن سواحلها تطل على جانبي القرن الأفريقي البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي. وهذا يطرح سؤالا جوهريا ليس عن هوية القراصنة فحسب بل عن أولئك الذين أرادوا لهذه المنطقة أن تلعب دور رأس الحربة في عمليات القرصنة بغض النظر عما إذا كان سكانها أو حكامها أو حتى القراصنة متورطون أو لا في تنمية الظاهرة أو احتضانها؟ فالملاحظ أن المنطقة تمَكِّن أية قوة سواء كانوا قراصنة أو غير ذلك من:
(1) مراقبة حركة الملاحة البحرية القادمة (من) أو العابرة (إلى) قناة السويس باتجاه البحر الأبيض المتوسط وعبره إلى أوروبا والعالم.
(2) سهولة خطف السفن المارة في عرض المحيط الهندي وعلى امتداد السواحل الصومالية حتى كينيا.
(3) سهولة خطف السفن القادمة من البحر الأحمر عبر مضيق باب المندب وخليج عدن والانزواء بها على الساحل الشرقي للصومال.
الحقيقة أنه يمكننا تفهم القراصنة كمجموعات محترفة وخبيرة يمكنها ممارسة القرصنة، لكن من الصعب علينا رد اختيار المنطقة إلى عبقرية خفر السواحل أو لصيادين بسطاء لا تتجاوز أقصى أمانيهم سد رمقهم، فكيف لهم أن يهددوا أنشط الممرات المائية في العالم ويتجرؤوا على خطف ناقلات عملاقة ويستعْدوا العالم عليهم!؟ كما أنه من الصعب تصور أن العدد المقدر للقراصنة قادر على التمركز في قواعد آمنة والاستطلاع والهجوم، والأسوأ من ذلك قدرة هؤلاء على إدارة عمليات القرصنة بهذا الحجم الكثيف والبالغ الخطورة وسط عشرات السفن الحربية الدولية في المنطقة أو في عرض البحر. وحتى اختطاف ناقلة النفط السعودية ما زال القراصنة يحتفظون باثنتي عشرة سفينة وعشرات المخطوفين، فمن يسهر على أمن المخطوفين صحيا وغذائيا؟ ومن يسهر على حراستهم؟ ومن يسهر على حراسة السفن ذاتها من عمليات تسلل مضادة من السهل أن تقوم بها القوى الدولية؟
هذه المعطيات وغيرها دفعت الكثير من المراقبين والمسؤولين إلى التشكيك بحقيقة الظاهرة، ويميل البعض إلى وجود أهداف سياسية تقف خلفها، وربما قوى أمنية تدعمها وتوفر لها سبل البقاء والاستمرارية، فلا أحد ينكر أن المنطقة ذات نشاط تاريخي في القرصنة، لكن من يصدق أن تفاقم هذا النشاط في أقل من عامين على سقوط المحاكم له علاقة بالتاريخ؟ ومن يصدق أن أثيوبيا وكينيا ليستا متورطتين في دعم القرصنة ولو بشكل غير مباشر؟ ومن يصدق أن هذا النشاط المحموم ليس له علاقة فيما يجري في الصومال من معارك بين القوى الإسلامية والقوات الحكومية المدعومة من أثيوبيا؟ ومن يصدق أن مجلس الأمن وبعض الدول العربية غير متورطة حتى النخاع في إبقاء الوضع في الصومال على ما هو عليه مشاعا سائبا ونهبا لمن حط الرحال؟
سنرى في الحلقة القادمة
القرصنة والقراصنة 1
تعليق