مزيدا من النقاط على حروف الجهاد العالمي 4
هل ستتفكك القاعدة؟
(4)
د . أكرم حجازي
9/11/2008
فيما عدا أغلب الفضائيات العربية الإخبارية، إن لم يكن جميعها، ودون مبرر منطقي، نقلت مثيلاتها الغربية ووسائل إعلام متنوعة ملخصا، عن رسالة البغدادي أمير دولة العراق الإسلامية (7/11/2008): إلى حكام البيت الأبيشض الجدد وسائر أحلافهم من رؤساء الدول النصرانية. وذات الأمر وقع فيما يتعلق بلقاء أبي حمزة المهاجر المسمى وزيرا للحرب مع مؤسسة الفرقان بتاريخ 24/10/2008 حيث لا خبر ولا تعليق علما أنه اللقاء الصوتي الأول من نوعه والذي من المنتظر أن يتم استكماله في حلقات أخرى. والطريف في النقل أن وسائل إعلام الغرب تتعامل على الدوام مع خطابات القاعدة وشرائطها كمصادر معرفية في فهم توجهات القوم ولغتهم فيما تصر الوسائل العربية على تجاهلها أو التنكر لها أو تسطيحها دون أن يكون لها القدرة على الدفاع عن أدائها الإعلامي أو الشعارات التي تتزين بها.
نقول هذا ونحن نلحظ منذ ما قبل شهر رمضان بقليل ما يشبه دخول دولة العراق الإسلامية في مرحلة انتقالية ما انفكت مؤسسة الفرقان تمهد لها بزخم إعلامي نوعي غير مسبوق. ومع ذلك فلم تتساءل وسائل الإعلام العربية عما يجري التحضير له على الساحة العراقية من قبل القاعدة الأم في أفغانستان؟ ولا ما إذا كان هذا الدفق الإعلامي يشي بتوجه ما نحو مركزة للمشروع الجهادي العالمي بحيث تكون الدولة فيه رأس الحربة مجددا؟ ولا ريب أن مثل هذا الأداء السقيم نقل هذه الوسائل إلى مصاف الخصوم وخلف لها اتهامات أقلها بأنها وسائل غير محايدة سواء لأنصار الجهاد أو حتى للمراقبين لأن التنكر للأحداث لا يمكن تبريره بالحياد ناهيك عن التوازن.
إرهاصات المرحلة
الأكيد أن سلسلة الخطابات السابقة لا يمكن فصلها عن خطابات قديمة سبق أن بثتها مؤسسة السحاب خاصة تلك التي توجه بها الظواهري وبن لادن وحتى يحيى آدم غدن (عزام الأمريكي) إلى الأمريكيين والأوروبيين مع التذكير، على وجه الخصوص، بمشروع الهدنة التي طرحها أسامة بن لادن على الغرب قبل نحو أربع سنوات. وأيا كانت محتويات الخطاب القاعدي للغرب إلا أنه لم يكن من اختصاصات البغدادي الذي اقتصرت خطاباته على الشأن العراقي حتى فيما يتعلق بالأمريكيين الذين كان يخاطبهم كقوات احتلال.
لكن خطابه الجديد شذ عن القاعدة وقدمه كخطاب دعوي وبـ: الحسنى للأمريكيين وحلفائهم، وهي صيغة اضطلع بمهمة القيام بها بن لادن أكثر من الظواهري وغيره. فلماذا جاء الخطاب هذه المرة من العراق وليس من أفغانستان؟
بعيدا عن مضمون خطاب البغدادي للغرب؛ فلو تعمقنا أكثر لكان لزاما علينا التوقف عند الفقرة اللافتة: إني اليوم وبالنيابة عن إخواني في العراق وأفغانستان والصومال والشيشان أعرض عليكم ما هو خير لكم ولنا. فما هو الجديد الذي حملته الفقرة؟
· غني عن القول أن الفقرة تنطوي على تفويض صريح للبغدادي كي يتحدث باسم القوى الجهادية الأربعة بصورة غير مسبوقة. فالمألوف أن تنظيم القاعدة هو المرجعية العليا والحاضنة الشرعية للجهاد العالمي بالنسبة لكافة الجماعات ذات التوجه السلفي الجهادي.
· ومن المألوف أيضا أن أحدا من هذه الجماعات لم يسبق له أن تجرأ على التحدث باسم الآخرين، وهذا يعني أن البغدادي ما كان له أن يتحدث عنهم بالنيابة لولا أنه تلقى تفويضا بذلك من قادة القاعدة.
· الملاحظ أيضا أن إمارة القوقاز وحركة الشباب المجاهدين جماعات سلفية جهادية لكنها لم تبايع القاعدة بصفة رسمية! فلماذا يتحدث البغدادي باسمها إذن؟
· أخيرا، فيما عدا الصومال فالجماعات الثلاثة الأخرى إما أنها كائنة في إطار صيغة الإمارة كما هو حال القاعدة وإما أنها أسست لها إمارات كما في القوقاز والعراق. وجميعها خاضت حروب ضارية مع القوى الغربية العظمى.
لكن هل ثمة مؤشرات على تفويضات أخرى لدولة العراق الإسلامية؟ بمعنى آخر: هل التفويض الذي عبرت عنه فقرة البغدادي هو الملمح الوحيد الذي وقعنا عليه؟ أم أن هناك فعلا مؤشرات أخرى؟
الحقيقة أن أشرطة الفرقان أو السحاب قلما تكشف عن التوجهات أو الاستراتيجيات دفعة واحدة، وهذا ما يُصعِّب مهمة الباحث أو المراقب وربما يعيقه عن سرعة بناء تصورات حاسمة، إذ علاوة على أنها غالبا ما تأتي ضبابية أو غامضة بحيث يستدعي الكشف عنها جهدا كبيرا إلا أنها تأتي أيضا متفرقة وعلى فترات وفي أكثر من شريط، وهذا يعني أن الوقت هو المصدر الوحيد المسموح له بالكشف عن الخفايا وليس الأشرطة بمجرد صدورها. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن فكرة تشفير الأشرطة واشتمالها على رسائل خفية أو استراتيجيات معينة، وفق هذا السياق، باتت أقرب إلى التصديق من الإنكار أو التشكيك، وإلا فما الذي يدفع هذه المؤسسات إلى تجزئة التوجهات والخيارات الإستراتيجية، إن صحت تحليلاتنا، على عدة أشرطة مرئية أو صوتية وفي أوقات متباعدة؟
فمن جهته قدم أبو حمزة المهاجر ما يشبه السفر الثاني للحقيقة بعد سفر الأنصار حين رد على الكثير من الشبهات المثارة ضد الدولة، أو على بعض القضايا الخلافية ذات الصلة بالجماعات الأخرى. ولا يخفى على المراقب أن الردود جاءت لتؤكد ما سبق وأن تناوله الكثير من الكتاب المناصرين للقاعدة أو الدولة، ولولا خطاب البغدادي لقلنا أنه ما كان للمهاجر أن يتجشم عناء تفنيد الشبهات أو الرد على المخالفين خاصة وأنه لم يعد خافيا أن كتابات الأنصار وتعليقاتهم قد كفته مؤونة الرد. لكن حين التدقيق سنجد أن بذور التفويض قد وردت في مواضع سابقة جلية وواضحة خاصة في محاضرته عن الدولة النبوية.
أما في اللقاء الصوتي فقد وردت الفقرة التالية: لقد بدأنا السير مسرعاً وبدت الصورة تظهر معالمها في أبهى وأجمل ما يكون, فنحن اليوم جيش واحد تحت راية واحدة نقاتل عدونا على جبهات مختلفة في شمال الأرض بالقوقاز وأفغانستان, وبجنوب الأرض في الصومال والأوغادين, وفي وسط الأرض في العراق والجزائر, قلوبنا مجتمعة, وهدفنا واحد, نستظل بعقيدة واحدة؛ ثم فقرة أخرى خاطب فيها الشباب المجاهدين: أقول لشباب الصومال: القرن الأفريقي أمانةٌ في أيديكم, واحذروا طعنات الوطنيين فإنهم حتماً فاعلون, فإن قاتلوا معكم اليوم فإنهم غداً في صف عدوكم, وتكفيكم وتكفينا في العراق آلام التجربة.
ولو تجاوزنا قاعدة الجهاد في المغرب الإسلامي المبايعة للقاعدة أصلا؛ فقد أتى المهاجر على ذكر المناطق الأربعة ذاتها التي تحدث باسمها البغدادي، وذهب أبعد من ذلك وهو يتحدث عن: جيش واحد و راية واحدة و عدو واحد و هدف واحد و عقيدة واحدة. وهي صيغ لم تكن مألوفة في خطاب دولة العراق الإسلامية. ثم أليس ملفتا للانتباه أن يتحدث المهاجر مع الشباب المجاهدين وكأنه وصيا عليهم؟
هل من دور جديد في الأفق؟
سبق لنا أن تحدثنا عن أن هزيمة الناتو في أفغانستان ستعني بالضرورة البحث عن كيان سياسي جديد وليس العودة إلى صيغة الإمارة. فهل ستكون الصيغة هي دولة العراق الإسلامية؟ ربما. فمن جهة يمكن أن يكون لقاء المهاجر والترويج الإعلامي للدولة عبر المحاضرات أو الأشرطة المرئية كـ: عامان لدولة العراق هي مقدمات لتصفية الشبهات تحضيرا لدور جديد يصعب على الدولة القيام به ما لم يتم حسم الاتهامات التي رافقتها على امتداد عامين من أعلى سلطة رسمية فيها وإغلاق ما يمكن اعتباره ملفات عالقة. ومن جهة أخرى فليس من المعقول أن يتحول البغدادي إلى ناطق رسمي باسم القاعدة أو تيارات الجهاد العالمي وهو المسمى أميرا لدولة العراق الإسلامية والتي أثخنت، قبل إعلانها، في الأمريكيين وتحدت وجودهم وأعلنت قيام دولة إسلامية في قلب المعركة تحت سمع وبصر الاحتلال الأمريكي الذي سخّر كل طاقاته الفكرية والعسكرية لضربها بلا هوادة دون أن يفلح حتى الآن.
وهذا يؤشر على أن التفويض الممنوح للبغدادي هو بالتأكيد أكثر من مجرد أمير لإحدى الإمارات الإسلامية المعلنة في بعض الجبهات. فقد يعني في قراءة من القراءات تعبيرا عن الحاجة إلى إمارة مركزية قائدة تبدو فيها دولة العراق الإسلامية مرشحة أكثر من غيرها للعب هذا الدور. ذلك أن أميرها يستحوذ على مشروعية دينية وتاريخية وجغرافية ولغوية، فهو عربي قرشي وليس أعجمي كما هو الحال في المناطق الثلاثة الأخرى، وقيادة الجهاد العالمي تستدعي شخصية تخاطب الأمة بلغة القرآن، إذ ليس من المنطقي، مثلا، أن يتحدث الملا محمد عمر أو دوكو عموروف إلى الأمة عن الإسلام والجهاد بلغة أعجمية.
كل هذا يدفعنا إلى القول أنه ثمة صيغة انتقال واضحة في لعب الأدوار تحتل الساحة العراقية فيها رأس الحربة، لكن تفويض البغدادي بشكل يظهره وكأنه وصي على تيارات الجهاد العالمي سيعني بالضرورة حراكا نوعيا غير مسبوق لن تتضح معالمه قبل مضي وقت ليس بالقليل. ولا شك أن أول ما يطرح في هذا السياق هو مصير القاعدة الأم كتنظيم يمتلك مشروعية الإشراف على كل الجبهات الساخنة في العالم. وإلى هنا لنثبت بعض الملاحظات للتأمل:
1) لا يخفى على مراقب أن القاعدة، منذ زمن، باتت ورقة أمنية محترقة، لذا فإن ظهور صيغة جديدة قد يكون أجدى من استمرار الصيغ القديمة خاصة وأن الدولة أو الإمارة أوسع من التنظيم، فضلا عن أنها ستمكن القوى الجهادية الأخرى من الشعور بأنها شريكة في إنجاز لم تكن القاعدة هي الوحيدة التي صنعته.
2) ثم إن تفكيك تنظيم القاعدة العالمي وفق هذه المؤشرات سيكون ممكنا بما أن الساحة الأفغانية ستؤول بالنهاية إلى حكم الطالبان، وسيكون الأمر أكثر معقولية إذا ما كان الهدف هو البحث عن صيغة تتجاوز الإمارة، فإذا كانت القاعدة في العراق قد ذابت في إطار الدولة فلماذا لا تذوب في إطار الصيغة الجديدة في بلاد الأفغان؟ وهذا يعني أن الصيغة المزدوجة (طالبان القاعدة) التي كانت سائدة في عهد الإمارة قبل احتلالها قد تكون أصبحت في خبر كان.
3) يلاحظ أن أغلب التقارير الأمنية والعسكرية تكاد تجمع على فداحة المخاطر التي تتعرض لها قوات الناتو والاحتمالات الكبيرة لهزيمتها في أفغانستان، والنتيجة العسكرية القاطعة حتى الآن تؤكد استحالة هزيمة طالبان أو حسم الموقف معها عسكريا. وتبعا لذلك ربما يكون قادة القاعدة قد توصلوا إلى نتيجة ترى أنهم أدوا مهمتهم خلال السنوات السبع الماضية، وأنه آن الأوان لاستئناف العمل الخارجي، ولأن مثل هذا الأمر يحتاج إلى تفرغ ومتابعة حثيثة فلا بد من إحالة مسؤولية الساحات الأخرى إلى إمارة قائدة تمثل مرجعية للتيارات الجهادية الأخرى.
على كل حال تبقى مسألة تفكيك القاعدة عصية على الفهم لكن ذوبانها في إطار الصيغة الجديدة، إن صحت، ليس مستبعدا بشرط ألا يفهم من ذلك أنه نهاية المطاف بقدر ما سيعني ترقب دور جديد ليس معروفا حتى هذه اللحظة لا شكله ولا محتواه ولا مستقبله ولا طريقة عمله، أما محاولة فهم الحراك الداخلي في تنظيم القاعدة فهو أشبه بعمل المشعوذين. وإلى ذلك الحين، من التطورات القادمة، سنرى ما إذا كان الإعلام العربي سيستفيق أم أنه سيبقى غارقا في سباته.
هل ستتفكك القاعدة؟
(4)
د . أكرم حجازي
9/11/2008
فيما عدا أغلب الفضائيات العربية الإخبارية، إن لم يكن جميعها، ودون مبرر منطقي، نقلت مثيلاتها الغربية ووسائل إعلام متنوعة ملخصا، عن رسالة البغدادي أمير دولة العراق الإسلامية (7/11/2008): إلى حكام البيت الأبيشض الجدد وسائر أحلافهم من رؤساء الدول النصرانية. وذات الأمر وقع فيما يتعلق بلقاء أبي حمزة المهاجر المسمى وزيرا للحرب مع مؤسسة الفرقان بتاريخ 24/10/2008 حيث لا خبر ولا تعليق علما أنه اللقاء الصوتي الأول من نوعه والذي من المنتظر أن يتم استكماله في حلقات أخرى. والطريف في النقل أن وسائل إعلام الغرب تتعامل على الدوام مع خطابات القاعدة وشرائطها كمصادر معرفية في فهم توجهات القوم ولغتهم فيما تصر الوسائل العربية على تجاهلها أو التنكر لها أو تسطيحها دون أن يكون لها القدرة على الدفاع عن أدائها الإعلامي أو الشعارات التي تتزين بها.
نقول هذا ونحن نلحظ منذ ما قبل شهر رمضان بقليل ما يشبه دخول دولة العراق الإسلامية في مرحلة انتقالية ما انفكت مؤسسة الفرقان تمهد لها بزخم إعلامي نوعي غير مسبوق. ومع ذلك فلم تتساءل وسائل الإعلام العربية عما يجري التحضير له على الساحة العراقية من قبل القاعدة الأم في أفغانستان؟ ولا ما إذا كان هذا الدفق الإعلامي يشي بتوجه ما نحو مركزة للمشروع الجهادي العالمي بحيث تكون الدولة فيه رأس الحربة مجددا؟ ولا ريب أن مثل هذا الأداء السقيم نقل هذه الوسائل إلى مصاف الخصوم وخلف لها اتهامات أقلها بأنها وسائل غير محايدة سواء لأنصار الجهاد أو حتى للمراقبين لأن التنكر للأحداث لا يمكن تبريره بالحياد ناهيك عن التوازن.
إرهاصات المرحلة
الأكيد أن سلسلة الخطابات السابقة لا يمكن فصلها عن خطابات قديمة سبق أن بثتها مؤسسة السحاب خاصة تلك التي توجه بها الظواهري وبن لادن وحتى يحيى آدم غدن (عزام الأمريكي) إلى الأمريكيين والأوروبيين مع التذكير، على وجه الخصوص، بمشروع الهدنة التي طرحها أسامة بن لادن على الغرب قبل نحو أربع سنوات. وأيا كانت محتويات الخطاب القاعدي للغرب إلا أنه لم يكن من اختصاصات البغدادي الذي اقتصرت خطاباته على الشأن العراقي حتى فيما يتعلق بالأمريكيين الذين كان يخاطبهم كقوات احتلال.
لكن خطابه الجديد شذ عن القاعدة وقدمه كخطاب دعوي وبـ: الحسنى للأمريكيين وحلفائهم، وهي صيغة اضطلع بمهمة القيام بها بن لادن أكثر من الظواهري وغيره. فلماذا جاء الخطاب هذه المرة من العراق وليس من أفغانستان؟
بعيدا عن مضمون خطاب البغدادي للغرب؛ فلو تعمقنا أكثر لكان لزاما علينا التوقف عند الفقرة اللافتة: إني اليوم وبالنيابة عن إخواني في العراق وأفغانستان والصومال والشيشان أعرض عليكم ما هو خير لكم ولنا. فما هو الجديد الذي حملته الفقرة؟
· غني عن القول أن الفقرة تنطوي على تفويض صريح للبغدادي كي يتحدث باسم القوى الجهادية الأربعة بصورة غير مسبوقة. فالمألوف أن تنظيم القاعدة هو المرجعية العليا والحاضنة الشرعية للجهاد العالمي بالنسبة لكافة الجماعات ذات التوجه السلفي الجهادي.
· ومن المألوف أيضا أن أحدا من هذه الجماعات لم يسبق له أن تجرأ على التحدث باسم الآخرين، وهذا يعني أن البغدادي ما كان له أن يتحدث عنهم بالنيابة لولا أنه تلقى تفويضا بذلك من قادة القاعدة.
· الملاحظ أيضا أن إمارة القوقاز وحركة الشباب المجاهدين جماعات سلفية جهادية لكنها لم تبايع القاعدة بصفة رسمية! فلماذا يتحدث البغدادي باسمها إذن؟
· أخيرا، فيما عدا الصومال فالجماعات الثلاثة الأخرى إما أنها كائنة في إطار صيغة الإمارة كما هو حال القاعدة وإما أنها أسست لها إمارات كما في القوقاز والعراق. وجميعها خاضت حروب ضارية مع القوى الغربية العظمى.
لكن هل ثمة مؤشرات على تفويضات أخرى لدولة العراق الإسلامية؟ بمعنى آخر: هل التفويض الذي عبرت عنه فقرة البغدادي هو الملمح الوحيد الذي وقعنا عليه؟ أم أن هناك فعلا مؤشرات أخرى؟
الحقيقة أن أشرطة الفرقان أو السحاب قلما تكشف عن التوجهات أو الاستراتيجيات دفعة واحدة، وهذا ما يُصعِّب مهمة الباحث أو المراقب وربما يعيقه عن سرعة بناء تصورات حاسمة، إذ علاوة على أنها غالبا ما تأتي ضبابية أو غامضة بحيث يستدعي الكشف عنها جهدا كبيرا إلا أنها تأتي أيضا متفرقة وعلى فترات وفي أكثر من شريط، وهذا يعني أن الوقت هو المصدر الوحيد المسموح له بالكشف عن الخفايا وليس الأشرطة بمجرد صدورها. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن فكرة تشفير الأشرطة واشتمالها على رسائل خفية أو استراتيجيات معينة، وفق هذا السياق، باتت أقرب إلى التصديق من الإنكار أو التشكيك، وإلا فما الذي يدفع هذه المؤسسات إلى تجزئة التوجهات والخيارات الإستراتيجية، إن صحت تحليلاتنا، على عدة أشرطة مرئية أو صوتية وفي أوقات متباعدة؟
فمن جهته قدم أبو حمزة المهاجر ما يشبه السفر الثاني للحقيقة بعد سفر الأنصار حين رد على الكثير من الشبهات المثارة ضد الدولة، أو على بعض القضايا الخلافية ذات الصلة بالجماعات الأخرى. ولا يخفى على المراقب أن الردود جاءت لتؤكد ما سبق وأن تناوله الكثير من الكتاب المناصرين للقاعدة أو الدولة، ولولا خطاب البغدادي لقلنا أنه ما كان للمهاجر أن يتجشم عناء تفنيد الشبهات أو الرد على المخالفين خاصة وأنه لم يعد خافيا أن كتابات الأنصار وتعليقاتهم قد كفته مؤونة الرد. لكن حين التدقيق سنجد أن بذور التفويض قد وردت في مواضع سابقة جلية وواضحة خاصة في محاضرته عن الدولة النبوية.
أما في اللقاء الصوتي فقد وردت الفقرة التالية: لقد بدأنا السير مسرعاً وبدت الصورة تظهر معالمها في أبهى وأجمل ما يكون, فنحن اليوم جيش واحد تحت راية واحدة نقاتل عدونا على جبهات مختلفة في شمال الأرض بالقوقاز وأفغانستان, وبجنوب الأرض في الصومال والأوغادين, وفي وسط الأرض في العراق والجزائر, قلوبنا مجتمعة, وهدفنا واحد, نستظل بعقيدة واحدة؛ ثم فقرة أخرى خاطب فيها الشباب المجاهدين: أقول لشباب الصومال: القرن الأفريقي أمانةٌ في أيديكم, واحذروا طعنات الوطنيين فإنهم حتماً فاعلون, فإن قاتلوا معكم اليوم فإنهم غداً في صف عدوكم, وتكفيكم وتكفينا في العراق آلام التجربة.
ولو تجاوزنا قاعدة الجهاد في المغرب الإسلامي المبايعة للقاعدة أصلا؛ فقد أتى المهاجر على ذكر المناطق الأربعة ذاتها التي تحدث باسمها البغدادي، وذهب أبعد من ذلك وهو يتحدث عن: جيش واحد و راية واحدة و عدو واحد و هدف واحد و عقيدة واحدة. وهي صيغ لم تكن مألوفة في خطاب دولة العراق الإسلامية. ثم أليس ملفتا للانتباه أن يتحدث المهاجر مع الشباب المجاهدين وكأنه وصيا عليهم؟
هل من دور جديد في الأفق؟
سبق لنا أن تحدثنا عن أن هزيمة الناتو في أفغانستان ستعني بالضرورة البحث عن كيان سياسي جديد وليس العودة إلى صيغة الإمارة. فهل ستكون الصيغة هي دولة العراق الإسلامية؟ ربما. فمن جهة يمكن أن يكون لقاء المهاجر والترويج الإعلامي للدولة عبر المحاضرات أو الأشرطة المرئية كـ: عامان لدولة العراق هي مقدمات لتصفية الشبهات تحضيرا لدور جديد يصعب على الدولة القيام به ما لم يتم حسم الاتهامات التي رافقتها على امتداد عامين من أعلى سلطة رسمية فيها وإغلاق ما يمكن اعتباره ملفات عالقة. ومن جهة أخرى فليس من المعقول أن يتحول البغدادي إلى ناطق رسمي باسم القاعدة أو تيارات الجهاد العالمي وهو المسمى أميرا لدولة العراق الإسلامية والتي أثخنت، قبل إعلانها، في الأمريكيين وتحدت وجودهم وأعلنت قيام دولة إسلامية في قلب المعركة تحت سمع وبصر الاحتلال الأمريكي الذي سخّر كل طاقاته الفكرية والعسكرية لضربها بلا هوادة دون أن يفلح حتى الآن.
وهذا يؤشر على أن التفويض الممنوح للبغدادي هو بالتأكيد أكثر من مجرد أمير لإحدى الإمارات الإسلامية المعلنة في بعض الجبهات. فقد يعني في قراءة من القراءات تعبيرا عن الحاجة إلى إمارة مركزية قائدة تبدو فيها دولة العراق الإسلامية مرشحة أكثر من غيرها للعب هذا الدور. ذلك أن أميرها يستحوذ على مشروعية دينية وتاريخية وجغرافية ولغوية، فهو عربي قرشي وليس أعجمي كما هو الحال في المناطق الثلاثة الأخرى، وقيادة الجهاد العالمي تستدعي شخصية تخاطب الأمة بلغة القرآن، إذ ليس من المنطقي، مثلا، أن يتحدث الملا محمد عمر أو دوكو عموروف إلى الأمة عن الإسلام والجهاد بلغة أعجمية.
كل هذا يدفعنا إلى القول أنه ثمة صيغة انتقال واضحة في لعب الأدوار تحتل الساحة العراقية فيها رأس الحربة، لكن تفويض البغدادي بشكل يظهره وكأنه وصي على تيارات الجهاد العالمي سيعني بالضرورة حراكا نوعيا غير مسبوق لن تتضح معالمه قبل مضي وقت ليس بالقليل. ولا شك أن أول ما يطرح في هذا السياق هو مصير القاعدة الأم كتنظيم يمتلك مشروعية الإشراف على كل الجبهات الساخنة في العالم. وإلى هنا لنثبت بعض الملاحظات للتأمل:
1) لا يخفى على مراقب أن القاعدة، منذ زمن، باتت ورقة أمنية محترقة، لذا فإن ظهور صيغة جديدة قد يكون أجدى من استمرار الصيغ القديمة خاصة وأن الدولة أو الإمارة أوسع من التنظيم، فضلا عن أنها ستمكن القوى الجهادية الأخرى من الشعور بأنها شريكة في إنجاز لم تكن القاعدة هي الوحيدة التي صنعته.
2) ثم إن تفكيك تنظيم القاعدة العالمي وفق هذه المؤشرات سيكون ممكنا بما أن الساحة الأفغانية ستؤول بالنهاية إلى حكم الطالبان، وسيكون الأمر أكثر معقولية إذا ما كان الهدف هو البحث عن صيغة تتجاوز الإمارة، فإذا كانت القاعدة في العراق قد ذابت في إطار الدولة فلماذا لا تذوب في إطار الصيغة الجديدة في بلاد الأفغان؟ وهذا يعني أن الصيغة المزدوجة (طالبان القاعدة) التي كانت سائدة في عهد الإمارة قبل احتلالها قد تكون أصبحت في خبر كان.
3) يلاحظ أن أغلب التقارير الأمنية والعسكرية تكاد تجمع على فداحة المخاطر التي تتعرض لها قوات الناتو والاحتمالات الكبيرة لهزيمتها في أفغانستان، والنتيجة العسكرية القاطعة حتى الآن تؤكد استحالة هزيمة طالبان أو حسم الموقف معها عسكريا. وتبعا لذلك ربما يكون قادة القاعدة قد توصلوا إلى نتيجة ترى أنهم أدوا مهمتهم خلال السنوات السبع الماضية، وأنه آن الأوان لاستئناف العمل الخارجي، ولأن مثل هذا الأمر يحتاج إلى تفرغ ومتابعة حثيثة فلا بد من إحالة مسؤولية الساحات الأخرى إلى إمارة قائدة تمثل مرجعية للتيارات الجهادية الأخرى.
على كل حال تبقى مسألة تفكيك القاعدة عصية على الفهم لكن ذوبانها في إطار الصيغة الجديدة، إن صحت، ليس مستبعدا بشرط ألا يفهم من ذلك أنه نهاية المطاف بقدر ما سيعني ترقب دور جديد ليس معروفا حتى هذه اللحظة لا شكله ولا محتواه ولا مستقبله ولا طريقة عمله، أما محاولة فهم الحراك الداخلي في تنظيم القاعدة فهو أشبه بعمل المشعوذين. وإلى ذلك الحين، من التطورات القادمة، سنرى ما إذا كان الإعلام العربي سيستفيق أم أنه سيبقى غارقا في سباته.
تعليق