وقفات تاريخية مع ألاعيب أمريكا المالية وصمت الإعلام 07/11/1429هـ
د. حمزة بن محمد السالم
عاهدت أمريكا الحلفاء عام 1944 في برتن وود في ولاية نيوهامشير وضمنت لهم وللعالم أونصة من الذهب لكل من جاءها بـ 35 دولارا أمريكيا. نقضت أمريكا المعاهدة المالية الشهيرة عام 1971 ورفضت تقديم الذهب مقابل الدولار بعد أن أقامت اقتصادياتها وبنيتها التحتية على تقديم سندات الدولار للعالم مقابل سلعهم وخدماتهم. تبادل الطرفان التهم ثم رضخت أوروبا العجوز ذات الفكر التقليدي للأمر الواقع وابتلعت الطعم الذي قدمته للأمريكان الذين قلبوه فجعلوه فخا للأوروبيين، بإبداعهم الفكري الشاب الممتزج بخبث أصولهم البريطانية والمطعم بطمع أبناء العمومة من اليهود. صمت الإعلام العالمي أمام الحقيقة المرة الواقعة سابقا ولاحقا وهو أن الدولار أصبح بديلا للذهب وتجاهل المعنى الحقيقي لذلك. ومنذ ذلك الحين والأوربيون كالعادة يفكرون بأثر رجعي فعملوا على إقامة اليورو ثأرا وطمعا في أن يصبح بديلا للذهب يوما ما فتنتقل مناجم الذهب من واشنطن إلى فرانكفورت. بينما عملت أمريكا على تأسيس الدولار كعملة الاحتياط العالمية طوال الـ 30 عاما الماضية.
انهارت اقتصاديات نمور آسيا عام 1997 عندما دروش وتحاذق اقتصاديوهم فآمنوا بنزاهة واستقلالية أمريكا التجارية، فظنوا أن باستطاعتهم تسييل احتياطياتهم الأجنبية دون أن تتدخل أمريكا لحماية دولارها. (والاحتياطيات النقدية الأجنبية ليست بالموجودات الأجنبية كما أوضحت في مقال سابق).
وسأقص هنا ما لم يخبر به الإعلام في تلك الفترة وحكته كثير من رسائل الدكتوراة والبحوث العلمية التي تناولت دراسة الاحتياطيات النقدية الأجنبية عن سبب إشعال فتيل الأزمة المالية في الشرق الأقصى عام 1997.
الاحتياطيات النقدية الأجنبية تكون عادة بسندات أمريكية قصيرة الأجل لمدة سنة أو أقل فهي سهلة التسييل كأنها دولارات حقيقية. وواقع الاحتياطي النقدي الأجنبي الآن هو إتاوة أمريكية وأما نظريا فهو معضلة مكلفة فكلما ازدادت الدولة منه قل احتياجها له كالسلاح, فهو مكلف وليس للاستخدام.
قام بعض البنوك المركزية في الشرق الأقصى آنذاك بالتلاعب بالحسابات فسيلت السندات الأمريكية وأقرضت قيمتها للشركات الوطنية وجعلت من هذه القروض (التي هي بالدولار على شركاتها) سندات حسبتها كاحتياطي أجنبي. ولم يرق ذلك لأمريكا، فالاحتياطي النقدي الأجنبي يجب أن يبقى محبوسا في سندات الخزانة الأمريكية لا ليستخدم لشراء السلع والخدمات الحقيقية. وشاعت شائعة أن العملات المحلية لا يوجد لها غطاء أجنبي فهجم المضاربون على هذه العملات ووقفت البنوك المركزية هناك عاجزة عن الدفاع عن عملاتها نظرا لأن احتياطياتها أصبحت ديونا على شركاتها المحلية التي لا تستطيع طبع الدولار. وتجاوزت سنغافورة وهونج كونج الأزمة نظرا لتغطية القاعدة المالية بالكامل من هذه الدولارات بينما انهارت عملات دول نمور آسيا آنذاك.
من يا ترى ابتدأ الشائعة وتسريب الأخبار؟ ومن يا ترى ابتدأ الهجوم على عملات تلك الدول؟ هل ننسى انخفاض أسعار البترول عشية بدأ الحرب على العراق عام 1991 وفي كثير من المواقف السياسية ليس هذا مكان سردها؟ أنا لا أشك لحظة في أن أمريكا هي من بدأت ذلك. ودليل ذلك تعطليها مجهودات البنك الدولي في جميع خطط الإنقاذ التي اقترحها البنك لنجدة عملات تلك الدول حتى فات الأوان وانتقلت الأزمة المالية إلى الاقتصاد الحقيقي لتلك الدول. وصدرت بحوث علمية تتناول موقف أمريكا من تلك الأزمة وتعطيلها خطط الإنقاذ المقترحة, فهل تحدث الإعلام بذلك؟ وللعلم فأمريكا وحدها تملك حق قرار الفيتو في البنك الدولي لمساهمتها بـ 18 في المائة من ميزانيته.
واستوعبت نمور آسيا الدرس جيدا فبنت احتياطيات نقدية عظيمة من الدولار الأمريكي أضعافا مضاعفة عما كان سابقا حتى غطت المعروض النقدي الثاني بل الثالث عند بعض الدول ككوريا الجنوبية. وخرجت أمريكا منتصرة من تلك الأزمة ماليا بتحميل الشرق الأقصى مزيدا من الديون الأمريكية الرخيصة, وسياديا بتلقين دول الشرق الأقصى درسا في هيمنة الدولار وعوه جيدا.
استمتعت أمريكا بكون الدولار عملة الاحتياط بدلا من الذهب لمدة 30 سنة تستهلك البضائع والخدمات الحقيقية باستيرادها من الدول الأخرى وتصدر لهم السندات الأمريكية الورقية. وبلا شك أن الحرب الباردة والوضع السياسي العام وحداثة النظام المالي العالمي كان منغصا لشهوة الترف الأمريكية ومقيدا لها نوعا ما. أما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الأولى أصبح الدولار بديل الذهب بلا منازع. وما لبثت أن تطاولت أوروبا بعملتها فأراد رعاة البقر أن يذكروا أوروبا بأن البترول هو من دعم الدولار بعد انفكاكه عن الذهب وهو, أي البترول, هو الصالح الآن ليحل محل الذهب فقام الأمريكيون باحتلال العراق.
من لم يفهم فليفهم أن أمريكا لن تسمح بأن تحل أي عملة محل الدولار كعملة الاحتياط بدلا من الذهب. ويوم يأتي اليوم الذي تستطيع عملة ما تحريك الدولار عن عرشه، في ذلك اليوم سينهار النظام المالي العالمي وقد يلحقه كساد عالمي كالذي حدث عام 1933 أما الآن فلا.
متى نفهم ومتى يفهم من يتعامل مع الاقتصاد العالمي أن الكساد الذي حدث في أمريكا عام 1933 لا يمكن حدوثه الآن بأي حال من الأحوال سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية؟!
في عام 1933 انهار النظام البنكي في الولايات المتحدة لعجزه عن دفعه للناس أموالهم بينما وقفت الدولة حين ذاك عاجزة عن توفير الذهب الكافي الذي يغطي إيداعات المودعين مما جر خلفه أعظم كساد عرفته أمريكا في تاريخها وسمته الكساد العظيم.
هذا لن يحدث أبدا في الوقت الحاضر, فالدولار بديل الذهب أصبح سهل الإنتاج وبكميات غير محدودة. نقرات على لوحة الحاسب الآلي وتصدر مليارات الدولارات وتسدد مستحقات الناس. وهذه الميزة والخاصية لا تتوافر إلا لعملة الاحتياط التي هي الدولار في الوقت الحاضر. على كل حال حتى الذهب يصبح بلا قيمة إذا أصبح بوفرة التراب وهذا ما تعمل أمريكا على تأخير حدوثه لا منعه. فلا يأتي ذلك اليوم (يوم لا يصبح الدولار ذا قيمة)، وهو ما زال بعيدا في الحسابات البشرية، إلا وقد استفادت أمريكا من دولارها بأن بنى لها اقتصادا حقيقيا يساوي مجموع اقتصادات العالم أجمع قد قام على التمويلات العالمية المجانية.
الرئيس الأمريكي القادم جمهوريا كان أو ديموقراطيا لن يسمح حتى بتباطؤ الاقتصاد الأمريكي فضلا عن دخوله في انكماش حاد. الأزمة بدأت منذ أربع سنوات وتفجيرها في هذا الوقت بالتخلي عن إعانة بنك لم يكن عبثا.
والنتيجة هو أنه ليست هناك أزمة حقيقية إنما ديون وتعهدات عالمية أمدت الاقتصاد الأمريكي بالتريليونات خلال السنوات الثماني الماضية وأرادت أمريكا شطبها وعدم الالتزام بها، وألاعيب أمريكا المالية عبر التاريخ شاهد على ذلك وعبرة لمن يعتبر.
http://www.aleqt.com/article.php?do=show&id=11128
د. حمزة بن محمد السالم
عاهدت أمريكا الحلفاء عام 1944 في برتن وود في ولاية نيوهامشير وضمنت لهم وللعالم أونصة من الذهب لكل من جاءها بـ 35 دولارا أمريكيا. نقضت أمريكا المعاهدة المالية الشهيرة عام 1971 ورفضت تقديم الذهب مقابل الدولار بعد أن أقامت اقتصادياتها وبنيتها التحتية على تقديم سندات الدولار للعالم مقابل سلعهم وخدماتهم. تبادل الطرفان التهم ثم رضخت أوروبا العجوز ذات الفكر التقليدي للأمر الواقع وابتلعت الطعم الذي قدمته للأمريكان الذين قلبوه فجعلوه فخا للأوروبيين، بإبداعهم الفكري الشاب الممتزج بخبث أصولهم البريطانية والمطعم بطمع أبناء العمومة من اليهود. صمت الإعلام العالمي أمام الحقيقة المرة الواقعة سابقا ولاحقا وهو أن الدولار أصبح بديلا للذهب وتجاهل المعنى الحقيقي لذلك. ومنذ ذلك الحين والأوربيون كالعادة يفكرون بأثر رجعي فعملوا على إقامة اليورو ثأرا وطمعا في أن يصبح بديلا للذهب يوما ما فتنتقل مناجم الذهب من واشنطن إلى فرانكفورت. بينما عملت أمريكا على تأسيس الدولار كعملة الاحتياط العالمية طوال الـ 30 عاما الماضية.
انهارت اقتصاديات نمور آسيا عام 1997 عندما دروش وتحاذق اقتصاديوهم فآمنوا بنزاهة واستقلالية أمريكا التجارية، فظنوا أن باستطاعتهم تسييل احتياطياتهم الأجنبية دون أن تتدخل أمريكا لحماية دولارها. (والاحتياطيات النقدية الأجنبية ليست بالموجودات الأجنبية كما أوضحت في مقال سابق).
وسأقص هنا ما لم يخبر به الإعلام في تلك الفترة وحكته كثير من رسائل الدكتوراة والبحوث العلمية التي تناولت دراسة الاحتياطيات النقدية الأجنبية عن سبب إشعال فتيل الأزمة المالية في الشرق الأقصى عام 1997.
الاحتياطيات النقدية الأجنبية تكون عادة بسندات أمريكية قصيرة الأجل لمدة سنة أو أقل فهي سهلة التسييل كأنها دولارات حقيقية. وواقع الاحتياطي النقدي الأجنبي الآن هو إتاوة أمريكية وأما نظريا فهو معضلة مكلفة فكلما ازدادت الدولة منه قل احتياجها له كالسلاح, فهو مكلف وليس للاستخدام.
قام بعض البنوك المركزية في الشرق الأقصى آنذاك بالتلاعب بالحسابات فسيلت السندات الأمريكية وأقرضت قيمتها للشركات الوطنية وجعلت من هذه القروض (التي هي بالدولار على شركاتها) سندات حسبتها كاحتياطي أجنبي. ولم يرق ذلك لأمريكا، فالاحتياطي النقدي الأجنبي يجب أن يبقى محبوسا في سندات الخزانة الأمريكية لا ليستخدم لشراء السلع والخدمات الحقيقية. وشاعت شائعة أن العملات المحلية لا يوجد لها غطاء أجنبي فهجم المضاربون على هذه العملات ووقفت البنوك المركزية هناك عاجزة عن الدفاع عن عملاتها نظرا لأن احتياطياتها أصبحت ديونا على شركاتها المحلية التي لا تستطيع طبع الدولار. وتجاوزت سنغافورة وهونج كونج الأزمة نظرا لتغطية القاعدة المالية بالكامل من هذه الدولارات بينما انهارت عملات دول نمور آسيا آنذاك.
من يا ترى ابتدأ الشائعة وتسريب الأخبار؟ ومن يا ترى ابتدأ الهجوم على عملات تلك الدول؟ هل ننسى انخفاض أسعار البترول عشية بدأ الحرب على العراق عام 1991 وفي كثير من المواقف السياسية ليس هذا مكان سردها؟ أنا لا أشك لحظة في أن أمريكا هي من بدأت ذلك. ودليل ذلك تعطليها مجهودات البنك الدولي في جميع خطط الإنقاذ التي اقترحها البنك لنجدة عملات تلك الدول حتى فات الأوان وانتقلت الأزمة المالية إلى الاقتصاد الحقيقي لتلك الدول. وصدرت بحوث علمية تتناول موقف أمريكا من تلك الأزمة وتعطيلها خطط الإنقاذ المقترحة, فهل تحدث الإعلام بذلك؟ وللعلم فأمريكا وحدها تملك حق قرار الفيتو في البنك الدولي لمساهمتها بـ 18 في المائة من ميزانيته.
واستوعبت نمور آسيا الدرس جيدا فبنت احتياطيات نقدية عظيمة من الدولار الأمريكي أضعافا مضاعفة عما كان سابقا حتى غطت المعروض النقدي الثاني بل الثالث عند بعض الدول ككوريا الجنوبية. وخرجت أمريكا منتصرة من تلك الأزمة ماليا بتحميل الشرق الأقصى مزيدا من الديون الأمريكية الرخيصة, وسياديا بتلقين دول الشرق الأقصى درسا في هيمنة الدولار وعوه جيدا.
استمتعت أمريكا بكون الدولار عملة الاحتياط بدلا من الذهب لمدة 30 سنة تستهلك البضائع والخدمات الحقيقية باستيرادها من الدول الأخرى وتصدر لهم السندات الأمريكية الورقية. وبلا شك أن الحرب الباردة والوضع السياسي العام وحداثة النظام المالي العالمي كان منغصا لشهوة الترف الأمريكية ومقيدا لها نوعا ما. أما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الأولى أصبح الدولار بديل الذهب بلا منازع. وما لبثت أن تطاولت أوروبا بعملتها فأراد رعاة البقر أن يذكروا أوروبا بأن البترول هو من دعم الدولار بعد انفكاكه عن الذهب وهو, أي البترول, هو الصالح الآن ليحل محل الذهب فقام الأمريكيون باحتلال العراق.
من لم يفهم فليفهم أن أمريكا لن تسمح بأن تحل أي عملة محل الدولار كعملة الاحتياط بدلا من الذهب. ويوم يأتي اليوم الذي تستطيع عملة ما تحريك الدولار عن عرشه، في ذلك اليوم سينهار النظام المالي العالمي وقد يلحقه كساد عالمي كالذي حدث عام 1933 أما الآن فلا.
متى نفهم ومتى يفهم من يتعامل مع الاقتصاد العالمي أن الكساد الذي حدث في أمريكا عام 1933 لا يمكن حدوثه الآن بأي حال من الأحوال سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية؟!
في عام 1933 انهار النظام البنكي في الولايات المتحدة لعجزه عن دفعه للناس أموالهم بينما وقفت الدولة حين ذاك عاجزة عن توفير الذهب الكافي الذي يغطي إيداعات المودعين مما جر خلفه أعظم كساد عرفته أمريكا في تاريخها وسمته الكساد العظيم.
هذا لن يحدث أبدا في الوقت الحاضر, فالدولار بديل الذهب أصبح سهل الإنتاج وبكميات غير محدودة. نقرات على لوحة الحاسب الآلي وتصدر مليارات الدولارات وتسدد مستحقات الناس. وهذه الميزة والخاصية لا تتوافر إلا لعملة الاحتياط التي هي الدولار في الوقت الحاضر. على كل حال حتى الذهب يصبح بلا قيمة إذا أصبح بوفرة التراب وهذا ما تعمل أمريكا على تأخير حدوثه لا منعه. فلا يأتي ذلك اليوم (يوم لا يصبح الدولار ذا قيمة)، وهو ما زال بعيدا في الحسابات البشرية، إلا وقد استفادت أمريكا من دولارها بأن بنى لها اقتصادا حقيقيا يساوي مجموع اقتصادات العالم أجمع قد قام على التمويلات العالمية المجانية.
الرئيس الأمريكي القادم جمهوريا كان أو ديموقراطيا لن يسمح حتى بتباطؤ الاقتصاد الأمريكي فضلا عن دخوله في انكماش حاد. الأزمة بدأت منذ أربع سنوات وتفجيرها في هذا الوقت بالتخلي عن إعانة بنك لم يكن عبثا.
والنتيجة هو أنه ليست هناك أزمة حقيقية إنما ديون وتعهدات عالمية أمدت الاقتصاد الأمريكي بالتريليونات خلال السنوات الثماني الماضية وأرادت أمريكا شطبها وعدم الالتزام بها، وألاعيب أمريكا المالية عبر التاريخ شاهد على ذلك وعبرة لمن يعتبر.
http://www.aleqt.com/article.php?do=show&id=11128
تعليق