ظل رفض التطبيع بأبعاده النفسية والاقتصادية والثقافية، حتى وقت قريب، الحصنَ الأخير والسدَّ المنيع للعرب في مواجهة إسرائيل، ونجح هذا السد في حجز ومحاصرة أي تمددات لأنصار التطبيع داخل المجتمعات العربية، لكن هذا الحصن بدأ يعاني في السنوات الأخيرة من تصدّع أحد أهم جدرانه، والمتمثل في المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، حيث نجحت الأذرع الأخطبوطية لإسرائيل في التمدد داخل الدول العربية، تارة متخفية تحت لافتات مزيفة، وتارة أخرى في إطار تكتلات وتجمعات اقتصادية يتم زرع إسرائيل عمدًا بداخلها، واستخدامها كحصان طروادة لاختراق الأسواق العربية، وتارة ثالثة يكون التواجد علانية بحجج واهية، مثل: استخدام النفوذ الإسرائيلي لفتح الأسواق العالمية، وخاصة الأمريكية، أمام المنتجات العربية، على غرار ما حدث في اتفاقيات الكويز مع مصر والأردن.
وتبدو الإحصائيات الخاصة بالتبادل التجاري بين الدول العربية وإسرائيل - والتي يكون مصدرها دوماً الأخيرة - مثيرة للإحباط والحسرة؛ إذ شهد العامان الأخيران تصاعدًا غيرَ مسبوق في الاختراق الإسرائيلي للاقتصاد العربي، فعلى سبيل المثال أدّت اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة "الكويز" بين مصر والولايات المتحدة وإسرائيل إلى فتح أبواب الاقتصاد المصري على مصراعيه أمام رجال الأعمال الإسرائيليين؛ ليخترقوا أحد أبرز قطاعاته الاستراتيجية والمتمثل في صناعة الغزل والنسيج.
وهم الكويز
ووفقاً لتقرير أصدره معهد الصادرات والتعاون الدولي الإسرائيلي مطلع العام الحالي، فإن مصر شكلت أكبر وأسرع سوق للصادرات الإسرائيلية خلال عام 2006، حيث سجّلت الصادرات الإسرائيلية لمصر في الفترة من فبراير 2005 حتى فبراير 2006 زيادةً قدرُها 168%، وبمتوسط صادرات شهرية يقدر بـ (8.3) مليون دولار مقارنة بمليون دولار شهرياً قبل فبراير 2005.
وأرجع التقرير هذه الزيادة الطفرة إلى اتفاق الكويز الذى وقعته مصر مع إسرائيل في ديسمبر 2004، والذي ينص على دخول منتجات المنسوجات المصرية للسوق الأمريكية معفاة بالكامل من الجمارك بشرط اشتمالها على مكونات إسرائيلية لا تقل نسبتها عن 11.9% بالنسبة لمصر، و 8% بالنسبة للأردن، وبالتالي فإن أغلب الصادرات الإسرائيلية لمصر كانت عبارة عن مواد خام لصناعة النسيج.
وفي ظل اتفاقية الكويز، صعَد حجم الصادرات الإسرائيلية إلى مصر من (26) مليون دولار عام 2003 الى (125) مليون دولار في عام 2006، بينما ارتفعت صادرات إسرائيل للأردن من (86) مليون دولار عام 2003 إلى (136) مليون دولار في عام 2006.
ومع أن فكرة ما يُسمّى بالمدن الصناعية "المؤهلة" (qiz)، تم الترويج لها أساساً بصفتها مدخلاً لزيادة صادرات البلدان العربية الموقِّعة عليها - مصر والأردن - إلى الولايات المتحدة من خلال إعفائها من الرسوم الجمركية، بالشرط السابق إلاّ أن ذلك مكّن الإسرائيليين من التحكم في أسعار المواد التي تشكّل المكوّن الإسرائيلي والمبالغة في تلك الأسعار بشكل كبير، مما قلّل من قدرة المنتجات المصدَّرة من تلك المدن الصناعية على المنافسة في مواجهة المنتجات الواردة من دول مثل الصين وتركيا وبنجلاديش.
الأردن الهدف
وكانت وطأة هذا الأمر على الأردن أشد؛ إذ إن 90% من مصانع المدن المؤهلة متخصصة في صناعة النسيج، وهي صناعة لا ينتج الأردن أي مواد خام أو حتى نصف مصنعة تدخل في إنتاجها، وبالتالي فإنه يعتمد على استيراد المواد الأولية من إسرائيل، وبأسعار تفوق السوق العالمي؛ إذ تمنح نسبة الـ 8% الموردين الإسرائيليين وضعاً شبه احتكاري، وبالإضافة إلى ذلك، فإن ضعف خبرة رجال الصناعة والأعمال الأردنيين في صناعة النسيج، جعل معظم رؤوس الأموال في تلك المدن إسرائيلية، مع نسبة قليلة للأردنيين كمجرد واجهة لتسيير الأمور.
والاهتمام الإسرائيلي بالتغلغل وإمساك مفاصل الاقتصاد الأردني لم يأت من فراغ، فالأردن يقع ضمن المستوى الأول للنظام الاقتصادي الشرق أوسطي، حسب التصور الإسرائيلي، والذي يستهدف إقامة تجمع اقتصادي ثلاثي يجمع بين الأردن والسلطة الفلسطينية وإسرائيل، وذلك على غرار الاتحاد الاقتصادي القائم بين دول "البينيلوكس" الأوروبية. ويهدف الإسرائيليون من وراء هذا التجمع الثلاثي إلى:
*أولاً: التغلب على عامل المساحة المحدودة ونقص الأيدي العاملة الكثيفة ذات الأجر المنخفض.
*ثانياً: جعل كل من الأردن والكيان الفلسطيني المنتظر معْبرًا ومركزَ توزيع للمنتجات والسلع الإسرائيلية إلى باقي الدول العربية، خاصة وأنها ستحمل شعار "صنع في الأردن" أو "صنع في فلسطين".
وقد اتضحت خطورة التغلغل الإسرائيلي في الأردن، بشكل واضح، بعد احتلال العراق في أبريل 2003؛ إذ أصبح الأردن المعْبر الرئيس لنقل البضائع الإسرائيلية إلى العراق، كما لعب بعض رجال الأعمال الأردنيين- بحكم علاقتهم السابقة مع نظرائهم الإسرائيليين - دور الوسيط بين التجار العراقيين والدوائر الاقتصادية في إسرائيل. وعلى الرغم من نفي بعض الدوائر الرسمية لعبور أي سلع إسرائيلية عبر الأردن إلى العراق، إلاّ أن هذا النفي يتصادم مع الحقائق على الأرض، كما أن التقديرات الخاصة بالصادرات الإسرائيلية إلى الأردن تكشف عن ارتفاع كبير، وغير مبرَّر اقتصادياً في ظل النطاق المحدود للسوق الأردني بملايينه الأربع.
تطبيع عن بُعد
وإذا كانت اتفاقيات الكويز قد منحت إسرائيل منفذًا لتصدير المواد الخام إلى مصر والأردن ليُعاد تصنيعُها ثم تصدُيرها إلى الولايات المتحدة، فإن إسرائيل لم تكتف بذلك، وحاولت بشتى الطرق التغلغلَ في أسواق عربية أخرى، وذلك من خلال ما يمكن أن نسميَه "التطبيع عن بُعد"؛ إذ يلجأ التجار الإسرائيليون ومَن تورط معهم في "وحل التطبيع" من رجال أعمال عرب إلى استيراد سلعٍ وبضائعَ إسرائيليةٍ عبر بلد ثالث، بعد إزالة أي إشارة تدلّ على المنشأ الإسرائيلي لهذه السلع، واستبدالِه بشعار دولة أخرى تحظى منتجاتها بثقة لدى المواطن العربي، الذي يصبح بذلك "مطبّع رغم أنفه".
وتمثل قبرص المركزَ الرئيس لإعادة تغليف السلع الإسرائيلية وتغيير بلد المنشأ الخاص بها، ثم إعادة تصديرها إلى الدول العربية، واختيار قبرص بالذات لتلك المَهَمّة، لم يكن أمرًا عشوائياً، حيث تُعدّ أقربَ الشواطئ الأوروبية للدول العربية؛ ذا تتجاوز المسافة بينها وبين سوريا (90) كم، وأقل من ذلك بكثير بالنسبة للبنان، كما أن الرقابة التجارية والجمركية فيها تعدّ شبهَ معدومة، على العكس من باقي الدول الأوروبية التي تفرض إجراءاتٍ مشددةً على شهادات المنشأ الخاصة بالسلع المصدَّرة عبر موانئها، فضلاً عن أن أسعار الشحن والتفريغ في قبرص تُعدّ منخفضةً للغاية مقاربةً بباقي الموانئ الأوروبية.
وفوق ذلك، فإن قبرص تشكّل مركزًا إقليمياً هاماً لعشرات الشركات العربية والإسرائيلية الكبرى، وهو ما يسهّل إمكانيةَ التعارف وعقد الصفقات بين تلك الشركات، خاصة في ظل تواجد عشرات السماسرة العرب والإسرائيليين الضالعين في هذا النشاط منذ سنوات طويلة، وليس سراً الإشارةُ إلى أن معظمَ هؤلاء، سواء كانوا عرباً أو إسرائيليين، هم من رجال السياسة والمخابرات السابقين، الذين كانت لهم عَلاقة بالملف العربي الإسرائيلي.
ويبرز من الجانب الإسرائيلي كلٌّ من: رئيسِ هيئة الأركان السابق أمنون شاحاك، وجلعاد شير رئيسِ الطاقم الإسرائيلي المفاوض في "كامب ديفيد 2".
وتبدأ عملية "غسيل" السلع والبضائع الإسرائيلية؛ كي يمكنها الدخول إلى الأسواق العربية قبل نقلها إلى قبرص، حيث تتم إزالة العلامات التجارية وأي إشارة تكشف عن هويتها الأصلية، ثم يتم نقلها بالبحر أو الطائرة إلى قبرص، وهناك يتم عمل وثائق وشهادات مزيفة، تشير إلى أن البضائع مصدرُها أي دولة أوروبية أو حتى دولة عربية، ثم تخرج البضائع من قبرص إلى لبنان أو سوريا حيث يتم توزيعُها وتسويقها على كل دول المنطقة العربية.
الثقب التركي
ويلجأ المستوردون إلى عدة طرق للتغلب على عقبة شهادة المنشأ؛ فالبعض يطلب من المصانع الإسرائيلية عدم وضع أي إشارة تدلّ على أن منتجاتِها صُنعت في إسرائيل، ويقوم المصنع بتزويد المستورد بشهادة منشأ غير حقيقية لدولة أخرى، وغالباً ما يستخدم هذا الأسلوب مع المواد الغذائية والمنسوجات والدهانات والمعدات الخفيفة. وفي بعض الأحيان يتم استيراد السلع كما هي من إسرائيل، ثم يتم إزالة أي علامة تجارية تدل على هويتها الحقيقية، ووضع علامة تجارية جديدة، وإعادة تصديرها مرة أخرى على أنها مستوردة من قبرص أو تركيا أو أوروبا.
وتشكل تركيا أيضاً أحدَ " الثقوب" التي استطاع الإسرائيليون "نقبَها " في جدار المقاطعة العربية، وتمتاز تركيا عن قبرص، بكونها دولة مسلمة تحظى منتجاتُها بسمعة لا بأس بها لدى المستهلك العربي، كما أنها تتفوق على الأردن بسوقها الاقتصادية الضخمة، وبالتالي فإن أي سلع إسرائيلية تُهرّب عبرها للوطن العربي لن تكون لافتة للنظر، بحكم العلاقات التجارية المتشعبة بين أنقرة والعديد من الدول العربية.
وقد مثّل العراق نقطة "تقاطع مصالح" بين رجال الأعمال الإسرائيليين والأتراك، فالطرف الأول يريد منفذًا يعبر منه للعراق، وهو ما يتوفر لتركيا عبر كردستان العراق، والتي تُعدّ أكثرَ أماناً من الطريق بين بغداد وعمان، حيث تقع مدن المثلث السني المشتعل، كما أن إسرائيل تتمتع بعلاقة قوية مع أكراد العراق، بل ويتحدث البعض عن شبكة مصالح اقتصادية أقامها الإسرائيليون في شمال العراق خلال السنوات العشر الماضية، مستغلين حالة الحصار والحظر الجوي الذي فرضته الولايات المتحدة على شمال العراق.
وبالنسبة للطرف الثاني (الأتراك)، فإنهم يريدون الحصول على جزء من كعكة إعادة الإعمار في العراق، ومفاتيح ذلك في يد الأمريكان، ومفاتيح الأمريكيين أنفسِهم في يد الإسرائيليين.
تساؤلات مريبة
وإذا كانت إسرائيل التي لا تملك مزايا تنافسية في السوق العالمي، سوى في مجالَي إنتاج الأسلحة وأبحاث التكنولوجيا المتطورة، وهما بديهياً غيرُ مطروحين للتصدير عربياً، فإن الإصرار الإسرائيلي على تصدير مواد غذائية ومنسوجات للدول العربية، وهي سلع لا تتمتع إسرائيل فيها بأي مزايا تنافسية، في السعر أو الجودة، يثير تساؤلات مريبة، ولعل الإجابة عن هذه التساؤلات تكمُن في استعراض بعض ما نُشر في وسائل الإعلام العربية في السنوات الأخيرة، مثل الفضيحة التي تفجرت في مصر بعد الكشف عن استيراد وزارة الزراعة لمبيدات مسرطنة من إسرائيل، كما ناقش البرلمان المصري تقاريرَ أخرى حول استيراد أسمدة إسرائيلية ملوثة بالإشعاع، إضافة إلى تقاريرَ أخرى حول بذور ملوثة تصيب التربة بميكروبات يستمر تأثيرها لسنوات و"ساعات مشعة" وأحزمة تؤدي للإصابة بالعقم، من خلال احتوائها على دوائر مغناطيسية قوية للغاية.
أما بالنسبة للعراق، الوافد الجديد على "مستنقع التطبيع"، فقد نُشرت تقارير عن اكتشاف معلبات اللحوم الحمراء الإسرائيلية التي تم ضخُّها بكميات كبيرة في الأسواق وبأسعار منخفضة تحمل فيروسات "جنون البقر"، إضافة إلى تقاريرَ أخرى عن سلع غذائية إسرائيلية دخلت إلى العراق عبر الأردن، ومعظمُها إما منتهي الصلاحية أو يحتوي على مواد سامة، يؤدي تناولُها إلى الإصابة بأمراض العقم, والكوليرا, والتيفوئيد, والتسمم المعوي. كما تم قبل نحو عامين إحباطُ محاولات إسرائيلية؛ لتسريب أدوات تجميل وصبغات شعر تحتوي على مواد مسرطنة للأسواق العربية، عبر دول أوروبية.
ومن المثير للقلق، أنه وفي مواجهة تلك المحاولات الإسرائيلية التي لا تتوقف لاختراق الأسواق العربية، والتغلغل في الجسد العربي من أجل بث الضعف والوهن في أوصاله، فإن الدول العربية تكاد تكون خاليةً من أي إجراءات حمائية أو رقابية تواجه هذا الخطر. فالدول التي أقامت عَلاقات مع إسرائيل وتخلت عن قوانين المقاطعة، تجاهلت أن المخططات الإسرائيلية لم ولن تتغير، مع وجود السلام المزعوم أو بدونه، وقد جنت ثمن هذا التجاهل ارتفاعاً غير مسبوق في معدلات الإصابة بالسرطان والفشل الكُلوي بين مواطنيها.
أما بالنسبة للدول التي مازالت تطبق قواعد المقاطعة، فإن الأمر يحتاج إلى تفعيل إجراءات المراقبة بشكل دقيق وإيجاد آليات ديناميكية قادرةٍ على مواجهة التلوُّن والتغيُّر المستمر في خطط التغلغل الإسرائيلية، فالبحث عن عبارة "صنع في إسرائيل" أو "نجمة داود" لم يعُد كافياً، بل يجب البحث عن إجراءات أكثرَ فاعلية مثل تشديد الرقابة على شهادات المنشأ، وتكليف السفارات العربية في الخارج بالتحقق من صحة تلك الشهادات وهوية السلع المستوردة قبل شحنها، إضافة إلى ذلك، فإن معرفة هوية الاستثمارات وحقيقة من يقفون وراءها، بات ضرورياً قبل إبرام أي صفقة مع جهة ما، وهو أمر ليس بالجديد، وطبّقته دول كبرى، مثلُ الولايات المتحدة مع الدول التي تفرض عليها عقوبات اقتصادية، فالمقاطعة يجب أن تكون لرؤوس الأموال الإسرائيلية، بغض النظر عن الهوية التي تتخفى وراءها، وليس فقط لمنتج يحمل "علم إسرائيل" أو سلعة عليها "نجمة داود".
وتبدو الإحصائيات الخاصة بالتبادل التجاري بين الدول العربية وإسرائيل - والتي يكون مصدرها دوماً الأخيرة - مثيرة للإحباط والحسرة؛ إذ شهد العامان الأخيران تصاعدًا غيرَ مسبوق في الاختراق الإسرائيلي للاقتصاد العربي، فعلى سبيل المثال أدّت اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة "الكويز" بين مصر والولايات المتحدة وإسرائيل إلى فتح أبواب الاقتصاد المصري على مصراعيه أمام رجال الأعمال الإسرائيليين؛ ليخترقوا أحد أبرز قطاعاته الاستراتيجية والمتمثل في صناعة الغزل والنسيج.
وهم الكويز
ووفقاً لتقرير أصدره معهد الصادرات والتعاون الدولي الإسرائيلي مطلع العام الحالي، فإن مصر شكلت أكبر وأسرع سوق للصادرات الإسرائيلية خلال عام 2006، حيث سجّلت الصادرات الإسرائيلية لمصر في الفترة من فبراير 2005 حتى فبراير 2006 زيادةً قدرُها 168%، وبمتوسط صادرات شهرية يقدر بـ (8.3) مليون دولار مقارنة بمليون دولار شهرياً قبل فبراير 2005.
وأرجع التقرير هذه الزيادة الطفرة إلى اتفاق الكويز الذى وقعته مصر مع إسرائيل في ديسمبر 2004، والذي ينص على دخول منتجات المنسوجات المصرية للسوق الأمريكية معفاة بالكامل من الجمارك بشرط اشتمالها على مكونات إسرائيلية لا تقل نسبتها عن 11.9% بالنسبة لمصر، و 8% بالنسبة للأردن، وبالتالي فإن أغلب الصادرات الإسرائيلية لمصر كانت عبارة عن مواد خام لصناعة النسيج.
وفي ظل اتفاقية الكويز، صعَد حجم الصادرات الإسرائيلية إلى مصر من (26) مليون دولار عام 2003 الى (125) مليون دولار في عام 2006، بينما ارتفعت صادرات إسرائيل للأردن من (86) مليون دولار عام 2003 إلى (136) مليون دولار في عام 2006.
ومع أن فكرة ما يُسمّى بالمدن الصناعية "المؤهلة" (qiz)، تم الترويج لها أساساً بصفتها مدخلاً لزيادة صادرات البلدان العربية الموقِّعة عليها - مصر والأردن - إلى الولايات المتحدة من خلال إعفائها من الرسوم الجمركية، بالشرط السابق إلاّ أن ذلك مكّن الإسرائيليين من التحكم في أسعار المواد التي تشكّل المكوّن الإسرائيلي والمبالغة في تلك الأسعار بشكل كبير، مما قلّل من قدرة المنتجات المصدَّرة من تلك المدن الصناعية على المنافسة في مواجهة المنتجات الواردة من دول مثل الصين وتركيا وبنجلاديش.
الأردن الهدف
وكانت وطأة هذا الأمر على الأردن أشد؛ إذ إن 90% من مصانع المدن المؤهلة متخصصة في صناعة النسيج، وهي صناعة لا ينتج الأردن أي مواد خام أو حتى نصف مصنعة تدخل في إنتاجها، وبالتالي فإنه يعتمد على استيراد المواد الأولية من إسرائيل، وبأسعار تفوق السوق العالمي؛ إذ تمنح نسبة الـ 8% الموردين الإسرائيليين وضعاً شبه احتكاري، وبالإضافة إلى ذلك، فإن ضعف خبرة رجال الصناعة والأعمال الأردنيين في صناعة النسيج، جعل معظم رؤوس الأموال في تلك المدن إسرائيلية، مع نسبة قليلة للأردنيين كمجرد واجهة لتسيير الأمور.
والاهتمام الإسرائيلي بالتغلغل وإمساك مفاصل الاقتصاد الأردني لم يأت من فراغ، فالأردن يقع ضمن المستوى الأول للنظام الاقتصادي الشرق أوسطي، حسب التصور الإسرائيلي، والذي يستهدف إقامة تجمع اقتصادي ثلاثي يجمع بين الأردن والسلطة الفلسطينية وإسرائيل، وذلك على غرار الاتحاد الاقتصادي القائم بين دول "البينيلوكس" الأوروبية. ويهدف الإسرائيليون من وراء هذا التجمع الثلاثي إلى:
*أولاً: التغلب على عامل المساحة المحدودة ونقص الأيدي العاملة الكثيفة ذات الأجر المنخفض.
*ثانياً: جعل كل من الأردن والكيان الفلسطيني المنتظر معْبرًا ومركزَ توزيع للمنتجات والسلع الإسرائيلية إلى باقي الدول العربية، خاصة وأنها ستحمل شعار "صنع في الأردن" أو "صنع في فلسطين".
وقد اتضحت خطورة التغلغل الإسرائيلي في الأردن، بشكل واضح، بعد احتلال العراق في أبريل 2003؛ إذ أصبح الأردن المعْبر الرئيس لنقل البضائع الإسرائيلية إلى العراق، كما لعب بعض رجال الأعمال الأردنيين- بحكم علاقتهم السابقة مع نظرائهم الإسرائيليين - دور الوسيط بين التجار العراقيين والدوائر الاقتصادية في إسرائيل. وعلى الرغم من نفي بعض الدوائر الرسمية لعبور أي سلع إسرائيلية عبر الأردن إلى العراق، إلاّ أن هذا النفي يتصادم مع الحقائق على الأرض، كما أن التقديرات الخاصة بالصادرات الإسرائيلية إلى الأردن تكشف عن ارتفاع كبير، وغير مبرَّر اقتصادياً في ظل النطاق المحدود للسوق الأردني بملايينه الأربع.
تطبيع عن بُعد
وإذا كانت اتفاقيات الكويز قد منحت إسرائيل منفذًا لتصدير المواد الخام إلى مصر والأردن ليُعاد تصنيعُها ثم تصدُيرها إلى الولايات المتحدة، فإن إسرائيل لم تكتف بذلك، وحاولت بشتى الطرق التغلغلَ في أسواق عربية أخرى، وذلك من خلال ما يمكن أن نسميَه "التطبيع عن بُعد"؛ إذ يلجأ التجار الإسرائيليون ومَن تورط معهم في "وحل التطبيع" من رجال أعمال عرب إلى استيراد سلعٍ وبضائعَ إسرائيليةٍ عبر بلد ثالث، بعد إزالة أي إشارة تدلّ على المنشأ الإسرائيلي لهذه السلع، واستبدالِه بشعار دولة أخرى تحظى منتجاتها بثقة لدى المواطن العربي، الذي يصبح بذلك "مطبّع رغم أنفه".
وتمثل قبرص المركزَ الرئيس لإعادة تغليف السلع الإسرائيلية وتغيير بلد المنشأ الخاص بها، ثم إعادة تصديرها إلى الدول العربية، واختيار قبرص بالذات لتلك المَهَمّة، لم يكن أمرًا عشوائياً، حيث تُعدّ أقربَ الشواطئ الأوروبية للدول العربية؛ ذا تتجاوز المسافة بينها وبين سوريا (90) كم، وأقل من ذلك بكثير بالنسبة للبنان، كما أن الرقابة التجارية والجمركية فيها تعدّ شبهَ معدومة، على العكس من باقي الدول الأوروبية التي تفرض إجراءاتٍ مشددةً على شهادات المنشأ الخاصة بالسلع المصدَّرة عبر موانئها، فضلاً عن أن أسعار الشحن والتفريغ في قبرص تُعدّ منخفضةً للغاية مقاربةً بباقي الموانئ الأوروبية.
وفوق ذلك، فإن قبرص تشكّل مركزًا إقليمياً هاماً لعشرات الشركات العربية والإسرائيلية الكبرى، وهو ما يسهّل إمكانيةَ التعارف وعقد الصفقات بين تلك الشركات، خاصة في ظل تواجد عشرات السماسرة العرب والإسرائيليين الضالعين في هذا النشاط منذ سنوات طويلة، وليس سراً الإشارةُ إلى أن معظمَ هؤلاء، سواء كانوا عرباً أو إسرائيليين، هم من رجال السياسة والمخابرات السابقين، الذين كانت لهم عَلاقة بالملف العربي الإسرائيلي.
ويبرز من الجانب الإسرائيلي كلٌّ من: رئيسِ هيئة الأركان السابق أمنون شاحاك، وجلعاد شير رئيسِ الطاقم الإسرائيلي المفاوض في "كامب ديفيد 2".
وتبدأ عملية "غسيل" السلع والبضائع الإسرائيلية؛ كي يمكنها الدخول إلى الأسواق العربية قبل نقلها إلى قبرص، حيث تتم إزالة العلامات التجارية وأي إشارة تكشف عن هويتها الأصلية، ثم يتم نقلها بالبحر أو الطائرة إلى قبرص، وهناك يتم عمل وثائق وشهادات مزيفة، تشير إلى أن البضائع مصدرُها أي دولة أوروبية أو حتى دولة عربية، ثم تخرج البضائع من قبرص إلى لبنان أو سوريا حيث يتم توزيعُها وتسويقها على كل دول المنطقة العربية.
الثقب التركي
ويلجأ المستوردون إلى عدة طرق للتغلب على عقبة شهادة المنشأ؛ فالبعض يطلب من المصانع الإسرائيلية عدم وضع أي إشارة تدلّ على أن منتجاتِها صُنعت في إسرائيل، ويقوم المصنع بتزويد المستورد بشهادة منشأ غير حقيقية لدولة أخرى، وغالباً ما يستخدم هذا الأسلوب مع المواد الغذائية والمنسوجات والدهانات والمعدات الخفيفة. وفي بعض الأحيان يتم استيراد السلع كما هي من إسرائيل، ثم يتم إزالة أي علامة تجارية تدل على هويتها الحقيقية، ووضع علامة تجارية جديدة، وإعادة تصديرها مرة أخرى على أنها مستوردة من قبرص أو تركيا أو أوروبا.
وتشكل تركيا أيضاً أحدَ " الثقوب" التي استطاع الإسرائيليون "نقبَها " في جدار المقاطعة العربية، وتمتاز تركيا عن قبرص، بكونها دولة مسلمة تحظى منتجاتُها بسمعة لا بأس بها لدى المستهلك العربي، كما أنها تتفوق على الأردن بسوقها الاقتصادية الضخمة، وبالتالي فإن أي سلع إسرائيلية تُهرّب عبرها للوطن العربي لن تكون لافتة للنظر، بحكم العلاقات التجارية المتشعبة بين أنقرة والعديد من الدول العربية.
وقد مثّل العراق نقطة "تقاطع مصالح" بين رجال الأعمال الإسرائيليين والأتراك، فالطرف الأول يريد منفذًا يعبر منه للعراق، وهو ما يتوفر لتركيا عبر كردستان العراق، والتي تُعدّ أكثرَ أماناً من الطريق بين بغداد وعمان، حيث تقع مدن المثلث السني المشتعل، كما أن إسرائيل تتمتع بعلاقة قوية مع أكراد العراق، بل ويتحدث البعض عن شبكة مصالح اقتصادية أقامها الإسرائيليون في شمال العراق خلال السنوات العشر الماضية، مستغلين حالة الحصار والحظر الجوي الذي فرضته الولايات المتحدة على شمال العراق.
وبالنسبة للطرف الثاني (الأتراك)، فإنهم يريدون الحصول على جزء من كعكة إعادة الإعمار في العراق، ومفاتيح ذلك في يد الأمريكان، ومفاتيح الأمريكيين أنفسِهم في يد الإسرائيليين.
تساؤلات مريبة
وإذا كانت إسرائيل التي لا تملك مزايا تنافسية في السوق العالمي، سوى في مجالَي إنتاج الأسلحة وأبحاث التكنولوجيا المتطورة، وهما بديهياً غيرُ مطروحين للتصدير عربياً، فإن الإصرار الإسرائيلي على تصدير مواد غذائية ومنسوجات للدول العربية، وهي سلع لا تتمتع إسرائيل فيها بأي مزايا تنافسية، في السعر أو الجودة، يثير تساؤلات مريبة، ولعل الإجابة عن هذه التساؤلات تكمُن في استعراض بعض ما نُشر في وسائل الإعلام العربية في السنوات الأخيرة، مثل الفضيحة التي تفجرت في مصر بعد الكشف عن استيراد وزارة الزراعة لمبيدات مسرطنة من إسرائيل، كما ناقش البرلمان المصري تقاريرَ أخرى حول استيراد أسمدة إسرائيلية ملوثة بالإشعاع، إضافة إلى تقاريرَ أخرى حول بذور ملوثة تصيب التربة بميكروبات يستمر تأثيرها لسنوات و"ساعات مشعة" وأحزمة تؤدي للإصابة بالعقم، من خلال احتوائها على دوائر مغناطيسية قوية للغاية.
أما بالنسبة للعراق، الوافد الجديد على "مستنقع التطبيع"، فقد نُشرت تقارير عن اكتشاف معلبات اللحوم الحمراء الإسرائيلية التي تم ضخُّها بكميات كبيرة في الأسواق وبأسعار منخفضة تحمل فيروسات "جنون البقر"، إضافة إلى تقاريرَ أخرى عن سلع غذائية إسرائيلية دخلت إلى العراق عبر الأردن، ومعظمُها إما منتهي الصلاحية أو يحتوي على مواد سامة، يؤدي تناولُها إلى الإصابة بأمراض العقم, والكوليرا, والتيفوئيد, والتسمم المعوي. كما تم قبل نحو عامين إحباطُ محاولات إسرائيلية؛ لتسريب أدوات تجميل وصبغات شعر تحتوي على مواد مسرطنة للأسواق العربية، عبر دول أوروبية.
ومن المثير للقلق، أنه وفي مواجهة تلك المحاولات الإسرائيلية التي لا تتوقف لاختراق الأسواق العربية، والتغلغل في الجسد العربي من أجل بث الضعف والوهن في أوصاله، فإن الدول العربية تكاد تكون خاليةً من أي إجراءات حمائية أو رقابية تواجه هذا الخطر. فالدول التي أقامت عَلاقات مع إسرائيل وتخلت عن قوانين المقاطعة، تجاهلت أن المخططات الإسرائيلية لم ولن تتغير، مع وجود السلام المزعوم أو بدونه، وقد جنت ثمن هذا التجاهل ارتفاعاً غير مسبوق في معدلات الإصابة بالسرطان والفشل الكُلوي بين مواطنيها.
أما بالنسبة للدول التي مازالت تطبق قواعد المقاطعة، فإن الأمر يحتاج إلى تفعيل إجراءات المراقبة بشكل دقيق وإيجاد آليات ديناميكية قادرةٍ على مواجهة التلوُّن والتغيُّر المستمر في خطط التغلغل الإسرائيلية، فالبحث عن عبارة "صنع في إسرائيل" أو "نجمة داود" لم يعُد كافياً، بل يجب البحث عن إجراءات أكثرَ فاعلية مثل تشديد الرقابة على شهادات المنشأ، وتكليف السفارات العربية في الخارج بالتحقق من صحة تلك الشهادات وهوية السلع المستوردة قبل شحنها، إضافة إلى ذلك، فإن معرفة هوية الاستثمارات وحقيقة من يقفون وراءها، بات ضرورياً قبل إبرام أي صفقة مع جهة ما، وهو أمر ليس بالجديد، وطبّقته دول كبرى، مثلُ الولايات المتحدة مع الدول التي تفرض عليها عقوبات اقتصادية، فالمقاطعة يجب أن تكون لرؤوس الأموال الإسرائيلية، بغض النظر عن الهوية التي تتخفى وراءها، وليس فقط لمنتج يحمل "علم إسرائيل" أو سلعة عليها "نجمة داود".
تعليق