فقاعة السوق والعولمة ورأسمالية الدولة
بقلم: فيصل جلول
السوق الرأسمالي (الافتراضي والحقيقي معا) قد اصطدم بالحائط وبات عاجزا عن التصدي لازمته البنيوية وهو اليوم يطلب النجدة من الدولة لاستئناف سيرته الافتراضية.
ميدل ايست اونلاين
لا مبالغة في القول ان الانهيار المالي الذي ضرب ويضرب الاسواق العالمية مرشح للاتساع وربما للتحول الى كارثة مهولة لم يسبق للرأسمالية أن عرفت ما يشبهها من قبل بما في ذلك كارثة العام 1929.
ولئن كان الميل نحو التشاؤم في النظر الى مستقبل الازمة مرده الى أن الانهيار بدأ في صميم النظام المالي الافتراضي وليس في حواشيه فان الحلول المقترحة لتفادي الكارثة لا تكف عن صب الماء في طاحونة المتشائمين وذلك للاسباب التالية:
اولا: لان قادة الدول الغربية لا يملكون تقديرا واقعيا لحجم الازمة ويختلفون في تشخيصها وهذا ما تعكسه مواقفهم واجراءاتهم البهلوانية. فقد رفض الكونغرس الاميركي مشروع ضخ 700 مليار دولار لمساعدة المؤسسات المهددة بالافلاس ثم عاد عن رفضه واقر المشروع بعد يومين ليتبين ان المشكلة أكبر واعمق من الحل المقترح. وفي الرابع من اكتوبر/تشرين الاول الماضي اجتمع قادة اوروبا الاربعة الاعضاء في مجموعة الثمانية الكبار وخرجوا ببيان سطحي كرس لحجب خلافاتهم وليس للرد على الازمة. ولم يكن اجتماع وزراء مالية السبعة الكبار في واشنطن أوفر حظا فقد اتفقوا على مباديء لحل المشكلة وليس على اجراءات جدية لوقف تداعياتها. و لن يكون مصير اجتماع "اليورو غروب" في باريس عصر الاحد الماضي افضل حالا على المدى الطويل. وهذا يعني ان مسؤولي الدول الغربية لا يبرهنون عن عجز فاقع في مواجهة الازمة فحسب وانما يزيدونها عمقا عبر اجراءاتهم المحدودة التأثير او الفاشلة.
ثانيا: لان ضمانة الدول الغنية للاقتراض بين المصارف واللجوء الى التأميم يمكن ان تؤدي الى استئناف الحد الادنى من وظائف النظام المالي لكنها لن تبعث الحيوية في جسم اصيب بشلل في العمود الفقري. ومن جهة ثانية ليست ضمانة الدولة مطلقة ومفيدة في كل الحالات لان الدول المعنية ليست متساوية في قوة وسلامة اقتصادها بل ان هذه الضمانة يمكن ان تطيح بالدولة كما هي حال ايسلاندا التي كانت تحتفظ باقتصاد مبني على الصيد البحري قبل ان تتخلى عنه وتتخصص في الاقتصاد المالي المحض فإذا بها تتلقى الصفعة الاكبر مع اندلاع الازمة ليتبين ان اقتصادها افتراضي وهي اذ تضمن البنوك او تؤممها فانها تنقل المشكلة من القطاع الخاص الى الدولة ولا تنتزع ثقة الاسواق المالية التي تعتبر ان الضامن والمضمون هما شيء واحد. ويوصف هذا النوع من الضمان في العامية اللبنانية بعبارة: "حسون ضمن زرزور والاثنان من العصافير الطائرة" أي يتعذرالوصول اليها. ولعل مبادرة المملكة المتحدة الى استخدام قوانين الارهاب والحجز على ممتلكات ايسلاندية في بريطانيا لاسترجاع الاموال البريطانية في البنوك الايسلاندية المنهارة. هذا الاجراء يوحي بانعدام الثقة تماما بضمان الدولة لمصارفها.
ثالثا: لان تدخل الدول الغنية في الأزمة يتم وفق حسابات كل دولة على حدة انطلاقا من حماية المصالح الوطنية اولا. في حين ان الازمة تنهش السوق الرأسمالي الموحد. بعبارة اخرى تحضر الازمة بوصفها ازمة راسمالية عالمية عابرة للحدود والاوطان وتستدعي حلولا عالمية في حين تتعاطى الامم المختلفة معها من باب المصالح الوطنية الضيقة وهذا التعاطى يربك السوق بدلا من ان يسهل مهمته.
رابعا: لان الرأسمالية المعولمة خلقت فراغا حولها عبر تحطيم كل بدائلها حتى إذا ما أصيبت بازمة لا بديل يحل محلها غير الفوضى والذعر.في مطلع ثمانينيات القرن الماضي أطلق الرئيس الاميركي الراحل رونالد ريغان عبارته الشهيرة "الدولة ليست جزاء من الحل في السوق الرأسمالي بل هي المشكلة"، وهو كان ينطق باسم الاسواق وباسم المدافعين عنها. وها نحن اليوم ازاء مشكلة عويصة فمن جهة يصنع السوق الازمة ويفشل في حلها، ومن جهة ثانية تبدو الدولة غير مؤهلة لحل مشكلة ليست من اختصاصها بل كانت ممنوعة من التدخل فيها.
يفضي ما سبق الى استنتاج لم ينتزع بعد اعتراف المعنيين بالازمة وهو أن السوق الراسمالي (الافتراضي والحقيقي معا) قد اصطدم بالحائط وبات عاجزا عن التصدي لازمته البنيوية وهو اليوم يطلب النجدة من الدولة لاستئناف سيرته الافتراضية (يبلغ حجم الاقتصاد الحقيقي 2 بالمئة من مجموع التدوال المالي في السوق وما تبقى هو مال افتراضي) في حين تشترط الدولة دورا رقابيا على الاسواق وتطلب حصة الأسد في ادارتها وبما انه من الصعب التوصل الى تسوية قابلة للحياة في خضم الكارثة فان الطرف الاقوى يملي شروطه ويحدد مختارا او مضطرا سيرورة الاسواق ونظام عملها. وبما ان الدولة هي الاقوى في المعادلة الراهنة فانها ستفرض رأسماليتها على السوق، وان فعلت فهي تكبح جموح الاسواق أي تمعن في تحطيم ما يعرف بالفقاعة العملاقة التي تتجمع فيها الرساميل الافتراضية وتدور في كنفها الرهانات المجنونة. وهذا يعني أن عصر السوق السيد والكلي القدرة قد ولى الى غير رجعة وان "راسمالية الدولة" هي العنوان المقبل للاقتصاد الرأسمالي البديل.
قد تبدو هذه المعادلة ميسرة وجاذبة للتفاؤل بيد انها في واقع الحال تعاني من مشكلة عويصة ذلك ان العودة الى "رأسمالية الدولة" تعني العودة الى القرن التاسع عشر في القرن الواحد والعشرين. وتعني في المقام الاول انهيار الاطار السياسي للسوق أي العولمة وعلاقاتها وزعامتها ممثلة في الولايات المتحدة الاميركية التي ستكون من الان فصاعدا مجبرة على الانحسار نحو رأسمالية الدولة ونحو المصالح الوطنية ولعل هذا ما كان يعينه جوزيف ستيغلتز الاقتصادي الاميركي الحائز على جائزة نوبل عام 2001 عندما قال مؤخرا في مقابلة مع صحيفة "لوموند" الفرنسية.. "لقد ساهمت حرب العراق في جعل البازار الذي نعيشه اليوم ممكنا. ان الانسحاب من العراق يمكنه ان يوفر اموالا سائلة اضافية وهذا يساعد بالتاكيد في حل الازمة"..هذا ان كان الاوان متاحا بعد.
بقلم: فيصل جلول
السوق الرأسمالي (الافتراضي والحقيقي معا) قد اصطدم بالحائط وبات عاجزا عن التصدي لازمته البنيوية وهو اليوم يطلب النجدة من الدولة لاستئناف سيرته الافتراضية.
ميدل ايست اونلاين
لا مبالغة في القول ان الانهيار المالي الذي ضرب ويضرب الاسواق العالمية مرشح للاتساع وربما للتحول الى كارثة مهولة لم يسبق للرأسمالية أن عرفت ما يشبهها من قبل بما في ذلك كارثة العام 1929.
ولئن كان الميل نحو التشاؤم في النظر الى مستقبل الازمة مرده الى أن الانهيار بدأ في صميم النظام المالي الافتراضي وليس في حواشيه فان الحلول المقترحة لتفادي الكارثة لا تكف عن صب الماء في طاحونة المتشائمين وذلك للاسباب التالية:
اولا: لان قادة الدول الغربية لا يملكون تقديرا واقعيا لحجم الازمة ويختلفون في تشخيصها وهذا ما تعكسه مواقفهم واجراءاتهم البهلوانية. فقد رفض الكونغرس الاميركي مشروع ضخ 700 مليار دولار لمساعدة المؤسسات المهددة بالافلاس ثم عاد عن رفضه واقر المشروع بعد يومين ليتبين ان المشكلة أكبر واعمق من الحل المقترح. وفي الرابع من اكتوبر/تشرين الاول الماضي اجتمع قادة اوروبا الاربعة الاعضاء في مجموعة الثمانية الكبار وخرجوا ببيان سطحي كرس لحجب خلافاتهم وليس للرد على الازمة. ولم يكن اجتماع وزراء مالية السبعة الكبار في واشنطن أوفر حظا فقد اتفقوا على مباديء لحل المشكلة وليس على اجراءات جدية لوقف تداعياتها. و لن يكون مصير اجتماع "اليورو غروب" في باريس عصر الاحد الماضي افضل حالا على المدى الطويل. وهذا يعني ان مسؤولي الدول الغربية لا يبرهنون عن عجز فاقع في مواجهة الازمة فحسب وانما يزيدونها عمقا عبر اجراءاتهم المحدودة التأثير او الفاشلة.
ثانيا: لان ضمانة الدول الغنية للاقتراض بين المصارف واللجوء الى التأميم يمكن ان تؤدي الى استئناف الحد الادنى من وظائف النظام المالي لكنها لن تبعث الحيوية في جسم اصيب بشلل في العمود الفقري. ومن جهة ثانية ليست ضمانة الدولة مطلقة ومفيدة في كل الحالات لان الدول المعنية ليست متساوية في قوة وسلامة اقتصادها بل ان هذه الضمانة يمكن ان تطيح بالدولة كما هي حال ايسلاندا التي كانت تحتفظ باقتصاد مبني على الصيد البحري قبل ان تتخلى عنه وتتخصص في الاقتصاد المالي المحض فإذا بها تتلقى الصفعة الاكبر مع اندلاع الازمة ليتبين ان اقتصادها افتراضي وهي اذ تضمن البنوك او تؤممها فانها تنقل المشكلة من القطاع الخاص الى الدولة ولا تنتزع ثقة الاسواق المالية التي تعتبر ان الضامن والمضمون هما شيء واحد. ويوصف هذا النوع من الضمان في العامية اللبنانية بعبارة: "حسون ضمن زرزور والاثنان من العصافير الطائرة" أي يتعذرالوصول اليها. ولعل مبادرة المملكة المتحدة الى استخدام قوانين الارهاب والحجز على ممتلكات ايسلاندية في بريطانيا لاسترجاع الاموال البريطانية في البنوك الايسلاندية المنهارة. هذا الاجراء يوحي بانعدام الثقة تماما بضمان الدولة لمصارفها.
ثالثا: لان تدخل الدول الغنية في الأزمة يتم وفق حسابات كل دولة على حدة انطلاقا من حماية المصالح الوطنية اولا. في حين ان الازمة تنهش السوق الرأسمالي الموحد. بعبارة اخرى تحضر الازمة بوصفها ازمة راسمالية عالمية عابرة للحدود والاوطان وتستدعي حلولا عالمية في حين تتعاطى الامم المختلفة معها من باب المصالح الوطنية الضيقة وهذا التعاطى يربك السوق بدلا من ان يسهل مهمته.
رابعا: لان الرأسمالية المعولمة خلقت فراغا حولها عبر تحطيم كل بدائلها حتى إذا ما أصيبت بازمة لا بديل يحل محلها غير الفوضى والذعر.في مطلع ثمانينيات القرن الماضي أطلق الرئيس الاميركي الراحل رونالد ريغان عبارته الشهيرة "الدولة ليست جزاء من الحل في السوق الرأسمالي بل هي المشكلة"، وهو كان ينطق باسم الاسواق وباسم المدافعين عنها. وها نحن اليوم ازاء مشكلة عويصة فمن جهة يصنع السوق الازمة ويفشل في حلها، ومن جهة ثانية تبدو الدولة غير مؤهلة لحل مشكلة ليست من اختصاصها بل كانت ممنوعة من التدخل فيها.
يفضي ما سبق الى استنتاج لم ينتزع بعد اعتراف المعنيين بالازمة وهو أن السوق الراسمالي (الافتراضي والحقيقي معا) قد اصطدم بالحائط وبات عاجزا عن التصدي لازمته البنيوية وهو اليوم يطلب النجدة من الدولة لاستئناف سيرته الافتراضية (يبلغ حجم الاقتصاد الحقيقي 2 بالمئة من مجموع التدوال المالي في السوق وما تبقى هو مال افتراضي) في حين تشترط الدولة دورا رقابيا على الاسواق وتطلب حصة الأسد في ادارتها وبما انه من الصعب التوصل الى تسوية قابلة للحياة في خضم الكارثة فان الطرف الاقوى يملي شروطه ويحدد مختارا او مضطرا سيرورة الاسواق ونظام عملها. وبما ان الدولة هي الاقوى في المعادلة الراهنة فانها ستفرض رأسماليتها على السوق، وان فعلت فهي تكبح جموح الاسواق أي تمعن في تحطيم ما يعرف بالفقاعة العملاقة التي تتجمع فيها الرساميل الافتراضية وتدور في كنفها الرهانات المجنونة. وهذا يعني أن عصر السوق السيد والكلي القدرة قد ولى الى غير رجعة وان "راسمالية الدولة" هي العنوان المقبل للاقتصاد الرأسمالي البديل.
قد تبدو هذه المعادلة ميسرة وجاذبة للتفاؤل بيد انها في واقع الحال تعاني من مشكلة عويصة ذلك ان العودة الى "رأسمالية الدولة" تعني العودة الى القرن التاسع عشر في القرن الواحد والعشرين. وتعني في المقام الاول انهيار الاطار السياسي للسوق أي العولمة وعلاقاتها وزعامتها ممثلة في الولايات المتحدة الاميركية التي ستكون من الان فصاعدا مجبرة على الانحسار نحو رأسمالية الدولة ونحو المصالح الوطنية ولعل هذا ما كان يعينه جوزيف ستيغلتز الاقتصادي الاميركي الحائز على جائزة نوبل عام 2001 عندما قال مؤخرا في مقابلة مع صحيفة "لوموند" الفرنسية.. "لقد ساهمت حرب العراق في جعل البازار الذي نعيشه اليوم ممكنا. ان الانسحاب من العراق يمكنه ان يوفر اموالا سائلة اضافية وهذا يساعد بالتاكيد في حل الازمة"..هذا ان كان الاوان متاحا بعد.
تعليق