نوافــذ وطــن ...
ومنـافذ قساميـّـة ...
الكاتب الفلسطيني : محـمـّد شراب
<< وميض قلم >>
استيقظت سمر على صوت أذان الفجر كعادتها وبدأت تعد نفسها لاستقبال يوم جديد
و مثل هذا اليوم بالذات هو من أصعب الأيام بالنسبة لها
فهو اليوم الذي عليها أن تذهب فيه إلى غزة كي تحضر منهج إحدى المواد غير المتوفرة بفرع جامعتها في خانيونس ..
لم تكن المشكلة في الذهاب إلى غزة التي تبعد عن مدينة خانيونس ثلاثين كيلومتر .. ولكنها تكمن في ذلك الحاجز الذي يفصل الجنوب عن بقية القطاع .. وقد يستغرق الوقت اللازم للذهاب من مدينتها إلى مدينة غزة ساعات طويلة .. بالرغم من أن الوقت اللازم لقطع هذه المسافة قبل وجود هذا الحاجز لا يتعدى النصف ساعة على الأكثر
سمر هي الابنة البكر .. وهي تقوم بدور الأم لأختيها الأصغر منها بأعوام قليلة .. وكذلك فهي ترعى أباها الذي عاد بهن من إحدى الدول الخليجية بعد أن توفت زوجته هناك وتركت له ثلاثة بنات وهب حياته من أجلهن رافضاً إلحاح العائلة بأن يتزوج كي يأتي بمن تُنجب له الذكر و تربي بناته
كانت لدى سمر رغبة قوية تُثبت فيها لوالدها أن البنت لا تقل عن الولد في شيء ..و كان هناك شيءٌ في داخلها يحثها على تحدي نظرة المجتمع وتفضيل الذكر على الأنثى .. ولكنها في نفس الوقت تخشى أن تنزلق نحو الفكر الغربي الذي ينادي بحرية المرأة فتتحول إلى سلعة حرة يستغلها الجميع باسم الحرية
بدأت سمر تبحث عن حريتها ومكانتها في الشريعة الإسلامية فوجدت فيها كل ما هو طيب ومرضي .. و طابت نفسها لعظيم منزلة المرأة في الشريعة الإسلامية.. و كانت تفخر بان أول أتباع رسول الله صلى الله عليه و سلم و سنده في حمل رسالة الإسلام العظيم كانت امرأة ..وكانت هذه المرأة هي أول سند لمن اختاره الله لحمل رسالة الإسلام العظيم .. ومن يومها اتخذت من السيدة خديجة رضي الله عنها قدوةً لها وهي التي من رجاحة عقلها آمنت بنبوة زوجها صلى الله عليه وسلم حتى قبل أن يؤمن بها هو نفسه .. ولا عجب أن يكون أحب الناس لرسول صلى الله عليه وسلم هذه المرأة التي حملت معه بدايات عبئ الرسالة وكانت له الملاذ وحضن الأمان حين تكالبت عليه هموم الدعوة
كانت أولى الخطوات في نظر سمر لتحقيق هدفها هو التعليم .. فتمسكت بإكمال تعليمها ورغبتها في الحصول على شهادة جامعية بالرغم من أعداد الخطاب الذين تقدموا لطلب يدها من أبيها .. ولم يكن والدها ليجبرها على شيء حتى وإن كان يميل إليه .. فلقد رباها هي وأختيها على حرية الاختيار ولغة الإقناع .. ولكن كان يؤرقها كثيراً أن أغلب المتقدمين لخطبتها هم من شباب العائلة .. وكان رفضها يتسبب في سوء العلاقة مع أهل الخاطب مما أحرج موقف والدها أمام كبار العائلة .. والذي لم يكن له رد أمام تساؤلاتهم سوى ..( البنت تريد إكمال تعليمها )
لم تكن سمر أجمل فتيات العائلة ولكنها كانت أكثرهن جاذبية وقوة في الشخصية .. كان كل من يراها يشعر بسكون روحها .. ونور قوي يشع من ملامح وجهها له تأثير عجيب على من يراه .. وكذلك كانت أخلاقها و أدبها الرفيع مثار حديث النسوة أمام أبنائهن.. لذا تمنت كل واحدة منهن أن تكون سمر زوجة لابنها .. ولكن سمر تفكر في رسم حياتها بطريقة أخرى .. فوضعت نصب عينيها هدفها الأول .. التعليم .. ومن ثم ترسم حياتها بعد ذلك على هذا الأساس
بعد أن صلت سمر صلاة الفجر ثم جهزت حاجيات أختيها قبل أن يذهبن إلى المدرسة .. وقفت تنظر من نافذة غرفتها تترقب شروق الشمس مع أول أبجدية ضوء تعانق أنفاس الصباح .. فهي منذ أن سكنت هذا المنزل قبل خمس سنوات .. اختارت هذه الغرفة بالذات لأنها تُطل على منظر الطبيعة والخضرة .. فلقد اختار والدها بناء المنزل في هذا المكان الهادئ وسط حقول الزيتون واللوز على مشارف مدينة خانيونس حتى يكون بعيداً عن صخب المدينة وزحامها .. ومع أنه ندم كثيراً بعد اندلاع الانتفاضة لاختياره هذا المكان لقربه من موقع لجيش الاحتلال .. تعلقت سمر بهذا المنزل وأحبته كثيراً كما أحبت نباتاتها التي زرعتها في حكورة المنزل ونافذة غرفتها التي كانت تشاركها همومها وأفراحها
كان كلُ شيءٍ جميلاً في عيون سمر المتفائلة التي لم تكن تنظر إلى العالم إلا من خلال نافذتها .. فبدت لها الدنيا كأنها أصوات العصافير وخضرة تمتد على مرأى البصر يختلط مشهدها صباحاً بشدو الطيور ونسيم يداعب سعف النخيل المغروس في غمد الرمال .. وحتى إن تغير هذا المشهد وقت الغروب .. فهو أروع مع رحيق الأصيل ووداعة أشعة الشمس حين تلامس بحنان كل شيء في أثاث غرفتها
لم يكن يكدر صفو جمال حياة سمر سوى ذلك الموقع البغيض الذي يبعد عن منزلها ألفي متر فقط .. والذي كان مع كل يوم يمر.. كان يتسع ويكبر حتى تحول إلى قلعة عسكرية مليئة بالدبابات والعتاد العسكري .. ولأن القاطنين في هذه القلعة حريصين على الحياة إلى حد الهوس.. لم يكفوا يوماً عن ملاحقة الأشجار المحيطة بالمنطقة بتجريفها و هدم البيوت بحجة الحزام الأمني حول الموقع .. وبالرغم من بعد منزل سمر عن هذا الموقع بكيلومترين تقريباً .. إلا أن الرصاصات الثقيلة الطائشة التي يطلقها هذا الموقع على المنازل المقامة في المنطقة كانت تصل أحياناً إلى منزل سمر وترتطم بجدرانه .. كأن الموقع البغيض يريد أن يضع بصماته الخبيثة في كل مكان حوله
الساعة السادسة صباحاً
خرجت سمر من المنزل إلى الطريق العام حيث ستستقل سيارة أجرة إلى جامعتها في مدينة غزة .. وكانت أغلب السيارات تأتي من مدينة خانيونس بحمولتها الكاملة من الركاب .. وأخيراً توقفت سيارة أجرة ينقصها راكبان فقط
استقلت سمر سيارة الأجرة وجلست بجوار سيدة تحمل على يدها طفل صغير يبدو على وجهها علامات القلق .. بينما يجلس في الكرسي الخلفي للسيارة رجلٌ عجوز في السبعينات من عمره بجانب امرأة يبدو أنها زوجته ومعهما صبي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره .. كما يجلس في الكرسي الأمامي رجلٌ سمين في الخمسينات من عمره يشبه إلى حد كبير سائق السيارة في العمر والحجم
لم تسر السيارة أكثر من خمسمائة متر حتى توقفت وصعد شاب جامعي يحمل في يده كتبه و جلس بجوار سمر التي تنحت والتصقت بالمرأة الجالسة بجوارها
وسرعان ما اقتربت السيارة من حاجز المطاحن أو كما يطلق عليه سكان القطاع حاجز محفوظة حيث زحام السيارات التي تنتظر دورها بدخول الحاجز
بعد أن مرت ساعة كاملة كانت السيارة التي تحمل سمر وبقية الركاب تخط بإطاراتها عتبة المكان الذي تتصافح في الأقدار مع الأخطار
المسافة التي ستقطعها السيارة تساوي تقريباً ألف متر في منطقة عسكرية محاطة بأبراج المراقبة ومنازل تم تفريغها من سكانها وتحويلها إلى نقاط عسكرية بعد هدم المنازل الأخرى .. وعلى السيارة أن تسير ببطئ في طريق محاط بجدار عالي من الأسمنت يفصل الطريق التي يستخدمها العرب عن الطريق التي يستخدمها المستوطنين اليهود
كل شيء كان يسير بصورة عادية !! على الأقل من وجهة نظر الركاب .. حتى قطعت إحدى الدبابات الطريق على السيارة وطلبت منها عبر مكبر الصوت التوجه إلى منطقة محاطة بجدار عال من الأسمنت نحو مركز الموقع في منطقة يطلق عليها المسافرون اسم الحلابات !! ..
هذه الحلابات أعدت خصيصاً لتفتيش السيارات المسافرة بمعزل عن السيارات الأخرى التي تمر عبر الحاجز فلا يمكن أن يراها المسافرون عبر الحاجز أثناء التفتيش
توجه السائق نحو الحلابات وهو يطلق السباب والشتائم.. ثم طلب من الركاب أن يقوموا بتحضير بطاقات هوياتهم حتى ينتهوا من التفتيش بسرعة ويمر اليوم بسلام
كانت هذه أول مرة بالنسبة لسمر يتم فيها حجز السيارة التي تستقلها للتفتيش .. ولأول مرة منذ سنوات ترى فيها سمر وجه جندي صهيوني عن قرب حين توجه مجموعة من الجنود وأحاطوا السيارة مصوبين بنادقهم نحو الركاب
طلب الضابط من السائق هويات الركاب ودخل كي يفحصها على الكومبيوتر .. بينما بقي بقية الجنود يحيطون بالسيارة من جهة .. ومن جهة أخرى صوب جندي يجلس في برج مراقبة قريب مدفعه الثقيل نحو السيارة
عاد الضابط مرة أخرى وطلب من الركاب أن ينزلوا بهدوء واحداً تلو الأخر تاركين متعلقاتهم داخل السيارة .. ثم تجمعوا في مكان بعيد عن السيارة وطلبوا من السائق أن يفتح لهم كل شيء سواءً كان خاصاً بالسيارة أو الركاب في تفتيش دقيق يبدأ بإطار الاحتياط الخاص بالسيارة ويمر بمتعلقات الركاب ثم ينتهي بمحرك السيارة
عاد جميع الركاب مرةً أخرى إلى السيارة بعد انتهاء التفتيش ولكنهم انتظروا طويلاً حتى يتم الانتهاء من فحص بطاقات الهوية على الكومبيوتر .. وما أن عاد الضابط اليهودي وبيده بطاقات الركاب حتى تنفس الجميع الصعداء ظناً منهم أن الأمر قد انتهى على خير وسلام
اقترب الضابط بوجهه القبيح نحو سائق السيارة قائلاً له وعلى وجهه ابتسامة ساخرة مقيتة زادت ملامحه قبحاً :
هذه بطاقاتكم يمكنكم أن تأخذوها وتغادروا المكان بسلام .. ولكن بشرط
لم يسأله السائق عن شرطه .. فتابع الضباط اليهودي حديثه وقد اتسعت ابتسامته الساخرة لتضفي على قسمات وجهه مزيجاً من الخبث والقبح معاً :
الشرط هو أن تُقبل هذه الفتاة الشاب الذي يجلس بجوارها قبلة واحدة فقط .. أو أن تبقوا في السيارة هكذا يومين أو ثلاثة وربما أسبوع أو شهر وكان يقصد سمر
حياة بطعم الموت .. و موت فيه الحياة
حاول السائق أن يوضح للضابط اليهودي أن شرطه صعب ويتنافى مع التقاليد العربية .. إلا أن الضابط الحقير أصر على شرطه قائلاً :
هذه مشكلتكم وحلها في أيديكم .. ثم نظر إلى سمر قائلاً بسخرية : أراهن أنها ستفعلها عن طيب خاطر .. فإن لم يكن من أجل وسامة الشاب فسيكون رحمةً ببقية الركاب .. غادر الضابط إلى حيث يقف بقية الجنود خلف المكعبات الأسمنتية وهو يقول : العرب لا يعجزون عن إيجاد المبرر لأي فعل حتى لو كانوا مرغمين عليه
خيم جو من الصمت على ركاب السيارة حتى تحولت إلى قبو من السكون لا يُسمع فيه سوى أنات الطفل الذي تحمله المرأة الجالسة بجوار سمر
تمنت سمر التي ألجمتها صدمة المفاجئة أن تبصق في وجه الضابط أو تشتمه ولكنها لم تستطع .. فهي لم تتخيل يوماً أن يخاطب لسانها لسان أي صهيوني لما تحمله في نفسها تجاههم من كره واحتقار .. فكيف بها ومعنى الكراهية يتجسد أمامها في جسد يشبه الإنسان
لم يكن لدى سمر أي فرصة للحديث كي تقول ما تمنت أن تقوله في ذلك الموقف .. ولم يكن قلبها الذي زادت نبضاته خوفاً وقلقاً أن يسمح لها بأن تقول كلمة واحدة .. فقد كانت تشعر أن دموعها ستسبقها لو فتحت فهما بأي كلمة ... ولهذا.. التزمت الصمت حتى لا يظهر ضعفها أو تخونها العبرات ..فانتهت إلى أن تُخفي خوفها وقلقها وراء صمتها وتُظهر أن ما حدث لا يعنيها في شيء وكأنها لم تسمعه
بدا لسمر أن نفسها قد هدأت حين اكتفت باللامبالاة التي أظهرتها أمام الركاب وأمام مرأى الجنود الواقفين بعيداً خلف دروعهم والذين علت أصواتهم ضحكاً وهم يتغامزون فيما بينهم كأنهم يراهنون على شيء
لكن سرعان ما زال هذا الشعور حين التفت السائق إلى سمر وقال لها: ما رأيك يا ابنتي فالأمر كله الآن بيدك
لم يكد السائق يُنهي جملته حتى شعرت بتسارع أنفاسها ورغبة قوية في البكاء تحاول عبثاً كبح جماحها .. ولكن الرجل العجوز الذي يجلس خلفها رد على السائق قبلها .. مما منحها الفرصة بان تعاود السيطرة على أعصابها مرةً أخرى واكتفت بالإنصات للحوار الدائر بين السائق والعجوز الذي لم يعجبه سؤال السائق وحديثه لسمر
أخيراً استقر الأمر على أن يصبر الجميع ويتركوا أمرهم لله لعل الملل يُصيب الجنود فيتركوهم يغادروا المكان
عاد الصمت مرةً أخرى يسود الموقف حتى قطعه بكاء الصغير الذي ذهبت محاولات أمه لإسكاته أدراج الرياح
استمر الحال على ما هو عليه أكثر من ساعة بين حديث السائق والرجل الجالس بجواره في أمور عادية والذي تبين أنه عقيد في جهاز أمني تابع للسلطة .. وكذلك استمر بكاء الطفل الذي لم ينقطع طوال هذه الساعة مما زاد أمه قلقاً عليه
لم تستطع أم الطفل التي بلغ بها قلقها وجزعها على صغيرها مبلغه .. فوجهت حديثها للسائق قائلةً :
إلى متى سنبقى هكذا ؟ .. ابني مريض و يحتاج لتغيير دماء واليوم موعده ويجب أن أذهب للمستشفى بسرعة
حاول السائق والعقيد أن يهدئا من روع الأم .. ولكن بكاء الصغير كان يمزق قلبها خوفاً عليه ويزداد خوفها أكثر حين يسكت
قررت الأم بأنها ستغادر السيارة وتقطع الحاجز سيراً على الأقدام قائلة لهم : أنها ليست بحاجة إلى بطاقة الهوية التي حجزوها
ولكن السائق نبهها أن لا تفعل حتى لا تعرض حياتها وحياة الركاب إلى الخطر
لم تكترث الأم بتنبيه السائق ولا رجاء الركاب .. فقد كان خوفها على طفلها يسيطر على كيانها .. فامتدت يدها إلى مقبض باب السيارة وفتحته كي تهم بالخروج .. وما كادت أن تفعل حتى انطلقت عشرات الرصاصات بجوار السيارة وفوق رؤوس الركاب مما جعلها ترجع إلى مكانها وهي تضم صغيرها في صدرها كأنها تريد حمايته من رصاصات الحقد الأعمى التي أطلقها جندي يجلس في برج مراقبة
لم يكد يرفع ركاب السيارة رؤوسهم حتى أحاط عدد من الجنود بالسيارة مصوبين بنادقهم نحو الركاب .. ثم تقدم ذلك الضابط نحو السيارة سائلاً بالعربية : من فتح الباب ؟
أرادت الأم أن تستدر شفقة الضابط وتخبره أن ابنها مريض وهو بحاجة للعلاج .. ولكن الضابط الذي لم يكترث بتوسلاتها .. هددها إن فعلت ذلك ثانيةً سيقتل طفلها أمام عينها مما جعلها تعتصر صغيرها في حضنها خوفاً عليه ممن نُزعت من قلوبهم الشفقة والرحمة
طلب الضابط من السائق أن يأمر الجميع بإغلاق نوافذ السيارة وأن يعطيه مفاتيح سيارته ثم قال له قبل أن يغادر :
كنت سأكتفي بأي قبلة وأترككم ترحلون .. ولكن بعد عنادكم لن أقبل بأقل من قبلة فرنسية ساخنة .. ثم التفت إلى سمر والشاب الذي يجلس بجوارها قائلاً بسخرية : سيساعدكما الجو الذي ستشعران به بعد قليل على خروج هذه القبلة كما ينبغي
أمر الضابط الصهيوني سائق السيارة أن يرفع هو أيضاً زجاج نافذته وحذره أن كل من سيفتح زجاج نافذته لن يسعفه الوقت كي يندم على فعلته .. ثم طلب من جندي المراقبة بلغته العبرية أن ينتبه لهم جيداً ويطلق النار على كل من يخرج من السيارة
لم تكن تتوقع سمر أن يكون اليهود بهذه الحقارة بالرغم من عشرات القصص التي سمعتها عنهم .. ولم يكن يخطر ببالها ولا حتى في كوابيسها أن يحدث لها هذا الموقف في أي يوم من الأيام .. وبالفعل تمنت أن يكون ما يحدث هو مجرد كابوس ستستيقظ منه وتجد نفسها في بيتها بجانب أختيها
لم يمر الكثير من الوقت حتى تحولت السيارة بسبب إغلاق النوافذ إلى ما يشبه الفرن بسبب أشعة الشمس والحرارة المنبعثة من أجسام الركاب وأنفاسهم .. كانت كل دقيقة تمر داخل السيارة تزيد الموقف سوء .... وكان أكثر المواقف مأساوية هو حال الأم التي بدا وكأنها ستُصاب بانهيار عصبي وهي ترى طفلها يبكي والعرق يتصبب منه بغزارة وهي غير قادرة أن تفعل له شيء
لم يكن حال سمر بأفضل من حالها .. فهي أيضاً شعرت أنها ستُصاب بالجنون من كثرة التفكير فيما لو أجبرها الركاب على أن تنفذ شرط الضابط .. فكانت تخشى أن تفتح فمها أو حتى تطلب من الأم أن تحمل عنها صغيرها بالرغم من شفقتها على حالها .. ولكنها خشيت أن ينطق أحدهم ويفتح معها الموضوع .. فعلى الرغم من أن لا ذنب لها فيما يجري .. إلا أن شعوراً داخلها بالذنب بدأ يتزايد كلما مر الوقت و كلما زاد الموقف مأساوية .. كانت متأكدة أن هذا الشعور أقوى وأعمق عند بقية الركاب خاصةً وقد شعرت ببعض الغمز حين تبادل السائق والعقيد الذي يجلس بجواره الحديث
وسط هذه المشاعر المختلطة من الخوف والقلق سرحت سمر في الشاب الذي يجلس بجوارها .. كانت تتمنى في قرارة نفسها أن تعرف فيما يفكر وما وجهة نظره في الأمر .. وكان يخجلها كثيراً مجرد الشعور انه ينظر إليها على الرغم من أنها لم تلتفت إليه ولا مرة منذ أن صعد إلى السيارة .. ولكن كان يطمئنها كثيراً الآيات القرآنية التي كان يخططها على جلدة كتابه حين كانت تختلس النظر إلى ما يكتب وهي مطرقة برأسها .. ولعل هذه الآيات وبعض كلمات الذكر التي كان يقوم بكتابتها جعلتها تكون فكرة عنه بأنه على خلق .. و ليس من الشباب المستهترين وهذه الفكرة بعثت في نفسها إلى حد ما شيء من الطمأنينة
انخلع قلب سمر من مكانه حين أخرجتها كلمات الشاب من شرودها موجهاً حديثه لها .... ولأنها لم تسمع جيداً .. حاولت أن تستجمع شجاعتها لتستفسر منه عن ما قاله فالتفت برأسها دون أن ترفع نظرها قائلةً له : …عفواً ؟
لأول مرة منذ أن صعدت سمر السيارة تفتح فمها لتنطق بكلمة .. ولكن الكلمة خرجت من فهما مرتعشة تعبر بوضوح عن ما يدور بداخلها .. هي نفسها لم تكن تتصور أن تخونها الحروف بهذه الطريقة في هذه الكلمة البسيطة وكأنها تسمع صوتها لأول مرة في حياتها
أعاد الشاب طلبه مرة أخرى قائلاً : لو سمحت ناوليني الطفل أحمله عن أمه قليلاً
امتدت يد سمر وهي تسمي باسم الله نحو الطفل الذي لم يتوقف عن البكاء ولم يكن أمام أمه الخائفة إلا أن تسلمه لسمر عن طيب خاطر أمام نظرات رجاءها
استلم الشاب من يد سمر الطفل وبدأ في وضع يده على رأسه يتمتم بكلمات خفيفة بدت كأنها قرآن .. العجيب أن الطفل توقف عن البكاء وبدأ يبتسم للشاب ويحاول أن يمد يده نحو وجهه .. وبدورها الأم أيضاً هدأت نفسها كثيراً حين رأت ابنها يتجاوب مع لعب الشاب الذي بدأ يحرك بركبته رتاج نافذة السيارة حتى دخل نسيم من الهواء البارد غير الجو الموجود في السيارة إلى حد ما
يبدو أن لك خبرة كبيرة مع الصغار .. فالطفل لم يسكت مع أمه وسكت معك
الشاب ضاحكاً من ملاحظة العجوز .. لدينا في المنزل جيش من الأطفال فلما لا تكون لي خبرة
العجوز .. ما شاء الله .. هل هم أخوتك ؟
الشاب .. لا يا جدي .. هم أبناء أخوتي فأنا أصغر أخوتي وجميعهم قد تزوجوا مبكراً حسب تقاليد العائلة .. لذلك فبيتنا مليء بالأطفال
السائق وقد شعر أن تيار من الهواء البارد بدأ يدخل السيارة .. لو سمحت يا أستاذ أغلق النافذة حتى لا تعرضنا للمشاكل
الشاب .. لو سمحت أنت أخفض صوتك حتى لا يعرفوا أن النافذة مفتوحة
السائق وقد أخفض صوته .. فعلتك هذه ستعرضنا جميعاً للخطر .. أرجوك أغلق النافذة قبل أن يراها الجنود
الشاب .. يا سيدي صعب أن يروا النافذة من ناحيتي ..كما أن بخار الماء الذي تكون على الزجاج المواجه لهم يصعب عليهم رؤيتنا .. عد أنت للنوم وحاول أن تخفض صوتك حتى لا ينتبه الجنود .. وليت الأستاذ الذي يجلس بجوارك يقوم بفتح جزء بسيط من النافذة التي بجواره
العقيد .. أرى أنك بدأت توجه الأوامر وكأنك القبطان ..أنسيت أنك سبب ما نحن فيه
الشاب مستغرباً .. وما دخلي أنا بما حدث ؟!!
العقيد .. لقد رأيت نظراتك الاستفزازية وأنت تنظر لذلك الضابط بتحدي أثناء التفتيش .. وأنا متأكد أن نظراتك تلك هي سبب ما نحن فيه
الشاب .. أخيراً وجدت سبب ما نحن فيه !!.. وما يدريك أنها نظراتي .. ربما هي أنفاسي أو لعلها أمي التي أنجبتني .. ثم قال ساخراً .. أعتقد أن المشكلة في أبي .. فلولا أنه تزوج أمي ما أنجبتني لأكبر ثم أصعد في هذه السيارة فيحجزوها
ضحك الصبي في الكرسي الخلفي من حديث الشاب وبدا أنه تشفى في العقيد ثم قال : أيضاً في هذا الحق عليك يا أخي .. فلو كنت رفضت زواج والدك من أمك لما حدث ما حدث
لكزت العجوز الصبي بيدها كي يصمت .. فاستدار الشاب إليه مازحاً
صدقني يا أخي لم يستشيرني أحد في هذا الزواج فلقد تم دون علم مني
أفلتت ضحكة من سمر رغماً عنها حاولت أن تخفيها بسعال مصطنع .. ولكن السائق لمحها في المرآة فقال :
جيد أن الأخت تعرف الضحك فقد كنت أظن أنها لا تسمع لأنها لم تتحدث بكلمة واحدة طيلة الوقت بالرغم من أن ما نحن فيه وما سيحدث متوقف كله عليها
كاد قلب سمر أن يتوقف بعد حديث السائق .. فعلى ما يبدوا أنها بداية المساومة على تنفيذ الشرط .. وما هي لحظات حتى اسودت الدنيا في عينيها خاصةً والعقيد قد تدخل في الأمر بمحاضرة طويلة عن العقلانية والانحناء للعاصفة و تنازل بسيط لن يضر
حاول العقيد وهو يتحدث مع السائق أن يقنع الفتاة قائلاً :
يمكنهم أن يفعلوا هذا من باب التمثيل كما يحدث في الأفلام .. وهذا لن يضرهم في شيء خاصةً ونحن نعرف أنهم مجبرين عليه وليس بإرادتهم
كان هذا ما تخشاه سمر .. فهاهي خطة الصهاينة الأوغاد تؤتي ثمارها بأول محاولة ضغط غير مباشرة كي تنفذ الشرط .. لم تستطع سمر الواثقة من نفسها والتي حسبت نفسها أقوى من ذلك بكثير أن ترد على كلمة واحدة من حديث العقيد للسائق .. وللوهلة الأولى شعرت أن ضعفها أكبر مما تصورت والذي بدا وضاحاً في دموعها التي بدأت تنساب من عينيها رغماً عنها .. خاصةً والعجوز الذي وقف معها في بداية الأمر صمت ولم يرد على كلمة واحدة من الحديث الدائر بين العقيد والسائق الذي يؤيده في كلامه
لكن الشاب الذي شعر بدموع سمر المطرقة رأسها وهي تتساقط في صمت على حقيبتها أراد أن يضع حداً لهذا الحوار فقال :
وفروا حديثكم هذا وانزعوا فكرة أن نقوم بإذلال أنفسنا بأيدينا .. فهذا لن يحدث حتى لو كانت نهايته الموت
تفاجئ الجميع من كلمات الشاب التي خرجت حاسمة وحازمة .. فخاطبه العقيد بنبرة ود قائلاً له :
يا بني .. نحن مغلوبون على أمرنا وطيلة الوقت أحاول أن أتصل بأحد دون جدوى لعله يجد لنا مخرجاً من هنا .. ولكن يبدو انهم يضعون جهاز للتشويش على الاتصالات في هذا المكان .. فلا تظن أننا نستسهل الأمر ونطالبكم بتنفيذه لمجرد أنهم طلبوا ذلك .. فنحن الآن لم يعد أمامنا خيار إلا أن ننهي هذه المأساة بأي طريقة
الشاب .. المأساة هي أن نستجيب للذل ونتعامل معه وكأنه جزء من يومياتنا فُرض علينا .. فأي معنى لهذه الحياة إن كنا نعيشها مغمسة بالذل .. و ثق تماماً أن ما يطلبه هذا الحقير لن يكون آخر المطاف .. فما ستتعود عليه اليوم وتعتبره أمر مفروض عليك .. سيجبرك أن تزيد عليه كي يشعر بإذلالك أكثر
العقيد .. أنت شاب .. وما يدفعك لقول هذا حمية الشباب كما أنك قادر على تحمل الوضع المفروض علينا .. ولكن .. ماذا عن هذه الأم المسكينة وطفلها المريض .. ماذا عن الرجل العجوز وزوجته الكبيرة في السن .. بعد قليل ستجد هذا الصبي يطلب الذهاب إلى الحمام .. وهذه الفتاة التي خرجت لجامعتها سيسأل عنها أهلها ويقلقون إن تأخرت أكثر من ذلك .. كل ما أطلبه منك قليلاً من العقلانية .. وأن تنظر للأمور نظرة مستقبلية
قاطعه الشاب قائلاً : .. نعم .. نظرت نظرة مستقبلية .. فوجدت أن حياة الذل
ومنـافذ قساميـّـة ...
الكاتب الفلسطيني : محـمـّد شراب
<< وميض قلم >>
استيقظت سمر على صوت أذان الفجر كعادتها وبدأت تعد نفسها لاستقبال يوم جديد
و مثل هذا اليوم بالذات هو من أصعب الأيام بالنسبة لها
فهو اليوم الذي عليها أن تذهب فيه إلى غزة كي تحضر منهج إحدى المواد غير المتوفرة بفرع جامعتها في خانيونس ..
لم تكن المشكلة في الذهاب إلى غزة التي تبعد عن مدينة خانيونس ثلاثين كيلومتر .. ولكنها تكمن في ذلك الحاجز الذي يفصل الجنوب عن بقية القطاع .. وقد يستغرق الوقت اللازم للذهاب من مدينتها إلى مدينة غزة ساعات طويلة .. بالرغم من أن الوقت اللازم لقطع هذه المسافة قبل وجود هذا الحاجز لا يتعدى النصف ساعة على الأكثر
سمر هي الابنة البكر .. وهي تقوم بدور الأم لأختيها الأصغر منها بأعوام قليلة .. وكذلك فهي ترعى أباها الذي عاد بهن من إحدى الدول الخليجية بعد أن توفت زوجته هناك وتركت له ثلاثة بنات وهب حياته من أجلهن رافضاً إلحاح العائلة بأن يتزوج كي يأتي بمن تُنجب له الذكر و تربي بناته
كانت لدى سمر رغبة قوية تُثبت فيها لوالدها أن البنت لا تقل عن الولد في شيء ..و كان هناك شيءٌ في داخلها يحثها على تحدي نظرة المجتمع وتفضيل الذكر على الأنثى .. ولكنها في نفس الوقت تخشى أن تنزلق نحو الفكر الغربي الذي ينادي بحرية المرأة فتتحول إلى سلعة حرة يستغلها الجميع باسم الحرية
بدأت سمر تبحث عن حريتها ومكانتها في الشريعة الإسلامية فوجدت فيها كل ما هو طيب ومرضي .. و طابت نفسها لعظيم منزلة المرأة في الشريعة الإسلامية.. و كانت تفخر بان أول أتباع رسول الله صلى الله عليه و سلم و سنده في حمل رسالة الإسلام العظيم كانت امرأة ..وكانت هذه المرأة هي أول سند لمن اختاره الله لحمل رسالة الإسلام العظيم .. ومن يومها اتخذت من السيدة خديجة رضي الله عنها قدوةً لها وهي التي من رجاحة عقلها آمنت بنبوة زوجها صلى الله عليه وسلم حتى قبل أن يؤمن بها هو نفسه .. ولا عجب أن يكون أحب الناس لرسول صلى الله عليه وسلم هذه المرأة التي حملت معه بدايات عبئ الرسالة وكانت له الملاذ وحضن الأمان حين تكالبت عليه هموم الدعوة
كانت أولى الخطوات في نظر سمر لتحقيق هدفها هو التعليم .. فتمسكت بإكمال تعليمها ورغبتها في الحصول على شهادة جامعية بالرغم من أعداد الخطاب الذين تقدموا لطلب يدها من أبيها .. ولم يكن والدها ليجبرها على شيء حتى وإن كان يميل إليه .. فلقد رباها هي وأختيها على حرية الاختيار ولغة الإقناع .. ولكن كان يؤرقها كثيراً أن أغلب المتقدمين لخطبتها هم من شباب العائلة .. وكان رفضها يتسبب في سوء العلاقة مع أهل الخاطب مما أحرج موقف والدها أمام كبار العائلة .. والذي لم يكن له رد أمام تساؤلاتهم سوى ..( البنت تريد إكمال تعليمها )
لم تكن سمر أجمل فتيات العائلة ولكنها كانت أكثرهن جاذبية وقوة في الشخصية .. كان كل من يراها يشعر بسكون روحها .. ونور قوي يشع من ملامح وجهها له تأثير عجيب على من يراه .. وكذلك كانت أخلاقها و أدبها الرفيع مثار حديث النسوة أمام أبنائهن.. لذا تمنت كل واحدة منهن أن تكون سمر زوجة لابنها .. ولكن سمر تفكر في رسم حياتها بطريقة أخرى .. فوضعت نصب عينيها هدفها الأول .. التعليم .. ومن ثم ترسم حياتها بعد ذلك على هذا الأساس
بعد أن صلت سمر صلاة الفجر ثم جهزت حاجيات أختيها قبل أن يذهبن إلى المدرسة .. وقفت تنظر من نافذة غرفتها تترقب شروق الشمس مع أول أبجدية ضوء تعانق أنفاس الصباح .. فهي منذ أن سكنت هذا المنزل قبل خمس سنوات .. اختارت هذه الغرفة بالذات لأنها تُطل على منظر الطبيعة والخضرة .. فلقد اختار والدها بناء المنزل في هذا المكان الهادئ وسط حقول الزيتون واللوز على مشارف مدينة خانيونس حتى يكون بعيداً عن صخب المدينة وزحامها .. ومع أنه ندم كثيراً بعد اندلاع الانتفاضة لاختياره هذا المكان لقربه من موقع لجيش الاحتلال .. تعلقت سمر بهذا المنزل وأحبته كثيراً كما أحبت نباتاتها التي زرعتها في حكورة المنزل ونافذة غرفتها التي كانت تشاركها همومها وأفراحها
كان كلُ شيءٍ جميلاً في عيون سمر المتفائلة التي لم تكن تنظر إلى العالم إلا من خلال نافذتها .. فبدت لها الدنيا كأنها أصوات العصافير وخضرة تمتد على مرأى البصر يختلط مشهدها صباحاً بشدو الطيور ونسيم يداعب سعف النخيل المغروس في غمد الرمال .. وحتى إن تغير هذا المشهد وقت الغروب .. فهو أروع مع رحيق الأصيل ووداعة أشعة الشمس حين تلامس بحنان كل شيء في أثاث غرفتها
لم يكن يكدر صفو جمال حياة سمر سوى ذلك الموقع البغيض الذي يبعد عن منزلها ألفي متر فقط .. والذي كان مع كل يوم يمر.. كان يتسع ويكبر حتى تحول إلى قلعة عسكرية مليئة بالدبابات والعتاد العسكري .. ولأن القاطنين في هذه القلعة حريصين على الحياة إلى حد الهوس.. لم يكفوا يوماً عن ملاحقة الأشجار المحيطة بالمنطقة بتجريفها و هدم البيوت بحجة الحزام الأمني حول الموقع .. وبالرغم من بعد منزل سمر عن هذا الموقع بكيلومترين تقريباً .. إلا أن الرصاصات الثقيلة الطائشة التي يطلقها هذا الموقع على المنازل المقامة في المنطقة كانت تصل أحياناً إلى منزل سمر وترتطم بجدرانه .. كأن الموقع البغيض يريد أن يضع بصماته الخبيثة في كل مكان حوله
الساعة السادسة صباحاً
خرجت سمر من المنزل إلى الطريق العام حيث ستستقل سيارة أجرة إلى جامعتها في مدينة غزة .. وكانت أغلب السيارات تأتي من مدينة خانيونس بحمولتها الكاملة من الركاب .. وأخيراً توقفت سيارة أجرة ينقصها راكبان فقط
استقلت سمر سيارة الأجرة وجلست بجوار سيدة تحمل على يدها طفل صغير يبدو على وجهها علامات القلق .. بينما يجلس في الكرسي الخلفي للسيارة رجلٌ عجوز في السبعينات من عمره بجانب امرأة يبدو أنها زوجته ومعهما صبي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره .. كما يجلس في الكرسي الأمامي رجلٌ سمين في الخمسينات من عمره يشبه إلى حد كبير سائق السيارة في العمر والحجم
لم تسر السيارة أكثر من خمسمائة متر حتى توقفت وصعد شاب جامعي يحمل في يده كتبه و جلس بجوار سمر التي تنحت والتصقت بالمرأة الجالسة بجوارها
وسرعان ما اقتربت السيارة من حاجز المطاحن أو كما يطلق عليه سكان القطاع حاجز محفوظة حيث زحام السيارات التي تنتظر دورها بدخول الحاجز
بعد أن مرت ساعة كاملة كانت السيارة التي تحمل سمر وبقية الركاب تخط بإطاراتها عتبة المكان الذي تتصافح في الأقدار مع الأخطار
المسافة التي ستقطعها السيارة تساوي تقريباً ألف متر في منطقة عسكرية محاطة بأبراج المراقبة ومنازل تم تفريغها من سكانها وتحويلها إلى نقاط عسكرية بعد هدم المنازل الأخرى .. وعلى السيارة أن تسير ببطئ في طريق محاط بجدار عالي من الأسمنت يفصل الطريق التي يستخدمها العرب عن الطريق التي يستخدمها المستوطنين اليهود
كل شيء كان يسير بصورة عادية !! على الأقل من وجهة نظر الركاب .. حتى قطعت إحدى الدبابات الطريق على السيارة وطلبت منها عبر مكبر الصوت التوجه إلى منطقة محاطة بجدار عال من الأسمنت نحو مركز الموقع في منطقة يطلق عليها المسافرون اسم الحلابات !! ..
هذه الحلابات أعدت خصيصاً لتفتيش السيارات المسافرة بمعزل عن السيارات الأخرى التي تمر عبر الحاجز فلا يمكن أن يراها المسافرون عبر الحاجز أثناء التفتيش
توجه السائق نحو الحلابات وهو يطلق السباب والشتائم.. ثم طلب من الركاب أن يقوموا بتحضير بطاقات هوياتهم حتى ينتهوا من التفتيش بسرعة ويمر اليوم بسلام
كانت هذه أول مرة بالنسبة لسمر يتم فيها حجز السيارة التي تستقلها للتفتيش .. ولأول مرة منذ سنوات ترى فيها سمر وجه جندي صهيوني عن قرب حين توجه مجموعة من الجنود وأحاطوا السيارة مصوبين بنادقهم نحو الركاب
طلب الضابط من السائق هويات الركاب ودخل كي يفحصها على الكومبيوتر .. بينما بقي بقية الجنود يحيطون بالسيارة من جهة .. ومن جهة أخرى صوب جندي يجلس في برج مراقبة قريب مدفعه الثقيل نحو السيارة
عاد الضابط مرة أخرى وطلب من الركاب أن ينزلوا بهدوء واحداً تلو الأخر تاركين متعلقاتهم داخل السيارة .. ثم تجمعوا في مكان بعيد عن السيارة وطلبوا من السائق أن يفتح لهم كل شيء سواءً كان خاصاً بالسيارة أو الركاب في تفتيش دقيق يبدأ بإطار الاحتياط الخاص بالسيارة ويمر بمتعلقات الركاب ثم ينتهي بمحرك السيارة
عاد جميع الركاب مرةً أخرى إلى السيارة بعد انتهاء التفتيش ولكنهم انتظروا طويلاً حتى يتم الانتهاء من فحص بطاقات الهوية على الكومبيوتر .. وما أن عاد الضابط اليهودي وبيده بطاقات الركاب حتى تنفس الجميع الصعداء ظناً منهم أن الأمر قد انتهى على خير وسلام
اقترب الضابط بوجهه القبيح نحو سائق السيارة قائلاً له وعلى وجهه ابتسامة ساخرة مقيتة زادت ملامحه قبحاً :
هذه بطاقاتكم يمكنكم أن تأخذوها وتغادروا المكان بسلام .. ولكن بشرط
لم يسأله السائق عن شرطه .. فتابع الضباط اليهودي حديثه وقد اتسعت ابتسامته الساخرة لتضفي على قسمات وجهه مزيجاً من الخبث والقبح معاً :
الشرط هو أن تُقبل هذه الفتاة الشاب الذي يجلس بجوارها قبلة واحدة فقط .. أو أن تبقوا في السيارة هكذا يومين أو ثلاثة وربما أسبوع أو شهر وكان يقصد سمر
حياة بطعم الموت .. و موت فيه الحياة
حاول السائق أن يوضح للضابط اليهودي أن شرطه صعب ويتنافى مع التقاليد العربية .. إلا أن الضابط الحقير أصر على شرطه قائلاً :
هذه مشكلتكم وحلها في أيديكم .. ثم نظر إلى سمر قائلاً بسخرية : أراهن أنها ستفعلها عن طيب خاطر .. فإن لم يكن من أجل وسامة الشاب فسيكون رحمةً ببقية الركاب .. غادر الضابط إلى حيث يقف بقية الجنود خلف المكعبات الأسمنتية وهو يقول : العرب لا يعجزون عن إيجاد المبرر لأي فعل حتى لو كانوا مرغمين عليه
خيم جو من الصمت على ركاب السيارة حتى تحولت إلى قبو من السكون لا يُسمع فيه سوى أنات الطفل الذي تحمله المرأة الجالسة بجوار سمر
تمنت سمر التي ألجمتها صدمة المفاجئة أن تبصق في وجه الضابط أو تشتمه ولكنها لم تستطع .. فهي لم تتخيل يوماً أن يخاطب لسانها لسان أي صهيوني لما تحمله في نفسها تجاههم من كره واحتقار .. فكيف بها ومعنى الكراهية يتجسد أمامها في جسد يشبه الإنسان
لم يكن لدى سمر أي فرصة للحديث كي تقول ما تمنت أن تقوله في ذلك الموقف .. ولم يكن قلبها الذي زادت نبضاته خوفاً وقلقاً أن يسمح لها بأن تقول كلمة واحدة .. فقد كانت تشعر أن دموعها ستسبقها لو فتحت فهما بأي كلمة ... ولهذا.. التزمت الصمت حتى لا يظهر ضعفها أو تخونها العبرات ..فانتهت إلى أن تُخفي خوفها وقلقها وراء صمتها وتُظهر أن ما حدث لا يعنيها في شيء وكأنها لم تسمعه
بدا لسمر أن نفسها قد هدأت حين اكتفت باللامبالاة التي أظهرتها أمام الركاب وأمام مرأى الجنود الواقفين بعيداً خلف دروعهم والذين علت أصواتهم ضحكاً وهم يتغامزون فيما بينهم كأنهم يراهنون على شيء
لكن سرعان ما زال هذا الشعور حين التفت السائق إلى سمر وقال لها: ما رأيك يا ابنتي فالأمر كله الآن بيدك
لم يكد السائق يُنهي جملته حتى شعرت بتسارع أنفاسها ورغبة قوية في البكاء تحاول عبثاً كبح جماحها .. ولكن الرجل العجوز الذي يجلس خلفها رد على السائق قبلها .. مما منحها الفرصة بان تعاود السيطرة على أعصابها مرةً أخرى واكتفت بالإنصات للحوار الدائر بين السائق والعجوز الذي لم يعجبه سؤال السائق وحديثه لسمر
أخيراً استقر الأمر على أن يصبر الجميع ويتركوا أمرهم لله لعل الملل يُصيب الجنود فيتركوهم يغادروا المكان
عاد الصمت مرةً أخرى يسود الموقف حتى قطعه بكاء الصغير الذي ذهبت محاولات أمه لإسكاته أدراج الرياح
استمر الحال على ما هو عليه أكثر من ساعة بين حديث السائق والرجل الجالس بجواره في أمور عادية والذي تبين أنه عقيد في جهاز أمني تابع للسلطة .. وكذلك استمر بكاء الطفل الذي لم ينقطع طوال هذه الساعة مما زاد أمه قلقاً عليه
لم تستطع أم الطفل التي بلغ بها قلقها وجزعها على صغيرها مبلغه .. فوجهت حديثها للسائق قائلةً :
إلى متى سنبقى هكذا ؟ .. ابني مريض و يحتاج لتغيير دماء واليوم موعده ويجب أن أذهب للمستشفى بسرعة
حاول السائق والعقيد أن يهدئا من روع الأم .. ولكن بكاء الصغير كان يمزق قلبها خوفاً عليه ويزداد خوفها أكثر حين يسكت
قررت الأم بأنها ستغادر السيارة وتقطع الحاجز سيراً على الأقدام قائلة لهم : أنها ليست بحاجة إلى بطاقة الهوية التي حجزوها
ولكن السائق نبهها أن لا تفعل حتى لا تعرض حياتها وحياة الركاب إلى الخطر
لم تكترث الأم بتنبيه السائق ولا رجاء الركاب .. فقد كان خوفها على طفلها يسيطر على كيانها .. فامتدت يدها إلى مقبض باب السيارة وفتحته كي تهم بالخروج .. وما كادت أن تفعل حتى انطلقت عشرات الرصاصات بجوار السيارة وفوق رؤوس الركاب مما جعلها ترجع إلى مكانها وهي تضم صغيرها في صدرها كأنها تريد حمايته من رصاصات الحقد الأعمى التي أطلقها جندي يجلس في برج مراقبة
لم يكد يرفع ركاب السيارة رؤوسهم حتى أحاط عدد من الجنود بالسيارة مصوبين بنادقهم نحو الركاب .. ثم تقدم ذلك الضابط نحو السيارة سائلاً بالعربية : من فتح الباب ؟
أرادت الأم أن تستدر شفقة الضابط وتخبره أن ابنها مريض وهو بحاجة للعلاج .. ولكن الضابط الذي لم يكترث بتوسلاتها .. هددها إن فعلت ذلك ثانيةً سيقتل طفلها أمام عينها مما جعلها تعتصر صغيرها في حضنها خوفاً عليه ممن نُزعت من قلوبهم الشفقة والرحمة
طلب الضابط من السائق أن يأمر الجميع بإغلاق نوافذ السيارة وأن يعطيه مفاتيح سيارته ثم قال له قبل أن يغادر :
كنت سأكتفي بأي قبلة وأترككم ترحلون .. ولكن بعد عنادكم لن أقبل بأقل من قبلة فرنسية ساخنة .. ثم التفت إلى سمر والشاب الذي يجلس بجوارها قائلاً بسخرية : سيساعدكما الجو الذي ستشعران به بعد قليل على خروج هذه القبلة كما ينبغي
أمر الضابط الصهيوني سائق السيارة أن يرفع هو أيضاً زجاج نافذته وحذره أن كل من سيفتح زجاج نافذته لن يسعفه الوقت كي يندم على فعلته .. ثم طلب من جندي المراقبة بلغته العبرية أن ينتبه لهم جيداً ويطلق النار على كل من يخرج من السيارة
لم تكن تتوقع سمر أن يكون اليهود بهذه الحقارة بالرغم من عشرات القصص التي سمعتها عنهم .. ولم يكن يخطر ببالها ولا حتى في كوابيسها أن يحدث لها هذا الموقف في أي يوم من الأيام .. وبالفعل تمنت أن يكون ما يحدث هو مجرد كابوس ستستيقظ منه وتجد نفسها في بيتها بجانب أختيها
لم يمر الكثير من الوقت حتى تحولت السيارة بسبب إغلاق النوافذ إلى ما يشبه الفرن بسبب أشعة الشمس والحرارة المنبعثة من أجسام الركاب وأنفاسهم .. كانت كل دقيقة تمر داخل السيارة تزيد الموقف سوء .... وكان أكثر المواقف مأساوية هو حال الأم التي بدا وكأنها ستُصاب بانهيار عصبي وهي ترى طفلها يبكي والعرق يتصبب منه بغزارة وهي غير قادرة أن تفعل له شيء
لم يكن حال سمر بأفضل من حالها .. فهي أيضاً شعرت أنها ستُصاب بالجنون من كثرة التفكير فيما لو أجبرها الركاب على أن تنفذ شرط الضابط .. فكانت تخشى أن تفتح فمها أو حتى تطلب من الأم أن تحمل عنها صغيرها بالرغم من شفقتها على حالها .. ولكنها خشيت أن ينطق أحدهم ويفتح معها الموضوع .. فعلى الرغم من أن لا ذنب لها فيما يجري .. إلا أن شعوراً داخلها بالذنب بدأ يتزايد كلما مر الوقت و كلما زاد الموقف مأساوية .. كانت متأكدة أن هذا الشعور أقوى وأعمق عند بقية الركاب خاصةً وقد شعرت ببعض الغمز حين تبادل السائق والعقيد الذي يجلس بجواره الحديث
وسط هذه المشاعر المختلطة من الخوف والقلق سرحت سمر في الشاب الذي يجلس بجوارها .. كانت تتمنى في قرارة نفسها أن تعرف فيما يفكر وما وجهة نظره في الأمر .. وكان يخجلها كثيراً مجرد الشعور انه ينظر إليها على الرغم من أنها لم تلتفت إليه ولا مرة منذ أن صعد إلى السيارة .. ولكن كان يطمئنها كثيراً الآيات القرآنية التي كان يخططها على جلدة كتابه حين كانت تختلس النظر إلى ما يكتب وهي مطرقة برأسها .. ولعل هذه الآيات وبعض كلمات الذكر التي كان يقوم بكتابتها جعلتها تكون فكرة عنه بأنه على خلق .. و ليس من الشباب المستهترين وهذه الفكرة بعثت في نفسها إلى حد ما شيء من الطمأنينة
انخلع قلب سمر من مكانه حين أخرجتها كلمات الشاب من شرودها موجهاً حديثه لها .... ولأنها لم تسمع جيداً .. حاولت أن تستجمع شجاعتها لتستفسر منه عن ما قاله فالتفت برأسها دون أن ترفع نظرها قائلةً له : …عفواً ؟
لأول مرة منذ أن صعدت سمر السيارة تفتح فمها لتنطق بكلمة .. ولكن الكلمة خرجت من فهما مرتعشة تعبر بوضوح عن ما يدور بداخلها .. هي نفسها لم تكن تتصور أن تخونها الحروف بهذه الطريقة في هذه الكلمة البسيطة وكأنها تسمع صوتها لأول مرة في حياتها
أعاد الشاب طلبه مرة أخرى قائلاً : لو سمحت ناوليني الطفل أحمله عن أمه قليلاً
امتدت يد سمر وهي تسمي باسم الله نحو الطفل الذي لم يتوقف عن البكاء ولم يكن أمام أمه الخائفة إلا أن تسلمه لسمر عن طيب خاطر أمام نظرات رجاءها
استلم الشاب من يد سمر الطفل وبدأ في وضع يده على رأسه يتمتم بكلمات خفيفة بدت كأنها قرآن .. العجيب أن الطفل توقف عن البكاء وبدأ يبتسم للشاب ويحاول أن يمد يده نحو وجهه .. وبدورها الأم أيضاً هدأت نفسها كثيراً حين رأت ابنها يتجاوب مع لعب الشاب الذي بدأ يحرك بركبته رتاج نافذة السيارة حتى دخل نسيم من الهواء البارد غير الجو الموجود في السيارة إلى حد ما
يبدو أن لك خبرة كبيرة مع الصغار .. فالطفل لم يسكت مع أمه وسكت معك
الشاب ضاحكاً من ملاحظة العجوز .. لدينا في المنزل جيش من الأطفال فلما لا تكون لي خبرة
العجوز .. ما شاء الله .. هل هم أخوتك ؟
الشاب .. لا يا جدي .. هم أبناء أخوتي فأنا أصغر أخوتي وجميعهم قد تزوجوا مبكراً حسب تقاليد العائلة .. لذلك فبيتنا مليء بالأطفال
السائق وقد شعر أن تيار من الهواء البارد بدأ يدخل السيارة .. لو سمحت يا أستاذ أغلق النافذة حتى لا تعرضنا للمشاكل
الشاب .. لو سمحت أنت أخفض صوتك حتى لا يعرفوا أن النافذة مفتوحة
السائق وقد أخفض صوته .. فعلتك هذه ستعرضنا جميعاً للخطر .. أرجوك أغلق النافذة قبل أن يراها الجنود
الشاب .. يا سيدي صعب أن يروا النافذة من ناحيتي ..كما أن بخار الماء الذي تكون على الزجاج المواجه لهم يصعب عليهم رؤيتنا .. عد أنت للنوم وحاول أن تخفض صوتك حتى لا ينتبه الجنود .. وليت الأستاذ الذي يجلس بجوارك يقوم بفتح جزء بسيط من النافذة التي بجواره
العقيد .. أرى أنك بدأت توجه الأوامر وكأنك القبطان ..أنسيت أنك سبب ما نحن فيه
الشاب مستغرباً .. وما دخلي أنا بما حدث ؟!!
العقيد .. لقد رأيت نظراتك الاستفزازية وأنت تنظر لذلك الضابط بتحدي أثناء التفتيش .. وأنا متأكد أن نظراتك تلك هي سبب ما نحن فيه
الشاب .. أخيراً وجدت سبب ما نحن فيه !!.. وما يدريك أنها نظراتي .. ربما هي أنفاسي أو لعلها أمي التي أنجبتني .. ثم قال ساخراً .. أعتقد أن المشكلة في أبي .. فلولا أنه تزوج أمي ما أنجبتني لأكبر ثم أصعد في هذه السيارة فيحجزوها
ضحك الصبي في الكرسي الخلفي من حديث الشاب وبدا أنه تشفى في العقيد ثم قال : أيضاً في هذا الحق عليك يا أخي .. فلو كنت رفضت زواج والدك من أمك لما حدث ما حدث
لكزت العجوز الصبي بيدها كي يصمت .. فاستدار الشاب إليه مازحاً
صدقني يا أخي لم يستشيرني أحد في هذا الزواج فلقد تم دون علم مني
أفلتت ضحكة من سمر رغماً عنها حاولت أن تخفيها بسعال مصطنع .. ولكن السائق لمحها في المرآة فقال :
جيد أن الأخت تعرف الضحك فقد كنت أظن أنها لا تسمع لأنها لم تتحدث بكلمة واحدة طيلة الوقت بالرغم من أن ما نحن فيه وما سيحدث متوقف كله عليها
كاد قلب سمر أن يتوقف بعد حديث السائق .. فعلى ما يبدوا أنها بداية المساومة على تنفيذ الشرط .. وما هي لحظات حتى اسودت الدنيا في عينيها خاصةً والعقيد قد تدخل في الأمر بمحاضرة طويلة عن العقلانية والانحناء للعاصفة و تنازل بسيط لن يضر
حاول العقيد وهو يتحدث مع السائق أن يقنع الفتاة قائلاً :
يمكنهم أن يفعلوا هذا من باب التمثيل كما يحدث في الأفلام .. وهذا لن يضرهم في شيء خاصةً ونحن نعرف أنهم مجبرين عليه وليس بإرادتهم
كان هذا ما تخشاه سمر .. فهاهي خطة الصهاينة الأوغاد تؤتي ثمارها بأول محاولة ضغط غير مباشرة كي تنفذ الشرط .. لم تستطع سمر الواثقة من نفسها والتي حسبت نفسها أقوى من ذلك بكثير أن ترد على كلمة واحدة من حديث العقيد للسائق .. وللوهلة الأولى شعرت أن ضعفها أكبر مما تصورت والذي بدا وضاحاً في دموعها التي بدأت تنساب من عينيها رغماً عنها .. خاصةً والعجوز الذي وقف معها في بداية الأمر صمت ولم يرد على كلمة واحدة من الحديث الدائر بين العقيد والسائق الذي يؤيده في كلامه
لكن الشاب الذي شعر بدموع سمر المطرقة رأسها وهي تتساقط في صمت على حقيبتها أراد أن يضع حداً لهذا الحوار فقال :
وفروا حديثكم هذا وانزعوا فكرة أن نقوم بإذلال أنفسنا بأيدينا .. فهذا لن يحدث حتى لو كانت نهايته الموت
تفاجئ الجميع من كلمات الشاب التي خرجت حاسمة وحازمة .. فخاطبه العقيد بنبرة ود قائلاً له :
يا بني .. نحن مغلوبون على أمرنا وطيلة الوقت أحاول أن أتصل بأحد دون جدوى لعله يجد لنا مخرجاً من هنا .. ولكن يبدو انهم يضعون جهاز للتشويش على الاتصالات في هذا المكان .. فلا تظن أننا نستسهل الأمر ونطالبكم بتنفيذه لمجرد أنهم طلبوا ذلك .. فنحن الآن لم يعد أمامنا خيار إلا أن ننهي هذه المأساة بأي طريقة
الشاب .. المأساة هي أن نستجيب للذل ونتعامل معه وكأنه جزء من يومياتنا فُرض علينا .. فأي معنى لهذه الحياة إن كنا نعيشها مغمسة بالذل .. و ثق تماماً أن ما يطلبه هذا الحقير لن يكون آخر المطاف .. فما ستتعود عليه اليوم وتعتبره أمر مفروض عليك .. سيجبرك أن تزيد عليه كي يشعر بإذلالك أكثر
العقيد .. أنت شاب .. وما يدفعك لقول هذا حمية الشباب كما أنك قادر على تحمل الوضع المفروض علينا .. ولكن .. ماذا عن هذه الأم المسكينة وطفلها المريض .. ماذا عن الرجل العجوز وزوجته الكبيرة في السن .. بعد قليل ستجد هذا الصبي يطلب الذهاب إلى الحمام .. وهذه الفتاة التي خرجت لجامعتها سيسأل عنها أهلها ويقلقون إن تأخرت أكثر من ذلك .. كل ما أطلبه منك قليلاً من العقلانية .. وأن تنظر للأمور نظرة مستقبلية
قاطعه الشاب قائلاً : .. نعم .. نظرت نظرة مستقبلية .. فوجدت أن حياة الذل