معركة الموصل
غموض؟ أم شبهات؟ أم ارتباك؟
د. أكرم حجازي / كاتب وأستاذ جامعي
صحف - 16/5/2008
ما من مراقب للساحة العراقية إلا وقع في حيرة إزاء ما يجري التخطيط له من اجتياح لمدينة الموصل شمالي العراق من قبل القوات الحكومية، ومنذ اللحظة الأولى لإعلان الحكومة عن عزمها تطهير المدينة من الإرهابيين وإشاعة السلم فيها وحتى عشية الإعلان عن بدء الحملة عليها إلا وكان الغموض والشبهات والارتباكات سيدة الموقف سواء من قبل المسؤولين الحكوميين أو من قبل الجماعات الجهادية ذاتها. لكن هل بدء الحملة على المدينة بدد الغموض؟ أو أزال الشبهات؟ بالتأكيد الإجابة بالنفي. لا شك إذن أن الأمر يتطلب تقديم أكثر من قراءة قد تصيب أو تخطئ إلى أن تتضح حقيقة الأوضاع.
يعلم المراقبون أن استهداف الموصل بدأ فعليا قبل معارك الجنوب العراقي خاصة في البصرة فيما بين القوات الحكومية وميليشيات مقتضى الصدر الشيعية التي وصفها المالكي بالقول: إنهم مهربون وقتلة مجرمون وعصابات جريمة وأسوأ من القاعدة، ثم توقفت المواجهات لتستأنف في بغداد عبر دعم جوي أمريكي أوقع المئات من القتلى والجرحى بين المدنيين صغارا وكبارا! لكن الحرب على التيار الصدري لم يشغل حكومة المالكي عن التهديد باجتياح الموصل عبر عقد الاجتماعات ودراسة الخيارات وإرسال القوات إلى تخوم المدينة والتصريح بين الفينة والأخرى عن تأجيل الحملة.
في الأثناء بدا أن صبر زعماء جبهة التوافق ينفذ كلما خرج أحد رموزها وهو يحرض على الإسراع في بدء الحملة بحجة تخليص أهل المدينة من الإرهاب وإشاعة السلم فيها وتصفية آخر معاقل القاعدة منها، وبدت تصريحاتهم أشد حماسا من تصريحات المالكي نفسها كما لو أن المعركة هي معركتهم الشخصية. ضابط عراقي سابق سُئل على إحدى الفضائيات عن أهداف الحملة؟ فكان التقسيم هو جوابه على ما يجري التخطيط له. ربما يكون هذا التصريح الأكثر موضوعية لاسيما وأن أكثر ما كان ملفتا للانتباه هو شبه الصمت الذي تحلى به الأكراد ذوي المصلحة الأولى في السيطرة على المدينة وفيلق بدر الذي يتزعمه عبد العزيز الحكيم رأس الحربة في العداء للسنة في العراق مع أن كلاهما من ضمن القوات المهاجمة.
وربما يكون هذا الضابط قد لاحظ أن الحكومة العراقية هي فعلا بصدد تنفيذ المشروع الأمريكي الإيراني عبر تفاهم محتمل بين الجانبين يقضي بالتهيئة لمشروع انتخابات الأقاليم القادم، مما يستدعي حسم المسائل في الجنوب ليكون تحت السيطرة الشيعية برعاية إيرانية على أن يكون الشمال تحت الهيمنة الكردية بعد إخضاع الموصل. ومثل هذا السيناريو عبّر عنه المالكي بطريقة أخرى حين ربط بين معركة الموصل وسيطرة الحكومة على بغداد والبصرة.
لكن تأجيل الحملة أو بطء سيرها لا شك أن له أسبابا وجيهة. فالموصل ذات الأربعة ملايين نسمة ليست الفلوجة ذات الربع مليون، فحين أدرك الأميركيون، في الفلوجة الأولى، أن تحقيق الانتصار على المدينة مهمة شبه مستحيلة بوجود مقاتلين ذوي عزيمة بين السكان غيروا استراتيجياتهم بتفريغها من سكانها وتدميرها عن بكرة أبيها فيما يعرف بحروب الإبادة التي يعجز فيها خصم متفوق على الانتصار على خصم ضعيف إلا بوسائل الإبادة الشاملة. لكن نموذج الفلوجة من المستحيل تطبيقه على مدينة الموصل التي فشلت فيها الصحوات أن تجد لها موطئ قدم رغم طول وعرض الطابور الخامس فيها، كما أن مدينة بهذه الكثافة السكانية الهائلة سيجعل من أية حرب فيها في غير صالح القوات المهاجمة التي ستضطر إلى خوض حرب عصابات في كافة أحياء المدينة وشوارعها وأزقتها مما يعني أن الانتصار ربما يكون متاحا لكن بتكلفة باهظة لا تقل عن تكلفة الفشل والهزيمة وإلا ما كان المالكي ليصرح بأن الحملة على الموصل هي مسألة حياة أو موت وما كان للأمريكيين أن يمتنعوا عن المشاركة في المعركة والاكتفاء بالدعم اللوجستي أو القتال عن بعد، بمعنى أن تقدم القوات الأمريكية الدعم السياسي والإعلامي فضلا عن التغطية الأمنية والجوية. فكيف السبيل للسيطرة على المدينة؟
عشية الإعلان عن بدء الحملة لجأت القوات الأمريكية إلى أسلوب الشائعات المثيرة تارة عبر وكلائها من الحكومة العراقية وبعض الفضائيات. في المرة الأولى قالوا أنهم تعرفوا على شخصية البغدادي، وفي الثانية انتُزع أبو حمزة المهاجر من فراشه وألقي به على منابر إعلامية معينة عبر وشاية من أحد أقربائه حيث نجحت قوة استخبارية عراقية في اعتقاله وهو نائم! ولما سئل عمن يكون؟ عرف عن نفسه بأنه أبو حمزة المهاجر! كان واضحا لأنصار المجاهدين أن الخبر، فيما احتواه، فضلا عن ردود الفعل الأمريكية عليه أنه ملفق أكثر منه حقيقة، وذهبوا أبعد من ذلك محذرين من أن يكون الهدف من بثه إشاعة جو من الارتباك كاف لتشغيل عاصفة من الاتصالات قد تسمح في حشد بعض المعلومات عن المجاهدين وتتبع القيادات في الموصل وغيرها. ربما تكون قراءتهم للخبر صحيحة مع أن الأقرب للصحة هو إحداث بلبلة كبيرة عبر نشر خبر يشتمل على تناقضات أكثر حتى تأخذ المناقشات مجراها بين متخوف أو محبط أو مكذب أو داعي للتريث.
وأيا كان السبب فإن نشر الخبر كان مثيرا حقا خاصة وأن السيناريو الذي صيغ به بدا أشبه ما يكون بسيناريو مقتل حامد الجبوري المتحدث الرسمي باسم دولة العراق الإسلامية. آنذاك ترافق الخبر مع خبر آخر قيل فيه أن الحكومة العراقية قتلت أبو عمر البغدادي ولما شكك الكثيرون به أكدت الحكومة أنها تحتفظ بالجثة، وما هي إلا يومين أو ثلاثة حتى أصدرت الدولة بيان نعي بمقتل الجبوري. ويبدو أن الأنصار خشوا من تكرار ذات السيناريو وهو ما أثار بعض الارتباك. أما هذه المرة فلأن الخبر استهدف المهاجر كوزير حرب فالأقرب للصحة، من كل ما ذُكر، أن الهدف كان توتير المقاتلين بالذات وإحباطهم وإشغالهم بالتحقق من صحة الخبر أكثر من الأنصار لاسيما وقد تلاه مباشرة الإعلان عن بدء الحملة على الموصل.
الأمريكيون والحكومة يبدوان عاجزين عن حسم معركة الموصل، فالحسابات كثيرة والتداعيات قد تكون خطيرة جدا خاصة وأن قواتهما جربتا مدنا أخرى كبغداد وديالى واستعملتا أوراقا عدة كالتغطية السنية والصحوات واختراق بعض الجماعات الجهادية، ومع ذلك تبقى تحركاتهما ذكية وإدارتهما لوقائع المعركة سياسيا وإعلاميا وعسكريا على قدر كبير من الحذر والغموض. لكن مثلما يستفيد الأمريكيون والقوات الحكومية من إخفاقاتهم كذلك تفعل الجماعات الجهادية بصورة أشد وضوحا للعيان.
ففي الوقت الذي تحتشد فيه القوى المهاجمة في الموصل من شتى الأطياف المحلية والأجنبية تتجه قوى مضادة من الجماعات الجهادية نحو تفعيل نشاطاتها في الرمادي وبغداد وديالى فضلا عن الموصل، وكان مثيرا أن تستفيق القوات الأمريكية على قتلى بالجملة بين صفوف جنودها في الأنبار ليس عبر زرع العبوات فحسب بل وفي التعرض لكمائن قاتلة بصورة أعادت إلى الأذهان شراسة حرب الأنبار في السنوات الأولى للاحتلال، وكذا الأمر في ديالى وبغداد التي تعرضت فيها المنطقة الخضراء لضربات مميتة، والأسوأ فيما يجري، تلك الكمائن الاستخبارية التي تنفجر بين الحين والآخر على بوابات المنطقة الخضراء مخلفة حيرة ورعبا من قدرة المجاهدين على الوصول إلى أماكن حساسة. بالتأكيد لم يكن بمحض الصدفة أن تستهدف الجماعات الجهادية موكب هيرو زوجة الرئيس العراقي جلال الطلباني (الكرد)، أو مقر الحزب الإسلامي وأحد قادته (السنة) كطرفين محرضين على غزو الموصل. فهي بلا شك رسائل فريدة وعميقة المحتوى، إذ حتى لو دمرت الموصل فلا أحد بمأمن من السقوط أو التعرض للأذى والخوف والرعب لا زوجة الرئيس ولا بان كيمون ولا زعماء الحزب الإسلامي ولا أبو ريشة وأعوانه ولا الحكيم ولا هذا وذاك، فالضربات تقع في القلب من بغداد وليس الموصل، والأجدى لمن يحرص على حماية أهل السنة في الموصل أن يحرص على حماية نفسه ورموزه أولا.
الملاحظ أن القوى الجهادية في طريقها إلى الائتلاف ثانية سواء في الأنبار أو بغداد أو سامراء أو ديالى أو الموصل، ولا يمكن قراءة ما يجري في الأنبار تحديدا خارج سياق ما يجري التحضير له في الموصل أو خارج التنسيق المشترك وإلا ما كان الأمريكيون ليتعرضوا لهذه الخسائر الفادحة بصورة مفاجئة، كما أن الصحوات لم تعد تتعرض فقط لهجمات من دولة العراق الإسلامية أو أنصار الإسلام وحدهما بعيدا عن القوى الأخرى خاصة جيش الراشدين الذي سبق وأعلن عليها حربا بلا هوادة، أما المفاجأة فكانت من قبل أعضاء في جبهة الجهاد والإصلاح عدا الجيش الإسلامي قالت قناة الجزيرة أنهم أصدروا بيانا كفروا فيه كل من يدعم مقاتلة القاعدة ولو بكلمة بقطع النظر عن خلافاتهم معها. وقد يكون البيان أثار أنصار الجهاد كونه تضمن إدانة لما اعتبره اعتداءات على الأرواح والممتلكات ارتكبها بعض أعضاء القاعدة فيما مضى بحق الناس، لكن مجرد إعلانه على وسائل الإعلام ربما يكون توطئة فعلية إلى عودة الجماعات الموقعة عليه إلى الاصطفاف في ساحة الميادين العسكرية مجددا والمراهنة على المشروع الجهادي بعيدا عن الجبهة وسياساتها وبعيدا حتى عن الجيش الإسلامي الذي لم يعد يُسمع له كبير صوت.
على كل حال، حتى الآن يبدو أن القائمين على الحملة قادرون على التحكم بوقائعها، هكذا يبدو الأمر باعتبارهم القوة المهاجمة التي ستقرر لحظة الانفجار، لكن ما من قوة معنية بوضع الموصل سواء القوى المهاجمة أو القوى المدافعة أفضت ببعض ما لديها تجاه وقائع المعركة التي من المفترض أنها جارية على قدم وساق. فكل طرف يغطي تحركاته وفعالياته بستار سميك من الكتمان والسرية بحيث يصعب التنبؤ بما يجري. ورغم أن أي تحرك عسكري من أي طرف سيؤدي إلى انكشافه فإن القوى المدافعة عن المدينة لا تنفك عن الاصطياد إذا ما واتتها فريسة محققة بذلك أمرين:
1) اختبار مدى جاهزية القوى المهاجمة وفاعليتها عبر عمليات استطلاع ميدانية وهجمات محدودة وبالتأكيد مدروسة.
2) ضرب خطوط الإمداد والإسناد للقوى المهاجمة وإرباك حركتها حتى في أماكن تجمعها داخل المدينة وعلى أطرافها.
3) استفزاز القوى المهاجمة لدفعها للرد وبالتالي كشف أوراقها وجرها إلى معركة في غير التوقيت الذي ترغب فيه.
إلا أن القوى المهاجمة ربما تبدو أكثر تحملا وهي تراهن على عامل الوقت بما يحققه من إرهاق للخصم وحيرة تربك حساباته وتوقعاته، والأكيد أن الفريقين يخوضان ما يشبه لعبة عض الأصابع مع الفارق في محتوى وأهداف وحسابات كل فريق فيما يسعى إليه، وفي المحصلة فلا شك أن حيثيات المعركة مختلفة عن سابقاتها وهذا صحيح، والصحيح أيضا أنه لو كانت القوى المهاجمة على ثقة بما لديها من عُدّة وعتاد لما تأخرت كل هذا الوقت عن خوضها خاصة وأن طول الوقت بلا جدوى من شأنه استنزاف الطاقات والمعنويات، وفي المقابل فإن قوة الخصم قد تكون وراء التأجيل المتكرر خاصة وأنه يردد أن الله أكبر وأن الله معه بخلاف الطرف المهاجم الذي يعتقد أنه يتفوق بالعدد والعتاد، وشتان بين الاعتقادين.
بلا شك فقد حققت التصريحات الرسمية غموضا معتبَرا في حقيقة ما يجري بصورة غير مسبوقة، وهذا أسلوب مزعج للخصوم، وألقت بشبهات ثقيلة على أهداف الحملة فيما إذا كانت من أجل إشاعة السلم الأهلي أم من أجل تسليم المدينة للبشمركة والتمهيد لتقسيم العراق؟ زد على ذلك أنها وقعت في ارتباك صريح كلما تعالت تصريحات الرسميين والحلفاء عن الحملة لجهة التأجيل والدراسة والتهديد وبث الأخبار التي تكشف عن ضحالة المعلومات المتوفرة لديها عن القوى المدافعة وقياداتهم.
أخيرا، لو أن الحرب على المشروع الجهادي حالت دون قطف الكثير من الرؤوس وسط خطة أمن بغداد وسيطرة الصحوات على الأنبار وعواصف التشويه الإعلامي ومنع المجاهدين من مقاتلة الأمريكيين فإن إخراج المقاتلين من الموصل سيحول، هو الآخر، بالتأكيد دون شن حروب من أي نوع في المستقبل، لكن الواقع يأبى التسليم بمثل هذه الافتراضات. ومع ذلك ليس لدينا إلا ترقب القادم من الأيام.
غموض؟ أم شبهات؟ أم ارتباك؟
د. أكرم حجازي / كاتب وأستاذ جامعي
صحف - 16/5/2008
ما من مراقب للساحة العراقية إلا وقع في حيرة إزاء ما يجري التخطيط له من اجتياح لمدينة الموصل شمالي العراق من قبل القوات الحكومية، ومنذ اللحظة الأولى لإعلان الحكومة عن عزمها تطهير المدينة من الإرهابيين وإشاعة السلم فيها وحتى عشية الإعلان عن بدء الحملة عليها إلا وكان الغموض والشبهات والارتباكات سيدة الموقف سواء من قبل المسؤولين الحكوميين أو من قبل الجماعات الجهادية ذاتها. لكن هل بدء الحملة على المدينة بدد الغموض؟ أو أزال الشبهات؟ بالتأكيد الإجابة بالنفي. لا شك إذن أن الأمر يتطلب تقديم أكثر من قراءة قد تصيب أو تخطئ إلى أن تتضح حقيقة الأوضاع.
يعلم المراقبون أن استهداف الموصل بدأ فعليا قبل معارك الجنوب العراقي خاصة في البصرة فيما بين القوات الحكومية وميليشيات مقتضى الصدر الشيعية التي وصفها المالكي بالقول: إنهم مهربون وقتلة مجرمون وعصابات جريمة وأسوأ من القاعدة، ثم توقفت المواجهات لتستأنف في بغداد عبر دعم جوي أمريكي أوقع المئات من القتلى والجرحى بين المدنيين صغارا وكبارا! لكن الحرب على التيار الصدري لم يشغل حكومة المالكي عن التهديد باجتياح الموصل عبر عقد الاجتماعات ودراسة الخيارات وإرسال القوات إلى تخوم المدينة والتصريح بين الفينة والأخرى عن تأجيل الحملة.
في الأثناء بدا أن صبر زعماء جبهة التوافق ينفذ كلما خرج أحد رموزها وهو يحرض على الإسراع في بدء الحملة بحجة تخليص أهل المدينة من الإرهاب وإشاعة السلم فيها وتصفية آخر معاقل القاعدة منها، وبدت تصريحاتهم أشد حماسا من تصريحات المالكي نفسها كما لو أن المعركة هي معركتهم الشخصية. ضابط عراقي سابق سُئل على إحدى الفضائيات عن أهداف الحملة؟ فكان التقسيم هو جوابه على ما يجري التخطيط له. ربما يكون هذا التصريح الأكثر موضوعية لاسيما وأن أكثر ما كان ملفتا للانتباه هو شبه الصمت الذي تحلى به الأكراد ذوي المصلحة الأولى في السيطرة على المدينة وفيلق بدر الذي يتزعمه عبد العزيز الحكيم رأس الحربة في العداء للسنة في العراق مع أن كلاهما من ضمن القوات المهاجمة.
وربما يكون هذا الضابط قد لاحظ أن الحكومة العراقية هي فعلا بصدد تنفيذ المشروع الأمريكي الإيراني عبر تفاهم محتمل بين الجانبين يقضي بالتهيئة لمشروع انتخابات الأقاليم القادم، مما يستدعي حسم المسائل في الجنوب ليكون تحت السيطرة الشيعية برعاية إيرانية على أن يكون الشمال تحت الهيمنة الكردية بعد إخضاع الموصل. ومثل هذا السيناريو عبّر عنه المالكي بطريقة أخرى حين ربط بين معركة الموصل وسيطرة الحكومة على بغداد والبصرة.
لكن تأجيل الحملة أو بطء سيرها لا شك أن له أسبابا وجيهة. فالموصل ذات الأربعة ملايين نسمة ليست الفلوجة ذات الربع مليون، فحين أدرك الأميركيون، في الفلوجة الأولى، أن تحقيق الانتصار على المدينة مهمة شبه مستحيلة بوجود مقاتلين ذوي عزيمة بين السكان غيروا استراتيجياتهم بتفريغها من سكانها وتدميرها عن بكرة أبيها فيما يعرف بحروب الإبادة التي يعجز فيها خصم متفوق على الانتصار على خصم ضعيف إلا بوسائل الإبادة الشاملة. لكن نموذج الفلوجة من المستحيل تطبيقه على مدينة الموصل التي فشلت فيها الصحوات أن تجد لها موطئ قدم رغم طول وعرض الطابور الخامس فيها، كما أن مدينة بهذه الكثافة السكانية الهائلة سيجعل من أية حرب فيها في غير صالح القوات المهاجمة التي ستضطر إلى خوض حرب عصابات في كافة أحياء المدينة وشوارعها وأزقتها مما يعني أن الانتصار ربما يكون متاحا لكن بتكلفة باهظة لا تقل عن تكلفة الفشل والهزيمة وإلا ما كان المالكي ليصرح بأن الحملة على الموصل هي مسألة حياة أو موت وما كان للأمريكيين أن يمتنعوا عن المشاركة في المعركة والاكتفاء بالدعم اللوجستي أو القتال عن بعد، بمعنى أن تقدم القوات الأمريكية الدعم السياسي والإعلامي فضلا عن التغطية الأمنية والجوية. فكيف السبيل للسيطرة على المدينة؟
عشية الإعلان عن بدء الحملة لجأت القوات الأمريكية إلى أسلوب الشائعات المثيرة تارة عبر وكلائها من الحكومة العراقية وبعض الفضائيات. في المرة الأولى قالوا أنهم تعرفوا على شخصية البغدادي، وفي الثانية انتُزع أبو حمزة المهاجر من فراشه وألقي به على منابر إعلامية معينة عبر وشاية من أحد أقربائه حيث نجحت قوة استخبارية عراقية في اعتقاله وهو نائم! ولما سئل عمن يكون؟ عرف عن نفسه بأنه أبو حمزة المهاجر! كان واضحا لأنصار المجاهدين أن الخبر، فيما احتواه، فضلا عن ردود الفعل الأمريكية عليه أنه ملفق أكثر منه حقيقة، وذهبوا أبعد من ذلك محذرين من أن يكون الهدف من بثه إشاعة جو من الارتباك كاف لتشغيل عاصفة من الاتصالات قد تسمح في حشد بعض المعلومات عن المجاهدين وتتبع القيادات في الموصل وغيرها. ربما تكون قراءتهم للخبر صحيحة مع أن الأقرب للصحة هو إحداث بلبلة كبيرة عبر نشر خبر يشتمل على تناقضات أكثر حتى تأخذ المناقشات مجراها بين متخوف أو محبط أو مكذب أو داعي للتريث.
وأيا كان السبب فإن نشر الخبر كان مثيرا حقا خاصة وأن السيناريو الذي صيغ به بدا أشبه ما يكون بسيناريو مقتل حامد الجبوري المتحدث الرسمي باسم دولة العراق الإسلامية. آنذاك ترافق الخبر مع خبر آخر قيل فيه أن الحكومة العراقية قتلت أبو عمر البغدادي ولما شكك الكثيرون به أكدت الحكومة أنها تحتفظ بالجثة، وما هي إلا يومين أو ثلاثة حتى أصدرت الدولة بيان نعي بمقتل الجبوري. ويبدو أن الأنصار خشوا من تكرار ذات السيناريو وهو ما أثار بعض الارتباك. أما هذه المرة فلأن الخبر استهدف المهاجر كوزير حرب فالأقرب للصحة، من كل ما ذُكر، أن الهدف كان توتير المقاتلين بالذات وإحباطهم وإشغالهم بالتحقق من صحة الخبر أكثر من الأنصار لاسيما وقد تلاه مباشرة الإعلان عن بدء الحملة على الموصل.
الأمريكيون والحكومة يبدوان عاجزين عن حسم معركة الموصل، فالحسابات كثيرة والتداعيات قد تكون خطيرة جدا خاصة وأن قواتهما جربتا مدنا أخرى كبغداد وديالى واستعملتا أوراقا عدة كالتغطية السنية والصحوات واختراق بعض الجماعات الجهادية، ومع ذلك تبقى تحركاتهما ذكية وإدارتهما لوقائع المعركة سياسيا وإعلاميا وعسكريا على قدر كبير من الحذر والغموض. لكن مثلما يستفيد الأمريكيون والقوات الحكومية من إخفاقاتهم كذلك تفعل الجماعات الجهادية بصورة أشد وضوحا للعيان.
ففي الوقت الذي تحتشد فيه القوى المهاجمة في الموصل من شتى الأطياف المحلية والأجنبية تتجه قوى مضادة من الجماعات الجهادية نحو تفعيل نشاطاتها في الرمادي وبغداد وديالى فضلا عن الموصل، وكان مثيرا أن تستفيق القوات الأمريكية على قتلى بالجملة بين صفوف جنودها في الأنبار ليس عبر زرع العبوات فحسب بل وفي التعرض لكمائن قاتلة بصورة أعادت إلى الأذهان شراسة حرب الأنبار في السنوات الأولى للاحتلال، وكذا الأمر في ديالى وبغداد التي تعرضت فيها المنطقة الخضراء لضربات مميتة، والأسوأ فيما يجري، تلك الكمائن الاستخبارية التي تنفجر بين الحين والآخر على بوابات المنطقة الخضراء مخلفة حيرة ورعبا من قدرة المجاهدين على الوصول إلى أماكن حساسة. بالتأكيد لم يكن بمحض الصدفة أن تستهدف الجماعات الجهادية موكب هيرو زوجة الرئيس العراقي جلال الطلباني (الكرد)، أو مقر الحزب الإسلامي وأحد قادته (السنة) كطرفين محرضين على غزو الموصل. فهي بلا شك رسائل فريدة وعميقة المحتوى، إذ حتى لو دمرت الموصل فلا أحد بمأمن من السقوط أو التعرض للأذى والخوف والرعب لا زوجة الرئيس ولا بان كيمون ولا زعماء الحزب الإسلامي ولا أبو ريشة وأعوانه ولا الحكيم ولا هذا وذاك، فالضربات تقع في القلب من بغداد وليس الموصل، والأجدى لمن يحرص على حماية أهل السنة في الموصل أن يحرص على حماية نفسه ورموزه أولا.
الملاحظ أن القوى الجهادية في طريقها إلى الائتلاف ثانية سواء في الأنبار أو بغداد أو سامراء أو ديالى أو الموصل، ولا يمكن قراءة ما يجري في الأنبار تحديدا خارج سياق ما يجري التحضير له في الموصل أو خارج التنسيق المشترك وإلا ما كان الأمريكيون ليتعرضوا لهذه الخسائر الفادحة بصورة مفاجئة، كما أن الصحوات لم تعد تتعرض فقط لهجمات من دولة العراق الإسلامية أو أنصار الإسلام وحدهما بعيدا عن القوى الأخرى خاصة جيش الراشدين الذي سبق وأعلن عليها حربا بلا هوادة، أما المفاجأة فكانت من قبل أعضاء في جبهة الجهاد والإصلاح عدا الجيش الإسلامي قالت قناة الجزيرة أنهم أصدروا بيانا كفروا فيه كل من يدعم مقاتلة القاعدة ولو بكلمة بقطع النظر عن خلافاتهم معها. وقد يكون البيان أثار أنصار الجهاد كونه تضمن إدانة لما اعتبره اعتداءات على الأرواح والممتلكات ارتكبها بعض أعضاء القاعدة فيما مضى بحق الناس، لكن مجرد إعلانه على وسائل الإعلام ربما يكون توطئة فعلية إلى عودة الجماعات الموقعة عليه إلى الاصطفاف في ساحة الميادين العسكرية مجددا والمراهنة على المشروع الجهادي بعيدا عن الجبهة وسياساتها وبعيدا حتى عن الجيش الإسلامي الذي لم يعد يُسمع له كبير صوت.
على كل حال، حتى الآن يبدو أن القائمين على الحملة قادرون على التحكم بوقائعها، هكذا يبدو الأمر باعتبارهم القوة المهاجمة التي ستقرر لحظة الانفجار، لكن ما من قوة معنية بوضع الموصل سواء القوى المهاجمة أو القوى المدافعة أفضت ببعض ما لديها تجاه وقائع المعركة التي من المفترض أنها جارية على قدم وساق. فكل طرف يغطي تحركاته وفعالياته بستار سميك من الكتمان والسرية بحيث يصعب التنبؤ بما يجري. ورغم أن أي تحرك عسكري من أي طرف سيؤدي إلى انكشافه فإن القوى المدافعة عن المدينة لا تنفك عن الاصطياد إذا ما واتتها فريسة محققة بذلك أمرين:
1) اختبار مدى جاهزية القوى المهاجمة وفاعليتها عبر عمليات استطلاع ميدانية وهجمات محدودة وبالتأكيد مدروسة.
2) ضرب خطوط الإمداد والإسناد للقوى المهاجمة وإرباك حركتها حتى في أماكن تجمعها داخل المدينة وعلى أطرافها.
3) استفزاز القوى المهاجمة لدفعها للرد وبالتالي كشف أوراقها وجرها إلى معركة في غير التوقيت الذي ترغب فيه.
إلا أن القوى المهاجمة ربما تبدو أكثر تحملا وهي تراهن على عامل الوقت بما يحققه من إرهاق للخصم وحيرة تربك حساباته وتوقعاته، والأكيد أن الفريقين يخوضان ما يشبه لعبة عض الأصابع مع الفارق في محتوى وأهداف وحسابات كل فريق فيما يسعى إليه، وفي المحصلة فلا شك أن حيثيات المعركة مختلفة عن سابقاتها وهذا صحيح، والصحيح أيضا أنه لو كانت القوى المهاجمة على ثقة بما لديها من عُدّة وعتاد لما تأخرت كل هذا الوقت عن خوضها خاصة وأن طول الوقت بلا جدوى من شأنه استنزاف الطاقات والمعنويات، وفي المقابل فإن قوة الخصم قد تكون وراء التأجيل المتكرر خاصة وأنه يردد أن الله أكبر وأن الله معه بخلاف الطرف المهاجم الذي يعتقد أنه يتفوق بالعدد والعتاد، وشتان بين الاعتقادين.
بلا شك فقد حققت التصريحات الرسمية غموضا معتبَرا في حقيقة ما يجري بصورة غير مسبوقة، وهذا أسلوب مزعج للخصوم، وألقت بشبهات ثقيلة على أهداف الحملة فيما إذا كانت من أجل إشاعة السلم الأهلي أم من أجل تسليم المدينة للبشمركة والتمهيد لتقسيم العراق؟ زد على ذلك أنها وقعت في ارتباك صريح كلما تعالت تصريحات الرسميين والحلفاء عن الحملة لجهة التأجيل والدراسة والتهديد وبث الأخبار التي تكشف عن ضحالة المعلومات المتوفرة لديها عن القوى المدافعة وقياداتهم.
أخيرا، لو أن الحرب على المشروع الجهادي حالت دون قطف الكثير من الرؤوس وسط خطة أمن بغداد وسيطرة الصحوات على الأنبار وعواصف التشويه الإعلامي ومنع المجاهدين من مقاتلة الأمريكيين فإن إخراج المقاتلين من الموصل سيحول، هو الآخر، بالتأكيد دون شن حروب من أي نوع في المستقبل، لكن الواقع يأبى التسليم بمثل هذه الافتراضات. ومع ذلك ليس لدينا إلا ترقب القادم من الأيام.
تعليق