الجبهة الإعلامية الإسلامية العالمية
قسم الإعلام التوعوي
:: يقدم ::
سلسلة
"الهداية في أحاديث البداية"
للشيخ أبي الحارث الأنصاري - حفظه الله
يسر إخوانكم فى الجبهة الإعلامية الإسلامية العالمية أن يقدموا لكم سلسلة " الهداية فى أحاديث البداية " وإخوانكم فى الجبهة الإعلامية الإسلامية العالمية يهيبون بالأخوة المسلمين وأنصار الجهاد عامة وإخواننا فى أرض الرباط خاصة أن يحرصوا على متابعة هذه السلسلة لما فيها من علم وفير وفوائد ونصائح لمن أراد أن يضع قدمه على طريق البداية , نسأل الله تعالى أن يجزى كاتبها خير الجزاء , وأن ينفع قارئها إنه ولى ذلك والقادر عليه ....
الحلقة الثامنة
"صفات الإستدلال على صدق النبي صلى الله عليه وسلم عند هرقل"
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله والرحمة والرضوان على الصحب والآل ثم أما بعد:
لا جرم على النبي بعد الرسالة أن يدعو الناس إليها، ثم يحملهم عليها إن هم أبوا، ولكن حين يكون الخطاب من البداية على طريقة: "أسلِمْ تَسْلَم"، فإنَّ له وقع آخر، وحين يكون المُخاطب رجل بحجم "عظيم الروم" فهذا أمر لم يُعهد من قبل، فليس الرجل ممن يُخدع بالعبارات أو تُرهبه الكلمات، وليس هو ممن يلقي لخصمه بالاً، وهو الذي ما فتئ يُصيب عدوه الوبال، خصوصاً بعد حرب مع الفرس منذ عشرات السنوات ما زالت قائمة، وهو من قبل داهية مخضرم، يدل على ذلك قول "أبو سفيان" وهو من هو ذكاء ودهاء: "فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت مِنْ رَجُل قَطُّ كَانَ أَدْهَى مِنْ ذَلِكَ الْأَقْلَف، يَعْنِي هِرَقْل".
ولولا الإطالة لكان لملكة سبأ موضع هنا، ولكنا نرجئه لحديث آخر إنْ يسر الله لنا ذلك، والمقصود أنَّ رجلاً مثل "هرقل"، أتاه خطاب من رجل عربي يدعوه فيه لدين جديد، فلم يفعل مثل ما فعله "كسرى" الذي تكبر ومزق الكتاب، بل فعل ما يدل على دراية منه بأحوال العرب، تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، لذا دعا شرطته ليأتوا بقوم أقرب الناس لهذا الرجل، ليستجلي خبره، ويستوضح أمره، ويسبر أغواره ليعرف صفاته، وليحكم من بعد على الرجل، ورسالتة...
لذا جاءت الأسئلة دقيقة في معناها، مُصيبة في فحواها، موجزة في كلماتها، عظيمة في محتواها، و(هَذِهِ الْأَشْيَاء الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا هِرَقْل لَيْسَتْ قَاطِعَة عَلَى النُّبُوَّة، إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَل أَنَّهَا كَانَتْ عِنْده عَلَامَات عَلَى هَذَا النَّبِيّ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْد ذَلِكَ: قَدْ كُنْت أَعْلَم أَنَّهُ خَارِج، وَلَمْ أَكُنْ أَظُنّ أَنَّهُ مِنْكُمْ) كما حكاه ابن حجر والنووي عن المازني وقال ابن حجر: وَمَا أَوْرَدَهُ اِحْتِمَالًا جَزَمَ بِهِ اِبْن بَطَّال؛ وَهُوَ ظَاهِر.
وأي كان فلا ضير من الوقوف عندها واستخراج معانيها وفوائدها في الحكم على الرجال، وإن كانت هي صفات النبوة، فهي تعني صفات الكمال، وتعني أيضاً أن القُرب إلى كمالها قُرب إلى منزلة النبوة، وهي درجة الصديقين...
ولا مانع من اجتماع كلا الأمرين في "هرقل"، علم سابق مُستمد من كتب سماوية، وعلم واقع مُستمد من خبرةٍ بالرجال، وإن كانت هذه صفات النبي في تلك الكتب، فإن صفات الرجال في كل الكتب واحدة ويبقى الرجال رجال...
في البخاري ومسلم واللفظ للأول عن عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ، فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ: أَبُو سُفْيَانَ فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ، قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ، قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ، فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَ"يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ").
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ...
هذا الحديث بطوله أوردناه لجماله وبهائه ونصاعة دلالته، ووضوح كلماته، والموقف خطير فهو تهديد بميلاد قوة عالمية جديدة، وإن أخذت الطابع السلمي في دعوتها، ولكن جرأتها على توجيه الرسل والكتب للملوك في حد ذاته تصريح صارخ، بأنَّ زمن الإسلام قد أهلَّ ومُلك العرب قد آن أوانه، لذا لما جاء رسول الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتاب، لم يمزق "هرقل" الكتاب، كما فعل "كسرى" الذي عاقبه الله بفعله ،فمن مزق الكتاب مزق الله ملكه ومن حفظه حفظ الله ملكه، لتبقى سنة المدافعة مع الروم كلما كُسر قرن نبت قرن آخر، ليكون على الطرف الآخر: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ تَعَالَ صَلِّ لَنَا فَيَقُولُ لَا إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ"[مسلم عن جابر].
ففعل "هرقل" يدل على عقلانية متناهية وحلم وأناة وهدوء وروية... بمجموع روايات، عن عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ...
[ هل أراد هرقل أن يتعرف على صاحب الرسالة الجديدة؟ أم هل أراد أن يستوثق من صدق الرجل؟ أم هل أراد أن يتحرى عنه؟ ربما يكون ذلك، وربما يكون غيره، لأن "هرقل" جمع فريقين:
الأول: أقرب القوم لهذا الرسول.
الثاني: عظماء الروم.
فماذا أراد؟
لو كان ما طرحناه من بحث واستفسار وتنقيب لكان الأمر في دائرة الخصوصية، قبل التعميم، يستوثق بنفسه، ثم يلقي ما عنده على من عنده، كما حدث من قبل مع ملكة سبأ عند وصول الكتاب إليها، فإنها استوثقت ثم أرسلت لعظمائها، فماذا أراد بجمع الفريقين؟
الذي يظهر وهوَ مَنْ هوَ دهاءً وذكاءً، أراد أن يُورط عظمائه مع "أبي سفيان" فيما يريد هو، فأراد أن يصل "أبو سفيان" لما يريد، لا أن يوصله لما يُريد، بمعنى: طريقة الإلقاء وصيغة الأسئلة توريط لأبي سفيان أكثر منها بحث، فهي أسئلة لا تحتمل أكثر من حروف، نعم أو لا، دون تطويل أو تكثير، فألزم "هرقل" "أبو سفيان" أن يطرح صفات في رجل، نتيجة الأسئلة أنَّ صاحب هذه الصفات، يكون نبي...
ومن زاوية أخرى أراد أن يُعلم القوم أنه لم يفبرك الموقف، ولم يخترعه، بل أشهدهم أنه أرسل مَنْ يأتي بقوم من العرب... مِنْ قوم الرجل، وها هم يسمعون الأسئلة ويستمعون للأجوبة المختصرة والمركزة، والتي ألجأت "أبو سفيان" لزاويةٍ حشره فيها "هرقل"، فاضطر لأن يخضع لما أراده "هرقل"، وهاتان ضربتان في مقتل، فلم يجد "أبو سفيان" مفراً من الاعتراف بذكاء هرقل أولاً، ثم قَالَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ"...
- فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا.
وهنا مواقف:
الأول: أراد هرقل أن يستوثق عن الرجل من أقرب الناس إليه، ومن قواعد التحديث أن أهل البلد أدرى ببلدهم، فكيف لو كان من الأقرب نسباً؟
هذا أدعى لأن يعرف السائل حقائق المسئول عنه، بدقائق المعرفة، وجزئيات العلم، كتاريخ فصول الحياة من الصغر، بل ومن قبل المولد، ثم متابعة مراحل الحياة: مخرجه ومدخله، مطلعه ومنزله، ومراقبة إمارات التغير نتيجة لتأثير المجتمع والمحيط عليه، سواء كانت موروثة أو مكتسبة كالشجاعة والصدق والأمانة والكرم وغيرها من الصفات الحميدة التي تتفاخر بها العرب دائما، وهذا أدعى ألا يُخدع السائل والباحث، ولكن ربما يُوالى القريب قريبه، ويتغاضى عن عيوبه، لاحتمالية أن يكون المسئول ممن يتبع الرجل، أو ممن يؤمن بأفكاره ومعتقداته، مما يمكنه من اتخاذ الحديث باباً لإيصال رسالة أخرى، ولكن "هرقل" نظر للمسألة من زاوية أخرى جد مهمة وخطيرة، وهي...
الموقف الثاني: أقارب الرجل قد يتهموه بمثالب وعيوب، تقدح في شخصه، وتُنقص من قدره، بل هذا مطرد حتى في أمة الإسلام، فعند مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ"، وفيه عن أَبَي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ".
وهذا ذكاء متناهي من "هرقل" فمن المحال أن يطعن القريب في شرف قريبه، لأنه يمسه أيضاً، فالطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني الطعن في نسب "أبو سفيان" أيضاً، فلا يستطيع "أبو سفيان" أن يُلحق العار بالرسول فيُصيبه بعضه، كما هي عادة الغريب –على شناعتها-، وليأمن "هرقل" كذب الرجل فيما يدعيه ظهر ذكاءه فيما فعل بعد...
الموقف الثالث: إستهل هرقل قوله بلفظ "يزعم" وهي كلمة تستخدم في الكذب غالباً، فأراد هرقل ألا يُظهر لأبي سفيان أنه يُصدق الرجل، بل ألقاها بوجهه، بكلمة تحمل مدلول التكذيب، ليستخرج منه خبايا نفسه ومكنون صدره، و"هرقل" بكلمته لم يُخطئ، ولم يَكذب أو يُكذب، بل حمل الكلمة على مدلول أراده، وهي تحتمل المعنيين.
عند أبي داود وصححه الألباني في الصحيحة: عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا"، وفي مسلم: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ...".
قال النووي في شرحه على مسلم: وَقَوْله: (زَعَمَ رَسُولك أَنَّك تَزْعُم أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَرْسَلَك، قَالَ: صَدَقَ ) فَقَوْله: زَعَمَ وَتَزْعُم مَعَ تَصْدِيق رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ زَعَمَ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالْكَذِبِ وَالْقَوْلِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ، بَلْ يَكُون أَيْضًا فِي الْقَوْل الْمُحَقَّق، وَالصِّدْق الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَقَدْ جَاءَ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْأَحَادِيث وَعَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: زَعَمَ جِبْرِيل كَذَا وَقَدْ أَكْثَرَ سِيبَوَيْهِ وَهُوَ إِمَام الْعَرَبِيَّة فِي كِتَابه الَّذِي هُوَ إِمَام كُتُب الْعَرَبِيَّة مِنْ قَوْله: زَعَمَ الْخَلِيل، زَعَمَ أَبُو الْخَطَّاب، يُرِيد بِذَلِكَ الْقَوْلَ الْمُحَقَّقَ، وَقَدْ نَقَلَ ذَلِكَ جَمَاعَات مِنْ أَهْل اللُّغَة وَغَيْرهمْ، وَنَقَلَهُ أَبُو عُمَر الزَّاهِد فِي شَرْح الْفَصِيح عَنْ شَيْخه أَبِي الْعَبَّاس ثَعْلَب عَنْ الْعُلَمَاء بِاللُّغَةِ مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ) وكذا قال ابن حجر في الفتح].
- فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ...
[لأن الخطب جلل، لم ينظر "هرقل" لتقرير يُرفع إليه بشأن الرجل، بل أراد أن يستوثق بنفسه من دقائق المسائل، لئلا يخرج عن العدل في حكمه، والحق في قضاءه، فجاء بهم في محضره، وفي المجلس عظماء القوم، ليشهدهم على القول، فلا ينقله أيضاً، بل يسمعوه معه، وهذا من باب الإلزام وإقامة الحجة على الجميع، فلا ينفرد بقرار ولا يستقل برأي...
وجاء بالرجل فأدناه منه، وجعل أصحابه خلفه، لئلا يستحيوا من نظره إذا كذب فلا يكذبوه، بل ينظر إليهم "هرقل" فيعرف من حركاتهم، وطرائف أعينهم، ما يجول في صدورهم، ساعتها لن يستطيع "أبو سفيان" حتى مجرد النظر ليعلمهم بمراده، أو يحذرهم من تكذيبه، وهذا ذكاء وفطنة من "هرقل"، وإحراج ما بعده إحراج لرجل لا يتخذ الكذب سبيلا، بل عربيته وفصاحته خير ما ينجيه، ولو كان في محضر عظماء الروم....
ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ...
[وهنا يظهر ذكاء هرقل وحنكته السياسية في المناورة والحوار، فإنه أمام خيارين ليتعرف الصدق من الكذب:
الأول: إما أن يُرسل رسله وعيونه ليتحسس أخبار الرجل عن طريق السؤال والبحث.
الثاني: أو يبحث في مملكته عمن يختصر له الطريق، ويجلب من التجار أو الزوار أقرب العرب للرجل، وهذا ما اختاره، وهنا يكون أمامه خيارات ثلاثة:
الأول: إما أن يسمع رواية القوم بشأن إبنهم أو قريبهم ثم يُرسل رسله، ليستوثق من قولهم.
الثاني: أو يسمع الرواية من كل فرد، كلٌ على حده، ثم يقارن بين الروايات، ويتبين الصدق من الكذب بتضافر الروايات، وتواطئها على واحدة.
الثالث: أو يستمع لرواية سيد القوم وأقربهم للرجل، في محضر الجميع، ولكن بطريقة يتبين بها الصدق عن طريق الإقرار والإجماع السكوتي على القول، وحتى يأمن "هرقل" كذب الرجل على عدوه، لاحتمال الموافقة والمخالفة، والعدو لا تؤخذ بشهادته، كان لابد من الاستوثاق، وهذا ما اختاره، وهذا أقصر طريق لأخذ الإجماع من القوم على صدق القائل، وهو حجة أيضاً على عظماء الروم الذين يحضرون المجلس].
- فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ...
[ وحقق "هرقل" ما يصبو إليه، بناءً على معرفته بصفات العرب، لأن العرب بل كل أمة تأنف وتتأفف وتعيب الكذب، وهو مُنقص للقدر والمروءة من الآحاد فكيف لو كان من السيد، وهذا معروف بالطبع والعرف والشرائع السابقة، ومع أن الموضع يسمح لأبي سفيان أن يكذب، ولو كذب لكان له عذر عن المراجعة، بل وربما صوبوا موقفه، وأخذوه قاعدة في الكذب على الأعداء، ولكن "أبو سفيان" أبى أن يؤثر عليه الكذب أو يُحسب عليه الموقف...
ومع ثقة "أبو سفيان" بأن القوم لن يكذبوه، بدليل قوله:" يأثروا" ولم يقل: يكذبوني، لتيقنه من موضعه عندهم وموقعهم فيه، ثم لعداوتهم المشتركة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه ترك ذلك أنفة واستحياءً من الحديث بعد مرجعهم، فيتداول العرب الحدث دون أسبابه أو تداعياته، فيُسمى عند السامع كذابا، وقد جاء في رواية ابن إسحاق قول أبو سفيان: فَوَاَللَّهِ لَوْ قَدْ كَذَبْت مَا رَدُّوا عَلَيَّ، وَلَكِنِّي كُنْت اِمْرَأً سَيِّدًا أَتَكَرَّم عَنْ الْكَذِب، وَعَلِمْت أَنَّ أَيْسَر مَا فِي ذَلِكَ إِنْ أَنَا كَذَبْته أَنْ يَحْفَظُوا ذَلِكَ عَنِّي ثُمَّ يَتَحَدَّثُوا بِهِ، فَلَمْ أَكْذِبهُ].
ولننتقل الآن إلى أسئلة "هرقل" مع إجابات "أبو سفيان"، ثم نأتي بالتحليل وسبب السؤال، ومراد "هرقل" من سؤاله...
قال أبو سفيان: ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟
قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ.
(فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا)
[قد يكون هذا السؤال بناءً على علم مُسبق من "هرقل"، فمن المعلوم أن الرسل من بعد "لوط" عليه السلام يُرسلون في منعة وعزة من أقوامهم، وما يكون ذلك إلا إذا كان النبي من سادة قومه وأشرافهم، فليس للوضيع هذه المنزلة، عند الترمذي عن أبي هريرة وحسنه الألباني: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى لُوطٍ إِنْ كَانَ لَيَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ إِذْ قَالَ: "لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ"، فَمَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ نَبِيًّا إِلَّا فِي ذِرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ).
لذا فمن الممكن أن يكون علمه من الكتب السابقة، أو قد يكون جاء ذكره في كتبهم أو على لسان أنبيائهم، قد يكون هذا وقد يكون غيره، وهو أن شرف النسب يمنع صاحبه من انتحال الدنئ من الصفات وكفى بالكذب دناءة، وشرف النسب أمنع لصاحبه من لبس ثياب الزور، وهو أدعى أن يكرم صاحبه عن مواطن الشُبه، وهو أجل من أن يوقع صاحبه في مواقع الزلل، لذا فمَنْ شَرُفَ نسبه، شَرُفَ اسمه، ومَنْ شَرُفَ اسمه أحب معالي الأمور، وتعالى عن سفسافها... وليُعلم من بعد أن أشراف الناس هم المقدمون في السيادة والريادة، ومع ذلك فلا ينقص من قدر الرجل جهل نسبه، أو وضاعة قومه، ففي مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)، ألا ترى عم الرسول في النار، وبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي في الجنة...
قال ابن بطال شارح البخاري: وكذلك الإمام الذي هو خليفة الرسول ينبغي أن يكون من أشرف قومه].
قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟
قُلْتُ: لَا.
(وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ)
[ وهذا موضع فيه التحري عن الرسالة والنبوة تحديداً، لما سيأتي في سؤاله من بعد عن ملك آبائه، ويحتمل أنه استفسار عن الملك والنبوة في الآباء، كما هو حال أنبياء بني إسرائيل، فيرتبط السؤال بما بعده، ويُحتمل أنه عام في كل سابق من الآباء والأجداد وغيرهم، والسؤال عن ملك الآباء تخصيص لما عُمم هنا...
والسؤال يبحث في جزئية مهمة جداً ألا وهي نفي السابق، قال ابن حجر في الفتح: وَاسْتَعْمَلَ قَطُّ بِغَيْرِ أَدَاة النَّفْي وَهُوَ نَادِر، وَمِنْهُ قَوْل عُمَر "صَلَّيْنَا أَكْثَر مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنهُ رَكْعَتَيْنِ"، وَيُحْتَمَل أَنْ يُقَال إِنَّ النَّفْي مُضَمَّن فِيهِ كَأَنَّهُ قَالَ: هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْل أَحَد أَوْ لَمْ يَقُلْهُ أَحَد قَطُّ.
وأبو سفيان أهل عربية وفصاحة، وهو يعلم جيداً ماذا يعني النفي هنا، لذلك حين يقول: لا، فهي لا، أي أنه لم يسبقه أحد بهذا القول، ولننتبه للسؤال: فليس هو بصيغة: فهل من آبائه من رسول؟ كما هو حال السؤال عن الملك، والسؤال عن نبوة الآباء ليست بذي قيمة، فما طالب أحد من قبل بالنبوة لمجرد أن أباه نبي...
لذا كان سؤال هرقل حول مبتغي المطلب السامي، والشرف العالي، فإنه إن لم يتأس بسابق له، ولم يسر على سلف له، فهو أدعى لأن يُصدَّق، لبعد مظنة التقليد، وأبرأ للساحة من التأسي بمن سبق].
قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟
قُلْتُ: لَا.
(وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ).
[وهذا تدقيق في النسب، وسبر لأغواره، والسؤال ليس عن النبوة في الآباء، فلو كان كذلك لتحتم على أبي سفيان أن يقول نعم، فلا خلاف على أن نسب الرسول صلى الله عليه وسلم يصل لإسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، ولقد قال شيخ بني عامر من قبل كما ذكره ابن هشام: "وَاَلّذِي نَفْسُ فُلَانٍ بِيَدِهِ مَا تَقَوّلَهَا إسْمَاعِيلِيّ قَطّ".
والسؤال تحصيل حاصل بشأن المُلك ضروري في الرسالة، فليس الملك مشهوراً عند العرب، ليتقاتل عليه الرجال، ويطلبه أحد من بعد، وقد كان اتفق أشراف قريش على السيادة والرفادة والسقاية، هذا أعظم أمانيهم، أما الملك العام، فما كان في العرب، اللهم إلا ما سبق من محاولة "كليب"، و"قصي" من قبل...
ومع ذلك فلا ضير من التنقيب عن دعوى التقليد والتأسي بمن سبق، فمن المعهود أن يطلب الأبناء ملك الآباء، فإذا انتفت هذه الشبهة لم يبق إلا القول الواحد: رجل فرد صاحب رسالة سماوية يريد حمل الناس عليها، فليس من المعهود تاريخاً أن يكون العظماء أو أبناء الملوك هم الرسل، فقد عاب الله على الكافر هذا الفهم حين قالوا: "وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ"، فقال: "أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا"...
وهذا مطرد في كل أصحاب الدعوات والأفكار، وهو دليل على نفي التقليد عن الجديد، ومن كان فرداً في دعواه، كان أتباعه أقوى ممن يطلب ملك أبيه، بل وهذا أنشط للأتباع، فانتفاء شبهة ملك الآباء يجعل من الرجال أتباع للفكرة العامة، فلا يدخل عليهم الخصوم من باب الطعن في القائد، وربما هذا ما حدث مع أنباء "علي" رحمهم الله ورضي الله عنهم وعن أبيهم، حين قتالهم لبني أمية...
قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟
فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ.
(وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ).
[ لماذا السؤال عن الأتباع شرفاء كانوا أم من الضعفاء؟
قال ابن حجر: وَالْمُرَاد بِالْأَشْرَافِ هُنَا أَهْل النَّخْوَة وَالتَّكَبُّر مِنْهُمْ، لَا كُلّ شَرِيف، حَتَّى لَا يَرِدُ مِثْل أَبِي بَكْر وَعُمَر وَأَمْثَالهمَا مِمَّنْ أَسْلَمَ قَبْل هَذَا السُّؤَال، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق: (تَبِعَهُ مِنَّا الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين، فَأَمَّا ذَوُو الْأَنْسَاب وَالشَّرَف فَمَا تَبِعَهُ مِنْهُمْ أَحَد)، وَهُوَ مَحْمُول عَلَى الْأَكْثَر الْأَغْلَب.
لقد عاب قوم على نوح على نبيهم من قبل أتباعه فقالوا: "وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا..."وجاء الرد من نوح عليه السلام: "وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ[نعم: تجهلون أن قوة الأتباع من قوة الدعوة وليس العكس، فالدعوة هي التي تورث الأتباع قوة وشدة وصلابة في الحق، سلوا عن ذلك بلال تحت الصخرة وخباب على الصليب، وياسر وسمية ومصعب]، "وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ" [قد بلغت ما أمرني، والله أعلم حيث يضع هدايته ولست مأموراً أن أوافق على الأتباع أو أطردهم، بل عليَّ الرسالة وعلى الله الهداية، ولو كان الأمر من عند النفس لرغبت بقوة الأتباع وشدة بأسهم وعز سلطانهم، ولكنها دعوة الله، والله ناصر دينه لا محالة وهو الغني سبحانه عن الرجال]، "...وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ..."[فان صفة الملوك استقطاب الأقوياء ليحافظوا على سلطانهم، ويقاتلوا دونهم، ولكن الأمر هنا يختلف جذرياً، فكفى بالله ناصراً ومعيناً، ليعلموا " أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا"]، "...وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ" [هذه هي دعوة الرسل، تقبل الأتباع دون النظر للأنساب، أو المكانة العالية والمنزلة الراقية، وفي حديث الأعمى لنا هداية ونور حين عاتب الله نبيه على إعراضه عن ابن أم مكتوم، قال القرطبي: روى أهل التفسير أجمع أن قوماً من أشراف قريش كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد طمع في إسلامهم، فأقبل عبد الله بن أم مكتوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع عبد الله عليه كلامه، فأعرض عنه، ففيه نزلت هذه الآية.
قال ابن كثير: ومن هاهنا أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يخص بالإنذار أحدًا، بل يساوى فيه بين الشريف والضعيف، والفقير والغني، والسادة والعبيد، والرجال والنساء، والصغار والكبار. ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
قال ابن بطال في شرح البخاري: فإن أشراف الناس هم الذين يأنفون من الخصال التي شرف صاحبهم عليهم بها، ويُحَطُّ شرفهم إلى أن يكونوا تابعين في أحوال الدنيا، فلذلك قال: إن كان يعاديه أشراف الناس فهي دلالة على نبوته، وأما ضعفاؤهم الذين لا تتكبر نفوسهم عن إتباع الحق حيث رأوه ولا يجد الشيطان السبيل إلى نفخ الكبرياء في نفوسهم، فهم متبعون للحق حيث سمعوه لا يمنعهم من ذلك طلب رئاسة ولا أنفة شرف
وقال ابن حجر: مَعْنَاهُ أَنَّ أَتْبَاع الرُّسُل فِي الْغَالِب أَهْل الِاسْتِكَانَة لَا أَهْل الِاسْتِكْبَار الَّذِينَ أَصَرُّوا عَلَى الشِّقَاق بَغْيًا وَحَسَدًا كَأَبِي جَهْل وَأَشْيَاعه، إِلَى أَنْ أَهْلَكَهُمْ اللَّه تَعَالَى، وَأَنْقَذَ بَعْد حِين مَنْ أَرَادَ سَعَادَته مِنْهُمْ].
قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟
قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ.
(وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ)
[والزيادة دليل على صحة المعتقد، وعلى صواب الدعوة، فالأمر مهول والمرتقى صعب، وهو يعني القتال دون الدعوة، لقد جاء من قول الأنصار في بيعة العقبة ما يدل على فهمهم للمرحلة القادمة بكل تبعاتها، وحين قام الأنصار ليبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم "أَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَهُوَ أَصْغَرُ السّبْعِينَ فَقَالَ رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ إنّا لَمْ نَضْرِبْ إلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيّ إلّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ وَإِنّ إخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافّةً وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ وَأَنْ تَعَضّكُمْ السّيُوفُ فَإِمّا أَنْتُمْ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللّهِ وَإِمّا أَنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ لَكُمْ عِنْدَ اللّهِ فَقَالُوا: يَا أَسْعَدُ أَمِطْ عَنّا يَدَك فَوَاَللّهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلَا نَسْتَقِيلُهَا"[أحمد وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وجود إسناده ابن كثير على شرط مسلم في السيرة، وكذا ابن حجر في الفتح عن جابر].
والمقصود أن العرب كانت تعلم جيداً ماذا تعني دعوة الإسلام، وماذا يعني الانتماء لهذا الدين، لذلك فدخولهم في عقد الإسلام يعني تخليهم عن كل ارتباطات وموروثات الجاهلية، لذلك فالزيادة مرتبطة بالإيمان، وهى حالة الانتقال الكلية من الجاهلية للمنهج الجديد، جاء في الروض الأنف للسهيلي قول المثنى أحد رؤساء وفد العراق: قَدْ سَمِعْت مَقَالَتَك يَا أَخَا قُرَيْشٍ، وَالْجَوَابُ هُوَ جَوَابُ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ فِي تَرْكِنَا دِينَنَا، وَاتّبَاعِنَا إيّاكَ لِمَجْلِسِ جَلَسْته إلَيْنَا لَيْسَ لَهُ أَوّلٌ وَلَا آخِرُ وَإِنّا إنّمَا نَزَلْنَا بَيْنَ صَرَيَانِ الْيَمَامَةِ وَالسّمَاوَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: "مَا هَذَانِ الصّرَيَانِ"؟ فَقَالَ: أَنْهَارُ كِسْرَى، وَمِيَاهُ الْعَرَبِ، فَأَمّا مَا كَانَ مِنْ أَنْهَارِ كِسْرَى، فَذَنْبُ صَاحِبَيْهِ غَيْرُ مَغْفُورٍ وَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَأَمّا مَا كَانَ مِنْ مِيَاهِ الْعَرَبِ، فَذَنْبُهُ مَغْفُورٌ وَعُذْرُهُ مَقْبُولٌ وَإِنّمَا نَزَلْنَا عَلَى عَهْدٍ أَخَذَهُ عَلَيْنَا كِسْرَى أَنْ لَا نُحْدِثَ حَدَثًا وَلَا نُؤْوِيَ مُحْدِثًا، وَإِنّي أَرَى هَذَا الْأَمْرَ الّذِي تَدْعُونَا إلَيْهِ هُوَ مِمّا تَكْرَهُهُ الْمُلُوكُ فَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ نُؤْوِيَك وَنَنْصُرَك مِمّا يَلِي مِيَاهَ الْعَرَبِ، فَعَلْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: "مَا أَسَأْتُمْ فِي الرّدّ إذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصّدْقِ، دِينَ اللّهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إلّا مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ".].
قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟
قُلْتُ: لَا.
(وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ)
[ والسؤال عن سهولة الدخول والخروج، وهو دليل على التبصر في الحياة واختيار الصعب في سبيل الوصول للمراد، ومن كان هذا حاله ووصفه، فمن الممتنع أن يرتد عن دينه ولو أصابه في سبيل ذلك شتى أنواع العذاب، فهو يكابد الأهوال في سبيل نيل المُبتغى، وأبو سفيان شاهد غير متهم لو سألناه عما لاقاه بلال من أمية بن خلف؟
لقال: يكفيك حاله منبئاً عن مقاله، وأحيلكم على صخر وحر وبطحاء مكة لتخبركم...
وكفى بأبي سفيان في هذا الموضع شاهداً، فإنها بإقرار من حضر، أن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لا يتركوه، وهو نفي ارتداد أحد من الصحابة بعد إسلامه...
ولفظ (سخطة) جاءت في موضعها الدقيق، فهي قيد أخرج به "هرقل" المُكره، أو من اضطر لقول كلمة الكفر تحت السياط أو في العذاب كعمار بن ياسر رضي الله عنه...
وأخرجت اللفظة أيضاً من ارتد لرغبة دنيوية، أو لحظ نفسي، أو شبهة وشكا، لذا فلم يعتبر "أبو سفيان" من ارتد كعبيد الله بن جحش الذي هاجر للحبشة ثم تنصر، أو كعبد الله بن أبي سرح، أو ما رواه البخاري عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَادَ نَصْرَانِيًّا فَكَانَ يَقُولُ مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ فَقَالُوا هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ فَقَالُوا هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الْأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ فَأَلْقَوْهُ".
لم يعتبر "أبو سفيان" هذه الحوادث ولم يلق لها بالا، على فرض أنهم ارتدوا قبل موقف أبي سفيان مع هرقل، فقد جاء في سبل الهدى والرشاد أن "عبد الله" كان موجوداً في قريش وأشار عليهم حين أعانت قريش بكر على خزاعة...
ومع أن هذا مدخل قوي لأبي سفيان ليطعن في الدعوة، وها هي كلمة تمكنه من النيل من الدعوة وصاحبها، ولكن حين أهملها "أبو سفيان" فهي تعني أنها أقل من أن يوردها في موضع التشكيك، فيقال عن عبيد الله بن جحش أنه لم يرجع لدين قريش بل دخل في النصرانية، لشهوة خالطته في الحبشة، وأما عبد الله بن أبي سرح، فقد قامت عنده شبهة المشابهة بين قوله وقول الله، لذا فلم يرتد سخطة لدينه، ولا طعناً في الرسالة بل دخل عليه الشيطان من باب مشابهة القول الكلي الرباني مع لغة وتراكيب العرب، مثل خاتمة القول (عزيز حكيم) و(غفور رحيم)، وقد ذكره المفسرون في قوله تعالى: "فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ".
قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟
قُلْتُ: لَا.
(وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ).
[ هذا ما يسميه العلماء القياس الجلي أو القياس الأولوي، وهو نفي الأقل ليُستدل به على نفي الأكثر، كما في قوله تعالى: "وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا"، فلما نهى الله عن كلمة "أف" عُلم أنه نهي عما هو أكبر من ذلك، وهنا نفي الكذب على الناس ينفي الكذب على رب الناس، والعكس غير صحيح...
وهذا لزوم ما يلزم من صفات الرجل، فمن كانت سجيته الصدق ما كان ليذره بعد الهداية، ومثله كل الصفات الطيبة كالكرم، والشجاعة وحسن الجوار...
ومن كان هذا حاله قبل النبوة، فمن المحال أن ينتقل لسيئ الأخلاق ورديئها بعد الرسالة... وهو دليل على ثبات الصفات إلا في النادر، فمن عُرف بالصدق في طبعه، أمن عليه الكذب، ومن كان العكس سمته، كان أحرى أن يكذب، ومن يستقبح ويستشنع الكذب على العباد، أحرى ألا يكذب على رب العباد، وآيات الكتاب وأحاديث السنة تموج موج البحار بالحث على الصدق والتحذير من الكذب، وهي من شهرتها تغني عن ذكرها، يكفي منها ما في الصحيحين واللفظ للأخير عن عبد الله قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "... وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا".
فما كان معيباً عند العرب و من بعد المسلمين مثل الكذب، والرسول معروف بهذه الصفة قبل نبوته، وما طعن فيه أحد بذلك من قبل، بل أنهم عجبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبرهم أنه أُسري به إلى بيت المقدس في ليلة، لأنهم لم يعهدوا من رسول الله كذبا، لذا جاءوا لأبي بكر فقالوا: هل لك إلى صاحبـك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟، قال: أو قال ذلـك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟! قال: نعم، إني أصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غَدْوَةٍ أو رَوْحَةٍ، فلذلك سُمِّي أبو بكر الصديق" [الحاكم وصححه الألباني في الصحيحة]، وهذا تعجب واستنكار لما علموه من أخلاقه صلى الله عليه وسلم، فما جربوا عليه كذباً قط، ليكذبهم اليوم بهذا الخبر...
وفي شهادة خزيمة بن ثابت للرسول صلى الله عليه وسلم ضد الأعرابي في قضية المبايعة، جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين، قال ابن القيم في أعلام الموقعين: (وهذا التخصيص إنما كان لمخصص اقتضاه, وهو مبادرته دون من حضر من الصحابة إلى الشهادة لرسول اللهصلى الله عليهوسلمأنه قد بايع الأعرابي, وكانفرض على كل من سمع هذه القصة أن يشهد أن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقد بايع الأعرابي, وذلك من لوازم الإيمان والشهادةبتصديقهصلى الله عليه وسلم، وهذا مستقر عند كل مسلم, ولكن خزيمة تفطن لدخول هذه القضية المعينة تحت عموم الشهادة لصدقه في كل ما يخبر به; فلا فرق بين ما يخبر به عن الله وبين ما يخبر به عن غيره في صدقه في هذا وهذا, ولا يتم الإيمان إلا بتصديقه في هذا وهذا; فلما تفطنخزيمةدون من حضر لذلك استحق أن تجعل شهادته بشهادتين).
ثم إن سؤال هرقل بهذه الصيغة: واستعماله لكمة "تتهمونه" دون التصريح المباشر: هل يكذب؟ هو عدول عن نفس الكذب إلى التهمة، فإذا انتفت التهمة انتفى سببها، وبقي الأصل، والأصل الصدق، فكان تقرير الأصل، أجمع وأوعى من التدليل على الصدق، بمعنى أن هرقل، أحال "أبو سفيان" لإقرار الأصل في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وألزمه بتقرير الصدق كصفة أصلية، والطارئ هو التهمة، والتهمة من عندكم، فإذا نفاه "أبو سفيان"، فلم يعد لها قيمة ووجب الرجوع للأصل وهو البراءة منها].
قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟
قُلْتُ: لَا...
(وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ)
[ وتأخير الغدر على الكذب مع أنه جزء منه فائدة، فتقديم الخاص أو تأخيره يفيد الاهتمام، كما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "...فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا..."، فتأخير الهجرة للمرأة مع أنها جزء من إصابة الدنيا، دليل على الاهتمام بقضية فتنة المرأة...
قال ابن بطال: وأما سؤاله عن الغدر، فإن من طلب الرئاسة والدنيا خاصة لم يسأل عن أي طريق وصل إليها، ومن طلب شرف الآخرة والدنيا لم يدخل فيما يعاب ولا فيما يأثم فيه.أ.هـ
وقال النووي: وَأَمَّا سُؤَاله عَنْ الْغَدْر فَلِأَنَّ مَنْ طَلَبَ حَظّ الدُّنْيَا لَا يُبَالِي بِالْغَدْرِ وَغَيْره مِمَّا يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى ذَلِكَ، وَمَنْ طَلَبَ الْآخِرَة لَمْ يَرْتَكِب غَدْرًا وَلَا غَيْره مِنْ الْقَبَائِح.أ.هـ.
لا يغدر لأن الغدر ليس من صفة الرجال، وكيف يكون وهو المُحذر صلى الله عليه وسلم أمته في غير حديث أن صفة المنافق: "... وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ " كما في البخاري ومسلم عن ابن عمر، بل في البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ: اللَّهُ ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ..."].
- وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا...
[ بل يجب أن تعلم ما سيفعل فيها، فليس رسول الله ممن يغدر، وهو الداعي لأمته ورعيته للوفاء بالعهود والعقود، وقد كان من وصاياه صلى الله عليه وسلم لأمراء جيشه كما رواه سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عند مسلم: قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا..."
ولا خير في منهج لا يحوله حُماله واقعاً، لذا جاء عند أبي داود وصححه الألباني عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ وَكَانَ يَسِيرُ نَحْوَ بِلَادِهِمْ حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْعَهْدُ غَزَاهُمْ فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَوْ بِرْذَوْنٍ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لَا غَدَرَ فَنَظَرُوا فَإِذَا عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَشُدُّ عُقْدَةً وَلَا يَحُلُّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ"، هذه هي أخلاق النبوة، ورجال الرسالة...].
- قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ.
[ قالها "أبو سفيان" لعلها تجد لها صدى عند "هرقل"، ولعلها توقع في نفسه شيئاً، فلم يُلق لها "هرقل" بالاً، ولم يعتبرها، وكأنه لم يسمعها، أو كأنه أراد أن يغض الطرف عنها، فمراده أن يعلم ما كان وما هو كائن، أما ما سيكون فليس هو مراده في هذا المجلس، وإذا كان عنده مقام التسوية بين النقض والالتزام بالعهد، فالواجب الترجيح بما هو مُستقرأ من أخلاقه وعادته، ومن لا يكذب فمن الطبيعي ألا يغدر...
قال ابن حجر: وَلَمَّا كَانَ الْأَمْر مَغِيبًا - لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَل - أَمِنَ أَبُو سُفْيَان أَنْ يُنْسَب فِي ذَلِكَ إِلَى الْكَذِب، وَلِهَذَا أَوْرَدَهُ بِالتَّرَدُّدِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُعَرِّج هِرَقْل عَلَى هَذَا الْقَدْر مِنْهُ، وَقَدْ صَرَّحَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته عَنْ الزُّهْرِيّ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ " قَالَ فَوَاَللَّهِ مَا اِلْتَفَتَ إِلَيْهَا مِنِّي"، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة مُرْسَلًا: "خَرَجَ أَبُو سُفْيَان إِلَى الشَّام - فَذَكَرَ الْحَدِيث، إِلَى أَنْ قَالَ - فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: هُوَ سَاحِر كَذَّاب، فَقَالَ هِرَقْل: إِنِّي لَا أُرِيد شَتْمه، وَلَكِنْ كَيْفَ نَسَبه - إِلَى أَنْ قَالَ - فَهَلْ يَغْدِر إِذَا عَاهَدَ ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ يَغْدِر فِي هُدْنَته هَذِهِ، فَقَالَ: وَمَا يَخَاف مِنْ هَذِهِ ؟ فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي أَمَدُّوا حُلَفَاءَهُمْ عَلَى حُلَفَائِهِ، قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ بَدَأْتُمْ فَأَنْتُمْ أَغْدَر"].
قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟
قُلْتُ: نَعَمْ.
(وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ فَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ فَعَلَ).
[ أراد هرقل أن يستوثق من حالة الإسلام، هل هي سلمية أم حربية، فعنده رسول الرسول ومعه الكتاب، فيه الدعوة وتبطين أمر في غاية الدقة والحساسية، "أسلم تسلم"، فإذا لم يُسلم فماذا سيحدث معه، هو ما أراده هرقل بسؤاله، يعني هل يقاتل هذا النبي أعدائه؟
فكان السؤال، ويتعلق به أمور:
الأول: أراد هرقل أن يستعلم حال الرجل، أهو من بدأ بقتال قومه، أم هم من بدأه، لذلك سبقت كلمة "قاتلتموه" عكسها، وطبيعة طُلاب الدنيا، وعبادها أن يخرجوا على أقوامهم ويقاتلونهم بل ويقتلونهم شر قتلة، أما من كان همه دين الله ورسالة الإسلام، فهو الحريص على دخول الناس في الدين بالحكمة والموعظة الحسنة، وليس بالسيف، وما شُرع السيف إلا للممتنع عن الدخول في الإسلام أو الرضا بحكمه، فاستهلال هرقل بمقاتلة قريش للرسول ترجيح من طرفه، لنبوة الرسول، ولكنه ترجيح لطيف لا يشعر به "أبو سفيان" أو من حضر المجلس.
الثاني: التاريخ يشهد أن من يبدأ بالقتال هم أعداء الأديان، وما ذلك إلا لخوفهم على مناصبهم وكراسيهم، وجاههم وسلطانهم، وأن يتساوى العبد والسيد في الحقوق والواجبات، بل ويُقدم المتقدم ويسبق السابق على المتأخر، والأمر يظهر بالنتيجة والأثر، أخرج الطبراني والحاكم عن جَرِير بن حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، يَقُولُ: اجْتَمَعَ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ عِنْدَ بَابِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فِيهِمُ الْحَارِثُ بن هِشَامٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، وَسُهَيْلُ بن عَمْرٍو وَتِلْكَ الْعَبِيدُ، وَالْمَوَالِي مِنْ أَصْحَابِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ إِذْنُهُ فَأَذِنَ لِبِلالٍ، وَصُهَيْبٍ وَنَحْوِهِمَا، وَتَرَكَ الآخَرِينَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ، إِنَّهُ أَذِنَ لِهَذِهِ الْعَبِيدِ، وَتَرَكَنَا جُلُوسًا بِبَابِهِ لا يَأْذَنُ لَنَا، فَقَالَ سُهَيْلُ بن عَمْرٍو وَكَانَ رَجُلا عَاقِلا:"أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ أَرَى الَّذِي فِي وُجُوهِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ غِضَابًا فاغْضَبُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، دُعِيَ الْقَوْمُ ودُعِيتُمْ فَأَسْرَعُوا وأَبْطَأْتُمْ، أَمْ وَاللَّهِ لَمَا سَبَقْتُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْفَضْلِ أَشَدُّ عَلَيْكُمْ فَوْتًا مِنْ بابِكُمُ الَّذِي تَنَافَسْتُمْ عَلَيْهِ"، قَالَ الْحَسَنُ: لا يَجْعَلُ اللَّهُ عَبْدًا أَسْرَعَ إِلَيْهِ كَعَبْدٍ أَبْطَأَ عَنْهُ"، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أن الحسن لم يسمع من عمر.
الثالث: هل قاتلكم!
وهذا بحث دقيق في أصول الدعوة الإسلامية، هل فيها قتال؟ وهل أذن فيها بالحرب؟ وهل أعلنتم الحرب عليه ابتداءً، ثم عاملكم بالمثل؟ أم انطلق بتشريعه الخاص للقتال؟ وهل واجه اللكم بالبكم والصفع بالصفح، أم انتصر لدينه وللمستضعفين في الأرض؟
قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟
قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ.
(وَأَنَّ حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ تَكُونُ دُوَلًا وَيُدَالُ عَلَيْكُمْ الْمَرَّةَ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ الْأُخْرَى وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ).
[ إنها سنة الله التي جرت بالابتلاء لعباده، ثم تكون العاقبة لعباده المؤمنين، وبقدر البلاء والصبر يعظم الأجر، قال ابن بطال: ولئلا يخرج الأمر عن العادة، ولو أراد الله إخراج الأمر عن العادات لجعل الناس كلهم له متبعين، ولقذف في قلوبهم الإيمان به، ولكن أجرى الأمور على العادة بحكمة بالغة؛ ليكون فريق في الجنة، وفريق في السعير.].
قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟
قُلْتُ: يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ.
(وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ...).
[ وهذا استبيان يقوم على مرتكز الأمر: وهو شأن الأنبياء والرسل، أمر واحد لا يتعدد "اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ"، أمر بالعبادة ونهي عن الشرك، ودعوة لنبذ تقليد الآباء، ثم أوامر تفصيلية تختلف باختلاف الشرائع، كالصلاة، مع مجموع آداب وأخلاق كالصدق والعفاف...
إنها دعوة الأنبياء والرسل، مكارم الأخلاق ومحاسنها، والتحذير من مساوئ الأخلاق وقبيحها، وفي موقف مشابه بعد إرسال قريش من يأتي بالمهاجرين من عند النجاشي، عرضوا عليه ما يعيب أبناء الإسلام – بظنهم- من طعن في الآلهة وتسفيه للأحلام ومفارقة لدين الآباء والأجداد...
جاء وفد قريش يطلب المهاجرين، وقد رشى أساقفة النجاشي ليشيروا على ملكهم بتسليم الفارين، فعل ما وصفه عند الملوك العقلاء سليقة، فدعا وفد الإسلام فأتوا النجاشي قصره، "وَقَدْ دَعَا النّجَاشِيّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ سَأَلَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ مَا هَذَا الدّينُ الّذِي قَدْ فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا بِهِ دِينِي، وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْمِلَلِ ؟ قَالَتْ-أم سلمة راوية الحديث- فَكَانَ الّذِي كَلّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ كُنّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ وَيَأْكُلُ الْقَوِيّ مِنّا الضّعِيفَ فَكُنّا عَلَى ذَلِكَ حَتّى بَعَثَ اللّهُ إلَيْنَا رَسُولًا مِنّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إلَى اللّهِ لِنُوَحّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدّمَاءِ وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصّلَاةِ وَالزّكَاةِ وَالصّيَامِ - قَالَتْ فَعَدّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ - فَصَدّقْنَاهُ وَآمَنّا بِهِ وَاتّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللّهِ فَعَبَدْنَا اللّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرّمْنَا مَا حَرّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا، فَعَذّبُونَا، وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا، لِيَرُدّونَا إلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللّهِ تَعَالَى، وَأَنْ نَسْتَحِلّ مَا كُنّا نَسْتَحِلّ مِنْ الْخَبَائِثِ" قال الهيثمي في مجمع الزوائد:رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق وقد صرح بالسماع، وصححه الألباني في فقه السيرة].
فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ.
[ علم بعلمه وفكره ونظره وما جرى بين يديه، أن الزمان قد أهل بميلاد دين الإسلام، وملك المسلمين، فيا سعادة من اتبع ويا شقاوة من خالف، وعلم "أبو سفيان" حقيقة الخوف الذي ألمَّ بالروم من الإسلام، (فَقُلْتُ – أي أبو سفيان"- لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ).
ويبدو أن كل العقلاء قد اجتمعت كلمتهم، واتحدت مشاربهم على صحة الدعوى، وعلى حتمية انتصار الإسلام، وعلى أن المستقبل لهذا الدين، فقد علمها النجاشي والأوس والخزرج، وها هو ابن هشام يورد عن ابن إسحاق ما يبشر بما قاله "هرقل" و"أبي سفيان" فقال: وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ أَنّهُ أَتَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ - يُقَالُ لَهُ بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ: وَاَللّهِ لَوْ أَنّي أَخَذْت هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، لَأَكَلْتُ بِهِ الْعَرَبَ، ثُمّ قَالَ أَرَأَيْتَ إنْ نَحْنُ بَايَعْنَاك عَلَى أَمْرِك، ثُمّ أَظْهَرَك اللّهُ عَلَى مَنْ خَالَفَك، أَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِك؟ قَالَ الْأَمْرُ إلَى اللّهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ قَالَ فَقَالَ لَهُ أَفَتُهْدَفُ نَحُورُنَا لِلْعَرَبِ دُونَك، فَإِذَا أَظْهَرَك اللّهُ كَانَ الْأَمْرُ لِغَيْرِنَا لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِك، فَأَبَوْا عَلَيْهِ فَلَمّا صَدَرَ النّاسُ رَجَعَتْ بَنُو عَامِرٍ إلَى شَيْخٍ لَهُمْ قَدْ كَانَتْ أَدْرَكَتْهُ السّنّ، حَتّى لَا يَقْدِرَ أَنْ يُوَافِيَ مَعَهُمْ الْمَوَاسِمَ فَكَانُوا إذَا رَجَعُوا إلَيْهِ حَدّثُوهُ بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِك الْمَوْسِمِ فَلَمّا قَدِمُوا عَلَيْهِ ذَلِك الْعَامَ سَأَلَهُمْ عَمّا كَانَ فِي مَوْسِمِهِمْ فَقَالُوا: جَاءَنَا فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمّ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ، يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ، يَدْعُونَا إلَى أَنْ نَمْنَعَهُ وَنَقُومَ مَعَهُ وَنَخْرُجَ بِهِ إلَى بِلَادِنَا قَالَ فَوَضَعَ الشّيْخُ يَدَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ ثُمّ قَالَ يَا بَنِي عَامِرٍ هَلْ لَهَا مِنْ تَلَافٍ هَلْ لِذُنَابَاهَا مِنْ مَطْلَبٍ وَاَلّذِي نَفْسُ فُلَانٍ بِيَدِهِ مَا تَقَوّلَهَا إسْمَاعِيلِيّ قَطّ، وَإِنّهَا لَحَقّ، فَأَيْنَ رَأْيُكُمْ كَانَ عَنْكُمْ.
فيا أبناء الإسلام ويا رجال الأمة، هذا طرف من أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، التي بحثها واستشرفها أعدائه، وهي صفات تُبشر بالملك والقوة، فمن كان هذا وصفه، حقيق به أن يحمل الدين، وحقيق به أن يقود الدنيا...
تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
توضيح : فى نهاية السلسلة سيتم نشرها على هيئة كتاب إلكترونى إن شاء الله تعالى .
ولا تنسونا من صالح دعائكم
إخوانكم في
قسم الإعلام التوعوي
الجبهة الإعلامية الإسلامية العالمية
رَصدٌ لأخبَار المُجَاهدِين وَ تَحرِيضٌ للمُؤمِنين
تعليق