"صحته كانت جيدة لكن للأسف اجهزتنا الطبية لا تعمل"
بنبرات حزينة أجاب طبيب الأطفال الأم التي جاءت لأخذ مولودها الجديد من حاضنة الرضع في إحدى المستشفيات العراقية، بعد أن قضى فيها ثلاثة أيام هي كل حياته.
كان من حظ هذه الأم أن تجد لإبنها الوليد مكانًا في المستشفى ومعدات وطبيب! لكن انقطاع الكهرباء المعتاد ونقص وقود مولدات الكهرباء الخاصة بالمستشفى عطل هذه الأجهزة عن العمل..
لم تسأل الأم عن سبب وفاة طفلها فالبرد الشديد الذي كان يخيم على المستشفى كان خير جواب لها، فلملمت ملابس طفلها التي أحضرتها معها وغادرت المستشفى عائدة الى بيتها..
كم أرادت دموعها أن تخرج من مقلتيها لكن البرد القارص كان يجمدها كلما همت بذلك، فكانت بالكاد تتحامل جسدها المنهوك بأنينه الذي يدك أوصالها وهي تتذكر كم عانت أيام الولادة، فرغم أنها وعائلتها كانوا مستعدين لهذا اليوم فقد أمّنوا وقود السيارة الذي أصبح نادرا هذه الأيام واشتروا الأدوات والأدوية التي قد تحتاجها في المستشفى حتى القفازات الطبية الخاصة بالعمليات! غير أن الطبيبة تأخرت يومًا كاملا في القدوم، فعدد المرضى والإصابات في المستشفيات العراقية يزداد وعدد الأطباء يتناقص، فالبعض قُتل والبعض الآخر هُدد بالقتل ما اضطره باللجوء خارج البلاد.
"الحمد لله" هذا ما قالته وما كانت تردده دومًا خاصة عندما لاح في ذاكرتها ما حل بجارتها عندما جاءها المخاض بعد المغرب – أي وقت حظر التجوال اليومي- ما اضطر زوجها الى الاتصال بالاسعاف، ولتستطيع سيارة الإسعاف في مثل هذه الحالات الوصول "بأمان" الى المستشفى فعليها أن تذهب حينئذ – مع المريض طبعًا- الى مبنى المحافظة لأخذ رسالة تسمح لها بالسير اثناء حظر التجول دون أن تتعرض لنيران الإحتلال! ومع كل هذا فقد تعرضت سيارة الاسعاف هذه التي تقل الجارة وزوجها وأمها وأبيها لقذيفة حولت السيارة الى اشلاء متناثرة.. فالخوف الذي تملك جنود الاحتلال الواقفين في احد نقاط السيطرة لم يكن يحتمل انتظار سيارة الاسعاف المسرعة نحوهم في الظلام لتقترب وتكشف عن هويتها!.. وغدا أولاد جارتها المسكينة الذين بقوا في المنزل بلا أم ولا أب ولا جد ولا جدة في ليلة واحدة!
وصلت الأم الى منزلها لتجد أولادها الثلاثة في غرفة شبه مظلمة مجتمعين حول مدفأة واحدة فليس في وسعهم إيقاد أكثر من مدفأة في البيت فالوقود ذهب نادر في مثل هذا الشتاء... مع انه لم يكن كذلك قبل الإحتلال، وإن كان الظلام شيئا مألوفًا و "طبيعيًا".. فمنذ بداية التسعينيات والكهرباء تنقطع بإستمرار وغالبًا بكثرة، حتى ألف الكثير من أهالي كل حي من أحياء المدينة على شراء مولدة كهرباء خاصة بمنطقتهم، ومع ذلك فليس بوسع هذا الجهاز المسكين العمل لساعات طوال كل يوم.
"اين البيبي يا ماما" قطع شرودها كلمات ابنها الصغير، فربّتت على ظهره بلمسة حانية وكلمات بالكاد خرجت من فمها "لقد مات!" ثم ... هز البيت صوت انفجار ضخم لسيارة مفخخة في الشارع الذي يبعد 5 كيلومترات فهرعت الأم تحتضن أطفالها علها تحميهم من هبة الريح الباردة التي اخترقت زجاج النافذة المحطم..
كان هذا مشهد واقعي من معاناة العراقيين.. جزء من قصة حقيقية لأم عراقية ليست فقيرة بل ميسورة الحال.. فما بالكم بالفقراء واللاجئين والمعدومين؟ كيف يعيش اليتامى والأرامل؟ ومن قُتل أو خُطف أو خرج من البلد معيله وكفيله؟
إن كانوا قد فقدوا الأمن فهل فقدوا ايضًا إخوتهم المسلمين؟
بقلم وريشة:
هداية
تعليق