جواب .. سؤال ..؟ من أرض المقدس !
كتبه : عطا نجد الراوي
الأخ الكريم أبي مصعب المقدسي ، سلمه الله .
أسأل الله لكم العلم والتوفيق والسداد ، وبعد :
فقد وصلتني رسالتك – وصلك الله بطاعته - ، والتي ذكرتَ فيها ما بين الإخوة في أرض الرباط من خلاف في الحكم على أعيان الداخلين في البرلمانات المعاصرة ، وهل هم كفار بأعيانهم أم أن من تأول منهم يعذر بتأوله ، وهل المخالف في هذه المسألة مبتدعٌ مدخول في توحيده أم أنها مما يسوغ فيه الخلاف ، وما نُسب لإخواننا في قاعدة الجهاد من رأي فيهم ، فأقول سائلاً الله التوفيق :
أقدِّم لجواب ما سألتني عنه بمقدمات ضروريات فيها قواعد وتنبيهات ، أراها لازمة المعرفة قبل الدخول في تفاصيل تلك المسألة ، فضبط القواعد ومعرفة الفروق خير سبيل إلى الحكم الصواب في المسائل كافة ، ومعرفة درجة الخلاف فيها ، فأقول وبالله التوفيق:
أولاً : أهمية التكفير .
أقول بعبارة صريحة : دين لا تكفير فيه ليس بدين ، فلا يخلو دين – حق أو باطل – من التكفير ، والتكفير حكم شرعي ثابت في كتاب الله ، وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم - ، بل مُتَضمَّن في شطر التوحيد ، وشرط صحته : (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى .. الآية) .
فالكفر بالطاغوت متضمن للحكم بكفره ، وبكفر أتباعه وأوليائه ، ولهذا عدّ مجدد الدين محمد بن عبد الوهاب (عدم تكفير المشركين ، أو الشك في كفرهم ، أو تصحيح مذهبهم) من نواقض الإسلام ، مما يشير إلى أهمية تكفير من استحق ذلك ، سواءً كان كفره أصلياً كاليهود والنصارى ، أو كان طارئاً بأن ارتد من ثبت له عقد الإسلام قبل كفره .
ومما يؤكد أهمية تكفير من استحق ذلك ، أن عدم تكفيره يلزم منه موالاته ، والصلاة عليه ، وتوريثه والإرث منه ، وتزويجه ، وأكل ذبيحته ، وغيرها من الأحكام التي هي للمسلم خاصة ، ولا يجوز جعلها لغير المسلمين .
ثانياً : خطورة الغلو في التكفير .
ومن حيث انتهينا في أهمية التكفير ، نبدأ في بيان خطورة الغلو فيه ، فالأحكام التي سبق ذكرها تؤكد على خطورة الغلو والتسرع في التكفير ، فقد ينتج عنه معاداة مسلم صحيح الإسلام ، وقطع العلائق معه ، وترك الصلاة عليه ، وعدم توريثه ، وغير ذلك من الأحكام ، ومنها هدر دمه ، ونفي العصمة عن نفسه وماله .
وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : (من قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما) ، وحسبك بهذا الحديث زاجراً لئلا يُرمَى من ثبت إسلامه بالكفر دون تثبت من حصول الكفر منه ، ومن تحقق الشروط فيه وانتفاء الموانع عنه ، كما يقع من بعض الغلاة – هداهم الله – الذين شابهوا الخوارج ، بل إن بعضهم اليوم قد وقع في عين مذهب الخوارج ؛ فكفر عموم الناس ، ولم يسلم منه أحد ، ولا العلماء وأهل الجهاد ، والله المستعان .
وينبغي هنا أن نؤكد على إخواننا شباب التيار الجهادي أن لا يتكلموا في أعيان الناس بالتكفير بغير حيازة العلم الشرعي الكافي للتأهل للتصدي لمثل هذه المسائل الكبار ، وأن لا يسارع آحاد طلبة العلم إلى تكفير عينٍ بلا إمام من أهل العلم سبق إلى ذلك ، وأن يتذكروا أن الأصل (الإسلام) هو اليقين ، فلا نحكم بغيره بغير يقين وتثبت .
ثالثاً : تنبيه حول تكفير الأعيان .
تسميةُ الشخص المعين كافراً أو مشركاً مسألةٌ اجتهادية ، قائمة على ثبوت وقوع سبب الكفر من المعين ، فعلاً كان السببُ أو قولاً ، وعلى توفر الشروط فيه وانتفاء الموانع منه ، فإذا كان الخلاف في كفر معين هو في التحقق من ثبوت الفعل ، أو من تحقق الشروط وانتفاء الموانع ، فإن المتوقف في تكفير ذلك المعين لتلك الأسباب لا يصح تبديعه فضلاً عن تكفيره بسبب توقفه في تكفير ذلك المعين ، أما إذا كان الكفر ظاهراً بيناً لا شبهة فيه – كمن ثبت سبه لله تعالى أو لرسوله أو لدينه ، أو من أعلن رجوعه عن الدين باعتناق غيره – فالمخالف هنا قد يكفَّر أو يبدَّع إن لم يكفره ، بحسب شبهته في عدم تكفيره .
والخلاف في تكفير أحد الأعيان قد يقع لأحد ثلاثة أسباب :
فإما أن يكون الفعل نفسه محل خلاف بين أهل العلم ، هل هو مكفر أو لا ، نحو ترك الصلاة .
وإما أن يقع بسبب عدم ثبوت الفعل المكفر على الشخص ، إما لعدم العلم به أصلاً ، أو تكذيباً للراوي .
وإما أن يكون بسبب إعمال الناظر لبعض الموانع ، كمن يرى أن الواقع في الكفر لم تقم عليه الحجة الرسالية لجهله ، أو تأوله .
فهذه المسألة – تكفير المعين – مسألة اجتهادية مبناها ما ذكرنا سابقاً ، إلا أن يكون خلاف أحدٍ معنا في أصل كون الفعل كفراً ، فإن كان مما وقع فيه الخلاف بين أهل العلم – كترك الصلاة – فهذا أيضاً محل اجتهاد ، ولا يُبدَّع مخالفنا فيه ، وأما إذا كان يخالفنا في أمر أجمع أهل السنة على كونه كفراً ، كترك العمل الظاهر ، فيسوغ لنا تبديعه في قوله هذا ، وأما إذا كان يخالفنا في أمر أجمع عليه أهل الإسلام ، سنيهم ومرجئهم ، إجماعاً مشتهراً معروفاً ، كسب الله تعالى ، فإنه يكفر . تأمل هذا الفرق ؛ فإنه مهم .
رابعاً : التكفير فتوى وليس قضاءً .
الحكم بكفر شخص هو في حقيقته فتوى وليس قضاءً ، فمن حاز العلم الكافي للحكم على معين بالكفر ؛ فله حق الكلام في كفره إن واقع الكفر ، شرط أن يكون عن علم واجتهاد وتقوى وعدل ، والعلم في هذا المقام علمان : علم بالشرع في أسباب الكفر وشروطه وموانعه ، وعلم بالواقع بثبوت وقوع المعين في الكفر وعلم بحاله ليُحكم إن كانت الشروط متحققة فيه ، والموانع منتفية عنه أو لا . وكما أننا في العلم بالواقع لا يجوز لنا الحكم بأخبار واهيات ، وبناءً على الإشاعات ، فإننا في علم الشرع لا يجوز لنا أن نحكم بظاهر من العلم ، أو بناءً على قراءة كتاب أو اثنين في الأسماء والأحكام ، وإنما هذا لمن ضبط العلم على أصله ، وبقواعده .
وأما الحكم بقتل ذلك المعين فهو قضاء ؛ فلا يجوز لمن رأى كفره أن يقتله ؛ إذ لو جاز لجُعِلتْ تهمة الكفر مطيةً لكل من أراد سفك دماء المسلمين ، تخليصاً لخصومات وثارات ، فيشيع القتل بين الناس ، ولا يأمن أحد على نفسه ؛ لهذا كان قتل مستحق القتل موكولاً إلى القضاة العاملين بالشريعة .
خامساً : الخطأ في التكفير .
من كان ذا علم (حقيقةً ، لا توهماً وإعجاباً منه بشِبره الذي خاضه في العلم) ، واجتهد رأيه في تكفير شخص ما ، فكفَّره بأمر يكفِّر به أهلُ السنة ، فلا يجوز أن يكون الأصل هو الشدة في الإنكار عليه إذا أخطأ في حكمه .
ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على عمر بن الخطاب تكفيره لحاطب بن أبي بلتعة ، بل نبهه برفق إلى ما منع من تكفيره .
قال ابن القيّم في فوائد هذه القصة : (أن الرجل إذا نَسَبَ المسلم إلى النفاقِ والكفر متأولاً وغضباً لله ورسوله ودينه لا لهواه وحظه، فإنه لا يكفر بذلك، بل لا يأثم به، بل يُثاب على نيته وقصده، وهذا بخلاف أهل الأهواء والبدع، فإنهم يُكفرون ويُبدعون لمخالفة أهوائهم ونحلهم، وهم أولى بذلك ممن كفروه وبدعوه) .
ولكن كما نبهنا ، فإن هذا محله إذا صدر هذا الحكم من عالم به مؤهل لمثله ، لا من مبتدئ لم يحز من العلم الشرعي ما يؤهله لمثل هذه المسائل الكبيرة . فعِ هذا ؛ فإن وعيك له مهم .
ولعل في هذه المقدمات كفاية ، فنشرع الآن في جواب السؤال ، فأقول وبالله التوفيق :
حقيقة البرلمانات
يلزم للجواب على هذه الأسئلة أن نعرف حقيقة البرلمانات وواقعها ، حتى تكون الفتوى فيها مطابقة للواقع ، فإن القاعدة : أن الحكم على شيء فرع عن تصوره .
وظيفة هذه البرلمانات تقوم على تشريع الأنظمة وسن القوانين ، الإدارية منها والجزائية ، وهذه الأنظمة والقوانين أكثرها مخالف للشريعة ، وهي مما نكفر به الحكام الطواغيت في هذا الزمان . فهي جهة تشريعية لها الحق التام في تشريع أي قانون شرط أن يحوز على موافقة الأغلبية ، على تفصيل في هذا ؛ إذ تشترط بعض البرلمانات مصادقة الحكومة أو رئيس الدولة على القانون قبل إقراره .
ما تتضمنه هذه البرلمانات من مخالفات عقدية
أولاً : سيادة دين الديمقراطية ، التي هي في عرف أهلها (حكم الشعب بالشعب) ، وتتمثل في حق الشعب في اختيار الحاكم ، وفي تشريع ما يشاء من الأنظمة والقوانين ، بغض النظر عن كونها موافقة أو مخالفة للشريعة ؛ فأصبح مصدر التشريع هو الشعب لا ربّ الشعب .
وهذا المبدأ – مبدأ الديمقراطية – مخالف لأصل من أصول التوحيد ؛ حاكمية الله عزّ وجل ، الذي دلت عليه أدلة كثيرة كقوله تعالى : (إن الحكم إلا لله) ، وقوله عز وجل : (لا يشرك في حكمه أحداً) ، وقوله تعالى : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) .
والثانية : القسم الدستوري الذي يلزم به أعضاء المجالس البرلمانية ، والذي يتضمن احترام الدستور والعمل به وصيانته ، بما فيه من قوانين تخالف ما علم من الدين بالضرورة كحرمة الزنا (من خلال إباحته وتقنين عمل دور الخنا) ، وحرمة الخمر (بإجازة بيعه وشربه وعدم المعاقبة عليه إلا في حالات خاصة لا علاقة لحرمة الخمر بها) .
الثالثة : الاستهتار بأحكام الله - عزّ وجل - من خلال عرضها لتصويت أعضاء البرلمان أو عموم الشعب عليها ، وللأغلبية الرافضة حق رد الأنظمة حتى لو أتت بها الشريعة الإلهية ، وهذا أظهر مثال على حق البشر في إقرار النظام أو رده ، ولنا في هذا الزمان أمثلة ظاهرة على هذا ، فقد عرض الحجاب في تركيا ، والفصل بين الجنسين في الكويت للتصويت في تلك المجالس رغم نصوصها الظاهرة ، فلا عبرة لكلام الله في هذه المجالس ، بل العبرة كل العبرة لرأي البشر وحكمهم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
ولا تعدل أي مصلحة متوهمة مفسدة واحدة من هذه المفاسد الكبيرة ، فضلاً عن كون الشريعة لم تجز ارتكاب الكفر إلا في حال الإكراه ، فلا عبرة للمصالح المرجوة خلاف مصلحة دفع الإكراه ذي الصورة المعروفة المحددة ، فلا عبرة للضرورة ، فضلاً عن الحاجة ، وأي مصالح تكتسب في هذه البرلمانات ، هي في مقابل مفاسد كثيرة تحصل من ورائها والله المستعان .
ومن أعظم تلك المفاسد ، إعطاء الشرعية لتلك المجالس ، ولتلك الحكومات الطاغوتية الفاجرة ، فحين يرى الناس أن هؤلاء الدعاة دخلوا في هذه الحكومة الفاسدة ، أو هذا البرلمان الطاغوتي ، يجعلونها دلالة ظاهرة على صلاح الحكومة أو شرعيتها ، ولهذا آثار لا تخفى على من بصَّره الله في دينه وعقيدته .
حكم المشارك في البرلمان
والمشارك في البرلمان الطاغوتي لا يخلو من حالات :
الحالة الأولى : أن يقسم على احترام الدستور الكفري مع علمه بكفرية هذا الدستور واحتوائه على أنظمة تخالف الشريعة ، فهذا كفر أخبر مخرج من الملة .
الحالة الثانية : أن يشارك في إقرار نظام مخالف للشريعة الإسلامية – بلا خلاف – فهذا أيضاً كفر أكبر مخرج من الملة .
الحالة الثالثة : أن لا يقسم على احترام الدستور الكفري ، ولا يشارك في إقرار نظام مخالف للشريعة الإسلامية .. فهذا مخطئ عاص ؛ لأنه اتخذ أسلوباً للإصلاح غير شرعي ، ويتضمن مفاسد كثيرة منها ؛ إعطاء الشرعية للحكومة والبرلمان ، وعدم اعتزال أهل الباطل وترك مجالسه .
نحن مكرهون
وقد يدعي (دعاة البرلمانات) وأنصار الحل البرلماني – كما يقال – أن لهم حكم المكره في دخول في هذه البرلمانات الكفرية ، وفي هذا خطوة جيدة للأمام باعترافهم أن ما اقترفوه كفر أكبر لا رخصة لهم فيه لولا الإكراه .
ولكننا نخالفهم في زعمهم أنهم مكرهون ؛ إذ الإكراه له صورة محددة هي الإكراه الملجئ بالقتل أو إتلاف أحد الأعضاء ، مع قدرة المكرِه على إيقاع التهديد فوراً ، وهذا ما لم يكن في حالهم ، فلم يكرههم أحد على دخول البرلمانات الطاغوتية .
وأقصى ما يوصفون به هو أنهم مضطرون ، ولكن الضرورة لا تبيح الكفر ، إذ لم ينص الله على جواز ارتكاب الكفر إلا للمكره : (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) ، وما يجوز في حال الضرورة هو المحرمات دون الكفر .
نحن يوسفيون :
وبعضهم يستدل بقصة يوسف عليه السلام ، فيقال لهم حينها : هل يعني ذلك أن يوسف عليه السلام ارتكب كفراً أكبر مخرجاً من الملة ؟! وهم حينها سيضطرون إلى نفي ذلك ودحض حجتهم بأيديهم .
وقصة يوسف لا حجة لهم فيها ؛ فإن يوسف عليه السلام لم يرتكب كفراً بل لم يرتكب معصية في عمله ، بل كان عاملاً بدينه ، صادعاً بالحق ، وداعياً إلى التوحيد ، مُمَكَّناً في سلطته ، وهذا ما يفتقد دعاة البرلمانات في برلماناتهم .
ولا أدل على أن هؤلاء لا يُمَكَّن لهم في برلمانهم ، ولا حق لهم في تجاوز أدوارهم ، لا أدل على ذلك من قدرة الحاكم على (حل البرلمان) ، وهذا ما حصل للإخوة أعضاء (الإنقاذ) حينما دخلوا في البرلمانات فلما رأت "الطغمة العسكرية" قرب فوزهم في الانتخابات حُلّ البرلمان وألغيت النتائج .
فتاوى أجازت لنا :
ويستدل البعض أيضاً بفتاوى بعض العلماء الذين أجازوا الدخول فيها للمصلحة ، وقد قررنا سابقاً ألا مصلحة تفوق مفسدة الشرك ، وأن الله عز وجل لم يُجِزْ اقتراف الكفر إلا في حال الإكراه مع اطمئنان القلب .
والعذر لمثل هؤلاء العلماء أنهم جهلوا حقيقة تلك البرلمانات – بغض النظر عن كونهم علماء كباراً – ونجزم أن لو عرفوا ما اشتملت عليه تلك البرلمانات لما أفتوا بالجواز .
وقد بلغنا من بعض من جاءنا ممن درس على الشيخ ابن باز – رحمه الله وغفر له – وهو من كبار المجيزين لأولئك البرلمانيين ؛ أنه تراجع عن قوله لما وضحت له حقيقة المسألة ، وما تشتمله تلك البرلمانات من قسم على الدستور ونحوه . هكذا بلغنا ولم يثبت لنا بشيء مكتوب أو مسموع ، فليتأكد الإخوة من طلابه .
والخلاصة ، أنه مهما يكن من أفتى لهم بالجواز ، فإنه لا يعلم حقيقة تلك المفاسد المترتبة على الدخول ، وأنه لا توجد مصلحة تربو على تلك المفاسد ، والله يغفر لهم ويرحمهم .
تنبيه :
ويجب أن تعلم أموراً فيما سبق :
الأول : أن هذا الحكم هو حكم البرلمانات في الدول صريحة العلمانية ، والتي تعتمد دستوراً مخالفاً للشريعة .
الثاني : أن غالب ما يقع من هؤلاء الإسلاميين المشاركين في البرلمانات هو القسم على الدستور ، ولكن بعضهم يتأول وينوي بكلمة الدستور (القرآن) ؛ باعتباره دستور هذه الأمة ، أو يسر بكلمات فيها قيد : "عدم مخالفة الشريعة" ، فيجب أن يُتنبه إلى ذلك ، وألا يسارع المرء إلى التكفير بمجرد الإقسام .
الثالث : أن كثيراً من هؤلاء لهم قصد حسن ، ونية صالحة .. وهم متبعون لفتاوى بعض العلماء الذين أجازوا الدخول في تلك البرلمانات ، فمثلهم يدخل في باب (المتأولين) الذين يمتنع تكفيرهم لأجل التأول .
فيجب عذر مثل أولئك الدعاة الذين دخلوا تلك البرلمانات بتأول ، وعدم المسارعة في تكفير أعيانهم – وإن قلنا إن فعلهم كفر أكبر مخرج من الملة – لأن مانع التأويل متحقق في مثلهم غاية التحقق ، سواء منهم أولئك الذين هم في عداد العلماء ، أو من قلد منهم عالماً مجيزاً لذلك .
رأي إخواننا :
وإخواننا في (قاعدة الجهاد – أفغانستان) هم على مثل هذا الرأي ، وهو القول بإعذار أولئك الدعاة بالتأول ، ولكونهم متبعين لفتاوى مجيزة ، أو مجتهدين أخطؤوا في اجتهادهم .
هذا رأي من نعرف من الشرعيين هناك ، وهو (تحديداً) رأي الشيخ الحكيم أيمن الظواهري – حفظه الله وسدده – ، وكان يمثل لأولئك المتأولين بالشيخ صلاح أبو إسماعيل – إن لم تخنِ الذاكرة – ، وهو أيضاً رأي أخينا الشيخ عطية الله – حفظه الله – وهو رأي كثير من العلماء الذين أعرفهم أو نُقِلَت لي آراؤهم ، كعمرَ بن محمود أبي قتادة الفلسطيني – فرج الله عنه - ، وغيره.
أما غيرهم (العلمانيون) فهم مكفرون من باب غير هذا الباب ، وهو باب اعتناقهم العلمانية أو الليبرالية ونحوها ، ثم هم لم ينظروا إلى حكم الشريعة أصلاً ، فكيف يقال إن لهم في هذا تأولاً .
أخيراً : إن كان من نصيحة أخيرة فإني أنصح إخواني في فلسطين أن يتقوا الله فيما بينهم ، وأن لا يجعلوا الخلاف على بعض المسائل – التي كثر فيها الخلاف وقوي – مدعاة لتبديع بعضهم أو اتهامهم في توحيدهم .
وعليهم أيضاً ألا يشغلهم القول في تكفير الناس عن العمل ، خاصة وأن كثيراً ممن يتكلم في هذه المسائل لا يجوز له الكلام فيها لقلة علمه .. فلا يضِف إلى قلة العلم قلة العمل ، فإنها مصيبة ابتلي بها كثير من الناس .
كما أن على إخواني أن يتحلوا بكريم الأخلاق فيما بينهم أنفسِهم ، وفيما بينهم وبين الناس ، وأن يعلموا أنهم سفراء مناهجهم ، فأخلاقهم وتعاملهم مع الآخرين معيار صحة مناهجهم عند كثير من الناس ، والخلق الحسن مطلوب في الدين أصالة .
ثم أطلب من جميع إخواني ألا يثبتوا لأي قائد من قادة الجهاد رأياً إلا عن يقين وتثبت ، فلا يقولوا إن الرأي الفلاني هو منهج الإخوة في الجهة الفلانية لمجرد ظنهم أو بعض الدلالات الظنية الضعيفة .
واعتذر لك أخي الكريم من تأخري في الجواب ، فإن ما سألت عنه ، وما تضمنه من ذكر ما ينسبه الإخوة لإخوانهم في القاعدة ، وما نواجهة من صعوبة في الاتصال والتواصل .. كل ذلك أدى لتأخر الجواب .
أسأل الله العلي العظيم أن يوفقني وإياك لما يحبه ويرضاه ، وأن يقر أعيننا وأعينكم بنصرة الإسلام وتحرير الأقصى وإقامة شرع الله فيه .
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
عطا نجد الراوي
19 صفر 1429هـ
العراق
كتبه : عطا نجد الراوي
الأخ الكريم أبي مصعب المقدسي ، سلمه الله .
أسأل الله لكم العلم والتوفيق والسداد ، وبعد :
فقد وصلتني رسالتك – وصلك الله بطاعته - ، والتي ذكرتَ فيها ما بين الإخوة في أرض الرباط من خلاف في الحكم على أعيان الداخلين في البرلمانات المعاصرة ، وهل هم كفار بأعيانهم أم أن من تأول منهم يعذر بتأوله ، وهل المخالف في هذه المسألة مبتدعٌ مدخول في توحيده أم أنها مما يسوغ فيه الخلاف ، وما نُسب لإخواننا في قاعدة الجهاد من رأي فيهم ، فأقول سائلاً الله التوفيق :
أقدِّم لجواب ما سألتني عنه بمقدمات ضروريات فيها قواعد وتنبيهات ، أراها لازمة المعرفة قبل الدخول في تفاصيل تلك المسألة ، فضبط القواعد ومعرفة الفروق خير سبيل إلى الحكم الصواب في المسائل كافة ، ومعرفة درجة الخلاف فيها ، فأقول وبالله التوفيق:
أولاً : أهمية التكفير .
أقول بعبارة صريحة : دين لا تكفير فيه ليس بدين ، فلا يخلو دين – حق أو باطل – من التكفير ، والتكفير حكم شرعي ثابت في كتاب الله ، وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم - ، بل مُتَضمَّن في شطر التوحيد ، وشرط صحته : (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى .. الآية) .
فالكفر بالطاغوت متضمن للحكم بكفره ، وبكفر أتباعه وأوليائه ، ولهذا عدّ مجدد الدين محمد بن عبد الوهاب (عدم تكفير المشركين ، أو الشك في كفرهم ، أو تصحيح مذهبهم) من نواقض الإسلام ، مما يشير إلى أهمية تكفير من استحق ذلك ، سواءً كان كفره أصلياً كاليهود والنصارى ، أو كان طارئاً بأن ارتد من ثبت له عقد الإسلام قبل كفره .
ومما يؤكد أهمية تكفير من استحق ذلك ، أن عدم تكفيره يلزم منه موالاته ، والصلاة عليه ، وتوريثه والإرث منه ، وتزويجه ، وأكل ذبيحته ، وغيرها من الأحكام التي هي للمسلم خاصة ، ولا يجوز جعلها لغير المسلمين .
ثانياً : خطورة الغلو في التكفير .
ومن حيث انتهينا في أهمية التكفير ، نبدأ في بيان خطورة الغلو فيه ، فالأحكام التي سبق ذكرها تؤكد على خطورة الغلو والتسرع في التكفير ، فقد ينتج عنه معاداة مسلم صحيح الإسلام ، وقطع العلائق معه ، وترك الصلاة عليه ، وعدم توريثه ، وغير ذلك من الأحكام ، ومنها هدر دمه ، ونفي العصمة عن نفسه وماله .
وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : (من قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما) ، وحسبك بهذا الحديث زاجراً لئلا يُرمَى من ثبت إسلامه بالكفر دون تثبت من حصول الكفر منه ، ومن تحقق الشروط فيه وانتفاء الموانع عنه ، كما يقع من بعض الغلاة – هداهم الله – الذين شابهوا الخوارج ، بل إن بعضهم اليوم قد وقع في عين مذهب الخوارج ؛ فكفر عموم الناس ، ولم يسلم منه أحد ، ولا العلماء وأهل الجهاد ، والله المستعان .
وينبغي هنا أن نؤكد على إخواننا شباب التيار الجهادي أن لا يتكلموا في أعيان الناس بالتكفير بغير حيازة العلم الشرعي الكافي للتأهل للتصدي لمثل هذه المسائل الكبار ، وأن لا يسارع آحاد طلبة العلم إلى تكفير عينٍ بلا إمام من أهل العلم سبق إلى ذلك ، وأن يتذكروا أن الأصل (الإسلام) هو اليقين ، فلا نحكم بغيره بغير يقين وتثبت .
ثالثاً : تنبيه حول تكفير الأعيان .
تسميةُ الشخص المعين كافراً أو مشركاً مسألةٌ اجتهادية ، قائمة على ثبوت وقوع سبب الكفر من المعين ، فعلاً كان السببُ أو قولاً ، وعلى توفر الشروط فيه وانتفاء الموانع منه ، فإذا كان الخلاف في كفر معين هو في التحقق من ثبوت الفعل ، أو من تحقق الشروط وانتفاء الموانع ، فإن المتوقف في تكفير ذلك المعين لتلك الأسباب لا يصح تبديعه فضلاً عن تكفيره بسبب توقفه في تكفير ذلك المعين ، أما إذا كان الكفر ظاهراً بيناً لا شبهة فيه – كمن ثبت سبه لله تعالى أو لرسوله أو لدينه ، أو من أعلن رجوعه عن الدين باعتناق غيره – فالمخالف هنا قد يكفَّر أو يبدَّع إن لم يكفره ، بحسب شبهته في عدم تكفيره .
والخلاف في تكفير أحد الأعيان قد يقع لأحد ثلاثة أسباب :
فإما أن يكون الفعل نفسه محل خلاف بين أهل العلم ، هل هو مكفر أو لا ، نحو ترك الصلاة .
وإما أن يقع بسبب عدم ثبوت الفعل المكفر على الشخص ، إما لعدم العلم به أصلاً ، أو تكذيباً للراوي .
وإما أن يكون بسبب إعمال الناظر لبعض الموانع ، كمن يرى أن الواقع في الكفر لم تقم عليه الحجة الرسالية لجهله ، أو تأوله .
فهذه المسألة – تكفير المعين – مسألة اجتهادية مبناها ما ذكرنا سابقاً ، إلا أن يكون خلاف أحدٍ معنا في أصل كون الفعل كفراً ، فإن كان مما وقع فيه الخلاف بين أهل العلم – كترك الصلاة – فهذا أيضاً محل اجتهاد ، ولا يُبدَّع مخالفنا فيه ، وأما إذا كان يخالفنا في أمر أجمع أهل السنة على كونه كفراً ، كترك العمل الظاهر ، فيسوغ لنا تبديعه في قوله هذا ، وأما إذا كان يخالفنا في أمر أجمع عليه أهل الإسلام ، سنيهم ومرجئهم ، إجماعاً مشتهراً معروفاً ، كسب الله تعالى ، فإنه يكفر . تأمل هذا الفرق ؛ فإنه مهم .
رابعاً : التكفير فتوى وليس قضاءً .
الحكم بكفر شخص هو في حقيقته فتوى وليس قضاءً ، فمن حاز العلم الكافي للحكم على معين بالكفر ؛ فله حق الكلام في كفره إن واقع الكفر ، شرط أن يكون عن علم واجتهاد وتقوى وعدل ، والعلم في هذا المقام علمان : علم بالشرع في أسباب الكفر وشروطه وموانعه ، وعلم بالواقع بثبوت وقوع المعين في الكفر وعلم بحاله ليُحكم إن كانت الشروط متحققة فيه ، والموانع منتفية عنه أو لا . وكما أننا في العلم بالواقع لا يجوز لنا الحكم بأخبار واهيات ، وبناءً على الإشاعات ، فإننا في علم الشرع لا يجوز لنا أن نحكم بظاهر من العلم ، أو بناءً على قراءة كتاب أو اثنين في الأسماء والأحكام ، وإنما هذا لمن ضبط العلم على أصله ، وبقواعده .
وأما الحكم بقتل ذلك المعين فهو قضاء ؛ فلا يجوز لمن رأى كفره أن يقتله ؛ إذ لو جاز لجُعِلتْ تهمة الكفر مطيةً لكل من أراد سفك دماء المسلمين ، تخليصاً لخصومات وثارات ، فيشيع القتل بين الناس ، ولا يأمن أحد على نفسه ؛ لهذا كان قتل مستحق القتل موكولاً إلى القضاة العاملين بالشريعة .
خامساً : الخطأ في التكفير .
من كان ذا علم (حقيقةً ، لا توهماً وإعجاباً منه بشِبره الذي خاضه في العلم) ، واجتهد رأيه في تكفير شخص ما ، فكفَّره بأمر يكفِّر به أهلُ السنة ، فلا يجوز أن يكون الأصل هو الشدة في الإنكار عليه إذا أخطأ في حكمه .
ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على عمر بن الخطاب تكفيره لحاطب بن أبي بلتعة ، بل نبهه برفق إلى ما منع من تكفيره .
قال ابن القيّم في فوائد هذه القصة : (أن الرجل إذا نَسَبَ المسلم إلى النفاقِ والكفر متأولاً وغضباً لله ورسوله ودينه لا لهواه وحظه، فإنه لا يكفر بذلك، بل لا يأثم به، بل يُثاب على نيته وقصده، وهذا بخلاف أهل الأهواء والبدع، فإنهم يُكفرون ويُبدعون لمخالفة أهوائهم ونحلهم، وهم أولى بذلك ممن كفروه وبدعوه) .
ولكن كما نبهنا ، فإن هذا محله إذا صدر هذا الحكم من عالم به مؤهل لمثله ، لا من مبتدئ لم يحز من العلم الشرعي ما يؤهله لمثل هذه المسائل الكبيرة . فعِ هذا ؛ فإن وعيك له مهم .
ولعل في هذه المقدمات كفاية ، فنشرع الآن في جواب السؤال ، فأقول وبالله التوفيق :
حقيقة البرلمانات
يلزم للجواب على هذه الأسئلة أن نعرف حقيقة البرلمانات وواقعها ، حتى تكون الفتوى فيها مطابقة للواقع ، فإن القاعدة : أن الحكم على شيء فرع عن تصوره .
وظيفة هذه البرلمانات تقوم على تشريع الأنظمة وسن القوانين ، الإدارية منها والجزائية ، وهذه الأنظمة والقوانين أكثرها مخالف للشريعة ، وهي مما نكفر به الحكام الطواغيت في هذا الزمان . فهي جهة تشريعية لها الحق التام في تشريع أي قانون شرط أن يحوز على موافقة الأغلبية ، على تفصيل في هذا ؛ إذ تشترط بعض البرلمانات مصادقة الحكومة أو رئيس الدولة على القانون قبل إقراره .
ما تتضمنه هذه البرلمانات من مخالفات عقدية
أولاً : سيادة دين الديمقراطية ، التي هي في عرف أهلها (حكم الشعب بالشعب) ، وتتمثل في حق الشعب في اختيار الحاكم ، وفي تشريع ما يشاء من الأنظمة والقوانين ، بغض النظر عن كونها موافقة أو مخالفة للشريعة ؛ فأصبح مصدر التشريع هو الشعب لا ربّ الشعب .
وهذا المبدأ – مبدأ الديمقراطية – مخالف لأصل من أصول التوحيد ؛ حاكمية الله عزّ وجل ، الذي دلت عليه أدلة كثيرة كقوله تعالى : (إن الحكم إلا لله) ، وقوله عز وجل : (لا يشرك في حكمه أحداً) ، وقوله تعالى : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) .
والثانية : القسم الدستوري الذي يلزم به أعضاء المجالس البرلمانية ، والذي يتضمن احترام الدستور والعمل به وصيانته ، بما فيه من قوانين تخالف ما علم من الدين بالضرورة كحرمة الزنا (من خلال إباحته وتقنين عمل دور الخنا) ، وحرمة الخمر (بإجازة بيعه وشربه وعدم المعاقبة عليه إلا في حالات خاصة لا علاقة لحرمة الخمر بها) .
الثالثة : الاستهتار بأحكام الله - عزّ وجل - من خلال عرضها لتصويت أعضاء البرلمان أو عموم الشعب عليها ، وللأغلبية الرافضة حق رد الأنظمة حتى لو أتت بها الشريعة الإلهية ، وهذا أظهر مثال على حق البشر في إقرار النظام أو رده ، ولنا في هذا الزمان أمثلة ظاهرة على هذا ، فقد عرض الحجاب في تركيا ، والفصل بين الجنسين في الكويت للتصويت في تلك المجالس رغم نصوصها الظاهرة ، فلا عبرة لكلام الله في هذه المجالس ، بل العبرة كل العبرة لرأي البشر وحكمهم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
ولا تعدل أي مصلحة متوهمة مفسدة واحدة من هذه المفاسد الكبيرة ، فضلاً عن كون الشريعة لم تجز ارتكاب الكفر إلا في حال الإكراه ، فلا عبرة للمصالح المرجوة خلاف مصلحة دفع الإكراه ذي الصورة المعروفة المحددة ، فلا عبرة للضرورة ، فضلاً عن الحاجة ، وأي مصالح تكتسب في هذه البرلمانات ، هي في مقابل مفاسد كثيرة تحصل من ورائها والله المستعان .
ومن أعظم تلك المفاسد ، إعطاء الشرعية لتلك المجالس ، ولتلك الحكومات الطاغوتية الفاجرة ، فحين يرى الناس أن هؤلاء الدعاة دخلوا في هذه الحكومة الفاسدة ، أو هذا البرلمان الطاغوتي ، يجعلونها دلالة ظاهرة على صلاح الحكومة أو شرعيتها ، ولهذا آثار لا تخفى على من بصَّره الله في دينه وعقيدته .
حكم المشارك في البرلمان
والمشارك في البرلمان الطاغوتي لا يخلو من حالات :
الحالة الأولى : أن يقسم على احترام الدستور الكفري مع علمه بكفرية هذا الدستور واحتوائه على أنظمة تخالف الشريعة ، فهذا كفر أخبر مخرج من الملة .
الحالة الثانية : أن يشارك في إقرار نظام مخالف للشريعة الإسلامية – بلا خلاف – فهذا أيضاً كفر أكبر مخرج من الملة .
الحالة الثالثة : أن لا يقسم على احترام الدستور الكفري ، ولا يشارك في إقرار نظام مخالف للشريعة الإسلامية .. فهذا مخطئ عاص ؛ لأنه اتخذ أسلوباً للإصلاح غير شرعي ، ويتضمن مفاسد كثيرة منها ؛ إعطاء الشرعية للحكومة والبرلمان ، وعدم اعتزال أهل الباطل وترك مجالسه .
نحن مكرهون
وقد يدعي (دعاة البرلمانات) وأنصار الحل البرلماني – كما يقال – أن لهم حكم المكره في دخول في هذه البرلمانات الكفرية ، وفي هذا خطوة جيدة للأمام باعترافهم أن ما اقترفوه كفر أكبر لا رخصة لهم فيه لولا الإكراه .
ولكننا نخالفهم في زعمهم أنهم مكرهون ؛ إذ الإكراه له صورة محددة هي الإكراه الملجئ بالقتل أو إتلاف أحد الأعضاء ، مع قدرة المكرِه على إيقاع التهديد فوراً ، وهذا ما لم يكن في حالهم ، فلم يكرههم أحد على دخول البرلمانات الطاغوتية .
وأقصى ما يوصفون به هو أنهم مضطرون ، ولكن الضرورة لا تبيح الكفر ، إذ لم ينص الله على جواز ارتكاب الكفر إلا للمكره : (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) ، وما يجوز في حال الضرورة هو المحرمات دون الكفر .
نحن يوسفيون :
وبعضهم يستدل بقصة يوسف عليه السلام ، فيقال لهم حينها : هل يعني ذلك أن يوسف عليه السلام ارتكب كفراً أكبر مخرجاً من الملة ؟! وهم حينها سيضطرون إلى نفي ذلك ودحض حجتهم بأيديهم .
وقصة يوسف لا حجة لهم فيها ؛ فإن يوسف عليه السلام لم يرتكب كفراً بل لم يرتكب معصية في عمله ، بل كان عاملاً بدينه ، صادعاً بالحق ، وداعياً إلى التوحيد ، مُمَكَّناً في سلطته ، وهذا ما يفتقد دعاة البرلمانات في برلماناتهم .
ولا أدل على أن هؤلاء لا يُمَكَّن لهم في برلمانهم ، ولا حق لهم في تجاوز أدوارهم ، لا أدل على ذلك من قدرة الحاكم على (حل البرلمان) ، وهذا ما حصل للإخوة أعضاء (الإنقاذ) حينما دخلوا في البرلمانات فلما رأت "الطغمة العسكرية" قرب فوزهم في الانتخابات حُلّ البرلمان وألغيت النتائج .
فتاوى أجازت لنا :
ويستدل البعض أيضاً بفتاوى بعض العلماء الذين أجازوا الدخول فيها للمصلحة ، وقد قررنا سابقاً ألا مصلحة تفوق مفسدة الشرك ، وأن الله عز وجل لم يُجِزْ اقتراف الكفر إلا في حال الإكراه مع اطمئنان القلب .
والعذر لمثل هؤلاء العلماء أنهم جهلوا حقيقة تلك البرلمانات – بغض النظر عن كونهم علماء كباراً – ونجزم أن لو عرفوا ما اشتملت عليه تلك البرلمانات لما أفتوا بالجواز .
وقد بلغنا من بعض من جاءنا ممن درس على الشيخ ابن باز – رحمه الله وغفر له – وهو من كبار المجيزين لأولئك البرلمانيين ؛ أنه تراجع عن قوله لما وضحت له حقيقة المسألة ، وما تشتمله تلك البرلمانات من قسم على الدستور ونحوه . هكذا بلغنا ولم يثبت لنا بشيء مكتوب أو مسموع ، فليتأكد الإخوة من طلابه .
والخلاصة ، أنه مهما يكن من أفتى لهم بالجواز ، فإنه لا يعلم حقيقة تلك المفاسد المترتبة على الدخول ، وأنه لا توجد مصلحة تربو على تلك المفاسد ، والله يغفر لهم ويرحمهم .
تنبيه :
ويجب أن تعلم أموراً فيما سبق :
الأول : أن هذا الحكم هو حكم البرلمانات في الدول صريحة العلمانية ، والتي تعتمد دستوراً مخالفاً للشريعة .
الثاني : أن غالب ما يقع من هؤلاء الإسلاميين المشاركين في البرلمانات هو القسم على الدستور ، ولكن بعضهم يتأول وينوي بكلمة الدستور (القرآن) ؛ باعتباره دستور هذه الأمة ، أو يسر بكلمات فيها قيد : "عدم مخالفة الشريعة" ، فيجب أن يُتنبه إلى ذلك ، وألا يسارع المرء إلى التكفير بمجرد الإقسام .
الثالث : أن كثيراً من هؤلاء لهم قصد حسن ، ونية صالحة .. وهم متبعون لفتاوى بعض العلماء الذين أجازوا الدخول في تلك البرلمانات ، فمثلهم يدخل في باب (المتأولين) الذين يمتنع تكفيرهم لأجل التأول .
فيجب عذر مثل أولئك الدعاة الذين دخلوا تلك البرلمانات بتأول ، وعدم المسارعة في تكفير أعيانهم – وإن قلنا إن فعلهم كفر أكبر مخرج من الملة – لأن مانع التأويل متحقق في مثلهم غاية التحقق ، سواء منهم أولئك الذين هم في عداد العلماء ، أو من قلد منهم عالماً مجيزاً لذلك .
رأي إخواننا :
وإخواننا في (قاعدة الجهاد – أفغانستان) هم على مثل هذا الرأي ، وهو القول بإعذار أولئك الدعاة بالتأول ، ولكونهم متبعين لفتاوى مجيزة ، أو مجتهدين أخطؤوا في اجتهادهم .
هذا رأي من نعرف من الشرعيين هناك ، وهو (تحديداً) رأي الشيخ الحكيم أيمن الظواهري – حفظه الله وسدده – ، وكان يمثل لأولئك المتأولين بالشيخ صلاح أبو إسماعيل – إن لم تخنِ الذاكرة – ، وهو أيضاً رأي أخينا الشيخ عطية الله – حفظه الله – وهو رأي كثير من العلماء الذين أعرفهم أو نُقِلَت لي آراؤهم ، كعمرَ بن محمود أبي قتادة الفلسطيني – فرج الله عنه - ، وغيره.
أما غيرهم (العلمانيون) فهم مكفرون من باب غير هذا الباب ، وهو باب اعتناقهم العلمانية أو الليبرالية ونحوها ، ثم هم لم ينظروا إلى حكم الشريعة أصلاً ، فكيف يقال إن لهم في هذا تأولاً .
أخيراً : إن كان من نصيحة أخيرة فإني أنصح إخواني في فلسطين أن يتقوا الله فيما بينهم ، وأن لا يجعلوا الخلاف على بعض المسائل – التي كثر فيها الخلاف وقوي – مدعاة لتبديع بعضهم أو اتهامهم في توحيدهم .
وعليهم أيضاً ألا يشغلهم القول في تكفير الناس عن العمل ، خاصة وأن كثيراً ممن يتكلم في هذه المسائل لا يجوز له الكلام فيها لقلة علمه .. فلا يضِف إلى قلة العلم قلة العمل ، فإنها مصيبة ابتلي بها كثير من الناس .
كما أن على إخواني أن يتحلوا بكريم الأخلاق فيما بينهم أنفسِهم ، وفيما بينهم وبين الناس ، وأن يعلموا أنهم سفراء مناهجهم ، فأخلاقهم وتعاملهم مع الآخرين معيار صحة مناهجهم عند كثير من الناس ، والخلق الحسن مطلوب في الدين أصالة .
ثم أطلب من جميع إخواني ألا يثبتوا لأي قائد من قادة الجهاد رأياً إلا عن يقين وتثبت ، فلا يقولوا إن الرأي الفلاني هو منهج الإخوة في الجهة الفلانية لمجرد ظنهم أو بعض الدلالات الظنية الضعيفة .
واعتذر لك أخي الكريم من تأخري في الجواب ، فإن ما سألت عنه ، وما تضمنه من ذكر ما ينسبه الإخوة لإخوانهم في القاعدة ، وما نواجهة من صعوبة في الاتصال والتواصل .. كل ذلك أدى لتأخر الجواب .
أسأل الله العلي العظيم أن يوفقني وإياك لما يحبه ويرضاه ، وأن يقر أعيننا وأعينكم بنصرة الإسلام وتحرير الأقصى وإقامة شرع الله فيه .
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
عطا نجد الراوي
19 صفر 1429هـ
العراق
تعليق