آه يا إخوتي.. أنا عالقة على الحدود!
أمية جحا
10/01/2008
صحيفة القدس العربي اللندنية
قالوا لي: أسرعي فقد فتحوا المعبر للحجاج العالقين منذ أسبوع في العريش عساك تعودين معهم، وبسرعة البرق لملمت حقائبي بعدما كانت حقيبة.. إنها سبعة شهور قضيتها بعيدا عن غزة.
واستقليت أنا وزوجي السيارة من العريش حتى المعبر، وطوال الطريق كنت أنظر للبلد التي احتضنتني بحنان شعبها وكنت أتمنى أن أبكي مودعةً إياها.. ولكن كلما حاولت دمعة أن تسيل شدها خوف العودة من جديد إليها فحنيني لوطني أكبر.
كنت ألتقط في مخيلتي مشاهد ما سأفعله أول ما اجتاز المعبر إلى غزة, كنت سأسجد على الأرض وأقبل ترابها ثم أهرول احتضن صغيرتي نور وآه ثم آه يا نور.. نور كنت انتظره بعد عتمة الغربة القسرية بلا ذنب سوى أني فلسطينية الجنسية.
كنت سأوزع القبلات على ذرّات الهواء وسأحمل بيدي راية فلسطين أخرجها من شباك السيارة لتبقى ترفرف خفاقا، كنـــــت سأسلم على المارة وأحيي الدكاكين والباعة، كنت سأحتضن كل أطفال غزة وأوزّع عليهم حلوى اشتريتها من مصر فغزة محاصرة وشح فيها الطعام والدواء.
كنت سأغفر لكل من ظلمنا من حكام العرب وقد كنا لا نبيت نحن العالقون من نساء ورجال وشيوخ ومرضى إلا ونحن ندعوا على من ظلمنا وغربنا عن أهلينا وسرق الفرحة من عيوننا وراحة البال من قلوبنا.
وتذكرت ابن أخي الذي مات جنيناً قبل أن يُولد بأسبوع، كنت أول من حمل هذا الطفل الجميل, وكانت أول مرة أحمل فيها طفلاً ميتاً, كنا ننتظر ميلاد هذا الطفل بفارغ الصبر عساه يدخل الفرحة إلى قلوبنا التي أدماها الحزن طويلا.. مات الطفل ودفن في العريش ومات ودفن معه الحلم بعودة قريبة للوطن.
وتذكرت شاطئ العريش الجميل، كنا نسهر طويلاً على الشاطئ الذي كان يعجّ بالمصطافين في الصيف, وأتذكر كيف كان كل واحد منّا يتحدث عن شوقه للأهل والأولاد وكيف كان يصارع كل واحد الأخر ليثبت أن همه أكبر من هم الآخر، كنا نضحك أحيانا وكنا نبكي أحيانا.. وأحياناً وأحيانا.
وتذكرت كيف كانت عيناي تتابعان حركة الأطفال المصريين علي الشاطئ فأتلهف بقلب الأم إن وقع طفل في الماء، وكيف أني كنت ارغب باحتضان طفلة تشبه طفلتي فأخالها تهرول نحوي وإذ بها تسرع بعيداً ناحية أمها.
وتذكرت كيف انتهي فصل الصيف بعودة كل المصطافين المصريين إلى مناطق سكناهم... وبعدما عادت دفعة من العالقين الفلسطينيين إلى غزة، فبقيت وحدي على الشاطئ أكاد اسمع صوت صدي أنفاسي لولا صوت أمواج البحر، ولعب أطفال مبعثرة وبقايا طعام هنا وهناك... هي أطلال أناس كانوا هنا كل يوم..
أصواتهم.. ضحكاتهم.. كلها رحلت معهم..
تذكرت كيف كنت ابكي ولا أزال عندما أجد الكل قد عاد إلى وطنه إلا نحن
كنت أتمنى لو أتحول إلى سمكة تسبح في أعماق البحر إلى أن أصل إلى شاطئ غزة
كنت أحسد الطيور التي كنت أراها أسرابا أسرابا تهاجر من مكان إلى آخر لأن لها جناحين تستطيع بهما أن تطير فلا تحتاج إلى جواز سفر ولا توقفها حدود ولا رجال أمن ولا نقاط تفتيش..
وتذكرت كيف قضينا شهر رمضان.. صائمين عن الطعام وصائمين عن الفرحة، وكيف كان أملنا كبيراً أن نقضي عيد الفطر بين أهلينا؛ فاشتريت فستان العيد لنور وحذاء وحقيبة، وصرت أتخيلها تتراقص فرِحة بهديتي إليها وترتمي في حضني وتقبلني.. جاء العيد السعيد على قلبي الحزين وأنا أنظر للفستان الذي ربما سيصبح صغيرا عليها لو طال البعد أشهراً قادمة..
وتذكرت كيف كنا نموت في اليوم ألف مرة ونحن نجد إعلاماً عربياً ميتاً لا يتناول قضيتنا، وأمة ميتة لا تحرك ساكناً، مما زاد شعورنا بأننا منسيون وسنبقى عالقين خارج الوطن.
وتذكرت كيف حل الخريف فتساقطت معه أوراق الشجر وتساقط معه الأمل بعود قريب
وتذكرت كيف حل الشتاء وما أقسى أن لا يشعر المرء بدفء الوطن في الشتاء...
وتذكرت كيف جاء عيد ثانٍ هو عيد الأضحى المبارك.. وكيف ساهمت الإغاثة الطبية الإسلامية واتحاد الأطباء العرب في رسم البهجة في عيون الأطفال الفلسطينيين العالقين، فاشترتْ لهم الألعاب وذبحتْ أمامهم العجول ووزعتْ على الأسر الأضاحي بسخاء.. كان موقفاً نبيلاً لَمسناه ولا نزال من الشعب المصري الكريم الغني بنخوته وأصالته رغم فقره المادي والذي كان يتمنى أن يفرش لنا رموشه لنمشي عليها...
ثم تذكرت كيف أتقن أطفالنا اللهجة المصرية وكيف جعلوا أقرانهم من المصريين يتحدثون باللهجة الفلسطينية.. وكم كنت أضحك وأنا أسمع حديث الطرفين وهما يلعبان سوية.
ثم تذكرت أني لا أزال في السيارة... آه ما أحلاك يا وطني حتى لو كنا نتجرع لحبك علقما.. وما أغلى ترابك حتى لو كان طريقنا إليك شوكاً..
اقتربنا من بوابة المعبر في الجانب المصري وفي مقدمتها عبارة ترحيب وتمنيات برحلة سعيدة.. قلت في نفسي بحسرة: هه.. رحلة سعيدة!!
وقفت السيارة وأنزلنا الحقائب إلى حيث البوابة التي تجمع عندها العشرات من العالقين المتلهفين للعودة، كان عددنا لا يتجاوز المئة شخص من رجال ونساء وأطفال، الكل يزاحم الكل والكل يسابق الكل وبوابة مغلقة تفتح كل نصف ساعة لتدخل نفرا قليلا.. استوقفني صحافي مصري يعرفني كنت قبل يوم رفضت الحديث معه لأن نفسيتي كانت متعبة وصار يسألني عن مشاعري وأنا سأدخل المعبر أخيرا.. أجبته بابتسامة وأمل حذرين... والتقط لي صورا، قلت في نفسي: عساها تكون آخر صور تذكرني بتجربة مريرة عشتها مع غيري من العالقين!
فُتحتْ البوابة.. ودخلت أنا وزوجي.. ربما لم تكن قدماي اللتين تمضيان بي... كنت أشعر بأني أطير.. وبأني بت أمتلك جناحين كبيرين... لأول مرة من سبعة شهور أتذوق حلاوة الضحكة من القلب... كنت مستعدة أن أحمل حقائبي دفعة واحدة؛ فالآن يهون كل تعب.. أنا الآن على بعد أمتار من الوطن..
وصلنا صالة السفر المصرية حيث يتم ختم الجوازات ومن ثم الدخول للجانب الفلسطيني.. ربما هو ختم على كتاب يقولون لي فيه: أنت الآن حرة طليقة... ما هي إلا خطوات وأصل الضابط المصري ليختم لي على جواز السفر حتى توقف كل شي... وقف الضابط وقال: أغلق المعبر!
آه يا أخي في العروبة والإسلام، لو كنت تدرك مرارة كل حرف من جملتك هذه... لما استطعت أن تنطقها.
آه يا أخي في العروبة والإسلام، لو كنت تدرك أن جملتك هذه هي أشد ثقلا علينا من حمل أمتعتنا... لما استطاع لسانك حمل تلك الحروف!
آه يا أخي في العروبة والإسلام، لو تدرك حلاوة الحلم بالعودة للوطن عندما يتحول لحقيقة لما هان عليك أن توقظنا!
آه يا أخي في العروبة والإسلام... كيف تشتت العائلة من جديد فأولاد دخلوا وآباء منعوا ونساء يبكين.. وعجائز يتوسلون.. ومرضى يبكون.. وأنا أنظر إلى كل الوجوه.. ربما لأخفف من شعوري بالقهر أو أزيد!
كيف تصل اللقمة إلى فم الجائع ويسحبونها منه!
كيف تبكي الحرائر ولا تجد لدمعتها وزناً لنخوة عربي!
طوال وجودي في صالة الجوازات لم يهتز لي جفن ولم أذرف دمعة واحدة حتى وأنا أرى رجال الأمن يقذفون حقائب المسافرين يجبرونهم على العودة إلى الجانب المصري... ربما كنت أبكي بصمت.. وربما كنت أحاول التجلد في موقف يستحق من الرجال قبل النساء البكاء فيه!
كنت آخر من خرج من الصالة.. ربما كان تمسكاً بالأمل حتى آخر لحظة!
وخرجت فقط قبل أن تُهان كرامتي كامرأة عربية مسلمة قبل أن أكون الرسامة المشهورة ....أغلقوا بوابة المعبر... حينها فقط بكيت... وبكيت بحرقة.. كنت دوماً أداري دمعتي... ولكني بكيت أمام الجميع.. فالجميع يا إخوتي في العروبة والإسلام... كان يبكي!
أمية جحا
فنانة فلسطينية
فنانة فلسطينية
تعليق