..:: السرية في العمل الجهادي ::..
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
*******************
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال الله تعالى }يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون{، وقال تعالى }يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا{، وقال تعالى }يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما{.
أما بعد: فيا أيها الإخوة المسلمون الأحباب، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه رسالتنا الثانية إليكم نبحث فيها مسألة مشروعية السرية في العمل الإسلامي.
فقد كثر اللغط والغلط فيها من جانب أعداء الإسلام ومن جانب أبناء الإسلام على السواء، فمِن قائل إن السرية ليست من الإسلام ولا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أو السلف الصالح، ومن قائل إنها بدعة، إلى غير ذلك من الأقوال التي سنبين بطلانها إن شاء الله تعالى.
ونحن نذكر بعون الله تعالى مشروعية السرية في العمل الإسلامي مؤيدين قولنا بالكتاب والسنة، وكلام سلف الأمة وأئمتها، وهو المنهج الذي التزمنا به بفضل الله تعالى في أقوالنا وأفعالنا، امتثالا لقول الله تعالى آمرا عباده المؤمنين }فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا{{[1]}
ومقصدنا من نشر هذا الموضوع بيان الحق في هذه المسألة للعاملين في ساحة العمل الإسلامي عموما والجهادي خصوصا، ونهدف أيضا إلى كشف خطأ الذين ينسبون إلى الإسلام ما ليس منه، أو ينفون عنه ما هو منه، فنقول وبالله التوفيق:
اتفق الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم على أصلين عظيمين من أصول الحرب، وهما السرية والخداع، وذلك على تباين في الفهم.
فالخداع في الحرب لا يجوز فيه الغدر ونقض العهود عند المؤمنين بخلاف الكافرين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الحرب خَدْعة}{[2]}، وهذا من أساليب حصر المبتدأ {الحرب} في الخبر {خدعة} أي إن أساس الحرب وأهم أركانها الخداع، كقوله صلى الله عليه وسلم {الحج عرفة}{[3]}، أي أهم ما في الحج الوقوف بعرفة، مع أن هناك أركانا أخرى في الحج، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم {الدين النصيحة}{[4]}
قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: اتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب، وكيف أمكن الخداع إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل. اهـ{[5]}
وقال ابن حجر العسقلاني رحمه الله: وأصل الخداع إظهار أمر وإضمار خلافـه، وفيـه ـ أي في الحديث ـ التحريض على أخذ الحذر في الحرب، والندب إلى خداع الكفار، وأن من لم يتيقظ لذلك لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه.
قال ابن العربي: الخداع في الحرب يقع بالتعريض وبالكمين ونحو ذلك، وفي الحديث الإشارة إلى استعمال الرأي في الحرب، بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة، ولهذا وقع الاقتصار على ما يشير إليه هذا الحديث، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم {الحج عرفة}، قال ابن المنير: معنى الحرب خدعة: أي الحرب الجيدة لصاحبها الكاملة في مقصودها إنما هي المخادعة لا المواجهة، وذلك لخطر المواجهة وحصول الظفر مع المخادعة لغير خطر. اهـ{[6]}
وفي الحديث وجوب أخذ الحذر في الحرب فعدوك يريد أن يخدعك كما تريد أنت تخدعه أنت، وقد قال تعالى }يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم{{[7]}، وقال تعالى }وخذوا حذركم{{[8]}
وإذا كان هذا هو حال الدول والجيوش مع بعضها البعض فكيف بالمسلمين في حربهم مع عدوهم مع ضعفهم وقلتهم؟
لا شك أنهم أحوج ما يكونون إلى استخدام الخداع والحيلة والابتكار في مواجهة أعدائهم.
والخداع له صور فنية يعرفها المختصون في فنون الحرب والقتال، كالإخفاء والتمويه والحيل والتوقيت وغير ذلك، ولن نتعرض لهذه الأمور الفنية هنا.
ولكننا سنتعرض لبعض الأمور الشرعية المتعلقة بالخداع، وهذه الأمور هي: الكذب على الأعداء، واغتيال المحاربين منهم، ثم نتكلم عن السرية وما بينها وبين الخداع من عموم وخصوص.
أولاً: الكذب على الأعداء
هذا ولم نقل الكذب في الحرب لأنه يجوز الكذب على العدو في الحرب وفي غير الحرب كما سندلل عليه إن شاء الله تعالى.
أ- أما في الحرب، ففيه حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها قالت: {لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب مما تقول الناس إلا في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها}{[9]}
قال النووي رحمه الله: صح في الحديث جواز الكذب في ثلاثة أشياء، أحدها في الحرب، قال الطبري إنما يجوز من الكذب في الحرب المعاريض دون حقيقة الكذب فإنه لا يحل، هذا كلامه، والظاهر إباحة حقيقة نفس الكذب، لكن الاقتصار على التعريض أفضل والله أعلم. اهـ{[10]}
وقال ابن حجر رحمه الله: قال النووي الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة لكن التعريض أولى، وقال ابن العربي الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه، وليس للعقل فيه مجال، ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالا.اهـ{[11]}
ب- وأما الكذب على العدو في غير حالة الحرب فيجوز لأسباب منها ما فيها مصلحة دينية أو مصلحة دنيوية للمؤمن أو تخلص من أذى الكافرين والأدلة على ذلك:
1. قصة إبراهيم عليه السلام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات: اثنتين منهن في ذات الله عز وجل: قوله }إني سقيم{ وقوله }بل فعله كبيرهم هذا{، وقال: بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له: إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فسأل عنها فقال: من هذه؟ قال أختي، فأتى سارة قال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني.... } {[12]}
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: وإلا فالكذب المحض في مثل تلك المقامات يجوز، وقد يجب لتحمل أخف الضررين دفعا لأعظمهما، وأما تسميته إياها كذبات فلا يريد أنها تُذَم، فإن الكذب وإن كان قبيحا مخلا، لكنه قد يحسن في مواضع هذا منها، وقوله {اثنتين في ذات الله} خصهما بذلك لأن قصة سارة وإن كانت أيضا في ذات الله، لكن تضمنت حظا لنفسه ونفعا له بخلاف الاثنتين الأخيرتين فإنهما في ذات الله محضا، وقد وقع في رواية هشام بن حسان المذكورة {إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات كل ذلك في ذات الله}، وفي حديث ابن عباس عند أحمد {والله إن جادل بهن إلا عن دين الله}.اهـ{[13]}
فهذا الكذب منه ما فيه مصلحة دينية ومنه ما فيه فرار من أذى الكافرين وكلاهما جائز.
2. قصة أصحاب الأخدود، وقد ورد فيها عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {كان ملك فيمن قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليَّ غلاما أعلمه السحر، فبعث إليه غلاما يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب فقال له: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر....}{[14]}
قال النووي رحمه الله في شرحه: وفيه جواز الكذب في الحرب ونحوها، وفي إنقاذ النفس من الهلاك، سواء نفسه أو نفس غيره ممن له حرمة. اهـ{[15]}
وهذه لم تكن حالة حرب ولكن النووي لعله يشير إلى أنه إذا جاز الكذب على الكافر في غير الحرب ففي الحرب أولى، والحديث السابق وحديث إبراهيم عليه السلام فيهما جواز الكذب للنجاة من بطش الكافرين وقد قال النووي في موضع آخر: قالوا ولا خلاف أنه لو قصد ظالم قتل رجل هو عنده مختفٍ وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين هو. اهـ{[16]}
ويجوز الكذب على الكافر لأجل المصلحة الدنيوية، وفيه قصة الحجاج بن علاط التي أشار إليها ابن حجر في شرح البخاري باب الكذب في الحرب حيث قال: ويقويه ما أخرجه أحمد وابن حبان من حديث أنس في قصة الحجاج بن علاط الذي أخرجه النسائي وصححه الحاكم في استئذانه النبي صلى الله عليه وسلم ، وإخباره لأهل مكة أن أهل خيبر هزموا المسلمين وغير ذلك مما هو مشهور فيه ـ إلى أن قال ـ قصة الحجاج بن علاط أيضا لم تكن في حالة حرب. اهـ{[17]}
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
*******************
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال الله تعالى }يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون{، وقال تعالى }يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا{، وقال تعالى }يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما{.
أما بعد: فيا أيها الإخوة المسلمون الأحباب، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه رسالتنا الثانية إليكم نبحث فيها مسألة مشروعية السرية في العمل الإسلامي.
فقد كثر اللغط والغلط فيها من جانب أعداء الإسلام ومن جانب أبناء الإسلام على السواء، فمِن قائل إن السرية ليست من الإسلام ولا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أو السلف الصالح، ومن قائل إنها بدعة، إلى غير ذلك من الأقوال التي سنبين بطلانها إن شاء الله تعالى.
ونحن نذكر بعون الله تعالى مشروعية السرية في العمل الإسلامي مؤيدين قولنا بالكتاب والسنة، وكلام سلف الأمة وأئمتها، وهو المنهج الذي التزمنا به بفضل الله تعالى في أقوالنا وأفعالنا، امتثالا لقول الله تعالى آمرا عباده المؤمنين }فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا{{[1]}
ومقصدنا من نشر هذا الموضوع بيان الحق في هذه المسألة للعاملين في ساحة العمل الإسلامي عموما والجهادي خصوصا، ونهدف أيضا إلى كشف خطأ الذين ينسبون إلى الإسلام ما ليس منه، أو ينفون عنه ما هو منه، فنقول وبالله التوفيق:
اتفق الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم على أصلين عظيمين من أصول الحرب، وهما السرية والخداع، وذلك على تباين في الفهم.
فالخداع في الحرب لا يجوز فيه الغدر ونقض العهود عند المؤمنين بخلاف الكافرين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الحرب خَدْعة}{[2]}، وهذا من أساليب حصر المبتدأ {الحرب} في الخبر {خدعة} أي إن أساس الحرب وأهم أركانها الخداع، كقوله صلى الله عليه وسلم {الحج عرفة}{[3]}، أي أهم ما في الحج الوقوف بعرفة، مع أن هناك أركانا أخرى في الحج، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم {الدين النصيحة}{[4]}
قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: اتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب، وكيف أمكن الخداع إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل. اهـ{[5]}
وقال ابن حجر العسقلاني رحمه الله: وأصل الخداع إظهار أمر وإضمار خلافـه، وفيـه ـ أي في الحديث ـ التحريض على أخذ الحذر في الحرب، والندب إلى خداع الكفار، وأن من لم يتيقظ لذلك لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه.
قال ابن العربي: الخداع في الحرب يقع بالتعريض وبالكمين ونحو ذلك، وفي الحديث الإشارة إلى استعمال الرأي في الحرب، بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة، ولهذا وقع الاقتصار على ما يشير إليه هذا الحديث، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم {الحج عرفة}، قال ابن المنير: معنى الحرب خدعة: أي الحرب الجيدة لصاحبها الكاملة في مقصودها إنما هي المخادعة لا المواجهة، وذلك لخطر المواجهة وحصول الظفر مع المخادعة لغير خطر. اهـ{[6]}
وفي الحديث وجوب أخذ الحذر في الحرب فعدوك يريد أن يخدعك كما تريد أنت تخدعه أنت، وقد قال تعالى }يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم{{[7]}، وقال تعالى }وخذوا حذركم{{[8]}
وإذا كان هذا هو حال الدول والجيوش مع بعضها البعض فكيف بالمسلمين في حربهم مع عدوهم مع ضعفهم وقلتهم؟
لا شك أنهم أحوج ما يكونون إلى استخدام الخداع والحيلة والابتكار في مواجهة أعدائهم.
والخداع له صور فنية يعرفها المختصون في فنون الحرب والقتال، كالإخفاء والتمويه والحيل والتوقيت وغير ذلك، ولن نتعرض لهذه الأمور الفنية هنا.
ولكننا سنتعرض لبعض الأمور الشرعية المتعلقة بالخداع، وهذه الأمور هي: الكذب على الأعداء، واغتيال المحاربين منهم، ثم نتكلم عن السرية وما بينها وبين الخداع من عموم وخصوص.
أولاً: الكذب على الأعداء
هذا ولم نقل الكذب في الحرب لأنه يجوز الكذب على العدو في الحرب وفي غير الحرب كما سندلل عليه إن شاء الله تعالى.
أ- أما في الحرب، ففيه حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها قالت: {لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب مما تقول الناس إلا في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها}{[9]}
قال النووي رحمه الله: صح في الحديث جواز الكذب في ثلاثة أشياء، أحدها في الحرب، قال الطبري إنما يجوز من الكذب في الحرب المعاريض دون حقيقة الكذب فإنه لا يحل، هذا كلامه، والظاهر إباحة حقيقة نفس الكذب، لكن الاقتصار على التعريض أفضل والله أعلم. اهـ{[10]}
وقال ابن حجر رحمه الله: قال النووي الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة لكن التعريض أولى، وقال ابن العربي الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه، وليس للعقل فيه مجال، ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالا.اهـ{[11]}
ب- وأما الكذب على العدو في غير حالة الحرب فيجوز لأسباب منها ما فيها مصلحة دينية أو مصلحة دنيوية للمؤمن أو تخلص من أذى الكافرين والأدلة على ذلك:
1. قصة إبراهيم عليه السلام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات: اثنتين منهن في ذات الله عز وجل: قوله }إني سقيم{ وقوله }بل فعله كبيرهم هذا{، وقال: بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له: إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فسأل عنها فقال: من هذه؟ قال أختي، فأتى سارة قال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني.... } {[12]}
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: وإلا فالكذب المحض في مثل تلك المقامات يجوز، وقد يجب لتحمل أخف الضررين دفعا لأعظمهما، وأما تسميته إياها كذبات فلا يريد أنها تُذَم، فإن الكذب وإن كان قبيحا مخلا، لكنه قد يحسن في مواضع هذا منها، وقوله {اثنتين في ذات الله} خصهما بذلك لأن قصة سارة وإن كانت أيضا في ذات الله، لكن تضمنت حظا لنفسه ونفعا له بخلاف الاثنتين الأخيرتين فإنهما في ذات الله محضا، وقد وقع في رواية هشام بن حسان المذكورة {إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات كل ذلك في ذات الله}، وفي حديث ابن عباس عند أحمد {والله إن جادل بهن إلا عن دين الله}.اهـ{[13]}
فهذا الكذب منه ما فيه مصلحة دينية ومنه ما فيه فرار من أذى الكافرين وكلاهما جائز.
2. قصة أصحاب الأخدود، وقد ورد فيها عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {كان ملك فيمن قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليَّ غلاما أعلمه السحر، فبعث إليه غلاما يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب فقال له: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر....}{[14]}
قال النووي رحمه الله في شرحه: وفيه جواز الكذب في الحرب ونحوها، وفي إنقاذ النفس من الهلاك، سواء نفسه أو نفس غيره ممن له حرمة. اهـ{[15]}
وهذه لم تكن حالة حرب ولكن النووي لعله يشير إلى أنه إذا جاز الكذب على الكافر في غير الحرب ففي الحرب أولى، والحديث السابق وحديث إبراهيم عليه السلام فيهما جواز الكذب للنجاة من بطش الكافرين وقد قال النووي في موضع آخر: قالوا ولا خلاف أنه لو قصد ظالم قتل رجل هو عنده مختفٍ وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين هو. اهـ{[16]}
ويجوز الكذب على الكافر لأجل المصلحة الدنيوية، وفيه قصة الحجاج بن علاط التي أشار إليها ابن حجر في شرح البخاري باب الكذب في الحرب حيث قال: ويقويه ما أخرجه أحمد وابن حبان من حديث أنس في قصة الحجاج بن علاط الذي أخرجه النسائي وصححه الحاكم في استئذانه النبي صلى الله عليه وسلم ، وإخباره لأهل مكة أن أهل خيبر هزموا المسلمين وغير ذلك مما هو مشهور فيه ـ إلى أن قال ـ قصة الحجاج بن علاط أيضا لم تكن في حالة حرب. اهـ{[17]}
تعليق