... أبدأ حيث انتهت مريمُ -رضيَ الله عنها- من هزّ جذع النخلة امتثالاً لأمرِ الله عزّ وجلّ [ وهزّي إليكِ بجذع النخلة تُساقط عليك رطباً جنيّا ] أجل... سأبدأ حيثُ جاءَ الفرج، وحيثُ انتهت معاناة حجّاج غزة في طريق عودتهم، وحيث هدأ حنينهم إلى سجنهم الحنون -غزّة الحبيبة التي غادروها ملبّينَ نداء الله بعد حصار دام سبعة أشهر ولا زالَ مستمرّاً- وفُتّحت أخيراً لهم الأبواب التي غلّقت في وجوههم بإحكام؛ ليدخلوا مكبّرين سجنهم الكبير... وأنتهي حيث بدأ القول "من أدخل حجّاج غزة بيتهم؟ ومن الذي جاء بالفرج؟" وكأنّهم يتساءلون "من الذي أسقط على مريم رطباً جنيّا؟!" ...!
كانت مريم عليها السّلام تدرك جيّداً -كما نُدرك جميعاً- أنّ جسَدها الضّعيف المتألم ساعة المخاضِ باتَ عاجزاً عن الحِرَاكِ إلا من أوجاعه! ولم يعدّ قادراً حتى على هزّ غصن شجرة صغيرة؛ فقد أثقلته -معَ زلزلة المخاض- وحدته وغربته والمعجزة -الجديدة على العذراء وقومها!- والتي أُودعت فيه لتُنتزعَ الآن كما تنتزع الرّوح! ولتصرخ مريم صرخة تصيبُ كلّ من يسمعها شظايا المحنة [ يا ليتني متّ قبلَ هذا وكنتُ نسياً منسيّاً ].
فأيّ جذع نخلة سيهتزّ بيدِ ذلك الجسد الذي يأملُ أن يستطيع استنشاق الهواء! وأيّ رطبٍ ستتساقط نتيجة لتلك الهزّة التي لن تستطيع مريم -بجسدها- أن تحدثها! ولكنّ مريم عليها السّلام أدركت أيضاً -كما أدركَ كلّ آخذ بالأسباب- بأنّ عليها أن تطيع ليمضيَ فيها أمر ربّها عزّ وجلّ. نعم... عليها أن تمدّ يدها المرتجفة دون نظرٍ إلى هَول المحنة وشدّتها وتحاول هزّ الجذع بكلّ ما تمتلك من قدرة؛ ففعلت -كما هزّوا إليهم بجذع محنة حجّاج غزّة- وكانَ الفرج أسبق... تماماً كما كانَ أسبقَ يوم أن جاءَ إبراهيم بالسّكين [ فلمّا أسلما وتلّه للجبين ] حال فرج الله بين ابنه والسّكين، وفداهُ ربّه بذبحٍ عظيم.
وانتهت محنة إبراهيم عليه السّلام وعانق ابنه في يوم فرحة كبير... كما انتهت محنة مريم عليها السّلام وضمّت إليها ولدها المبارك الذي لم يكن جباراً ولا شقياً، كما انتهت محنة أمّ موسى ببشرى [ إنا رادّوه إليكِ وجاعلوهُ من المرسلين ]... ومضت تلك المحن كأن لم تكن، ومضى أصحابها إلى جنّة عرضها الأرض والسماوات.
وانتهت كثير محن قبلها وبعدها، وانتهت كذلك محنة حجّاج غزة. ولكنّ سنّة الله فيها -جميعاً- ما زالت باقية إلى يوم القيامة؛ فواجبٌ علينا العمل على هزّ جذوع المِحَن، كما هو واجبٌ علينا أن نُعِدّ كلّ ما نستطيع ونقدّم كلّ ما نقدر عليه، ولن يكونَ مهما كبر شيئاً يُذكر أمامَ مشيئة الله إلا أنّه اعتذارٌ إلى ربنا ليرضى، وامتثالٌ لأمره؛ فكلّ شيء بيده سبحانه وبحمده، وعلينا أن نمضيَ في هذا الكون وفق نظامه وسننه، ولا نشذّ عنه فيرمينا في دائرة الاتكال إلى النّفس الضعيفة!
نريد أن نكون في دائرة (معيّة الله) وفي أحضانِ أمرِ (كن) فيكون.
وبعد انتهاء محنة غزّة نتقدّم بالشكر لكلّ من أطاع أمر الله عزّ وجلّ فأخذ بالأسباب وحاول بكلّ ما يمتلك من قدرات أن يعتذر إلى الله -ونخصّ هنا إخواننا الذين علموا هذا السّرّ فتقدّموا وهزّوا إليهم بجذع محنة حجّاج غزة لله وفقط لله راجين منه سبحانه أن يُحدث أمراً وأن يجعل بعد العسر يسراً- نشكرهم مدركين -كما هم- أنّهم ضعفاء جدّاً ولكنّهم ساهموا في أن يمضيَ فرج الله في أهل فلسطين الحبيبة، وحجّاج بيت الله الحرام.
ومع شكر المعتذرين إلى الله نجدّد معاتبة من قصّر ولم يأخذ بالأسباب ولم يحاول هزّ جذع المحنة؛ فهذا واجبٌ عليه، وحقّ من حقوق إخوانه هو مسئول عن أدائه. كما نعاتب من ظنّ أنّه قدّم شيئاً، ومن فعل كي يُقال أنّه قد فعل! ونتذكّر -في هذا المقام- أنّ هناك حُجّاجاً آخرين ما زالوا يعانون المرارة والتضييق والتنكيل... فقط لأنهم ((حجّاج بيت الله الحرام)).
ونلتفت فننظر بعيداً عن معاناة الحجّاج فنرى محناً كثيرة وابتلاءات هنا وهناك... محنٌ تمضي، وأخرى تكبُر ويحويها سخط وتعلق بدنيا الفناء! أليس علينا أن نفقه سنن الله في هذا الكون فنقف ونأخذ ممّا يمضي العِبَر! فلا نلومُ دهراً ولا نشكو عِظَم مصيبة وقلة قدرة! إنّما نقدّم ما استطعنا مدركينَ أنّ الفرج من الله وبرحمة الله لا بأعمالنا، وكلّ ما نفعله هو (مجرّد اعتذار بسيط) نرجو الله أن يقبله منا، ويرحم ضعفنا، ويجبر كسرنا.
أيّها الأعزة الكرام... لنتعاون جميعاً على أن نصل الرّحم، ونحمل الكَلّ، ونكسب المعدوم، ونقري الضّيف، ونعين على نوائب الدّهر... ولا بدّ من تسديد الخطوات على الطريق، وربط القلوب، والأخذ بيد المتعثر وردّه إلى الجادّة.
وبعد ذلك كلّه، ومجيء الفرج، وانتهاء محنة لا نكون حمقى فنسأل: "من أسقط على مريم رطباً جنيّا؟"... بل: معاً -كما حاولنا معاً أن نهزّ جذوع المحن عنّا وعن إخواننا المسلمين في كلّ مكان- نردّد: الحمد لله حمداً كثيراً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيمِ سلطانه، الحمد لله الذي خفف عنا وعلِم عجزنا فأعاننا وجعل بعد العُسر يسراً فأصبح لليسر فرحتين...
بقلم وريشة:
هداية
تعليق