الشيخ المجاهد الحافظ/
يوسف بن صالح العييري ( البتـــــار )
محتويات الكتاب
* إضاءة على طريق الجهاد ..
* أيها الأبوان لا استئذان في فروض الأعيان ..
* أين الطريق إلى أرض المعركة؟
* ثوابت على درب الجهاد «1» الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة ..
* ثوابت على درب الجهاد «2» الجهاد ليس معلقاً بأشخاص ..
* ثوابت على درب الجهاد «3» الجهاد ليس معلقاً بأرض أو معركة ..
* ثوابت على درب الجهاد «4» النصر ليس بالغلبة العسكرية فحسب ..
إضاءة على طريق الجهاد
الحمد لله قاهر الجبابرة ومعز المؤمنين وناصرهم، والصلاة والسلام على خير المجاهدين وقائدة الغر المحجلين المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
يسأل كثير من المسلمين هذه الأيام لا سيما بعد بدأ الحرب الصليبية الجديدة الشاملة على الإسلام والمسلمين ويقولون: ما هو دورنا وماذا نفعل لنصرة الإسلام والمسلمين؟.
وكنت أعتقد أن مثل تلك الأسئلة أصبح الجواب عنها لدى المسلمين بديهياً لكثرة تكرارها، إلا أن هذا السؤال تردد كثيراً هذه الأيام، ويتردد مع كل قضية وجرح جديد للأمة، ولا أعرف ما هو سبب جهل الناس بدورهم في معركة الإسلام اليوم؟!.
رغم أن كل قارئ لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يتضح له دوره في هذه المعركة بمجرد قراءته لآيات الجهاد ونصوص السنة، ولن أستعرض النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة التي توضح دور كل مسلم، ولكني سأقف فقط مع نص واحد من نصوص المصطفى صلى الله عليه وسلم وضّح فيه الرسول صلى الله عليه وسلم دور كل مسلم بصيغة الأمر الواجبة التي لا تسقط بحال عن ذمة المكلف.
روى الإمام أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه والدارمي وغيرهم عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) وفي رواية النسائي (وأيديكم) بدل أنفسكم، قال الحاكم هذه حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار 8/29 ”قوله (جاهدوا المشركين.. إلخ) فيه دليل على وجوب المجاهدة للكفار بالأموال والأيدي والألسن، وقد ثبت الأمر القرآني بالجهاد بالأنفس والأموال في مواضع، وظاهر الأمر الوجوب “.
ولست بصدد تفصيل حكم الجهاد ومتى يتعين ومتى لا يتعين، ولكنني أريد أن أبين هنا مهمة كل مسلم ووظيفته في مجاهدة الأعداء، إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث المتقدم أصول سبل الجهاد ضد العدو الكافر، فذكر ثلاثة أصول من أربعة:
الأصل الأول: الجهاد بالنفس أو اليد وهذا أعلى مراتب الجهاد وأكملها، وقال ابن حجر رحمه الله ”إن نصوص الكتاب والسنة إذا جاءت بذكر الجهاد مطلقاً ولم تقيده ولم تضفه إلى المال أو اللسان فإنها تنصرف إلى الجهاد بالسيف باتفاق السلف“ والجهاد بالنفس هو أعلى مراتب الجهاد لذا فقد رتب الله عليه أكمل الأجر وعقد الصفقة ببيع الجنة للمؤمن مقابل نفسه أولاً كما جاء في سورة التوبة ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة:111) فهي الآية الوحيدة من آيات الجهاد التي يقدم الله فيها النفس على المال وذلك لما كانت السلعة غالية اقتضى أن يكون الثمن غالياً مثلها أيضاً.
ويتفرع عن الجهاد بالنفس، الواجب على المؤمنين الرباط وتدريب المجاهدين وإعدادهم والاستطلاع لهم في ميادين المعركة وغير ذلك من المجهودات البدنية التي تجب على المسلم القادر في هذه الأيام وجوباً عينياً كما أجمع العلماء على ذلك، بأن أرض المسلمين إذا دهمها العدو فقد تعين الجهاد على كل مسلم قادر.
الأصل الثاني: من أصول السبل التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم أيضاً قوله (وأموالكم) فالجهاد بالمال كثيراً ما يقرن في آيات الجهاد في القرآن، ويأتي مقدماً على النفس لكنه ليس أعلى مرتبة من الجهاد بالنفس كلا، ولكن لأن الجهاد بالمال هو النوع الذي تخاطب بها الأمة أجمع، إذ أن الكفاية بالرجال تحصل عند نفور عدد من رجال الأمة، ولكن المال لا تحصل كفاية المجاهدين به إلا إذا تكاتفت الأمة جميعها وضخت المال للمجاهدين الذي يعد عصب الجهاد، فالشريحة المخاطبة بوجوب الجهاد بالمال هي أكبر من الشريحة المخاطبة بوجوب الجهاد بالنفس، لذا قُدم الجهاد بالمال في آيات الجهاد لاعتبار سعة شريحة المخاطبين من رجال ونساء شباباً وشيوخاً صغاراً وكباراً والله أعلم.
والجهاد بالمال ليس بالضرورة أن يكون قدراً كبيراً من المال يدفعه المؤمن، بل يدفع ما يبرئ به ذمته أمام الله تعالى، لأن المقصد من الجهاد بالمال إذا تعين أن تسقط الواجب الذي في عنقك وتدفع القدر الذي تعتقد أن ذمتك ستبرأ عند الله تعالى بدفعه ولو كان يسيراً، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم عند أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سبق درهم مائة ألف) قالوا يا رسول الله وكيف؟ قال (رجل له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به ورجل له مال كثير فأخذ من عرض ماله مائة ألف فتصدق بها) فالله لا يقبل الصدقة بناءً على كميتها ولكن يقبلها على حسب كيفيتها، كما روى أحمد وأبو داود عندما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل؟ قال (جهد المقل) أي صدقة الرجل المحتاج لماله الذي لا يملك إلا القليل، فاتق الله وقدم ما تجود به نفسك، ليس لمرة واحدة فقط بل اجعل للجهاد من دخلك نصيبا بما أن الحرب قائمة والمجاهدون بحاجة للمال.
ويتفرع عن الجهاد بالمال لمن لم يكن له دخل ولا مال ينفقه، أن يجمع التبرعات من أهل اليسار ومن النساء والأطفال والخاصة والعامة، ومن لم يستطع أن يجمع المال بإمكانه أن يحرض على الجهاد بالمال ويطلب من المسلمين ألا يشحوا بأموالهم إذا ما طلبت منهم.
ويتفرع عن الجهاد بالمال أيضاً أن يسعى كل قادر على إدارة الأموال بجمع رأس مال ويبني به مشروعاً يعود ريعه على المجاهدين بشكل دوري.
وهناك سبل أخرى كثيرة تتفرع عن الجهاد بالمال وقد اتضح المقصود من تلك الأمثلة.
الأصل الثالث: من أصول السبل الرئيسية التي نص عليها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه المتقدم الجهاد باللسان والجهاد باللسان شأنه عظيم وفي بعض الأحيان يكون أعظم من الجهاد بالأبدان أقول في بعض الأحيان وليس دائماً، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين (أهجوا قريشاً فإنه أشد عليهم من رشق بالنبل) فالجهاد باللسان أمره عظيم وهو المرحلة الأولى التي تتقدم مرحلة جهاد الأبدان والأموال، فلا يحرّض الناس للجهاد بأبدانهم إلا باللسان، ولا يحرّض الناس للجهاد بأموالهم إلا باللسان، فاللسان أمره عظيم وهو النوع الوحيد المتيسر لجميع المكلفين فكل مكلف بإمكانه أن يجاهد بلسانه وبأي طريقة كانت.
ويتفرع عن الجهاد باللسان تجلية حقيقة هذه الحرب الصليبية والهجمة التي تشن على الإسلام وفضحها، والذب عن المجاهدين والدفع عن أعراضهم، وذلك يكون بين خاصة الرجل وأهله، وبين عامة الناس في منتدياتهم وفي مساجدهم وأعمالهم ومدارسهم، فكل مسلم واجب عليه أن يجاهد بلسانه على قدر طاقته، والجهاد باللسان لا يشترط له شرط بل كل كلمة علمها المكلف ويرى أن فيها فضحاً للصليبيين أو ذباً عن المجاهدين وجب عليه القول بها وبيانها للناس والله أعلم.
ويتفرع عن الجهاد باللسان، التأليف والنشر للمواد المحرضة على الجهاد بأنواعه، من كتاب وشريط ونشرة وغيرها، ومن عجز عن التأليف فعليه توزيعها باليد أو بالفاكس أو بالبريد، ومن الجهاد باللسان أيضاً كتابة المقالات في الصحف والنشرات والدوريات، والكتابة عبر شبكة الإنترنت والمراسلة عبر البريد الإلكتروني لآلاف الناس، للمنافحة عن الإسلام في كل ميدان، وطرق الجهاد باللسان كثيرة وقد مثلت لها بما يوضحها والله أعلم.
الأصل الرابع: من أصول جهاد العدو جهاد العدو بالقلب، وهذا الأصل هو أول الأصول ترتيباً وأهمها، ولكني أتيت به رابعاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكره في النص الذي تناولنا الحديث عنه، إلا أن هذا الأصل هو ركن من أركان الإسلام ولا يقبل الله الإسلام من دونه، والنصوص كثيرة جداً التي توضح معنى جهاد القلب للأعداء، فأول معاني جهاد القلب بغض الكفار وما هم عليه ومن والاهم وعدم محبتهم والكفر بهم والكفر وبمعبوداتهم، فمتى انتفى عن العبد جهاد القلب تجاه عدوه فإنه كافر بالله العظيم قال الله تعالى ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ (المجادلة:22) وقال كما هي ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ﴾ (الممتحنة:4) وقال ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:256) والآيات الدالة على أن جهاد القلب للأعداء ركن من أركان الدين كثيرة لا يسع المقام لحصرها.
هذا توضيح بسيط للمهام المناطة في عنق كل مسلم مكلف في هذه الأيام في مقابلة الحرب الصليبية التي بدأت منذ قرون واشتدت وكشرت عن أنيابهما في يوم الأحد 19/7/1422هـ وذلك بقصفها للإمارة الإسلامية في أفغانستان نسأل الله أن يرد كيد المعتدين وينصر دينه وأولياءه ويعلي كلمته.
وأختم بتنبيه بسيط وهو ألا ينظر العبد إلى الحديث السابق وإلى ترتيب رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد بالمال والنفس واللسان فيظن أن هذا الترتيب يدل على الأولوية، فإن الواو التي جاءت بين هذه الأنواع لا تدل على الترتيب أو التعقيب إنما تدل على مجرد العطف، فالتقديم والتأخير هنا لا يدل على الأولوية، فترتيبها أن جهاد القلب هو الأعظم من ثم يليه جهاد النفس وبعدهما جهاد المال ثم اللسان، وقد يأتي في حالات خاصة ولأشخاص محددين جهاد اللسان مقدماً على النفس أو المال على النفس وهكذا، ولكن كحكم عام فإن الترتيب الذي ذكرته هو مقتضى نصوص الكتاب والسنة والله أعلم.
فليتق الله كل عبد وليعلم أن الله سبحانه وتعالى سائله عن جهاده، فإن قصّر وعمل بالأدنى وهو اللسان وترك الأعلى وهو الجهاد بالبدن، فإن هذا لا يبرئ ذمته، واعلم أن الأدنى لا يسقط الأعلى بحال والله تعالى أعلم.
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأبوان لا استئذان في فروض الأعيان
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين وأهل بيته أجمعين وبعد:
قال ابن قدامه في الكافي 4/ 256 ”وأفضل التطوع الجهاد في سبيل الله نص عليه أحمد، وذُكر له أمر الغزو فجعل يبكي ويقول ما من أعمال البر أفضل منه وأي عمل أفضل منه، والذين يقاتلون في سبيل الله هم الذين يدفعون عن الإسلام وعن حريمهم وقد بذلوا مهج أنفسهم، الناس آمنون وهم خائفون، وقد روى أبو سعيد الخدري قال قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال (مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله) متفق عليه“ أهـ. هذا قوله رحمه الله في الجهاد إذا كان فرض كفاية، فماذا سيقول إذا تعين الجهاد؟.
وإن من معوقات الجهاد في هذا الزمان والتي يسأل عنها عدد كبير من الشباب اليوم الذين تتوق أنفسهم إلى جبهات الجهاد معوق إذن الوالدين، وفيما يلي سنأتي على تفصيل حكم إذن الوالدين في الجهاد، إلا أن الحكم مجملاً قبل التفصيل أن الجهاد إذا تعين كما هو الحال في زماننا الحاضر لمداهمة العدو لأرض المسلمين، ففي هذه الحالة فقد سقط شرط إذن الأبوين للجهاد، فيخرج الولد بغير إذنهما ولا يأثم إن شاء الله.
وفي هذه الورقات فإنني سأخاطب الوالدين وأبين لهما حكم طاعتهما في ترك الجهاد، وأبين لهما حكم الجهاد في زماننا، فكل أبوين عزما على منع ولدهما أو أولادهما من الجهاد في زماننا، فليعلما أنهما عاصيين لله وذلك بالصد عن سبيله والله يقول ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾ (ابراهيم:3)، وليعلم الأبوان أنه لا طاعة لهما في معصية الله وسنورد تفصيل ذلك الإجمال وأدلته من كلام أهل العلم والله ولي التوفيق.
أيها الأبوان إن الإسلام يعاني اليوم من هجمة صليبية يهودية شملت أقطار العالم كلها، وهذه الهجمة اسُتهدف بها الإسلام وأهله من قتل وتشريد وهتك للأعراض، ولا يمكن للأمة أن تخرج من هذا الحال المزري وتخرج من هذا الذل والهوان إلا بأيدي شبابها ورجالها إذا ما أعلوا راية الجهاد ويذلوا أنفسهم وكل ما يملكون لنصرة هذا الدين، وإذا حصل هذا فإننا سنملك الدنيا بأسرها كما ملكها الأولون، لذا فليعلم كل والد ووالدة أن مسئوليتهم في نصرة هذا الدين مسئولية عظيمة، فيجب عليهم أن يجاهدوا بأبنائهم وأموالهم وألسنتهم لينتصر الإسلام وتعز الأمة، لكن للأسف كنا ننتظر منكما أيها الأبوان المسلمان أن تكونا أول من يقدم أبناءه لهذا الدين، فإذا بكما أول من يصد أبناءه عن الجهاد لهذا الدين، واعلما أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل لأمركما وزناً إذا خالف أمركما أمره، فطاعتكما واجبة في المعروف وطاعتكما واجبة في طاعة الله، أما في معصية الله فلا، وطاعتكما تقدم إذا لم تعارض طاعة الله فإذا عارضت طاعة الله فإنها تهدر ولا يعتد بها، وسأذكر لكما تفصيل حكم طاعتكما لتعلما أنكما بين أمرين أولهما: أن تطيب نفسيكما بجهاد أبنائكما وتحرضاهم وتحثاهم على الجهاد ولكما مثل أجرهم، الثاني: تصداهم عن الجهاد في سبيل الله فلكما الإثم وأيضاً لا طاعة لكما، وخير لكما أن تكونا من أصحاب الأمر الأول فتدفعا أبناءكما إلى الجهاد بطيب نفس وطاعة لله، فإنكما ستقدمان على يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ولعلكما تستنكران قولي وتغضبان من عبارتي ولكني متأكد أني أعني ما أقول، ومتأكد أني أريد ما فهمتما، وإن عارضتماني وستقولان حتماً ما يلي:
إن طاعة الوالدين واجبة وهي فرض عين، بل إن الرسول قال كما في البخاري وغيره عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال (أحي والداك؟) قال نعم قال (ففيهما فجاهد)، وجاء عند أبي داود ما هو أوضح منه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه بلفظ (ارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما)، فستقولان هذان الحديثان وغيرهما نص في موطن النزاع ورد لزعمك أنه لا طاعة للوالدين في الجهاد !!
وأنا لن أجيبكما ولكن يجيبكما أهل العلم قرناً من بعد قرن، ليبينوا لكما أن تعميم حكمكما على كل زمان أنه خطأ يعارض الأدلة الأخرى.
ومن الأدلة المعارضة لرأيكما ما روى ابن حبان 5/8 عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ”أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن أفضل الأعمال قال فقال رسول الله الصلاة، قال ثم مه؟ قال ثم الصلاة قال ثم مه؟ قال ثم الصلاة ثلاث مرات قال ثم مه؟ قال ثم الجهاد في سبيل الله، قال فإن لي والدين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمرك بوالديك خيراً فقال والذي بعثك نبياً لأجاهدن ولأتركنهما قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنت أعلم“.
وبناءً على هذا الحديث قال ابن حجر في الفتح6/140 ”قال جمهور العلماء يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما، بشرط أن يكونا مسلمين لأن برهما فرض عين عليه والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد فلا إذن ويشهد له ما أخرجه بن حبان.. ثم ذكر الحديث المتقدم وقال.. وهو محمول على جهاد فرض العين توفيقا بين الحديثين، وهل يلحق الجد والجدة بالأبوين في ذلك؟ الأصح عند الشافعية نعم “.
قال محمد الزرقاني في شرحه على موطأ مالك في شرح الزرقاني 3 /20 ”قوله (فبرهما) قال الجمهور يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية فإذا تعين الجهاد فلا إذن، ففي ابن حبان.. ثم ذكر الحديث المتقدم.. “
قال الشوكاني في الدراري المضية 1/481 ”وأما اعتبار إذن الأبوين فلحديث عبد الله بن عمر قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال (أحي والداك؟) قال نعم قال (ففيهما فجاهد) وفي روايه لأحمد وأبي داود وابن ماجة قال يا رسول الله إني جئت أريد الجهاد معك ولقد أتيت وإن والدي يبكيان؟ قال (فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) وقد أخرج هدا الحديث مسلم رحمة الله تعالى من وجة آخر وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد أن رجلا هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال (هل لك أحد باليمن؟) فقال أبواي فقال (أذنا لك؟) قال لا، فقال (ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما) وصححه ابن حبان وأخرج أحمد والنسائي والبيهقي من حديث معاوية ابن جاهمة السلمى أن جاهمة أتى النبي صلى صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أردت الغزو وجئتك أستشيرك؟ فقيل (هل لك من أم؟) قال نعم قال (ألزمها فإن الجنة عند رجليها) وقد اختلف في اسناده اختلافا مثيرا، وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجب استئذان الأبوين في الجهاد ويحرم إذا لم يأذنا أو أحدهما لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية، قالوا وإذا تعين الجهاد فلا إذن ويدل على ذلك ما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمر قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن أفضل الأعمال؟ فقال (الصلاة قال ثم مه قال الجهاد قال فإن لي والدين قال آمرك بوالديك خيرا قال والذي بعثك نبيا لأجاهدن ولأتركنهما قال فأنت اعلم) قالوا وهو محمول على الجهاد فرض العين أي حيث يتعين على من له أبوان أو أحدهما توفيقا بين الحديثين “.
قال ابن قدامة في المغني 9/171 ”إذا وجب عليه الجهاد لم يعتبر إذن والديه لأنه صار فرض عين وتركه معصية ولا طاعة لأحد في معصية الله، وكذلك كل ما وجب مثل الحج والصلاة في الجماعة والجمع والسفر للعلم الواجب، قال الأوزاعي لا طاعة للوالدين في ترك الفرائض والجمع والحج والقتال لأنها عبادة تعينت عليه فلم يعتبر إذن الأبوين فيها كالصلاة ولأن الله تعالى قال ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران:97) ولم يشترط إذن الوالدين“.
قال الخرقي في مختصره 1/ 128 قال أحمد ”وإذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعاً إلا بإذنهما وإذا خوطب بالجهاد فلا إذن لأبويه وكذلك كل الفرائض لا طاعة لهما في تركها “.
قال على بن حسن المرداوي الحنبلي في الإنصاف 2/109 ”وظاهر كلام الأصحاب في الجهاد – أي إذا تعين - حيث قالوا لا طاعة لهما في ترك فريضة وكذا حكم الصوم لو دعواه أو أحدهما إلى الفطر “.
قال ابن قدامه في الكافي 4/253 ”ويتعين الجهاد في موضعين أحدهما: إذا التقى الزحفان تعين الجهاد على من حضر لقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا﴾ (الأنفال:45) وقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ﴾ (الأنفال:15).
الثاني: إذا نزل الكفار ببلد المسلمين تعين على أهله قتالهم والنفير إليهم ولم يجز لأحد التخلف إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ الأهل والمكان والمال ومن يمنعه الأمير الخروج لقوله تعالى ﴿انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ (التوبة:41) ولأنهم في معنى حاضر الصف فتعين عليهم كما تعين عليه، ومن كان أحد أبويه مسلما لم يجز له الجهاد إلا بإذنه لما روى ابن عباس قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أجاهد؟ قال (لك أبوان؟ قال نعم قال ففيهما فجاهد) قال الترمذي هذا حديث صحيح، ولأن الجهاد فرض كفاية وبرهما فرض عين فوجب تقديمه فإن كانا كافرين فلا إذن لهما لأن أبا بكر الصديق وأبا حذيفة بن عتبة وغيرهما كانوا يجاهدون بغير إذن آبائهم ولأنهما متهمان في الدين..ثم قال.. ومتى تعين الجهاد فلا إذن لأبويه لأنه صار فرض عين فلم يعتبر إذنهما فيه كالحج الواجب وكذلك كل الفرائض لا طاعة لهما في تركه لان تركه معصية ولا طاعة لمخلوق في معصية الله كالسفر لطلب العلم الواجب الذي لا يقدر على تحصيله في بلده ونحو ذلك “.
قال ابن مفلح في المبدع 3/316 بعد أن ذكر أن قول أكثر العلماء منع الولد من الخروج إلى الجهاد إلا بإذنهما إذا كان فرض كفاية ثم قال ”إلا أن يتعين عليه الجهاد فإنه لا طاعة لهما في ترك فريضة “.
قال الشوكاني في فتح القدير 4/193 ”﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا﴾ (العنكبوت:8) أي طلبا منك وألزماك أن تشرك بي إلها ليس لك به علم بكونه إلها فلا تطعهما فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وعبر بنفى العلم عن نفي الإله لأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه، فكيف بما علم بطلانه؟ وإذا لم تجز طاعة الأبوين في هذا المطلب مع المجاهدة منهما له، فعدم جوازها مع مجرد الطلب بدون مجاهدة منهما أولى ويلحق بطلب الشرك منهما سائر معاصى الله سبحانه فلا طاعة لهما فيما هو معصية لله كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.“
وقال الشوكاني في نيل الأوطار 8/40 ”قوله (فإن أذنا لك فجاهد) فيه دليل على أنه يجب استئذان الأبوين في الجهاد وبذلك قال الجمهور وجزموا بتحريم الجهاد إذ منع منه الأبوان أو أحدهما لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد فلا إذن“.
بل إن الشافعي ذهب إلى أنه لا طاعة للوالدين في الجهاد إذا كان فرض كفاية، وذلك حينما يعرف من الوالدين أو أحدهما نفاقاً أو كفراً أو بغضاً لشعيرة الجهاد وكرهاً لأهلها، قال الشافعي في الأم 4/163 ”وإذا كان يؤمر بأن يطيع أبويه أو أحدهما في ترك الغزو فبين أن لا يؤمر بطاعة أحدهما إلا والمطاع منهما مؤمن.. ثم قال.. فإذا كانا على دينه فحقهما لا يزول بحال ولا يبرأ منه بوجه وعليه أن لا يجاهد إلا بإذنهما وإذا كانا على غير دينه، فإنما يجاهد أهل دينهما فلا طاعة لهما عليه في ترك الجهاد – إذا كان فرض كفاية - وله الجهاد وإن خالفهما والأغلب أن منعهما سخط لدينه ورضا لدينهما لا شفقة عليه فقط وقد انقطعت الولاية بينه وبينهما في الدين، فإن قال قائل فهل من دليل على ما وصفت قيل جاهد ابن عتبة بن ربيعة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد وأبوه مجاهد النبي صلى الله عليه وسلم فلست أشك في كراهية أبيه لجهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم وجاهد عبدالله بن عبدالله بن أبي مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبوه متخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم بأحد ويخذل عنه من أطاعه مع غيرهم ممن لا أشك إن شاء الله تعالى في كراهتهم لجهاد أبنائهم مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانوا مخالفين مجاهدين له أو مخذلين، قال الشافعي رحمه الله تعالى وأي الأبوين أسلم كان حقا على الولد أن لا يغزو إلا بإذنه إلا أن يكون الولد يعلم من الوالد نفاقا فلا يكون له عليه طاعة في الغزو“.
ولا نقصد بعدم طاعة الوالدين من أجل الخروج للجهاد إهدار حقهما تماماً، ولكن نقول إن كان خروج الولد الوحيد العائل لهما للجهاد، يسبب هلاكاً لهما أو يسبب خروجه ردة لهما عن الدين، فإنه يصبح من أهل الأعذار ويجوزله ترك الجهاد بالبدن كما يجوز لغيره من أهل الأعذار، مع الحرص على الجهاد بالمال واللسان، والنصح لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين كما أمر الله تعالى أهل الأعذار بذلك بقوله ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة:91)، علماً أنه يجب تقدير المفسدة بقدرها إذا تعارضت مع مفسدة أعظم يقدرها أهل العلم لكل شخص بعينه، وعن ذلك الحكم يقول ابن حزم في المحلى 7/292 روينا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا)، بقوم من المسلمين ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثا لهم أذن الأبوان أم لم يأذنا، إلا أن يضيعا أو أحدهما بعده فلا يحل له ترك من يضيع منهما“.
هذه أيها الأبوان أحكام طاعتكما إذا عارضت طاعة الله وأحكام طاعتكما في طاعة الله، فلا طاعة لكما ولا مشورة في فروض الأعيان، وموافقتكما ورفضكما بالنسبة للفعل لا تقدم شيئاً ولا تأخر، إنما موافقتكما خير لكما ورفعة عند الله، ورفضكما سخط من الله وعذاب والعياذ بالله.
ولعلكما تشكان اليوم في حكم الجهاد وهل هو فرض عين أم فرض كفاية، وقطعاً للشك باليقين فإني سأختصر عليكما عناء سؤال أهل العلم وسأنقل لكما إجماع الأمة واتفاق المذاهب الأربعة لأهل السنة على تعين الجهاد في مثل حالنا اليوم، وقبل أن أنقل ذلك أريد أن أوضح لكما ما هي البلاد التي داهمها العدو من بلاد الإسلام، فأقول: إن أي بلد رُفعت فيها راية الإسلام ودخلها جند الإسلام فاتحين وحكّموا فيها الشريعة ليوم أو لعام أو لقرن فإنها تعد دار إسلام، فإذا اجتاحها العدو وغيّر أحكامها وحكمها بالكفر فتحولت بذلك من دار إسلام إلى دار كفر، ففي هذه الحالة نعدها بلاد إسلام اجتاحها العدو والواجب على المسلمين جهاد العدو حتى تستنقذ من يده تلك البلاد، وأذكر لكما بعض البلدان التي ينطبق عليها ذلك وأولها الأندلس، وفلسطين وبلاد البلقان وبلاد القوقاز وبلاد ما وراء النهر (الجمهوريات السوفيتية سابقاً) وعدد من دول شرق آسيا، وأرتريا، والصومال، وإيران ولبنان وسوريا، وجزء من غرب الصين، وغيرها كثير وعدد يطول حصره من البلدان التي انطبق عليها القول بأن العدو داهمها وأحالها بعدما كانت إسلامية إلى دول كفرية، ولعلي أنقل لكما حكم الجهاد اليوم بناءً على ذلك الواقع.
لقد أجمع العلماء على أن أحد الحالات التي يتعين فيها الجهاد هي إذا ما دخل العدو بلاد الإسلام فإن الجهاد يصبح في هذه الحالة فرض عين لا يجوز التخلف عنه بعد أن كان فرض كفاية، وقد نقل ذلك الإجماع كل الفقهاء من جميع المذاهب، وقد دخل العدو بلاد الإسلام منذ قرون فأصبح الجهاد فرض عين، ولا إذن للوالدين فيه.
فمن الأحناف: قال الكاساني في بدائع الصنائع 7/97 ”فأما إذا عم النفير بأن هجم العدو على بلد فهو فرض عين يُفترض على كل واحد من آحاد المسلمين ممن هو قادر عليه لقوله سبحانه وتعالى ﴿انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ (التوبة:41)، قيل: نزلت في النفير، وقوله سبحانه وتعالى ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾ (التوبة:120)، ولأن الوجوب على الكل قبل عموم النفير ثابت، لأن السقوط عن الباقين بقيام البعض به، فإذا عم النفير لا يتحقق القيام به إلا بالكل، فبقي فرضاً على الكل عيناً بمنزلة الصوم والصلاة فيخرج العبد بغير إذن مولاه، والمرأة بغير إذن زوجها، لأن منافع العبد والمرأة في حق العبادات المفروضة عيناً مستثناه عن ملك المولى والزوج شرعاً، كما في الصوم والصلاة، وكذا يباح للولد أن يخرج بغير إذن والديه، لأن حق الوالدين لا يظهر في فروض الأعيان كالصوم والصلاة والله سبحانه وتعالى أعلم“.
ومن المالكية: قال ابن عبد البر في كتابه الكافي 1/205 ”فرض عام متعين على كل أحد ممن يستطيع المدافعة والقتال وحمل السلاح من البالغين الأحرار، وذلك أن يحل العدو بدار الإسلام محارباً لهم، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً شباباً وشيوخاً، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج مقل أو مكثر، وإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم وكان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا – قلوا أو كثروا – على حسب مالزم أهل تلك البلدة حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم، لزمه أيضاً الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين، ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلها لزمهم أيضاً الخروج“.
ومن الشافعية: قال النووي في شرحه على صحيح مسلم 8/63 ”قال أصحابنا: الجهاد اليوم فرض كفاية إلا أن ينزل الكفار ببلد المسلمين فيتعين عليهم الجهاد، فإن لم يكن في أهل ذلك البلد كفاية وجب على من يلهيم تتميم الكفاية“.
ومن الحنابلة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (الاختيارات) 4/520 ”وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم“ وقال ”وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب، إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم ونصوص أحمد صريحة بهذا“.
ونخلص في نهاية المطاف أيها الأبوان الكرام إلى أن الجهاد تعين ووجب النفير ولا إذن لكما لأن طاعتكما محرمة في معصية الله، وأيها الأبوان هلا أجبتما عن سؤالي:
هذه فلسطين حل العدو بها ولم يستطع أحد على دفعه لا من قريب ولا من بعيد فهل يكون الجهاد حتى اليوم فرض كفاية؟ وهذه الأندلس حل العدو بها منذ قرون وكذلك الشيشان وكشمير والفلبين وبورما وأرتيريا وغيرها من أقطار المسلمين كثير، كلها احتلها العدو فأزال معالم الدين منها وأذل المسلمين واستضعفهم وسامهم سوء العذاب، حتى انتهى بنا الحال لنرى الحملة الصليبية تشن من جديد على أفغانستان، فهل بعد ذلك نقول إن الجهاد فرض كفاية وطاعتكما بالقعود أوجب منه؟ لقد قلنا كفاية حتى ذقنا من الذل ما فيه الكفاية.
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أين الطريق إلى أرض المعركة؟
الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ﴾ (العنكبوت:69) والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد بن عبد الله سيد الأولين والآخرين وقائد الغر المحجلين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
إن كثيراً من المسلمين اليوم على قناعة تامة بأن الجهاد فرض عين على الأمة لمداهمة العدو أرض المسلمين، وعلى قناعة أيضاً بحاجة المجاهدين والأمة الإسلامية إلى الرجال الذين يذودون عن هذا الدين وعن دماء المسلمين وأعراضهم.
إلا أن هذه القناعة لم يكتب لها أن تترجم من قبل أكثر المسلمين لتكون عملاً يثمر التحاقهم بأرض المعركة، بل تتبدد تلك القناعة وتضمحل عندما يعرض لها أول سؤال مفاده: أين الطريق إلى أرض الجهاد؟ كيف نصل إلى أرض المعركة؟، والإجابة العملية على هذا السؤال لدى الكثير من أبناء المسلمين، ليس الإصرار والبحث عن الطريق، إنما القعود وترك البحث وخداع النفس بأن هذا هو العذر أمام الله.
وسأتكلم هنا عن طريق الجهاد وكيف تصل الأمة إليه، وما مفهوم الطريق.
إن الجهاد اليوم يعد هو الوحش المرعب الذي يقض مضاجع اليهود والصليبيين، وهو الغول الذي يهدد العالم وحضارته وأمنه كما يحلوا للصليبيين تسميته، وبما أن هذه هي الصورة التي يصور بها العالم الجهاد، فلا يظن المسلم أنه سيصل إلى أرض الجهاد بكل يسر وسهولة كلا، بل إنه معرض لمخاطر ينبغي عليه أن يقتحمها ليصل إلى أرض الجهاد، ولا يتوقع أحد من المسلمين اليوم أن عدوه سيفرش له طريق الجهاد بالورود والرياحين ليقول له أقبل أقبل لرضى الله والجنة، إن من يظن بعدوه هذا فهو مغفل لا يعرف طبيعة عدوه ولا يعرف حقيقة عدوه من كتاب الله سبحانه وتعالى حيث قال ﴿وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ (البقرة:217) فهم يعملون ليل نهار ليصدوا الذين آمنوا عن دينهم وعن الجهاد.
وليس ما سبق هو تثبيط لهمم الرجال التي تتوق إلى الجهاد أبداً، ولكنه تقريب للصورة التي ينبغي أن يضعها المسلم في ذهنه قبل الانطلاق إلى طريق الجهاد، وليعلم كل من حدث نفسه بالذهاب إلى الجهاد، بأن حديث النفس وحده لا يكفي ليكون لك عذراً أمام الله، نعم حديث النفس ينفي عنك النفاق، ولكن العذر بترك الجهاد يحتاج إلى ما بعد تحديث النفس، وليعلم شباب الأمة أيضاً أن الصادقين قبلهم قد حاولوا وبذلوا الاستطاعة ودخلوا إلى أرض الجهاد ولكن بعد ماذا؟ بعدما تعبوا وخافوا وطوردوا، صدقوا الله فوصلوا.
ومن أجل ذلك فقد عد الله سبحانه وتعالى طريق الجهاد وحده جهاداً منفرداً، لذا رتب الله عليه أعظم الأجر والثواب، وعد من خرج إلى الجهاد بأنه مجاهد ولو مات مات شهيداً، كل ذلك الفضل والثواب يأتي تحفيزاً لرجال الأمة على الجهاد، فالمجاهد ماذا يريد من جهاده؟ إنه يريد من جهاده إحدى الحسنيين، إما النصر أو الشهادة، فإذا نال إحداهما فقد انتصر، لذا بين الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أن من خرج للجهاد فإنه سينال إحدى الحسنيين، قال الله تعالى ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾ (النساء:100) فبين الله في هذه الآية أن من يخرج للجهاد فإنه سيجد مراغماً مكاناً يأوي إليه وسعة في الرزق، وإن أدركه الموت فقد وقع أجره على الكريم الذي لن يجازيه بما دون جنة الخلد، وقال الله أيضاً ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ (الحج:58) ويبين الله تعالى في هذه الآية لمن خرج للجهاد أنه إما أن يقتل أو يموت وفي كلا الحالين فقد وعده الله رزقاً حسناً، وقال تعالى ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (النحل:41) وفي هذه الآية يبين الله تعالى أيضاً أنه سيرزق المجاهد ويعطيه رزقاً حسناً وليس هذا هو الأجر وحده، لأن أجر الآخرة هو أكبر حتى لو فات الرزق الحسن في الدنيا لحكمة يعلمها الله تعالى.
وفي السنة يوضح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بأوضح عبارة وأجمل بيان، ويقرب للعبد الصورة بعرض احتمالات المصاب ليهيج النفوس على الخروج إلى الجهاد، فيقول كما جاء عند أبي داود وغيره عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من فصل في سبيل الله فمات أو قتل فهو شهيد أو وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه أو بأي حتف شاء الله فإنه شهيد وإن له الجنة) قال ابن مفلح في الفروع فيه بقية مختلف فيه إلا أنه حديث حسن إن شاء الله، وقال ابن أبي عاصم إسناده حسن لغيره، وقال الحاكم على شرط مسلم، وهذا الإسناد فيه بقية وعبد الرحمن بن ثوبان وهما ضعيفان، إلا أنه يعتضد بما جاء عند البيهقي في سننه قال عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن الله عز وجل قال من انتدب خارجا في سبيل الله ابتغاء وجهه وتصديق وعده وإيمانا برسالاته على الله ضامن فإما يتوفاه الله في الجيش بأي حتف شاء فيدخله الجنة، وإما يسيح في ضمان الله وإن طالت غيبته ثم يرده إلى أهله سالما مع ما نال من أجر وغنيمة قال ومن فصل في سبيل الله فمات أو قتل يعني فهو شهيد أو وقصة فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله فإنه شهيد وله الجنة) ويعتضد أيضاً بما رواه أحمد عن عبد الله بن عتيك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله عز وجل ثم قال بأصابعه هؤلاء الثلاث الوسطى والسبابة والإبهام فجمعهن وقال وأين المجاهدون فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله تعالى أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله عز وجل) وهذا أيضاً فيه محمد بن إسحاق، إلا أن الآيات المتقدمة تعضد الأحاديث ولا تعارضها، وقد فهم البخاري ذلك وبوب عليه في صحيحه وقال: ﴿باب فضل من يصرع في سبيل الله فمات فهو منهم وقوله تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ (النساء:100) (وقع :وجب) قال ابن حجر (فهو منهم)“ أي من المجاهدين, قوله (ثم يدركه الموت) أعم من أن يكون بقتل أو وقوع من دابته وغير ذلك فتناسب الآية الترجمة، وقد روى الطبري من طريق سعيد بن جبير والسدي وغيرهما أن الآية نزلت في رجل كان مسلما مقيما بمكة، فلما سمع قوله تعالى ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ (النساء:97) قال لأهله وهو مريض أخرجوني إلى جهة المدينة فأخرجوه فمات في الطريق، فنزلت، واسمه ضمرة على الصحيح، وقد أوضحت ذلك في كتابي في الصحابة. قوله: (وقع: وجب) قال: قوله فقد وقع أجره على الله أي وجب ثوابه“ أهـ كلام ابن جحر رحمه الله مختصراً.
فهذا ثواب الطريق إلى الجهاد فكيف يكون ثواب الجهاد نفسه، ولم يجعل الله ثواب الطريق إلى الجهاد بهذه الدرجة من الضمان إلا لأنه يعلم أن الطريق إلى الجهاد شاق لأمرين، أولاً: لأنه أول الصعوبات التي يواجهها المجاهد حينما يفارق الأهل والمال ولم تعتد نفسه المشقة، وثانياً: لأن قطع العدو لطريق الجهاد على المسلمين أسهل عليه من قتل المجاهدين بعدما يأخذوا حذرهم وأسلحتهم.
وشحذا للهمم، وشحناً للنفوس رتب الله على طريق الجهاد هذا الأجر العظيم وضمن أيضاً للمجاهد الأجر ضماناً لا يتطرق إليه الشك كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة.. الحديث) فهذا الضمان الأكيد من الله سبحانه وتعالى لمن خرج في سبيله، يدل دلالة واضحة على أن الخروج إلى الجهاد شاق على الأنفس ومحفوف بالمخاطر لذا سهل الله هذه الصعاب وخففها بذلك الأجر العظيم.
وبناءً على ذلك يا عبد الله إن كنت ممن يحدث نفسه حقاً بالجهاد فإياك أن تقف عند التحديث وحده فقط فهذا لا يعذرك أمام الله بترك الخروج للجهاد بما أنك قادر على الخروج أو قادر حتى على المحاولة المحتملة للنجاح، فحاول واسلك طريق الجهاد، والذين وصلوا إلى الجهاد لم يكونوا أصحاب خوارق إنما حاولوا ويسر الله لهم وأخذ عنهم العيون والأسماع وعبروا إلى ساحات الجهاد.
وما أكثر الطرق إلى الجهاد فهذه أفغانستان تحدها باكستان وإيران وأوزبكستان وطاجكستان وتركمانستان والصين، وكذلك الشيشان تحدها جورجيا وداغستان وأنغوشيا وروسيا، وفلسطين تحدها مصر والأردن ولبنان وسوريا، وكشمير تحدها باكستان والهند، وأندونيسيا تحدها البحار من كل اتجاه، وأرتريا تحدها السودان وأثيوبيا والبحر الأحمر، وانظر إلى الفلبين ومقدونيا وغيرها من ساحات الجهاد لها طرق كثيرة يستحيل أن يعدم العبد الحريص على الجهاد من تلك الطرق كلها، ففكر وستصل بإذن الله تعالى.
وبما أن أمتنا أمة المليار فلو حاول مليون من المسلمين الوصول إلى ساحات الجهاد لوصل منهم بالتأكيد مائة ألف مجاهد، وهؤلاء تقوم الكفاية بهم بإذن الله تعالى في ساحات الجهاد.
ولكن الأمة كلها أعرضت عن الجهاد وتذرعت بأن الطريق مغلق، والله سبحانه وتعالى قد قطع أعذارنا وجعل أجر من مات في الطريق أو قتل فهو شهيد، إلا أننا لا زلنا نبحث عن أعذار أخرى للتسويف والتخلف نسأل الله ألا يجعلنا ممن قال الله فيهم ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ (التوبة:46) ونسأله ألا يجعلنا أيضاً ممن قال فيهم ﴿لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ (التوبة:42) ولكن ثق أخي بالله أنك لو صدقت الله في بحثك عن طريق الجهاد فإن الله سيصدقك وقد ضمن لك الوصول وهو القائل ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت:69).
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
ثوابت على درب الجهاد «1»
الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة
الحمد لله الذي شرع لنا ديناً قويماً وهدانا سراطاً مستقيماً، والصلاة والسلام على معلم الخلق خير البرية سيد ولد آدم فعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
إن مما لا شك فيه أن لكل منهج ثوابت ومتغيرات، ثوابت لا تتغير ولا تتزعزع بتغير الزمان أو المكان أو الأشخاص، القناعة فيها واليقين بها مستند إلى نصوص ثابتة وعلم لا يرقى إليه الشك، فلا يمكن أن تتبدل أو تتغير فأصبحت تلك الثوابت كالجبال الراسيات، معالم واضحات يهتدي بها كل سائر على الطريق.
والمتغيرات هي عكس الثوابت وهي أمور ثانوية في المنهج والمبدأ هي من الفروع وليست من الأصول، تتغير بتغير الزمان أو المكان أو الأشخاص لها ضوابط شرعية عامة، تفصيلاتها تخضع إلى مداخلات يقدرها المجتهدون بالأدلة، قابلة للحوار والنقاش.
وما يهمنا هنا وفي هذه الأيام خاصة هو أن نذكر الثوابت التي رسمتها النصوص الشرعية على طريق الجهاد، وهذه الثوابت نحن اليوم بأمس الحاجة إلى إعادة تذكرها ونشرها وفقهها، نحن اليوم وفي هذا الوضع البائس للأمة الجريحة نحتاج حقيقة إلى الرجوع إلى ثوابتنا التي بدأ بعض المتخاذلين يعيد الكلام فيها ويزيد، ليحيلها إلى متغيرات من الأفضل لنا في هذا الوقت ألا نتمسك بها، وسوف نضع بين يديك أخي في الله بعض الثوابت لا كلها التي ترسم لنا طريق الجهاد، فخذها منا على حلقات.
أول الثوابت: الجهاد ماض إلى يوم القيامة:
إن العالم اليوم إلا من رحم الله يقف بكل قواه العقدية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية والشعبية، يقف وقفة واحدة بكل ما أوتي من قوة، أمام شعيرة من شعائر ديننا الحنيف ألا وهي شعيرة الجهاد في سبيل الله تعالى، تلك الشعيرة التي فرضها الله علينا بقوله ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:216) وبقوله ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (التوبة:73) وقوله ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة:29).
وقال في آخر ما نزل في حكم الجـهاد مـؤكداً علـيه ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة:5) هذه الشعيرة التي حاول الكفار طمسها وتسميتها بالإرهاب والإجرام، ووسم أصحابها بالإرهابيين والمتطرفين والثوار والمليشيات، وساعدهم المنافقون أيضاً على تشويهها والتحجير عليها بسبل شيطانية شتى فتارة يقولون بأن الجهاد جهاد دفع لا طلب، أو قالوا بأن الجهاد يشرع لتحرير الأرض المحتلة فقط، أو أن الجهاد يجب أن يكون بأمر الحاكم العميل لليهود والصليبيين، وحيناً آخر قالوا بأن الجهاد انتهى بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أن الجهاد لا يناسب عصرنا الحاضر عصر السلام والنظام العالمي الجديد نعوذ بالله من هذه الضلالات.
وأياً تكن مبررات طمس معالم الجهاد ودواعيه ومصطلحاته النفاقية والكفرية، فإن الحقيقة الماثلة للعيان هي أن الأمة منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتضح لها طريق الجهاد وحُددت معالمه واتضح لها مفهومه وفقهه، فلسنا بحاجة إلى من يضيف مفاهيم جديدة للجهاد يمليها علينا من الشرق أو الغرب، ففي تراثنا غنية عن غيره فمنه نستقي أركان وشروط وواجبات وسنن الجهاد، كما نأخذ منه أسباب تشريع الجهاد ومقوماته أيضاً.
وفوق كل ذلك فقد أخبر الله ورسول صلى الله عليه وسلم بأن الجهاد ماض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا الخبر هومن الثوابت التي لا نشك فيها ولا نسأل فيها أحداً بعد تأكيد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لهذه الحقيقة، وأدلة ذلك من الكتاب والسنة كثيرة مثل قول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (المائدة:54) وقوله تعالى ﴿يُجَاهِدُونَ﴾ هي دليل على الاستمرار، وسياق الآية دليل على أن من ترك هذه الصفة فسوف يأتي الله بقوم غيره يحبهم ويحبونه فيهم هذه الصفة.
وقال أيضاً ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (الأنفال:39) والفتنة هي الكفر، والقتال مستمر حتى لا يكون كفرا، وقال العلماء لا ينتفي الكفر عن الأرض إلا في آخر زمن عيسى عليه الصلاة والسلام حيث يضع الجزية ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ولا يقبل إلا الإسلام، ثم يتوفاه الله تعالى ويتوفى معه كل مؤمن ولا يبقى على الأرض من يقول الله الله وتقوم الساعة على شرار الخلق يومئذ.
وقال تعالى مؤكداً الأمر باستمرار الجهاد في آخر آية نزلت في شأن الجهاد وهي آية السيف ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة:5) والأدلة على استمرار الجهاد من الكتاب كثيرة.
أما النصوص الدالة على استمرارية الجهاد من السنة فهي أكثر من ذلك ومنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم كما رواه الجماعة وغيرهم عن عروة البارقي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم) قال ابن حجر في الفتح عندما استدل البخاري بهذا الحديث على مضي الجهاد مع البر والفاجر قال ”سبقه إلى الاستدلال بهذا الإمام أحمد، لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر بقاء الخير في نواصي الخيل إلى يوم القيامة، وفسره بالأجر والمغنم، المغنم المقترن بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد، وفي الحديث الترغيب في الغزو على الخيل، وفيه أيضا بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة، لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين وهم المسلمون، وهو مثل الحديث الآخر »لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق« الحديث“ أهـ كلامه مختصراً وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم تعليقاً على هذا الحديث ”قوله صلى الله عليه وسلم (الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) جاء تفسيره في الحديث الآخر في الصحيح (الأجر والمغنم) وفيه دليل على بقاء الإسلام والجهاد إلى يوم القيامة، والمراد قبيل القيامة بيسير، أي حتى تأتي الريح الطيبة من قبل اليمن تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة. كما ثبت في الصحيح“ أهـ كلامه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم كما عند أبي داود وغيره عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ».. والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل.. «قال صاحب العون في شرح هذا الحديث ”(والجهاد ماض منذ بعثني الله): أي من ابتداء زمان بعثني الله (إلى أن يقاتل آخر أمتي): يعني عيسى أو المهدي (الدجال): مفعول. وبعد قتل الدجال لا يكون الجهاد باقيا. أما على يأجوج ومأجوج فلعدم القدرة عليهم، وعند ذلك لا وجوب عليهم بنص آية الأنفال، وأما بعد إهلاك الله إياهم لا يبقى على وجه الأرض كافر ما دام عيسى عليه الصلاة والسلام حيا في الأرض، وأما على من كفر من المسلمين بعد عيسى عليه الصلاة والسلام فلموت المسلمين كلهم عن قريب بريح طيبة وبقاء الكفار إلى قيام الساعة، قاله القاري، والحديث سكت عنه المنذري“ أهـ كلامه رحمه الله.
ودليلاً على استمرار الجهاد قال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً كما جاء في الصحيحين وغيرهما وللفظ لمسلم عن جابر رضي الله عنه (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة) وفي لفظ للبخاري (لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم) وفي لفظ لأحمد (لا يبالون من خالفهم أو خذلهم) وقوله (لا تزال) دليل على الاستمرارية، وإن كان سياق الحديث كاف في إثبات استمرارية الجهاد، قال النووي في شرحه لصحيح مسلم عن هذا الحديث ”قلت: ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض. وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة; فإن هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن، ولا يزال حتى يأتى أمر الله المذكور في الحديث“ أهـ كلامه.
ومن الأدلة أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)، فجعلت غاية القتال في هذا الحديث هي الإسلام فإذا أسلم الناس فلا قتال، والأدلة كثيرة التي تدل على عدم إسلام الناس جميعاً وبقاء الكفر إلى يوم القيامة فإذا كان كذلك فالقتال باق معه أيضاً حتى يأتي أمر الله تعالى، والمقصود بأمر الله في الحديث: قيل هو إسلام الناس في زمن المسيح وقيل يوم القيامة وقيل هبوب الريح التي تقبض أرواح المؤمنين، ولكن دلالة الحديث واضحة في بقاء القتال ما بقي الكفر.
والنصوص التي تفيد استمرار الجهاد كثيرة لا مجال لحصرها، والأئمة متفقون وبلا خلاف على استمرار الجهاد وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن استمراره خبراً لا يتغير ولا يتبدل، وهذه النصوص تبين أنه لا يمكن أبداً أن يخلوا زمان من الأزمنة منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة من راية جهاد حق مرفوعة في سبيل الله تعالى، وهذا خبر منكره كافر بالله تعالى إذا تقينا هذه الحقيقة ووضعناها نصب أعيننا وجعلناها أحد الثوابت التي نرتكز عليها، فإننا لا يمكن أبداً مهما اشتدت الظروف وساءت الأحوال أن نتخلى عن دعم راية الجهاد والوقوف تحتها، لأن راية الجهاد في كل زمان مرتبطة بالطائفة المنصورة المرضي عنها، والطائفة المنصورة كما قال النووي لا يلزم أن تكون في مكان واحد، فيمكن أن تتعدد في زمان واحد في عدة أمكنة، والطائفة المنصورة تقاتل على الحق ظاهرة، والزمان لا يخلوا من الطائفة المنصورة التي تقاتل وترفع راية الجهاد.
إذا اعتقدنا تلك العقيدة لا بد معها أن نجزم بأن قوى الكفر العالمي ومعها النفاق الدولي لا يمكن أبداً أن تفلح في إخماد راية الجهاد ولا قمع المجاهدين ولا تعطيل هذه الشعيرة أبداً، ربما تستطيع محاصرتها في مكان واحد أو اثنين، ولكن أن تسقط راية الجهاد في هذا الزمان فلا يمكن لها أبداً ولو اجتمع الجن والأنس لذلك جميعاً، فإن راية الجهاد رفعت بأمر الله تعالى وبإذنه ولا يمكن أن توضع والله هو الذي قضى على نفسه أن ترفع حتى يقاتل آخر أمة محمد صلى الله عليه وسلم الدجال مع عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.
هذه الحقيقة التي لا بد أن ننطلق منها، وهذا المعتقد الذي ينبغي أن نقاتل به عدونا، عقيدة اليقين والتصديق بوعد الله سبحانه وتعالى بمضي الجهاد إلى يوم القيامة.
وإن ما أصاب المسلمين اليوم من يأس بعد الأحداث التي حصلت في أفغانستان وانسحاب المجاهدين من المدن، لا يدل يأسهم وإحباطهم أبداً على أن أكثر المسلمين على قناعة بأن الجهاد ماض إلى يوم القيامة، ولا تدل أحوال أكثر المسلمين أيضاً على أنهم على قناعة بأن العالم أجمع لا يمكن له أن يسقط راية الجهاد في العالم، بل إن كثيراً منهم لا يدرك معنى الصراع بين الحق والباطل، ولا يقرأ تاريخ الأمة وتاريخ الأنبياء من القرآن خاصة.
العالم يحارب وعد الله بمضي الجهاد، ونحن نصدق الله ونقسم بهزيمة العالم الذي حارب الله سبحانه وتعالى، النظام العالمي الجديد يقوم على مفهوم محدد وواضح المعالم وهذا المفهوم هو: أن الجهاد هو الإرهاب، وكل مجاهد إرهابي، ولا بد من ملاحقة الإرهابيين وقمع الإرهاب، بمعنى لا بد من ملاحقة أولياء الله وقمع شريعة الله سبحانه وتعالى، فحرب بهذه الصورة نتيجتها معروفة لنا سلفاً قصها الله علينا في كتابه وبينها لنا رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته فقال عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري وأحمد وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله تعالى (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب) أي أعلمته بالهلاك، وحرب الله تعالى هي على من يعادي أولياءه لولايتهم لله ويتخذهم أعداءً بسبب دينهم، وفي لفظ (آذنته بحرب) نكره تشمل كل أنواع العقوبات، وفي رواية لأحمد (من آذى لي وليا) بمجرد الإيذاء وفي رواية أخرى له (فقد استحل محاربتي)، وقد لا تكون هذه العقوبة ظاهرة للعيان كما لحق بالأمم الأخرى وقد تكون العقوبة عاجلة كما قد تكون آجلة والله يمهل ولا يهمل،
أما نتيجة هذه الحرب في القرآن فقد قصها الله تعالى في عدة آيات نأخذ منها قوله تعالى ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ (غافر:51) وقال مؤكداً على هزيمة أعداء المؤمنين ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال:36) ودعا الله إلى الاعتبار بما حصل في معركة بدر يوم الفرقان إذ قال ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ (آل عمران:13) ولكن السؤال الذي يشوش على هذه العقيدة ويدور في أنفس الضعفاء هو: لماذا لم ينصر الله الإمارة الإسلامية في معركتها حتى الآن وهي التي رفعت شعار تطبيق الشريعة والتمسك بالكتاب والسنة وواجهة العالم بذلك حتى اضطرت إلى ترك جميع المدن التي كانت تسيطر عليها؟.
نقول إن لله تعالى في ذلك حكمة وأول الحكم يبينها قول الله تعالى ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ (محمد:4) فإن الله قادر على أن ينتصر وحده من الكفار ويقتلهم بطرفة عين ويدمر قواهم كلها، ولكن الله ترك أولئك الكفار يتسلطون على المسلمين وذلك للبلاء، أي ليمتحن المسلمين ويختبر صدقهم بتسلط الكافرين عليهم، فإن صبروا وزادوا تمسكاً بدينهم وفروا إلى الله تعالى وشكوا حالهم له، فإنه سينصرهم بعدما يرى أنهم أهل للنصر، فيمكن لهم دينه الذي ارتضى لهم بعد أن يحققوا شروط التمكين قال تعالى ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور:55) وقال ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف:128) وقال ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الانبياء:105) وقال ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (فصلت:30) فشروط التمكين لا بد أن تتوافر في المؤمنين قبل ذلك، وقد ذكر الله لنا طرفاً منها في هذه الآيات فمنها شرط الإيمان والعمل الصالح واتباع نهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الذين مكنوا من قبل، واعتناق الدين الصحيح، وعدم الشرك بالله، والاستعانة بالله وحده، والصبر على الجهاد وحرب الأعداء، وتقوى الله سبحانه وتعالى في السر والعلن، والصلاح العام، وأن يكون سلوك المجاهد أن يقول ربي الله ويعمل بمقتضى هذا ويستقيم على دينه، فهذه الشروط إذا بذل العبد جهده في تحقيقها فإنه سيصبح مؤهلاً لأن ينصره الله ويستخلفه في الأرض.
ولو تتبعنا حكمة الله تعالى في تأخير النصر أو لحوق الهزيمة (الحسية) في أرض المعركة بالمسلمين لاحتجنا معها إلى مصنف مستقل، إلا أننا سنفرد لها كلاماً مستقلاً لاحقاً بإذن الله، ونكتفي هنا بالإشارة لها لأن هذا المفهوم لا ينبغي أن يغيب عن ذهن المسلم اليوم الذي يتابع وبكل مشاعره وكيانه مجريات الحرب في أفغانستان بين قوى الكفر العالمية جميعها وبين المجاهدين الأفغان.
ونسأل الله أن يعز المجاهدين وينصرهم ويمكن لهم، وأن يكسر الكافرين ويمزقهم ويذلهم ويجعلهم غنيمة للمسلمين.
وإلى اللقاء في الحلقة الثانية بإذن الله تعالى من حلقات ثوابت على طريق الجهاد.
وصل اللهم وسلم على محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
يتبع...........
تعليق