فضل الجهاد
*****
الجهاد أفضل الأعمال مطلقا بعد توحيد الله والإيمان به.
وذلك أن الجهاد هو العبادة الوحيدة التي فيها تغرير بالنفس وإتلاف لها في سبيل الله تعالى، وقد شهدت بفضل الجهاد على سائر أعمال البر نصوص الكتاب والسنة، فقد قال تعالى (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين)( ).
وذلك أن قوما قالوا إن سقاية الحجيج وخدمتهم وعمارة البيت الحرام والذي هو أطهر بقاع الأرض بالذكر والصلاة والدعاء والاعتكاف هي أفضل الأعمال مطلقا فأنزل الله تعالى هذه الآية توبيخا لهم وردا لمقالتهم وبين تبارك وتعالى أن الجهاد في سبيل الله تعالى بعد الإيمان به لا يعدله ما ذكروه من الأعمال وإن كانت عظيمة عند الله وعند الناس.
قال الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: هذا توبيخ من الله تعالى ذكره لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت فأعلمهم جل ثناؤه أن الفخر في الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله، لا في الذي افتخروا به من السدانة والسقاية، وبذلك جاءت الآثار وتأويل أهل التأويل.
وساق بسنده عن النعمان بن بشير الأنصاري قال كنت عند منبر رسول الله في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر بن الخطاب وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، قال ففعل فأنزل الله تبارك وتعالى (أجعلتم سقاية الحاج) إلى قوله (والله لا يهدي القوم الظالمين)( ).
وبعد أن ذكر ابن جرير رحمه الله عدة روايات في سبب نزول الآية قال: فتأويل الكلام إذن أجعلتم أيها القوم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون هؤلاء وأولئك ولا تعتدل أحوالهما عند الله ومنازلهما. اهـ( )
وعن أبي هريرة قال: سئل النبي : أي الأعمال أفضل؟ قال : (إيمان بالله ورسوله) قيل: ثم ماذا؟ قال: (جهاد في سبيل الله) قيل: ثم ماذا؟ قال: (حج مبرور)( )
وعنه أيضا قال جاء رجل إلى رسول الله فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد قال : (لا أجده)، ثم قال: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر) قال الرجل: ومن يستطيع ذلك، قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات( ).
فقد بين النبي أن ما يعدل أجر المجاهد الذي يحوزه من أول خروجه إلى الجهاد حتى يرجع هو الصيام المتواصل والقيام الذي لا ينقطع عنه صاحبه وهذا لا يستطيعه إنسان البتة ولهذا قال النبي للسائل لا أجده أي لا أجد عملا يعدل أجره أجر الجهاد في سبيل الله تعالى
ولذلك قال ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث: قال عياض: اشتمل حديث الباب على تعظيم أمر الجهاد لأن الصيام وغيره مما ذكر من فضائل الأعمال قد عدلها كلها الجهاد حتى صارت جميع حالات المجاهد وتصرفاته المباحة معادلة لأجر المواظب على الصلاة وغيرها ولهذا قال (لا تستطيع ذلك)، واستدل به على أن الجهاد أفضل الأعمال مطلقا. اهـ( )
وعن أبي سعيد الخدري قال: قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله : (مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله) قالوا: ثم من؟ قال : (مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره)( ).
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: (مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة)( )، وفي رواية أخرى (كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله)، وعند النسائي (كمثل الخاشع الراكع الساجد)، وعند أحمد والبزار (كمثل الصائم نهاره القائم ليله).
قال النووي رحمه الله: معنى القانت هنا المطيع، وفي هذا الحديث عظيم فضل الجهاد لأن الصلاة والصيام والقيام بآيات الله تعالى أفضل الأعمال وقد جعل الله تعالى المجاهد مثال من لا يفتر عن ذلك في لحظة من اللحظات ومعلوم أن هذا لا يتأتى لأحد ولهذا قال : (لا تستطيعونه) والله أعلم. اهـ( )
وقال ابن حجر رحمه الله: قوله (كمثل الصائم القائم) شبه حال الصائم القائم بحال المجاهد في سبيل الله في نيل الثواب في كل حركة وسكون لأن المراد من الصائم القائم من لا يفتر ساعة عن العبادة فأجره مستمر وكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعات عمره بغير ثواب لما تقدم من حديث (إن المجاهد لتستن فرسه…) وأصرح منه قوله تعالى (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ…)الآيةاهـ( )
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال : (لا لكن أفضل الجهاد حج مبرور).
وقول عائشة رضي الله عنها صريح في أن الصحابة وهم أفقه الناس بالقرآن وأحكامه ما كانوا يروا عملا أفضل من الجهاد على الإطلاق وهذا صحيح في حق من يجب عليه الجهاد، ويعدله الحج في حق من لا يجب عليه الجهاد أصلا أو من يعجز عنه لعلة.
قال ابن حجر رحمه الله: قولها (نرى الجهاد أفضل العمل) أي نعتقد ونعلم وذلك لكثرة ما يسمع من فضائله في الكتاب والسنة، وعند النسائي (فإني لا أرى عملا في القرآن أفضل من الجهاد).اهـ( )
وعن أبي هريرة قال: مر رجل من أصحاب رسول الله بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته لطيبها فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله فذكر ذلك لرسول الله فقال : (لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة اغزوا في سبيل الله من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة)( ).
قال ابن عابدين رحمه الله: هذا وفضل الجهاد عظيم، كيف وحاصله بذل أعز المحبوبات وهو النفس وإدخال أعظم المشقات عليه تقربا بذلك إلى الله تعالى. اهـ( )
وقال ابن قدامة رحمه الله: قال أبو عبد الله يعني أحمد بن حنبل لا أعلم شيئا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد، روى هذه المسألة عن أحمد جماعة من أصحابه، قال الأثرم: قال أحمد: لا نعلم شيئا من أبواب البر أفضل من السبيل، وقال الفضل بن زياد سمعت أبا عبد الله وذُكِرَ له أمر العدو فجعل يبكي ويقول: ما من أعمال البر أفضل منه، وقال عنه غيره: ليس يعدل لقاء العدو شيء، ومباشرة القتال بنفسه أفضل الأعمال، والذين يقاتلون العدو هم الذين يدفعون عن الإسلام وعن حريمهم فأي عمل أفضل منه، الناس آمنون وهم خائفون قد بذلوا مهج أنفسهم.
وقد روى ابن مسعود قال: سألت رسول الله : أي الأعمال أفضل؟ قال: (الصلاة لمواقيتها) قلت: ثم أي؟ قال: (ثم بر الوالدين)، قلت: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله)( )، وروى أبو هريرة قال: سُئِلَ رسول الله : أي الأعمال أفضل، أو أي الأعمال خير؟ قال: (إيمان بالله ورسوله)، قيل: ثم أي شيء؟ قال: (الجهاد سنام العمل)، قيل: ثم أي؟ قال: (حج مبرور)( ).
وروى أبو سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: (مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله)( )، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: (ألا أخبركم بخير الناس، رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله)( )، وروى الخلال بإسناده عن الحسن قال: قال رسول الله : (والذي نفسي بيده ما بين السماء والأرض من عمل أفضل من جهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال)( )، ولأن الجهاد بذل المهجة والمال ونفعه يعم المسلمين كلهم صغيرهم وكبيرهم قويهم وضعيفهم ذكرهم وأنثاهم، وغيره لا يساويه في نفعه وخطره فلا يساويه في فضله وأجره.اهـ( )
وقد قال ابن القيم رحمه الله ملخصا المعاني التي من أجلها فضل الجهاد على غيره من الأعمال: وأما الجهاد فناهيك به من عبادة هي سنام العبادات وذروتها وهو المحك والدليل المفرق بين المحب والمدعى فالمحب قد بذل مهجته وماله لربه وإلهه متقربا إليه ببذل أعز ما بحضرته يود لو أن له بكل شعرة نفسا يبذلها في حبه ومرضاته ويود أن لو قتل فيه ثم أحيى ثم أقتل ثم أحيي فهو يفدي بنفسه حبيبه ولسان حاله يقول:
يفديك بالنفس صب لو يكون له أعز من نفسه شيء فذاك به
فهو قد سلم نفسه وماله لمشتريها وعلم أنه لا سبيل إلى أخذ السلعة إلا ببذل ثمنها (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون)( )، فالمحبوب الحق الذي لا تنبغي المحبة إلا له وكل محبة سوى محبته فالمحبة له باطلة أولى بأن يشرع لعباده الجهاد الذي هو غاية ما يتقربون به إلى إلههم وربهم وكانت قرابين من قبلهم من الأمم في ذبائحهم وقرابينهم تقديم أنفسهم للذبح في الله مولاهم الحق فأي حسن يزيد على حسن هذه العبادة ولهذا ادخرها الله لأكمل الأنبياء وأكمل الأمم عقلا وتوحيدا ومحبة لله. اهـ( )
وقد جمع العلماء بين الأحاديث التي وردت في أن الجهاد أفضل الأعمال وما عارضها في الظاهر مثل التي تجعل الجهاد مفضولا بالنسبة لغيره من الأعمال.
قال النووي رحمه الله في الجمع بين هذه الأحاديث: فيها وجهان: أحدهما: أن ذلك اختلاف جواب جرى على حسب اختلاف الأحوال والأشخاص فإنه قد يقال: خير الأشياء كذا ولا يراد أنه خير الأشياء من جميع الوجوه وفي جميع الأحوال والأشخاص، بل في حال دون حال.
الوجه الثاني: أنه يجوز أن يكون المراد من أفضل الأعمال كذا أو من خيرها أو من خيركم من فعل كذا فحذفت من وهي مرادة، كما يقال: فلان أعقل الناس وأفضلهم، وعلى هذا الوجه الثاني يكون الإيمان أفضلها مطلقا والباقيات متساوية في كونها من أفضل الأعمال والأحوال. اهـ( )
وقال ابن حجر رحمه الله في شرح حديث (دلني على عمل يعدل الجهاد): ولمسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه بلفظ: (قيل: ما يعدل الجهاد؟ قال: لا تستطيعونه، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثة كل ذلك يقول: لا تستطيعونه، وقال في الثالثة: (مثل الجهاد في سبيل الله) الحديث، وأخرج الطبراني نحو هذا الحديث من حديث سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه وقال في آخره (لم يبلغ العشر من عمله)، قوله: (قال ومن يستطيع ذلك) في رواية أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان قال: (لا أستطيع ذلك)، وهذه فضيلة ظاهرة للمجاهد في سبيل الله تقتضي أن لا يعدل الجهاد شيء من الأعمال، وأما ما تقدم في كتاب العيدين من حديث بن عباس مرفوعا (ما العمل في أيام أفضل منه في هذه يعني أيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد)، فيحتمل أن يكون عموم حديث الباب خص بما دل عليه حديث بن عباس.
ويحتمل أن يكون الفضل الذي في حديث الباب مخصوصا بمن خرج قاصدا المخاطرة بنفسه وماله فأصيب كما في بقية حديث بن عباس (خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)، فمفهومه أن من رجع بذلك لا ينال الفضيلة المذكورة، لكن يشكل عليه ما وقع في آخر حديث الباب (وتوكل الله للمجاهد) الخ، ويمكن أن يجاب بأن الفضل المذكور أولا خاص بمن لم يرجع، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون لمن يرجع أجر في الجملة، وأشد مما تقدم في الإشكال ما أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء مرفوعا (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: بلى، قال: ذكر الله) فإنه ظاهر في أن الذكر بمجرده أفضل من أبلغ ما يقع للمجاهد وأفضل من الإنفاق مع ما في الجهاد والنفقة من النفع المتعدي.
قال عياض: اشتمل حديث الباب على تعظيم أمر الجهاد لأن الصيام وغيره مما ذكر من فضائل الأعمال قد عدلها كلها الجهاد، حتى صارت جميع حالات المجاهد وتصرفاته المباحة معادلة لأجر المواظب على الصلاة وغيرها، ولهذا قال : (لا تستطيع ذلك) وفيه أن الفضائل لا تدرك بالقياس وإنما هي إحسان من الله تعالى لمن شاء، واستدل به على أن الجهاد أفضل الأعمال مطلقا لما تقدم تقريره، وقال ابن دقيق العيد: القياس يقتضي أن يكون الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل، لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره وإخماد الكفر ودحضه، ففضيلته بحسب فضيلة ذلك والله أعلم. اهـ( )
الجهاد ذروة سنام الإسلام.
فعن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال: (لقد سألت عظيما وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ النار الماء، وصلاة الرجل من جوف الليل ثم قرأ (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) حتى بلغ (جزاء بما كانوا يعملون)( ) ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟) قلت: بلى (فأخذ بلسانه فقال: تكف عليك هذا) قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال (ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم)( ).
وقوله (رأس الأمر) أي أمر الدين وهو الإسلام، والمقصود تشبيه الإسلام برأس الأمر ليشعر بأنه من سائر الأعمال بمنزلة الرأس من الجسد في احتياجه إليه وعدم بقائه دونه، وقوله (وعموده الصلاة) يعني الإسلام وهو أصل الدين إلا أنه ليس له قوة وكمال كالبيت الذي ليس له عمود، فإذا صلى وداوم قوى دينه، ولم يكن له رفعة فإذا جاهد حصل لدينه رفعة وهو معنى قوله (وذروة سنامه الجهاد) وفيه إشعار إلى صعوبة الجهاد وعلو أمره وتفوقه على سائر الأعمال.
والمقصود بقوله (ذروة سنامه) بكسر الذال وهو الأشهر وبضمها وحكي فتحها أعلى الشيء، والسنام بالفتح ما ارتفع عن ظهر الجمل قريب عنقه. اهـ( )
أهل الجهاد هم أهل الهداية والتوفيق والإحسان.
قال تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)( )، وهذه الآية بيان للضمان الإلهي بهداية المجاهدين في الدنيا والآخرة، ولهذا كان سلف الأمة إذا أشكل عليهم أمر فزعوا إلى أهل الجهاد لأن الله تعالى قد ضمن لهم الهداية.
قال الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره: والذين قاتلوا هؤلاء المفترين على الله كذبا من كفار قريش المكذبين بالحق لما جاءهم (فينا) مبتغين بقتالهم علو كلمتنا ونصرة ديننا (لنهدينهم سبلنا) يقول: لنوفقنهم لإصابة الطريق المستقيمة وذلك إصابة دين الله الذي هو الإسلام الذي بعث الله به محمدا (وإن الله لمع المحسنين) يقول: وإن الله لمع من أحسن من خلقه فجاهد فيه أهل الشرك مصدقا رسوله فيما جاء به من عند الله بالعون له والنصرة على من جاهد من أعدائه، وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل. اهـ( )
وقال ابن تيمية رحمه الله: ولهذا كان الجهاد موجبا للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم كما دل عليه قوله تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)( ) فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى، ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم لأن الله يقول (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).اهـ( )
أهل الجهاد والهجرة أفضل من غيرهم ولهم البشرى والرضوان والمغفرة.
قال تعالى (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم)( )
قال الطبري رحمه الله: وهذا قضاء من الله بين فرق المفتخرين الذين افتخر أحدهم بالسقاية والآخر بالسدانة والآخر بالإيمان بالله والجهاد في سبيله، يقول تعالى ذكره: الذين آمنوا بالله وصدقوا بتوحيده وهاجروا دور قومهم وجاهدوا المشركين في دين الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأرفع منزلة عنده، وهؤلاء الذين وصفنا صفتهم أنهم آمنوا وهاجروا وجاهدوا وهم الفائزون بالجنة الناجون.
يقول تعالى ذكره: يبشر هؤلاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ربهم برحمة منه لهم أنه قد رحمهم من أن يعذبهم وبرضوان منه لهم بأنه قد رضي عنهم بطاعتهم إياه وأدائهم ما كلفهم، (وجنات) يقول وبساتين لهم فيها نعيم مقيم لا يزول ولا يبيد ثابت دائم أبدا لهم.
يقول تعالى ذكره (خالدين فيها) ماكثين فيها، يعني في الجنات، (أبدا) لا نهاية لذلك ولا حد، (إن الله عنده أجر عظيم) يقول: إن الله عنده لهؤلاء المؤمنين الذين نعتهم جل ثناؤه النعت الذي ذكر في هذه الآية أجر ثواب على طاعتهم لربهم وأدائهم ما كلفهم من الأعمال عظيم وذلك النعيم الذي وعدهم. اهـ( )
وقريب من المعنى السابق قوله تعالى (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب)( )
وقال تعالى (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما)( )
قال القرطبي رحمه الله: قال ابن عباس لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها ثم قال (أولي الضرر) والضرر الزمانة، روى الأئمة واللفظ لأبي داود عن زيد بن ثابت قال: كنت إلى جنب رسول الله فغشيته السكينة، فوقعت فخذ رسول الله على فخذي، فما وجدت ثقل شئ أثقل من فخذ رسول الله ، ثم سرى عنه، فقال: أكتب فكتبت في كتف (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) إلى آخر الآية، فقام ابن أم مكتوم وكان رجلا أعمى لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله السكينة، فوقعت فخذه على فخذي ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، ثم سرى عن رسول الله فقال: اقرأ يا زيد فقرأت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) فقال رسول الله (غير أولي الضرر) الآية كلها، قال زيد: فأنزلها الله وحدها فألحقتها، والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف، وفي البخاري عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث أنه سمع ابن عباس يقول: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) عن بدر والخارجون إلى بدر، قال العلماء: أهل الضرر هم أهل الأعذار، إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد، وصح وثبت في الخبر أنه عليه السلام قال وقد قفل من بعض غزواته: (إن بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر)( )، فهذا يقتضي أن صاحب العذر يعطي أجر الغازي، فقيل: يحتمل أن يكون أجره مساويا، وفي فضل الله متسع، وثوابه فضل لا استحقاق، فيثيب على النية الصادقة ما لا يثبت على الفعل، وقيل: يعطى أجره تضعيف فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة والله أعلم، قلت: والقول الأول أصح إن شاء الله للحديث الصحيح في ذلك (إن بالمدينة رجالا) ولحديث أبي كبشة الأنماري قوله عليه السلام: (إنما الدنيا لأربعة نفر)( )الحديث، ومن هذا المعنى ما ورد في الخبر (إذا مرض العبد قال الله تعالى اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو أقبضه إلي). اهـ( )
وعن أبي هريرة أن النبي قال (خير معايش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله ويطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه إليها يبتغي الموت أو القتل مظانه ورجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعاف أو بطن واد من هذه الأودية يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إلا في خير)( ).
وعنه أيضا أن رجلا أتى النبي فقال أي الناس أفضل فقال (رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه) قال ثم من؟ قال (مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ربه ويدع الناس من شره)( ).
الجهاد سبب في دخول الجنة ورفعة الدرجات فيها.
قال تعالى (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما)( )
وعن أبي هريرة عن النبي قـال: (انتدب الله لمن خرج في سبيله ـ لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي ـ أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل)( ).
وعنه أيضا قال سمعت النبي يقول (والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل)
وفي رواية أخرى عنه أيضا (لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سرية ولكن لا أجد حمولة ولا أجد ما أحملهم عليه ويشق علي أن يتخلفوا عني ولوددت أني قاتلت في سبيل الله فقتلت ثم أحييت ثم قتلت ثم أحييت)
وعن أبي هريرة أيضا قال: قال رسول الله : (من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة جاهد ـ وفي لفظ هاجر ـ في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها) فقالوا يا رسول الله أفلا نبشر الناس؟ قال: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة أراه فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة)( ).
قال ابن حجر: قوله (أو جلس في أرضه) فيه تأنيس لمن حرم الجهاد وأنه ليس محروما من الأجر، بل له من الإيمان والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة وإن قصر عن درجة المجاهدين…إلى أن قال: وفيه تعقيب على قول بعض شراح المصابيح: سوى النبي بين الجهاد في سبيل الله وبين عدمه وهو الجلوس في الأرض التي ولد المرء فيها ووجه التعقيب أن التسوية ليست على عمومها وإنما هي في أصل دخول الجنة لا في تفاوت الدرجات والله أعلم.اهـ( )
وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما أن رسول الله في بعض أيامه التي لقي فيها انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس خطيبا قال: (أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ثم قال اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم)( ).
قال الشوكاني رحمه الله: قوله (تحت ظلال السيوف) الظلال جمع ظل، وإذا تدانى الخصمان صار كل واحد منهما تحت ظل سيف صاحبه لحرصه على رفعه عليه، ولا يكون ذلك إلا عند التحام القتال، قال القرطبي: وهو من الكلام النفيس الجامع الموجز المشتمل على ضروب من البلاغة مع الوجازة وعذوبة اللفظ، فإنه أفاد الحض على الجهاد، والإخبار بالثواب عليه، والحض على مقاربة العدو، واستعمال السيوف، والاجتماع حين الزحف حتى تصير السيوف تظل المتقاتلين، وقال ابن الجوزي: المراد أن الجنة تحصل بالجهاد. اهـ( )
وعن سبرة بن أبي فاكه قال سمعت رسول الله يقول (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال تهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد، فقال رسول الله : فمن فعل ذلك كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة)( ).
أقل الجهاد خير من الدنيا وما فيها
فعن سهل بن سعد عن النبي قال: (الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها)( )
وعن أنس بن مالك عن النبي قال (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) ، وفي رواية سهل بن سعد (أفضل من الدنيا وما فيها)
وعن أبي هريرة عن النبي قال (لقاب قوس في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب وقال لغدوة أو روحة في سبيل الله خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب).
قال ابن حجر رحمه الله: والحاصل أن المراد تسهيل أمر الدنيا، وتعظيم أمر الجهاد، وأن من حصل له من الجنة قدر سوط يصير كأنه حصل له أمر أعظم من جميع ما في الدنيا، فكيف بمن حصل منها أعلى الدرجات، والنكتة في ذلك أن سبب التأخير عن الجهاد الميل إلى سبب من أسباب الدنيا، فنبه هذا المتأخر أن هذا القدر اليسير من الجنة أفضل من جميع ما في الدنيا. اهـ( )
قال الشوكاني رحمه الله: قوله (خير من الدنيا وما فيها) قال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون من باب تنزيل الغائب منزلة المحسوس تحقيقا له في النفس، لكون الدنيا محسوسة في النفس مستعظمة في الطباع، ولذلك وقعت المفاضلة بها، وإلا فمن المعلوم أن جميع ما في الدنيا لا يساوي ذرة مما في الجنة، والثاني: أن المراد أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في طاعة الله تعالى، ويؤيد هذا الثاني ما رواه ابن المبارك في كتاب الجهاد من مرسل الحسن قال: بعث رسول الله جيشا فيهم عبد الله بن رواحة فتأخر ليشهد الصلاة مع النبي فقال له النبي (والذي نفسي بيده لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم).
والحاصل أن المراد تسهيل أمر الدنيا وتعظيم أمر الجهاد وأن من حصل له من الجنة قدر سوط يصير كأنه حصل له أعظم من جميع ما في الدنيا فكيف لمن حصل منها أعلى الدرجات والنكتة في ذلك أن سبب التأخير عن الجهاد الميل إلى سبب الدنيا. اهـ( )
قلت: فانظر إلى هذا الفضل العظيم والأجر العميم لهذه العبادة العظيمة ـ عبادة الجهاد في سبيل الله ـ، فإذا كانت غدوة أو روحة واحدة خير مما في الدنيا كلها بما في ذلك من النفقة والعمل الصالح، أو أن أجر هذه الغدوة أو الروحة خير مما في الدنيا من المتاع والنعيم ـ لو استطاع الإنسان أن يحصله كله ـ، فإذا كان لغدوة أو روحة واحدة هذه المنزلة فكيف بمن أنفق أكثر عمره أو كله وشغله بهذه العبادة وما يخدمها، فحري بالهمم العالية أن لا تزهد في هذا الفضل والخير.
الجهاد مقرون بخيري الدنيا والآخرة (الأجر والمغنم)
فعن عروة البارقي أن النبي قال: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم )
فقد قرن النبي بين عدة المجاهد ـ ومنها الخيل ـ وبين الخير الدائم الذي لا ينقطع ـ الأجر والمغنم ـ، وأخبر أن أحوال المجاهد كلها خير له فهو بين أن يحصل أجرا أو غنيمة أو كلاهما، ولذلك حرص راوي الحديث على ربط الخيل لما فهمه من معنى الحديث فكان له سبعون فرسا كما في الصحيح ربطها في سبيل الله تعالى احتسابا للأجر من الله تعالى.
قال ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث: قوله (الخيل) المراد بها ما يتخذ للغزو بأن يقاتل عليه أو يرتبط لأجل ذلك، وقد روى أحمد من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعا (الخيل في نواصيها الخير معقود إلى يوم القيامة، فمن ربطها عدة في سبيل الله وأنفق عليه احتسابا كان شبعها وجوعها وريها وظمؤها وأرواثها وأبوالها فلاحا في موازينه يوم القيامة) الحديث...إلى أن قال:
قال عياض: في هذا الحديث مع وجيز لفظه من البلاغة والعذوبة ما لا مزيد عليه في الحسن مع الجناس السهل الذي بين الخيل والخير، قال الخطابي: وفيه إشارة إلى أن المال الذي يكتسب باتخاذ الخيل من خير وجوه الأموال وأطيبها، والعرب تسمي المال خيرا، وقال ابن عبد البر: فيه إشارة إلى تفضيل الخيل على غيرها من الدواب، لأنه لم يأت عنه في شيء غيرها مثل هذا القول وفي النسائي عن أنس بن مالك : لم يكن شيء أحب إلى رسول الله من الخيل.اهـ( )
وعن أبي هريرة عن النبي قال (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع)( )
وعن عبادة بن الصامت مرفوعا (جاهدوا في سبيل الله فإن الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة ينجي الله به من الهم والغم)( ).
تحرم النار على من جرح أو اغبرت قدماه في الجهاد ويكون دمه وغباره مسكا يوم القيامة.
فعن عباية بن رفاعة قال: أدركني أبو عبس ـ وهو عبد الرحمن بن جبر ـ وأنا أذهب إلى الجمعة فقال: سمعت النبي يقول (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) وعنه أيضا مرفوعا (ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار)، وفي رواية أخرى عن مالك بن عبد الخثعمي مرفوعا (من اغبرت قدماه في سبيل الله ساعة من نهار فهما حرام على النار)( )
وعن أبي الدرداء مرفوعا (من اغبرت قدماه في سبيل الله باعد الله منه النار مسيرة ألف عام للراكب المستعجل)( )
قال ابن حجر رحمه الله: المتبادر عند الإطلاق من لفظ (في سبيل الله) الجهاد…إلى أن قال: وقال ابن المنير: دل الحديث على أن من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار سواء باشر قتالا أم لا.انتهى، وقوله (فتمسه النار) والمعنى: إن المس ينتفي بوجود الغبار المذكور، وفي ذلك إشارة إلى عظيم قدر التصرف في سبيل الله، فإذا كان مجرد مس الغبار للقدم يحرم النار فكيف بمن سعى وبذل جهده واستنفذ وسعه. اهـ( )
قال الشوكاني رحمه الله: قوله (من اغبرت قدماه) زاد أحمد من حديث أبي هريرة (ساعة من نهار)، وفيه دليل على عظم قدر الجهاد في سبيل الله، فإن مجرد مس الغبار للقدم إذا كان من موجبات السلامة من النار، فكيف بمن سعى وبذل جهده واستفرغ وسعه. اهـ( )
وعن أنس مرفوعا (من راح روحة في سبيل الله كان له بمثل ما أصابه من الغبار مسكا يوم القيامة)( ).
وعنه أن رسول الله قال (لا يبكي أحد من خشية الله فتطعمه النار حتى يرد اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم أبدا)( ).
وعنه أيضا أن رسول الله قال (لا يجتمعان في النار مسلم قتل كافرا ثم سدد وقارب ولا يجتمعان في جوف مؤمن غبار في سبيل الله وفيح جهنم ولا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد)( ).
وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: (والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك)( )
قال ابن حجر رحمه الله: قال العلماء الحكمة في بعثه كذلك أن يكون معه شاهد بفضيلته ببذله نفسه في طاعة الله تعالى. اهـ( )
وعنه أيضا عن رسول الله (كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله ثم تكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت تفجر دما اللون لون دم والعرف عرف المسك)( )
وعن معاذ بن جبل أن النبي قال: (من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة ومن جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها الزعفران وريحها المسك)( )
قال الشوكاني رحمه الله: وقوله (من جرح جرحا) ظاهر هذا أنه لا يختص بالشهيد الذي يموت من تلك الجراحة بل هو حاصل لكل من جرح، ويحتمل أن يكون المراد بهذا الجرح هو ما يموت صاحبه بسببه قبل اندماله لا ما يندمل في الدنيا، فإن أثر الجراحة وسيلان الدم يزول، ولا ينفي ذلك كونه له فضل في الجملة، قال في الفتح: قال العلماء: الحكمة في بعثه كذلك أن يكون معه شاهد فضيلته ببذل نفسه في طاعة الله.اهـ( )
يقضي الله عن المجاهد دينه إذا استدان للجهاد.
فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: (ثلاثة حق على الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله)( )
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (إن الدين يقضى من صاحبه يوم القيامة إذا مات إلا من يدين في ثلاث خلال: الرجل تضعف قوته في سبيل الله فيستدين يتقوى به لعدو الله وعدوه، ورجل يموت عنده مسلم لا يجد ما يكفنه ويواريه إلا بدين، ورجل خاف الله على نفسه العزبة فينكح خشية على دينه، فإن الله يقضي عن هؤلاء يوم القيامة)( )
يدفع الله بالجهاد الهم والغم والحزن وجوى القلب.
قال تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم)( )
وفي هذه الآية يأمر الله تعالى عباده المؤمنين ويحثهم على قتال أهل الكفر وأئمتة المحاربين لله تعالى ولرسوله والناكثين عهودهم وأن يثخنوا فيهم عقوبة لهم على عنادهم وكفرهم وتركهم الاستسلام لله تعالى، وليذهب الله تعالى ما قلوب المؤمنين من غيظ عليهم حيث أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وأوطانهم لا لشيء إلا لأنهم يقولوا ربنا الله، فجعل الله تعالى شفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم في إذلال أهل الكفر وخزيهم وقهرهم.
وفي هذه الآية دليل واضح على أن كل عمل يذهب غيظ المؤمنين وحنقهم على أهل الكفر ويشف صدورهم فهو مطلوب شرعا، وذلك مثل اغتيال أئمة الكفر ومن له اليد الطولى في حرب المسلمين وأذايتهم والذين يذيقون أهل الإسلام العذاب ألوانا، فإن قتل هؤلاء مذهب لغيظ قلوب من ظلموهم من أهل الإسلام ومشف لصدروهم مما فيها من الوجد عليهم.
قال ابن جرير رحمه الله في تفسير الآية: قوله تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) يقول تعالى ذكره: قاتلوا أيها المؤمنون بالله ورسوله هؤلاء المشركين الذين نكثوا أيمانهم ونقضوا عهودهم بينكم وبينهم وأخرجوا رسول الله من بين أظهرهم، (يعذبهم الله بأيديكم) يقول يقتلهم الله بأيديكم، (ويخزهم) يقول: ويذلهم بالأسر والقهر، (وينصركم عليهم) فيعطيكم الظفر عليهم والغلبة، (ويشف صدور قوم مؤمنين) يقول: ويبرئ داء صدور قوم مؤمنين بالله ورسوله بقتل هؤلاء المشركين بأيديكم وإذلالكم وقهركم إياهم، وذلك الداء هو ما كان في قلوبهم عليهم من الموجدة بما كانوا ينالونهم به من الأذى والمكروه...إلى أن قال رحمه الله:
قوله تعالى (ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم) يقول الله تعالى ذكره ويذهب وجد قلوب هؤلاء القوم المؤمنين على هؤلاء القوم الذين نكثوا أيمانهم من المشركين وغمها وكربها بما فيها من الوجد عليهم…إلى آخر قوله رحمه الله. اهـ( )
وقال الشوكاني رحمه الله: ثم زاد في تأكيد الأمر بالقتال فقال: (قاتلوهم) ورتب على هذا الأمر فوائد الأولى: تعذيب الله للكفار بأيدي المؤمنين بالقتل والأسر، والثانية: إخزاؤهم قيل بالأسر وقيل بما نزل بهم من الذل والهوان، والثالثة: نصر المسلمين عليهم وغلبتهم لهم، والرابعة: أن الله يشفى بالقتال صدور قوم مؤمنين ممن لم يشهد القتال ولا حضره، والخامسة: أنه سبحانه يذهب بالقتال غيظ قلوب المؤمنين الذي نالهم بسبب ما وقع من الكفار من الأمور الجالبة للغيظ وحرج الصدر…إلى أن قال رحمه الله:
وقيل إن شفاء الصدور إشارة إلى الوعد بالفتح، ولا ريب أن الانتظار لنجاز الوعد مع الثقة به فيهما شفاء للصدر وأن إذهاب غيظ القلوب إشارة إلى وقوع الفتح، وقد وقعت للمؤمنين ولله الحمد هذه الأمور كلها. اهـ( )
وقال ابن القيم رحمه الله: وأما تأثير الجهاد في دفع الهم والغم فأمر معلوم بالوجدان، فإن النفس متى تركت صائل الباطل وصولته واستيلاءه اشتد همها وغمها وكربها وخوفها، فإذا جاهدته لله أبدل الله ذلك الهم والحزن فرحا ونشاطا وقوة كما قال تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم) فلا شيء أذهب لجوى القلب وغمه وهمه وحزنه من الجهاد. اهـ( )
وفي استحباب مغايظة الكفار عموما قال ابن القيم رحمه الله في فوائد صلح الحديبية: ومنها استحباب مغايظة أعداء الله، فإن النبي أهدى في جملة هديه جملا لأبي جهل في أنفه برة من فضة يغيظ به المشركين، وقد قال تعالى في صفة النبي وأصحابه (ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآرزه فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار)( )، وقال عز وجل (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين)( )
وفي كلام جامع في فضائل الجهاد وما تحويه هذه الفريضة من أنواع العبادات قال ابن تيمية رحمه الله: ولهذا كان الجهاد سنام العمل وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة، ففيه سنام المحبة كما في قوله (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم)( ).
وفيه سنام التوكل وسنام الصبر فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل ولهذا قال تعالى (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون)( )، وقال موسى لقومه (استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)( )، ولهذا كان الصبر واليقين اللذين هما أصل التوكل يوجبان الإمامة في الدين كما دل عليه قوله تعالى (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)( ).
ولهذا كان الجهاد موجبا للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم كما دل عليه قوله تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)( ) فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى، ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم لأن الله يقول (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).
وفى الجهاد أيضا حقيقة الزهد في الحياة الدنيا وفى الدار الدنيا،وفيه أيضا حقيقة الإخلاص، فإن الكلام فيمن جاهد في سبيل الله لا في سبيل الرياسة ولا في سبيل المال ولا في سبيل الحمية، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله ولتكون كلمة الله هي العليا.
وأعظم مراتب الإخلاص تسليم النفس والمال للمعبود كما قال تعالى (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون)( )، والجنة اسم للدار التي حوت كل نعيم أعلاه النظر إلى الله إلى ما دون ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما قد نعرفه وقد لا نعرفه كما قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله : (أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر). اهـ( )
فائدتان
1ـ هل الغزو في البحر أفضل من غزو البر؟
قال ابن قدامة رحمه الله: إن الغزو في البحر مشروع وفضله كثير قال أنس بن مالك نام رسول الله ثم استيقظ وهو يضحك، قالت أم حرام فقلت: ما يضحكك يا رسول الله، قال : (ناس من أمتي عُرِضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة) أو (مثل الملوك على الأسرة) متفق عليه، قال ابن عبد البر: أم حرام بنت ملحان أخت أم سليم خالة رسول الله من الرضاعة، أرضعته أخت لهما ثالثة، ولم نر هذا عن أحد سواه، وأظنه إنما قال هذا لأن النبي كان ينام في بيتها وينظر إلى شعرها، ولعل هذا كان قبل نزول الحجاب.
وروى أبو داود بإسناده عن أم حرام عن النبي أنه قال: (المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد والغريق له أجر شهيدين)( )، وروى ابن ماجة قال سمعت رسول الله يقول: (شهيد البحر مثل شهيدي البر، والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله، وإن الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم، ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين، ويغفر لشهيد البحر الذنوب كلها والدين)( )، ولأن البحر أعظم خطرا ومشقة فإنه بين العدو وخطر الغرق ولا يتمكن من الفرار إلا مع أصحابه فكان أفضل من غيره. اهـ( )
هل يفضل قتال أهل الكتاب عن قتال غيرهم؟
كان ابن المبارك يأتي من مرو لغزو الروم، فقيل له في ذلك، فقال: إن هؤلاء يقاتلون على دين، وقد روي عن النبي أنه قال لأم خلاد (إن ابنك له أجر شهيدين)، قالت: ولم ذاك يا رسول الله، قال: (لأنه قتله أهل الكتاب) رواه أبو داود( ). اهـ
فضل الرباط في سبيل الله
*******
من المعلوم أن المقام في ثغور المسلمين بنية إعزاز الدين ودفع شر وأذى الكافرين هو من جنس الجهاد في سبيل الله تعالى، وفضله عظيم وأجره كبير، وقد ورد في الأدلة وأقوال أهل العلم ما يبين الفضل العظيم لمن يقيم في المكان الذي يخيفه العدو فيه ويخيف فيه العدو بنية دفعه إذا أراد أهل الإسلام بسوء، وأن المقام في مثل هذا المكان خير من الإقامة في مكة عند الحجر الأسود للصلاة والذكر والدعاء، وأن من رابط ليلة في ثغر مخوف بنية خالصة خير من صيام شهر وقيامه.
فعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله قال: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها)( ).
قال السرخسي رحمه الله في شرح السير: والمرابطة المذكورة في الحديث عبارة عن المقام في ثغر الأعداء لإعزاز الدين ودفع شر الكافرين. اهـ( )
وقال ابن قدامة رحمه الله: معنى المرابط: الإقامة بالثغر مقويا للمسلمين على الكفار، والثغر: كل مكان يخيف أهله العدو ويخيفهم، وأصل الرباط من رباط الخيل، لأن هؤلاء يربطون خيولهم وهؤلاء يربطون خيولهم كل يعد لصاحبه، فسمي المقام بالثغر رباطا وإن لم يكن فيه خيل…إلى أن قال:
وأفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفا، لأنهم أحوج ومقامه به أنفع، قال أحمد: أفضل الرباط أشدهم كَلَبا، وقيل لأحمد: فأين أحب إليك أن ينزل الرجل بأهله؟ قال: كل مدينة معقل للمسلمين مثل دمشق. اهـ( )
وقال ابن حجر رحمه الله في شرح البخاري: قوله: باب فضل رباط يوم في سبيل الله، وقول الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا)( )الآية، الرِّباط ـ بكسر الراء وبالموحدة الخفيفة ـ ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم، قال ابن التين: بشرط أن لا يكون الوطن قاله بن حبيب عن مالك، قلت: وفيه نظر في إطلاقه فقد يكون وطنه وينوي بالإقامة فيه دفع العدو، ومن ثَمَّ أختار كثير من السلف سكنى الثغور، فبين المرابطة والحراسة عموم وخصوص وجهي.
واستدلال المصنف بالآية اختيار لأشهر التفاسير، فعن الحسن البصري وقتادة: اصبروا على طاعة الله وصابروا أعداء الله في الجهاد ورابطوا في سبيل الله، وعن محمد بن كعب القرظي: اصبروا على الطاعة وصابروا لانتظار الوعد ورابطوا العدو واتقوا الله فيما بينكم، وعن زيد بن أسلم: اصبروا على الجهاد وصابروا العدو ورابطوا الخيل.
قال ابن قتيبة: أصل الرباط أن يربط هؤلاء خيلهم وهؤلاء خيلهم استعدادا للقتال، قال الله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل)( )، وأخرج ذلك بن أبي حاتم وابن جرير وغيرهما، وتفسيره برباط الخيل يرجع إلى الأول، وفي الموطأ عن أبي هريرة مرفوعا (وانتظار الصلاة فذلكم الرباط) وهو في السنن عن أبي سعيد( )، وفي المستدرك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن الآية نزلت في ذلك، واحتج بأنه لم يكن في زمن رسول الله غزو فيه رباط. انتهى، وحمل الآية على الأول أظهر وما احتج به أبو سلمة لا حجة فيه ولا سيما مع ثبوت حديث الباب، فعلى تقدير تسليم أنه لم يكن في عهد رسول الله رباط فلا يمنع ذلك من الأمر به والترغيب فيه، ويحتمل أن يكون المراد كلا من الأمرين أو ما هو أعم من ذلك. اهـ( )
وقال القرطبي رحمه الله: المرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة، وأما سكان الثغور دائما بأهليهم الذين يعمرون ويكتسبون هنالك فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين، قاله ابن عطية، وقال ابن خويزمنداد: وللرباط حالتان حالة يكون الثغر مأمونا منيعا يجوز سكناه بالأهل والولد، وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إذا كان من أهل القتال، ولا ينقل إليه الأهل والولد لئلا يظهر العدو قيسبي ويسترق والله أعلم. اهـ( )
وعن سلمان قال سمعت رسول الله يقول (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان)( ).
وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله يقول: (كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، يجري عليه عمله حتى يبعث ويؤمن من الفتان)( ).
قال الشوكاني رحمه الله: قوله: (أمن الفَتـَّان) بفتح الفاء وتشديد التاء الفوقية، قال في القاموس: الفتان اللص والشيطان كالفاتن والصانع والفتانان الدرهم والدينار ومنكر ونكير، قال في النهاية: وبالفتح هو الشيطان لأنه يفتن الناس عن الدين انتهى، والمراد هاهنا الشيطان أو منكر ونكير. اهـ( )
وقال ابن عابدين رحمه الله: قوله (وأمن الفتان) ضبط أمن بفتح الهمزة وكسر الميم بلا واو أي فتان القبر وفي رواية أبي داود في سننه (وأمن من فتان القبر) وبضمها جمع فاتن، قال القرطبي: وتكون للجنس أي كل ذي فتنة، قلت: أو المراد فتان القبر من إطلاق صفة الجمع على اثنين أو على أنهم أكثر من اثنين، فقد ورد أن فتان القبر ثلاثة أو أربعة، وقد استدل بهذا الحديث على أن المرابط لا يسأل في قبره كالشهيد. اهـ( )
قال القرطبي رحمه الله بعد ذكره لحديثي سلمان وفضالة رضي الله عنهما: وفي هذين الحديثين دليل على أن الرباط أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت، كما جاء في حديث العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي أنه قال (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) وهو حديث صحيح انفرد بإخراجه مسلم، فإن الصدقة الجارية والعلم المنتفع به والولد الصالح الذي يدعو لأبويه ينقطع ذلك بنفاذ الصدقات وذهاب العلم وموت الولد، والرباط يضاعف أجره إلى يوم القيامة، لأنه لا معنى للنماء إلا المضاعفة وهي غير موقوفة على سبب فتنقطع بانقطاعه، بل هي فضل دائم من الله تعالى إلى يوم القيامة، وهذا لأن أعمال البر كلها لا يُتَمَكَّنُ منها إلا بالسلامة من العدو والتحرز منه بحراسة بيضة الدين وإقامة شعائر الإسلام. اهـ(
وعن محمد بن المنكدر قال: مر سلمان الفارسي بشرحبيل بن السمط وهو في مرابط له وقد شق عليه وعلى أصحابه، قال: ألا أحدثك يا ابن السمط بحديث سمعته من رسول الله ، قال: بلى، قال: سمعت رسول الله يقول: (رباط يوم في سبيل الله أفضل ـ وربما قال خير ـ من صيام شهر وقيامه، ومن مات فيه وُقِيَ فتنة القبر ونُمِّي له عمله إلى يوم القيامة)( )، ولهذا قال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود.( )
وعن فضالة بن عبيد قال: سمعت رسول الله يقول: (كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر)( )
وعن أبي هريرة عن رسول الله أنه قال: (من مات مرابطاً في سبيل الله أجري عليه عمله الصالح الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه و أمن من الفتان، وبعثه الله يوم القيامة آمناً من الفزع)( )
فضل الحراسة
*****
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله يقول: (عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله)، وعن أبي ريحانة يقول سمعت رسول الله يقول (حرمت عين على النار سهرت في سبيل الله)( )
وعن عثمان بن عفان قال سمعت رسول الله يقول: (حَرْسُ ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة بقيام ليلها وصيام نهارها)( )
قال الشوكاني رحمه الله: قوله (حَرْسُ) هو مصدر حَرَسَ والمراد هنا حراسة الجيش يتولاها واحد منهم فيكون له ذلك الأجر لما في ذلك من العناية بشأن المجاهدين والتعب في مصالح الدين، ولذلك قال في الحديث الآخر (عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله).اهـ( )
وعن معاذ بن أنس أن رسول الله قال: (من حرس من وراء المسلمين متطوعا لا بأجرة سلطان لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم فإن الله يقول (وإن منكم إلا واردها)( )
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)( )
وعن أم الدرداء رضي الله عنها مرفوعا أن رسول الله قال: (من رابط في شيء من سواحل المسلمين ثلاثة أيام أجزأت عنه رباط سنة)( )
وقال ابن قدامة رحمه الله: فصل: وفي الحرس في سبيل الله فضل كبير قال ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت رسول الله يقول: (عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله)، وقال النبي : (رحم الله حارس الحرس)( )، وعن سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله يوم حنين فأطنبوا السير حتى كان عشية، قال: (من يحرسنا الليلة) قال أنس بن أبي مرثد الغنوي : أنا يا رسول الله، قال: (فاركب)، فركب فرسا له، وجاء إلى رسول الله فقال له: (استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نفرق من قبلك الليلة) فلما أصبحنا جاء رسول الله إلى مصلاه فركع ركعتين، ثم قال: (هل أحسستم فارسكم الليلة)، قالوا: لا، فثوب بالصلاة، فجعل رسول الله يصلي وهو يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى رسول الله صلاته وسلم، قال: (أبشروا قد جاءكم فارسكم)، فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله ، فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا، فقال له رسول الله : (هل نزلت الليلة) قال: لا إلا مصليا أو قاضيا حاجة، فقال له رسول الله : (قد أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها)( )،وعن عثمان قال سمعت رسول الله يقول: (حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة قيام ليلها وصيام نهارها. اهـ( )
B
فضل الجهاد
*****
الجهاد أفضل الأعمال مطلقا بعد توحيد الله والإيمان به.
وذلك أن الجهاد هو العبادة الوحيدة التي فيها تغرير بالنفس وإتلاف لها في سبيل الله تعالى، وقد شهدت بفضل الجهاد على سائر أعمال البر نصوص الكتاب والسنة، فقد قال تعالى (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين)( ).
وذلك أن قوما قالوا إن سقاية الحجيج وخدمتهم وعمارة البيت الحرام والذي هو أطهر بقاع الأرض بالذكر والصلاة والدعاء والاعتكاف هي أفضل الأعمال مطلقا فأنزل الله تعالى هذه الآية توبيخا لهم وردا لمقالتهم وبين تبارك وتعالى أن الجهاد في سبيل الله تعالى بعد الإيمان به لا يعدله ما ذكروه من الأعمال وإن كانت عظيمة عند الله وعند الناس.
قال الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: هذا توبيخ من الله تعالى ذكره لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت فأعلمهم جل ثناؤه أن الفخر في الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله، لا في الذي افتخروا به من السدانة والسقاية، وبذلك جاءت الآثار وتأويل أهل التأويل.
وساق بسنده عن النعمان بن بشير الأنصاري قال كنت عند منبر رسول الله في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر بن الخطاب وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، قال ففعل فأنزل الله تبارك وتعالى (أجعلتم سقاية الحاج) إلى قوله (والله لا يهدي القوم الظالمين)( ).
وبعد أن ذكر ابن جرير رحمه الله عدة روايات في سبب نزول الآية قال: فتأويل الكلام إذن أجعلتم أيها القوم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون هؤلاء وأولئك ولا تعتدل أحوالهما عند الله ومنازلهما. اهـ( )
وعن أبي هريرة قال: سئل النبي : أي الأعمال أفضل؟ قال : (إيمان بالله ورسوله) قيل: ثم ماذا؟ قال: (جهاد في سبيل الله) قيل: ثم ماذا؟ قال: (حج مبرور)( )
وعنه أيضا قال جاء رجل إلى رسول الله فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد قال : (لا أجده)، ثم قال: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر) قال الرجل: ومن يستطيع ذلك، قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات( ).
فقد بين النبي أن ما يعدل أجر المجاهد الذي يحوزه من أول خروجه إلى الجهاد حتى يرجع هو الصيام المتواصل والقيام الذي لا ينقطع عنه صاحبه وهذا لا يستطيعه إنسان البتة ولهذا قال النبي للسائل لا أجده أي لا أجد عملا يعدل أجره أجر الجهاد في سبيل الله تعالى
ولذلك قال ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث: قال عياض: اشتمل حديث الباب على تعظيم أمر الجهاد لأن الصيام وغيره مما ذكر من فضائل الأعمال قد عدلها كلها الجهاد حتى صارت جميع حالات المجاهد وتصرفاته المباحة معادلة لأجر المواظب على الصلاة وغيرها ولهذا قال (لا تستطيع ذلك)، واستدل به على أن الجهاد أفضل الأعمال مطلقا. اهـ( )
وعن أبي سعيد الخدري قال: قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله : (مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله) قالوا: ثم من؟ قال : (مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره)( ).
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: (مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة)( )، وفي رواية أخرى (كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله)، وعند النسائي (كمثل الخاشع الراكع الساجد)، وعند أحمد والبزار (كمثل الصائم نهاره القائم ليله).
قال النووي رحمه الله: معنى القانت هنا المطيع، وفي هذا الحديث عظيم فضل الجهاد لأن الصلاة والصيام والقيام بآيات الله تعالى أفضل الأعمال وقد جعل الله تعالى المجاهد مثال من لا يفتر عن ذلك في لحظة من اللحظات ومعلوم أن هذا لا يتأتى لأحد ولهذا قال : (لا تستطيعونه) والله أعلم. اهـ( )
وقال ابن حجر رحمه الله: قوله (كمثل الصائم القائم) شبه حال الصائم القائم بحال المجاهد في سبيل الله في نيل الثواب في كل حركة وسكون لأن المراد من الصائم القائم من لا يفتر ساعة عن العبادة فأجره مستمر وكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعات عمره بغير ثواب لما تقدم من حديث (إن المجاهد لتستن فرسه…) وأصرح منه قوله تعالى (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ…)الآيةاهـ( )
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال : (لا لكن أفضل الجهاد حج مبرور).
وقول عائشة رضي الله عنها صريح في أن الصحابة وهم أفقه الناس بالقرآن وأحكامه ما كانوا يروا عملا أفضل من الجهاد على الإطلاق وهذا صحيح في حق من يجب عليه الجهاد، ويعدله الحج في حق من لا يجب عليه الجهاد أصلا أو من يعجز عنه لعلة.
قال ابن حجر رحمه الله: قولها (نرى الجهاد أفضل العمل) أي نعتقد ونعلم وذلك لكثرة ما يسمع من فضائله في الكتاب والسنة، وعند النسائي (فإني لا أرى عملا في القرآن أفضل من الجهاد).اهـ( )
وعن أبي هريرة قال: مر رجل من أصحاب رسول الله بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته لطيبها فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله فذكر ذلك لرسول الله فقال : (لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة اغزوا في سبيل الله من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة)( ).
قال ابن عابدين رحمه الله: هذا وفضل الجهاد عظيم، كيف وحاصله بذل أعز المحبوبات وهو النفس وإدخال أعظم المشقات عليه تقربا بذلك إلى الله تعالى. اهـ( )
وقال ابن قدامة رحمه الله: قال أبو عبد الله يعني أحمد بن حنبل لا أعلم شيئا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد، روى هذه المسألة عن أحمد جماعة من أصحابه، قال الأثرم: قال أحمد: لا نعلم شيئا من أبواب البر أفضل من السبيل، وقال الفضل بن زياد سمعت أبا عبد الله وذُكِرَ له أمر العدو فجعل يبكي ويقول: ما من أعمال البر أفضل منه، وقال عنه غيره: ليس يعدل لقاء العدو شيء، ومباشرة القتال بنفسه أفضل الأعمال، والذين يقاتلون العدو هم الذين يدفعون عن الإسلام وعن حريمهم فأي عمل أفضل منه، الناس آمنون وهم خائفون قد بذلوا مهج أنفسهم.
وقد روى ابن مسعود قال: سألت رسول الله : أي الأعمال أفضل؟ قال: (الصلاة لمواقيتها) قلت: ثم أي؟ قال: (ثم بر الوالدين)، قلت: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله)( )، وروى أبو هريرة قال: سُئِلَ رسول الله : أي الأعمال أفضل، أو أي الأعمال خير؟ قال: (إيمان بالله ورسوله)، قيل: ثم أي شيء؟ قال: (الجهاد سنام العمل)، قيل: ثم أي؟ قال: (حج مبرور)( ).
وروى أبو سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: (مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله)( )، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: (ألا أخبركم بخير الناس، رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله)( )، وروى الخلال بإسناده عن الحسن قال: قال رسول الله : (والذي نفسي بيده ما بين السماء والأرض من عمل أفضل من جهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال)( )، ولأن الجهاد بذل المهجة والمال ونفعه يعم المسلمين كلهم صغيرهم وكبيرهم قويهم وضعيفهم ذكرهم وأنثاهم، وغيره لا يساويه في نفعه وخطره فلا يساويه في فضله وأجره.اهـ( )
وقد قال ابن القيم رحمه الله ملخصا المعاني التي من أجلها فضل الجهاد على غيره من الأعمال: وأما الجهاد فناهيك به من عبادة هي سنام العبادات وذروتها وهو المحك والدليل المفرق بين المحب والمدعى فالمحب قد بذل مهجته وماله لربه وإلهه متقربا إليه ببذل أعز ما بحضرته يود لو أن له بكل شعرة نفسا يبذلها في حبه ومرضاته ويود أن لو قتل فيه ثم أحيى ثم أقتل ثم أحيي فهو يفدي بنفسه حبيبه ولسان حاله يقول:
يفديك بالنفس صب لو يكون له أعز من نفسه شيء فذاك به
فهو قد سلم نفسه وماله لمشتريها وعلم أنه لا سبيل إلى أخذ السلعة إلا ببذل ثمنها (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون)( )، فالمحبوب الحق الذي لا تنبغي المحبة إلا له وكل محبة سوى محبته فالمحبة له باطلة أولى بأن يشرع لعباده الجهاد الذي هو غاية ما يتقربون به إلى إلههم وربهم وكانت قرابين من قبلهم من الأمم في ذبائحهم وقرابينهم تقديم أنفسهم للذبح في الله مولاهم الحق فأي حسن يزيد على حسن هذه العبادة ولهذا ادخرها الله لأكمل الأنبياء وأكمل الأمم عقلا وتوحيدا ومحبة لله. اهـ( )
وقد جمع العلماء بين الأحاديث التي وردت في أن الجهاد أفضل الأعمال وما عارضها في الظاهر مثل التي تجعل الجهاد مفضولا بالنسبة لغيره من الأعمال.
قال النووي رحمه الله في الجمع بين هذه الأحاديث: فيها وجهان: أحدهما: أن ذلك اختلاف جواب جرى على حسب اختلاف الأحوال والأشخاص فإنه قد يقال: خير الأشياء كذا ولا يراد أنه خير الأشياء من جميع الوجوه وفي جميع الأحوال والأشخاص، بل في حال دون حال.
الوجه الثاني: أنه يجوز أن يكون المراد من أفضل الأعمال كذا أو من خيرها أو من خيركم من فعل كذا فحذفت من وهي مرادة، كما يقال: فلان أعقل الناس وأفضلهم، وعلى هذا الوجه الثاني يكون الإيمان أفضلها مطلقا والباقيات متساوية في كونها من أفضل الأعمال والأحوال. اهـ( )
وقال ابن حجر رحمه الله في شرح حديث (دلني على عمل يعدل الجهاد): ولمسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه بلفظ: (قيل: ما يعدل الجهاد؟ قال: لا تستطيعونه، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثة كل ذلك يقول: لا تستطيعونه، وقال في الثالثة: (مثل الجهاد في سبيل الله) الحديث، وأخرج الطبراني نحو هذا الحديث من حديث سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه وقال في آخره (لم يبلغ العشر من عمله)، قوله: (قال ومن يستطيع ذلك) في رواية أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان قال: (لا أستطيع ذلك)، وهذه فضيلة ظاهرة للمجاهد في سبيل الله تقتضي أن لا يعدل الجهاد شيء من الأعمال، وأما ما تقدم في كتاب العيدين من حديث بن عباس مرفوعا (ما العمل في أيام أفضل منه في هذه يعني أيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد)، فيحتمل أن يكون عموم حديث الباب خص بما دل عليه حديث بن عباس.
ويحتمل أن يكون الفضل الذي في حديث الباب مخصوصا بمن خرج قاصدا المخاطرة بنفسه وماله فأصيب كما في بقية حديث بن عباس (خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)، فمفهومه أن من رجع بذلك لا ينال الفضيلة المذكورة، لكن يشكل عليه ما وقع في آخر حديث الباب (وتوكل الله للمجاهد) الخ، ويمكن أن يجاب بأن الفضل المذكور أولا خاص بمن لم يرجع، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون لمن يرجع أجر في الجملة، وأشد مما تقدم في الإشكال ما أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء مرفوعا (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: بلى، قال: ذكر الله) فإنه ظاهر في أن الذكر بمجرده أفضل من أبلغ ما يقع للمجاهد وأفضل من الإنفاق مع ما في الجهاد والنفقة من النفع المتعدي.
قال عياض: اشتمل حديث الباب على تعظيم أمر الجهاد لأن الصيام وغيره مما ذكر من فضائل الأعمال قد عدلها كلها الجهاد، حتى صارت جميع حالات المجاهد وتصرفاته المباحة معادلة لأجر المواظب على الصلاة وغيرها، ولهذا قال : (لا تستطيع ذلك) وفيه أن الفضائل لا تدرك بالقياس وإنما هي إحسان من الله تعالى لمن شاء، واستدل به على أن الجهاد أفضل الأعمال مطلقا لما تقدم تقريره، وقال ابن دقيق العيد: القياس يقتضي أن يكون الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل، لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره وإخماد الكفر ودحضه، ففضيلته بحسب فضيلة ذلك والله أعلم. اهـ( )
الجهاد ذروة سنام الإسلام.
فعن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال: (لقد سألت عظيما وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ النار الماء، وصلاة الرجل من جوف الليل ثم قرأ (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) حتى بلغ (جزاء بما كانوا يعملون)( ) ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟) قلت: بلى (فأخذ بلسانه فقال: تكف عليك هذا) قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال (ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم)( ).
وقوله (رأس الأمر) أي أمر الدين وهو الإسلام، والمقصود تشبيه الإسلام برأس الأمر ليشعر بأنه من سائر الأعمال بمنزلة الرأس من الجسد في احتياجه إليه وعدم بقائه دونه، وقوله (وعموده الصلاة) يعني الإسلام وهو أصل الدين إلا أنه ليس له قوة وكمال كالبيت الذي ليس له عمود، فإذا صلى وداوم قوى دينه، ولم يكن له رفعة فإذا جاهد حصل لدينه رفعة وهو معنى قوله (وذروة سنامه الجهاد) وفيه إشعار إلى صعوبة الجهاد وعلو أمره وتفوقه على سائر الأعمال.
والمقصود بقوله (ذروة سنامه) بكسر الذال وهو الأشهر وبضمها وحكي فتحها أعلى الشيء، والسنام بالفتح ما ارتفع عن ظهر الجمل قريب عنقه. اهـ( )
أهل الجهاد هم أهل الهداية والتوفيق والإحسان.
قال تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)( )، وهذه الآية بيان للضمان الإلهي بهداية المجاهدين في الدنيا والآخرة، ولهذا كان سلف الأمة إذا أشكل عليهم أمر فزعوا إلى أهل الجهاد لأن الله تعالى قد ضمن لهم الهداية.
قال الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره: والذين قاتلوا هؤلاء المفترين على الله كذبا من كفار قريش المكذبين بالحق لما جاءهم (فينا) مبتغين بقتالهم علو كلمتنا ونصرة ديننا (لنهدينهم سبلنا) يقول: لنوفقنهم لإصابة الطريق المستقيمة وذلك إصابة دين الله الذي هو الإسلام الذي بعث الله به محمدا (وإن الله لمع المحسنين) يقول: وإن الله لمع من أحسن من خلقه فجاهد فيه أهل الشرك مصدقا رسوله فيما جاء به من عند الله بالعون له والنصرة على من جاهد من أعدائه، وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل. اهـ( )
وقال ابن تيمية رحمه الله: ولهذا كان الجهاد موجبا للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم كما دل عليه قوله تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)( ) فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى، ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم لأن الله يقول (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).اهـ( )
أهل الجهاد والهجرة أفضل من غيرهم ولهم البشرى والرضوان والمغفرة.
قال تعالى (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم)( )
قال الطبري رحمه الله: وهذا قضاء من الله بين فرق المفتخرين الذين افتخر أحدهم بالسقاية والآخر بالسدانة والآخر بالإيمان بالله والجهاد في سبيله، يقول تعالى ذكره: الذين آمنوا بالله وصدقوا بتوحيده وهاجروا دور قومهم وجاهدوا المشركين في دين الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأرفع منزلة عنده، وهؤلاء الذين وصفنا صفتهم أنهم آمنوا وهاجروا وجاهدوا وهم الفائزون بالجنة الناجون.
يقول تعالى ذكره: يبشر هؤلاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ربهم برحمة منه لهم أنه قد رحمهم من أن يعذبهم وبرضوان منه لهم بأنه قد رضي عنهم بطاعتهم إياه وأدائهم ما كلفهم، (وجنات) يقول وبساتين لهم فيها نعيم مقيم لا يزول ولا يبيد ثابت دائم أبدا لهم.
يقول تعالى ذكره (خالدين فيها) ماكثين فيها، يعني في الجنات، (أبدا) لا نهاية لذلك ولا حد، (إن الله عنده أجر عظيم) يقول: إن الله عنده لهؤلاء المؤمنين الذين نعتهم جل ثناؤه النعت الذي ذكر في هذه الآية أجر ثواب على طاعتهم لربهم وأدائهم ما كلفهم من الأعمال عظيم وذلك النعيم الذي وعدهم. اهـ( )
وقريب من المعنى السابق قوله تعالى (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب)( )
وقال تعالى (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما)( )
قال القرطبي رحمه الله: قال ابن عباس لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها ثم قال (أولي الضرر) والضرر الزمانة، روى الأئمة واللفظ لأبي داود عن زيد بن ثابت قال: كنت إلى جنب رسول الله فغشيته السكينة، فوقعت فخذ رسول الله على فخذي، فما وجدت ثقل شئ أثقل من فخذ رسول الله ، ثم سرى عنه، فقال: أكتب فكتبت في كتف (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) إلى آخر الآية، فقام ابن أم مكتوم وكان رجلا أعمى لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله السكينة، فوقعت فخذه على فخذي ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، ثم سرى عن رسول الله فقال: اقرأ يا زيد فقرأت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) فقال رسول الله (غير أولي الضرر) الآية كلها، قال زيد: فأنزلها الله وحدها فألحقتها، والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف، وفي البخاري عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث أنه سمع ابن عباس يقول: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) عن بدر والخارجون إلى بدر، قال العلماء: أهل الضرر هم أهل الأعذار، إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد، وصح وثبت في الخبر أنه عليه السلام قال وقد قفل من بعض غزواته: (إن بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر)( )، فهذا يقتضي أن صاحب العذر يعطي أجر الغازي، فقيل: يحتمل أن يكون أجره مساويا، وفي فضل الله متسع، وثوابه فضل لا استحقاق، فيثيب على النية الصادقة ما لا يثبت على الفعل، وقيل: يعطى أجره تضعيف فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة والله أعلم، قلت: والقول الأول أصح إن شاء الله للحديث الصحيح في ذلك (إن بالمدينة رجالا) ولحديث أبي كبشة الأنماري قوله عليه السلام: (إنما الدنيا لأربعة نفر)( )الحديث، ومن هذا المعنى ما ورد في الخبر (إذا مرض العبد قال الله تعالى اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو أقبضه إلي). اهـ( )
وعن أبي هريرة أن النبي قال (خير معايش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله ويطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه إليها يبتغي الموت أو القتل مظانه ورجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعاف أو بطن واد من هذه الأودية يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إلا في خير)( ).
وعنه أيضا أن رجلا أتى النبي فقال أي الناس أفضل فقال (رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه) قال ثم من؟ قال (مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ربه ويدع الناس من شره)( ).
الجهاد سبب في دخول الجنة ورفعة الدرجات فيها.
قال تعالى (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما)( )
وعن أبي هريرة عن النبي قـال: (انتدب الله لمن خرج في سبيله ـ لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي ـ أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل)( ).
وعنه أيضا قال سمعت النبي يقول (والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل)
وفي رواية أخرى عنه أيضا (لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سرية ولكن لا أجد حمولة ولا أجد ما أحملهم عليه ويشق علي أن يتخلفوا عني ولوددت أني قاتلت في سبيل الله فقتلت ثم أحييت ثم قتلت ثم أحييت)
وعن أبي هريرة أيضا قال: قال رسول الله : (من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة جاهد ـ وفي لفظ هاجر ـ في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها) فقالوا يا رسول الله أفلا نبشر الناس؟ قال: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة أراه فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة)( ).
قال ابن حجر: قوله (أو جلس في أرضه) فيه تأنيس لمن حرم الجهاد وأنه ليس محروما من الأجر، بل له من الإيمان والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة وإن قصر عن درجة المجاهدين…إلى أن قال: وفيه تعقيب على قول بعض شراح المصابيح: سوى النبي بين الجهاد في سبيل الله وبين عدمه وهو الجلوس في الأرض التي ولد المرء فيها ووجه التعقيب أن التسوية ليست على عمومها وإنما هي في أصل دخول الجنة لا في تفاوت الدرجات والله أعلم.اهـ( )
وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما أن رسول الله في بعض أيامه التي لقي فيها انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس خطيبا قال: (أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ثم قال اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم)( ).
قال الشوكاني رحمه الله: قوله (تحت ظلال السيوف) الظلال جمع ظل، وإذا تدانى الخصمان صار كل واحد منهما تحت ظل سيف صاحبه لحرصه على رفعه عليه، ولا يكون ذلك إلا عند التحام القتال، قال القرطبي: وهو من الكلام النفيس الجامع الموجز المشتمل على ضروب من البلاغة مع الوجازة وعذوبة اللفظ، فإنه أفاد الحض على الجهاد، والإخبار بالثواب عليه، والحض على مقاربة العدو، واستعمال السيوف، والاجتماع حين الزحف حتى تصير السيوف تظل المتقاتلين، وقال ابن الجوزي: المراد أن الجنة تحصل بالجهاد. اهـ( )
وعن سبرة بن أبي فاكه قال سمعت رسول الله يقول (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال تهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد، فقال رسول الله : فمن فعل ذلك كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة)( ).
أقل الجهاد خير من الدنيا وما فيها
فعن سهل بن سعد عن النبي قال: (الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها)( )
وعن أنس بن مالك عن النبي قال (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) ، وفي رواية سهل بن سعد (أفضل من الدنيا وما فيها)
وعن أبي هريرة عن النبي قال (لقاب قوس في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب وقال لغدوة أو روحة في سبيل الله خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب).
قال ابن حجر رحمه الله: والحاصل أن المراد تسهيل أمر الدنيا، وتعظيم أمر الجهاد، وأن من حصل له من الجنة قدر سوط يصير كأنه حصل له أمر أعظم من جميع ما في الدنيا، فكيف بمن حصل منها أعلى الدرجات، والنكتة في ذلك أن سبب التأخير عن الجهاد الميل إلى سبب من أسباب الدنيا، فنبه هذا المتأخر أن هذا القدر اليسير من الجنة أفضل من جميع ما في الدنيا. اهـ( )
قال الشوكاني رحمه الله: قوله (خير من الدنيا وما فيها) قال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون من باب تنزيل الغائب منزلة المحسوس تحقيقا له في النفس، لكون الدنيا محسوسة في النفس مستعظمة في الطباع، ولذلك وقعت المفاضلة بها، وإلا فمن المعلوم أن جميع ما في الدنيا لا يساوي ذرة مما في الجنة، والثاني: أن المراد أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في طاعة الله تعالى، ويؤيد هذا الثاني ما رواه ابن المبارك في كتاب الجهاد من مرسل الحسن قال: بعث رسول الله جيشا فيهم عبد الله بن رواحة فتأخر ليشهد الصلاة مع النبي فقال له النبي (والذي نفسي بيده لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم).
والحاصل أن المراد تسهيل أمر الدنيا وتعظيم أمر الجهاد وأن من حصل له من الجنة قدر سوط يصير كأنه حصل له أعظم من جميع ما في الدنيا فكيف لمن حصل منها أعلى الدرجات والنكتة في ذلك أن سبب التأخير عن الجهاد الميل إلى سبب الدنيا. اهـ( )
قلت: فانظر إلى هذا الفضل العظيم والأجر العميم لهذه العبادة العظيمة ـ عبادة الجهاد في سبيل الله ـ، فإذا كانت غدوة أو روحة واحدة خير مما في الدنيا كلها بما في ذلك من النفقة والعمل الصالح، أو أن أجر هذه الغدوة أو الروحة خير مما في الدنيا من المتاع والنعيم ـ لو استطاع الإنسان أن يحصله كله ـ، فإذا كان لغدوة أو روحة واحدة هذه المنزلة فكيف بمن أنفق أكثر عمره أو كله وشغله بهذه العبادة وما يخدمها، فحري بالهمم العالية أن لا تزهد في هذا الفضل والخير.
الجهاد مقرون بخيري الدنيا والآخرة (الأجر والمغنم)
فعن عروة البارقي أن النبي قال: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم )
فقد قرن النبي بين عدة المجاهد ـ ومنها الخيل ـ وبين الخير الدائم الذي لا ينقطع ـ الأجر والمغنم ـ، وأخبر أن أحوال المجاهد كلها خير له فهو بين أن يحصل أجرا أو غنيمة أو كلاهما، ولذلك حرص راوي الحديث على ربط الخيل لما فهمه من معنى الحديث فكان له سبعون فرسا كما في الصحيح ربطها في سبيل الله تعالى احتسابا للأجر من الله تعالى.
قال ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث: قوله (الخيل) المراد بها ما يتخذ للغزو بأن يقاتل عليه أو يرتبط لأجل ذلك، وقد روى أحمد من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعا (الخيل في نواصيها الخير معقود إلى يوم القيامة، فمن ربطها عدة في سبيل الله وأنفق عليه احتسابا كان شبعها وجوعها وريها وظمؤها وأرواثها وأبوالها فلاحا في موازينه يوم القيامة) الحديث...إلى أن قال:
قال عياض: في هذا الحديث مع وجيز لفظه من البلاغة والعذوبة ما لا مزيد عليه في الحسن مع الجناس السهل الذي بين الخيل والخير، قال الخطابي: وفيه إشارة إلى أن المال الذي يكتسب باتخاذ الخيل من خير وجوه الأموال وأطيبها، والعرب تسمي المال خيرا، وقال ابن عبد البر: فيه إشارة إلى تفضيل الخيل على غيرها من الدواب، لأنه لم يأت عنه في شيء غيرها مثل هذا القول وفي النسائي عن أنس بن مالك : لم يكن شيء أحب إلى رسول الله من الخيل.اهـ( )
وعن أبي هريرة عن النبي قال (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع)( )
وعن عبادة بن الصامت مرفوعا (جاهدوا في سبيل الله فإن الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة ينجي الله به من الهم والغم)( ).
تحرم النار على من جرح أو اغبرت قدماه في الجهاد ويكون دمه وغباره مسكا يوم القيامة.
فعن عباية بن رفاعة قال: أدركني أبو عبس ـ وهو عبد الرحمن بن جبر ـ وأنا أذهب إلى الجمعة فقال: سمعت النبي يقول (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) وعنه أيضا مرفوعا (ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار)، وفي رواية أخرى عن مالك بن عبد الخثعمي مرفوعا (من اغبرت قدماه في سبيل الله ساعة من نهار فهما حرام على النار)( )
وعن أبي الدرداء مرفوعا (من اغبرت قدماه في سبيل الله باعد الله منه النار مسيرة ألف عام للراكب المستعجل)( )
قال ابن حجر رحمه الله: المتبادر عند الإطلاق من لفظ (في سبيل الله) الجهاد…إلى أن قال: وقال ابن المنير: دل الحديث على أن من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار سواء باشر قتالا أم لا.انتهى، وقوله (فتمسه النار) والمعنى: إن المس ينتفي بوجود الغبار المذكور، وفي ذلك إشارة إلى عظيم قدر التصرف في سبيل الله، فإذا كان مجرد مس الغبار للقدم يحرم النار فكيف بمن سعى وبذل جهده واستنفذ وسعه. اهـ( )
قال الشوكاني رحمه الله: قوله (من اغبرت قدماه) زاد أحمد من حديث أبي هريرة (ساعة من نهار)، وفيه دليل على عظم قدر الجهاد في سبيل الله، فإن مجرد مس الغبار للقدم إذا كان من موجبات السلامة من النار، فكيف بمن سعى وبذل جهده واستفرغ وسعه. اهـ( )
وعن أنس مرفوعا (من راح روحة في سبيل الله كان له بمثل ما أصابه من الغبار مسكا يوم القيامة)( ).
وعنه أن رسول الله قال (لا يبكي أحد من خشية الله فتطعمه النار حتى يرد اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم أبدا)( ).
وعنه أيضا أن رسول الله قال (لا يجتمعان في النار مسلم قتل كافرا ثم سدد وقارب ولا يجتمعان في جوف مؤمن غبار في سبيل الله وفيح جهنم ولا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد)( ).
وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: (والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك)( )
قال ابن حجر رحمه الله: قال العلماء الحكمة في بعثه كذلك أن يكون معه شاهد بفضيلته ببذله نفسه في طاعة الله تعالى. اهـ( )
وعنه أيضا عن رسول الله (كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله ثم تكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت تفجر دما اللون لون دم والعرف عرف المسك)( )
وعن معاذ بن جبل أن النبي قال: (من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة ومن جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها الزعفران وريحها المسك)( )
قال الشوكاني رحمه الله: وقوله (من جرح جرحا) ظاهر هذا أنه لا يختص بالشهيد الذي يموت من تلك الجراحة بل هو حاصل لكل من جرح، ويحتمل أن يكون المراد بهذا الجرح هو ما يموت صاحبه بسببه قبل اندماله لا ما يندمل في الدنيا، فإن أثر الجراحة وسيلان الدم يزول، ولا ينفي ذلك كونه له فضل في الجملة، قال في الفتح: قال العلماء: الحكمة في بعثه كذلك أن يكون معه شاهد فضيلته ببذل نفسه في طاعة الله.اهـ( )
يقضي الله عن المجاهد دينه إذا استدان للجهاد.
فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: (ثلاثة حق على الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله)( )
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (إن الدين يقضى من صاحبه يوم القيامة إذا مات إلا من يدين في ثلاث خلال: الرجل تضعف قوته في سبيل الله فيستدين يتقوى به لعدو الله وعدوه، ورجل يموت عنده مسلم لا يجد ما يكفنه ويواريه إلا بدين، ورجل خاف الله على نفسه العزبة فينكح خشية على دينه، فإن الله يقضي عن هؤلاء يوم القيامة)( )
يدفع الله بالجهاد الهم والغم والحزن وجوى القلب.
قال تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم)( )
وفي هذه الآية يأمر الله تعالى عباده المؤمنين ويحثهم على قتال أهل الكفر وأئمتة المحاربين لله تعالى ولرسوله والناكثين عهودهم وأن يثخنوا فيهم عقوبة لهم على عنادهم وكفرهم وتركهم الاستسلام لله تعالى، وليذهب الله تعالى ما قلوب المؤمنين من غيظ عليهم حيث أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وأوطانهم لا لشيء إلا لأنهم يقولوا ربنا الله، فجعل الله تعالى شفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم في إذلال أهل الكفر وخزيهم وقهرهم.
وفي هذه الآية دليل واضح على أن كل عمل يذهب غيظ المؤمنين وحنقهم على أهل الكفر ويشف صدورهم فهو مطلوب شرعا، وذلك مثل اغتيال أئمة الكفر ومن له اليد الطولى في حرب المسلمين وأذايتهم والذين يذيقون أهل الإسلام العذاب ألوانا، فإن قتل هؤلاء مذهب لغيظ قلوب من ظلموهم من أهل الإسلام ومشف لصدروهم مما فيها من الوجد عليهم.
قال ابن جرير رحمه الله في تفسير الآية: قوله تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) يقول تعالى ذكره: قاتلوا أيها المؤمنون بالله ورسوله هؤلاء المشركين الذين نكثوا أيمانهم ونقضوا عهودهم بينكم وبينهم وأخرجوا رسول الله من بين أظهرهم، (يعذبهم الله بأيديكم) يقول يقتلهم الله بأيديكم، (ويخزهم) يقول: ويذلهم بالأسر والقهر، (وينصركم عليهم) فيعطيكم الظفر عليهم والغلبة، (ويشف صدور قوم مؤمنين) يقول: ويبرئ داء صدور قوم مؤمنين بالله ورسوله بقتل هؤلاء المشركين بأيديكم وإذلالكم وقهركم إياهم، وذلك الداء هو ما كان في قلوبهم عليهم من الموجدة بما كانوا ينالونهم به من الأذى والمكروه...إلى أن قال رحمه الله:
قوله تعالى (ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم) يقول الله تعالى ذكره ويذهب وجد قلوب هؤلاء القوم المؤمنين على هؤلاء القوم الذين نكثوا أيمانهم من المشركين وغمها وكربها بما فيها من الوجد عليهم…إلى آخر قوله رحمه الله. اهـ( )
وقال الشوكاني رحمه الله: ثم زاد في تأكيد الأمر بالقتال فقال: (قاتلوهم) ورتب على هذا الأمر فوائد الأولى: تعذيب الله للكفار بأيدي المؤمنين بالقتل والأسر، والثانية: إخزاؤهم قيل بالأسر وقيل بما نزل بهم من الذل والهوان، والثالثة: نصر المسلمين عليهم وغلبتهم لهم، والرابعة: أن الله يشفى بالقتال صدور قوم مؤمنين ممن لم يشهد القتال ولا حضره، والخامسة: أنه سبحانه يذهب بالقتال غيظ قلوب المؤمنين الذي نالهم بسبب ما وقع من الكفار من الأمور الجالبة للغيظ وحرج الصدر…إلى أن قال رحمه الله:
وقيل إن شفاء الصدور إشارة إلى الوعد بالفتح، ولا ريب أن الانتظار لنجاز الوعد مع الثقة به فيهما شفاء للصدر وأن إذهاب غيظ القلوب إشارة إلى وقوع الفتح، وقد وقعت للمؤمنين ولله الحمد هذه الأمور كلها. اهـ( )
وقال ابن القيم رحمه الله: وأما تأثير الجهاد في دفع الهم والغم فأمر معلوم بالوجدان، فإن النفس متى تركت صائل الباطل وصولته واستيلاءه اشتد همها وغمها وكربها وخوفها، فإذا جاهدته لله أبدل الله ذلك الهم والحزن فرحا ونشاطا وقوة كما قال تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم) فلا شيء أذهب لجوى القلب وغمه وهمه وحزنه من الجهاد. اهـ( )
وفي استحباب مغايظة الكفار عموما قال ابن القيم رحمه الله في فوائد صلح الحديبية: ومنها استحباب مغايظة أعداء الله، فإن النبي أهدى في جملة هديه جملا لأبي جهل في أنفه برة من فضة يغيظ به المشركين، وقد قال تعالى في صفة النبي وأصحابه (ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآرزه فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار)( )، وقال عز وجل (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين)( )
وفي كلام جامع في فضائل الجهاد وما تحويه هذه الفريضة من أنواع العبادات قال ابن تيمية رحمه الله: ولهذا كان الجهاد سنام العمل وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة، ففيه سنام المحبة كما في قوله (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم)( ).
وفيه سنام التوكل وسنام الصبر فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل ولهذا قال تعالى (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون)( )، وقال موسى لقومه (استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)( )، ولهذا كان الصبر واليقين اللذين هما أصل التوكل يوجبان الإمامة في الدين كما دل عليه قوله تعالى (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)( ).
ولهذا كان الجهاد موجبا للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم كما دل عليه قوله تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)( ) فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى، ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم لأن الله يقول (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).
وفى الجهاد أيضا حقيقة الزهد في الحياة الدنيا وفى الدار الدنيا،وفيه أيضا حقيقة الإخلاص، فإن الكلام فيمن جاهد في سبيل الله لا في سبيل الرياسة ولا في سبيل المال ولا في سبيل الحمية، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله ولتكون كلمة الله هي العليا.
وأعظم مراتب الإخلاص تسليم النفس والمال للمعبود كما قال تعالى (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون)( )، والجنة اسم للدار التي حوت كل نعيم أعلاه النظر إلى الله إلى ما دون ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما قد نعرفه وقد لا نعرفه كما قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله : (أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر). اهـ( )
فائدتان
1ـ هل الغزو في البحر أفضل من غزو البر؟
قال ابن قدامة رحمه الله: إن الغزو في البحر مشروع وفضله كثير قال أنس بن مالك نام رسول الله ثم استيقظ وهو يضحك، قالت أم حرام فقلت: ما يضحكك يا رسول الله، قال : (ناس من أمتي عُرِضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة) أو (مثل الملوك على الأسرة) متفق عليه، قال ابن عبد البر: أم حرام بنت ملحان أخت أم سليم خالة رسول الله من الرضاعة، أرضعته أخت لهما ثالثة، ولم نر هذا عن أحد سواه، وأظنه إنما قال هذا لأن النبي كان ينام في بيتها وينظر إلى شعرها، ولعل هذا كان قبل نزول الحجاب.
وروى أبو داود بإسناده عن أم حرام عن النبي أنه قال: (المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد والغريق له أجر شهيدين)( )، وروى ابن ماجة قال سمعت رسول الله يقول: (شهيد البحر مثل شهيدي البر، والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله، وإن الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم، ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين، ويغفر لشهيد البحر الذنوب كلها والدين)( )، ولأن البحر أعظم خطرا ومشقة فإنه بين العدو وخطر الغرق ولا يتمكن من الفرار إلا مع أصحابه فكان أفضل من غيره. اهـ( )
هل يفضل قتال أهل الكتاب عن قتال غيرهم؟
كان ابن المبارك يأتي من مرو لغزو الروم، فقيل له في ذلك، فقال: إن هؤلاء يقاتلون على دين، وقد روي عن النبي أنه قال لأم خلاد (إن ابنك له أجر شهيدين)، قالت: ولم ذاك يا رسول الله، قال: (لأنه قتله أهل الكتاب) رواه أبو داود( ). اهـ
فضل الرباط في سبيل الله
*******
من المعلوم أن المقام في ثغور المسلمين بنية إعزاز الدين ودفع شر وأذى الكافرين هو من جنس الجهاد في سبيل الله تعالى، وفضله عظيم وأجره كبير، وقد ورد في الأدلة وأقوال أهل العلم ما يبين الفضل العظيم لمن يقيم في المكان الذي يخيفه العدو فيه ويخيف فيه العدو بنية دفعه إذا أراد أهل الإسلام بسوء، وأن المقام في مثل هذا المكان خير من الإقامة في مكة عند الحجر الأسود للصلاة والذكر والدعاء، وأن من رابط ليلة في ثغر مخوف بنية خالصة خير من صيام شهر وقيامه.
فعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله قال: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها)( ).
قال السرخسي رحمه الله في شرح السير: والمرابطة المذكورة في الحديث عبارة عن المقام في ثغر الأعداء لإعزاز الدين ودفع شر الكافرين. اهـ( )
وقال ابن قدامة رحمه الله: معنى المرابط: الإقامة بالثغر مقويا للمسلمين على الكفار، والثغر: كل مكان يخيف أهله العدو ويخيفهم، وأصل الرباط من رباط الخيل، لأن هؤلاء يربطون خيولهم وهؤلاء يربطون خيولهم كل يعد لصاحبه، فسمي المقام بالثغر رباطا وإن لم يكن فيه خيل…إلى أن قال:
وأفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفا، لأنهم أحوج ومقامه به أنفع، قال أحمد: أفضل الرباط أشدهم كَلَبا، وقيل لأحمد: فأين أحب إليك أن ينزل الرجل بأهله؟ قال: كل مدينة معقل للمسلمين مثل دمشق. اهـ( )
وقال ابن حجر رحمه الله في شرح البخاري: قوله: باب فضل رباط يوم في سبيل الله، وقول الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا)( )الآية، الرِّباط ـ بكسر الراء وبالموحدة الخفيفة ـ ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم، قال ابن التين: بشرط أن لا يكون الوطن قاله بن حبيب عن مالك، قلت: وفيه نظر في إطلاقه فقد يكون وطنه وينوي بالإقامة فيه دفع العدو، ومن ثَمَّ أختار كثير من السلف سكنى الثغور، فبين المرابطة والحراسة عموم وخصوص وجهي.
واستدلال المصنف بالآية اختيار لأشهر التفاسير، فعن الحسن البصري وقتادة: اصبروا على طاعة الله وصابروا أعداء الله في الجهاد ورابطوا في سبيل الله، وعن محمد بن كعب القرظي: اصبروا على الطاعة وصابروا لانتظار الوعد ورابطوا العدو واتقوا الله فيما بينكم، وعن زيد بن أسلم: اصبروا على الجهاد وصابروا العدو ورابطوا الخيل.
قال ابن قتيبة: أصل الرباط أن يربط هؤلاء خيلهم وهؤلاء خيلهم استعدادا للقتال، قال الله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل)( )، وأخرج ذلك بن أبي حاتم وابن جرير وغيرهما، وتفسيره برباط الخيل يرجع إلى الأول، وفي الموطأ عن أبي هريرة مرفوعا (وانتظار الصلاة فذلكم الرباط) وهو في السنن عن أبي سعيد( )، وفي المستدرك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن الآية نزلت في ذلك، واحتج بأنه لم يكن في زمن رسول الله غزو فيه رباط. انتهى، وحمل الآية على الأول أظهر وما احتج به أبو سلمة لا حجة فيه ولا سيما مع ثبوت حديث الباب، فعلى تقدير تسليم أنه لم يكن في عهد رسول الله رباط فلا يمنع ذلك من الأمر به والترغيب فيه، ويحتمل أن يكون المراد كلا من الأمرين أو ما هو أعم من ذلك. اهـ( )
وقال القرطبي رحمه الله: المرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة، وأما سكان الثغور دائما بأهليهم الذين يعمرون ويكتسبون هنالك فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين، قاله ابن عطية، وقال ابن خويزمنداد: وللرباط حالتان حالة يكون الثغر مأمونا منيعا يجوز سكناه بالأهل والولد، وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إذا كان من أهل القتال، ولا ينقل إليه الأهل والولد لئلا يظهر العدو قيسبي ويسترق والله أعلم. اهـ( )
وعن سلمان قال سمعت رسول الله يقول (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان)( ).
وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله يقول: (كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، يجري عليه عمله حتى يبعث ويؤمن من الفتان)( ).
قال الشوكاني رحمه الله: قوله: (أمن الفَتـَّان) بفتح الفاء وتشديد التاء الفوقية، قال في القاموس: الفتان اللص والشيطان كالفاتن والصانع والفتانان الدرهم والدينار ومنكر ونكير، قال في النهاية: وبالفتح هو الشيطان لأنه يفتن الناس عن الدين انتهى، والمراد هاهنا الشيطان أو منكر ونكير. اهـ( )
وقال ابن عابدين رحمه الله: قوله (وأمن الفتان) ضبط أمن بفتح الهمزة وكسر الميم بلا واو أي فتان القبر وفي رواية أبي داود في سننه (وأمن من فتان القبر) وبضمها جمع فاتن، قال القرطبي: وتكون للجنس أي كل ذي فتنة، قلت: أو المراد فتان القبر من إطلاق صفة الجمع على اثنين أو على أنهم أكثر من اثنين، فقد ورد أن فتان القبر ثلاثة أو أربعة، وقد استدل بهذا الحديث على أن المرابط لا يسأل في قبره كالشهيد. اهـ( )
قال القرطبي رحمه الله بعد ذكره لحديثي سلمان وفضالة رضي الله عنهما: وفي هذين الحديثين دليل على أن الرباط أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت، كما جاء في حديث العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي أنه قال (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) وهو حديث صحيح انفرد بإخراجه مسلم، فإن الصدقة الجارية والعلم المنتفع به والولد الصالح الذي يدعو لأبويه ينقطع ذلك بنفاذ الصدقات وذهاب العلم وموت الولد، والرباط يضاعف أجره إلى يوم القيامة، لأنه لا معنى للنماء إلا المضاعفة وهي غير موقوفة على سبب فتنقطع بانقطاعه، بل هي فضل دائم من الله تعالى إلى يوم القيامة، وهذا لأن أعمال البر كلها لا يُتَمَكَّنُ منها إلا بالسلامة من العدو والتحرز منه بحراسة بيضة الدين وإقامة شعائر الإسلام. اهـ(
وعن محمد بن المنكدر قال: مر سلمان الفارسي بشرحبيل بن السمط وهو في مرابط له وقد شق عليه وعلى أصحابه، قال: ألا أحدثك يا ابن السمط بحديث سمعته من رسول الله ، قال: بلى، قال: سمعت رسول الله يقول: (رباط يوم في سبيل الله أفضل ـ وربما قال خير ـ من صيام شهر وقيامه، ومن مات فيه وُقِيَ فتنة القبر ونُمِّي له عمله إلى يوم القيامة)( )، ولهذا قال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود.( )
وعن فضالة بن عبيد قال: سمعت رسول الله يقول: (كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر)( )
وعن أبي هريرة عن رسول الله أنه قال: (من مات مرابطاً في سبيل الله أجري عليه عمله الصالح الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه و أمن من الفتان، وبعثه الله يوم القيامة آمناً من الفزع)( )
فضل الحراسة
*****
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله يقول: (عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله)، وعن أبي ريحانة يقول سمعت رسول الله يقول (حرمت عين على النار سهرت في سبيل الله)( )
وعن عثمان بن عفان قال سمعت رسول الله يقول: (حَرْسُ ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة بقيام ليلها وصيام نهارها)( )
قال الشوكاني رحمه الله: قوله (حَرْسُ) هو مصدر حَرَسَ والمراد هنا حراسة الجيش يتولاها واحد منهم فيكون له ذلك الأجر لما في ذلك من العناية بشأن المجاهدين والتعب في مصالح الدين، ولذلك قال في الحديث الآخر (عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله).اهـ( )
وعن معاذ بن أنس أن رسول الله قال: (من حرس من وراء المسلمين متطوعا لا بأجرة سلطان لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم فإن الله يقول (وإن منكم إلا واردها)( )
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)( )
وعن أم الدرداء رضي الله عنها مرفوعا أن رسول الله قال: (من رابط في شيء من سواحل المسلمين ثلاثة أيام أجزأت عنه رباط سنة)( )
وقال ابن قدامة رحمه الله: فصل: وفي الحرس في سبيل الله فضل كبير قال ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت رسول الله يقول: (عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله)، وقال النبي : (رحم الله حارس الحرس)( )، وعن سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله يوم حنين فأطنبوا السير حتى كان عشية، قال: (من يحرسنا الليلة) قال أنس بن أبي مرثد الغنوي : أنا يا رسول الله، قال: (فاركب)، فركب فرسا له، وجاء إلى رسول الله فقال له: (استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نفرق من قبلك الليلة) فلما أصبحنا جاء رسول الله إلى مصلاه فركع ركعتين، ثم قال: (هل أحسستم فارسكم الليلة)، قالوا: لا، فثوب بالصلاة، فجعل رسول الله يصلي وهو يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى رسول الله صلاته وسلم، قال: (أبشروا قد جاءكم فارسكم)، فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله ، فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا، فقال له رسول الله : (هل نزلت الليلة) قال: لا إلا مصليا أو قاضيا حاجة، فقال له رسول الله : (قد أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها)( )،وعن عثمان قال سمعت رسول الله يقول: (حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة قيام ليلها وصيام نهارها. اهـ( )
B
تعليق