هداية الحيارى
في
جواز قتل الأسارى
بقلم الشيخ يوسف بن صالح العييري رحمه الله
تمهيد
مع كثرة الملبسين والدعاة على أبواب جهنم من علماء السوء وأحبار الضلال ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ، الذين غضبوا غضباً شديداً لأسر المهندس الأمريكي الذي يعمل في تطوير نظم طائرات الأباتشي بالرياض وزعموا أنَّ هذا ليس من الإسلام في شيء وأن على الخاطفين أن يقرأوا سيرة النبي وغير ذلك من الترهات التي أطلقوها ليعلنوا ولاءهم للعدو ، وبراءتهم من المجاهدين كي لا يمسهم سوء من أسيادهم..
فدلالةً للأمة على الحق بأدلته الشرعية من الكتاب والسنّة نعيد نشر هذه الرسالة القصيرة التي كتبها الشيخ يوسف العييري رحمه الله بعد أن قتل المجاهدون في الشيشان تسعة أسرى من جنود الروس بين فيها الأحكام الشرعية المتعلقة بهذا الموضوع ، ليسد الباب على أعداء الجهاد والمجاهدين ممن يلبسون على هذه الأمة أمر دينها..
وستجد أخي القارئ الكريم في هذه الرسالة بغيتك ومقصدك مما تستنير به في طريقك ، وتتفقه به في دينك ، وتذبُّ به عن أعراض إخوانك ، ليحيا من حيَّ عن بيِّنة ، ويهلك من هلك عن بيِّنة ..
مركز الدراسات والبحوث الإسلامية
الفهرس
الفهرس 4
المقدمة 5
المبحث الأول : 6
المسألة الأولى : في بيان جواز قتل الأسير والرد على من أنكر علينا بقول الله تعالى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء وبقوله تعالى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى . 6
المسألة الثانية : جواز فداء المسلمين بمن عندنا من أسرى الكافرين 14
المسألة الثالثة : في جواز مبادلة جيف الكافرين بأسرى المسلمين أو بجثثهم 14
المسألة الثالثة : في جواز مبادلة جيف الكافرين بأسرى المسلمين أو بجثثهم 15
المسألة الرابعة : في جواز نقل جثث أو رؤوس الكافرين 19
المسألة الرابعة : في جواز نقل جثث أو رؤوس الكافرين 20
المبحث الثاني : 22
الرد على من احتج علينا وقال إنه يجب علينا أن نلتزم بما تعهدنا به من المواثيق الدولية 22
واحترام حقوق الإنسان . 22
أولاً : 22
ثانياً : 22
ثالثاً : 23
رابعاً : 23
خامساً : 26
سادساً : 26
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله المبعوث رحمة للعالمين وعلى أصحابه وآله ومن اتبعه إلى يوم الدين :
لقد نفذنا ولله الحمد ما تعهدنا به من إعدام الأسرى التسعة إذا لم تستجب الحكومة الروسية لمطلبنا وهو تسليم أحد المجرمين المغتصبين لديها ، ولكن الذي حزنا له ليس لأنهم لم يسلّموا المجرم لنعدمه ، إنما الذي أدمى قلوبنا عندما وصلتنا رسائل من بعض المسلمين تستنكر ما قمنا به ، وتغلظ علينا القول في ذلك ، ويحتجون لنا بآية انتزعوها من كتاب الله وهم لا يعلمون معناها وهي قول الله فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء وقول الله تعالى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ، وبعضهم احتج علينا بأنه يجب علينا أن نلتزم بالمواثيق والعهود الدولية التي تحرم قتل الأسير ، ووجوب مراعاة حقوق الإنسان ، إلى غير ذلك مما ورد علينا .
ونكتب هذا الإيضاح لنبين فيه مستندنا الشرعي الذي استجزنا به ما فعلناه تجاه هؤلاء الأسرى ، ونسأل الله أن نكون ممن اجتهد فأصاب ، ولطول ما سنعرضه فقد قسمنا الإيضاح إلى مبحثين: الأول: رد قول من قال يحرم قتل الأسير لقول الله فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء ، والمبحث الثاني: رد قول من قال إنه يجب علينا أن نلتزم بالمواثيق والعهود الدولية التي تحرم قتل الأسير وأنه يجب علينا أن نحترم حقوق الإنسان .
المبحث الأول :
وفيه أربع مسائل
المسألة الأولى : في بيان جواز قتل الأسير والرد على من أنكر علينا بقول الله تعالى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء وبقوله تعالى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى .
إن الأسير في الإسلام قد حظي بتشريع متكامل يحفظ له حقوقه ويردعه أيضاً عن انتهاك حقوق الناس ، وقد كان فعل رسول الله مع الأسرى غاية في الحكمة ، فله معاملات مع الأسير تتغير بتغير الظروف وأشخاص الأسرى ، وبما أننا نؤثر الاختصار على الإطالة ، فلن نتطرق إلى أحكام الأسير بشكل كامل ، بل إننا سوف نتناول في هذه المسألة ما نحتاجه لبيان الوجه الشرعي من فعلنا في قتل الأسرى ولا سيما التسعة الأخيرين ، فنقول وبالله التوفيق والسداد .
للعلماء في الأسير أقوال خمسة هي :
القوال الأول : قول من قال أن الأسير المشرك يقتل بكل حال ولا يجوز أن يفادى ولا يمنُّ عليه ، والناسخ لجواز المن أو الفداء في قوله تعالى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء وهو قوله تعالى مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ وقوله تعالى فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وقوله فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ ، وقالوا إن هذه الآيات وخاصة ما جاء في برآءة ناسخة لما قبلها ، وهذا قول حكي عن قتادة والضحاك والسدي وابن جريج والعوفي عن ابن عباس وكثير من الكوفيين ، وقال عبد الكريم الجزري كتب إلى أبي بكر في أسير أسر ، فذكروا أنهم التمسوا بفدائه كذا وكذا ، فقال اقتلوه ، لقتل رجل من المشركين أحب إلي من كذا وكذا ، وهذا القول معارض لما جاء عن رسول الله وسوف نسوق ما يعارضه من الأدلة في القول الخامس .
القول الثاني : قول من قال إن جميع الكفار من مشركين وكتابيين لا يجوز فداؤهم ، أو المن عليهم بل يقتلون ، والآية المجيزة للمن والفداء بقوله فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء منسوخة في حق المشركين والكتابيين ، وهذا القول أعم من القول الأول ، وقالوا إن آية المن منسوخة على قول جماعة من العلماء وأهل النظر ، منهم قتادة ومجاهد ، قالوا إذا أسر المشرك لم يجز أن يمن عليه ولا أن يُفادى به فيرد إلى المشركين ، ولا يجوز أن يفادى عندهم إلا بالمرأة لأنها لا تقتل ، والناسخ لها فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ، فإذ كانت براءة آخر ما نزلت بالتوقيف فوجب أن يقتل كل مشرك ، إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ، ومن يؤخذ منه الجزية ، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة ، خيفة أن يعودوا حرباً للمسلمين ، ذكر عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء قال نسخها فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ وقال مجاهد نسخها فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وهو قول الحكم .
القول الثالث : قول من قال أن الأسير لا يجوز فيه إلا الفداء أو المن ، لقول الله تعالى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء ، فقالوا آخر ما نزل على رسول الله في شأن الأسرى تخييره فيهم بين المن والفداء ولا يجوز التعدي إلى غيرهما ، وقالوا إن الآية ناسخة لما سواها قاله الضحاك وغيره ، روى الثوري عن جويبر عن الضحاك فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ قال نسخها فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء وقال ابن المبارك عن ابن جريج عن عطاء فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء فلا يقتل المشرك ولكن يمن عليه ويفادى كما قال الله عز وجل ، قال أشعث كان الحسن يكره أن يقتل الأسير ويتلو فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء ، وقال الحسن أيضا في الآية تقديم وتأخير فكأنه قال فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها ، ثم قال حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق وزعم أنه ليس للإمام إذا حصل الأسير في يديه أن يقتله ولكنه بالخيار في ثلاثة منازل إما أن يمن أو يفادي أو يسترق ، وهذا القول مردود لفعل الرسول بخلاف هذه الآية بعد نزولها ، ولو سلمنا بقوة هذا القول فإنه ليس فيه حجة علينا ، لأن الحرب لم تضع أوزارها ، ولا زالت رحاها دائرة ، فلا حجة لأصحاب هذا القول علينا .
القول الرابع : قول من قال لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف لقوله تعالى مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره ، وهو قول سعيد بن جبير .
القول الخامس : قول من قال بأن الإمام أو من ينوب عنه مخير في الأسرى بين أربعة أمور إما القتل أو المن أو الفداء أو الاسترقاق ، وهذا هو قول مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء ، وهو القول الذي تنتظم فيه الأدلة ، ولا تتعارض مع بعضها ، ولا نحتاج للقول بالنسخ لإعمال كل الأدلة في هذا القول ، ولأنه هو القول الذي عملنا به ، لأنه أقوى الأقوال أدلة فسوف نبسط بعض أقوال العلماء فيه .
قال الإمام الطبري في تفسير قول الله تعالى : فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ: (القول في تأويل هذه الآية يقول تعالى فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله ورسوله من أهل الحرب فاضربوا رقابهم ، وقوله حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ يقول حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم فصاروا في أيديكم أسرى فَشُدُّوا الْوَثَاقَ يقول فشدوهم في الوثاق كيلا يقتلوكم فيهربوا منكم ، وقوله فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء يقول فإذا أسرتموهم بعد الإثخان فإما أن تمنوا عليهم بعد ذلك بإطلاقكم إياهم من الأسر ، وتحرروهم بغير عوض ولا فدية ، وإما أن يفادوكم فداء بأن يعطوكم من أنفسهم عوضا حتى تطلقوهم وتخلوا لهم السبيل) .
حتى قال (والصواب من القول عندنا في ذلك - أي في تفسير الآية - أن يكون جعل الخيار في المن والفداء والقتل إلى الرسول وإلى القائمين بعده بأمر الأمة ، وإن لم يكن القتل مذكوراً في هذه الآية لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى وذلك قوله فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ .. الآية ، بل ذلك كذلك لأن رسول الله كذلك كان يفعل فيمن صار أسيراً في يده من أهل الحرب ، فيقتل بعضا ويفادي ببعض ويمن على بعض ، مثل يوم بدر قتل عقبة بن أبي معيط وقد أتي به أسيراً ، وقتل بني قريظة وقد نزلوا على حكم سعد وصاروا في يده سلما وهو على فدائهم والمن عليهم قادر ، وفادى بجماعة أسارى المشركين الذين أسروا ببدر ، ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده ، ولم يزل ذلك ثابتا من سيره في أهل الحرب من لدن أذن الله له بحربهم إلى أن قبضه إليه دائما ذلك فيهم ، وإنما ذكر جل ثناؤه في هذه الآية المن والفداء في الأسارى فخص ذكرهما فيها لأن الأمر بقتلهما والإذن منه بذلك قد كان تقدم في سائر آي تنزيله مكرراً ، فأعلم نبيه بما ذكر في هذه الآية من المن والفداء ماله فيهم مع القتل) .
وقوله: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا يقول تعالى ذكره فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا رقابهم وافعلوا بأسراهم ما بينت لكم ، حتى تضع الحرب آثامها وأثقال أهلها المشركين بالله بأن يتوبوا إلى الله من شركهم فيؤمنوا به وبرسوله ويطيعوه في أمره ونهيه فذلك وضع الحرب أوزارها ، وقيل حتى تضع الحرب أوزارها والمعنى حتى تلقي الحرب أوزار أهلها ، وقيل معنى ذلك حتى يضع المحارب أوزاره) .
وقال الإمام القرطبي في تأويل هذه الآية فيها خمسة أقوال - ثم سردها ورجح الخامس - ، فقال: (إن الآية محكمة والإمام مخير في كل حال ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقاله كثير من العلماء منهم ابن عمر والحسن وعطاء وهو مذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبي عبيد وغيرهم وهو الاختيار ، لأن النبي والخلفاء الراشدين فعلوا كل ذلك ، قتل النبي عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث يوم بدر صبراً ، وفادى سائر أسارى بدر ، ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده ، وأخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها أناسا من المسلمين ، وهبط عليه قوم من أهل مكة فأخذهم النبي ومنَّ عليهم ، وقد منَّ على سبي هوازن وهذا كله ثابت في الصحيح وهذا القول يروى عن أهل المدينة والشافعي وأبي عبيد وحكاه الطحاوي مذهبا عن أبي حنيفة والمشهور عنه ما قدمناه وبالله عز وجل التوفيق) .
(وقيل معنى الأوزار السلاح فالمعنى شدوا الوثاق حتى تأمنوا وتضعوا السلاح وقيل معناه حتى تضع الحرب أي الأعداء المحاربون أوزارهم وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة ، ويقال للكراع أوزار قال الأعشى :
وأعددت للحرب أوزارها
ومن نسج داود يحدى بها
رماحا طوالا وخيلا ذكورا
على أثر الحي عيرا فعيرا
وقيل حتى تضع الحرب أوزارها أي أثقالها والوزر الثقل ، ومنه وزير الملك لأنه يتحمل عنه الأثقال وأثقالها السلاح لثقل حملها ، قال ابن العربي قال الحسن وعطاء في الآية تقديم وتأخير المعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) .
وقال : (فَضَرْبَ الرِّقَابِ ولم يقل فاقتلوهم لأن في العبارة بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل ، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه ، قوله تعالى: حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ أي أكثرتم القتل ، فَشُدُّوا الْوَثَاقَ والوثاق بكسر الواو لغة فيه وإنما أمر بشدة الوثاق لئلا يفلتوا ، فإما منّاً عليهم بالإطلاق من غير فدية ، وإما فداء ، ولم يذكر القتل ها هنا اكتفاء بما تقدم من القتل في صدر الكلام) أ.هـ مختصراً .
قال الجصاص في أحكام القرآن (5/268 - 270): (قال الله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ قال أبو بكر الجصاص قد اقتضى ظاهره وجوب القتل لا غير إلا بعد الإثخان وهو نظير قوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ و عن ابن عباس في قوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ قال ذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل فلما كثروا واشتد سلطانهم نزَّل الله تعالى بعد هذا في الأسارى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء ، فجعل الله النبي والمؤمنين في الأسارى بالخيار إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا استعبدوهم وإن شاءوا فادوهم - شك أبو عبيد في وإن شاءوا استعبدوهم - ، وقال قتل رسول الله عقبة بن أبي معيط يوم بدر صبرا ، قال أبو بكر اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير لا نعلم بينهم خلافاً فيه ، وقد تواترت الأخبار عن النبي في قتله الأسير ، منها قتله عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث بعد الأسر يوم بدر ، وقتل يوم أحد أبا عزة الشاعر بعد ما أسر ، وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم بالقتل وسبى الذرية ، ومن على الزبير بن باطا من بينهم ، وفتح خيبر بعضها صلحا وبعضها عنوة ، وشرط على ابن أبي الحقيق أن لا يكتم شيئا فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله ، وفتح مكة وأمر بقتل هلال بن خطل ومقيس بن حبابة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وآخرين ، وقال: "اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة" ، ومنَّ على أهل مكة ولم يغنم أموالهم ، وروي عن أبي بكر الصديق يقول وددت أني يوم أتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته وكنت قتلته سريحا أو أطلقته نجيحا ، وعن أبي موسى أنه قتل دهقان السوس بعد ما أعطاه الأمان على قوم سماهم ونسي نفسه فلم يدخلها في الأمان فقتله ، فهذه آثار متواترة عن النبي وعن الصحابة في جواز قتل الأسير وفي استبقائه ، واتفق فقهاء الأمصار على ذلك) أ.هـ بتصرف .
قال ابن كثير في تفسيره (4/174): (قال الشافعي رحمة الله عليه الإمام مخير بين قتله أو المن عليه أو مفاداته أو استرقاقه أيضاً ، وهذه المسألة محررة في علم الفروع وقد دللنا على ذلك في كتابنا الأحكام) .
قال ابن قدامة في المغني (9/179 - 180): (وإذا سبى الإمام فهو مخير إن رأى قتلهم ، وإن رأى من عليهم وأطلقهم بلا عوض ، وإن رأى أطلقهم على مال يأخذه منهم ، وإن رأى فادى بهم ، وإن رأى استرقهم ، أي ذلك رأى فيه نكاية للعدو وحظا للمسلمين فعل ، وجملته أن من أسر من أهل الحرب على ثلاثة أضرب: أحدها النساء والصبيان فلا يجوز قتلهم ويصيرون رقيقا للمسلمين بنفس السبي لأن النبي "نهى عن قتل النساء والولدان" متفق عليه ، وكان عليه السلام يسترقهم إذا سباهم ، الثاني الرجال من أهل الكتاب والمجوس الذين يقرون بالجزية ، فيخير الإمام فيهم بين أربعة أشياء القتل والمن بغير عوض والمفاداة بهم واسترقاقهم ، الثالث الرجال من عبدة الأوثان وغيرهم ممن لا يقر بالجزية فيتخير الإمام فيهم بين ثلاثة أشياء القتل أو المن والمفاداة ، ولا يجوز استرقاقهم وعن أحمد جواز استرقاقهم وهو مذهب الشافعي ، وبما ذكرنا في أهل الكتاب قال الأوزاعي والشافعي وأبو ثور ، وعن مالك كمذهبنا ، وعنه لا يجوز المن بغير عوض لأنه لا مصلحة فيه وإنما يجوز للإمام فعل ما فيه المصلحة . ولنا على جواز المن والفداء قول الله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء وأن النبي من على ثمامة بن أثال ، وأبي عزة الشاعر ، وأبي العاص بن الربيع ، وقال في أسارى بدر لو كان مطعم بن عدي حيا ثم سألني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له ، وفادى أسارى بدر وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا كل رجل منهم بأربعمائة ، وفادى يوم بدر رجلا برجلين وصاحب العضباء برجلين ، وأما القتل فلأن النبي قتل رجال بني قريظة وهم بين الستمائة والسبعمائة ، وقتل يوم بدر النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط صبرا ، وقتل أبا غزة يوم أحد ، وهذه قصص عمت واشتهرت وفعلها النبي مرات وهو دليل على جوازها ، ولأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى فإن منهم من له قوة ونكاية في المسلمين ، وبقاؤه ضرر عليهم فقتله أصلح ، ومنهم الضعيف الذي له مال كثير ، ففداؤه أصلح ، ومنهم حسن الرأي في المسلمين يرجى إسلامه بالمن عليه أو معونته للمسلمين بتخليص أسراهم والدفع عنهم فالمن عليه أصلح ، ومنهم من ينتفع بخدمته ويؤمن شره فاسترقاقه أصلح كالنساء والصبيان ، والإمام أعلم بالمصلحة فينبغي أن يفوض ذلك إليه وقوله تعالى: اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ عام لا ينسخ به الخاص بل ينزل على ما عدا المخصوص ، ولهذا لم يحرموا استرقاقه ، فأما عبدة الأوثان ففي استرقاقهم روايتان ، إحداهما لا يجوز وهو مذهب الشافعي ، وقال أبو حنيفة يجوز في العجم دون العرب بناء على قوله في أخذ الجزية ، ولنا إنه كافر لا يقر بالجزية فلم يقر بالاسترقاق كالمرتد وقد ذكرنا الدليل عليه ، إذا ثبت هذا فإن هذا تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة ، فمتى رأى المصلحة في خصلة من هذه الخصال تعينت عليه ولم يجز العدول عنها ، ومتى تردد فيها فالقتل أولى ، قال مجاهد في أمرين أحدهما يقتل الأسرى وهو أفضل وكذلك قال مالك وقال إسحاق الإثخان أحب إلي إلا أن يكون معروفا يطمع به في الكثير)أ.هـ .
ورجح قول الجمهور شيخ الإسلام ابن تيمية فقال في الفتاوى (34/116): (فإن الإمام إذا خير في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء ، فعليه أن يختار الأصلح للمسلمين فيكون مصيبا في اجتهاده حاكما بحكم الله ويكون له أجران ، وقد لا يصيبه فيثاب على استفراغ وسعه ولا يأثم بعجزه عن معرفة المصلحة) .
كما اختار شيخ الإسلام ابن القيم قول الجمهور فقال في زاد المعاد (3/109): (كان - أي رسول الله - يمن على بعضهم ويقتل بعضهم ، ويفادي بعضهم بالمال ، وبعضهم بأسرى المسلمين ، وقد فعل ذلك كله بحسب المصلحة) ثم ساق من الأدلة ما تقدم .
وقرر ذلك ابن حجر في الفتح (6/151 - 152): (قوله - أي قول ثمامة بن أثال للرسول عندما كان أسيراً - إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت ، فإن النبي أقره على ذلك ولم ينكر عليه التقسيم ، ثم من عليه بعد ذلك فكان في ذلك تقوية لقول الجمهور ، أن الأمر في أسرى الكفرة من الرجال إلى الإمام يفعل ما هو الأحظ للإسلام والمسلمين ، قال الطحاوي وظاهر الآية حجة للجمهور ، وكذا حديث أبي هريرة في قصة ثمامة ، لكن في قصة ثمامة ذكر القتل ، وقال أبو عبيد لا نسخ في شيء من هذه الآيات بل هي محكمة وذلك أنه عمل بما دلت عليه كلها في جميع أحكامه فقتل بعض الكفار يوم بدر وفدى بعضاً ومنَّ على بعض ، وكذا قتل بني قريظة ومنَّ على بني المصطلق وقتل ابن خطل وغيره بمكة ومَنَّ على سائرهم وسبى هوازن ومنَّ عليهم ومنَّ على ثمامة بن أثال فدلَّ كل ذلك على ترجيح قول الجمهور أن ذلك راجع إلى رأي الإمام ، ومحصل أحوالهم تخيير الإمام بعد الأسر بين ضرب الجزية لمن شرع أخذها منه ، أو القتل أو الاسترقاق أو المن بلا عوض أو بعوض هذا في الرجال ، وأما النساء والصبيان فيرقون بنفس الأسر ويجوز المفاداة بالأسيرة الكافرة بأسير مسلم أو مسلمة عند الكفار ولو أسلم الأسير زال القتل اتفاقا) أ.هـ بتصرف .
وقال السيوطي في الأشباه والنظائر (1/121): (تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة ، هذه القاعدة نص عليها الشافعي ، وقال منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم ، ومنها أنه إذا تخير في الأسرى بين القتل والرق والمن والفداء لم يكن له ذلك بالتشهي بل بالمصلحة حتى إذا لم يظهر وجه المصلحة يحبسهم إلى أن يظهر) أ.هـ بتصرف .
وقال الكاساني في بدائع الصنائع (7/119): (وأما الرقاب فالإمام فيها بين خيارات ثلاثة إن شاء قتل الأسارى منهم وهم الرجال المقاتلة وسبى النساء والذراري لقوله تبارك وتعالى: فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وهذا بعد الأخذ والأسر لأن الضرب فوق الأعناق هو الإبانة من المفصل ولا يقدر على ذلك حال القتال ويقدر عليه بعد الأخذ والأسر ، وروي أن رسول الله لما استشار الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم في أسارى بدر فأشار بعضهم إلى الفداء وأشار سيدنا عمر رضي الله عنه إلى القتل فقال رسول الله لو جاءت من السماء نار ما نجا إلا عمر أشار عليه الصلاة والسلام إلى أن الصواب كان هو القتل ، وكذا روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر بقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث يوم بدر وبقتل هلال بن خطل ومقيس بن صبابة يوم فتح مكة ولأن المصلحة قد تكون في القتل لما فيه من استئصالهم فكان للإمام ذلك) أ.هـ
قال الشوكاني في نيل الأوطار (8/145 - 147): (ومذهب الجمهور أن الأمر في الأسارى الكفرة من الرجال إلى الإمام يفعل ما هو الأحظ للإسلام والمسلمين ، قال الطحاوي وظاهر الآية يعني قوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حجة للجمهور ، والحاصل أن القرآن والسنة قاضيان بما ذهب إليه الجمهور ، فإنه قد وقع منه المن وأخذ الفداء كما في أحاديث الباب ، ووقع منه القتل فإنه قتل النضر بن الحرث وعقبة بن أبي معيط وغيرهما ، ووقع منه فداء رجلين من المسلمين برجل من المشركين كما في حديث عمران بن حصين ، قال الترمذي بعد أن ساق حديث عمران بن حصين المذكور والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي وغيرهم ، أن للإمام أن يمنَّ على من شاء من الأسارى ويقتل من شاء منهم ويفدي من شاء ، قال إسحاق بن منصور قلت لأحمد إذا أسر الأسير يقتل أو يفادى أحب إليك قال إن قدر أن يفادي فليس به بأس وإن قتل فما أعلم به بأسا).
وبنص الشوكاني قال المباركفوري في تحفة الأحوذي (5/158) .
وقال العظيم آبادي في عون المعبود (7/247 - 248): (باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام أمّن رسول الله الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة ، عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سعد بن أبي السرح) أ.هـ .
قال السرخسي في المبسوط (10/137 - 138): (قال وسألته - أي أبا حنيفة - عن الرجل يأسر الرجل من أهل العدو هل يقتله أو يأتي به الإمام؟ ، قال أي ذلك فعل فحسن ، لأن بالأسر ما تسقط الإباحة من دمه حتى يباح للإمام أن يقتله ، فكذلك يباح لمن أسره كما قبل أخذه ، ولما قتل أمية بن خلف بعدما أسر يوم بدر لم ينكر ذلك رسول الله على من قتله ، وإن أتى به الإمام فهو أقرب إلى تعظيم حرمة الإمام ، والأول أقرب إلى إظهار الشدة على المشركين وكسر شوكتهم فينبغي أن يختار من ذلك ما يعلمه أنفـع وأفضل للمسلمين) .
وبعد عرض بعض أقوال العلماء في ذلك يتبين للمستنكر أن قتلنا للأسرى لم يكن عن هوى في أنفسنا ، بل إننا رأينا المصلحة في قتلهم مقابل المطالبة برجل واحد ، ولو قال أحد لنا فما ذنب الأسرى التسعة إذا كان ذاك هو المجرم والله يقول وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ؟ نقول إن الأسير بوزره استحق القتل فإذا كان الله سبحانه وتعالى أجاز لنا أن نقتل الأسير فقط لأنه أسير ، أي لم تكن هناك مؤثرات أخرى ترجح قتله ، فكيف والحال هذه بعدما كان قتله بجريرة غيره أعظم مصلحة ، ونعاملهم بقول الله وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً فنعاقب بعضهم بجريرة بعضهم أردع لهم وأنكى ، وقد عامل الرسول رجلاً بجريرة قومه ، وقد روى ذلك الحديث مسلم عن عمران بن حصين قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله ، وأسر أصحاب رسول الله رجلا من بني عقيل ، وأصابوا معه العضباء فأتى عليه رسول الله وهو في الوثاق ، فقال يا محمد فأتاه فقال "ما شأنك" فقال بما أخذتني وأخذت سابقة الحاج يعني العضباء فقال "أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف" ، فلم يكن الرسول متجاوزاً بهذا الفعل فحال الحرب تقتضي مثل هذه الأفعال لضمان سلامة جند الإسلام ، بل إننا لا يمكن أن نحفظ أعراض المسلمين إلا بمثل هذه الأفعال ، ولنا مبررات أخرى قد لا تتبين لغيرنا أن في قتل الأسرى مصلحة راجحة متضحة لنا ، فإن مننا عليهم وقد فعلنا لبعضهم ، فهذا ما نراه يصلح لبعض الأشخاص ، وإن قتلنا فهي مصلحة تقتضي ذلك ، وإن فادينا فالفداء لبعضهم أصلح ، ولم نكن مقيدين بفعل واحد تجاه الأسرى ، بل إننا نتحرى الأصلح لحالنا وحال المسلمين في الأسرى ، ونعمل ما نراه أرجح من الأدلة لحال الأسير ، فَلِمَ تحمر أنوف بعض الناس قبل أن ينظروا في دليلنا واستدلالنا ؟ ، ونسأل الله أن نكون ممن عرف الحق وأحسن اتباعه .
المسألة الثانية : جواز فداء المسلمين بمن عندنا من أسرى الكافرين
قال الشوكاني في نيل الأوطار (8/146 - 147): (وقد ذهب إلى جواز فك الأسير من الكفار بالأسير من المسلمين جمهور أهل العلم ، لحديث عمران بن حصين المذكور ، وهو باب أن الأسير إذا أسلم لم يزل ملك المسلمين ، عن عمران بن حصين قال كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله وأسر أصحاب رسول الله رجلا من بني عقيل وأصابوا معه العضباء فأتى عليه رسول الله وهو في الوثاق فقال يا محمد فأتاه فقال: "ما شأنك" فقال بما أخذتني وأخذت سابقة الحاج يعني العضباء فقال: "أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف" ثم انصرف فناداه فقال يا محمد يا محمد فقال: "ما شأنك" قال إني مسلم قال: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" ثم انصرف عنه فناداه يا محمد يا محمد فأتاه فقال: "ما شأنك" فقال إني جائع فأطعمني وظمآن فاسقني قال هذه حاجتك ففدي بعد بالرجلين رواه أحمد ومسلم .
وبما أن الدليل واضح وهو نص صحيح صريح في المسألة فلن نزيد على ذلك ، ولكننا أحببنا أن نبين ذلك حتى لا يظن البعض أن مثل هذا الفعل هو ( ابتزاز ) غير مشروع ، بل إن الرسول فعل ذلك ، وأبقى الأسير عنده حتى بعدما أسلم لكي يفاديه بأسرى المسلمين ، وقد كان يحسن إليه ويطعمه ويسقيه حتى أطلقه برجلين من المسلمين.
المسألة الثالثة : في جواز مبادلة جيف الكافرين بأسرى المسلمين أو بجثثهم
وفي هذه المسألة ما جاء عند أحمد والترمذي (4/214): عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين ، فأبى النبي أن يبيعهم إياه قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الحكم ، ورواه الحجاج بن أرطاة أيضا عن الحكم ، وقال أحمد بن حنبل ابن أبي ليلى لا يحتج بحديثه ، وقال محمد بن إسماعيل : ابن أبي ليلى صدوق ولكن لا نعرف صحيح حديثه من سقيمه ولا أروي عنه شيئا ، وابن أبي ليلى صدوق فقيه وإنما يهم في الإسناد ، وقال أبو عيسى في موضع آخر بعد أن ذكر بن أبي ليلى وغيره ممن تكلم فيهم (فإذا انفرد أحد من هؤلاء ولم يتابع ، لم يحتج به ، كما قال أحمد بن حنبل : ابن أبي ليلى لا يحتج به ، إنما عنى إذا انفرد بالشيء ، وأشد ما يكون إذا لم يحفظ الإسناد ، فزاد في الإسناد أو نقص ، أو غير إسناداً ، أو جاء بما يغير فيه المعنى) وقد قال أبو عيسى عنه أيضاً في موضع آخر (ويروي عن ابن أبي ليلى نحو هذا غير شيء ، كان يروي مرة هكذا ومرة هكذا - يعني الإسناد - وإنما جاء هذا من قبل حفظه ، وأكثر من مضى من أهل العلم كانوا لا يكتبون ، ومن كتب منهم إنما كان يكتب لهم بعد السماع)
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي (5/307 - 308): (باب ما جاء لا تفادى جيفة الأسير الجيفة جثة الميت إذا أنتن ، قاله في النهاية والمراد أنه لا تباع ولا تبادل جثة الأسير بشيء من المال ، قوله حدثنا سفيان هو الثوري عن ابن أبي ليلى اسمه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم هو ابن عتيبة ، قوله (فأبى النبي أن يبيعهم) فيه دليل على أنه لا يجوز بيع جيفة المشرك ، وإنما لا يجوز بيعها وأخذ الثمن فيها لأنها ميتة لا يجوز تملكها ، ولا أخذ عوض عنها وقد حرم الشارع ثمنها وثمن الأصنام في حديث جابر ، وقد عقد البخاري في صحيحه بابا بلفظ طرح جيف المشركين في البئر ولا يؤخذ لهم ثمن ، وذكر فيه حديث ابن مسعود في دعاء النبي على أبي جهل بن هشام وغيره من قريش ، وفيه فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر فألقوا في بئر، قال الحافظ: قوله ولا يؤخذ لهم ثمن أشار به إلى حديث ابن عباس (أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبى النبي أن يبيعهم) أخرجه الترمذي وغيره ، وذكر ابن إسحاق في المغازي أن المشركين سألوا النبي أن يبيعهم جسد نوفل بن عبد الله بن المغيرة وكان اقتحم الخندق فقال النبي "لا حاجة لنا بثمنه ولا جسده" فقال ابن هشام بلغنا عن الزهري أنهم بذلوا فيه عشرة آلاف ، وأخذه من حديث الباب من جهة أن العادة تشهد أن أهل قتلى بدر لو فهموا أنه يقبل منهم فداء أجسادهم لبذلوا فيها ما شاء الله فهذا شاهد لحديث ابن عباس ، وإن كان إسناده غير قوي انتهى ، قوله ابن أبي ليلى لا يحتج بحديثه الخ ، قال الحافظ في التقريب محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن صدوق سيء الحفظ جدا من السابعة انتهى ، قال الحافظ في تهذيب التهذيب : قال عبد الله بن أحمد عن أبيه كان سيء الحفظ مضطرب الحديث كان فقه ابن أبي ليلى أحب إلينا من حديثه ، وقال أبو حاتم عن أحمد بن يونس ذكره زائدة فقال كان أفقه أهل الدنيا ، وعبد الله بن شبرمة بضم المعجمة وسكون الموحدة وضم الراء ابن الطفيل بن حسان الضبي أبو شبرمة الكوفي القاضي ثقة فقيه من الخامسة ، قاله الحافظ في التقريب وقال في تهذيب التهذيب كان الثوري إذا قيل له من مفتيكم يقول ابن أبي ليلى وابن شبرمة) .
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/419): (ومما نهى عن بيعه جيف الكفار إذا قتلوا خرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال (قتل المسلمون يوم الخندق رجلا من المشركين فأعطوا بجيفته مالا فقال رسول الله ادفعوا إليهم جيفته فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية) فلم يقبل منهم شيئا وخرجه الترمذي ، وخرجه وكيع في كتابه من وجه آخر عن عكرمة مرسلا ثم قال وكيع : الجيفة لا تباع ، وقال حارثة قلت لإسحاق ما تقول في بيع جيف المشركين من المشركين قال لا ، وروى أبو عمرو الشيباني أن عليا أتي بالمستورد العجلي وقد تنصر فاستتابه فأبي أن يتوب فقتله فطلبت النصارى جيفته بثلاثين ألفا فأبى علي فأحرقه) .
وسنتناول هذه المسألة من وجوه :
الوجه الأول : هو أن حديث المسألة ليس له إسناد يحتج به ، وقد روي من طرق ومدارها على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وعلى الحجاج بن أرطأة ، أما عبد الرحمن بن أبي ليلى فقد تقدم قول الترمذي والبخاري وأحمد في تضعيفه وقال عنه ابن الجوزي في الضعفاء (3/76): (قال عنه شعبة : ما رأيت أسوأ حفظاً منه ، وقال أحمد : ضعيف ، وقال مرة : سيء الحفظ مضطرب في الحديث) وقال أبو حاتم في علل الحديث (251 - 278): (كان ابن أبي ليلى سيئ الحفظ) ، قال الذهبي في ميزان الاعتدال (قال كان يحيى يضعف ابن أبي ليلى ومطرا عن عطاء ، عن ابن عباس (إن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل أصيب يوم الخندق .. الحديث) حسنه الترمذي وقال عبد الحق في أحكامه وابن القطان إسناده ضعيف ، ومنقطع لا سماع للحكم من مقسم إلا لخمسة أحاديث ما هذا منها وضعفاه من جهة ابن أبي ليلى وقول الترمذي أولى) .
أما الحجاج بن أرطأة فقد قال عنه أحمد (لا يحتج به) وقال أبو حاتم (يدلس عن الضعفاء) وقد اتفق الحفاظ على تدليسه ، وهذا أمره ظاهر ، وقد عنعن في هذا الحديث كما جاء عند أحمد .
وله علة أخرى وهي أن مِقسم قيل عنه مدلس وقيل لم يسمع من ابن عباس وقد عنعن وقد ضعفه محمد بن سعيد وقال عنه أبو حاتم (صالح الحديث لا بأس به) وعندما سئل أحمد عن أصحاب ابن عباس (قال ستة ثم عدهم ولم يعد مقسم ، قيل له ومقسم ؟ قال مقسم دون هؤلاء) .
وله علة أخرى وهي أن الحكم بن عتيبة الذي روى بكل الأسانيد عن مقسم ، لم يثبت له سماع لهذا الحديث وقد قدمنا قول (عبد الحق في أحكامه وابن القطان إسناده ضعيف - أي حديث الباب - ، ومنقطع لا سماع للحكم من مقسم إلا لخمسة أحاديث ما هذا منها) وقال عنه النسائي الحكم (مدلس) وقد عنعن في هذا الحديث ولم يصرح بالتحديث ، وقال عبد الله: (سمعت أبي يقول : الذي يصحح الحكم ، عن مقسم أربعة أحاديث : حديث الوتر وحديث عزيمة الطلاق والفيء والقنوت ، ثم قال الله عندما سئل هل روى غير هذا قال يقولون هي كتاب ، أرى حجاجا روى عنه ، عن مقسم عن ابن عباس نحواً من خمسين حديثاً ، وابن أبي ليلى يغلط في أحاديث من أحاديث الحكم) وقال عبد الله وسمعت أبي مرة يقول : قال شعبة (هذه الأربعة التي يصححها الحكم ، سماع من مقسم) .
فإذا كان هذا الحديث لا تقوم بإسناده حجة فلا دليل فيه على حرمة بيع جيف الكافرين على أهليهم إذا احتيج إلى ذلك في الحرب .
الوجه الثاني : قد يقول البعض إن هذا الحديث مع أن إسناده لا تقوم به حجة ، ولكن له شواهد تعضده منها ما جاء في الصحيحين من إلقاء جيف قتلى بدر في البئر والإعراض عن بيعها كما فهم البخاري ، ومنها ما ثبت من نهي النبي عن بيع الميتة .
فنقول إن كبار الحفاظ كأحمد وابن المديني وغيرهما ، لا يقبلون الشواهد للحديث إلا إذا توفرت في الحديث المراد تقويته بالشواهد شروط ، ومن هذه الشروط أن لا يكون أصلاً في الباب ، وهذا الحديث نعتبره أصلاً في باب النهي عن بيع جيف الكافرين لذويهم في حال الحرب ، رغم أننا نقول بحرمة بيع الميتة ولكن في السلم وليس في الحرب ، أما ما نريد تحريمه في حال الحرب فيحتاج إلى دليل منفرد يفيد تحريمه في حال الحرب ، وإذا لم يصح حديث ابن عباس ، فيبقى الأمر في الحرب على أنه مسكوت عنه ، ولا تعمل فيه الأدلة الأخرى التي تفيد تحريم بيع الميتة في السلم ، لأن ما حرم في السلم ليس بالضرورة أن يكون محرماً في حال الحرب ، لا سيما إذا كان مما فيه مصلحة ظاهرة للجند أو لبلاد المسلمين ، والشواهد على جواز فعل المحرمات في الحرب كثيرة من السنة ومن فعل الصحابة أيضاً ، كتحريق الرسول لنخل اليهود وهو قد نهى عن قطع الشجر في أحاديث أخرى ، وإباحته الكذب في الحرب ، وعقر دواب العدو كما فعل علي في غزوة حنين ، ولبس الحرير ، والاختيال ، وكما أذن رسول الله أن يقف الصحابة على رأسه حرساً في صلح الحديبيه وهذا ما كان ينكره في غير هذا الموضع لما فيه من تعظيم له ، وقد كتب جند الشام لعمر رضي الله عنه إنا إذا لقينا العدو ورأيناهم قد كفّروا - أي غطوا أسلحتهم بالحرير - وجدنا ذلك رعباً في قلوبنا ، فكتب إليهم عمر : وأنتم كفّروا أسلحتكم ، كما يكفّرون أسلحتهم ، وقد قال شيخ الإسلام عندما سئل عن لبس الحرير لإرهاب العدو قال فيه قولان للعلماء ، وأظهرهما الجواز ، ويذهب رحمه الله إلى أبعد من ذلك في تقرير مثل هذه الأحكام في الحرب خاصة لوجود مصلحة في ذلك ، رغم ورود النصوص المحرمة لمثله من الأحكام في غير حال الحرب ، ففي كتاب الاستقامة (2/165) قال: (وأما الكفار فزوال عقل الكافر خير له وللمسلمين ، أما له فلأنه لا يصده عن ذكر الله وعن الصلاة ، بل يصده عن الكفر والفسق ، وأما للمسلمين فلأن السكر يوقع بينهم العداوة والبغضاء فيكون ذلك خيرا للمؤمنين ، وليس هذا إباحة للخمر والسكر ولكنه دفع لشر الشرين بأدناهما ، ولهذا كنت آمر أصحابنا أن لا يمنعوا الخمر عن أعداء المسلمين من التتار والكرج ونحوهم ، وأقول إذا شربوا لم يصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة بل عن الكفر والفساد في الأرض ، ثم إنه يوقع بينهم العداوة والبغضاء ، وذلك مصلحة للمسلمين فصحوهم شر من سكرهم فلا خير في إعانتهم على الصحو ، بل قد يستحب أو يجب دفع شر هؤلاء بما يمكن من سكر وغيره) ، وقد وصلنا عندما كنا في أفغانستان فتوى لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله مفادها ، عندما سئل عن التمثيل بجثث العدو ، فقال إذا كانوا يمثلون بقتلاكم فمثلوا بقتلاهم لا سيما إذا كان ذلك يوقع الرعب في قلوبهم ويردعهم والله تعالى يقول فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ، إذن هذه الأدلة والفتاوى تبين أن للحرب أحوالا خاصة لا يصلح أن نعمم عليها الحكم بأدلة الحظر ، فما نريد أن نحكم به في الحرب يحتاج إلى دليل ظاهر الدلالة صحيح السند يفيد الحكم ، وحتى ولو كان منهياً عنه في حال الحرب ، فإن النهي لا يكون مطلقاً على كل حال ، لا سيما إذا تعارض مع مصلحة أكبر أو جر ضرراً على المسلمين أعظم ، ودليل ذلك أن الرسول نهى عن التحريق وقطع الأشجار ونهى عن قتل النساء والصبيان وعندما حاصر بني النضير حرق نخلهم كما في البخاري ، وعندما سئل كما في الصحيحين عن تبييت المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم أجاز ذلك وقال: "هم منهم" ، بل إن الأمر أعظم من ذلك فلو تترس الكفار بأسرى المسلمين ، ودعت الضرورة إلى قصف الكفار بحيث لو كف عنهم المسلمون ظفروا بهم أو أكثروا فيهم القتل ، جاز رميهم رغم ما يصاب من أسرى المسلمين ، وهذا مذهب الشافعي كما في مغني المحتاج (4/224) وأحمد كما في كشاف القناع (3/51) وأبي حنيفة كما في شرح فتح القدير (5/447 - 448) ، كل ذلك من الأدلة والفتاوى تقوي القول بأن حديث الباب يعتبر أصلاً يحتاج لأن يصح بنفسه لا أن يشد بغيره ليفيد تحريم المسألة ، وإذا تعذر ذلك ، فلنا أن نقول في المسألة من الصعب أن نحرمها تورعاً بغير دليل ظاهر الدلالة ، خاصة وأن ذلك ربما يضيع مصلحة علينا والله تعالى أعلم بالصواب .
الوجه الثالث : إن ما نحن بصدده من إعلاننا أننا نريد مبادلة جيف الأسرى ، ببعض الأسرى من المسلمين ، إن هذا الإعلان إنما هو إعلان مبادلة ، وليس إعلان بيع ، فلو حسن حديث الباب بشواهده فلا يدل على حرمة المبادلة فهذه مبادلة وليست بيعاً فيها ثمن ومثمن ، قال الشوكاني في السيل الجرار (4/568): (وأما قوله ويجوز رد الجسد مجاناً فلا وجه للتقييد بقوله مجانا ؛ لأن أموال الكفار يجوز التسلف لها بكل ممكن وليس هذا من باب المبايعة حتى تدخل في بيع الميتة وبيع النجس) . قال السرخسي في المبسوط (10/137 - 138): (قال وسألته - أي أبا حنيفة - عن الرجل من أهل الحرب يقتله المسلمون هل يبيعون جيفته من أهل الحرب قال لا بأس في ذلك بدار الحرب في غير عسكر المسلمين ، وقال أبو يوسف أموال أهل الحرب تحل للمسلمين بالغصب فبطيب أنفسهم أولى ، معناه أن في غير عسكر المسلمين ، لا أمان لهم في المال الذي جاءوا به فإن للمسلمين أن يأخذوه بأي طريق يتمكنون من ذلك ولا يكون هذا أخذا بسبب بيع الميتة والدم ، بل بطريق الغنيمة ولهذا يخمس ويقسم ما بقي بينهم على طريق الغنيمة). وقال محمد الشيباني في السير (1/249): (قال أبو يوسف وسألته عن الرجل من أهل الحرب يقتله المسلمون هل يبيعون جيفته من المشركين قال أبو حنيفة لا بأس بذلك في دار الحرب في غير عسكر المسلمين ألا ترى أن أموال أهل الحرب تحل للمسلمين أن يأخذوها فإذا طابت بها أنفسهم فهو جائز) ، هذا ما رأيناه من جواز المبادلة ، لأنه لا يوجد دليل على منع البيع فكيف بالمبادلة ؟ ، لذا قلنا بالجواز وعملنا به ، وقد سبق أن بادلنا 14 عشر رأساً من رؤوس الروس ، بثلاث جثث من جثث إخواننا ، فمصلحة هذه المعاملة ظاهرة بالنسبة لنا ومنعها بلا دليل قوي مضر لمصلحتنا .
المسألة الرابعة : في جواز نقل جثث أو رؤوس الكافرين
إن جواب هذه المسألة متفرع عن ما قبلها ، فمن قال بجواز مبادلة الجيف بالأسرى ، لا شك من باب أولى أن يجيز نقل جيف الكافرين للمصلحة ، ونحن تطرقنا لهذه المسألة لأنه نُص على منعها في بعض كتب المحدثين ، جاء عند البيهقي في سننه الكبرى (9/132): (باب ما جاء في نقل الرؤوس ، قال عن عقبة بن عامر الجهني أن عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة بعثا عقبة بريدا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه برأس يناق بطريق الشام ، فلما قدم على أبي بكر رضي الله عنه أنكر ، ذلك فقال له عقبة يا خليفة رسول الله فإنهم يصنعون ذلك بنا ، قال أفاستنان بفارس والروم ؟ ، لا يحمل إلي رأس فإنما يكفي الكتاب والخبر ، وقال معاوية بن خديج يقول هاجرنا على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه فبينا نحن عنده إذ طلع المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه قدم علينا برأس يناق البطريق ولم تكن لنا به حاجة إنما هذه سنة العجم ، وعن عبد الكريم الجزري أنه حدثه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أتي برأس فقال: بغيتم ، وقال عن الزهري قال لم يحمل إلى النبي رأس إلى المدينة قط ولا يوم بدر ، وحمل إلى أبي بكر رضي الله عنه فكره ذلك ، قال وأول من حملت إليه الرؤوس عبد الله بن الزبير ، قال الشيخ والذي روى أبو داود في المراسيل عن أبي نضرة قال لقي النبي العدو فقال: من جاء برأس فله على الله ما تمنى فجاءه رجلان برأس فاختصما فيه فقضى به لأحدهما هذا حديث منقطع وفيه إن ثبت تحريض على قتل العدو وليس فيه نقل الرأس من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام) أهـ بتصرف .
وقد روي ما يدل على جواز نقل الرؤوس وإن كان فيه مقال ، قال ابن جرير في تاريخه (2/37): (حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق وزعم رجال من بني مخزوم أن ابن مسعود كان يقول قال لي أبو جهل لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا ، ثم احتززت رأسه ثم جئت به رسول الله فقلت يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبي جهل قال فقال رسول الله : "آلله الذي لا إله غيره" وكانت يمين رسول الله قال قلت: نعم والله الذي لا إله غيره ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله قال "فحمد الله" ، وقال الحافظ في الفتح (7/295): (وفي حديث بن عباس عند بن إسحاق والحاكم ، قال بن مسعود فوجدته بآخر رمق فوضعت رجلي على عنقه فقلت أخزاك الله يا عدو الله قال وبما أخزاني هل أعمد رجل قتلتموه قال وزعم رجال من بني مخزوم أنه قال له لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا ، قال ثم احتززت رأسه فجئت به رسول الله فقلت هذا رأس عدو الله أبي جهل) ، وأورد الذهبي في السير (3/371): (قال ابن الزبير هجم علينا جرجير في عشرين ومائة ألف فأحاطوا بنا ونحن في عشرين ألفا يعني نوبة إفريقية ، قال واختلف الناس على ابن أبي سرح فدخل فسطاطه فرأيت غرة من جرجير بصرت به خلف عساكره على برذون أشهب معه جاريتان تظللان عليه بريش الطواويس بينه وبين جيشه أرض بيضاء ، فأتيت أميرنا ابن أبي سرح فندب لي الناس فاخترت ثلاثين فارسا وقلت لسائرهم البثوا على مصافكم وحملت وقلت لهم احموا ظهري فخرقت الصف إلى جرجير وخرجت صامدا وما يحسب هو ولا أصحابه إلا أني رسول إليه حتى دنوت منه ، فعرف الشر فثابر برذونه موليا فأدركته فطعنته فسقط ثم احتززت رأسه فنصبته على رمحي وكبرت وحمل المسلمون فانفض العدو ومنح الله أكتافهم) .
وقال يوسف الحنفي في معتصر المختصر (1/244 - 245): (في نقل رأس الكافر روى عن علي بن أبي طالب قال أتى رسول الله برأس مرحب ، وروى عن البراء قال قال لقيت خالي معه الراية فقلت أين تذهب فقال أرسلني رسول الله إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعد أبيه أن آتيه برأسه ، وعن عبد الله الديلمي عن أبيه قال أتينا رسول الله برأس الأسود العنسي الكذاب فقلت يا رسول الله قد عرفت من نحن فإلى من نحن قال إلى الله عز وجل وإلى رسوله ، وكان إتيانهم به من اليمن ليقف على نصر الله وعلى كفايته المسلمين شأنه ، وفيه إجازة نقل الرؤوس نكالا من بلد إلى بلد ليقف الناس على النكال الذي نزل بهم ومن هذا الجنس قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ وقوله في آية المحاربين أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ ليشتهر في الناس أمرهم وإنكار أبي بكر على عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة حين بعثا رأسا إليه اجتهاد منه لما ظهر إليه من الاستغناء عنه ، ألا ترى أن أمراء الأجناد منهم يزيد بن أبي سفيان وعقبة بن عامر بحضرة من كان معهم لم ينكروا ذلك لما رأوا فيه من إعزاز دين الله وغلبة أهله الكفار ، فالمرجع في مثله إلى أراء الأئمة يفعلون من ذلك ما يرونه صوابا مناسبا لوقتهم ، ويتركونه إذا استغنوا عنه ، وقد أتى عبد الله بن الزبير برأس المختار فلم ينكر ذلك ، روي أن البريد لما وضعه بين يديه قال ما حدثني كعب بحديث إلا وجدته كما حدثني إلا هذا فإنه حدثني أنه يقتلني رجل من ثقيف ، وها هو قد قتلته قال الأعمش ولا يعلم أن أبا محمد يعني الحجاج مرصد له بالطريق) .
قال الشوكاني في السيل الجرار (4/568): (قوله ويكره حمل الرؤوس أقول إذا كان في حملها تقوية لقلوب المسلمين أو إضعاف لشوكة الكافرين فلا مانع من ذلك ، بل هو فعل حسن وتدبير صحيح ولا وجه للتعليل بكونها نجسة فإن ذلك ممكن بدون التلوث بها والمباشرة لها ، ولا يتوقف جواز هذا على ثبوت ذلك عن النبي ، فإن تقوية جيش الإسلام وترهيب جيش الكفار مقصد من مقاصد الشرع ومطلب من مطالبه لا شك في ذلك ، وقد وقع في حمل الرؤوس في أيام الصحابة ، وأما ما روي من حملها في أيام النبوة فلم يثبت شيء من ذلك) .
وما أجمل كلام الإمام الشوكاني وتقعيده لمثل هذه المسائل ، بحيث جعل المقصد في الحرب هو تقوية جيش الإسلام وترهيب جيش الكفار ، وبهذه القاعدة نستطيع أن نوجه أفعال النبي في وقت الحرب التي خالفت نهيه ، أما هذه المسألة فلا شك أن أدلتها المانعة أضعف من أدلة المسألة التي قبلها وما قلناه في توجيه المسألة السابقة نقوله في هذه المسألة ، والله تعالى أعلى وأعلم.
المبحث الثاني :
الرد على من احتج علينا وقال إنه يجب علينا أن نلتزم بما تعهدنا به من المواثيق الدولية
واحترام حقوق الإنسان .
وقبل أن نبدأ بهذا المبحث لا بد لنا أن نعرف ما هي معاهدة جنيف الخاصة بالأسرى وأحكامهم الدولية ، إن الوثيقة الدولية بحق الأسرى المعمول بها في الدول الأعضاء لهيئة الأمم المتحدة هي معاهدة جنيف الموقعة عام 1949م والتي تنص على: (أن أسرى الحرب يعتبرون تابعين لسلطة دولة العدو وليس لسلطة الأفراد أو الوحدات العسكرية التي أسرتهم ، وعلى هذه الدولة أن تعاملهم دون تمييز للون أو لعنصر أو لعقيدة دينية أو سياسية ، وعليها أن لا تنزل بهم تعذيباً بدنياً أو معنوياً ، وأن لا تجردهم من شارات رتبهم وأوسمتهم ونقودهم ، وأن تتوافر في معسكراتهم الشروط الصحية اللازمة ، وأن يقدم لهم الغذاء واللباس اللازمان ، وأن يكون لكل معسكر مستوصف ، كما يحق لأسرى الحرب ممارسة نشاطهم الفكري والثقافي والرياضي ، ويسمح لهم بإرسال الرسائل و البطاقات واستلامها ، ولكن تحت الرقابة ، ويحاكم أسرى الحرب أمام المحاكم العسكرية فقط ، ولا يجوز إصدار حكم على أسير دون إعطائه فرصة للدفاع عن نفسه والاستعانة بمحام أو مستشار قانوني ، ويفرج عن أسرى الحرب ويعادون إلى أوطانهم لدى وقف الأعمال العدائية) هذه هي شريعة الأمم المتحدة التي يتحاكم لها دول الأعضاء ، وأي دولة لا تلتزم تطبيق هذه المعاهدة فربما تخضع لعقوبات من الدول الأعضاء أو توقف قروضها أو يمتنع مجلس الأمن عن اتخاذ قرارات تخص حماية أراضيها إلى غير ذلك من العقوبات .
وردنا على من احتج علينا بأنه يجب علينا الوفاء بهذا العهد من وجوه :
أولاً : إننا لسنا أعضاءً بهذه المنظمة ولا نرضى أن نكون أعضاءً بها حتى نلتزم بعهودها ومواثيقها.
ثانياً : لو كنا أعطينا أحداً من الكفار عهداً بأن لا نقتل أسراهم لالتزمنا لهم بعهدهم لقول الله تعالى أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ وقوله وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا وقوله وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ، ولقول الرسول كما في الصحيحين "إذا جمع الله الأولين والآخرين يُرفع لكل غادر لواء ويقال هذه غدرة فلان بن فلان" ، ولالتزام رسول الله بالعهد الذي وقعه مع قريش حتى نكثوا هم ولم ينكث ، ولم نعط روسياً عهوداً بذلك حتى يقال لنا أنكم نكثتم العهود .
ثالثاً : إن بعض ما جاء بالوثيقة الآنفة الذكر ، أمرنا به ربنا ، وعلى أننا نكفر بالوثيقة ومن شرعها ، إلا أننا نقر أن فيها موافقات لشرعنا ، مثل الإحسان إلى الأسير ، وبشهادة الأسرى الذين أطلقناهم سابقاً أن ما وجدوه عندنا لم يجدوه في كتائبهم من العناية والإحسان ، ويكفينا للإحسان إليهم مدح الله للمحسنين بقوله وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ولم يكن الأسير في وقت الصحابة إلا كافراً ، فمدح الله من يحسن للأسير حتى وهو كافر ، وجاء في الصحيح أن الرسول أحسن إلى ثمامة بن أثال بعدما ربطه في المسجد حتى منَّ عليه بعد أيام وأسلم ثمامة رضي الله عنه بسبب إحسان الرسول إليه ، وشواهد فعل الرسول وإحسانه للأسرى والمنّ عليهم كثيرة تغنينا عن البحث في غير شرعنا عن ما يصلح لنا في حربنا وسلمنا ، ولو أننا لا نريد الإطالة لسردنا بعض أحكام الأسير التي أمرنا شرعنا بها ليتبين للمستنكر علينا عظم شرعنا وشموله .
رابعاً : إن هذه المعاهدات الدولية وغيرها التي يصدقها ضعاف العقول ، إنما هي موضوعة لا للتطبيق من قبل الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ، إنما هي سوط تساق به الدول الضعيفة ، وحد تحمي بها الدول الخمس رجالها ، فهي تدفعهم ليفسدوا وإذا أُسروا ضمنت رفاهيتهم وخروجهم ، فبما أنه لا يوجد لها رادع فلن تخشى غزو الدول الأخرى ، والاستنكار يأتي على الدول الضعيفة المغلوب على أمرها ، أما هم وربائبهم فلا ، ونسوق أمثلة على ذلك نبين فيها أن الدول الدائمة العضوية لا تلتزم بما ألزمت به غيرها ، فإذا كان الحق لها أبرزت الوثيقة ، وإن كان عليها قالت ما فعلناه يقتضيه أسلوب ردع العدوان ونحن نحتفظ بحقنا في أسلوب الرد ، والأمثلة هي :
1- المجزرة التي حدثت للمسلمين في البوسنة في شهر ربيع الأول من عام 1416هـ في مدينتي "جيبا وسيربرنيتسا" ، وكان ذلك بمعاونة رجال الأمم المتحدة (صاحبة الوثيقة) ، وكانت المدينتين سلمتا إلى قوات الأمم المتحدة من قبل الصرب ، وفرضت الأمم المتحدة الحماية للمدينتين واعتبرتا مناطقاً آمنة ، ثم بعدها تحرك الصرب بحشودهم العسكرية باتجاه المدينتين وقوات الأمم المتحدة لا تحرك ساكناً ، بل إنها مهدت لهم الطريق وأخلت بعض المواقع الدفاعية قبل ذلك بيومين ، وتساعد الجنود الهولنديون التابعون لقوات الأمم المتحدة مع الصرب وأعطوهم لباسهم ووقودهم قبل دخول المدينتين ، وكان حلف الناتو يعلم بتحرك الصرب نحو المدينتين ولم يتخذ أية إجراءات ، ثم دخل الصرب على المدنيين بزي رجال الأمم المتحدة ، وطلبوا من الناس أن يتوجهوا إلى مصنع الألمنيوم - مقر الأمم المتحدة - ، وبعد أن تجمع الناس فيه أقام الصرب مجزرة هناك ، تم ذبح عدد كبير من المسلمين فيه ، وبقية السكان واجهوا أنواع القتل والاغتصاب والتشريد وكانوا أكثر من 45 ألف مسلم ، وأين كانت قوات الأمم المتحدة ؟ إنها أصبحت قوات مساندة للصرب بالقتل والاغتصاب والتشريد ، وبعد دخول "سيربرنيتسا" جهز المجرم "راتلوا ملادتش" 40 حافلة لنقل الشباب والفتيات إلى أماكن مجهولة ، وبقية السكان الناجين من العجزة والأطفال اتجهوا إلى مدينة توزلا ، وأصبحت "جيبا ، وسيربرنيتسا" خاويتين على عروشهما ، وبعدها بأسابيع نقلت الأمم المتحدة نصارى الكروات الفارين من مدينتي "كرينا وكينين" إثر اجتياح الصرب لهما البالغ عددهم مائتا ألف ، نقلتهم بحافلاتها وخلال عشرة أيام إلى مدينتي "جيبا وسيربرنيتسا" اللتين فرغتا لأجل هذه الهجرة ، وصرح بعض رجال الأمم المتحدة بعد اجتياح الصرب لمدينتي "كرينا وكينين" صرح بأن حقوق الإنسان تقتضي الوقوف بكل ما نستطيع من إمكانات لإنقاذ الكروات المهجرين من الكارثة وبالفعل تم إنقاذهم وإنزالهم في مساكن المسلمين الذين سحقوا وهجروا ولا بواكي لهم ، فانظروا كيف ساعدوا الصرب في العملية الأولى ضد المسلمين ، ووقفوا مع الكروات في العملية الثانية وقالوا إن من تمام حقوق الإنسان أن ننهض لمساعدة المهجرين ، واسألوا الأمين العام آنذاك "بطرس غالي" لماذا لم يعاملوا الصرب كما عاملوا العراق قبله ؟! ، فأين المواثيق وأين العهود وأين حقوق المدنيين قبل حقوق الأسرى .
2- المثل الآخر هو ما حدث للأسرى العراقيين أثناء اجتياح القوات الأمريكية للكويت ، عندما دبرت القوات الأمريكية والبريطانية ، مجزرة بشعة لأكثر من ثمانية آلاف جندي عراقي ، وكان ذلك في يومي (24 – 25 فبراير 1991م) حيث قامت الدبابات الأمريكية من طراز "لبرامز وبرادلي" وعربات أخرى مزودة بجرافات بدفن أكثر من ثمانية آلاف جندي عراقي أحياء في مواقعهم وكانوا قد التزموا خنادقهم بعد حصار القوات لهم .
وقد نشرت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية مقابلات مع عدد من ضباط فرقة المشاة الآلية الأولى تحدثوا فيها عن دفن جنود عراقيين وهم على قيد الحياة في تلك الخنادق التي يبلغ عرضها ثلاثة أقدام وعمقها ستة أقدام .
كما نشرت صحيفة "نيوز ديلي" الأمريكية تفاصيل العملية من خلال لقاءات مع القادة العسكريين الأمريكيين في الفرقة الحمراء الأمريكية التي نفذت العملية .
وقال العقيد "مورنيو" قائد الكتيبة الثانية في الفرقة الحمراء أن عملية الدفن التي تمت كانت عملية تكتيكية عسكرية دقيقة للقوات الأمريكية في الخليج ، ومن بين مخططي الجريمة كان هناك المهندس "ستيفن هاوكيش" في الفرقة الأولى الذي كان قد أقام معسكراً تدريبياً من أجل تدريب وتعليم جنود حفظ الأمن على عملية دفن الجنود العراقيين أحياءً في خنادقهم .
وقال العقيد "مورينو" أنه بعد تنفيذ العملية ونظراً لبشاعة الموقف وللخشية من قدوم الصحفيين فقد تمت عملية مسح الرمال وتغطيتها من خلال معدات وأجهزة حربية أخرى لإخفاء المجزرة وأي أثر لها ، وأفادت الصحيفة أن العسكريين الذين نفذوا هذه العملية حصلوا على أوسمة وألقاب من "البنتاغون" حيث نقلت عن عسكري أمريكي لم يذكر اسمه أنه تسلم النجمة الفضية ولقب "بطل حرب" من جراء ذلك النوع من العمليات .
وحدد الناطق باسم "البنتاغون" "بيت وليامز" في إيجاز للصحافة في (سبتمبر من عام 1991م) الهدف من هذه المجرزة فقال: (إن الأمر كان يتعلق بتجنب مواجهة العراقيين الذين اختاروا البقاء في خنادقهم أو خلف السواتر والمواجهة ، وأن عدد الذين دفنوا كان كبيراً وكان هدف الفرقة الأمريكية هو اختراق الساتر العراقي ومغادرة المكان بسرعة كي يتسنى المرور للفرقة المدرعة الأولى البريطانية ، أي أن تمر الفرقة البريطانية خلال الساتر من دون معوقات أو متاعب تنجم عن التأخير).
وقد نشرت صحف "التايمز" في (3/9/1991م) ، و"الغارديان" في (13/9/1991م) ، و"المانغستو" الإيطالية في نفس التاريخ: (أن عملية دفن الجنود العراقيين وهم أحياء لم تكن عملية معزولة ، وأن الجنود العراقيين الذين تم دفنهم أحياء كانت عملية تكتيكية عسكرية دقيقة للقوات الأمريكية) .
لا يظن أحد أننا سقنا هذا الدليل تأييداً لموقف العراق في عدوانه السابق على المسلمين في الكويت ، ولكننا سقناه لنبين كيف تخالف الدول المتسلطة ما سنته من معاهدات ، وكيف أجرمت في حق الأسرى واعتبرت أنهم هم الذين أخطئوا ، وأن عملها عمل عسكري تكتيكي دقيق ، ولكم أن تتصوروا كيف يمكن للجرافات أن تقترب من الخنادق إذا كان من فيها يقاتلون ، فلا يمكن أن يكون ذلك إلا لأن الجنود قد استسلموا ولزموا خنادقهم ، فانظروا كيف قُلبت الموازين وأصبح الجرم فناً وحذاقة ، ولو كان العراق هو الذي فعل ذلك بجنودهم لاستنكر العالم الغربي أجمع ، وبدؤوا يذكّرون بمعاهدة "لاهاي 1907م" ومعاهدة "جنيف 1949م" وغيرها من المعاهدات والبنود التي يقصمون بها ظهر من يريدون .
3- قامت القوات الإسرائيلية بعد انتهاء حرب "أكتوبر 1973م" بقتل ما يقرب من 2000 جندي مصري كانوا قد وقعوا في الأسر ، وكان المشرف على المجزرة هو رئيس الوزراء السابق "يهود براك" ، وسبق أن قامت قوات العدو الإسرائيلي بمجزرة بشعة في دير ياسين عام 1948م راح ضحيتها 250 مسلم والجرحى والمشردين أضعافهم ، وبعد ذلك أعطي قائد عصابات "الأرغون" مناحين بيغن أوسمة على هذه المجزرة ، وعين عام 1977م رئيساً للوزراء وكان يفتخر بقيادته لتلك المذبحة ، ولا أظنكم نسيتم مذبحة المسجد الإبراهيمي التي قتل فيها 40 ساجداً لله ، فأين حقوق الإنسان وأين العهود والمواثيق التي نساق نحن بها ، وهم في معزل عن المطالبة بها ، وحينما ننظر بالمقابل نجد أن اليهود لا زالوا يطالبون دول العالم كلها بتعويضات محرقة هتلر المزعومة ، ولا زالت أرصدتهم في سويسرا ترتفع بسبب ما يجنونه من تعويضات والعالم مدين لهم بها ، بل إن الاعتذارات عن التقصير في إنقاذهم لا زالت تنهال عليهم حتى قبل أسبوعين وعسى أن يرضوا ! .
والأمثلة كثيرة على مناقضتهم لما تعهدوا به لغيرهم ، ولو أردنا أن نستشهد بجرائمهم القديمة والحديثة لطال بنا المقام ولكننا نظن أن حي القلب يعقل بما قدمنا .
خامساً : ننبه أننا لم نتكلف الرد لنتهرب من المحاسبة تحت قانون هذه المعاهدات ، بل إننا نسعد حينما نخالفهم فيما لا يوافق شرعنا ، فنحن نعمل بمقتضى قول الله تعالى قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ فمخالفتنا الظاهرة لهم تفرحنا ، لأنها تدل على كفرنا بهم وبما يعبدون من دون الله ، وبراءتنا منهم .
سادساً : وقبل أن نختم أذكركم إخواني الكرام يا مَن وجهتم لنا أصابع الاتهام ورميتمونا بأننا منتهكون لحقوق الإنسان ونشوه الإسلام ، نذكركم بأنكم أخطأتم توجيه التهمة ، ورميتمونا ظلماً بما لم نقترفه ، فهل المجرم الذي ينتهك حقوق الإنسان هو الذي يدافع عن دينه وعن أرضه وأعراض المسلمين ضد عدو معتد غاصب ؟ ثم أين الإنسان الذي انتهكنا حقوقه ، هل هو الجندي الروسي الذي غزا أرضنا وتفنن في ذبح المسلمين وفي انتهاك أعراضهم ؟ إن أصابعكم عندما توجهت إلينا واتهمتنا بالإجرام لا شك أنها أخطأت الطريق وضلَّت ، فإذا أردتم أن تدافعوا عن أحد فابحثوا عن أحد غير الروس تدافعون عنهم فجرائمهم ملأت الخافقين ، إن المجرم الذي يستحق هذا الاسم ، هو الذي قتل منا في الحرب الأولى أكثر من مائة ألف مسلم ، ولا زال يقتل ويشرد مئات الآلاف ، إن المجرم هو الذي قتل في أفغانستان ما يقرب من مليون مسلم ، إن المجرم هو الذي قتل في طاجكستان مائتي ألف مسلم ، إن المجرم هو الذي قصف ملجأ العامرية في العراق وقتل من فيه ، إن المجرم هو الذي دمر مصنع الشفاء في السودان رغم أنه كان يعتقد أنه يحتوي على مواد كيماوية وفي حالة قصفه فإنه الغازات المنبعثة منه ستقتل ما لا يقل عن عشرة آلاف نسمة في محيط المصنع ، إن المجرم هو الذي حرق قبلتنا الأولى وهدمها ، إن المجرم هو الذي قتل أكثر من مائة مدني لجئوا إلى مقر الأمم المتحدة في لبنان ، إن المجرم هو الذي دمر المرافق الحيوية في لبنان قبل أكثر من شهر - أي من كتابة الشيخ رحمه الله لهذا البحث - ، إخواني الكرام هل عرفتم المجرمين لتوجهوا لهم التهمة ؟ وإذا لم تعرفوا بعد كل هذا ، فلا نظنكم ستعرفونهم أبداً ، وابقوا كما أنتم وصدقوا كل ناعق .
هذا ما أحببنا بيانه لإخواننا في هذا البحث ونسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، إنه هو الهادي إلى سواء السبيل .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وكتبه يوسف بن صالح العييري رحمه الله