إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التمثيل بالقتلى

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التمثيل بالقتلى





    التمثيل بالقتلى




    تأليف الشيخ
    عمر عبد الله حسن الشهابي











    مقدمة:
    تعريف المثلة:
    قال ابن منظور: (والعرب تقول للعقوبة: مثلة ومثلة، فمن قال: مثلة جمعها على مثلات، ومن قال: مثلة جمعها على مثلات ومثلات)، ثم قال: (و مثلتُ بالقتيل إذا جدعت أنفه وأذنه، أو مذاكيره، أو شيئاً من أطرافه) [ ].
    ومنه ما يطلق عليه (السحل).
    قال ابن منظور: (السحل القشر والكشط، أي: تكشط ما عليها من اللحم)، وقال: (وسحله سحلاً فانسحل، أي: قشره ونحته) [ ].
    أحاديث النهي عن المثلة:
    وردت عدة أحاديث في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة نقلها عنه جمع من أصحابه، منهم:
    بريدة بن الحصيب، وعمران بن الحصين، وعبد الله بن عمرو، وأنس بن مالك، وسمرة بن جندب، والمغيرة بن شعبة، ويعلى بن مرة، وجرير بن عبد الله، وعبد الله بن يزيد، وأسماء بنت أبي بكر رضوان الله عليهم أجمعين، فمن ذلك:
    التمثيل يشرع من جهة المعاملة بالمثل أو كان لمصلحة شرعية معتبرة:
    ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن يزيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النهبة والمثلة.
    ما أخرجه أحمد ومسلم والأربعة عن بريدة رضي الله عنه مرفوعاً: (اغزوا باسم الله في سبيل الله ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً... الحديث).
    ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبَّان عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة)، وقد رواه البخاري عن قتادة إثر قصة العرنيين مرسلاً.
    ما أخرجه أحمد عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال: (نهى رسول الله عن المثلة).
    ما أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعثنا رسول الله في بعث، فقال: إن وجدتم فلاناً وفلاناً لرجلين فأحرقوهما بالنار، ثم قال حين أردنا الخروج: إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما"، وفي بعض ألفاظ الحديث: (وإنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله).
    وثمَّة نصوص أخرى تفيد النهي عن التمثيل بالحيوان أيضاً ليس هذا مجال ذكرها.
    فيتحصل مما تقدم أن التمثيل من حيث الأصل منهي عنه في البشر، والحيوان كذلك.
    لكن هل هذا النهي يفيد التحريم أم التنزيه؟ وهل هو على إطلاقه أم يجوز التمثيل بالقتلى في بعض الأحوال؟
    قبل الإجابة على ذلك لابد من تقرير أمور:
    أولاً: المثلة المنهي عنها ترد على العقوبات التي لم يأت النص بخصوصها.
    قال ابن حزم رحمه الله: (المثلة ما كان ابتداءً فيما لا نص فيه، وأما ما كان قصاصاً أو حداً، كالرجم للمحصن أو كالقطع أو الصلب للمحارب فليس مثلة) [ ].
    ثانيًا: أن التحريق من المثلة، بل هو من أشد أنواعها سواءً كان التحريق حال القتل أو بعد القتل، ومما يدل على ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه؛ حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن إبراهيم قال: (كانوا يكرهون أن يحرق العقرب بالنار ويقولون: مثلة) [ ].
    ثالثاً: إذا كان جدع الأنف أو قطع الأذن أو تسميل العين أو الخصاء من التمثيل، فإن قطع الرأس من المثلة من باب أولى. قال في "منتهى الإرادات" – وسيأتي -: (كره رميه الرأس بمنجنيق بلا مصلحة؛ لأنه مثلة) [ ]. وقال ابن حزم: (وكذا ترك الميت بلا دفن مثلة) [ ].
    رابعًا: أن المثلة بالكافر بعد قتله لها حكم المثلة بعد الظفر وقبل قتله، بل هي أخف؛ لأن حرمة الحي آكد من حرمة الميت.
    خامسًا: أن محل النزاع في المسألة ومناط البحث فيها إنما يرد على المثلة بعد الظفر بالكافر، أي بعد التمكن منه، أما قبل الظفر به فيجوز قتله على أي حال.
    قال ابن عبد البر في "الاستذكار": (والمثلة محرَّمة في السنة المجمع عليها، وهذا بعد الظفر، وأما قبله فلنا قتله بأي مثلة أمكننا) نقلاًً عن "مواهب الجليل" [ ].
    وقال ابن عابدين في حاشيته: (نهينا عن المثلة بعد الظفر، أما قبله فلا بأس بها اختياراً) [ ].
    إلا أن البعض يقيد ذلك بألا يمكن قتلهم أي قبل الظفر إلا بالمثلة بهم، وذلك بتحريقهم ونحوه [ ].



    اختلاف العلماء في حكم المثلة:
    قال الشوكاني في "نيل الأوطار": (وقد اختلف السلف في التحريق، فكره ذلك عمر وابن عباس وغيرهما مطلقاًَ، وأجازه علي وخالد بن الوليد وغيرهما، وقال المهلب: ليس النهي على التحريم، بل هو على سبيل التواضع) [ ].
    ونقل النووي عن القاضي عياض قوله: (واختلف السلف في معنى حديث العرنيين، وقال بعضهم: النهي عن المثلة نهي تنزيه) [ ].
    وهذا الذي مال إليه النووي في شرحه حديث بريدة، حيث قال: (وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها، وهي تحريم الغدر وتحريم الغلول، وتحريم قتل الصبيان إذا لم يقاتلوا وكراهة المثلة) [ ].
    وبناءً على ذلك أقول - وبالله التوفيق -: بتأمل نصوص الشرع ومقاصده، وأفعال الصحابة الكرام، وأقوال أهل العلم رحمهم الله تعالى، يظهر أن النهي عن المثلة ليس على إطلاقه بل هو مشروع في أحوال حتى عند من قال: إن النهي عن المثلة على التحريم.
    الأحوال التي تجوز فيها المثلة:
    الحالة الأولى: أن يكون التمثيل معاملة بالمثل:
    ويستدل لذلك بما يلي:
    أولاً: قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [ ].
    قال الشعبي وابن جريج: (نزلت في قول المسلمين يوم أحد فيمن مثِّل بهم لنمثِّلن بهم، فأنزل الله فيهم ذلك) [ ].
    وقال القرطبي: (أطبق جمهور أهل التفسير على أن هذه الآية مدنية، ونزلت في شأن التمثيل بحمزة يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري في كتاب السير، وذهب النحَّاس إلى أنها مكية، والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالاً حسناً؛ لأنها تتدرج الرتب من الذي يدعى ويوعظ، إلى الذي يجادل، إلى الذي يجازى على فعله، لكن ما روى الجمهور أثبت، روى الدار قطني عن ابن عباس قال: لما انصرف المشركون عن قتلى أحد انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى منظرًََا ساءه، رأى حمزة قد ُشق بطنه، واصُطِلم أنفه، وجُدعت أذناه، فقال؛ "لولا أن يحزن النساء أو أن تكون سنة بعدي لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير، لأمثِّلن مكانه بسبعين رجلاً"، ثم دعا ببردة وغطى بها وجهه فخرجت رجلاه، فغطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه، وجعل على رجليه الإذخر، ثم قدمه فكبر عليه عشراً، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه حتى صلى عليه سبعين صلاة، وكان القتلى سبعين، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [ ]، إلى قوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [ ]، فصبر ولم يمثل بأحد) [ ]، وكذا أخرجه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه بإسناده عن أبيّ بن كعب بنحو هذه القصة [ ].
    قال شيخ الإسلام: (أما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص، وقد قال عمران بن حصين رضي الله عنه: ما خطبنا رسول الله خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة، حتى الكفار إذا قتلناهم فإنا لا نمثل بهم ولا نجدِّع آذانهم ولا نبقر بطونهم، إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم ما فعلوا، والترك أفضل كما قال تعالى؛ {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ...} [ ]، قيل؛ إنها نزلت لما مثَّل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أحد، فقال: لئن ظفرني الله بهم لأمثِّلن بضعفي ما مثلوا بنا، فأنزل الله هذه الآية، وإن كانت قد نزلت قبل ذلك بمكة... ثم جرى بالمدينة سبب يقتضي الخطاب فأنزلت مرة ثانية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل نصبر) [ ].
    ونقل صاحب الفروع عن الإمام أحمد أنه قال: (إن مثَّلوا مُثل بهم) - ذكره أبو بكر -
    وقال شيخنا - شيخ الإسلام -: (المثلة حق لهم، فلهم فعلها للاستيفاء وأخذ الثأر، ولهم تركها والصبر أفضل، وهذا حيث لا يكون في التمثيل بهم زيادة في الجهاد، ولا يكون نكالاً لهم عن نظيرها، فأما إن كان في التمثيل الشائع دعاء لهم إلى الإيمان، أو زجر لهم عن العدوان، فإنه هنا من إقامة الحدود والجهاد المشروع، ولم تكن القضية في أُحُد كذلك؛ فلهذا كان الصبر أفضل، فأما إن كانت المثلة حق لله تعالى فالصبر هناك واجب، كما يجب حيث لا يمكن الانتصار ويحرم الجزع) [ ].
    ثانياً: ما جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه: (أن قوماً من عكل وعرينه اجتووا المدينة فأمرهم النبي بلقاح، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذود، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم) [ ].
    قال الباجي رحمه الله تعالى: (أما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالعرنيين الذين قتلوا رعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا نَعَمَه، فأمر بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم، فقد روى سليمان التيمي عن أنس رضي الله عنه؛ أنهم كانوا فعلوا بالرعاء مثل ذلك، ومثل هذا يجوز من مثَّل بمسلم أن يُُمثَّل به على سبيل القصاص) [ ].
    يشير الإمام الباجي رحمه الله تعالى إلى ما أخرجه مسلم في صحيحه بإسناده عن سليمان التيمي عن أنس رضي الله عنه قال: (إنما سَمَل النبي أعين أولئك؛ لأنهم سَمَلوا أعين الرعاة).
    كما أخرجه الترمذي والبيهقي عنه أيضاً، إلا أن الرواية اقتصرت على تسميل العين، ولم يرد فيها قطع أيدي وأرجل الرعاة، وهو تمثيل زائد عن القصاص، إنما جاء ذلك عند بعض أهل المغازي على ما نقله القاضي عياض وابن حجر – وسيأتي - وجميع الروايات الواردة في القصة، والتي أخرجها الشيخان وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وعامة أصحاب السنن والمسانيد، لم تأت فيها رواية واحدة تفيد قطع أيدي وأرجل الرعاة، بل جميعها تقتصر على ذكر قتلهم للرعاة.
    وعليه فإن ما رواه بعض أصحاب المغازي لا يقوى على معارضة الأحاديث الصحاح الثابتة عن أهل الحديث رحمهم الله جميعاً، كما ورد عند النسائي في المجتبى عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلبهم) [ ]، وقد ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى .
    وقال القاضي عياض: (اختلف العلماء في معنى حديث العرنيين هذا، فقال بعض السلف؛ كان هذا قبل نزول الحدود وآية المحاربة والنهي عن المثلة فهو منسوخ، وقيل؛ ليس منسوخاً وفيهم نزلت آية المحاربة، وإنما فعل بهم النبي ما فعل قصاصاً؛ لأنهم فعلوا بالرعاة مثل ذلك، وقد رواه مسلم في بعض طرقه، ورواه ابن إسحاق وموسى بن عقبة وأهل السير والترمذي، وقال بعضهم؛ النهي عن المثلة نهي تنزيه ليس بحرام) [ ].
    وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": (ومال جماعة منهم ابن الجوزي على أن ذلك وقع عليهم على سبيل القصاص؛ لما عند مسلم من حديث سليمان التيمي عن أنس رضي الله عنه قال؛ إنما سمل النبي أعينهم؛ لأنهم سملوا أعين الرعاة...)، إلى قوله: (وتعقبه ابن دقيق العيد بقوله؛ إن المثلة وقعت من جهات وليس في الحديث إلا السمل.
    قلت – أي ابن حجر –؛ كأنهم تمسكوا بما نقله أهل المغازي أنهم مثَّلوا بالراعي.
    وذهب آخرون إلى أن ذلك منسوخ.
    قال ابن شاهين عقب حديث عمران بن حصين رضي الله عنه في النهي عن المثلة؛ (هذا الحديث ينسخ كل مثلة، وتعقبه ابن الجوزي بأن ادعاء النسخ يحتاج إلى تاريخ).
    قلت؛ يدل عليه ما رواه البخاري في الجهاد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في النهي عن التعذيب بعد الأذن فيه، وقصة العرنيين قبل إسلام أبي هريرة رضي الله عنه وقد حضر الإذن ثم النهي، وروى قتادة عن ابن سيرين أن قصتهم كانت قبل أن تنزل الحدود، ولموسى بن عقبة في المغازي؛ ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عن المثلة بالآية التي في سورة المائدة، وإلى هذا مال البخاري وحكاه إمام الحرمين في النهاية عن الشافعي...)، إلى أن قال في فوائد الحديث: (وفيه قتل الجماعة بالواحد، سواء قتلوه غيلة أو حِرابة إن قلنا إن قتلهم كان قصاصاًَ، وفيه المماثلة في القصاص وليس ذلك من المثلة المنهي عنها) [ ].
    وقال الحافظ ابن كثير: (قد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العرنيين، هل هو منسوخ أو محكم؟ فقال بعضهم: هو منسوخ، وزعموا أن فيها عتاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [ ]، ومنهم من قال هو منسوخ بنهي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا القول فيه نظر، ثم صاحبه مطالب ببيان الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ، وقال بعضهم؛ كان هذا قبل أن تنزل الحدود، قاله محمد بن سيرين وفي هذا نظر؛ فإن قصتهم متأخرة وفي رواية جرير بن عبد الله لقصتهم ما يدل على تأخرها، فإنه أسلم بعد نزول المائدة، ومنهم من قال لم يسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم، إنما عزم على ذلك حتى نزل القرآن فبين حكم المحاربين، وهذا القول أيضاً فيه نظر؛ فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه سمل وفي رواية سمر) [ ].
    قال الحافظ أبو حاتم بن حبّان: (المثلة المنهي عنها ليس القود الذي أمر به؛ لأن أخبار العرنيين المراد منها كان القود لا المثلة) [ ].
    وقال البخاري في صحيحه: (باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق؟).
    وقال ابن حجر: (كأنه أشار بذلك إلى تخصيص النهي في قوله؛ "لا يعذب بعذاب الله"، إذا لم يكن ذلك على سبيل القصاص) [ ].
    ومما تقدم نخلُص إلى ما يأتي:
    1) أن التمثيل بقتلى الكفار يشرع من جهة المعاملة بالمثل؛ لسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين، ولما جاء في سبب نزول قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ...} [ ].
    2) أن ادِّعاء النسخ لحديث العرنيين مردود من جهتين:
    أولا ًَََ: افتقاره إلى التاريخ، وقد مر قول الحافظ ابن كثير أن رواية جرير للحادثة تدل على تأخرها، إذ كان إسلامه بعد نزول سورة المائدة، والتي فيها قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [ ].
    ثانياً: أنه لا يُصار إلى النسخ مع إمكان الجمع، فإن قلنا؛ إن النهي عن المثلة للتنزيه فلا تعارض أصلاًَََ، وإن قلنا النهي للتحريم فإنه عام مخصص بكون التمثيل معاقبة بالمثل.
    3) أن النبي جمع للعرنيين بين حد الحرابة - فقطع أيديهم وأرجلهم - والقصاص بسمل أعينهم.
    4) أن حد الحرابة لا يختص بالمسلمين، وقد نص ابن عباس رضي الله عنه على أن آية {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً...} [ ]، نزلت في المشركين فيما رواه عنه أبو داود والنسائي من طريق عكرمة، وهو قول طائفة من السلف.
    وقد روى البخاري عن أبي قلابة صاحب ابن عباس رضي الله عنه - وهو راوي حديث العرنيين - أنه قال في العرنيين: (فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله) اهـ.
    وبناءً عليه يتبين أن حد الحرابة لا يختص بالمسلمين، بل يقام على الكفار إن فعلوا فعلهم.
    ولكن ينبغي التنبه؛ إلى أن مجرد محاربة الكفار للمسلمين، واستباحتهم دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، ليس هو الموجب بحد ذاته لإقامة حد الحرابة عليهم؛ إذ كان هذا متحققاً فيمن حاربهم النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عن المثلة بمقاتليهم، لكن ثمة معنى آخر مراد لتحقق ذلك فيهم، والمسألة بحاجة لزيادة تحرير، والله تعالى أعلم.
    5) أن التمثيل بالكفار إن مثَّلوا بالمسلمين يندب ويتأكد إن كان فيه زيادة في الجهاد أو نكالاًً، أو دعاءاً لهم إلى الإيمان، أو زجرًا لهم عن العدوان، كما أفاده شيخ الإسلام رحمه الله.
    6) أن تحريم المثلة من حيث الإطلاق ليس محل إجماع، بل إن القول بكراهة المثلة من حيث الإطلاق قول قوي، وهو متوجَه طائفة من السلف، وقد مال إليه النووي رحمه الله، وهذا القول قد يُفهم من أمره صلى الله عليه وسلم ابتداءً بتحريق رجلين ثم رجوعه عنه، وقوله: (لا ينبغي لبشر أن يعذب بعذاب الله) [ ].
    لا سيما إذا أضيف إلى ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاكتواء بالنار، ففي صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشفاء في ثلاثة؛ شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهى أمتي عن الكي)، وقد كوى به معاذ، وسئل عنه فرخص فيه وهو كاره.
    والجامع بين التحريق بالنار والكي ظاهر، إذ كلٌ منهما فيه تعذيب بعذاب الله وهو النار، ويفترقان في كون التحريق لمصلحة التنكيل بالكفار والكي يكون لمصلحة العلاج، ولعل هذا ما فهمه من صح عنه التمثيل في القتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي - والله تعالى أعلم.
    الحالة الثانية التي يجوز فيها المثيل في القتل:
    إن كان التمثيل مظنة تحقق المصلحة المعتبرة شرعاً:
    وذلك نحو التنكيل والموعظة وإلقاء الرعب في نفوسهم، وزجرهم عن العدوان وكسر شوكتهم، كما لو كان المقتول من صناديد هم أو قوادهم، وطمأنينة نفوس المؤمنين وما أشبه ذلك.
    قال المجد بن تيميه في "المنتقى" في كتاب الجهاد: (باب الكف عن المثلة والتحريق وقطع الشجر وهدم العمران إلا لحاجة ومصلحة) [ ].
    وقال السرخسي في "الشرح الكبير": (أكثر مشايخنا رحمهم الله على أنه إذا كان في ذلك كبت وغيظ للمشركين، أو فراغ قلب للمسلمين، بأن كان المقتول من قواد المشركين أو عظماء المبارزين فلا بأس بذلك) [ ].
    وقال في "المغني" في رمي رأس الكافر بالمنجنيق بعد قطعه: (يكره رميها بالمنجنيق نص عليه أحمد، وإن فعلوا ذلك لمصلحة جاز؛ لما روينا أن عمرو بن العاص رضي الله عنه، حين حاصر الإسكندرية ظُفِر برجل من المسلمين فأخذوا رأسه، فجاء قومه عمراً مغضبين، فقال لهم عمرو؛ خذوا رجلاً منهم فاقطعوا رأسه فارموا به إليهم بالمنجنيق، ففعلوا ذلك فرد أهل الإسكندرية رأس المسلم إلى قومه) [ ].
    وقال في "الفروع": (يكره نقل رأس ورميه بمنجنيق بلا مصلحة، ونقل ابن هانئ لا يفعل ولا يحرقه، قال أحمد: لا ينبغي أن يعذبوه، وعنه إن مثلوا مُثل بهم) - ذكره أبو بكر [ ] -
    وقال في "شرح منتهى الإرادات": (وكره لنا نقل رأس كافر من بلد إلى بلد آخر بلا مصلحة؛ لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قدم على أبي بكر برأس يناق البطريق فأنكر ذلك، فقال: يا خليفة رسول الله فإنهم يفعلون ذلك بنا! فقال؛ فاستنان بفارس والروم؟! لا يحمل إلي رأس فإنما يكفي الكتاب والخبر) [ ].
    وكره رمي الرأس بمنجنيق بلا مصلحة؛ لأنه تمثيل، قال أحمد: (ولا ينبغي أن يعذبوه فإن كان فيه مصلحة كزيادة في الجهاد أو نكال لهم أو زجر عن العدوان جاز؛ لأنه من إقامة الحدود والجهاد المشروع) - قاله تقي الدين [ ] -
    وقال ابن عابدين في حاشيته: (وقيد جوازها - يعني المثلة - قبله - أي: قبل الظفر – في الفتح - فتح القدير – بما إذا وقعت قتالاً، كمبارز ضرب فقطع أذنه، ثم ضرب ففقأ عينه، ثم ضرب فقطع يده وأنفه ونحو ذلك، وهو ظاهر في أنه لو تمكن من كافر حال قيام الحرب ليس له التمثيل به بل يقتله، ومقتضى ما في الاعتبار أن له ذلك، كيف وقد عُلل بأنها أبلغ في كبتهم والإضرار بهم) [ ].
    ويمكن أن يستدل لذلك بما يلي:
    أولاًَََ: فعل ابن مسعود رضي الله عنه وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له حين احتز رأس أبي جهل.
    قال ابن حجر في "الفتح": (جاء في حديث ابن عباس عند ابن إسحاق والحاكم، قال ابن مسعود؛ "فوجدته بآخر رمق... ثم احتززت رأسه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم") [ ].
    قال النووي: (ابن مسعود رضي الله عنه هو الذي أجهز عليه واحتز رأسه) [ ].
    وأخرج أبو داود بإسناده قول ابن مسعود رضي الله عنه: (نفلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر سيف أبي جهل كان قتله)، قال في "عون المعبود": (يعني؛ حز رأسه وبه رمق) [ ]، وكأن فعله هذا لطمأنة قلوب المؤمنين بقتل رأس الكفر.
    ثانيا: ما ثبت عن علي رضي الله عنه في مواطن عدة من تحريق المرتدين.
    قال شيخ الإسلام: (روي عنه – أي؛ علي- تحريق الزنادقة بأسانيد جيدة) [ ].
    وإليك طائفة من الأحاديث الواردة عن علي رضي الله عنه في ذلك:
    ما رواه البخاري؛ أن أناسًا ارتدوا على عهد علي رضي الله عنه، فأحرقهم بالنار، فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنه، فقال: (لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تعذبوا بعذاب الله"، ولقتلتهم) [ ].
    ولما بلغ علي رضي الله عنه إنكار ابن عباس لم يعول عليه، بل استمر في تحريق الكفار حتى قبل موته، فإنه أمر به - كما سيأتي - وقد استنكر علي رضي الله عنه قول ابن عباس حين بلغه بقوله: (ويح ابن عباس)، هذا ثابت صحيح [ ]، وقال أيضًا: (ويح ابن أم ابن عباس) [ ].
    ما رواه البيهقي بإسناد صحيح من طريق ابن عيينة، أنا سليمان عن أبي عمر الشيباني (أن عليًا أتي بالمستورد العجلي وقد ارتد فقتله، فأعطاه النصارى بجيفته ثلاثين ألفا، فأبى أن يبيعهم إياه وأحرقه)، ورواه بإسناد آخر عن شريك عن سماك عن ابن عبيد بن الأبرص بنفس القصة، وفيه: (فقال علي؛ اقتلوه، فتواطأه القوم حتى مات، فجاء أهل الحيرة فأعطوا – يعني بجيفته - اثني عشر ألفا فأبى عليهم علي، وأمر بها فأحرقت بالنار) [ ].
    ما أخرجه أحمد والدار قطني أنه (لما ضرب ابن ملجم عليًا، قال علي؛ افعلوا به كما أراد رسول الله أن يفعل برجل أراد قتله، فقال؛ اقتلوه ثم احرقوه) [ ].
    وقد روى الطبراني في "الكبير" بإسناده أن الحسن قدّم ابن ملجم فقتله، ثم أخذه الناس في بواري ثم أحرقوه بالنار [ ].
    ثالثاً: ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه؛ (أن خالداً أحرق المرتدين، وفي ذلك قال عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه؛ أتدع هذا الذي يعذب بعذاب الله؟ فقال أبو بكر؛ لا أشيح سيفاً سله الله على الكفار).
    رابعاً: ما رواه الطبراني بإسناد حسن، قال: حدثنا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عبد الله بن نمير، ثنا طلحة بن يحيى، ثنا أبو بردة عن أبي موسى: (أن معاذاً قدم عليه اليمن فرأى رجلاً موثقاً... فأخبره أبو موسى أنه ارتد بعد إسلامه، فقال؛ والذي بعث محمداً بالحق لا أبرح حتى أحرقه بالنار، فأتى بحطب فألهبت فيه النار فأحرقه) [ ].
    خامساً: القياس على تحريق اللوطية بجامع أن كلتا العقوبتين مثلة جازت لمصلحة التنكيل، ذكره ابن القيم في "الطرق الحكمية"؛ أن أبا بكر حرق اللوطية وخالد بن الوليد وابن الزبير، ثم حرقهم هشام بن عبد الملك [ ].
    وقد أخرج البيهقي في حد اللواط حديثاً مرسلاً: (أنه اجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرق بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد يأمره بذلك) [ ]، وقد ضعفه ابن حجر.
    وقال ابن القيم: (قال أصحاب أحمد إذا رأى الإمام تحريق اللوطي فله ذلك) [ ].
    سادساً: لما جاز التحريق في أرض العدو وقطع الشجر والثمر بقصد النكاية، وهي أموال محترمة شرعاً، وقد يكون مآلها إلى غنيمة المسلمين، جاز من باب أولى التمثيل بقتلى الكفار حيث لا حرمة لهم ولا كرامة.
    قال الترمذي في السنن: (باب في التحريق والتخريب؛ النكاية بالعدو مقصد شرعي، لذا قال الشافعي؛ لا بأس بالتحريق في أرض العدو وقطع الأشجار والثمار، وقال أحمد؛ قد تكون في مواضع لا يجدون منه بداً، فأما العبث فلا تحرق، وقال إسحاق؛ التحريق سنة إذا كان أنكى فيهم).
    ومما تقدم نخلص لما يأتي:
    1) أن التنكيل بالأعداء وكسر شوكتهم، وإلقاء الرعب في نفوسهم، وطمأنينة قلوب المؤمنين، مقاصد شرعية معتبرة، إن كان التمثيل في القتل مظنة لتحقيق واحد منها فهو جائز شرعًا.
    2) ثبوت التمثيل عن الصحابة لاسيما عن اثنين من أبرز قواده صلى الله عليه وسلم صاحب الراية الذي يحبه الله ورسوله، وسيف الله المسلول، مع ما كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم من تعاهد لقواده بالإرشاد، وحرص على تعليمهم ما يتعلق بأمور الجهاد، وفي هذا قال البخاري: (باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها).
    أقول: ثبوت ذلك من خالد وعلي فيه دلالة قوية على مشروعيته إن اقتضت المصلحة.
    3) ينبغي حمل النصوص الثابتة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في التمثيل بالقتل حيث لا يكون معادلة بالمثل، على أنهم فعلوه باعتبار مصلحة شرعية، إذ هم رضي الله عنهم أبعد الناس وأنزههم عن العبث والعدوان.
    4) إنكار عمر رضي الله عنه على خالد بن الوليد فعله، وإن كان ظاهره أن عمر يرى التحريم، إلا أنه لا دلالة قاطعة في ذلك، إذ قد يكون إنكاراً لفعله.
    5) تحريق اللوطية عقوبة لا نص فيها، فيكون داخلاً في عموم النهي عن المثلة، فجوازه دليل ظاهر على جواز المثلة لمصلحة التنكيل.
    6) قياس التمثيل بالكفار على تحريق الثمار والأشجار قياس أولوي، حيث لا حرمة للكافر المحارب ولا كرامة.
    نتائج البحث:
    أولاً: يجوز التمثيل بالكفار من جهتين:
    الجهة الأولى: إذا كان معاملة بالمثل، وهذا يتحقق باستخدام العدو الأسلحة غير التقليدية والمحرمة دولياً، والتي من شأنها التمثيل بالأحياء والأموات، وأعظم من هذا جرمًا تشويه الأجنة في أرحام أمهاتهم وأي مثلة أعظم من هذه، وأي إفسادٍ في الأرض أكبر منه - ولاحول ولا قوة إلا بالله -
    الجهة الثانية: إذا كان التمثيل بقتلى الكفار لمصلحة شرعية معتبرة، بأن كان وسيلة للضغط في تحقيق مصالح أو دفع مفاسد، أو كان أداة للمخالفة بين صفوف العدو، أو إلقاء الرعب في قلوبهم، أو شفاءً وطمأنينة لقلوب المجاهدين، كما لو كان المقتول من صناديد هم أو قادتهم.
    ثانيًا: أن تقدير المصلحة الشرعية واعتبارها في التمثيل بقتلى الكفار إنما يكون لأصحاب الشأن من قادة المجاهدين وليس لأفرادهم.
    ثالثًا: ينبغي على المجاهدين التنزه عن التمثيل في القتل حيث يكون عبثًا وعدواناً، وكذا في حال انتفاء المصلحة بمعاملتهم بالمثل، والأمر كما تقدم راجع إلى تقدير قادة الجهاد حفظهم الله .
    رابعًا: إذا كان التمثيل بالعدو وسيلة فعالة تصب في مصلحة المجاهدين، فينبغي على قادة المجاهدين عدم التورع أو التردد في استخدامها، لاسيما في ظل التغطية الفضائية والحضور الإعلامي، والذي يجب استغلاله بكل الإمكانات المتاحة، إلا أن هذا كله ينبغي أن يكون في نطاق الحكمة والمصلحة.
    والله المستعان.
    سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين
    والحمد لله رب العالمين

    1/4/1425 هـ



    #########
    يرجى المعذرة فالإعلان عن منتديات أخرى ممنوع
    وأي ملاحظة أو استفسار قسم الشكاوى والإقتراحات ،مفتوح!
يعمل...
X