بسم الله الرحمن الرحيم
منهج حركة الجهاد الإسلامي
منهج حركة الجهاد الإسلامي
تقديم
الحمد لله الهادي إلى صراط مستقيم والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، أما بعد،،،،،
فإن الناظر في حال الأمة الإسلامية اليوم وهي تثن من ألم الجراح وتترنح في خضم الأهواء، وقد أسكرها رحيق الحضارة الغربية الزائف لمستجير برب الأرض والسماء من ذلك البلاء الذي لحق بحكام المسلمين ببعدهم عن دينهم ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، فكانت العاقبة وخيمة إذ سقطت الخلافة الإسلامية، وضاعت مقدسات الإسلام واحتلت فلسطين وأفغانستان واضطهدت القلة المسلمة في كل بقاع الأرض، هذا وما زال حكام المسلمين في غيّهم والهون، وعن شريعة الرحمن معرضون ولأوليائه محاربون، أما كان لكم في السادات عبرة وقد قال تعالى:
{أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها}(1)، والحق يقال، إنهم لم يعوا الدرس ولم يستوعبوا التجربة، لم يتعظوا وصدق الله العظيم إذا يقول... {إنما يتذكر أولوا الألباب}(2).
فهل لكم من توبة يا حكام البلاد ..... يا من عطلتم شريعة الله أن تطبق في أرضه وعلى عباده. لا عذر لكم بعد أن علمتم قول الحق تبارك وتعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}(3)، وقوله: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون}(4).
لا عذر لكم بعد أن جربتم القوانين الوضعية واستبدلتم بشرع الله حكماً آخر أجمع علماء المسلمين على كفر من استبدل شريعة الرحمن بقانون ما أنزل الله به من سلطان فما زادكم ذلك إلا جحودا أو إعراضاً وبغياً فدرتم في فلك الشرق والغرب من أجل فتات الخبز ونسيتم قول المولى عز وجل:{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}(5)، أما آن لكم أن تعودوا إلى دينكم وتثوبوا إلى رشدكم:
{أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم}(6).
أما آن لكم أن تفسحوا الطريق بعد إذ فشلتم لرجالات الحركة الإسلامية ليقودوا الأمة إلى ما فيه الخير والرشاد، فيقيموا دولة الإسلام على نهج النبوة ويصلحوا ما أفسدتموه ويشيدوا ما هدمتموه من أمجاد الآباء والأجداد.
ولكن.... هل من مجيب، هل من مآب.
لا، إن ذلك لن يكون، وصدق الله العظيم إذ يقول:{إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم....ومن الناس من يقو آمنا وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلى أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}(7).
نعم...إننا نوقن بأنهم لن يستجيبوا للنداءات ولا بالممارسات الحزبية ولا بالدعاوي القانونية ولا بالمسيرات السلمية... لأننا نؤمن بحتمية الصراع بين الحق والباطل، بين قوى الكفر والإيمان، بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وقد صدق الله العظيم إذ يقول: {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون}(8)، ويقول:{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}(9).
.... ومن هنا فنحن قد عقدنا العزم _ وكلنا أمل في نصر الله _ على إزاحة دولة الباطل في مصر واستئصالها جذرياً، وإحلال البديل الإسلامي أمل المسلمين المنشود.
{وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً}(10)، ولكن كيف يتحقق ذلك والمسلمون شتى وعدوهم قد استجمع قوته وأنصاره ويعمل ليل نهار ويدبر ويكيد ويمكر فكمم الأفواه من كلمة تقال، وسد الطريق أمام الدعاة إلى الله، وأغلق المساجد دون المصلين: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في الأرض خرابا أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم}(11).
بل وتجاوز الأمر مداه فزج بمن شاء في السجون وقدم من قدم إلى محاكمات جائرة بعد أن أذاقهم من صفوف العذاب ألواناً لا لشيء سوى أنهم أرادوا أن يخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.... {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}(12).
وها أنت يا شعبنا المسلم بكل فئاته، نراك تقف اليوم مكتوف الأيدي لا تحرك ساكناً تجاه حكام ضيعوا البلاد وأضلوا العباد، ففي صمتك الذي طال تكون الهلكة دون النجاة وفي توحدك الذي غاب تكون القدرة دون العجز وفي فاعليتك ونصرتك لدينك يكون النصر بإذن الله.
{وإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}(13)، {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}(14)، فكونوا حماة لدينكم ودرعاً لعقيدتكم من موقعكم في لحظة المواجهة الحاسمة.
ومن أجل هذا فنحن نطح الخطوط العامة للمنهج الفكري لجماعة الجهاد الإسلامي _ التي شرفها الله بقتل السادات على أيدي بعض رجالها نحسبهم عند الله شهداء _ عسى أن يكون في هذا الموجز فاتحة خير يجتمع عليه شملنا وتتوحد به صفوفنا، نحو هدف قد حددناه، وأسس قد ارتكزنا عليها، وواقع قد قيمناه، وبديل قد أعددناه، وطريق قد رسمنا معالمه بدماء شهدائنا.
وفي تفصيل هذه الخطوط حين تسنح الفرصة مستقبلاً بإذن الله، يكون المزيد من تعميق المفاهيم، يكون المزيد من التماسك والترابط في جسد الحركة الإسلامية للمضي قدماً نحو الهدف، نحو الخلافة الإسلامية الغائبة: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}(15)، ويومئذ: {يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم}(16).
والله الموفق للحق والصواب.
1- تمهيد
بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء(17)، قيل ومن الغرباء يا رسول الله قال الذين يصلحون إذا فسد الناس"(18)، واليوم وقد صدقت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد أضحى الإسلام غريباً في مواجهة كل مناهج الأرض، أضحى غريباً وهو يلاقي العداء تلو العداء من كل قوى الكفر.... أضحى غريباً في مواجهة كل مناهج الأرض، أضحى غريباً بين أبنائه الذين فتنتهم الحضارة المزعومة للشرق أو للغرب ونسوا أنهم يملكون أعظم وأدق وأكمل منهج على وجه الأرض،،، منهج رباني منفرد، فمنذ أن سقطت الخلافة الإسلامية فقد المسلمون سيفهم ودرعهم وأصبحوا نهبة لكل طامع وفريسة لكل غاصب، فتقطعت أوصال الدولة الإسلامية وغابت شريعة الله من موقع الريادة، فتخبطت البشرية في مستنقعات القوانين الوضعية الباطلة وتردت في غيابات الأفكار العلمانية الضالة.... وفي معترك هذا الواقع الأليم وأعداء الإسلام يجهزون على البقية الباقية من الإسلام وأهله، يقبض الله عز وجل عصابة من أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم تشيط غضباً لانتهاك حرمات المسلمين وغياب شريعة الرحمن فتسعى من منطلق واجبها الشرعي لإعادة الخلافة الإسلامية حامية هذا الدين، باذلة في سبيل ذلك أرواحها وأموالها... فقامت جماعة حسن البنا في مصر والدكتور مصطفى السباعي في سوريا والمودودي في الباكستان، وفي إيران كان نواب صفوي وكانت "فدائيان إسلام" وغيرها..... وغيرها من الحركات الإسلامية التي كلما بدأت تعمل أجهضتها القوى الكافرة لتقوم غيرها لتكمل المسيرة غير عابئة بما لحق بسابقتها.... وهكذا، صراع دائم من أجل إعادة الخلافة الإسلامية، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك".
فنسأل الله أن نكون قد استوفينا شروط ومواصفات هذا الطائفة، وقد قال البخاري عنها بأنهم أهل العلم. وقال أحمد بن حنبل: "إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ". وقال القاضي عياض: "أنما أراد الله أحد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث". وقال النووي: "ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون ومنهم فقهاء ومنهم محدثون ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونوا متفرقين في أقطار الأرض....". والآن ونحن في غمرة ذلك الصراع الدائر بيننا وبين أعداء الإسلام في بقاع متعددة من أقطار الأرض لنستشعر خطورة المواجهة تجاه عدو قد أجمع أمره علينا، فكيف لا نجتمع ونحن أحوج ما نكون إلى جهد كل عضو عامل منا لنكون حركة عالمية واحدة فلا نركن إلى قدرية وقوع الخلاف بالكف عن السعي للاجتماع ونحن مأمورون به، قال تعالى:{واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}(19)،
وقال: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين}(20). إذن فلماذا لا نبحث في أواصر الخلاف وجذوره، فإن كان الخلاف تنوع جاز لنا الاجتماع، حيث أن الأمر يعد خلافياً سواء ذلك كان اعتقادياً أم فقهياً، ولأن المخالف له دليله وسنده المعتبر، أما إذا كان الخلاف بإذن الله تعالى، أما إذا ثبت بيننا هذا النوع من الخلاف فإنه يمنع من الاجتماع البتة في كيان واحد، إلا أننا في هذه الحالة لا نعدم وسيلة لإيجاد نوع آخر من العلاقات الجائزة شرعاً كالتعاون وتنسيق المواقف طبقاً لما تطلبه مصلحة الحركة الإسلامية.
ونحن قبل أن نشرع في طرح الخطوط العامة للمنهج الفكري لجماعة الجهاد الإسلامي. نشير إلى أن هناك تفصيلاً ينبغي أن يطرح لجزئيات هذا المنهج في أبحاث تفصيلية، حيث لا يتسع المقام لطرح فكرنا دفعة واحدة مدعماً بالأدلة الشرعية من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو أقوال السلف الصالح أو فتاوى العلماء المعاصرين الإثبات.
وما نقدمه اليوم لا يعد إلا علامة إرشاد على الطريق الذي ارتضيناه لنا، عسى أن يجمع الله به أوصال الحركة الإسلامية على الحق المبين.
{قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}(21).
2- المدخل
أولاً: ..... تعريف المنهج الفكري:
هو مجموعة الأفكار الإجراءات التي تحدد الطريق الذي تنتهجه في هذا الواقع، لتحقيق الغاية العظمى التي من أجلها وضع هذا المنهج وذلك بالوسائل المشروعة وفي ضوء الإمكانيات المتاحة، أو بمعنى آخر: "هو ذلك الإطار المنضبط بالشرع الحنيف الذي يوجه ويحكم حركة الجماعة في طريقها نح إحلال البديل الإسلامي محل الأنظمة الجاهلية طبقاً لمتطلبات الخطة العامة".
ثانياً: مصادر المنهج:
القرءان الكريم: كتاب الله تعالى الذي نزل على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يعد الأصل الأول من أصول التشريع الإسلامي، ولا خلاف عليه، نقل إلينا بالتواتر وهو حجة على الناس أجمعين. قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}(22)، وقال: {وإنه لتنزيل من رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين}(23).
السنة المطهرة: وهي ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، وتعتبر المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}(24)، وقال {ومن يطع الرسول فقد أطاع الله}(25).
الإجماع: وهو اتفاق المجتهدين في عصر من العصور بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي، ويعتبر الإجماع هو المصدر الثالث من التشريع الإسلامي وهو حجة يجب العمل بمقتضاها عند الجمهور.
أقوال أئمة السلف الصالح كأحمد ومالك وأبي حنيفة والشافعي والذين أخبر عنهم رسولنا الكريم بقوله: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".
الفتاوى المباشرة للعلماء المعاصرين الثقات في القضايا الجديدة لضمان الضبط الشرعي الصحيح للفكر والحركة: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}(26).
ثالثاً: خصائص المنهج:
التجرد المطلق في طرح قضايا الإسلام فهو السبيل للوصول إلى الحق.
الشمول في غير تجزئة ولا نقصان حيث "لا يقوم بهذا الدين إلا من أحاطه من جميع جوانبه".
الوضوح في مواجهة الجاهلية ومفاصلتها وتحديد المواقف من أهل البدع والأهواء.
الفاعلية في علاقة الإنسان بربه وتأثيره على المجال البشري الذي يحيط به: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}(27).
الواقعية في تناول قضايا الواقع ومعالجة أمور الدين فيها كما أمر الله ورسوله، أما أمور الدنيا كالاستفادة العملية من العلوم الواقعية النافعة لإدارة الحركة والدولة فبمقتضى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دينكم".
إنه دعوة سلفية أصولية للعودة إلى فهم واعتقاد السلف الصالح في عصر ساد فيه الانحلال.
الاتزان الحركي في البناء والمضي قدماً نحو الهدف بما يتطلبه ذلك من مفهوم القدرة وحد الاستطاعة المادي والتنظيمي: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}(28).
رابعاً أهمية وجود المنهج:
يحدد رؤية إسلامية صحيحة وصالحة للتطبيق في الواقع القائم.
يساعد على تجميع الاتجاهات الإسلامية في إطار حركة واحدة.
يعمل على توجيه حركة الجماعات المختلفة بما يحقق الفائدة المرجوة لصالح الحركة الإسلامية.
تختفي بوجوده الخلافات الفكرية التي تنشأ داخل الكيان الواحد.
يعد أحد المقومات اللازمة لاستمرار الكيان واستكمال المسيرة.
يقضي على ظاهرة الشخصيات فلا يكون الاجتماع حول أشخاص بل حول منهج.
يحمي الجماعة من تحمل الأخطاء الفردية لقادتها أو أعضائها حيث يكون هو مقياس الخطأ والصواب.
خامساً: أهداف المنهج الفكري لجماعة الجهاد الإسلامي:
إحداث الوحدة المرجوة بين أوصال الحركة الإسلامية لتكون يداً واحدة على من سواها.
رسم وتحديد معالم الطريق الذي ينبغي أن نسلكه بالسبل المشروعة لتحقيق غايتنا المنشودة بكل أبعادها.
حماية حركة الجماعة من الانحراف أو الشطط على المدى القريب أو البعيد.
إعداد جيل على مستوى من الفهم والوعي بقضيته، وقادر على تحقيق الأهداف المنوطة بالجماعة.
3-عناصر المنهج:
الغاية: وهي كل ما نسعى لتحقيقه في هذه الحياة الدنيا وتنحصر في:
إرضاء المولى عز وجل، وهي غاية كل مسلم رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وتبرأ من كل ما يخالف ذلك. وذلك يكون:
بالإخلاص لله عز وجل بتجريد قصد التقرب إليه من جميع الشوائب: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين}(29)، ويقول القاضي عياض: "ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما".
وبالمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}(30)، ولقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وذلك لأن الإخلاص والمتابعة هما شرطا قبول العمل، ويقول ابن القيم رحمه الله: "كل عمل ينشر له ديوانان لما؟ وكيف؟ فالأول عن الإخلاص والثاني عن المتابعة".
..... وإرضاء المولى عز وجل يتطلب منا تحقيق الغاية العظمى التي من أجلها خلق الخلق: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد من رزق وما أريد منهم أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}(31).
إعادة الخلافة الإسلامية، حيث أنه عادة ما تتحقق عبودية الناس لله تعالى: {وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة}(32)، وقوله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة الأرض فاحكم بين الناس بالحق}(33) وقوله: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لنستخلفنهم في الأرض}(34)، وقد نقل الإجماع على وجوب تنصيب خليفة كل من النووي والقرطبي والماوردي وأبي يعلى والكاشاني وابن خلدون وابن حزم والأشعري والخلافة التي نعنيها هي خلافة على نهج النبوة تقوم على حراسة الدين وسياسة الدينا.
الأسس: وهي القواعد الأساسية التي يرتكز عليها فكر الجماعة، وتعتبر بمثابة الضابط الذي يحكم حركتها نحو تحقيق الأهداف المنوطة بها، وهذه هي الأسس:
السلفية: وذلك بالعودة إلي الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح (جيل القرون الثلاثة الأولى) التي زكاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، وذلك في:
مجال الاعتقاد: فاعتقادنا هو اعتقاد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان دون زيادة أو نقصان.
مجال الفهم: بالعودة إلى فهم السلف الصالح للكتاب والسنة ونبذ الابتداع، في الدين، ورحم الله الإمام أحمد حيث قال: "لا تقل قولاً ليس فيه سلف".
حدود الاجتماع والاختلاف: وذلك بإتباع الضوابط الشرعية التي وضعها سلفنا الصالح في الاجتماع والاختلاف علماً بأننا في حالة خلاف التنوع فيجوز معه الاجتماع، أما في حالة التضاد فإنه لا يجوز معه الاجتماع في كيان وإنما نلجأ إلى علاقات التعاون والتنسيق لما تقتضيه طبيعة المواجهة مع الجاهلية، وبعد استنفاد كل الوسائل لإقناع المخالف بما نحسب أننا نحن عليه من حق.
العلمية: وذلك بالاستفادة بالعلوم الواقعية النافعة للحركة الإسلامية، والاستعانة بمتخصصيها سواء كان ذلك في مرحلة إدارة الحركة قبل التمكين أم بعد التمكين، ومن أمثلة هذه العلوم: العلوم السياسية والعسكرية والاقتصادية والإدارية والتنظيمية والإعلامية والتربوية.... الخ.
الانقلابية: وهي الرفض المطلق لكل النظم والمجتمعات الجاهلية لصدورها عن غير الإسلام، والعمل على إرساء المبادئ والقيم الإسلامية في جميع المجالات سواء كان ذلك في مجال الاعتقاد أم الأخلاق أم التشريع أم الفكر. والانقلابية التي نعنيها هي التغيير الجذري في شتى مناحي الحياة وصورها.
الشمولية: وهي عدم التجزئة في أخد الإسلام أو تطبيقه وقد قال رسولنا الكريم: "لن يقوم بهذا الدين إلا من أحاطه من جميع جوانبه".
وأما عن التعارض الذي ينشأ عن كيفية الجمع بين واجبين، أحدهما مستلزم إسقاط الآخر نظراً لمتطلبات الحركة فإن ذلك يخضع لخطة الجماعة وفتاوى العلماء عليها، للتوفيق بين الواجبات وتقدير الأولويات.
الواقع: إنه من الضروري أن تكون الحركة الإسلامية على وعي كامل ودراية تامة بالواقع الذي نعيش، إذ أن المتناول لهذا الواقع بالتشريع لمنته إلى حتمية إحلال البديل الإسلامي.
ولا بد لمن أراد أن يحصل هذا الفهم، عليه أن يتناول التاريخ بالدراسة المتفحصة المتأنية لتنقيته من دسائس المغرضين كالذين وصفوا الفتح العثماني بالاحتلال، والفساد الأخلاقي بالحرية والتقدم، وذلك في إدراك عميق للتفسير الإسلامي للتاريخ وفي ضوء استيعاب للتجارب السابقة بما في ذلك أسباب التآمر على الخلافة الإسلامية لإسقاطها.
ولعل في تخصيص مجموعة من رجالات الحركة الإسلامية، القول الفصل لحفظ الحقائق دونما تزييف أو تحريف، لتكون نصب الأعين وفي متناول الأيدي مما يكسب الحركة وضوحاً في الرؤية وثباتاً في الخطي ويقيناً بنصر الله تعالى لعباده المؤمنين... هذا وسنشرع بإذن الله تعالى في تقسيم الواقع إلى ثلاثة أقسام سنتناولها في اختصار واقتضاب حسبما يليق بذلك المقام سائلين المولى حسب الأجر والثواب:
واقع العالم: بعد أن خفت صوت الإسلام وخبأ حكمه من جنبات الأرض بسقوط الخلافة الإسلامية عام 1942 على أيدي المتآمرين، زان للشيطان أن يستكمل صولته ويتم وثبته لبسط نفوذه على البسيطة بأسرها، فعاث في الأرض الفساد وأغرق العالم في دنيا الشهوات فأنساهم ذكر ربهم فعمت قلوبهم وأبصارهم فضلوا عن السبيل: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو نله قرين وأنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون}(35)، وبذلك سول الشيطان للجهال من الناس أن يضعوا المناهج والدساتير يعارضون بها حكم الله ويضاهون شريعته.
قال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وأن الظالمين لهم عذاب أليم}(36). هكذا استطاع الشيطان أن يمسك بزمام الحكم وأن يحرك بأعوانه وأنصاره ليصدوا عن سبيل الله وهو خاذلهم يوم القيامة، قال تعالى: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما انتم بمصرخي إني كفرت بما اشتركتمون من قبل أن الظالمين لهم عذاب أليم}(37).
نحن نستطيع من خلال الوهلة الأولى أن نتبين تلك الأنظمة التي تحكم العالم اليوم، فلا نجدها تخرج عن ذلك الاتجاه الغربي أو الماركسي أو الصهيوني وهي جميعاً أنظمة كفرية ما انزل الله بها من سلطان قال تعالى: {ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}(38).
واقع الأمة الإسلامية: مما لاشك فيه أن مسيرة الأمة الإسلامية بدأت مع بزوغ فجر الإسلام في مكة المكرمة، على أساس من التوحيد الخالص لله عز وجل وعلى يد رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المرسلين، وقال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}(39). وما هي إلا سنوات عدة حتى استطاعت تلك الفئة المؤمنة التي تربت على مائدة الإسلام وصنعت على عين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقيم الدولة الإسلامية في المدينة، وسرعان ما انطلقت لتفتح معظم أرجاء العالم وتعلي راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله". وهكذا أخضع سلطان الفرس والروم أمام تلك الثلة المؤمنة بربها المتمسكة بدينها... أمام ذلك الرهط الصالح الذي أعز الله به دين الإسلام: {وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرين}(40).
وبعد أن ازدهرت الأمة الإسلامية في ظل الخلافة الإسلامية ثلاثة عشر قرناً من الزمان، ساد فيها المسلمون الدنيا بأسرها، ومع تدفق الناس إلى دين الإسلام كثر الغثاء وقل النقاء فأصبح الكثير من المسلمين لا يمثلون الإسلام كما مثله المسلمون الأوائل، فتحين للاستعمار فرصته للوثوب على صرح الخلافة بعد أن وهنت قوتها وخارت عزيمتها فلم تستطع الخلافة إبان ذلك أن تواجه الزحف الجاهلي؛ المعادي؛ الحاقد على الإسلام وأهله والملون في صور وأشكال شتى، فترنحت ثم سقطت وتفتت إلى دويلات هشة التهمها الاستعمار واحدة تلو الأخرى. وليس بغريب بعد ذلك أن يتولى حكم هذه الدويلات حكام يدينون بالولاء للشرق أو للغرب، فنبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ورفعوا لواء الديمقراطية تارة، فنادوا بالعلمانية والوطنية والقومية والحياة النيابية والحرية الشخصية والتبرج والاختلاط فانهار الاقتصاد واندحرت الأخلاق وضاعت الحريات وتبددت الآمال وباتت الأهداف في طي الأوهام. ثم بادروا برفع راية الاشتراكية تارة أخرى فهتفوا بحياة الاشتراكية والحرية والوحدة ودعوا إلى التقدم والرقي وتحرير فلسطين، فلا الجوع سد من رمق ولا ردت إلينا فلسطين، بل وفشلت محاولات الوحدة وذبحت الحرية على النصب وشدد الخناق على المعارضين وأرخي العنان للعصاة الفاجرين.... وهكذا أسدل الستار على تجربة حكام الأمة الإسلامية للنظاميين الديمقراطي والاشتراكي والتي يغني فيها الحال عن السؤال.
ولا ندري ماذا يريد حكام المسلمين بعد كل هذا التردي في جهالات التجارب؟ فالإسلام قد قسم الحكام إلى ثلاثة أقسام:
حاكم مسلم عادل يحكم بكتاب الله، وهذا قد أجمع علماء المسلمين على وجوب السمع والطاعة له وحرمة الخروج عليه أو نزع اليد من طاعته.
حاكم ظالم أو فاسق، أصل الحكم عنده بكتاب الله ولكنه ملابس لبعض الظلم أو الفسق لشبهة أو لشهوة فالجمهور أجمع على أنه لا يخرج عليه مخافة الفتنة، وقال بعضهم بالخروج على أي حال، واشترط آخرون أن تكون المصلحة راجحة على المفسدة.
حاكم كافر أو طرأ عليه كفر وهو الذي لا يحكم بما أنزل الله المستبدل للشرائع، وهذا يجب الخروج عليه وقتاله وخلعه إجماعاً وتنصيب إمام مسلم بدلاً منه يحكم بكتاب الله.
فلينظر حكام المسلمين إلى أي هذه الأقسام ينتمون قبل أن يأتي يوم ولا ينفع فيه مال ولا بنون.
أما عن الدار التي نعيش فيه، فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الفتاوى عندما سئل عن بلد تسمى "ماردين" كانت تحكم بحكم الإسلام ثم ولى أمرها أناس أقاموا فيها حكم الكفر بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحق ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه".
إنه ليس أمام الأمة الإسلامية كي تستعيد مجدها سوى أن تنسلخ من تحت إمرة الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله. المستبدلين للشرائع لنظموا إلى صف الحركة الإسلامية باذلين المهج والأرواح والأموال لاستعادة الخلافة الإسلامية فتتجمع الأوصال بعد التفكك والانفصال، فيعود للإسلام هيبته ويصان لكل مسلم حرمته.
الجماعات الإسلامية: لقد كان من الضروري تحت وطأة الغزو الاستعماري، وغياب الخلافة عن قيادة البشرية، وانغماس الأمة الإسلامية في غيابات الحضارات الزائفة، أن تهب جماعات من المسلمين المتحمسين لدينهم إلى مواجهة ذلك الاحتلال والتحلل الأخلاقي في محاولة لانتشال الأمة واسترداد ما سلب من أمجاد الآباء والأجداد. فتحقق بذلك الأمر
القدري المتمثل في وجود الطائفة الظاهرة على الحق حتى قيام الساعة.... وهكذا بدأت رحى المعركة تدور بين الجماعات الإسلامية وبين الحكومات الباطلة. بيد أن هذه الجماعات قد قطعت خطوات لا يستهان بها نحو الهدف الذي يسعى الجميع لاستعادته، إلا أن هناك بعض العقبات التي حالت دون بلوغ الغايات، ألا وهو التفوق والتقدم العلمي الذي حظي به أعداء الإسلام فخلبت الأبصار وتشتتت الإفكار فانحرف الجهال من التيار.
وفي المقابل وعلى الجانب الآخر بقيت الجماعات الإسلامية على تعددها وتشتتها لخلافات في تقدير الإمكانيات وتقييم الواقع واختيار الوسائل، فإن جاز للبعض أن يفترق من أجل خلاف في الاعتقاد يوجب المفارقة، فالواجب في حق المتفقين الاتحاد.
كما أن فقدان النصح الواجب بين الإخوة التوائم أحدث الجفوة الموسعة للفجوة والمقعدة عن النصرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة _ثلاثاً _ قلنا لمن يا رسول الله قال: لله_ عز وجل_ ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم"(41).
ولعل في الاتفاق على التصور الفكري والحركي المخرج الذي يجمع الله به الشمل، فيتوحد الصف وتتحد الرؤية المستقبلية الصالحة للتطبيق في ضوء الاستفادة من التجارب السابقة والإمكانيات والطاقة المتاحة.قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون عن الإثم والعدوان"(42).
إن البديل الإسلامي المنشود المتمثل في الخلافة الإسلامية على نهج النبوة، أصبح ضرورة لإنقاذ العالم من جاهليته، وأمسى عبئاً ملقى على عاتق الجماعات الإسلامية تترنح به كواهلهم التي أعيتها الفرقة والاختلاف وإن كان الهدف واحداً والغاية سامية.
البديل: لقد تعرضنا في الفصل السابق إلى الواقع الذي نعيش فيه وبينا فساد وإفساد رغم محاولة البائسين لإضفاء هالة مزعومة على تلك التي تسمى الحضارة العالمية، إلا أنه غدا من البديهيات أنها أصبحت كالمريض الذي في النزع الأخير وأوشك أن يفارق الحياة فنقلوه إلى غرفة الإنعاش في محاولة يائسة لإنقاذ حياته، فأشبعوا جسده بالأمصال والعقاقير دون جدوى فلقد حانت المنية ولا راد لقضاء الله.
لقد أصبح جلياً لبسطاء الناس أن النظام الحاكم قد أعرض عن الإسلام وارتمى في أحضان تلك الحضارة المزعومة، فطبق النظام الاشتراكي تارة والنظام الديمقراطي تارة أخرى في حقبة يسيرة من الزمان فلم يزده ذلك إلا خسراناً في الدنيا والآخرة: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى. قال ربي لما حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا ونسيتها وكذلك اليوم تنسى}(43). لقد توصل المفكرون إلى أن المنهج الإسلامي هو النظام الصحيح الذي استطاع أن يوازن بين الفرد والمجتمع في الحقوق والواجبات في غير تفريط ولا إفراط، وليس هذا بغريب عنا بعد أن أضناهم البحث وأعيتهم التجارب، فهم لم يأتونا بجديد، فإن المنهج الإسلامي الذي نعتقده قد أخبر عن ذلك منذ أربعة عشر قرناً من الزمان حيث يقول رب العزة: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون}(44). وهكذا، فلقد أصبح الحل الإسلامي هو البديل الذي يفرض نفسه وتتلقاه النفس الزكية بالقبول ففيه صلاح الدنيا والدين، وفيه حل لكافة المشاكل المعقدة التي عجزت الأنظمة الباطلة على حلها، إنه طوق النجاة الذي يفتقده العالم كله وهو يصارع الأمواج المتلاطمة وقد خارت قواه، إنه المعبر إلى جنة عرضها كعرض السماء والأرض.
إن الإسلام بحاجة إلى دولة تحمي العقيدة وتقيم الشعائر في طمأنينة وتربي النشء على الآداب والأخلاق القومية، وتطبق القوانين والتشريعات الإسلامية ليسود العدل ويعم الخير، فتنطلق الجيوش للجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فلا يستقيم وفطرة الإنسان أن يكون هناك فصل بين التصور الاعتقادي والنظام الاجتماعي، فبدون الدولة يفقد المسلمون الحامي والموجه والمربي والمرشد الذي يقودهم إلى الطريق الصحيح: {أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم}(45).
وعلى هذا، فنحن نرفض التطبيق المشوه للشريعة الإسلامية على غرار الذي حدث في السودان، إذ ربما تسعى بعض الحكومات العربية إلى تطبيق بعض الحدود والقوانين الإسلامية لإنقاذ نظامها الهرم، وهو في رمقه الأخير ليلتقط بعض الأنفاس قبل أن يلقى مصيره المحتوم على أيدي رجال الحركة الإسلامية، الذين وعوا درس السودان وحذروا منه فور وقوعه، ولن تنجح الحكومات العربية الراهنة بإذن اله تعالى في احتواء الحركة الإسلامية بهذه المحاولة، أو بالإيقاع بين فصائلها وإثارة الخلاف حولها، فإن أقدمت عليها فموقفنا الاعتقادي منها سيكون كما هو لا يتغير بحال إذ لم يخرجوا علينا بجديد، فطبيعة المنهج الإسلامي لا تقبل التجزئة، قال تعالى:{أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب}(46). إذن، فنحن نريدها دولة إسلامية على نهج النبوة ولا نقبل التجزئة أو الترقيع ولن نستجيب لدعوة بعض الناس الذين يطالبون فيها الحركة الإسلامية بطرح تصورات إسلامية لحل القضايا والمشاكل المعقدة التي يعج بها الواقع الأليم الذي نعيشه، فتارة يقولون لنا ما هو الحل في الأزمة الاقتصادية، وأخرى عن أزمة المواصلات وثالثة عن الإسكان ورابعة وخامسة.... ثم حينما لا نجيبهم بمشروع تفصيلي لكل أزمة يتصورون أننا لا نملك البديل، إن العبث الذي ليس بعده عبث أن تتقدم الحركة الإسلامية بالحلول الجزئية لتعاون النظام الباطل، وهي التي عقدت العزم على استئصاله جذريا، فضلاً عن أ، المنهج الإسلامي منهج متكامل الجوانب والأرجاء وتظهر فاعليته المطلقة في معالجة القضايا الراهنة التي هي نتاج هذه الأنظمة العفنة من خلال تطبيق الإسلام كاملاً غير منقوص، تاماً غير مجزوء ولا مؤجل. في هذه الحلة وفقط، ستختفي كل التعقيدات التي يشكو منها الجميع، فلا عجب من أن يكون حل الأزمة الاقتصادية ليس في خطة تكون عجافاً على من بعدنا، بل إنه يكون مثلاً في إلغاء النظام الربوي فيخرج المجتمع بذلك من تحت طائلة، الآية: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم....}(47).
إن خصائص ذلك البديل الذي نسعى لإحلاله، إنما تكمن في كونه منهجاً ربانياً من عند الخالق لا يضارعه منهاج، فهو منهج ثابت أصوله راسخة معالمه بغير تبديل ولا تغير، ورغم ذلك فهو صالح للتطبيق في كل آونة لما يتميز به من مرونة تامة في معالجة القضايا المعاصرة بما لا يخل بذلك الإطار الذي حددته تلك القيم والأصول الثابتة. هذا ومما لا شك فيه أن المنهاج الوضيعة تقف أمام كثير من القضايا والمشكلات، معلنة عجزها وقصورها عن المعالجة المتكاملة الجوانب والأبعاد، إلا أنه في المقابل تجد أن المنهج الإسلامي يتميز أيضاً بشمول النظرة وعمق الفكرة ومثالية الواقع وتوازن الحركة وإيجابية التفاعل بين أطرافه، فتكون حركة الإنسان كلها مرتبطة بالخالق سبحانه وتعالي وعلى أساس من التوحيد الخالص: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}(48).
إن الذي ينبغي على الحركة الإسلامية أن تعده هو ذلك القدر الكافي واللازم من التصورات والمعتقدات الإسلامية في القضايا الكلية، وكذلك من الأسس النظرية لأنظمة الدولة الإسلامية وهياكلها التنظيمية، التي ممكن معها أن تسير أمور الدولة وإدارتها فور قيامها ولتثبيت أركانها طبقاً لمتطلبات الخطة العامة للتغيير، وما تتضمنه من تصورات مبدئية في شتى المجالات. ونرى انه لا يخرج عن دائرة الوجوب ذلك القدر من البديل الذي أشرنا إليه آنفاً، ولا نرى صواب تأجيله أو استبعاده من الخطة العامة، حيث لا يستقيم البتة الوصول إلى السلطة القائمة والإطاحة بها واستقرار الأمور إلا أن تكون الحركة جاهزة بالتصورات التي ترسيها على الفور في الواقع المتعطش لدينه المتلهف لفطرته وإلا فسيحدث التخبط الذي لا تحمد عقباه لا يعرف إلا الله مداه.
الطريق: .... بعد أن تعرضنا في الفصول السابقة إلى الأسس التي ترتكز عليها حركتنا، وحددنا موقفنا من الواقع الأليم الذي نعيش فيه، ثم تناولنا بإيجاز ما ينبغي أن نعده من بديل إسلامي محتم إحلاله محل الأنظمة الجاهلية، أصبح لزاماً علينا أن نرسم الطريق الذي ينبغي علينا أن نسلكه إلى غايتنا العظمى، مستخدمين الوسائل والأساليب المشروعة لتحقيقها، فلا نقول بالقول الباطلة "إن الغاية تبرر الوسيلة" لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. فلم يترك الإسلام وسائل تحقيق أهدافه دون تحديد بل إنه أرسى دعائمها في دقة وإتقان لا مثيل لهمها.
والطريق محفوفة بالمخاطر والمتاعب، والإيذاء فيها واقع لا محالة، والأجر لمن طرق الباب ثابت بلا ريب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انتدب الله عز وجل لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي ولوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل"(49).
ونحن كحركة شمولية في تناولها للإسلام في مجال الأخذ أو التطبيق، لا نرى صواب قصر وسائل تحقيق الأهداف على أي من السبل المشروعة كالجهاد أو الدعوة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإن كنا قد ارتضينا إطلاق لفظ الجهاد على جماعتنا باعتبار أن الجهاد قضية محورية لحركتنا _ تعارفت علينا الناس به _ لا يعني اقتصار حركتنا على الجهاد فحسب وإنما لنا منهجنا في الدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالكل له مجاله الذي يلزم أعماله فيه فلا نعطل واجبنا شرعياً من هذه الواجبات بدعوى قيام غيرنا به ونحن نوقن بعدم استيفائه لهذا الواجب، أو بدعوى عدم بلوغ حد الاستطاعة أو القدرة بتقرير من هو ليس أهلاً لتحديدها، بل يتم ذلك بمقتضى فتاوى العلماء الأجلاء الثقات لحسم قضايا الحركة المتعلقة بتعطيل واجب لمصلحة شرعية أعلى، تقتضيها طبيعة العمل التنظيمي.
الأسلوب: إن المنهج الانقلابي هو ذلك الطابع الذي يصبغ حركة جماعتنا نحو تحقيق غايتها السامية وذلك بالثورة الإسلامية على النظم الجاهلية القائمة في البلاد. واقتلاع جذور الباطل وإحداث التغيير الشامل في كل جوانب الحياة بإحلال البديل الإسلامي، رافضين بذلك كل الحلول الجزئية الرامية إلى التدرج في التطبيق أو تطبيق الحدود فقط، فقد قال تعالي: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك إلا حزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون}(50).
كما أننا نرفض المشاركة في السلطة الباطلة القائمة في البلاد لعدم مشروعية ذلك، كالانضمام إلى الأحزاب السياسية الراهنة أو تكوين حزب ديني يطالب بتطبيق الشرعية الإسلامية وسرعان ما تبدد مطالبه مع تصفيق الأغلبية الجاهلة في مجلس الشعب.
الوسائل: وترتكز الوسائل التي تحدد لنا معالم الطريق على عملتين هامتين لا غنى عنهما، فهما لا تتجزآن بل تسيران جنباً إلى جنب، ففي الوقت الذي تقوم فيه الجماعة بالبناء والتكوين تتحرك بما يتم بناؤه نحو الهدف، فلا صحة للفصل بينهما على مستوى الجماعة أو القول إننا في مرحلة بناء أو تربية فقط، وإنما ذلك يكون على مستوى العضو نفسه حيث لا يدفع لقتال قبل تلقيه فنون ولا إلى الدعوة قبل أن يتحلى بمواصفات الداعية، ولا إلى أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر إلا إذا كان بما يأمر به أو ينهى عنه، بل إن تعلم ذلك قبل الخوض فيه واجب لا بد من تحصيله للنهوض بالمهام والتكاليف المنوطة بالأعضاء.
1- البناء والتكوين: تشتمل هذه العملية على الآتي:
التعليم: ويتم ذلك من خلال تعليم العضو بمدرسة الجماعة أو بالقراءة الفردية والتوجيه إذا دعت الضرورة، ولقد روعي في البرنامج التعليمي القدر اللازم من العلوم المختلفة وكذا منهجية المواد والتدرج في تعليمها وتقسيم الدارسين إلى مستويات علمية تحقيقاً للاستفادة من الاستغلال الكامل للوسائل العلمية الحديثة، على أن يجتاز العضو الاختبار النهائي في هذه العلوم ولا يسمح له بالانتقال من مستوى إلى الذي يليه إلا بعد إجازته: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}(51).
وتنقسم هذه العلوم إلى علوم شرعية وواقعية:
v التعليم الشرعي: حيث يتم تعليم العضو الواجبات التي تصح بها العقيدة والعبادات والمعاملات،v ويعطي هذا القدر لحمايته من الشطط وإعانته على فهم الإسلام فهماً سلفياً صحيحاً مع بناء شخصيته بناءً إسلامياً قويماً ويتم ذلك وفق منهج للعلوم الشرعية يقره العلماء.
v التعليم الواقعي: حيث يتم تعليم العضو الحد الأدنى من العلوم الواقعية المشروعة والنافعة للحركة الإسلامية ليتمكن من الإدراك الصحيح للواقع الذي يعيشه وأهدافه التي يسعى لتحقيقها،v وطبيعة الطريق الذي يسلكه والصعوبات التي تواجهه،v وذلك وفق منهج يضعه المتخصصون في المجالات المختلفة.
التربية: وهي تلك العملية التي يتم من خلالها إعداد الإنسان الصالح، الإنسان الأتقى الذي يعبد الله، الإنسان المتبع لهدى الله تبارك وتعالى. وبالجملة هو الإنسان الذي يفي بشرط الخلافة في الأرض: {الذين إن مكانهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}(53). وتنقسم التربية إلى تربية روحية وتربية البدن:
التربية الروحية: وهي ذلك الزاد الذي يعين العضو على تحمل المشاق، وذلك يربط العضو بربه ربطاً قوياً يدفعه للجهاد والبذل والعطاء ويتم ذلك بإعطاء العضو كفايته من الرقائق وتعويده على القيام والصيام والإنفاق والذكر وكل ما يساعده على تدعيم وتقوية كافة الجوانب الروحية في شخصيته.
التربية البدنية: المقصود بها استنفاد الطاقة الجسمية والحيوية في الاتجاهات العليا، لا يقصد إنهاكها ولا كبتها ولكن يقصد توجيهها وضبطها والاستفادة منها، فالإسلام يوجه الرجال إلى الجندية حيث يقوي البدن ليتحمل مشاق الجهاد في سبيل الله، ويوجه النساء إلى تدبير المنزل وهو رياضة عالية. كما أن الإسلام يضبط الدوافع الفطرية في الجسم فلا إسراف في طعام أو شراب أو شهوات.
3) الإعداد: هو مجموعة الأعمال التي تقوم بها قيادة الجماعة وأجهزتها التنفيذية المختصة بغرض إعداد الأعضاء بكافة مستوياتهم ليكونوا قادرين على تنفيذ المهام المنوطة بهم،4) مع توفير الإمكانيات التي تفي باحتياجات الخطة العامة في هذا الشأن: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم}(53).
إعداد قتالي: وهو إعداد العناصر الصالحة للقتال وتوفير العدة اللازمة لها طبقاً لخطة الخروج العام التي أقر رجحانها أهل الاختصاص، والعمل على اكتساب المهارات والخبرات القتالية عملياً في الداخل والخارج، على أن تتخذ كافة الإجراءات الأمنية التي تضمن سلامة هذا الإعداد في سرية تامة.
إعداد المختصين: وفيه يتم انتقاء الأعضاء الذي يصلحون لتلقي التعليم على مستوى أعلى، بعد أتمامهم المناهج الأساسية للجماعة، وذلك لإعدادهم كمتخصصين لتناط بهم مهمة تنظيم وتقييم وتطوير حركة الجماعة قبل التمكين ومهمة إدارة الدولة بعد التمكين بإذن الله تعالى، باعتبارهم اللبنات الأولى لحين إمكان تحقيق الاستفادة من جميع طاقات الدولة وتوظيفها طبقاً للقواعد الشرعية في التقديم والتأخير.
2- الحركة: وهي مجموعة من الأعمال التي تقوم بها الجماعة للوصول إلى الغاية العظمى التي تسعى إليها،3- وذلك بالسبل المشروعة المتمثلة في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله:
1) الدعوة: وهي فرض على الكفاية إن قام بها البعض بما لا يخل بحقيقتها سقطت على الشكل وإلا فهو متعين في حقهم جميعاً،2) فإن لم يفعلوا باء المتأهل منهم للدعوة وغير بالإثم.
ترى جماعة الجهاد الإسلامي أن الدعوة إلى الله واجب متعين عليها، منوط بالقدرة، يسقطه اختصاص طائفة منها بذلك. ولا تصل الكافية من غيرنا في زمان كثر فيه الخبث والشرك والصد عن سبيل الله وعلقت بأفهام الإسلام كثير من الشوائب، فضلاً عن إننا بحاجة إلى استثمار نتاج هذه الدعوة بتوظيف من يستجيب لها في بنيان الجماعة، وعلى هذا فإنه لا يستقيم قيام غيرنا بذلك لانتفاء إمكان تحقيق هذه المصلحة.
والأصل في الدعوة العلانية، وقد يلجأ الدعاة إلى الأسرار بها لمن يغلب على ظنهم الاستجابة لها أخذا بالحيطة والحذر من أعداء الله المتربصين بالإسلام وأهله، فلا مناص من وجوب الدعوة السرية حينئذ، كما لا يجوز لداعية أن يتعدى حدود الشريعة الإسلامية بدعوى مصلحة الدعوة أو حكمتها فيوافق الناس على أهوائهم أن يتنازل على مبادئ ومعتقداته ابتغاء اجتذاب الخلق إلى ما يدعو إليه إذ: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء}(54).
كما أنه لا يجوز الإعراض عن مسلم أو حتى كسر خاطره بغية تحقيق الغايات المشروعة، ولعل في عتاب رب العباد لرسوله صلى الله عليه وسلم على إعراضه عن ابن أم مكتوم رضي الله عنه مؤجلاً إياه لوقت آخر ومنشغلاً عنه بمناقشة الكفار أملاً في استجابتهم، خير دليل على دقة الشريعة المتناهية في ضبط أساليب ووسائل تحقيق الأهداف. وينبغي أن لا يتصدى لمهمة الدعوة منا إلا لمن أجازته الجماعة لهذا الأمر وتوافرت فينه شروط الداعية التي أقرها الفقهاء.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهو الأمر بكل ما أمر به دين الله عز وجل والنهي عن كل ما نهي عنه بدعوة غير المسلم لاعتناق الإسلام، والعصاة من المسلمين إلى التزام شرع الله:{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون}(55).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي أنزل الله به كتب وأرسل به رسل وهو من الدين"(56) ويقول: "وهو فرض على الكفاية ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره"(57). ويقول: "فإذا أقام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلال"(58)، ولا صحة لشرط المنكر مأذوناً من الإمام فالثبات من عادات السلف قاطع بالاستغناء عن التفويض. وهو فرض عين على من رآه وحده. قال الإمام النووي في شرح حديث: "من رأي منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه"، قال: "وأما قوله فليغيره فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة، وقال: ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه لا عذر ولا خوف، ثم إنه قد يتعين كما إذا كان لا يعلم به إلا هو أو لا يتمكن من إزالته إلا هو"(59).
والساكت على المعصية بغير عذر شريك في الإثم، فيقول الإمام الشوكاني: "والحاصل أنه لا فرق بين فعل المعصية وبين من رضي ولم يفعلها وبين من لم يرض بها لكن ترك النهي عنها مع عدم وجدود ما يسقط ذلك عنهم"(60). والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أوجب على الحكام من غيرهم لما لديهم من القوة والمنعة، فيقول الإمام ابن تيمية: "وذوو السلطان أقدر على غيرهم فإن مناط الوجوب هو القدرة فيجب على كل إنسان بحسب قدرته"(61)، والإثم في حق القادر على الأمر والنهي ولم يفعل أشد، يقول الإمام الشوكاني: "من كان أقدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان ذنبه أشد وعقوبته أعظم ومعصيته أفظع، بهذا جاءت حجج الله وقامت براهينه نطقت به كتبه وأبلغت إلى عبادة رسله"(62). وهو لا يختص بحاكم دون شعب بل هو في أعناقهم جميعاً فكما يجب على الدولة الإسلامية تعيين المحتسبين ومحاسبة المخالفين يحق للرعية مؤاخذة حكامهم في الحدود التي أمر بها الشرع.
واشترط الفقهاء في من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون مسلماً مكلفاً قادراً، وأن يتحلى بآداب منها الإخلاص والعلم والصبر والحلم والرفق وقطع العلائق وتقليل الطمع عن الخلائق قال بعض السلف: "لا يأمر بالمعروف إلا رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه حليم فيما يأمر به حليم فيما ينهى عنه فقيه فيما يأمر به فقيه فيما ينهى عنه"(63). وان يراعي عند الأمر والنهي الأخذ بمراتب التغيير "أولها العترف، وثانيها التعريف، وثالثها النهي بالوعظ أو النصح والتخويف بالله، ورابعها التعنيف والزجر بالخشن من القول في غير فحش، وخامسها المنع بالقهر ككسر الملاهي وإراقة الخمر، وسادسها التخويف والتهديد بالضرب، وسابعها مباشرة الضرب باليد والرجل ونحو ذلك مما ليس بسلاح، وثامنها أن لا يقدر عليه بنفسه ويحتاج فيه إلى أعوان يشهرون السلاح"(64).
كما على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يقدر المصالح والمفاسد المترتبة على فعله قبل الإقدام، لا يعتد بقول الجبان أو المتهور وإنما بقول صاحب العقل السليم وأن تكون المصلحة فيه راجحة فيقول ابن تيمية: "فالواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به وأن ترك واجباً وفعل محرماً"(65)، ويقول: "فإن الأمر والنهي _ وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة_ فينظر في المعارض له فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به يل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته"(66) أما في حالة اشتباه الأمر فيقول شيخ الإسلام: "وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى تبين له الحق فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية وإذا تركها كان عاصباً فترك الأمر الواجب معصية وفعل ما نهي عنه من الأمر معصية وهذا باب واسع ولا حول ولا قوة إلا بالله"(67).
وهو صفة من الصفات الملازمة للمؤمنين، فيقول الإمام الغزالي: "لقد نعت المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المنعوتين في الآية: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم}(68).
ترى الجماعة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب متعين على أفرادها حال رؤيتهم للمنكر حتى يزول، وأن بعض المنكر واجب لا رخصة فيه، والتغير بحسب القدرة، ولا رخصة في الترك معها إلا للعاملين في مواقع معينة ويترتب على الإنكار مفسدة كبرى كانكشاف الأمر أو إهدار للعمل التنظيمي الذين ينتمون إليه، فإن أمكن الهجر بلا مخاطر لزمهم ذلك.
ولا يتصدى منا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا من توفرت فيه الشروط المعتبرة لدى الفقهاء وأن لا يتخطى مرتبة من مراتب الإنكار إلا وأن يمر بها، فربما استجاب المنكر عليه فتحقق المصلحة بلا مشقة. ولا بد من توخي الحذر من الوقوع في مذلة الغرور بالعلم أو موقع الريادة من الآخرين بأمره ونهيه ومن يفعل ذلك فهو أحق بالاحتساب.
كما لا يصح لأحد إرسال أفراد أو مجموعات إلى أماكن بعينها لاستكشاف المعاصي المستترة وتغييرها إلا بيقين يتعين بشهادة العدول. كما يجوز لنا التغيير باليد مع العصاة بغير مفسدة أكبر وبدون تفويض من الحكام إذ شرط الإذن محجوج بفعل السلف، فضلاً عن أنه لا ولاية لحكام اليوم علينا لخروجهم عن دائرة الإسلام بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم واستبدالهم للشرائع، فهم أحق بالتغيير من غيرهم والوثوب عليهم من باب إنكار المنكر واجب متعين في عنق المسلمين حتى تتحقق الإزالة وإلا أثم الجميع كل بحسب قدرته.
الجهاد في سبيل الله: هو ذروة سنام الإسلام، فيقول الإمام السرخي: "وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهاد سنام الدين وفيه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وهو صفة هذه الأمة وفيه تعرض لأعلى الدرجات وهو الشهادة"(69)، "وقيل إنه من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(70) بل هو أعلاها(71).
وهو بذل الجهود في سبيل الله بالتضحية بالنفس والمال حتى تكون كلمة الله هي العليا، وهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وقبل أن يقوم به البعض هو فرض عين على كل مكلف.
وهو صفة من صفات المؤمنين، يقول القرطبي: "إن أخص أوصاف المؤمنين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه"(72)، ويقول ابن تيمية: "فمعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف الذي أمرنا به"(73).
ولقد فضل المولى سبحانه وتعالى أمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن ستائر الأمم لجهادنا في سبيل الله، يقول ابن تيمية: "بين سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس فهم أنفعهم لهم وأعظمهم إحساناً إليهم، لأنهم كملوا الناس بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر من جهة الصفة والقدر حيث أمروا بكل معروف ونهوا عن المنكر كل احد، وأقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم وهذا كمال النفع للخلق"(74).
ولا صحة بأن الجهاد قد شرع للدفاع عن الإسلام دون ملاحقة الكفار وغزوهم في عقر دورهم باتفاق أئمة المسلمين، يقول الشيخ أبي الطيب صاحب الروضة الندية: "وأما غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر وحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية أو القتل فهو معلوم من الضرورة الدينية، ولأجله بعث الله تعالى رسله وأنزل كتبه وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعثة الله سبحانه إلى أن قبضه إليه جاعلاً لهذا الأمر من أعظم مقاصده ومن أهم شئونه وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها المقام ولا لبعضها وما ورد من مواد عنهم أو فقي تركهم إذا تركوا المقاتلة ذلك منسوخ باتفاق أئمة المسلمين بما ورد من إيجاب المقالة لهم على كل حال مع ظهور القدرة عليهم والتمكن من حربهم وقصدهم إلى ديارهم"(75).
وقتال الحاكم الكافر من الجهاد في سبيل الله، فيقول الإمام الدهلوي في الحجة البالغة" :....وبالجملة فإذا كفر الخليفة بإنكار ضرورة من ضروريات الدين حل قتاله بل وجب وإلا لا، وذلك لأنه حينئذ فاتت مصلحة نصبه بل يخاف مفسدة على القوم فكان قتاله من الجهاد في سبيل الله"(76).
ولا صحة لإذن الوالدين إذا ما تعين الجهاد. ولا حجة لمن ادعى أن الجهاد لا يكون إلا مع الخليفة الممكن، وهو محجوج بإجماع الفقهاء على وجوب نصب الخليفة وهذا لا يتم إلا بقتال الطواغيت وجهادهم، إذ إنهم لا ينخلعون البتة عن سلطانهم بغير قتال كما أن أقوال كل من إمام الحرمين وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن قدامة قاطعة بعدم تعطيل الجهاد عند شعور الزمان عن الإمام.
وتجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال إما الإسلام أو الجزية أو القتال. كما يجوز تبيت الكفار والانغماس في صفوفهم ومخادعتهم في غير نقض للعهد واستخدام المعارضين معهم دون الكذب الصراح، ولا تجوز مهادنتهم أو مسالمتهم أو القعود عن قتالهم إذا ما توافرت أسباب القوة لذلك، وإلا فيحرم الإقدام على قتالهم بغير مظنة الكناية باتفاق جمهور الأمة. فيقول العز بن عبد السلام: "فإذا لم تحدث الكناية وجب الانهزام لما في الثبوت في فوات النفس مع شفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة"(77).
والجهاد غالباً ما يفضي إلى الشهادة في سبيل الله وفي غاية ما يتمناه المسلم، ففيها الملاذ حيث المغفرة من الذنوب والفوز بجنات النعيم: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم}(78).
وترى جماعة الجهاد الإسلامي:
- إن الجهاد ماض إلى قيام الساعة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال عصابة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال"،- وإنه فرض على الكفاية إن قام به البعض سقط عن الباقين وهو في حق الجميع متعين حتى تقوم به طائفة وإلا أثموا كل بحسب قدرته.
- وإن الخروج على الحكام الكفرة وقتالهم وخلعهم من وتنصيب إمام مسلم واجب بإجماع علماء المسلمين،- على كل مكلف منوط القدرة ولا يخرج أحد منهم عن دائرة الإثم إلا أن يقدم نفسه أو ماله للقيام بهذا الواجب حتى تتحقق الكفاية. ولا يجوز الاعتقاد بأن وجود جماعة الجهاد الإسلامي في هذا الآونة يسقط فريضة الجهاد عن أعيان المكلفين،- فيركنوا إلى الدنيا ويغضوا عنه الطرف وهو في حقهم قائم والإثم بهم لاحق،- إن لم ينهضوا باستكمال حد القدرة اللازمة للإطاحة بهذا النظام الباطل طبقاً لما يقرره أهل الخبرة والاختصاص من حيث العدة والعدد،- ورجحان الخطة العامة والإقدام عليها مرهون بغلبة الظن التي يقررها من لهم أهلية تحديد ذلك. فإن أعوزت القدرة_ كما في حالنا اليوم _ لزم الاجتماع وجوباً بلا ريب في حدود مقتضى ما تقرره سلفيتنا إذ لا عذر للجماعات الإسلامية العاملة في الساحة والتي تتفق في الاعتقاد معنا من أن يستفرغوا الجهد في السعي للاجتماع والوحدة في ما بيننا،- حتى تتم الواجبات الملقاة على عاتق المسلمين: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}(79).
خاتمة
بعد أن أوضحنا في ما تقدم الخطوط العامة لمنهج جماعة الجهاد الإسلامي وقد تمثلت في الأهداف التي نسعى إلى تحقيقها والأسس التي نرتكز عليها، ورؤيتنا للواقع الذي نعيش فيه وتصورنا للبديل الإسلامي الذي نسعى لإحلاله راسمين الطريق الذي نسلكه لتحقيق الغاية المنشودة، بقيت لنا كلمة لا يفوتنا أن نقولها حتى تتم الفائدة.
إن الذي ينبغي عمله بعد ذلك يتوقف عند حد الإطلاع على هذه الوريقات وقراءتها، وإنما لا بد وأن يتعدى الأمر إلى تفجير الطاقات الكامنة واستغلال الإمكانيات المتاحة فتنبثق عنها الخطة العامة التي يقوم عليها أهل العلم والخبرة في شتى المجالات، متضمنة تخصيص المهام وتوزيع المسؤوليات وتحديد أساليب التنفيذ وتوقيتاتها طبقاً للإمكانيات المتيسرة مع تحقيق الضبط الشرعي لكافة جوانبها بإقرارها من علمائنا الأجلاء. كما أنه لا بد من إيجاد الكيان الذي تتوافر فيه الشروط والمواصفات ولديه القدرة (قادة وجنوداً) على القيام بتبعات هذه الخطة من خلال الهيكل التنظيمي المناسب لطبيعة المهام العظام الملقاة على عاتقه.
وأخيراً، فنحن ندعو إخواننا الكرام قادة العمل الإسلامي للتفاهم حول هذا الطرح الذي قدمنا خطوطه العريضة، فإن وفق الله بالقبول فقد تمت الوحدة المرجوة بإذن الله تعالى وإن وقع الخلاف حول نقاط معينة فعلينا بقول الله عز وجل: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيراً وأحسن تأويلاً}(80).
فإن أشكل علينا فلنحكم إلى العلماء الثقات الإثبات ممن يرضى الجميع حكمهم وهكذا... فلا ندع باباً لاجتماع الحركة الإسلامية في كيان واحد إلا وطرقناه، وطبقاً لما تقرر سلفيتنا في حدود الاجتماع والاختلاف حتى نكون حركة قوية على مستوى تحقيق الأهداف.
ونحن بصدد هذه الدعوة لا ندعي لأنفسنا حق قيادة المسيرة بل نحن على استعداد لأن يتولاها غيرنا ممن لهم أهلية ذلك، إنها أمانة لن يقوم لها إلا من أعانه الله عليها، فهبوا نحو وحدة يكون فيها الخلاص من ذلك التمزق والشتات الذي يؤخر المسيرة ويعوق موكب النصر.
{واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}(81).
من إصدارات الجماعة الإسلامية
الإطار الطلابي لحركة الجهاد الإسلامي
1414هـ - 1994م