ثالثا: على مَنْ يجب التدريب العسكري ؟
قال ابن قدامة الحنبلي: [ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكورية والسلامة من الضرر ووجود النفقة]. ويضاف إلى هذا شرطان آخران: إذن الوالدين وإذن الدائن للمدين ، فيكون مجموع الشروط تسعة.
قلت: هذا إذا كان الجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد تسقط أربعة شروط من هذه التسعة وهي: الحرية والذكورية وإذن الوالدين وإذن الدائن، وتكون شروط وجوب الجهاد العيني خمسة فقط وهي: الإسلام والبلوغ والعقل والسلامة من الضرر ووجود النفقة، ويسقط كذلك شرط وجود النفقة وتصير الشروط أربعة فقط إذا دهم العدو بلاد المسلمين ولم يكن هناك خروج إليه، وهذا أحد مواضع الجهاد العيني.
وقد قرر هذا فقهاء المذاهب المشهورة، فمن الأحناف قال علاء الدين الكاساني: [فأما إذا عم النفير بأن هجم العدو على البلد، فهو فرض عين، يفترض على كل واحد من آحاد المسلمين ممن هو قادر عليه لقوله سبحانه وتعالى:{انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً}، فيخرج العبد بغير إذن مولاه، والمرأة بغير إذن زوجها، وكذا يباح للولد أن يخرج بغير إذن والديه]، وقال الرملي من الشافعية: [فإن دخلوا بلدة لنا وصار بيننا وبينهم دون مسافة القصر فيلزم أهلها الدفع حتى من لا جهاد عليهم من فقير وولد وعبد ومدين وامرأة]. وأمثلة هذه الأقوال لعلماء المذاهب كثيرة ومشهورة.
وقد خالف ابن حزم الجمهور في مسألة إذن الوالدين في جهاد العين، فقال لا يعتبر إذنهما في جهاد العين إلا أن يهلكا بخروجه، كأن لا يكون لهما عائل غيره، قال ابن حزم رحمه الله: [ولا يجوز الجهاد إلا بإذن الأبوين إلا أن ينزل العدو بقوم من المسلمين ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثا لهم، أَذِنَ الأبوان أم لم يأذنا، إلا أن يُضَيَّعا أو أحدهما بعده فلا يحل له ترك من يَضِيع منهما] فالله أعلم.
قلت: وما ذكره السادة الفقهاء من وجوب الجهاد العيني على المرأة فيه نظر، وقد يَظُن البعض أن هذه المسألة أجمع عليها العلماء أو هي قول جمهور الفقهاء، وليس الأمر كذلك.
فالذين قالوا بوجوب الجهاد على المرأة في كل مواضع الجهاد العيني، أخذوا هذا من القاعدة الفقهية القاضية بأن فروض العين تجب على كل مسلم مكلف (بالغ عاقل) بلا تفريق بين الذكر والأنثى. كما نقلته عن الكاساني من الأحناف والرملي من الشافعية.إلا أن النصوص الشرعية الخاصة بجهاد النساء تخالف هذه القاعدة ويجب الأخذ بها. وتفصيلها كالتالي:
روى البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه (باب جهاد النساء) عن عائشة «استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال جهادكن الحج». قال ابن حجر: [وقال ابن بطال: دل حديث عائشة على أن الجهاد غير واجب على النساء، ولكن ليس في قوله: «جهادكن الحج» أنه ليس لهن أن يتطوعن بالجهاد]، وفي رواية أحمد بن حنبل عن عائشة قالت: «قلت: يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ قال: جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة»، فهذا الحديث بَيَّن أن المرأة غير مخاطبة بالجهاد بدون تفريق بين ما هو فرض كفاية وما هو فرض عين. وكذلك لم يفرق الشراح (ابن حجر وابن بطال) بين الفرضين في حق النساء.
وقد كان الجهاد يتعين كثيرا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يَرِد إلينا نص ولو ضعيف في أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء بالقتال حتى نعتبر هذا النص مُخَصَّصا لحديث عائشة السابق.
فمن المواضع التي يتعين فيها الجهاد، إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير، ومن ذلك غزوة تبوك لم يستنفر النبي صلى الله عليه وسلم قوما دون قوم بل كان النفير عاما بدلالة قوله تعالى في شأن هذه الغَزَاة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}، ومعلوم أن الخطاب ب{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يشتمل الرجال والنساء، إلا أن النساء لم يخرجن في هذه الغزوة بدليل قول علي بن أبي طالب ـ لما استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة في هذه الغزوة ـ قال علي (أتخلفني في النساء والصبيان). وهذا يدل على أن النفير العام لا يشمل النساء، وبالتالي يبقى حديث عائشة السابق على عمومه دون تخصيص.
وأيضا من المواضع التي يتعين فيها الجهاد، إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم، وهذا حدث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق، قال تعالى:{ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}، ولم تخرج النساء للقتال في هذه الغزوة بل جُعِلْن في الآطام والحصون.
وقول ابن قدامة الحنبلي مشعر بهذا قال: [مسألة “وواجب على الناس إذا جاء العدو أن ينفروا المقل منهم والمكثر، ولا يخرجوا إلى العدو إلا بإذن الأمير، إلا أن يَفْجَأهُم عدو غالب كَلَبَه فلا يمكنهم أن يستأذنوه” قوله المقل منهم والمكثر: يعني به والله أعلم الغني والفقير، أي المقل من المال ومكثر منه، ومعناه أن النفير يعم جميع الناس ممن كان من أهل القتال حين الحاجة إلى نفيرهم لمجيء العدو إليهم ولا يجوز لأحد التخلف إلا من يُحتاج إلى تخلفه لحفظ المكان والأهل والمال....]. فقول ابن قدامة (لحفظ المكان والأهل) مشعر بأنه ليس على النساء خروج إذا دهم العدو البلدة.
وكذلك قال ابن تيمية: [ونظيرها: أن يهجم العدو على بلاد المسلمين، وتكون المُقَاتِلة أقل من النصف، فإن انصرفوا استولوا على الحريم. فهذا وأمثاله قتال دفع، لا قتال طالب، لا يجوز الانصراف فيه بحال. ووقعة أحد من هذا الباب، وقوله أقل من النصف أي جند المسلمين أقل من جند العدو، وقوله (فإن انصرفوا استولوا على الحريم) يدل على أنه لا يرى خروج النساء للقتال في هذا الموضع من مواضع الجهاد العيني.
وبهذا أقول بأن الجهاد لا يجب على المرأة في كل مواضع الجهاد العيني، وقد يجب في حالة واحدة وهي إذا ما داهم العدو بلدا وخلص إلى البيوت والنساء، فللمرأة أن تقاتله دفاعا عن نفسها وعمن معها. وقد روى مسلم عن آنس قال: «أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ اتَّخَذَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ خِنْجَرًا فَكَانَ مَعَهَا فَرَآهَا أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ أُمُّ سُلَيْمٍ مَعَهَا خِنْجَرٌ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا هَذَا الْخِنْجَرُ قَالَتِ اتَّخَذْتُهُ إِنْ دَنَا مِنِّي أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَقَرْتُ بِهِ بَطْنَهُ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ» الحديث. ومن هذا الباب أيضا ما فعلته صفية بنت عبد المطلب في غزوة الخندق، كما ورد في السيرة ـ إن صحت الرواية ـ.
ومع القول بعدم وجوب الجهاد على المرأة إلا في حالة معينة، إلا أنه يجوز لها أن تخرج متطوعة في الغزو بإذن الأمير، فقد روى مسلم عن آنس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سُليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فيَسْقين الماء ويداوين الجرحى) وروى مسلم عن مثله عن ابن عباس، وقيد الفقهاء بالمرأة الكبيرة ومنعوا الشابة والجميلة، قال ابن قدامة: (قال الخرقي: ولا يدخل مع المسلمين من النساء إلى أرض العدو إلا الطاعنة في السن، لسَقْي الماء ومعالجة الجرحى، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ).
تعليق