بسم الله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن :
وبعد ..
أورد الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقى فى ثنايا تفسير قَوْلِ اللهِ تَعَالَى (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) من (( تفسيره ))(1/448) : (( روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال أملي عليَّ عبدُ الله بنُ المبارك هذه الأبياتَ بطرطوس ، وودعتُه للخروج وأنشدها معي إلى الفضل بن عياض في سنة سبعين ومائة ، وفي رواية سنة سبع وسبعين ومائة :
يا عابدَ الحرمين لو أبصرتْـَنا ... لعلمتَ أنَّكَ في العبادةِ تلعبُ
مَنْ كانَ يخضبُ خدَّه بدموعِه ... فنحورنُـا بدمـائِنا تَتَخْضَبُ
أوكان يتعبُ خيله في بـاطل ... فخيـولنا يوم الصبيحة تتعبُ
ريحُ العبيرٍ لكم ونحنُ عبيرُنا ... رَهَجُ السنابكِ والغبارُ الأطيبُ
ولقد أتـانا مـن مقالِ نبيِنا ... قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يَكذبُ
لا يستوي غبـارُ أهلِ الله في ... أنفِ أمرئٍ ودخانُ نارٍ تَلهبُ
هذا كتابُ الله ينـطقُ بيننا ... ليسَ الشهيدُ بميـتٍ لا يكذبُ
قال : فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام ، فلما قرأه ذرفت عيناه ، وقال : صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ ، قال : قلت : نعم ، قال : فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا ، وأملى عليَّ الفضيل بن عياض قال حدثنا منصور عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيـل الله ؟ ، فقال : (( هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر ، وتصوم فلا تفطر ؟ )) ، فقال : يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت ثواب المجاهدين في سبيل الله ، أمَا علمت أن المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات )) اهـ .
هكذا أورد هذه الحكاية برمتها الحافظ أبو الفداء ، ولم يعلِّق عليها بشئٍ ! ، فأوهم صنيعُه ذا جماهرَ من الوعاظ والخطباء ، ممن يعتمدون على (( تفسيره )) ، ويحتجون بأقواله ، أوهمهم صدقَ هذه الحكاية ! ، فتناقلوها فى مجالس الترغيب والترهيب ، وعلى منابر الوعظ والتذكير ، وفى أهازيجهم وأناشيدهم ، ترغيباً فى الجهاد والمرابطة ، ولعلَّ أكثرهم لم ينظر ، ولو لمرة واحدة ، فى مصدر الحكاية ومخرجها ، اعتماداً على نقل الحافظ إيَّاها ، وسكوته عنها ، ولم تتمعر وجوهُهُم غيرةً على مقامات الرفعة ومراتب الإحسان ، وأفضلها ملازمة الحرمين الشريفين : مكة وطيبة ، زادهما الله تشريفاً وتكريماً ومهابةً وعزاً .
وكذلك أوردها بعض من ترجم للإمام الحجة الفقيه المجاهد عبد الله بن المبارك المروزى ، ومنهم الحافظ الذهبى فى (( سير أعلام النبلاء ))(8/412) ، والإمام أبو القاسم الرافعى القزوينى فى (( التدوين فى أخبار قزوين ))(3/236) .
ولا يُحصى من استروح إلى هذه الحكاية ، فأودعها عن رضاً واقتناعً كتابَه ، أو صدَّر بها مصنفَه . وجميعهم ، لعله لم يتسائل ما إسنادها ، وما صحتُه ، وما صحتُها ؟! ، ومشَّاها على ما بها من وهنٍ واقتراء وتجنىً على الإمامين السيدين : الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر الإمام القدوة الثبت أبو علي التميمي اليربوعي الخراساني المجاور بحرم الله المعظَّم ، وعبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلى المروزى علم المجاهدين شيخ الإسلام .
فما دلائل وهن هذه الحكاية ، وهل يجوز الجزم بنسبة هذه الأبيات المفتريات إلى الإمام السيد الجليل ابن المبارك ، وما حكاية هذه الأشعار التى حُشى بها ديوان الشعر المنسوب إليه ، وما موقف أهل التحقيق من هذا الديوان ؟ . هذا ما نرجو إيضاحه فى هذا البيان (( طعنُ القَنَا فى صدر مفترى : يا عابدَ الحرمين لو أبصرتْنَا )) .
أقول والله المستعان : أخرج الحافظ أبو القاسم بنُ عساكر فى (( تاريخ دمشق ))(32/449) من طريقين عن أبى المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني قال أملى علينا عبد الله بن محمد بن سعيد بن يحيى الكريزى القاضي قال أملاه علىَّ محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال أملى عليَّ عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس ، وودعته للخروج ، وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة ، أو سنة سبع وسبعين ومائة :
يا عابدَ الحرمين لو أبصرتْـَنا ... لعلمتَ أنَّكَ في العبادةِ تلعبُ
مَنْ كانَ يخضبُ خدَّه بدموعِه ... فنحورنُـا بدمـائِنا تَتَخْضَبُ
أوكان يتعبُ خيله في بـاطل ... فخيـولنا يوم الصبيحة تتعبُ
ريحُ العبيرٍ لكم ونحنُ عبيرُنا ... رَهَجُ السنابكِ والغبارُ الأطيبُ
ولقد أتـانا مـن مقالِ نبيِنا ... قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يَكذبُ
لا يستوي غبـارُ أهلِ الله في ... أنفِ أمرئٍ ودخانُ نارٍ تَلهبُ
هذا كتابُ الله ينـطقُ بيننا ... ليسَ الشهيدُ بميـتٍ لا يكذبُ
قال : فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام ، فلما قرأه ذرفت عيناه ، وقال : صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ ، قال : قلت : نعم ، قال : فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا ، وأملى عليَّ الفضيل بن عياض قال حدثنا منصور عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله علمني عملا أنال به ثـواب المجاهدين في سبيل الله ؟ ، فقال : (( هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر ، وتصوم فلا تفطر ؟ )) ، فقال : يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت ثواب المجاهدين في سبيل الله ، أمَا علمت أن المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات )) .
قلت : وهذا إسناد واهٍ بمرة . والمتهم به واحد من اثنين :
( الأول ) محمد ـ وقد يقال أحمد ـ ابن إبراهيم بن أبي سكينة ، لا يشبه حديثه حديث أثبات أصحاب عبد الله بن المبارك .
قال الأمير أبو نصر بن ماكولا (( الإكمال ))(4/317) : (( محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة أبو عبد الله . روى عن : فضيل بن عياض ، ومحمد بن الحسن الشيباني ، ومحمد بن سلمة الحراني . روى عنه : يحيى بن علي بن محمد بن هاشم ، وعبد الله بن سعيد الكريزي الرقي ، والفضل بن محمد العطار الأنطاكي )) .
قلت : وكذلك روى عن : هشيم ، وأبى يوسف القاضى ، وعيسى بن يونس ، وعلى بن ظبيان الكوفى ، وغيرهم . وفى روايته عن مالك بن أنسٍ نظر .
قال الحافظ العسقلانى (( لسان الميزان ))(5/20/79) : (( محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة . يروي عن : هشيم ، وأبي يوسف . عنه : عمر بن سنان ، وابن ابنته يحيى بن علي بن هاشم . ربما أخطأ ، ذكره ابن حبان في (( الثقات )) . قلت : وروى أيضا عن مالك . روى عنه : محمد بن مبارك الصوري . وقد تقدمت الإشارة الى ذلك في من اسمه أحمد )) اهـ .
وقوله (( وقد تقدمت الإشارة الى ذلك في من اسمه أحمد )) : يعنى قوله تعقيباً على مقال الحافظ الذهبى فى (( الميزان ))(1/210/279) : (( أحمد بن إبراهيم بن أبي سكينة الحلبى ، وبعضهم يسميه محمداً . قاله الخطيب . يروي عن مالك . قلت : ما رأيت لهم فيه كلاما )) . فقال متعقباً فى (( لسان الميزان ))(1/131/405) : (( ثم أعاده ولم يسم بجده ، فقال : أحمد بن إبراهيم الحلبى . عن : علي بن عاصم ، وقبيصة . قال أبو حاتم : أحاديثه باطلة تدل على كذبه . قلت : هو ابن أبي سكينة الذى تقدم . وقال في (( المغني )) : أحمد بن إبراهيم الحلبى عن قتيبة وطبقته كذاب انتهى .
فهذا من العجب يقول : ما رأيت لهم فيه كلاما ، ثم يجزم بأنه الذي قال فيه أبو حاتم ما قال ، ولفظ ابن أبي حاتم : أحمد بن إبراهيم الحلبى . روى عن : علي بن عاصم ، والهيثم بن جميل ، وقبيصة ، والنفيلي . روى عنه : أحمد بن شيبان الرملي . سألت أبي عنه وعرضت عليه حديثه ، فقال : لا أعرفه وأحاديثه باطلة كلها ليس لها أصل ، فدل على أنه كذاب . والذي يروي عن مالك أقدم من الذي يروي عن طبقة قتيبة ، فلعلهما اثنان والله أعلم . وذكر الدارقطني والخطيب أن محمد بن المبارك الصوري روى عن أحمد بن إبراهيم بن أبي سكينة ، ولم يذكرا له شيئا منكراً )) اهـ .
فإن قيل : فما تقولون فى هذا المذكور عن الخطيب والدارقطنى أنهما (( لم يذكرا له شيئا منكراً )) .
قلنا : إنما ذكره أبو بكر الخطيب عرضاً فى ترجمة محمد بن المبارك الصورى ، ولم يذكره بترجمة مستقلة ، فقال (( تاريخ بغداد )) : (( محمد بن المبارك الصورى . حدثنا عبد الغفار بن محمد بن جعفر المؤدب ثنا أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي ثنا محمد بن جعفر بن محمد البغدادي ثنا محمد بن المبارك الصورى حدثنا أحمد بن إبراهيم بن أبى سكينة ثنا مالك بن أنس عـن الزهرى عن سعيد بن المسيب عـن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يغلق الرهن )) اهـ .
وسياق هذه الترجمة لا يدل دلالةً ما على ما ذكره الحافظ أنه لا يروى المنكر ، بل إن هذا الحديث المذكور منكر بهذا الإسناد الموصول المرفوع عن مالك ، فإن أثبات أصحاب مالكٍ إنما يروونه مرسلاً ، وإنما يثبت رفعه من غير طريق مالك بن أنس .
قال يحيى بن يحيى (( الموطأ )) : حدثنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ )) .
وقال أبو الحسن الدارقطنى فى (( العلل ))(9/168) بعد ذكره للاختلاف على روايات الحديث عن مالك : (( وأما أصحاب الموطأ ، فرووه عن مالك عن الزهري عن سعيد مرسلا ، وهو الصواب عن مالك )) .
وقد سبرت بعض أحاديث ابن أبي سكينة ، فوجدتها كما قال أبو حاتم الرازى باطلة ليس لها أصل . ولتجتزئ منها :
(1) ما أخرجه البيهقى (( شعب الإيمان ))(5/68/5803) من طريق عبد الله بن سعيد بن يحيى القاضي ثنا محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة ثنا الفضيل بن عياض ثنا هشام بن حسان عن الحسن عن عمران بن حصين قال : (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إجابة طعام الفاسقين )) .
(2) ما أخرجه ابن عدى (( الكامل ))(7/73) قال : ثنا يحيى بن علي بن هاشم الخفاف بحلب ثنا جدي محمد بن إبراهيم بن أبى سكينة ثنا الوليد بن محمد الموقرى ثنا الزهري أخبرنا سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أربع مدائن من مدائن الجنة في الدنيا : مكة ، والمدينة ، وبيت المقدس ، ودمشق . وأربع مدائن من مدائن النار في الدنيا : القسطنطينية ، والطوانة ، وإنطاكية المحترقة ، وصنعاء )) .
وأخرجه من طريق ابن عدى : ابن الجوزى (( الموضوعات ))(2/51) ، وجزم ببطلانه ووضعه .
وقال أبو أحمد بن عدى : (( هذا منكر لا يرويه عن الزهرى غير الموقرى )) .
قلت : ولا يرويه عن الموقرى بهذا الإسناد غير ابن أبى سكينة ، وغيره يرويه عن الموقرى (( عن الزهرى عن ابن المسيب عن أبى هريرة )) ، ولا يذكر سليمان بن يسار .
والخلاصة ، فإن محمد بن إبراهيم بن أبى سكينة راوى هذه الحكاية ليس ممن يوثق بروايته عن ابن المبارك ، لشدة وهنه وروايته ما ليس له أصل ، وروايته ما لم يروه أثبات أصحاب ابن المبارك
الثاني ) محمد بن عبد الله بن المطلب أبو المفضل الشيباني الكوفى نزيل بغداد ، كذاب دجال ، كذَّبه أبو الحسن الدارقطنى ، وأبو القاسم الأزهرى . قال الخطيب (( تاريخ بغداد ))(5/466) : ((كان يروي غرائب الحديث ، وسؤالات الشيوخ ، فكتب الناس عنه بانتخاب الدارقطني ، ثم بان كذبه ، فمزقوا حديثه وأبطلوا روايته ، وكان بعد يضع الأحاديث للرافضة ، ويملي في مسجد الشرقية )) .
وقال أبو بكر الخطيب : (( سمعت الأزهري ذكر أبا المفضل فأساء ذكره ثم قال : وقد كان يحفظ ، وقال أبو الحسن الدارقطني : أبو المفضل يشبه الشيوخ حدثني القاضي أبو العلاء الواسطي قال : كان أبو المفضل حسن الهيئة جميل الظاهر نظيف اللبسة ، وسمعت الدارقطني سئل عنه فقال : يشبه الشيوخ سألت حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق عن أبي المفضل فقال : كان يضع الحديث وقد كتبت عنه ، وكان له سمت ووقار . أخبرنا أبو الفتح محمد بن الحسين العطار قطيط حدثنا محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى بن العراد الكبير حدثنا محمد بن الحسن بن شمون البصري حدثنا أبو شعيب حميد بن شعيب حدثني أبو جميلة عن أبان بن تغلب عن محمد بن علي أبي جعفر عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( قال الله تعالى : ما تحبب إلىَّ عبدي بأحب إلي من أداء ما افترضت عليه ... )) وذكر الحديث ، سمعت من يذكر أن أبا المفضل لما حدث عن ابن العراد قيل له : من أيهما سمعت الأكبر أو الأصغر وكانا أخوين ؟ ، قال : فسئل عن السنة التي سمع منه فيها ، فذكر وقتا مات ابن العراد قبله بمدة ، فكذبه الدارقطني فى ذلك وأسقط حديثه .
وقال لي الأزهري : كان أبو المفضل دجالا كذابا ، ما رأينا له أصلا قط ، وكان معه فروع فوائد قد خرجها في مائة جزء ، فيها سؤالات كل شيخ ، ولما حدث عن أبي عيسى بن العراد كذبه الدارقطني في روايته عنه ، لأنه زعم أنه سمع منه في سنة عشر وثلاثمائة ، وكانت وفاته سنة خمس وثلاثمائة )) .
وقال الحافظ الذهبى (( الميزان ))(6/215/7808) : (( محمد بن عبد الله أبو المفضل الشيباني الكوفي . عن : البغوي وابن جرير وخلائق . وله رحلة إلى مصر والشام . قال الخطيب : كتبوا عنه بانتخاب الدارقطني ثم بان كذبه فمزقوا حديثه وكان بعد يضع الأحاديث للرافضة . مات سنة سبع وثمانين وثلثمائة وله تسعون سنة . فمن موضوعاته بإسناد له : أن نبياً شكا إلى الله جبن قومه فقال له : (( مرهم أن يستقوا الحرمل ، فإنه يذهب الجبن ))
ونقل الحافظ ابن حجر عُظم ما ذكره الخطيب فى ترجمته فى (( لسان الميزان ))(5/231/811) ، وزاد عليه : (( وقال أبو ذر الهروي :كتبت عنه في المعجم للمعرفة ، ولم أخرج عنه في تصانيفي شيئا ، وتركت الرواية عنه لأني سمعت الدارقطني يقول : كنت أتوهمه من رهبان هذه الأمة ، وسألته الدعاء لي فتعوذ بالله من الحور بعد الكور . وقال أبو ذر : سبب ذلك أنه قعد للرافضة ، وأملى عليهم أحاديث ذكر فيها مثالب الصحابة ، وكانوا يتهمونه بالقلب والوضع ، وحدَّث بحديث كان الإمام ابن خزيمة تفرد به ، فقيل له : لو أخرجت أصولك بهذا ، فإن هذا حديث ابن خزيمة ، فكان جوابه للذي قال له ذلك : أنت تنتسب إلى قيس بن سعد بن عبادة وهو عقيم !! )) .
قلت : ولا أستبعد أن يكون أبو المفضل الشيبانى الرافضى هو واضـع هذه الحكاية كيداً للإمامين المتحابين المتصافيين : ابن المبارك ، والفضيل بن عياض . ولا يتصور فى حق ابن المبارك أن تصدر عنه أمثال هذه المجازفات ، سيما قوله (( فى العبادة تلعب )) ، ففيه من الاستخفاف بشأن العبادة والمجاورة بالحرم ما لا يخفى على من علم تحرى ابن المبارك فى أقواله وأحكامه ، فضلاً عن محبته الصادقة الناصحة لأصحابه : الفضيل بن عياض ، وإسماعيل بن علية ، والثورى ، وابن عيينة ، ومحمد بن السماك ، وغيرهم من أفاضل عبَّاد زمانهم .
وبعد ..
أورد الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقى فى ثنايا تفسير قَوْلِ اللهِ تَعَالَى (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) من (( تفسيره ))(1/448) : (( روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال أملي عليَّ عبدُ الله بنُ المبارك هذه الأبياتَ بطرطوس ، وودعتُه للخروج وأنشدها معي إلى الفضل بن عياض في سنة سبعين ومائة ، وفي رواية سنة سبع وسبعين ومائة :
يا عابدَ الحرمين لو أبصرتْـَنا ... لعلمتَ أنَّكَ في العبادةِ تلعبُ
مَنْ كانَ يخضبُ خدَّه بدموعِه ... فنحورنُـا بدمـائِنا تَتَخْضَبُ
أوكان يتعبُ خيله في بـاطل ... فخيـولنا يوم الصبيحة تتعبُ
ريحُ العبيرٍ لكم ونحنُ عبيرُنا ... رَهَجُ السنابكِ والغبارُ الأطيبُ
ولقد أتـانا مـن مقالِ نبيِنا ... قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يَكذبُ
لا يستوي غبـارُ أهلِ الله في ... أنفِ أمرئٍ ودخانُ نارٍ تَلهبُ
هذا كتابُ الله ينـطقُ بيننا ... ليسَ الشهيدُ بميـتٍ لا يكذبُ
قال : فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام ، فلما قرأه ذرفت عيناه ، وقال : صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ ، قال : قلت : نعم ، قال : فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا ، وأملى عليَّ الفضيل بن عياض قال حدثنا منصور عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيـل الله ؟ ، فقال : (( هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر ، وتصوم فلا تفطر ؟ )) ، فقال : يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت ثواب المجاهدين في سبيل الله ، أمَا علمت أن المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات )) اهـ .
هكذا أورد هذه الحكاية برمتها الحافظ أبو الفداء ، ولم يعلِّق عليها بشئٍ ! ، فأوهم صنيعُه ذا جماهرَ من الوعاظ والخطباء ، ممن يعتمدون على (( تفسيره )) ، ويحتجون بأقواله ، أوهمهم صدقَ هذه الحكاية ! ، فتناقلوها فى مجالس الترغيب والترهيب ، وعلى منابر الوعظ والتذكير ، وفى أهازيجهم وأناشيدهم ، ترغيباً فى الجهاد والمرابطة ، ولعلَّ أكثرهم لم ينظر ، ولو لمرة واحدة ، فى مصدر الحكاية ومخرجها ، اعتماداً على نقل الحافظ إيَّاها ، وسكوته عنها ، ولم تتمعر وجوهُهُم غيرةً على مقامات الرفعة ومراتب الإحسان ، وأفضلها ملازمة الحرمين الشريفين : مكة وطيبة ، زادهما الله تشريفاً وتكريماً ومهابةً وعزاً .
وكذلك أوردها بعض من ترجم للإمام الحجة الفقيه المجاهد عبد الله بن المبارك المروزى ، ومنهم الحافظ الذهبى فى (( سير أعلام النبلاء ))(8/412) ، والإمام أبو القاسم الرافعى القزوينى فى (( التدوين فى أخبار قزوين ))(3/236) .
ولا يُحصى من استروح إلى هذه الحكاية ، فأودعها عن رضاً واقتناعً كتابَه ، أو صدَّر بها مصنفَه . وجميعهم ، لعله لم يتسائل ما إسنادها ، وما صحتُه ، وما صحتُها ؟! ، ومشَّاها على ما بها من وهنٍ واقتراء وتجنىً على الإمامين السيدين : الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر الإمام القدوة الثبت أبو علي التميمي اليربوعي الخراساني المجاور بحرم الله المعظَّم ، وعبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلى المروزى علم المجاهدين شيخ الإسلام .
فما دلائل وهن هذه الحكاية ، وهل يجوز الجزم بنسبة هذه الأبيات المفتريات إلى الإمام السيد الجليل ابن المبارك ، وما حكاية هذه الأشعار التى حُشى بها ديوان الشعر المنسوب إليه ، وما موقف أهل التحقيق من هذا الديوان ؟ . هذا ما نرجو إيضاحه فى هذا البيان (( طعنُ القَنَا فى صدر مفترى : يا عابدَ الحرمين لو أبصرتْنَا )) .
أقول والله المستعان : أخرج الحافظ أبو القاسم بنُ عساكر فى (( تاريخ دمشق ))(32/449) من طريقين عن أبى المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني قال أملى علينا عبد الله بن محمد بن سعيد بن يحيى الكريزى القاضي قال أملاه علىَّ محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال أملى عليَّ عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس ، وودعته للخروج ، وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة ، أو سنة سبع وسبعين ومائة :
يا عابدَ الحرمين لو أبصرتْـَنا ... لعلمتَ أنَّكَ في العبادةِ تلعبُ
مَنْ كانَ يخضبُ خدَّه بدموعِه ... فنحورنُـا بدمـائِنا تَتَخْضَبُ
أوكان يتعبُ خيله في بـاطل ... فخيـولنا يوم الصبيحة تتعبُ
ريحُ العبيرٍ لكم ونحنُ عبيرُنا ... رَهَجُ السنابكِ والغبارُ الأطيبُ
ولقد أتـانا مـن مقالِ نبيِنا ... قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يَكذبُ
لا يستوي غبـارُ أهلِ الله في ... أنفِ أمرئٍ ودخانُ نارٍ تَلهبُ
هذا كتابُ الله ينـطقُ بيننا ... ليسَ الشهيدُ بميـتٍ لا يكذبُ
قال : فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام ، فلما قرأه ذرفت عيناه ، وقال : صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ ، قال : قلت : نعم ، قال : فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا ، وأملى عليَّ الفضيل بن عياض قال حدثنا منصور عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله علمني عملا أنال به ثـواب المجاهدين في سبيل الله ؟ ، فقال : (( هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر ، وتصوم فلا تفطر ؟ )) ، فقال : يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت ثواب المجاهدين في سبيل الله ، أمَا علمت أن المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات )) .
قلت : وهذا إسناد واهٍ بمرة . والمتهم به واحد من اثنين :
( الأول ) محمد ـ وقد يقال أحمد ـ ابن إبراهيم بن أبي سكينة ، لا يشبه حديثه حديث أثبات أصحاب عبد الله بن المبارك .
قال الأمير أبو نصر بن ماكولا (( الإكمال ))(4/317) : (( محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة أبو عبد الله . روى عن : فضيل بن عياض ، ومحمد بن الحسن الشيباني ، ومحمد بن سلمة الحراني . روى عنه : يحيى بن علي بن محمد بن هاشم ، وعبد الله بن سعيد الكريزي الرقي ، والفضل بن محمد العطار الأنطاكي )) .
قلت : وكذلك روى عن : هشيم ، وأبى يوسف القاضى ، وعيسى بن يونس ، وعلى بن ظبيان الكوفى ، وغيرهم . وفى روايته عن مالك بن أنسٍ نظر .
قال الحافظ العسقلانى (( لسان الميزان ))(5/20/79) : (( محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة . يروي عن : هشيم ، وأبي يوسف . عنه : عمر بن سنان ، وابن ابنته يحيى بن علي بن هاشم . ربما أخطأ ، ذكره ابن حبان في (( الثقات )) . قلت : وروى أيضا عن مالك . روى عنه : محمد بن مبارك الصوري . وقد تقدمت الإشارة الى ذلك في من اسمه أحمد )) اهـ .
وقوله (( وقد تقدمت الإشارة الى ذلك في من اسمه أحمد )) : يعنى قوله تعقيباً على مقال الحافظ الذهبى فى (( الميزان ))(1/210/279) : (( أحمد بن إبراهيم بن أبي سكينة الحلبى ، وبعضهم يسميه محمداً . قاله الخطيب . يروي عن مالك . قلت : ما رأيت لهم فيه كلاما )) . فقال متعقباً فى (( لسان الميزان ))(1/131/405) : (( ثم أعاده ولم يسم بجده ، فقال : أحمد بن إبراهيم الحلبى . عن : علي بن عاصم ، وقبيصة . قال أبو حاتم : أحاديثه باطلة تدل على كذبه . قلت : هو ابن أبي سكينة الذى تقدم . وقال في (( المغني )) : أحمد بن إبراهيم الحلبى عن قتيبة وطبقته كذاب انتهى .
فهذا من العجب يقول : ما رأيت لهم فيه كلاما ، ثم يجزم بأنه الذي قال فيه أبو حاتم ما قال ، ولفظ ابن أبي حاتم : أحمد بن إبراهيم الحلبى . روى عن : علي بن عاصم ، والهيثم بن جميل ، وقبيصة ، والنفيلي . روى عنه : أحمد بن شيبان الرملي . سألت أبي عنه وعرضت عليه حديثه ، فقال : لا أعرفه وأحاديثه باطلة كلها ليس لها أصل ، فدل على أنه كذاب . والذي يروي عن مالك أقدم من الذي يروي عن طبقة قتيبة ، فلعلهما اثنان والله أعلم . وذكر الدارقطني والخطيب أن محمد بن المبارك الصوري روى عن أحمد بن إبراهيم بن أبي سكينة ، ولم يذكرا له شيئا منكراً )) اهـ .
فإن قيل : فما تقولون فى هذا المذكور عن الخطيب والدارقطنى أنهما (( لم يذكرا له شيئا منكراً )) .
قلنا : إنما ذكره أبو بكر الخطيب عرضاً فى ترجمة محمد بن المبارك الصورى ، ولم يذكره بترجمة مستقلة ، فقال (( تاريخ بغداد )) : (( محمد بن المبارك الصورى . حدثنا عبد الغفار بن محمد بن جعفر المؤدب ثنا أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي ثنا محمد بن جعفر بن محمد البغدادي ثنا محمد بن المبارك الصورى حدثنا أحمد بن إبراهيم بن أبى سكينة ثنا مالك بن أنس عـن الزهرى عن سعيد بن المسيب عـن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يغلق الرهن )) اهـ .
وسياق هذه الترجمة لا يدل دلالةً ما على ما ذكره الحافظ أنه لا يروى المنكر ، بل إن هذا الحديث المذكور منكر بهذا الإسناد الموصول المرفوع عن مالك ، فإن أثبات أصحاب مالكٍ إنما يروونه مرسلاً ، وإنما يثبت رفعه من غير طريق مالك بن أنس .
قال يحيى بن يحيى (( الموطأ )) : حدثنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ )) .
وقال أبو الحسن الدارقطنى فى (( العلل ))(9/168) بعد ذكره للاختلاف على روايات الحديث عن مالك : (( وأما أصحاب الموطأ ، فرووه عن مالك عن الزهري عن سعيد مرسلا ، وهو الصواب عن مالك )) .
وقد سبرت بعض أحاديث ابن أبي سكينة ، فوجدتها كما قال أبو حاتم الرازى باطلة ليس لها أصل . ولتجتزئ منها :
(1) ما أخرجه البيهقى (( شعب الإيمان ))(5/68/5803) من طريق عبد الله بن سعيد بن يحيى القاضي ثنا محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة ثنا الفضيل بن عياض ثنا هشام بن حسان عن الحسن عن عمران بن حصين قال : (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إجابة طعام الفاسقين )) .
(2) ما أخرجه ابن عدى (( الكامل ))(7/73) قال : ثنا يحيى بن علي بن هاشم الخفاف بحلب ثنا جدي محمد بن إبراهيم بن أبى سكينة ثنا الوليد بن محمد الموقرى ثنا الزهري أخبرنا سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أربع مدائن من مدائن الجنة في الدنيا : مكة ، والمدينة ، وبيت المقدس ، ودمشق . وأربع مدائن من مدائن النار في الدنيا : القسطنطينية ، والطوانة ، وإنطاكية المحترقة ، وصنعاء )) .
وأخرجه من طريق ابن عدى : ابن الجوزى (( الموضوعات ))(2/51) ، وجزم ببطلانه ووضعه .
وقال أبو أحمد بن عدى : (( هذا منكر لا يرويه عن الزهرى غير الموقرى )) .
قلت : ولا يرويه عن الموقرى بهذا الإسناد غير ابن أبى سكينة ، وغيره يرويه عن الموقرى (( عن الزهرى عن ابن المسيب عن أبى هريرة )) ، ولا يذكر سليمان بن يسار .
والخلاصة ، فإن محمد بن إبراهيم بن أبى سكينة راوى هذه الحكاية ليس ممن يوثق بروايته عن ابن المبارك ، لشدة وهنه وروايته ما ليس له أصل ، وروايته ما لم يروه أثبات أصحاب ابن المبارك
الثاني ) محمد بن عبد الله بن المطلب أبو المفضل الشيباني الكوفى نزيل بغداد ، كذاب دجال ، كذَّبه أبو الحسن الدارقطنى ، وأبو القاسم الأزهرى . قال الخطيب (( تاريخ بغداد ))(5/466) : ((كان يروي غرائب الحديث ، وسؤالات الشيوخ ، فكتب الناس عنه بانتخاب الدارقطني ، ثم بان كذبه ، فمزقوا حديثه وأبطلوا روايته ، وكان بعد يضع الأحاديث للرافضة ، ويملي في مسجد الشرقية )) .
وقال أبو بكر الخطيب : (( سمعت الأزهري ذكر أبا المفضل فأساء ذكره ثم قال : وقد كان يحفظ ، وقال أبو الحسن الدارقطني : أبو المفضل يشبه الشيوخ حدثني القاضي أبو العلاء الواسطي قال : كان أبو المفضل حسن الهيئة جميل الظاهر نظيف اللبسة ، وسمعت الدارقطني سئل عنه فقال : يشبه الشيوخ سألت حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق عن أبي المفضل فقال : كان يضع الحديث وقد كتبت عنه ، وكان له سمت ووقار . أخبرنا أبو الفتح محمد بن الحسين العطار قطيط حدثنا محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى بن العراد الكبير حدثنا محمد بن الحسن بن شمون البصري حدثنا أبو شعيب حميد بن شعيب حدثني أبو جميلة عن أبان بن تغلب عن محمد بن علي أبي جعفر عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( قال الله تعالى : ما تحبب إلىَّ عبدي بأحب إلي من أداء ما افترضت عليه ... )) وذكر الحديث ، سمعت من يذكر أن أبا المفضل لما حدث عن ابن العراد قيل له : من أيهما سمعت الأكبر أو الأصغر وكانا أخوين ؟ ، قال : فسئل عن السنة التي سمع منه فيها ، فذكر وقتا مات ابن العراد قبله بمدة ، فكذبه الدارقطني فى ذلك وأسقط حديثه .
وقال لي الأزهري : كان أبو المفضل دجالا كذابا ، ما رأينا له أصلا قط ، وكان معه فروع فوائد قد خرجها في مائة جزء ، فيها سؤالات كل شيخ ، ولما حدث عن أبي عيسى بن العراد كذبه الدارقطني في روايته عنه ، لأنه زعم أنه سمع منه في سنة عشر وثلاثمائة ، وكانت وفاته سنة خمس وثلاثمائة )) .
وقال الحافظ الذهبى (( الميزان ))(6/215/7808) : (( محمد بن عبد الله أبو المفضل الشيباني الكوفي . عن : البغوي وابن جرير وخلائق . وله رحلة إلى مصر والشام . قال الخطيب : كتبوا عنه بانتخاب الدارقطني ثم بان كذبه فمزقوا حديثه وكان بعد يضع الأحاديث للرافضة . مات سنة سبع وثمانين وثلثمائة وله تسعون سنة . فمن موضوعاته بإسناد له : أن نبياً شكا إلى الله جبن قومه فقال له : (( مرهم أن يستقوا الحرمل ، فإنه يذهب الجبن ))
ونقل الحافظ ابن حجر عُظم ما ذكره الخطيب فى ترجمته فى (( لسان الميزان ))(5/231/811) ، وزاد عليه : (( وقال أبو ذر الهروي :كتبت عنه في المعجم للمعرفة ، ولم أخرج عنه في تصانيفي شيئا ، وتركت الرواية عنه لأني سمعت الدارقطني يقول : كنت أتوهمه من رهبان هذه الأمة ، وسألته الدعاء لي فتعوذ بالله من الحور بعد الكور . وقال أبو ذر : سبب ذلك أنه قعد للرافضة ، وأملى عليهم أحاديث ذكر فيها مثالب الصحابة ، وكانوا يتهمونه بالقلب والوضع ، وحدَّث بحديث كان الإمام ابن خزيمة تفرد به ، فقيل له : لو أخرجت أصولك بهذا ، فإن هذا حديث ابن خزيمة ، فكان جوابه للذي قال له ذلك : أنت تنتسب إلى قيس بن سعد بن عبادة وهو عقيم !! )) .
قلت : ولا أستبعد أن يكون أبو المفضل الشيبانى الرافضى هو واضـع هذه الحكاية كيداً للإمامين المتحابين المتصافيين : ابن المبارك ، والفضيل بن عياض . ولا يتصور فى حق ابن المبارك أن تصدر عنه أمثال هذه المجازفات ، سيما قوله (( فى العبادة تلعب )) ، ففيه من الاستخفاف بشأن العبادة والمجاورة بالحرم ما لا يخفى على من علم تحرى ابن المبارك فى أقواله وأحكامه ، فضلاً عن محبته الصادقة الناصحة لأصحابه : الفضيل بن عياض ، وإسماعيل بن علية ، والثورى ، وابن عيينة ، ومحمد بن السماك ، وغيرهم من أفاضل عبَّاد زمانهم .
تعليق