اعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا شريك له، ولا إله إلا هو، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.
أما بعد...
أيها الاخوة المجاهدون في كل مكان...
أنصار الدين وحماة العقيدة، يا من خرجتم في سبيل الله، تقاتلون من كفر بالله وصد عن سبيله، واستبدل الدين بقوانين الكفر، فذلل لها رقاب المؤمنين، محادة لله ولرسوله، فأهلك الحرث والنسل، وأفسد البلاد والعباد، طمس الشرائع حتى صار لا يُعرف من الإسلام إلا اسمه.
تقاتلون هؤلاء الطواغيت اعلاء لكلمة الله، وليكون الدين كله لله، فلا يُعبد سواه، ولا يُحكم سواه في قليل ولا كثير، فإنكم تقاتلون في سبيل الله، وأعداؤكم يقاتلون في سبيل الطاغوت، {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أوليَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}.
اعلموا أن الجهاد فيه خير الدنيا والآخرة، وفي تركه خسارة الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}، يعني؛ اما النصر والظفر، واما الشهادة والجنة، فمن عاش من المجاهدين كان كريما له ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، ومن مات منهم أو قتل فإلى الجنة.
فالجهاد والقتال؛ هو التجارة الرابحة التي يُتاجر صاحبها فيها مع ربه سبحانه وتعالى بدون رأس مال؛ فيفوز، والتي عناها ربنا سبحانه وتعالى في قوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله؛ بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة) [رواه البخاري].
فشبه حال الصائم القائم؛ بحال المجاهد في سبيل الله، في نيل الثواب في كل حركة وسكون، لأن المراد من الصائم القائم؛ من لا يفتر ساعة عن العبادة، فأجره مستمر، وكذلك المجاهد؛ لا يُضيع ساعة من ساعاته بغير ثواب، ولهذا أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم الرجلَ الذي بقوله: (دلني على عمل يعدل الجهاد في سبيل الله؟)، فقال: (لا تستطيعه!)، قال: (اخبرني به!)، قال: (لا تستطيعه!)، ثم قال: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد؛ ان تصوم ولا تفطر، وتقوم فلا تفتر؟)، قال: (لا)، قال: (فذاك الذي يعدل الجهاد في سبيل الله).
ويُشبه ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لغدوة في سبيل الله أو روحة؛ خير من الدنيا وما فيها) [رواه البخاري عن أنس ابن مالك]، والغدوة - هي بالفتح -؛ وهي الخروج في أي وقت كان من أول النهار إلى انتصافه، والروحة؛ هي الخروج في أي وقت كان، من زوال الشمس إلى غروبها.
فإن مَشياً في سبيل الله غدوة أو روحة؛ أعظم وأفضل ثوابا من ثواب من لو حصلت له الدنيا كلها فأنفقها في طاعة الله تعالى.
وقال الفضل ابن زياد: سمعت أبا عبد الله – يعني أحمد ابن حنبل رضي الله عنه – وذكر له أمر الغزو، فجعل يبكي ويقول: (ما من أعمال البر أفضل منه).
وقال عنه غيره: (ليس يعدل لقاء العدو شيء، ومباشرة القتال بنفسه؛ أفضل الأعمال، والذين يقاتلون العدو هم الذين يدفعون عن الإسلام وعن حريمهم، فأي عمل أفضل منه، الناس آمنون وهم خائفون، قد بذلوا له مهج أنفسهم).
وأعلموا أيها الاخوة...
ان الرباط في ثغور الجهاد من أعظم القربات، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع صوت أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها) [رواه البخاري]
وفي صحيح مسلم عن سلمان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رباط يوم وليلة في سبيل الله خيراً من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً أُجري عليه عمله وأُجري عليه رزقه من الجنة، وأمن الفتان - أو الفُتان -)، يعني؛ منكر ونكير.
وقال صاحب "المغني": (الرباط؛ الإقامة بالثغر مقوياً للمسلمين على الكفار، والثغر؛ كل مكان يخيف أهله العدو ويخيفهم).
وقال أحمد ابن حنبل رحمه الله: (ليس يعدل الجهاد عندي والرباط شيء، والرباط؛ دفع عن المسلمين وعن حريمهم، وقوة لأهل الثغر ولأهل الغزو، والرباط أصل الجهاد وفرعه).
فشتان - أيها الاخوة - شتان… بين من ربط نفسه في ثغر من الثغور، يُتوقع فيه نزول العدو، مجاهداً في سبيل الله، متربصا بأعداء الله، مقويا لشوكة المجاهدين، كل حركاته وسكناته أجر، أكله وشربه ونومه ومشيه وحرساته ورصده وقتاله؛ أجر عند الله تبارك وتعالى... شتان بينه وبين من قعد عن الجهاد، يلتمس لنفسه أقبح الأعذار.
وقد ورد في الحديث عن عبيد بن خالد السلمي؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين رجلين، فقتل أحدهما، ومات الآخر بعده بجمعة أو نحوها، فصلينا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما قلتم؟)، قلنا: (دعونا له، وقلنا؛ اللهم اغفر له والحقه بصاحبه)، فقال صلى الله عليه وسلم: (فأين صلاته من صلاته وصومه من صومه وعمله من عمله؟! ان بينهما كما بين السماء والأرض) [رواه أبو داود في سننه، وقال الالباني رحمه الله: صحيح].
نعم أيها الاخوة... إن بينمها كما بين السماء والأرض، فالأول قتل في سبيل الله؛ فهو شهيد عند الله تبارك وتعالى، والثاني مات غير شهيد.
ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه: (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء، إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة).
وقال ابن بطال في هذا الحديث: (هذا الحديث أجل ما جاء في فضل الشهادة)، قال: (وليس في أعمال البر ما تبذل فيه النفس غير الجهاد، فلذلك عظم فيه الثواب).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم اقتل، ثم أحيا ثم اقتل، ثم أحيا ثم اقتل) [رواه البخاري عن أبي هريرة].
وثبت عن عبد الله في قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، قال: (أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: "أرواحهم كطير خضر، تسرح في الجنة، في أيها شاءت، ثم تؤي إلى قناديل معلقة بالعرش، فبينما هم كذلك؛ إذا اطلع عليهم ربك اطلاعة، فيقول؛ سلوني ما شئتم! قالوا: ربنا وماذا نسألك، ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا؟! فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يُسألوا، قالوا: نسألك أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك، فلما رأى أنهم لا يسألون إلا ذلك؛ تركوا) [رواه ابن ماجة في سننه، وهو في الصحيحة، ورواه مسلم بلفظه عن ابن مسعود].
وروى ابن ماجة في فضل الشهيد، عن المقدام بن معديكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله ست خصال؛ يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه) [وهو في السنن، وفي صحيح سنن ابن ماجة].
نسأل الله العظيم ذا الرحمة والمغفرة أن يرزقنا الشهادة، وأن يُبلغنا منازل الشهداء، إن ذلك على الله يسير.
واعلموا؛ ان من قرأ نصوص الكتاب والسنة وآثار سلف الأمة في فضل الجهاد وأهله، علم أن المجاهد في سبيل الله قد سلك سبيل التوفيق والسداد، ورزق الإسعاد بنيل المراد، وذلك بسبب اقدامه على القتال، واقتحامه معارك الابطال، وبذله النفس والمال في سبيل الله، وهجرانه الأهل والمال ومتاع الدنيا القليل، رغبة فيما عند الله من النعيم المقيم، وعلم؛ أنه لا ينبغي أن يقعده شيء عن الجهاد في هذه الفرصة، ثم يجار في قبره من العذاب، ويفوز عند الله بحسن المآب، ويؤمَن من فتنة السؤال، وما بعد ذلك من الشدائد والأهوال، طمعاً في رحمة الله ان يجعله ربه في الشهداء، الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، مستبشرين، أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في عليين.
فكم بين هذا القتل الكريم، الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يجد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدكم من القرصة)، وبين الموت الأليم؟! فتالله أن بينمهما كما بين السماء والأرض، ومن رزق التوفيق فهو السعيد.
وخير ما نختم به هذه الكلمات؛ كلام نفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، اذ قال: (واعلموا... أن النصرة للمؤمنين، والعاقبة للمتقين، و {إنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}، وهؤلاء القوم مقهورون مقموعون، والله سبحانه وتعالى ناصرنا عليهم، ومنتقم لنا منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فابشروا بنصر الله تعالى، وبحسن عاقبته، {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، وهذا أمر قد تيقناه وتحققناه والحمد لله رب العالمين، {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}) [مجموع الفتاوى: ج28/ص419].
والله نسأل التوفيق والسداد، وحسن الخاتمة والثواب، والثبات على هذا الدين.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت
أستغفرك واتوب اليك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا شريك له، ولا إله إلا هو، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.
أما بعد...
أيها الاخوة المجاهدون في كل مكان...
أنصار الدين وحماة العقيدة، يا من خرجتم في سبيل الله، تقاتلون من كفر بالله وصد عن سبيله، واستبدل الدين بقوانين الكفر، فذلل لها رقاب المؤمنين، محادة لله ولرسوله، فأهلك الحرث والنسل، وأفسد البلاد والعباد، طمس الشرائع حتى صار لا يُعرف من الإسلام إلا اسمه.
تقاتلون هؤلاء الطواغيت اعلاء لكلمة الله، وليكون الدين كله لله، فلا يُعبد سواه، ولا يُحكم سواه في قليل ولا كثير، فإنكم تقاتلون في سبيل الله، وأعداؤكم يقاتلون في سبيل الطاغوت، {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أوليَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}.
اعلموا أن الجهاد فيه خير الدنيا والآخرة، وفي تركه خسارة الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}، يعني؛ اما النصر والظفر، واما الشهادة والجنة، فمن عاش من المجاهدين كان كريما له ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، ومن مات منهم أو قتل فإلى الجنة.
فالجهاد والقتال؛ هو التجارة الرابحة التي يُتاجر صاحبها فيها مع ربه سبحانه وتعالى بدون رأس مال؛ فيفوز، والتي عناها ربنا سبحانه وتعالى في قوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله؛ بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة) [رواه البخاري].
فشبه حال الصائم القائم؛ بحال المجاهد في سبيل الله، في نيل الثواب في كل حركة وسكون، لأن المراد من الصائم القائم؛ من لا يفتر ساعة عن العبادة، فأجره مستمر، وكذلك المجاهد؛ لا يُضيع ساعة من ساعاته بغير ثواب، ولهذا أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم الرجلَ الذي بقوله: (دلني على عمل يعدل الجهاد في سبيل الله؟)، فقال: (لا تستطيعه!)، قال: (اخبرني به!)، قال: (لا تستطيعه!)، ثم قال: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد؛ ان تصوم ولا تفطر، وتقوم فلا تفتر؟)، قال: (لا)، قال: (فذاك الذي يعدل الجهاد في سبيل الله).
ويُشبه ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لغدوة في سبيل الله أو روحة؛ خير من الدنيا وما فيها) [رواه البخاري عن أنس ابن مالك]، والغدوة - هي بالفتح -؛ وهي الخروج في أي وقت كان من أول النهار إلى انتصافه، والروحة؛ هي الخروج في أي وقت كان، من زوال الشمس إلى غروبها.
فإن مَشياً في سبيل الله غدوة أو روحة؛ أعظم وأفضل ثوابا من ثواب من لو حصلت له الدنيا كلها فأنفقها في طاعة الله تعالى.
وقال الفضل ابن زياد: سمعت أبا عبد الله – يعني أحمد ابن حنبل رضي الله عنه – وذكر له أمر الغزو، فجعل يبكي ويقول: (ما من أعمال البر أفضل منه).
وقال عنه غيره: (ليس يعدل لقاء العدو شيء، ومباشرة القتال بنفسه؛ أفضل الأعمال، والذين يقاتلون العدو هم الذين يدفعون عن الإسلام وعن حريمهم، فأي عمل أفضل منه، الناس آمنون وهم خائفون، قد بذلوا له مهج أنفسهم).
وأعلموا أيها الاخوة...
ان الرباط في ثغور الجهاد من أعظم القربات، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع صوت أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها) [رواه البخاري]
وفي صحيح مسلم عن سلمان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رباط يوم وليلة في سبيل الله خيراً من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً أُجري عليه عمله وأُجري عليه رزقه من الجنة، وأمن الفتان - أو الفُتان -)، يعني؛ منكر ونكير.
وقال صاحب "المغني": (الرباط؛ الإقامة بالثغر مقوياً للمسلمين على الكفار، والثغر؛ كل مكان يخيف أهله العدو ويخيفهم).
وقال أحمد ابن حنبل رحمه الله: (ليس يعدل الجهاد عندي والرباط شيء، والرباط؛ دفع عن المسلمين وعن حريمهم، وقوة لأهل الثغر ولأهل الغزو، والرباط أصل الجهاد وفرعه).
فشتان - أيها الاخوة - شتان… بين من ربط نفسه في ثغر من الثغور، يُتوقع فيه نزول العدو، مجاهداً في سبيل الله، متربصا بأعداء الله، مقويا لشوكة المجاهدين، كل حركاته وسكناته أجر، أكله وشربه ونومه ومشيه وحرساته ورصده وقتاله؛ أجر عند الله تبارك وتعالى... شتان بينه وبين من قعد عن الجهاد، يلتمس لنفسه أقبح الأعذار.
وقد ورد في الحديث عن عبيد بن خالد السلمي؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين رجلين، فقتل أحدهما، ومات الآخر بعده بجمعة أو نحوها، فصلينا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما قلتم؟)، قلنا: (دعونا له، وقلنا؛ اللهم اغفر له والحقه بصاحبه)، فقال صلى الله عليه وسلم: (فأين صلاته من صلاته وصومه من صومه وعمله من عمله؟! ان بينهما كما بين السماء والأرض) [رواه أبو داود في سننه، وقال الالباني رحمه الله: صحيح].
نعم أيها الاخوة... إن بينمها كما بين السماء والأرض، فالأول قتل في سبيل الله؛ فهو شهيد عند الله تبارك وتعالى، والثاني مات غير شهيد.
ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه: (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء، إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة).
وقال ابن بطال في هذا الحديث: (هذا الحديث أجل ما جاء في فضل الشهادة)، قال: (وليس في أعمال البر ما تبذل فيه النفس غير الجهاد، فلذلك عظم فيه الثواب).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم اقتل، ثم أحيا ثم اقتل، ثم أحيا ثم اقتل) [رواه البخاري عن أبي هريرة].
وثبت عن عبد الله في قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، قال: (أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: "أرواحهم كطير خضر، تسرح في الجنة، في أيها شاءت، ثم تؤي إلى قناديل معلقة بالعرش، فبينما هم كذلك؛ إذا اطلع عليهم ربك اطلاعة، فيقول؛ سلوني ما شئتم! قالوا: ربنا وماذا نسألك، ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا؟! فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يُسألوا، قالوا: نسألك أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك، فلما رأى أنهم لا يسألون إلا ذلك؛ تركوا) [رواه ابن ماجة في سننه، وهو في الصحيحة، ورواه مسلم بلفظه عن ابن مسعود].
وروى ابن ماجة في فضل الشهيد، عن المقدام بن معديكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله ست خصال؛ يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه) [وهو في السنن، وفي صحيح سنن ابن ماجة].
نسأل الله العظيم ذا الرحمة والمغفرة أن يرزقنا الشهادة، وأن يُبلغنا منازل الشهداء، إن ذلك على الله يسير.
واعلموا؛ ان من قرأ نصوص الكتاب والسنة وآثار سلف الأمة في فضل الجهاد وأهله، علم أن المجاهد في سبيل الله قد سلك سبيل التوفيق والسداد، ورزق الإسعاد بنيل المراد، وذلك بسبب اقدامه على القتال، واقتحامه معارك الابطال، وبذله النفس والمال في سبيل الله، وهجرانه الأهل والمال ومتاع الدنيا القليل، رغبة فيما عند الله من النعيم المقيم، وعلم؛ أنه لا ينبغي أن يقعده شيء عن الجهاد في هذه الفرصة، ثم يجار في قبره من العذاب، ويفوز عند الله بحسن المآب، ويؤمَن من فتنة السؤال، وما بعد ذلك من الشدائد والأهوال، طمعاً في رحمة الله ان يجعله ربه في الشهداء، الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، مستبشرين، أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في عليين.
فكم بين هذا القتل الكريم، الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يجد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدكم من القرصة)، وبين الموت الأليم؟! فتالله أن بينمهما كما بين السماء والأرض، ومن رزق التوفيق فهو السعيد.
وخير ما نختم به هذه الكلمات؛ كلام نفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، اذ قال: (واعلموا... أن النصرة للمؤمنين، والعاقبة للمتقين، و {إنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}، وهؤلاء القوم مقهورون مقموعون، والله سبحانه وتعالى ناصرنا عليهم، ومنتقم لنا منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فابشروا بنصر الله تعالى، وبحسن عاقبته، {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، وهذا أمر قد تيقناه وتحققناه والحمد لله رب العالمين، {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}) [مجموع الفتاوى: ج28/ص419].
والله نسأل التوفيق والسداد، وحسن الخاتمة والثواب، والثبات على هذا الدين.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت
أستغفرك واتوب اليك
تعليق