إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

معجزات الأنبياء

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • معجزات الأنبياء

    معجزات الأنبياء



    بسم الله الرحمن الرحيم

    مقدمة



    بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبي المعجزات وعلى صحبه وعلى الأنبياء والمرسلين جميعا.

    وبعد...

    المعجزة هي خرق لقوانين الكون, ويؤيد الله سبحانه وتعالى بها رسله.

    وقد يخلط الناس بين المعجزة والكرامة, ولكن هناك فرقا بينهما, فرغم أن كل منهما أمر خارق للعادة الا أن المعجزة يظهرها الله على أيدي الأنبياء والمرسلين, أما الكرامة فهي أمر يظهره الله على أيدي بشر غير الأنبياء.

    وفي المعجزات عبر وايمان وعقيدة خالصة, وقد وجدت الحديث عنها شائقا مقبولا, فأسأل الله لي ولكم الأجر والقبول.
    إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
    نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
    جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

  • #2
    نوح

    فار التنور


    قال تعالى:

    { فأوحينا اليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فاذا جاء أمرنا وفار التنّور فاسلك فيها من كلّ زوجين اثنين وأهلك الا من سبق عليه القول منهم, ولا تخاطبني في الذين ظلموا, انهم مغرقون}. المؤمنون 27.



    1- الى من أرسل نوح


    كل نبي أرسل لأمة, فموسى لبني اسرائيل, ومحمد لقريش وللعالمين, وصالح لقوم ثمود, وهود الى قوم عاد, وهكذا. وأما نوح فلمن أرسل من القوم؟ أرسل الى أولاد قابيل بن آدم ومن تابعهم من ولد شيت بن آدم (العرائس للثعلبي) وقد تحدث المفسرون عن ذلك فقالوا: كان لآدم نسلان من أولاده أو قبيلتان احداهما تسكن السهل والوادي الأخضر والآخرى تسكن الجبل. وكان للرجال في القبيلة التي تسكن الجبل جمال وروعة أما نساؤهم فكنّ ذوات دمامة وقبح. فالرجال أجمل من النساء كثيرا, أما القبيلة التي تسكن السهل والوادي فكانت نساؤها رائعة الجمال لا يستطيع الرجل أن يمعن النظر فيهن لشدة جمالهن, أما الرجال فكانوا على عكس ذلك فقد كانوا من القبح والدمامة بمكان فلا تطيق أن تعيش معهم من الدمامة والقبح.



    واستغل ابليس هذه المفارقة العجيبة وأراد أن يخلطهما ببعض حتى تشيع الفاحشة بينهم, فنزل على رجل من أهل السهل, وجاءه على هيئة غلام ليعمل في بستانه وزرعه, فاستأجره وجعله خادما له, فجاء لبليس بمزمار يحدث صوتا مثل مزامير الرعاة للغنم, وبدأ يحدث به صوتا عاليا ليسمع قبيلة الجبل صوتا غريبا فجاؤوا على هذا الصوت, وأقاموا حفلا جعلوه عيدا كل عام يأتون اليه وبدأت نساء السهل تخرجن متبرّجات وهن على قدر من الجمال_ فرآهن الرجال, وهرع رجل من الجبل الى أصحابه يحكي لهم عن الخبر فتحولوا اليهم ونزلوا معهم وظهرت الفاحشة الكبرى وحقق ابليس ما كان يريده, فلقد أقسم في السماء ليغوينهم أجمعين الا الصالحين منهم والمؤمنين بالله عز وجل.



    وكثر بنو قابيل وظهرت المعصية, وأكثروا الفساد وأصبح ابليس وأبنائه بينهم يفعلون بهم ما يريدون ويدعوهم الى المعصية فيستجيبون.



    وقد كانت الفترة ما بين وفاة آدم ونوح عليهما السلام حافلة بالايمان والفساد وممن آمنوا وكانوا صالحين: ودّا ويغوث, ويعوق, وسواع, ونسر كانوا قوما صالحين وكان لهم أتباع يقتدون بهم.( تفسير ابن كثير سورة نوح).



    وتذكر أن آدم عليه السلام له أربعون ولدا عشرون غلاما وعشرون جارية فكان ممن عاش منهم هابيل وقابيل, وود, كان ود يقال له: شيث ويقال له هبة الله, وقد جعله اخوته رئيسا وسيدا عليهم, وولد له سواع ويغوث ويعوق ونسر.

    كان "ود" رجلا صالحا كما ذكرنا, وكان محببا في قومه, فلما مات عكفوا على الجلوس حول قبره في أرض بابل وحزنوا عليه حزنا شديدا وأصبحوا يزورون قبره بصفة دائمة, ورأى ابليس حالهم هذا وجزعهم عليه فأراد أن يستثمر هذا الضعف فيهم فتشبّه بصورة انسان ثم قال لهم: اني أرى جزعكم على هذا الرجل, فهل لكم أن أصوّر لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به؟.

    فقالوا: نعم.

    فصنع ابليس صنما مثل "ود" فوضعوه في ناديهم فجعلوا يقدّسون الصنم ويذكرونه صباح مساء.

    فلما رأى ابليس ذلك منهم واطمأن الى غيّهم قال لهم في خطوة جعلته يتمكن من عقيدتهم ويفسدهم_قال: هل أجعل لكم في منزل كل منكم تمثالا مثله ليكون له في بيته فتذكرونه, وتعبدونه؟

    قالوا: نعم.

    فصنع لكل أهل بيت تمثالا مثله, فأقبلوا على هذه التماثيل الأصنام التي حملت اسم الرجل "ود" ولما جاء أبناؤهم أدركوا ما يفعله الآباء, جعلوا يقلّدونهم فيما يصنعون بهذ التماثيل من عبادة وتأليه, وتواليت بعد ذلك أجيالهم وأحفادهم في عبادة الأصنام, ونسوا "ود" الرجل الصالح وجعلوه صنما يعبد من دون الله وبذلك استطاع ابليس أن يحول اسم الرجل الصالح الى رمز للوثنيّة والكفر, فكان "ود" أول ما عبد غير الله, وكان أول صنم يعبد من غير الله اسمه "ود". (قصص الأنبياء لابن كثير).

    وقد أضل بهذه الأصنام كثيرا من الأمم فقد استمرّت في عبادتها هذه الأمم قرونا عديدة حتى الى زمان جاهلية العرب قبل الاسلام وقد قال المفسرون (ابن عباس في تفسير ابن كثير): صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد ذلك. فمثلا "ود" كان صنما لبني كلاب بن الجندل, وأما سواع فكانت لهزيل, وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف _عند سبأ_ وأما "يعوق" فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي كلاع وكلها قبائل عربية قديمة _ وهي أسماء قديمة لرجال صالحين عاشوا في زمن قبل نوح عليه السلام ما بين آدم ونوح.

    وقد كان بين نوح وآدم عليهم السلام عشرة قرون, كلهم على شريعة من الحق, فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين, وقد جاء القرآ، بقوله تعالى:{ وما كان الناس الا أمّة واحدة فاختلفوا} البقرة 213, كانوا على الهدر جميعا فاختلفوا, وزيّن لهم الشيطان عبادة الأصنام, فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين, فكان أول نبي بعث نوح عليه السلام. تاريخ الطبري.



    2. مئات السنين:


    ان الله تبارك وتعالى لما أجمع القوم على العمل بما يعصيه سبحانه عز وجل ويكرهه من خلقه من ركوب الفواحش وشرب الخمور والاشتغال بالملاهي عن طاعته عز وجل. لما رأى منهم كل ذلك أرسل نوحا اليهم وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة, وقيل أربعمائة وثمانين سنة, ثم عاش بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين, وقيل انه دعاهم في نبوته مائة وعشرين سنة. وركب السفينة وهو ابن ستمائة سنة, ثم مكث بعد ذلك ثلاثمئة وخمسين سنة. تاريخ الطبري.

    لبث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة الا خمسين عاما كما قال الله عز وجل يدعوهم الى الله سرا وجهرا, فيمضي قرن (مئة سنة) بعد قرن, فلا يستجيبون له حتى مضى على ذلك ثلاثة قرون وهو يدعوهم جهارا نهارا _ وهم من دعوته على حالهم, لا يسمعون له ولا يستجيبون. كان كلما دعاهم هجموا عليه وخنقوه حتى يغشى عليه, ويسقط على الأرض مغشيا عليه, فاذا أفاق قال: اللهم اغفر لقومي فانهم لايعلمون, وكان هذا العمل يتكرر دوما سنوات وسنوات وقيل أن نوحا كان يضرب من قومه حتى الوهن والضعف والمرض ويلف في ثياب كأنه مات, ويظن أنه قد مات, ثم يخرج فيدعوهم مرّة أخرى. (العرائس للثعلبي ص 47).

    كان يخرج مرّة أخرى ومرات يدعوهم, حتى كان الآباء يقولون للأبناء: قد كان نوح مع آبائنا وأجدادنا, وأجداد أجدادنا _ انه رجل مجنون لم يقبلوا منه دعوة دعاها ونحن لن نقبل دعوة يدعوها.

    وذات يوم جاء رجل ومعه ابنا يتوكأ على عصا مما أصابه من الشيخوخة, فقال العجوز لابنه وهو يشير الى نوح:

    أنظر يا بني الى هذا الشيخ ايّاك أن يغرّك.

    فقال الابن لأبيه: يا أبت أعطني العصا التي تتوكأ عليها. فأعطاه أبوه الشيخ العجوز العصا التي كان يتوكأ عليها وجلس على الأرض, فمشى الابن الى نوح عليه السلام, فضربه عدّة ضربات ولكن نوح عليه السلام لم ييأس وظلّ يدعو قومه عشرات ومئات السنين ولكن دون جدوى.( قصص الأنبياء لابن كثير ص 65).

    دعا نوح قومه الى افراد العبادة لله وحده لا شريك له, وألا يعبدوا معه صنما ولا تمثالا ولا طاغوتا وأن يعترفوا بوحدانيّته, وأنه لا اله غيره ولا رب سواه. وقال لهم نوح:

    {اعبدوا الله ما لكم من اله غيره, اني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم}.

    وقال:{ أن لا تعبدوا الا الله, اني أخاف عليكم عذاب يوم أليم}.

    وقال لهم نوح:{ ياقوم اني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون}.

    ترى بماذا أجابوا نوح بعد أن دعاهم الى الله عز وجل بكل أنواع الدعوة في الليل والنهار, والسر والعلانية, بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى, فلم ينجح كل هذا, واستمر أكثرهم على الضلالة والطغيان وعبادة الأصنام, ونصبوا لنوح العداوة في كل وقت وأوان, وتنقصوه وسخروا منه.

    وقالوا له:{ انا لنراك في ضلال مبين}.

    وقال لهم نوح:{ ياقوم ليس بي ضلالة ولكنّي رسول من ربّ العالمين} أي انني لست كما تزعمون من أني ضال, بل على الهدى المستقيم رسول من رب العالمين, أي الذي يقول للشيء كن فيكون.

    ثم قال نوح:{ أبلّغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون}.

    هكذا أجابهم نوح في بلاغ وذكاء وكلام مقنع لا جدال فيه.

    فقالوا له:{ ما نراك الا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك الا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنّكم كاذبين}.

    تعجب القوم أن يكون نوح بشرا رسولا, وتنقصوا ممن اتبعه وقالوا: انهم أراذلنا أي: الضعفاء منا, والأقل مكانة ومستوى منا, فنحن أفضل منهم مالا وحسبا ونسبا ولأنهم كذلك يا نوح: ضعفاء فقراء أراذل فقد استجابوا بمجرد ما دعوتهم اليه من غير نظر ولا رويّة ولا تمحيص.

    ونسي هؤلاء الكفار أن الحق ظاهر لا يحتاج الى رويّة ولا فكر ولا نظر.

    وظلوا يعترضون ويجادلون نوحا ومن آمن معه, فقالوا:

    { وما نرى لكم علينا من فضل} أي: لم يظهر لكم أمر بعد اتصافكم بالايمان ولا ميّزة علينا.

    واتهموه وقومه بالكذب وقالوا:{ بل نظنّكم كاذبين}.

    عند هذا الحد تحدث نوح عليه السلام بأنه صادق ولن يلزمهم أو يكرههم على شيء وأنه لا يريد منهم أجرا على دعوته اياهم, وان طلبت أجرا فاني سأطلبه من الله الذي ثوابه وأجره أفضل مما عندكم وخير مما تعطونني, ولن أطرد هؤلاء ولن أبعدهم عني فقد آمنوا بربهم مهما عرضتم من اغراءات.

    قال لهم نوح:{ أرأيتم ان كنت على بيّنة من ربي وءاتاني رحمة من عنده فعمّيت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} هود 29.

    وقال نوح:{ وما أنا بطارد الذين ءامنوا, انهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون}. هود 29.

    وقد تطاول الجدال والزمان بينهم وبين نوح عليه السلام, وكان كلما انقرض جيل منهم وصّ من بعده بعدم الايمان بدعوة نوح ومحاربته ومخالفته, وكان الوالد اذا بلغ ولده وعقل جلس اليه ووصاه فيما بينه وبينه, ألا يؤمن بنوح أبدا ما عاش وما بقي.

    وقالوا:{ يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا}. هود 32.

    ثم طلبوا معجزات ظنوا أن نوح لن يقدر عليها بأمر الله فقالوا:{ فأتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين{ هود 32.

    وجاء ردّه الأخير:{ ولا ينفعكم نصحي ان أردت أن أنصح لكم ان كان الله يريد أن يغويكم, هو ربّكم واليه ترجعون} هود 34.

    وجاء التأكيد من الله عز وجل أنه لا فائدة من هؤلاء فلن يؤمن منهم أحد الا من آمن. وقال الله عز وجلّ لنوح:

    { وأوحى الى نوح أنه لن يؤمن من قومك الا من قد ءامن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون} هود36.

    وبدأ نوح عليه السلام ينتظر أوامر أخرى من ربّه.

    3. بدء المعجزة الكبرى:

    بدأت المعجزة الكبرى لنوح عليه السلام بحوار جميل بينه وبين ربّه وكان بمثابة تقرير كامل عما كلفه الله به من عمل جاء في هذا الحوار الكريم:

    { قال رب اني دعوت قومي ليلا ونهارا* فلم يزدهم دعائي الا فرارا * واني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في ءاذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكبارا * ثمّ اني دعوتهم جهارا * ثم اني أعلنت لهم وأسررت لهم اسرارا * فقلت استغفروا ربّكم انه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا} نوح 5-11.

    وظلّ نوح عليه السلام يذكر لقومه ما دعاهم اليه, ويصوّر لهم عظمة الله في خلقه, ويبيّن لهم نعم الله عليهم _ ولم يكن لهذا اجابة أو سبيل_ فقد ضلوا ضلالا شديدا, وزاد فسادهم وخبثهم مع كثرة جدالهم واحساسهم بأنهم الأكثر فهما وعلما من نوح وهنا قدّم نوح عليه السلام نتائج عمله طوال مئات السنين وصبره على أجيال وأجيال منهم, فدعا ربه أن يهلكهم حتى لا يفسدوا في الأرض ويضلوا غيرهم ضلالا بعيدا وقال:

    { وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا * انك ان تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الا فاجرا كفارا} نوح 26-27.

    وجاء الأمر الكريم الذي حمل في طيّاته معجزات عظيمة.

    قال الله تعالى لنوح عليه السلام:

    { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا} هود 37.

    ولربما قال نوح: يا رب وما الفلك؟

    فقال له: بيت من خشب يجري على وجه الماء حتى أغرق أهل المعصية وأريح أرضي منهم.

    ربما سأل نوح عن الماء, وهو يعلم أن الله على كل شيء قدير.

    وقيل ان نوحا سأل عن الخشب, فأمره ربّه بغرس شجر الساج كثير الخشب عظيم الأصول والفروع, فأمره الله تعالى بذلك وظلّ يغرس ويغرس وانتظر أربعين عاما حتى أصبح الشجر غابات هائلة. وفي هذه السنوات توقف نوح عن دعوة قومه الى عبادة الله فلم يدعهم فأعقم الله تعالى أرحام نسائهم فلم يولد لهم ولد, فلما كبر الشجر أمره ربه أن يقطع الشجر فقطعه وجففه ثم قال: يا رب كيف أتخذ هذا البيت أي كيف أصنع هذه السفينة؟ فقال له: اجعله مائلا على ثلاث صور رأسه كرأس الديك وجوفه كجوف الطير وذنبه كذنب الديك مائلا واجعلها متطابقة واجعل أبوابها في جنبيها واجعلها ثلاث طبقات واجعل طولها ثمانين ذراعا وارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعا. أورد هذا الثعلبي في العرائس وقال أن هذا قول أهل الكتاب .ص 47-48.

    هذا المجنون يتخذ بيتا يسير به على الماء_ يقصدون السفينة_ ثم يضحكون.

    وقد جاءت صورة هذا المشهد في القرآن الكريم في قوله تعالى: { ويصنع الفلك وكلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه} هود 39. أي يستهزئون به وقد استبعدوا أن يحدث ما توعّدهم به.

    فيجيب عليهم نوح قائلا: { قال ان تسخروا منّا فانّا نسخر منكم كما تسخرون}. هود 39.

    ثم أضاف موضحا ما توعّدهم بأنه وقومه سوف يسخر منهم ويتعجب منهم من استمرارهم على كفرهم وعنادهم الذي سوف يقتضي وقوع العذاب بهم وحلوله عليهم لاحقا (قصص الأنبياء لابن كثير ص 180), مؤكدا وقوع ذلك بقوله:{ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم} هود 39.

    وأوحى الله الى نوح عليه السلام أن عجّل صنعة الفلك, وانته من صناعة السفينة, فقد اشتد غضبا على من عصاه _ عند ذلك استأجر نوح أجراء وعمّال يعملون معه في صنع السفينة وأولاده سام وحام ويافث ينحتون معه السفينة فجعلها ستمائة وستين ذراعا للطول وعرضها ثلاثمائة وثلاثين ذراعا وطولها في السماء ثلاثة وثلاثين ذراعا وطلاها بالقار داخلها وخارجها بعد أن فجر الله له عين القار بجوار السفينة تغلي غليانا وشدّها بالمسامير الحديد وطلاها كلها بالقار, وجاء في قوله عن المسامير الحديد:{ وحملناه على ذات ألواح ودسر}.

    وقد كان عيسى بن مريم يحيي الموتى بأمر الله, فقال له الحواريون: لو بعثت لنا رجلا من قبره يكون قد رأى سفينة نوح فيحدثنا عنها! فانطلق عيسى عليه السلام والحواريون خلفه حتى وصل الى كثيب من تراب, فأخذ حفنة من التراب وقال: أتدرون ما هذا التراب؟

    قالوا: الله ورسوله أعلم!!

    قال عليه السلام: هذا قبر حام بن نوح, فضرب التراب بعصاه وقال: قم باذن الله, فاذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه, وقد شاب شعره وأصبح شيخا عجوزا, فقال له عيسى عليه السلام: أهكذا مت وهلكت؟

    فقال حام بن نوح: لا, ولكني مت وأنا شاب؛ ولكني ظننت أنه الساعة (يوم القيامة) فشبت من الخوف.

    فقال عيسى عليه السلام: حدّثنا عن سفينة نوح.

    قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات: فطبقة فيها الدواب والوحوش, وطبقة فيها الانس, وطبقة فيها الطير.

    فلما كثر ارواث الدواب أوحى الله الى نوح أن اغمز ذنب الفيل, فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة, فأقبلا على روث الحيوانات. رواية الطبري في تاريخه عن ابن عباس ج 1 ص 181 طبعة احياء التراث.

    4. فار التنور:

    نعود الى نوح عليه السلام.

    انتهى نوح من السفينة فبناها, وأعدها كما يجب, وما بقي الا ايجاد البحر الذي ستبحر عليه وتتطهر الأرض بمائه من دنس الكفار.

    حدّد الله مكان وزمان البداية بأمر عظيم وكريم, فجعل خروج الماء من التنور وفورانه هو بداية المعجزة الكبرى التي هزت الدنيا بأسرها, وقد كانت كلمة السر أو علامة السر هي فوران التنور, وقد قالوا عن فوران التنور عدة أقوال أولها: أنه طلوع الفجر وبزوغ الصباح.

    وأشهر ما قيل في التنور أنه مكان صناعة الخبز, وكان فرنا أو تنورا من حجارة, وكان لآدم ثم انتقل الى نوح فقيل له: اذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك. فنبع الماء من التنور فعلمت به امرأته فأخبرته وقالت له: لقد فار الماء من التنور.

    وقيل ان التنور فار في الكوفة, وقيل بالشام في موضع اسمه عين الورق, وقيل انه بالهند. تاريخ الطبري ج1 ص 182 والعرائس للثعلبي ص 48.

    فلما رأى نوح فوران التنور علم أنها البداية, بداية هلاك قومه.

    كان فوران الماء علما واخبارا لنوح عليه السلام ببداية معجزته كنبي ودليلا على هلاك قومه_ كان الأمر الرباني من جزئين:

    الجزء الأول: اشارة البدء المتفق عليها والموصى بها لنوح عليه السلام وهي فوران التنور.

    أما الجزء الثاني قكان كما ذكرت الآية الكريمة:{ قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك الا من سبق عليه القول ومن ءامن, وما ءامن معه الا قليل} هود 40.

    وقد قال المفسرون: ان الله أرسل المطر أربعين يوما وليلة فأقبلت الوحوش والطير والدواب الى نوح حين أصابها المطر, وسخرت له, فحمل كل منها كما أمره الله عز وجل:{ من كل زوجين اثنين} وبدأ في ادخال الحيوانات والطيور وكان آخر ما حمل الحمار فلما دخل الحمار بصدره تعلق ابليس بذنبه أو ذيله فلم تستقل رجلاه فجعل نوح يقول ادخل فينهض فلا يستطيع _ حتى قيل ان نوح قال: ويحك ادخل وان كان الشيطان معك _ كلمة زلّ بها لسان نوح فلما قالها نوح خلى الشيطان سبيله فدخل ودخل الشيطان معه. فقال له نوح: ما أدخلك يا عدو الله _ فقال الشيطان: ألم تقل أدخل ولو كان الشيطان معك؟ّ!

    قال نوح: أخرج يا عدو الله..

    فقال: ما أخرج _ وزعم المؤرخون أنه أي الشيطان كان في الفلك. عرائس المجالس ص 49.

    وقيل ان الحيّة والعقرب أتيا نوح فقالا: احملنا فقال: انكما سبب الضرر والبلايا فلا أحملكما.

    قالا: احملنا ونحن نضمن لك أن لا نضر أحدا ذكرك, فمن قرأ حين يخاف مضرتهما ( الحية والعقرب) من قرأ:{ سلام على نوح من العالمين * انا كذلك نجزي المحسنين * انه من عبادنا المؤمنين} لم يضراه أو يصيبه أذى أبدا.

    وقيل ان نوح عليه السلام قال: يا رب كيف أصنع بالأسد والبقر, وكيف أصنع بالعناق والذئاب, وكيف أصنع بالحمام والقط؟

    قال الله تعالى لنوح: من ألقى بينهم العداوة يا نوح؟

    قال نوح عليه السلام: أنت يا رب العالمين.

    فقال عز وجلّ لنوح: فأنا الذي أؤلف بينهم حتى لا يتضاروا ولا يضرّ بعضهم بعضا.

    فحمل نوح عليه السلام السباع والدواب في الطبقة الأولى.

    فألقى الله على الأسد الحمى وشغله بنفسه عن الدواب والبقر.

    وجعل الوحوش في الطابق الثاني من السفينة, وركب هو ومن معه من أولاد آدم في الطبقة العليا.

    وهبط جبريل هليه السلام الى الأرض.. وحمل الى نوح عليه السلام في السفينة من كل حيوان وطير ووحش زوجين اثنين, بقرة وثورا, فيلا وفيلة, عصفورا وعصفورة, نمرا ونمرة, قطا وقطة.. الى آخر المخلوقات.

    كان نوح عليه السلام قد صنع أقفاصا للوحوش وهو يصنع السفينة.. وساق جبريل عليه السلام أمامه من كل زوجين اثنين, لضمان بقاء نوع الحيوان والطير على الأرض.

    وهذ دليل على أن الطوفان أغرق الأرض كلها, فلولا ذلك ما كان معنى لحمل كل هذه الأنواع من المخلوقات حيوان وطير_ أليف وغير أليف صعدت كل هذه الحيوانات والوحوش والطيور كما ذكرنا, وصعد الذين آمنوا مع نوح, قيل انهم كانوا ثمانين انسانا. ابن عباس , العرائس ص49.

    كان عدد المؤمنين قليلا.

    فقد جاء تأكيد ذلك في الآية الكريمة: { وأهلك الا من سبق عليه القول ومن ءامن, وما ءامن معه الا قليل}. هود40.

    انتهى كل هذا وأصبحت السفينة جاهزة على الأرض. وانتظر نوح ومن معه أمر الله سبحانه عز وجلّ, وقد جعل الله فوران التنّور آية بينه وبين نوح وعهد الله اليه فقال: اذا رأيت التنور قد فار فاركب أنت ومن معك على الفلك واحمل فيها من كل زوجين اثنين كما قال الله تعالى:{ حتى اذا جاء أمرنا وفار التنور}.

    جاء أمر الله هنا أي: جاء عذابه وهو الطوفان الهادر.

    لم تكن زوجة نوح مؤمنة به فلم تصعد الى السفينة وهي أم أولاده كلهم وهم: حام وسام ويافث ويام, ويسميه أهل الكتاب كنعان, وهو الذي قد غرق في الطوفان, فقد ماتت قبل الطوفان وقيل انها غرقت مع من غرق, وكانت ممن سبق عليها القول لكفرها. وقد نزلت فيها الآية الكريمة في سورة التحريم في قوله تعالى: { ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأة لوط, كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين}.

    وبدأ الطوفن الهادر.. وما أدراك ما الطوفان الهادر..

    جاء وصف الطوفان في القرآن _ حينما جاء أمر الله_ وفار التنور في الفرن الكائن في بيت نوح عليه السلام.

    قال القرآن الكريم عن الطوفان الذي سبقه دعاء نوح, قال نوح: { فدعا ربه أني مغلوب فانتصر}.

    ماذا حدث بعد هذا الدعاء؟ بدأ الطوفان الهادر بأمر من الله, اذ يقول الله عز وجل: { ففتحناأبواب السماء بماء منهمر}, { وفجرنا الأرض عيونا}.

    أرسل الله من السماء مطرا لم تعهده الأرض قبله ولا تمطره بعده, وكان كأفواه القرب, وأمر الله الأرض فنبعت من جميع أرجائها.. آبارا وعيونا تضخ بالماء.

    ارتفع الماء الى أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعا وهو الذي قاله أهل الكتاب وقيل ثمانين ذراعا. وعمّ جميع الأرض طولها والعرض سهلها وحزنها, وجبالها وقفارها ورمالها, ولم يبق على وجه الأرض ممن كان بها من الأحياء عين تطرف ولا صغير ولا كبير, وكان أهل ذلك الزمان قد ملؤوا السهل والجبل, فلم تكن بقعة على الأرض الا ولها ملك وصاحب وحائز. قصص الأنبياء لابن كثير ص 73.

    ارتفعت المياه من فتحات الأرض, لم تبق هناك فتحة في الأرض الا وخرج منها الماء انهمرت من السماء أمطارا غزيرة بكميّات لم تر مثلها الأرض, ومضت ساعات وساعات وانفجرت حركة غير عادية, ارتفعت قيعان المحيطات ارتفاعات مفاجئة, واندفع موج البحار يكتسح الجزء اليابس من الأرض.

    وغرقت الكرة الأرضية للمرة الأولى في المياه.

    لم تعد كرة أرضية, با أصبحت كرة مائية, لأن الطوفان أغرقها جميعا بالماء ولم يبق فيها أرض يابسة أبدا.

    وقد ذكر أن الطوفان حدث في شهر أغسطس, في الثالث عشر منه. تاريخ الطبري ج 1 ص 189 ط المعارف.

    وقد طغى الماء وارتفع الموج ارتفاعا هائلا, وقال عز وجلّ:{ انا لمّا طغا الماء حملناكم في الجارية* لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية} الحاقة 11-12.

    كان كنعان بن نوح عليه السلام كافرا, ولم يكن نوح يعرف هذا عنه حتى جاءت لحظة الطوفان, وكان يتصوّر أنه مؤمن عنيد, اختار النجاة باللجوء الى الجبل, وكان ارتفاع الموج قد أنهى حوارهما قبل أن يعرف نوح أنه مؤمن وقد جاء هذا الحوار في القرآن الكريم:

    { وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بنيّ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي الى جبل يعصمني من الماء, قال لا عاصم اليوم من أمر الله الا من رحم, وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}.

    وعندما حال الموج بين نوح عليه السلام وبين ابنه, ولم يكن نوح قد تأكد من ايمان ابنه, ولم يعلم أنه من الكافرين. لجأ نوح عليه السلام الى ربه ترى ماذا قال نوح عليه السلام لربه

    في شأن ابنه. ذلك ما ترويه الآية المباركة فتقول:

    ونادى نوح ربه فقال: { ونادى نوح ربه فقال رب ان ابني من أهلي وانّ وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين} هود45.

    أراد نوح أن يقول لربه, أن ابنه من أهله, وقد وعده الله بنجاة كل أهله المؤمنين. فجاء الرد من الله عز وجلّ لنوح عليه السلام, ليكشف حقيقة هذا الابن الغريق.

    قال تعالى:{ قال يانوح انه ليس من أهلك, انه عمل غير صالح, فلا تسئلن ما ليس لك به علم, اني أعظك أن تكون من الجاهلين} هود 46.

    غرق الابن, وغرق أهل الكفر والطغيان, وبدأت رحلة العودة, الوعدة للأرض الطاهرة التي خلت تماما من الكفر والكفار.

    جاء الأمر من الله:{ وقيل يا أرض ابلعي ماءك} فتوقف الماء الذ كان يتدفق من العيون.

    { وياسماء أقلعي} فتوقف الماء المنهمر من السماء.

    { وغيض الماء} بمعنى أنه نقص, وانصرف عائدا الى باطن الأرض.

    ورست سفينة نوح عليه السلام على الأرض, وهلك الظالمون, وقال رب العزة لنوح:{ اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك, وأمم سنمتعهم ثم يمسّهم منا عذاب أليم}.

    ورست السفينة, وهبط نوح عليه السلام, وأطلق سراح الطيور والوحوش فتفرّقت في الأرض جميعا, وعلم نوح عليه السلام أن الأرض قد جفت ويبست من الماء عندما بعث غرابا يأتيه بالخبر, فوجد "جيفة" فظلّ يأكل منها واشتغل عنه بالأكل ولم يرجع اليه فدعا عليه بالخوف ولذلك الغراب لا يألف البيوت. العرائس ص 51.

    ثم بعث الحمامة فطارت وجاءت عائدة بغصن زيتون بمنقارها وطين برجليها فعلم أن البلاد قد جفت وطوقها بالخضرة التي نجدها في عنق الحمام أحيانا ودعا لها أن تكون في أنس وأمان فمن ثم تألف البيوت, ويربيها الناس فلا تخاف وتطير مسافات وتعود الى أصحابها.

    هذه هي معجزة نوح , لم تكن معجزة التنور الذي فار منه الماء وحده وانما حياة نوح ألف سنة الاخمسين معجزة.

    وبناء السفينة وما احتاجه من زراعة الشجر وانتظار خشبه عشرات السنين معجزة.

    وركوب السفينة مع الحيوانات على اختلاف أنواعها معجزة.

    والطوفان الهادر معجزة, والهبوط معجزة.

    انها معجزات النبي نوح عليه السلام وليست قصة حياته.
    إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
    نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
    جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

    تعليق


    • #3
      صالح
      رغت الناقة وصاح جبريل



      قال تعالى:



      { انا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر * ونبّئهم أن الماء قسمة بينهم, كلّ شرب محتضر * فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر * فكيف كان عذابي ونذر * انّا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتضر} القمر 27-31.



      1. المعجزة:



      ان الله سبحانه وتعالى عندما يؤيد رسله وأنبياءه بالمعجزات فانه لا يتحدى بها فردا واحدا, ولكنه يتحدى أمة بأكملها, انه يطلب منهم أن يستعين بعضهم ببعض ان استطاعوا, ولن يستطيعوا.



      وحتى لا يقول الكفار: لقد جاء نبي يدعو الرسالة بشيء لم نتقنه ونبغ فيه, ولو تعلمناه لجئنا بمثل هذه المعجزة, جاءهم بشيء تعلموه بل ونبغوا فيه واشتهروا بفعله, ثم بعد ذلك تحداهم به, لكنهم يعجزون!!



      ومعنى التحدي هو اثارة حماس القوى المعارضة لتفعل والقوى المعارضة هي الكفار, أو غير المؤمنين.



      لقد تحدّاهم علنا, لتهيج نفوسهم أمام الناس, ويحاولوا قدر طاقاتهم أن يأتوا بمثل المعجزة ويحشدوا لها طاقاتهم, بل ويجنّدوا لها للرد عليها, ولكنهم مع كل ذلك, ورغم كل ذلك يعجزون.



      واذا كان صالح عليه السلام قد احتاج من الله عز وجلّ معجزة, كي يعزز دعوته ورسالته بالحجة التي لا ترد فاننا يجب أن نعرف معنى المعجزة وما هي المعجزة؟



      (ومعنى المعجزة أن يأتي الله سبحانه وتعالى على يد رسول من البشر بأمر خارق ليثبت بها صدق بلاغ هذا الرسول عن الله عز وجل, فكان الرسول يقول: أنا لم أعرف بينكم بما نبغتم فيه, ولكني أتيت بشيء لا تقدرون عليه. وأنا أتحداكم أن تجتمعوا جميعا وتستعينوا بعضكم ببعض.. ولن تقدروا على الاتيان بهذ المعجزة. وهذ دليل صدقي في التبليغ عن الله.. ان أعوزكم الدليل, وكنتم في شك مما أقول). معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ محمد متولي الشعراوي.



      نعود الى صالح عليه السلام الذي أرسله الله تعالى الى قوم ثمود, وثمود قبيلة كبيرة كانت تعبد الأصنام, فأرسل الله سيدنا صالحا اليهم, وقال صالح لقومه:



      { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره}.هود61.



      قال لهم صالح نفس الكلمة التي يقولها كل نبي لقومه, هي هي لا تتغيّر ولا تتبدّل {اعبدوا الله ما لكم من اله غيره}, وكانت دعوة صالح عليه السلام مفاجأة لهم, لأنه يتهم آلهتهم ويقول أنها بلا قيمة, وهو ينهاهم عن عبادتها ويأمرهم بعبادة الله وحده, وأحدثت دعوته هزة كبيرة في مجتمعهم وكان صالح معروفا بينهم بالحكمة والنقاء والخير, فكان يحظى باحترامهم جميعا قبل أن يوحي الله اليه ويرسله بالدعوة اليهم. ولذلك فانهم توجهوا اليه بالحديث فقالوا:



      { قالوا ياصالح قد كنت فينا مرجوّا قبل هذا, أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا واننا لفي شك مما تدعونا اليه مريب}. هود 62.



      لقد استنكروا على صالح أن يقول هذا, وقالوا: هذا الرجل الذي كان لنا رجاء حسنا فيه لعلمه وعقله وصدقه وحسن تدبيره, يصدر منه مثل هذا الكلام, أيعقل هذا؟ لقد خاب رجاؤنا فيك يا صالح.. أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟ وظلوا يستنكرون ما هو حق وواجب, ويدهشون أن يدعوهم أخوهم صالح الى عبادة الله وحده.



      لم تكن لديهم حجج ولا براهين في الرد على صالح, سوى هذا التفكير وهذه الكلمات, فقط هم غاضبون ومندهشون لأن الآلهة التي يريد أن يبعدهم عنها صالح كان آباؤهم وأجدادهم يعبدونها!!



      حطم صالح عليه السلام جدار الجهل الذي يستظلون به وحطم العادات المهلكة والتقاليد البالية التي سيطرت على عقولهم عن التفكير نهائيا فما ان أثار صالح عليه السلام حركة هذه العقول لتفكر, وتتدبر أمرا بّينا واضحا, ما ان فعل هذا حتى استشاط غضبهم, واختلطت الحيرة بالغضب واليأس والطيش, فصاروا لا يدركون ما يقولون, لأنهم أمام خيارين اما تتفتح عقولهم وتقبل ما يقوله صالح عليه السلام أو يتركوا هذه العقول تتحجر وتقف عند أفكار السابقين وخرافاتهم, وأوهام العادات والتقاليد المستقرّة في رؤوسهم حتى أنه تمكّنت لدرجة الجهل المطبق.



      وكانت دعوة صالح لهم واضحة وضوح الشمس, فهي دعوة التوحيد في صميمها, وهي اعلان مباشر بحرية العقل وحرية التفكير وحرية الاختيار فهذه الحجج بين أيديهم الله واحد, خالق كل شيء, لا شريك له وهو النافع وهو الرازق وهو الرحيم_ أمام حجر لا ينفع ولا يضر من صنع من يعبدونه, وهو من خلق الله سبحانه عز وجلّ.



      وقد ساق صالح عليه السلام حججا يعيشونها فقال لهم:{ اعبدوا الله ما لكم من اله غيره}.



      ثم ذكرهم بالنعم فقال: { واذكروا اذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا}.



      وذكّرهم بنعم الله فقال:{فاذكروا ءالاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين}.



      أي انما جعلكم الله خلفاء من بعد قوم عاد لتعتبروا بما كان من أمرهم, وتعملوا بخلاف ما عملوا, وأباح لكم الأرض تبنون من سهولها قصورا, وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين أي متميّزين وحاذقين في صنعها واتقانها واحكامها, فقابلوا نعمة الله بالشكر والعمل الصالح, والعبادة له وحده لا شريك له, وايّاكم ومخالفته والعدول عن طاعته, فان عاقبة ذلك وخيمة. قصص الأنبياء لابن كثير 100-102.



      ولهذا وعظهم صالح بقوله:{ أتتركون في ما ههنا آمنين* في جنّات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم}.



      أي متراكم كثير حسن بهيّ ناضج.



      ولما عارضوه وقالوا: انك كنت فينا عاقلا وحكيما الى آخر هذه الحجج الضعيفة التي يردون هم عليها دون أن يشعرون, لما قالوا ذلك تلطف صالح في رده عليهم وألان لهم الجانب, فقال لهم:{ يا قوم أرأيتم ان كنت على بيّنة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله ان عصيته فما تزيدوني غير تخسير}.





      قال لهم: فما ظنكم ان كان الأمر كما أقول لكم وأدعوكم اليه؟ ماذا يكون عذركم عند الله؟ وماذا يخلصكم بين يديه وأنتم تطلبون مني أن أترك دعاءكم الى طاعته؟ وأنا لا يمكنني هذا لأنه واجب عليّ لو تركته لما قدر أحد منكم ولا من غيركم أن يجيرني منه ولا ينصرني, فأنا لا أزال أدعوكم الى الله وحده لا شريك له, حتى يحكم الله بيني وبينكم. المصدر السابق.



      ولكنهم بعد ذلك اتهموا صالح بأن له سحرا, أو أنه مسحور لا يدري ما يقول في دعائه لهم الى افراد العبادة لله وحده, وترك ما سواه من الأصنام والأنداد.



      ظلوا يقولون له هكذا ويعارضونه يمينا ويسارا وصالح عليه السلام يدعو ليل نهار, ويأتي بالحجج من هنا والأخرى من هناك, لعلهم يرجعون عما هم فيه.



      طلب منهم أن يستغفروا الله عسى الله أن يغفر لهم ذنوبهم, وطلب منهم أن يتوبوا اليه, ويقلعوا عما هم فيه ويقبلوا على عبادته, فان فعلوا ذلك, فانه عز وجل يقبل منهم ويتجاوز عنهم وقال لهم:{ انّ ربّي قريب مجيب}.



      ولكن كل هذا دون جدوى, وأحس صالح عليه السلام أن الأمر قد صعب تماما, وأن الأمور تسير الى الاتجاه الأسوأ فكلما دعا هؤلاء تمرّدوا وتملّصوا وجادلوا في أمر من أمور جاهليّتهم في جدال لا ينقطع ولا تنفع معه الحجة والوضوح لأن الطرف الآخر الذي هو شريك في هذا الحوار طمس الله على عقولهم, ولم يعودوا يتفكّرون في أمر أو يتدبّرون شيئا أبدا كان لا بد لهم من معجزة تعجزهم وتخرس ألسنتهم, تكون خارقة فلا تتحرّك ألسنتهم بجدل أبدا, وجاء الحل على لسانهم فقالوا لصالح عليه السلام:



      {فأت بآية ان كنت من الصادقين}.



      طلبوا منه أن يأتيهم بخارق يدلّ على صدق ما جاءهم به.



      2. الناقة المعجزة


      وقد ذكر المفسرون أن ثمود اجتمعوا يوما في ناديهم, فجاءهم رسول الله صالح فدعاهم الى الله, وذكّرهم وحذرهم ووعظهم وأمرهم, فقالوا له: ان أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة, وأشاروا الى صخرة هناك_ ان أنت أخرجت لنا منها ناقة_ من صفاتها كذا وكذا وذكروا أوصافا فأسموها ونعتوها وتفننوا فيها, وأن تكون عشراء طويلة.( قصص الأنبياء لابن كثير).



      فقال لهم صالح عليه السلام وهو يعرفهم ويعرف طباعهم: أرايتم ان أجبتكم الى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم, أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقون ما أرسلت به؟



      كان شرط صالح عليه السلام واضحا لاجدال فيه, فهم يطلبون ناقة تخرج من صخرة أمامهم, عشراء طويلة, بكل الأوصاف التي طلبوها, وهذ الأمر في حدود تفكير البشر مستحيل, وقد طلبوه خصيصا لأنه مستحيل وظنوا أنهم بطلبهم المستحيل هذا يعجزون صالح.



      هكذا وصلت حدود البشر ولا حدود لهم تتجاوز هذا الأمر.



      أمّا صالح عليه السلام فقد استوثق منهم العهد ووضع الشرط وهو على يقين دائم بأن الله سبحانه عز وجل لن يخذله أبدا, ولم يتطرّق الى تفكيره أن ما يطلبونه مستحيل بل هو يسير على الله عز وجل فليطلب من ربه المعجزة اليسيرة على الله سبحانه, المستحيلة في ظنهم.



      وانتظر القوم, وجهزوا سخريتهم عندما يعجز صالح عن الاتيان بناقة تخرج من هذه الصخرة التي أشاروا اليها وهذا مستحيل في ظنّهم وعرفهم ويقينهم.



      اتجه صالح عليه السلام الى ربه, وقام الى مصلاه فصلى لله عز وجلّ ما قدّر له أن يصلي, واتجه في خشوع وايمان الى ربه بالدعاء, فطلب من ربه أن يجيبهم الى ما طلبوا, فكان منه الدعاء ومن الله الاستجابة.



      استجاب الله عز وجل فأمر سبحانه جلّ شأنه تلك الصخرة التي أشاروا اليها أن تنفطر عن ناقة عظيمة عشراء على الوجه والشروط التي وضعوها, أو على الصفة التي نعتوا.



      كانت الناقة آية ومعجزة من معجزات الله, لأن الآية هي المعجزة, ويقال أن الناقة كانت معجزة لأن صخرة في الجبل انشقت يوما وخرجت منها الناقة وخرج وراءها وليدها الصغير, وولدت من غير الطريق المعروف للولادة, ويقال أنها كانت معجزة لأنها تشرب المياه الموجودة في الآبار في يوم فلا تقترب بقية الحيوانات من المياه في هذا اليوم, وقيل انها كانت معجزة لأنها كانت تدر لبنا يكفي الناس جميعا في اليوم الذي تشرب فيه الماء فلا يبغي الناس منه شبعا.



      كانت هذه الناقة معجزة, ووصفها الله سبحانه وتعالى بقوله:{ ناقة الله}. هود 64.



      لقد أضافها الله لنفسه سبحانه عز وجل بمعنى أنها ليست ناقة عادية وانما هي معجزة من الله.



      نعود الى صالح عليه السلام بعد أن بيّنا كيف كانت الناقة آية ومعجزة.



      انفطرت الصخرة عن الناقة, وظهرت لهم مع وليدها. فلما عاينوها كذلك رأوا أمرا عظيما, ومنظرا هائلا, وقدرة باهرة, ودليلا قاطعا, وبرهانا ساطعا فآمن كثير منهم, واستمرّ أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم.



      قال لهم صالح عليه السلام: { ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب}.



      وأصدر الله أمره الى صالح أن يأمر قومه بعدم المساس بالناقة أو ايذائها أو قتلها, أمرهم أن يتركوها تأكل من أرض الله, وألا يمسوها بسوء, وحذرهم أنهم اذا مدّوا أيديهم بالأذى للناقة فسوف يأخذهم عذاب قريب.



      وقد أدهشت الناقة قوم ثمود في البداية, فقد كانت ناقة مباركة.. كان لبنها يكفي آلاف الرجال والنساء والأطفال, وكانت اذا نامت في موضع هجرته كل الحيوانات الأخرى, كان واضحا أنها ليست مجرّد ناقة عاديّة, وانما هي آية من آيات الله.



      وعاشت الناقة بينهم, فآمن منهم من آمن وبقي أغلبهم على الكفر والعناد.



      وكان رئيس الذين آمنوا رجل يقال له: جندع بن عمرو بن محلاة وكان من رؤسائهم وأشرافهم. قصص الأنبياء لابن كثير.



      وهمّ بقيّة الأشراف بالدخول في دين صالح الا أن رجلا يقال له ذؤاب بن عمر ورجل آخر اسمه الحباب كان صاحب أصنامهم نهياهم عن ذلك.



      ولما حذرهم صالح عليه السلام من أن هذه ناقة الله فلا يمسوها بسوء أبدا, تحسّروا على أن تبقى بين أظهرهم, ترعى حيث شاءت من أرضهم وترد الماء يوما بعد يوم, وكانت اذا وردت الماء تشرب ماء البئر يومها ذلك, فكانوا يرفعون حاجتهم من الماء في يومهم المخصص لهم ليشربوها في اليوم التالي يوم الناقة, ويقال أنهم كانوا يشربون من لبنها كفايتهم, ولهذا قال:{ لها شرب ولكم شرب يوم معلوم}.



      وكانت الناقة فتنة لهم واختبارا عظيما لايمانهم ليرى ايؤمنون بها أم يكفرون؟ والله أعلم بما يفعلون.



      وقد قال الله عز وجل لصالح:{ فارتقبهم} أي انتظر ما يكون من أمرهم { واصطبر} على أذاهم فسيأتيك الخبر على جليّة. وقال له عز وجل:

      { ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر}.



      ورغم أنه كان واضحا أنهاليست مجرد ناقة عادية, وانما هي آية ومعجزة من معجزات الله, رغم ذلك تحوّلت الكراهية عن سيدنا صالح الى الناقة المباركة!! تركزت عليها الكراهية, وبدأت المؤامرة تنسج خيوطها ضد الناقة.. كره الكافرون هذه الناقة العظيمة, وهذه الآية المعجزة, كرهوا ناقة الله وآية الله العظيمة, ودبّروا في أنفسهم أمرا.



      وقد كان طبيعيّا أن يجيء التدبير السيء من رؤساء القوم.



      وقد ذكر المؤرخون وعلماء التفسير(الطبري في تاريخه): أن امرأتين من ثمود اسم احداها "صدوقة" ابنة المحيا بن زهير المختار, وكانت ذات حسب ومال, وكانت تحت رجل مسلم آمن بصالح ففارقته وتركته, فدعت ابن عم لها يقال له "مصرع" بن مهرج بن المحيا, وعرضت عليه نفسها ان هو عقر الناقة, واسم الأخرى "عنيزة" بنت غنيم بن مجلز, وتكنّى أم غنمة أو أم عثمان وكانت عجوزا كافرة لها بنات من زوجها ذؤاب بن عمرو أحد الرؤساء فعرضت بناتها الأربع على قدار بن سالف, ان هو عقر الناقة فله أي بناتها شاء, أي واحدة منهن يرغبها.



      فابتدر وانتدب هذان الشابان لعقرها وسعيا في قومهم بذلك, فاستجاب لهما سبعة آخرون فصاروا تسعة. وهم المذكورون في قوله تعالى:



      { وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون}.



      وسعوا في بقيّة القبيلة قبيلة ثمود وحسّنوا لهم قتل الناقة وكان لهم مجلس كبير.



      فلما سقط الليل على مدينة ثمود. وانتصبت الجبال شامخة تحتضن البيوت المنحوتة فيها, وبدا واضحا للكافرين أن أحدا لا يمكن أن ينالهم بسوء.



      وفي داخل أحد القصور أضيئت المشاعل, وجلس الكفار وقد دارت عليهم كؤوس الشراب وهم شبه دائرة. كل رؤساء القوم حضروا هذه الجلسة الخطيرة. انعقدت الجلسة ودار بينهم حوار طويل.



      قال أحد الكافرين:{ أبشرا منّا واحدا نتبعه انا اذا لفي ضلال وسعر} القمر 24.



      وقال آخر:{ أءلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر}. القمر 25.



      وعادت الكؤوس تدور وانتقل الحوار من صالح الى ناقة الله.



      قال أحد الكافرين: اذا جاء الصيف جاءت الناقة الى ظل الوادي البارد فتهرب منه المواشي الى الحر.



      وقال كافر آخر: واذا جاء الشتاء بحثت الناقة عن أدفأ مكان واستراحت فيه فتهرب مواشينا الى البرد وتتعرض للمرض.



      وأصبح الجميع في سكر كامل وكؤوس الشراب تدور وهي تهتز في أيدي الشاربين, وأمر أحد الجالسين أن تكف المغنية عن الغناء حتى يستطيع أن يفكّر.. وصمت الجميع.



      ثم قطع هذا الرجل السكّير صمت الحاضرين بقوله: ليس هناك غير حل واحد.



      قالوا وما هو؟



      قال: نقتل الناقة, ثم بعدها نقتل صالحا.



      وبدأ الحاضرون في الحديث عن صالح بقول السوء فقال أحدهم: كم نتشاءم منه ونتطيّر, ومن ناقته ومن كل الذين أمنوا معه.



      انه حل واحد نقتل الناقة, ثم نثني عليه, طرح اسم القاتل, انه رجل جبار من جبابرة المدينة, رجل يعبث في الأرض فسادا ولا يكف عن شرب الخمر والويل لمن يعترضه وهو مخمور, وله أعوان يساعدونه على القتل. ويستطيعون أن يكونوا أداة للجريمة ويختاروا مكان التنفيذ بأنفسهم.



      3. ليلة المأساة


      وجاءت ليلة الغدر, كانت الناقة المباركة تنام وهي تضم لصدرها طفلها الصغير الذي استدفأ بها, واستعدّ المجرمون التسعة لجريمتهم وعلى رأسهم قدار بن سالف. لعنه الله, وخرجوا من جوف الظلام وفي نفوسهم الخيانة, وكان زعيمهم قدار بن سالف قد شرب كثيرا من الخمر, حتى لم يعد يرى ما أمامه وهجم الرجال التسعة على الناقة فنهضت واقفة ونهض طفلها فزعا, وامتدت الأيدي القاتلة اليها للقضاء عليها, وكان أوّل من سطا على الناقة هو قدار بن سالف, فعرقبها أي ضربها في عرقوبها فسقطت على الأرض, ثم ابتدروها بأسيافهم يقطعونها فلما رأى ذلك طفلها, شرد عنهم فعلا الى الجبل هناك ورغا ثلاث مرات.



      ولما علم صالح عليه السلام بما حدث خرج غاضبا على قومه, وقال لهم: ألم أحذركم أن تمسوا الناقة.



      قالوا: قتلناها فائتنا بالعذاب واستعجله لنا ألم تقل لنا أنك من المرسلين؟



      فقال لهم صالح عليه السلام:{ تمتعوا في دياركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب} هود 65, أي غير يومهم ذلك.



      فلم يصدقوه أيضا في هذا الوعد الأكيد, بل انهم لما أمسوا هموا بقتله وأرادوا, فيما يزعمون أن يلحقوه بالناقة, فأقسموا أن يهجموا عليه في داره فيقتلوه ولكن الله حمى نبيّه صالحا عليه السلام منه ونجاه.



      وقال الله عز وجل:{ قالوا تقاسموا بالله لنبيّتنّه وأهله ثم لنقولنّ لوليه ما شهدنا مهلك أهله وانّا لصادقون}. النمل 49.



      وأصبحت ثمود اليوم الأوّل من أيّام النظرة الثلاثة _ التي أنظرهم بها صالح_ ووجوههم مصفرّة, فلما أمسوا قالوا: ألا قد مضى يوم من الأجل ثم أصبحوا في اليوم الثاني من أيّام التأجيل, ووجوههم محمرّة وفي الثالث من أيّام المتاع اسودّت وجوههم. فلما أمسوا قالوا: ألا قد مضى الأجل. وليس هناك شيء من العذاب.



      وفي فجر اليوم الرابع انشقت السماء عن صيحة جبارة, انقضّت الصيحة على الجبال فهلك فيها كل شيء حي, وارتجفت الأرض رجفة جبّارة فهلك فوقها كل شيء.



      هلكوا جميعا في صرخة واحدة, أما الذين آمنوا بسيّدنا صالح فكانوا قد غادروا المكان مع النبي صالح عليه السلام ونجّاهم الله.
      إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
      نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
      جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

      تعليق


      • #4
        موسى

        القتيل ولحم البقر



        قال تعالى: { واذ قال موسى لقومه ان الله يأمركم أن تذبحوا بقرة, قالوا أتتخذنا هزوا, قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين* قالوا ادع لنا ربك يبيّن لنا ما هي, قال انه يقول انها بقرة لا فارض ولا بكر ولاعوان بين ذلك, فافعلوا ما تؤمرون}. البقرة 67,68.



        1. آزر وراحيل


        أعدّت راحيل الفراش لزوجها آزر بن حيلوت ليستريح من عناء التعب وراحت تسأله عن مغيبة بالأمس, وقد انتظرته طويلا في كوخهما فقال آزر: لقد أحسست ثقلا ووجعا, فقضيت الليلة عند أحد أصدقائي لعلي أصيب شيئا من الراحة, ولكني أصبحت أشد تعبا.



        فقالت راحيل: عما قليل ستشعر بالراحة تماما وما عليك الا أن تستريح وتحكي لنا ما صادفك في رحلة السوق هذه المرّة.



        فقال آزر: لا شيء يا زوجتي سوى التعب والشعور بمقدمات المرض, ولم أبع شيئا أو أشتر غير عجلة صغيرة عجفاء هزيلة قد يبلغ عمرها ثلاثة أشهر أو أربعة.. اشتريتها لولدي الياب.



        راحيل: وأين هي؟.. وما قصتها؟



        آزر: هي بقرة صغيرة ذات لون أصفر جميل يعمّ بدنها كلها, وقد وقع قلبي أن أشتريها.. وما ان اشتريتها حتى أقبلت تأكل ما قدّمت لها من الكلأ اليابس.. وهي الآن ترعى في الغيضة القريبة منا.. ثم سكت قليلا وقال: وأنت كيف أخبارك؟ وكيف حال ولدنا الياب؟ أين هو؟



        راحيل: يلعب مع صبيان القرية وهو بخير.., وقد مرّ بنا نبي الله موسى عليه السلام وهو عائد من جبل المناجاة وقد دعا لولدنا الياب فقبّله.. ومسح على رأسه ودعا له بخير _ ولكنه لم ينتظر كعادته_.



        آزر اذا كان لم ينتظر كعادته فلا بدّ أن بني اسرائيل أحدثوا حدثا في غيبته, فأخبره الله به, فرجع على هذه الحالة التي ذكرتها من الحزن والغضب.



        راحيل: سمعت أنه ترك بني اسرائيل يعبدون عجلا من ذهب صنعه لهم ساحر منهم اسمه السامري.. فكلمت نبي الله موسى حين جاء في ذلك فلم يجبني بجواب.



        آزر: هذا هو السبب, فما أشد ما يلقى نبي الله موسى من بني اسرائيل.



        قالت راحيل لزوجها آزر: ألا تقوم معي لتريني العجلة التي اشتريتها لولدنا الياب.



        قام الرجل يتوكأ على عصاه وسار هو وزوجته حتى بلغا مكان العجلة, فنظرت اليها راحيل, فاذا لونها الأصفر الجميل يتألق كأنه ينبعث منه شعاع الشمس, فسرّت بمنظرها سرورا عظيما, وأحسّت كأنما تطالعها بفأل حسن, وأخذت تمر بيدها على جسمها وتمسح لها رأسها وفمها.. والتفتت الى آزر وقالت:



        انظر يا آزر فانني أراها مقبلة على عشب الغيضة ولن تمضي عليها بضعة أيام حتى تمتلئ لحما.



        وبعد قليل استدار الزوجان عائدين الى الكوخ..



        قال آزر: انها حقا بقرة جميلة, وان قلبي يحدثني أن ستكون خير المال أتركه لولدي الياب..



        فاستاءت راحيل من اشارة آزر الى الموت وقالت: ولكنها تحتاج الى جهد ورعاية حتى تثمر ويجني ثمرها. فهي ضعيفة عجفاء كما ترى.



        فقال آزر: اعلمي أنني لا أورث ابني الياب سوى تقوى الله عز وجل, وهو سبحانه يتولى الصالحين وسيتولاني في ولدي الياب, وسيبارك له في مالي أو في كنزي الذي تتهكمين به.. فاذا أنا فارقتكم فالتفتي لولدك, وعلميه قواعد الايمان وما ورثناه عن آبائنا: ابراهيم واسحاق ويعقوب ويوسف وما تلقيناه عن نبي الله موسى ولا تهتمي بأمر العجلة.. لا تحرثي عليها أرضا, ولا تسقي بها زرعا, ولا تركبي لها ظهرا, ولا تحلبي لها لبنا.. ذريها واتركيها مسلّمة في الغيضة ولا تفكري فيها فانها ستكون بعين الله. ومتى كبر الياب فاذكري له شأنها.



        عاد الزوجان بعد هذه الرحلة الى الكوخ, فدخل آزر الى فراشه وقد أحسّ بالتعب يعاوده من جديد, وتحدث مع زوجته في أمور كثيرة تحدث معها عن خوفه من الموت وكرر لها الوصية بولده الياب والكنز الثمين وهو العجلة الصفراء العجفاء التي سيتركها له.



        وقال لها: لقد كان حقا علينا أن نتحدث عن الحياة لا عن الموت والفرح لا الحزن, نعم هذا الصبح سوف أحدثك عن الحياة والفرح وأقول لك انني أحب أن يتزوج ولدي الياب رفقة بنت شمعون فان أباها من صلحاء شيوخ بني اسرائيل..



        وكان شمعون بن نفتالي هذا رجلا غنيا يملك الكثير من الغنم والبقر ويملك الذهب والفضة, وصاحب وصديق نبي الله موسى عليه السلام الذي لا يكاد يفارقه, وهو شيخ من العبّاد, وكثيرا ما كان يقول لآزر: لقد سميّت ابنتي الوحيدة رفقة تيمّنا باسم رفقة زوجة أبينا اسحاق نبي الله, وأتمنى على الله أن يكتب لها الزواج من شاب صالح.. ثم يقول: حبذا لو كان هذا الشاب هو غلامك الصغير الياب فانه يكبرها بعامين.



        سعدت راحيل بهذا الكلام, وقالت: حبذا لو كان ذلك ان رفقة طفلة جميلة وستكون أجمل اذا ما كبرت..



        وسعدت راحيل أيضا بحديث زوجها المتفائل عن الزواج والفرح ولكن المرض اشتد على الرجل, ولم يمهله وقتا طويلا فتوفي بعد عدة أيام.



        2. زواج لم يتم



        جاء رجل يقال له منسى بن اليشع الى صديقه شمعون بن نفتالي الرجل الغني الصالح, وقال له: ان ناداب ابن أخيك صوغر قد أوفدني اليك لأرجوك أن تزوجه ابنتك رفقة, وأرى أن تجيب رجاءه رعاية لقرابته ورحمه.



        فقال شمعون على الفور وقد أشاح بوجهه: تكلم في غير هذا يا منسى, ولا تخاطبني في هذا الماجن الذي قطع علاقته بربه.



        وليكن في علمك يا منسى أن ناداب لا يريد الزواج برفقة؛ انما يريد أن يرثني.. ويريد أن تؤول تركتي اليه مع رفقة.. ولست أول من جاء ليخطب له ابنتي ومحال أن يكون ذلك.



        فقال منسى: لك الحق يا شمعون, واني أٌقرّك وأوافقك على كل كلمة قلتها, وما حملني على أن أكون رسوله اليك الا ما رأيته في عينيه من الشر, فاني أخشى أن يقتلك ويؤذي ابنتك من بعدك.



        فقال شمعون: هذا ما أشعر به يا منسى, وذلك ما أتوقعه من هذا الشرير, ومع ذلك فلن أزوّجها له, وليفعل ما يشاء.



        صمت منسى لحظة ثم قال: ولكن عليك أن تدبر أمر ابنتك من الآن, وتختار لها بنفسك الشاب الذي تراه كفءا لصلاحها وعقلها.



        قال شمعون: اخترت لها الياب ابن صديقي آزر رحمه الله. ولكني لا أعرف أين يقيم, وأنا دائم البحث عنه, فاذا عثرت به زوجته اياها, انه الآن في الثامنةعشر من عمره, وقد ورث كل ما نعرف لأبيه من خلال وصفات, لقد ورث الشرف والصدق, وصدق الايمان بالله.



        3. قتيل بني اسرائيل


        استيقظ بنو اسرائيل في صبيحة يوم من أيام الله وقد وجدوا جثة شمعون بن نفتالي ملوّثة بالدماء وملقاة قرب محلة بعيدة عن المكان الذي فيه منزلته وعشيرته.



        وقد دوى خبر مقتله دويا هائلا في بني اسرائيل وأثار ضجة كبيرة فيما بينهم لما كان له من حسن الخلق وجودة الرأي ووفرة الغنى وكثرة البر والصدقة.



        وصار هياج بين الناس, وحزن الفقراء واليتامى والضعفاء, وقامت عشيرته بل بلدته كلها تطالب بدمه وتلقي وزر الجريمة على سكان المكان الذي وجدت فيه جثة شمعون بن نفتالي, وكان أشد الجميع مطالبة بدم شمعون هو "ناداب بن صوغر" ابن أخ شمعون, مظهرا الحزن والجزع لما أصاب عمه العزيز!



        وكان أهل المحلة التي وجدت جثة القتيل قربها من أشد الناس حزنا عليه ولكن عشيرة "شمعون" القتيل وعلى رأسهم "ناداب بن صوغر" ظلوا مصرّين على أنه قتل بيد من فئة من أهل هذه المحلة واشتدوا في المطالبة بدم قتيلهم.



        وعلا الضجيج, وكثر اللغط, واشتد الجدل بين الفريقين, وأوشكوا أن يقتتلوا, فاجتمع شيوخ بني اسرائيل ومن حولهم الغوغاء والعامة الى نبي الله موسى عليه السلام ليفصل بين الفريقين في قضيّة دم القتيل.



        واجتمع الناس في مجلس يشبه مجلس القضاء أو المحاكمة وكان الاجتماع في ساحة واسعة امتلأت عن آخرها شيبا وشبابا, ورجالا ونساءا, وجاء أهل القتيل " شمعون" وجاء أهل البلدة المتهمة, وتكلم ناداب بن صوغر في جزع وحزن مثبتا التهمة على القرية الظالمة وأدلى بما لديه من حجج, وأنكرت القرية تهمة القتل وأوّلت ذلك بما تكن للقتيل من حب ومعزة واحترام.



        وانتظر الناس كلمة نبي الله موسى عليه السلام, فهي الفاصلة بينهم, فأنصت الجميع وأرهفت الآذان وتطاولت اليه الأعناق, واذا به يقول: ان الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.



        وسمع القريبون من موسى الكلام فدهشوا لها وعجبوا, وظهرت الحيرة على وجوههم وفي نظراتهم, أما البعيدون عن المجلس فلم يسمعوا غير أنهم رأوا الدهشة والحيرة على وجوه غيرهم فتصايحوا يريدون معرفة حكم نبي الله موسى.. وارتفعت الأصوات.



        فوقف أحد الناس على مكان مرتفع وصاح بأعلى صوته وقال:



        ان الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.



        وعندما سمع الناس قوله هاجوا وأحدثوا شغبا, وساد الهرج والمرج, واختلطت أصوات ساخرة بأصوات مستنكرة هذا الطلب وهذا الأمر. فهذا يقول: ما دخل معرفة القاتل بذبح البقرة؟



        وآخر يقول: ان نبي الله يمزح.



        وثالث ينادي بأعلى صوته قائلا: وهل هذا وقت المزاح؟



        وقال ناداب بن صوغر: ان موسى يهزأ بنا. انه يتخذنا هزوا.



        وسادت الفوضى فانسحب موسى من المجلس, وانفضّ الناس وهم يتندّرون بالبقرة التي يريد نبي الله ذبحها.



        أما المؤمنون الأتقياء فقد طلبوا من الناس أن يكفوا عن السخرية والشغب وقالوا لهم: ان نبي الله موسى لم يقل شيئا من عنده, بل هو كلام الله الذي كلمه به, فهو يقول لكم:{ ان الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} فكيف يكون هذا مزاحا؟



        عليكم أن تتلقوا أمر الله بالطاعة والتسليم لا بالسخرية والشغب والتندر والمعصية.



        وفي اليوم التالي جاء موسى عليه السلام الى مجلس القضاء وجلس بين المؤمنين الأتقياء, وتقدّمت اليه عشيرة القتيل وقالوا له: يا نبي الله أتتخذنا هزوا؟!!!



        قال موسى: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.



        وهنا وقف شيخ كبير صالح وقال: يا بني اسرائيل لقد رضيت عشيرة القتيل, وعرفت أن نبي الله لا يتخذها هزوا وخصوصا أن القتيل كان من صالحي خلصائه وأصحابه.



        وبعد نقاش وحوار حول من يدفع ثمن البقرة قال أحد الشيوخ العقلاء: أرى أن يشترك في ثمن البقرة كل رجال بني اسرائيل, فالقتيل قتيلنا جميعا, وسلام الشعب لا يهم طائفة دون طائفة بل يهم الجميع.



        سكت الناس ورضوا بهذا الحكم, ونظر الجميع الى نبي الله موسى.



        فقال موسى: اذن فاجمعوا المال واشتروا البقرة واذبحوها طاعة لأمر ربكم.



        وتلكأ القوم وقالوا: أي بقرة نذبح؟ ادع لنا ربك يبيّن لنا ما هي.



        وصمت موسى وأصغى لنداء الله في قلبه ثم قال لهم: { انه يقول انها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون}. البقرة 68.



        وسألوا وجادلوا عن لونها, وقالوا: لا بد أن نعرف لونها.



        فتوجه موسى الى الله يسأله فسمع الاجابة في صدره بأنها:{ بقرة صفراء فاقع لونها تسرّ الناظرين}..



        ولكن القوم جادلوا وأكثروا الجدال وقالوا لموسى:{ ادع لنا ربك يبيّن لنا ما هي ان البقر تشابه علينا وانا ان شاء الله لمهتدون}. البقرة 70.



        وظل بنو اسرائيل في شكهم فمنهم من يؤيّد ومنهم من يستنكر حتى أنهم قضوا عدّة أيّام يتجادلون, ثم ذهب صلحاء القوم وعقلاؤهم الى موسى يقولون له: انك مطالب بالفصل في قضيّة دم القتيل شمعون فلا يشغلك عناد قومك عن هذه القضيّة فاسأل ربك عما يريدون.



        فسأل موسى ربه, ثم اجتمع القوم ليسمعوا الاجابة:



        {قال انه يقول انها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمة لا شية فيها, قالوا الآن جئت بالحق, فذبحوها وما كادوا يفعلون}. البقرة 71.



        أي أن هذه البقرة معفاة من الخدمة فهي غير مذللة لحرث الأرض أو سقيها, وليس في جسمها بقعة أو علامة من لون يخالف لون جسمها الأصفر الصافي الفاقع.



        اقتنع القوم وقالوا:{ الآن جئت بالحق}.



        وأخذوا يبحثون عن بقرة: لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك صفراء فاقع لونها, تسر الناظرين لا ذلول, تثير الأرض, ولا تسقي الحرث, لا شية فيها, فلم يعثروا عليها عند أحد من أهل القرى التي حولهم.



        كانوا اذا وجدوا بقرة صفراء ردّوها لأن فيها شيئا من لون يخالف لونها الأصفر, فاذا وجدوها صفراء خالصة ردوها لأنها بكر أو فارض وليست عوانا بين ذلك, وهكذا دقق بنو اسرائيل في البحث عن البقرة التي تتكامل فيها الأوصاف المطلوبة, وقسموا أنفسهم مجموعات وفرق للبحث عن البقرة المطلوبة في أنحاء شبه جزيرة سيناء الواسعة, وانتشروا في الشمال والجنوب.



        4. بقرة الياب الصفراء


        بلغ الياب الثامنة عشرة من عمره وأصبح فتى يافعا وجاءت أمه لتقول له: يا بنيّ لقد كبرت وبلغت سن الثامنة عشرة وصار لزاما على أن أدلك على الكنز الذي تركه لك أبوك.



        دهش الياب وقال لأمه: كنز؟! ان أبي كان فقيرا فكيف يترك لي كنزا؟



        قالت الأم راحيل: لقد ترك لك عجلة صغيرة منذ تسع سنوات وأوصى أن اتركها في أرض الله لا أذللها بحرث أو سقي ولا أتعدها بحراسة فهي في حراسة الله. وقال: اذا كبر الياب فادفعيها اليه.



        فقال الياب لأمه: وفي أي مكان تركها؟



        قالت راحيل: لا أدري ولكنه قال: انها في الغيضة الواسعة المجاورة لنا, فاذهب اليها وابحث عنها وسوف لا يطول بحثك لأن الله سيقبل بها عليك.



        فقال الياب: ولكن ما لونها أو علامتها التي أعرفها بها؟



        قالت راحيل: انها صفراء فاقع لونها تسر الناظرين كأن شعاع الشمس ينبعث من جلدها, ليس فيها لون آخر غير هذا اللون الأصفر حتى ولا لون قرنيها وأظلافها.



        خرج الياب للبحث عنها, وما هي الا ساعة واحدة حتى عاد بالبقرة الصفراء الجميلة وقد كبرت بعد أن كانت صغيرة وامتلأ جسمها باللحم بعد أن كانت هزيلة.



        قال الياب: يا لها من كنز مبارك يا أمي..



        قالت راحيل: ان ثمنها لا يزيد على ثلاثة دنانير, ولكن المال الحلال الصالح لا يقدّر بعدد, بل يقدّر بما فيه من بركة, وبرّ وتقوى الله والنيّة الصالحة. من أجل هذا سمّاها أبوك الكنز.



        فقال الياب: والمال الحلال الصالح يا أمي ينميه الله ببركة التقوى فيعد بالمئات والألوف. وما يدرينا لعل هذه البقرة ذات الدنانير الثلاثة تباع بالألوف التي لا تخطر لنا ببال!



        5. البقرة المعجزة


        ومضت أيّام, وبينما كان الياب جالسا مرّ به أعرابي يقول له: ان جماعة من بني اسرائيل يبحثون في لهفة شديدة عن بقرة تشبه بقرتك وقد دللتهم عليك واني لأرى أنك لو رفعت ثمنها عليهم لأعطوك ما تريد ولو طلبت ملء جلدها ذهبا لأعطوك.



        جاء القوم من بني اسرائيل وقالوا لالياب: لقد جئنا من عند نبي الله موسى فبعنا هذه البقرة ولا تزد في سعرها.



        قال الياب: ان كانت البقرة لنبي الله موسى فله من غير ثمن.



        فقال قوم: ان شعب اسرائيل فقراء وقد أنهكتهم الصحراء فاقبل منا ما بأيدينا وليبارك الله لك فيه.



        قال الياب: ان شعب اسرائيل ليس فقيرا, لقد صنع عجلا من الذهب ليعبده من دون الله فليس من الكثير عليه أن يدفع لي ما أريد.



        استأذن أمه للذهاب مع القوم ليلقى نبي الله موسى وليتقاضى ثمن البقرة, وقال انه لن يطيل الغياب.



        6. معجزة الحق والعدل


        اجتمع بنو اسرائيل لما سمعوا أنهم وجدوا البقرة, وجاؤوا يهرولون ويقولون: لقد وجدنا البقرة.. لقد وجدنا البقرة.



        فلما سمع ناداب هذا الكلام وجاءته هذه الأخبار انعقد لسانه عن الكلام واصفرّ وجهه, ووجد نفسه يقوم من مكانه مع أصحابه الى حيث يهرول الناس, فلما بلغوا ساحة القضاء وجدوه مكتظة عن آخرها بالناس ورأوا البقرة قائمة أمام نبي الله موسى, وأنه عليه السلام يقبّل الياب صاحب البقرة لما عرف أنه ابن الرجل الصالح آزر ويربّت على كتفيه ويقول له: لقد صرت رجلا والحمد لله, لقد مررت بك وأنت غلام صغير فمسحت على رأسك ودعوت لك بالخير.



        وكان بالقرب منه منسى بن اليشع الرجل الذي جاء يخطب رفقة بنت شمعون القتيل لناداب ابن أخيه, وتذكر في رغبة شمعون في زواج الياب بن آزر منها, فدنا منه ورحّب به, وانحنى الى أذن موسى وأسرّ اليه كلاما لم يسمعه أحد, ثم ترك الجميع وهرول الى بيت رفقة ليخبرها أن فتاها الياب هو صاحب البقرة وقد حضر معها, أما نبي الله موسى فقد أمر بذبح البقرة, فذبحوها, فلما انتهوا قال: اقطعوا عضوا منها, فقطعوه.



        فقال عليه السلام: فليحمل هذا العضو الياب فانه غريب وان كان اسرائيليا.



        فحمل الياب العضو.



        وقال موسى: هيا بنا الى قبر شمعون .



        فذهبت الجموع تتدافع الى القبر في زحام شديد, وكثرة هائلة وهم لا يدرون ماذا يريد نبي الله بهذا كله.



        قال موسى: افتحوا القبر واخرجوا جثة القتيل, ونادى: يا الياب! اضرب القتيل بالعضو الذي بيدك.



        وكانت الدهشة والعجب حين رأى الناس القتيل يعود الى الحياة, ويقف بين الناس بشرا سويّا.



        فقال موسى: يا شمعون نسألك بحق الذي ردّ اليك الحياة أن تذكر لنا سم الذي قتلك.



        فقال شمعون: الذي قتلني هو ناداب بن صوغر.



        وفي وسط ذهول الناس لهذه المعجزة, عاد شمعون الى الموت وأقبلت الجموع ثائرة على ناداب تريد أن تفتك به, ولكن موسى قال: القصاص حكم الله.. فلنقم عليه حد القتل جزاء ما فعل.



        وشهد الناس مشهدا عجيبا: شهدوا الياب يزف الى رفقة في بيت أبيها. وشهدوا ناداب يندب حظه وهو يساق الى الموت.



        تلك هي معجزة القتيل الذي ردّه الله الى الحياة ليشهد على قاتله.



        ويقول الله عز وجل عن هذه المعجزة:{ فقلنا اضربوه ببعضها, كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلّكم تعقلون} البقرة 73.



        سبحان الله خالق المعجزات والآيات..
        إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
        نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
        جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

        تعليق


        • #5
          موسى والخضر والبحر


          قال تعالى:{ فلما بلغ مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا* فلما جاوزاه قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا* قال أرأيت اذ أوينا الى الصخرة فاني نسيت الحوت وما أنسانيه الا الشيطان أن أذكره, واتخذ سبيله في البحر عجبا* قال ذلك ما كنا نبغ فارتدّا على آثارهما قصصا* فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما} الكهف 61-65.



          اختص الله عز وجل موسى بنعم كثيرة, وكذلك اختص قومه بهذه النعم التي أنعم بها عليه, ولذلك فقد ظل موسى عليه السلام يشكر الله على نعمه.



          وكان موسى يصلي لله شكرا على ما أعطاه من نعم, يتعبّده حمدا على ما وهب له, ويبتهل اليه أن يديم عليه رضاه وكرمه. وذات يوم سأل ربّه: يا رب؛ أأنا الآن الوحيد على وجه الأرض الذي حبوتني بالعلم, وخصصتني بالمعرفة؟!



          فأجابه ربه: يا موسى انك لا تعلم الا ما شئنا نحن أن تعلمه, ولا تعرف الا ما أردنا لك أن تعرفه.



          قال موسى متسائلا: يا رب, أيوجد من هو أعلم مني؟!



          فأجابه ربه: لي عبد صالح يعلم ما لا تعلم. ويعرف ما لا تعرف.



          قال موسى: يا رب, أين أجد عبدك الصالح هذا؟ لقد اشتاقت نفسي الى معرفته.



          قال عز وجل: يقيم الآن عند مجمع البحرين.



          قال موسى: يا رب؛ أريد أن أذهب لأراه, فأرشدني اليه, ووفقني للقائه.



          قال عز وجل: اذهب وسأجعل لك من عندي آية تدلك وعلامة بيّنة ترشدك.



          1. البحث عن العبد الصالح



          تهيأ موسى عليه السلام للذهاب لمقابلة العبد الصالح, الذي أرشده الله عز وجل اليه, فنادى يوشع بن نون فتاه المخلص وقال له: يا يوشع, اني عزمت على القيام برحلة, لا أدري: أتطول هي أم تقصر؟!! فهل لك في أن تصحبني في تلك الرحلة التي لا يعلم الا الله مداها؟!



          وكان يوشع بن نون هو الفتى الذي أحبّ موسى عليه السلام, وآمن به وأخلص له, ووهبه قلبه, وصحبه في غدوّه ورواحه, ينهل من حكمة موسى عليه السلام, ويغترف من علمه, ويأخذ من معرفته.



          قال يوشع: اني لك يا سيدي الصاحب الوفي والرفيق المطيع الأمين.



          قال موسى عليه السلام: اذن, فلنتهيأ لرحلتنا من فورنا, ولنسر على بركة الله, فهو مرشدنا وهادينا الى سواء السبيل. وتهيأ موسى وفتاه للسفر وتزوّدا بزاد مما يتزود به عادة المسافرون, الذين يقطعون الصحارى, ويجتازون الفيافي والقفار, مثل الخبز الجف, والتمر اليابس, واللحم المقدد.



          ولما جهزا جهازهما؛ سأل يوشع بن نون موسى: يا سيدي أي المطايا تركب؟ وأي القوافل تصحب؟ وأي الطرق تسلك؟!



          قال موسى: يا بني, ستكون مطيتنا أرجلنا, وسيكون البحر صاحبنا, وسيكون شاطئه مسلكنا.



          سأل يوشع متعجبا: والى أين نقصد؟!



          قال موسى: نقصد مجمع البحرين, لأقابل رجلا من عباد الله الصالحين, أرشدني الله اليه.



          قال الفتى: وهل تعرف مجمع البحرين؟!



          أجاب موسى: سيعرّفني الله مجمع البحرين ويهديني اليه.



          2. رحلة البحث



          مضى موسى عليه السلام ومعه فتاه يوشع على شاطئ البحر, أياما وليالي, لا يكلان ولا يملان ولا يتأففان من طول سير, أو وعورة طريق؛ ولا يتوقفان الا لتناول غذاء, أو لأخذ قسط من النوم. ومرّ عليهما وهما على هذه الحالة وقت من الزمن, وموسى لا يزال كأول عهده بالرحلة: نشيطا, متشوقا الى مقابلة عبدالله الصالح, ولم تفتر همته, ولم يدركه سأم, ولم يتطرّق الى نفسه ملل.



          وسأل يوشع موسى يوما: يا ترى!! ألأ يزال أمامنا مرحلة طويلة حتى نصل الى مجمع البحرين؟



          قال موسى: لا أدري !! ولكنني لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين, أو أمضي حقبا.



          واستمر موسى عليه السلام وفتاه يوشع يغذان السير في البر, وهما على روح الثبات والنشاط حتى نفد طعامهما, فاصطاد يوشع حوتا من البحر حمله معه, ليتزودا من لحمه, ووصلا الى صخرة عظيمة فجلسا يستجمان بجوارها, ويستظلان بظلها, ويصيبان قسطا من الراحة والنوم. فلما نالا قسطا من النوم قاما يسيران ويسعيان, فما كاد ينصرم نهارهما هذا, ويمسي عليهما المساء حتى شعر موسى بتعب وفتور لم يعهده من منذ بدأ رحلته, وأحس أن قدميه لا تستطيعان حمله أكثر مما حملتاه, أحس كذلك أن أعضاءه قد وهنت وضعفت, فجلس على الأرض, وقال لفتاه:{ آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} عسى أن يمدّنا الله ببعض القوة التي تعيننا بلوغ غايتنا.



          حينئذ ضرب الفتى يوشع جبينه بيده, وصرخ صرخة مكتومة وقال لموسى:{أرأيت اذ أوينا الى الصخرة فاني نسيت الحوت وما أنسانيه الا الشيطان أن أذكره}.



          قال موسى عليه السلام مستفسرا: وما بال الحوت؟!



          أجاب يوشع قائلا: لقد تسرّب الحوت, واتخذ سبيله في البحر عجبا.



          لقد هرب الحوت من السلة, ومضى في طريق محدد الاتجاه الى البحر. تعجب موسى عليه السلام من كلام فتاه يوشع, وسأله وقد دبّت في نفسه فرحة أمل, وابتسامة تفاؤل فقال: أفصح يا يوشع, ماذا حدث للحوت وما الذي حدث منه؟!!



          قال يوشع: حدث وأنت نائم, ان أفقت أنا من نومي على صوت السلة التي بها الحوت, وكانت بجانبي, ففتحت عيني, فوجدته ينزلق متدحرجا بين الصخور, فأسرعت خلفه لأعيده الى مكانه؛ ولكني رأيت عجبا, ورأيت ما أدهشني.



          قال موسى فرحا مستبشرا: ماذا رأيت؟ عجّل بالقول!!



          قال الفتى في أسف وحسرة: رأيت الحوت قد غمره الماء, وخيّل اليّ أنه يتحرّك, ويتقلّب, كأن الحياة قد ردّت اليه, يضطرب في سرب بين الصخور, خرج منه الى البحر, دون أن أدركه, أو أستطيع اللحاق به.



          فلم يدهش موسى, ولم يتعجب, فقد لمس في آيات الله له كل مقدرة, ورأى في بيّناته له كل عجب. ولكنه سرّ وفرح, فقد أدرك أن بعث الحوت الميّت, وردّه حيا, هو آية الله التي وعده بها ليرشده الى مجمع البحرين, وعرف أن الطريق الذي تسرب فيه الحوت هو الطريق الذي يؤدي الى عبد الله الصالح الذي ينشد لقاءه, فنهض نشيطا فرحا, وهو يقول لفتاه:{ ذلك ما كنا نبغ} فهيا بنا نعود الى الصخرة.



          هذه الحالة في حد ذاتها بداية معجزات موسى عليه السلام التي وهبها الله له في هذه القصة الجميلة.



          وسنرى المعجزات العجاب حين يلتقي بالعبد الصالح.



          فما أشرق الصباح حتى ارتدّ موسى عليه السلام وصاحبه فتاه يوشع يقصّان ويبحثان عن آثارهما وطريقهما الذي جاءا منه, حتى لا يضلا عن الصخرة التي نزلا بجانبها من قبل, وما زالا سائرين يتحسسان طريقهما الأول, حتى وصلا اليها؛ فقال موسى عليه السلام لفتاه يوشع:



          يا يوشع أرني المكان الذي تسرّب منه الحوت ونفذ الى البحر.



          فأشار يوشع لموسى الى سرب بين الصخور, وقال له:



          هذا هو الطريق الذي سلكه الحوت.



          فنظر موسى عليه السلام الى حيث أشار يوشع, فوجده سربا بين الصخور يفضي الى البحر من ناحيته الأخرى, فنفذ منه ومن ورائه فتاه, فخرجا الى البحر من الناحية الأخرى للصخرة, ونظر موسى حوله, فرأى ما وعده الله حقا!! رأى ما حجبته الصخرة عن رؤيته بعظم رمها! رأى ماء البحر العذب يلتقي بماء البحر المالح.



          ورأى بجانب الصخرة بساطا أخضر نضيرا من عشب أخضر, وقد جلس عليه شيخ جميل وضيء مهيب الطلعة, أبيض اللحية, وقد تربّع في جلسته.



          عندئذ عرف موسى عليه السلام أنه أمام العبد الصالح الذي وعده ربه بلقائه, وهو الرجل الذي علمه الله سبحانه وتعالى أشياء من علم الغيب الذي استأثر به.



          وكانت هذه الثانية خطوة على طريق المعجزات في هذه القصة المباركة, ترى بعد هذا اللقاء ماذا فعل موسى عليه السلام مع العبد الصالح؟ لنرى ذلك.



          وتقدّم موسى من العبد الصالح وقال له:



          السلام عليك يا حبيب الله.



          فنظر الشيخ اليه, وقد أشرق وجهه, وردّ عليه السلام قائلا: وعليك السلام يا نبيّ الله.



          ثم دعاه الى الجلوس بجانبه, فجلس موسى عليه السلام وهو يسأله دهشا مستعجبا: أوتعرفني؟!



          قال الشيخ: نعم, أولست موسى نبي اسرائيل؟



          قال موسى وقد ازداد عجبه: من أعلمك عني؟! ومن عرّفك بي؟!



          أجاب الشيخ أعلمني عنك الذي أعلمك عني, وعرّفني بك الذي عرّفك بمكاني.



          فامتلأ قلب موسى هيبة من الشيخ, وايمانا به, وعلم أنه حقا في حضرة رجل صالح قد اصطفاه ربه, واتخذه وليّا وآتاه رحمة من عنده وعلما من لدنه. فقال يسأله في تلطف وتودد:



          { هل أتبعك على أن تعلمنﹺ مما علّمت رشداْ}.



          فابتسم الشيخ لموسى عليه السلام وقال له:



          {انك لن تستطيع معي صبرا}.



          قال موسى: سأصبر على كل ما تعلمني اياه, وترشدني اليه.



          فهز الشيخ رأسه باسما, وقال:{ وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا}.



          يا موسى ان علمي الذي أعلمه غير علمك الذي تعلمه, لن تستطيع أن تصبر على ما يصدر من علمي, ولا تقدر أن تطيق ما تراه مني.



          قال موسى:{ ستجدني ان شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا} فقد صح عزمي على أن أكون تابعك لتعلمني مما علمك الله وترشدني الى ما أرشدك اليه.



          حينئذ حط عصفور على حجر في الماء, فنقر نقرة في الماء ثم طار, فقال الشيخ:



          أرأيت يا موسى ما أخذ العصفور في منقاره من الماء؟!



          والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله الا كما أخذ هذا الطير بمنقاره من البحر. ثم قال:



          {فان اتبعتني فلا تسئلني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا} وأفسر لك ما خفي عليك تفسيره.



          قال موسى على الفور: لك عليّ ذلك.



          وبدأت قصّة المعجزة, بل المعجزات في هذه القصة في ثلاثة مشاهد عجيبة, سيفسر أسبابها العبد الصالح في النهاية فتكون معجزة حضرها موسى عليه السلام وتعلّم منها أنها معجزات علم الغيب.



          3. القصة الأولى



          اصطحب العبد الصالح النبي موسى عليه السلام الى شاطىء البحر وكان يتبعهما يوشع, وعند الشاطىء لاحت لهما سفينة سائرة في عرض البحر, فأشار لها الشيخ بيده فاقتربت من الساحل وأطلّ رجالها منها يستفسرون الشيخ وموسى عما يريدان, فعرفوا الشيخ لأنهم يرونه دائما جالسا يتعبّد على ساحل البحر؛ وقال لهم الشيخ:



          - نريد منكم أن تحملونا معكم الى حيث تقصدون وليس معنا ما ننقدكم اياه أو نقدمه لكم أجرا على ذلك.



          فقال رجال السفينة: مرحبا بالرجل الصالح...



          وركب الشيخ وموسى ويوشع السفينة, ورحّب بهم أهلها أجمل ترحيب وأكرمه, وتسابقوا الى خدمتهم.



          ومضت السفينة في طريقها سائرة بهم حتى قاربت أن ترسو على ميناء احدى المدن؛ حينئذ رأى موسى من الشيخ أمرا عجيبا! رآه قد أخذ فأسا من السفينة, واقترب من جدارها, وما زال يعالج بها لوحا من ألواحها حتى كسره, وخرقها.



          فلم يملك موسى نفسه, وغضب لفعل الشيخ بالسفينة, لأنه رأى في ذلك اساءة لأصحاب السفينة, وتعريضا لهم جميعا لخطر الغرق؛ فقال له والغضب بدا على وجهه:



          ماذا فعلت؟



          قوم حملونا بغير أجر وأكرمونا غاية الاكرام, عمدت الى سفينتهم فخرقتها, لتغرقها وتغرق أهلها؟!{ لقد جئت شيئا امرا}.



          قال الشيخ:{ ألم أقل لك انك لن تستطيع معي صبرا}.



          تذكّر موسى على الفور وعده للشيخ ألا يسأله عما يرى منه, وعجب لما فعله الشيخ, وعما يربط هذا الفعل القبيح بالعلم الذي يعلمه, ولكنه لم يسمعه الا أنه قال للشيخ أسفا:



          { لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا}.



          وما لبثت السفينة أن رست بجانب المدينة التي تقصدها, فنزل منها الشيخ وموسى, وأخذا يسيران في المدينة. وقد بدا أن الشيخ يستعدّ لموقف آخر أكثر عجبا من الموقف الأول وموسى عليه السلام لا يعلم شيئا عمّا يجري ويخشى المناقشة حتى لا يتهم بعدم الصبر أو ينقض شرط الرجل الصالح, الذي قال له:{ فلا تسئلني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا} فصمت موسى عليه السلام.



          4. القصة الثانية



          مضى موسى والعبد الصالح يتجوّل في المدينة مع موسى عليه السلام ويدخل هنا وهناك, ويتردد بين شوارعها وطرقاتها ومسالكها.



          ولكن موسى عليه السلام عجب أشد العجب وجزع أشد الجزع, عندما أتى العبد الصالح أمرا عجبا وفعلا نكرا.. ترى ماذا فعل الشيخ العبد الصالح؟



          لقد اقترب من غلام كان يلعب في الطريق, فجذبه بيده, ثم أمسك بعنقه بكلتا يديه, وما زال يضغط عليه حتى قتله.



          أصبح الأمر لا يحتمل بالنسبة لموسى عليه السلام فهو يرى جريمة قتل مروّعة أمامه, فنظر الى ما فعل العبد الصالح متعجبا ثم ذاهلا, ثم خرج من عجبه, وأفاق من ذهوله, ساخطا مستنكرا غضبا, وصرخ في الشيخ قائلا:



          يا رجل ما فعل هذا الغلام حتى تقتله؟! {أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا} فقال الشيخ في هدوء:{ ألم أقل انك لن تستطيع معي صبرا}.



          هدأ موسى عليه السلام, وسكّن من غضبه, وتحيّر في أمر هذا الرجل الصالح الذي اتبعه لهدف واحد وهو أن يستزيد من علمه, فلم يجد عنده حتى الآن شيئا من ذلك, بل انه يأتي أفعالا منكرة لا يرضاها علم, ولا تقرّها شريعة, ولكنه لم يسعه الا أن قال للشيخ:{ ان سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدنّي عذرا} يحق لك به ترك مرافقتي, والانصراف عن صحبتي.



          5. القصة الثالثة



          خرج الرجل الصالح وموسى من تلك المدينة, وضربا في الأرض حتى وصلا الى مدينة أخرى, وكانا قد جاعا وتعبا, فسألا أهل المدينة ضيافة وطعاما, فلم يجبهما أحد الى ذلك, وكان كل من سألاه ضيافة يقول لهما: اننا لا نضيف الغرباء الا بأجر. وكل من يسألاه طعاما يقول لهما: اننا لا نعطي طعاما بغير ثمن.



          ولما نال من موسى التعب مبلغه, جلس هو وفتاه يستريحان في ظل جدار منزل.



          ودعا موسى الشيخ الى الجلوس معهما ليستريح من عناء السير, ولكنّ موسى رأى شيا عجيبا يثير الدهشة.



          ترى ما هذا الشيء؟



          لقد رأى الشيخ يتقدم من الجدار الذي بالقرب منهما_ وكان جدارا قديما يوشك أن ينقض, فيفكك أحجاره المتخلخلة, ثم يجمع من الطريق ترابا, ويعجنه بالماء, ويصنع منه طينا يعيد به تثبيت الأحجار في أماكنها, حتى أعاد اقامة الجدار متينا ثابتا من غير أن يطلب منه ذلك أحد.



          فدار بخلد موسى أن الشيخ يفعل ذلك لينال عليه أجرا يمكنه أن يشتري به طعاما من أهل المدينة التي لا تضيف غريبا الا بأمر, ولا تطعم جائعا الا بثمن.



          وما ان انتهى الشيخ من عمله, حتى طلب من موسى أن يتبعه ثم انصرف عائدا ولم يطلب من أحدا شيء أبدا!!



          فقال له موسى بدهشة: ولم اذن أقمت الجدار؟!



          لقد كان جدارا مهدما فأصلحته, ومائلا فأقمته, فلم لا تطلب من أصحابه أجر ما فعلت؟! {لو شئت لتّخذت عليه أجرا}.



          عند ذلك نظر الشيخ الى موسى, وقال له: { هذا فراق بيني وبينك}.



          انتبه موسى, وأدرك أنه تجاوز الشرط المبرم بينه وبين الشيخ ألا يسأله عن شيء حتى يذكره هو له, وأدرك موسى أنه قد حق عليه فعلا فراق الشيخ, لأنه لم يستطع أن يضبط نفسه من السؤال, ولا أن يكف لسانه عن الكلام, وكان ذلك نزولا على حكم الشرط الذي اشترطه للشيخ على نفسه.



          فقال موسى للشيخ أسفا: حقا لقد عذرت معي, فما استطعت أن أكبح نفسي عن السؤال, ولا أن أردّ لساني عن الكلام, ولا أن أصبر على ما رأيته يصدر منك من الفعال.



          فقال الشيخ ملاطفا:



          لا تأسف ولا تحزن, سأنبئك يتأويل ما لم تستطع عليه صبرا.



          فقال موسى فرحا متشوّقا: هات حديثك فاني متشوّق اليه.



          فقال الشيخ: هيا بنا نتخيّر مكانا نجلس فيه, لأفسّر لك ما خفي عنك, وأشرح ما غمض عليك.



          وعندما يكشف العبد الصالح سر المواقف الثلاثة: خرق السفينة, وقتل الغلام, وبناء الجدار في قرية بخيلة لا تطعم ولا تسقي, سنرى المعجزات التي كشف لموسى عنها, وليعلم أن ما عنده من علم فهو قليل.



          6. معجزات علم الغيب



          بادر موسى على الفور العبد الصالح بالسؤال فقال له:



          ما أمر السفينة؟



          فأجاب العبد الصالح:



          _أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر, وهم شركاء فيها, وهم شركاء كذلك فيما تحمل من تجارة قليلة ضئيلة, يبادلونها بتجارة ثانية, ويتقاضون بها سلعا أخرى فيما يمرون به من البلاد, ويرسون عليه من المدن.



          قال موسى: ولم اذن خرقتها وحال أصحابها على ما تصف من الفقر والضعف, وقد أكرمونا وأحسنوا الينا, وأجهدوا أنفسهم في ضيافتنا؟!



          قال الشيخ: أردت أن أعيبها, فان المدينة التي رست عليها بها ملك ظالم جبار يرسل أتباعه يفحصون السفن التي ترسو بمدينته, ويختبرونها, فالسفن التي على حالة جيّدة يأخذها من أصحابها غصبا, ويسلبها قوة واقتدارا, أما السفن المعطوبة التي بها عيب, أو التي أصابها تلف فانه لا يأخذها.



          فاتضحت الحقيقة, وظهرت المعجزة أمام عيني موسى عليه السلام, معجزة علم رآه يفوق حتى خياله.



          وقال للشيخ ضاحكا: لذا خرقت أنت السفينة فعبتها حتى لا يأخذها من أصحابها المساكين هذا الملك الظالم؟



          قال العبد الصالح: نعم فعلت ذلك, لكي يتركها الملك الظالم, فيستطيع أصحابها بعد ذلك أن يصلحوها ويرتزقوا منها.



          فتخيّل موسى عليه السلام أصحاب السفينة, وهم غاضبون ساخطون حين يكشفون عن العطب الذي أصابها, ولكنهم لو علموا ما كان مخبأ لهم, كما عرفه موسى من العبد الصالح لفرحوا وحمدوا ربهم على ذلك فربّ مصيبة فيها الفرج.



          ثم قال موسى للشيخ: وما سبب قتلك الغلام؟!

          أجاب الشيخ: أما الغلام فكان أبواه مؤمنين, وكان هو كافرا طاغيا ضالا, {فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا} يؤذيهما اذا عصياه ببذاءته وفساده, ويؤذيهما اذا اتبعاه بكفره وضلاله.



          قال موسى: لقد أراح الله منه أبويه, وجنبهما شرّ السقوط في معصيته ولكنهما لا يشعران بنعمة موت هذا الابن الضال, ولا يحسان الا بشدّة وقع وفاته, وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.



          قال الشيخ معقبا على هذا الكلام: نعم, فسيبدلهما ربهما خيرا منه زكاة, وأصلح منه دينا وأحسن منه خلقا, وأقرب رحما.



          قال موسى: ان الله على كل شيء قدير, يشمل برحمته من يشاء.



          أجاب الشيخ: أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة, وكان تحته كنز لهما, خبأه لهما أبوهما قبل أن يموت, وكان أبوهما صالحا مؤمنا تقيا, فأراد ربّك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك.



          قال موسى متسائلا: فأقمت الجدار خوفا من ضياع الكنز؟



          أجاب الشيخ: نعم ليبقى الكنز مصونا من أيدي العابثين, حتى يشب الغلامان فيستطيعا أن ينتفعا به في حياتهما ومعاشهما.



          عند ذلك ظهرت المعجزات وحقائق العلم الخفي الذي يعلمه العبد الصالح لموسى, وأدرك أن ما خفي عليه كان علما ظاهرا لهذا الرجل (العبد الصالح) وأن ما استتر عنه كان معرفة واضحة أمام الشيخ, فاختصّ موسى حين أراد أن يعلمه ربه بهذه المعجزات العظيمة.
          إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
          نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
          جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

          تعليق


          • #6
            معجزات البحر وعيون الماء


            البحر ينشق نصفين



            قال تعالى:{ فأحينا الى موسى أن اضرب بعصاك البحر, فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم* وأزلفنا ثم الآخرين* وأنجينا موسى ومن معه أجمعين* ثم أغرقنا الآخرين* ان في ذلك لآية, وما كان أكثرهم مؤمنين}. الشعراء 63-67.



            تعدّد ت معجزات موسى عليه السلام مع البحر والنهر وعيون الماء وقد وهب الله موسى هذه المعجزات كي يمكّن المؤمنين من دعوته وينصر موسى عليه السلام على أعدائه, ولكي تكون هذه المعجزات عبرا ايمانية ودروسا تستجيب أمامها العقول المتحجرة, ولو نظرنا لموسى عليه السلام, نجد أن حياته بدأت بصندوق حمله في نهر النيل الى أن وصل الى قصر فرعون, فحملته آسية امرأة فرعون وتربّى موسى عليه السلام في قصر فرعون على ضفاف النيل.



            ومعجزة موسى مع البحر بدأ بغباء فرعون وقومه, فأرسل الله عليهم آيات العذاب كالجراد والضفادع, ثم وقعت آخر آيات العذاب الدنيوي, وهي آية الدم.



            لقد تحوّلت مياه النيل الى دم لا يستطيع أن يسيغه أحد وكانت آية جديدة على قوم فرعون اذ أن الآيات السابقة كانت من النوع المعروف في البيئة الزراعية, التي تقوم حياتها على النهر, سواء أفاض النهر أم أمسك عن فيضانه.



            أما آخر الآيات التي عذب بها قوم فرعون فهي الدم, وهذا لون جديد لم تألفه البيئة المصرية, لقد تحولت مياه النيل الى دم, وتمّ هذا التحوّل الى المصريين من أتباع فرعون, فكان موسى وقومه يشربون مياها عاديّة, وكان أي مصري يملأ كأسه ليشرب, يكتشف أن كأسه مملوء بالدم.



            كانت هذه الآية من آيات العذاب بمثابة صدمة اهتز لها المصريون وقصر فرعون, انها آية رهيبة وكارثة ضخمة.



            ولم يجدوا أمامهم ملاذا يتوسّلون اليه ليتخلصوا من عذاب هذه الآية الرهيبة سوى موسى عليه السلام فذهبوا يتوسلون اليه ويرجونه أن يدعو ربه, وقالوا انهم مقابل ذلك سوف يطلقون سراح بني اسرائيل هذه المرّة بعد أن رفضوا خروجهم ومنعوهم قبل ذلك مرّات ومرّات.



            استجاب موسى عليه السلام لتوسلاتهم التي طالما كرروها في مواقف عدة ولم يوفوا بعهودهم أبدا, ودعا موسى ربه فانكشف عنهم العذاب, وعاد الماء صافيا, فشربوا منه وارتووا, ولما حان تنفيذ وعدهم والوفاء بعهدهم الذي عاهدوه موسى عليه السلام رفضوا, ورفض فرعون أن يسمح لموسى باصطحاب قومه من بني اسرائيل والرحيل بهم وزاد الأمر تعقيدا, أن فرعون تشدد أكثر في كفره, واشتد في الهجوم على موسى, وأعلن بين قومه أنه اله, وقال: اليس لي ملك مصر, وهذه الأنهار التي تجري من تحتي؟ وأعلن فرعون أن موسى ساحر كذاب, وأنه رجل فقير لا يملك مالا ولا يملك أسورة واحدة من الذهب.



            وقد قصّ القرآ، كل هذا المشهد المثير فقال عز وجل:



            { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا الى فرعون وملئه فقال اني رسول رب العالمين* فلما جاءهم بآياتنا اذا هم منها يضحكون* وما نريهم من آية الا هي أكبر من أختها, وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون* وقالوا يا أيّه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك اننا لمهتدون* فلما كشفنا عنهم العذاب اذا هم ينكثون* ونادى فرعون في قومه قال ياقوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون* أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين* فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين* فاستخف قومه فأطاعوه, انهم كانوا قوما فاسقين*}. الزخرف 46-54.



            هكذا بدا فرعون متجبرا مغرورا, وبدا واضحا لموسى عليه السلام أن هذا الفرعون وقومه لن يؤمنوا مهما أعطوا من عهود, وأن فرعون لن يكف عن تعذيب بني اسرائيل, والاستخفاف بهم. شعر موسى عليه السلام أنه لا فائدة من هؤلاء, ومن كبيرهم الفرعون. لقد أغلقوا عقولهم في وجه الايمان, وأغمضوا عيونهم لكي لا ترى جمال الخالق وعبرة خلقه الماثلة أمامهم.



            وجاء الدعاء من موسى عليه السلام, جاء هذه المرّة غاضبا ساحقا لا رجعة عنه, وقف مع أخيه هارون وقد شاركه هذا الاحساس بأنه لا فائدة من هؤلاء, رفع موسى يده الى السماء ورفع هارون يده الى السماء ودعا كل منهما ربه فقال: وقال موسى:{ يارب ان هؤلاء قوم لا يؤمنون * فاصفح عنهم وقل سلام, فسوف يعلمون} الزخرف 88-89.



            وقد استجاب الله عز وجل لهذ الدعاء, وخاطب موسى وهارون فقال لهما:



            قال:{ لقد أجيبت دعوتكما فاستقيما لي ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} يونس 89.



            ترى ما هي الخطوة القادمة؟ ماذا عليه أن يفعل موسى؟



            لقد أمر أن يخرج من مصر, وأذن له بالخروج من مصر واصطحاب قومه معه.



            والغريب أن بعض قوم موسى كانوا لم يؤمنوا به بعد وقد ذكرهم الله في آياته فقال عز وجل:



            { فما آمن لموسى الا ذريّة من قومه على خوف من فرعون وملاءيهم أن يفتنهم, وان فرعون لعال في الأرض وانه لمن المسرفين} يونس 83.



            لقد انتهى أمر فرعون, وانصرفت مشيئة الله عز وجل أن يوضع حد لجرائم هذا الكافر اللعين, بعد أن استنفدت معه كافة الطرق وخرج من رحمة ربه, صدر الأمر لموسى بالخروج من مصر, واستأذن بنو اسرائيل فرعون في الخروج الى عيد لهم, فأذن لهم وهو كاره, وتجهزوا للخروج وتأهبوا وحملوا معهم حليهم واستعاروا من حلي المصريين شيئا كثيرا.



            ومع دخول الليل خرج بنو اسرائيل يتقدمهم موسى عليه السلام وسار بهم نحو البحر الأحمر قاصدا بلاد الشام.



            وما هي الا لحظات حتى التقطت وسائل التجسس الخاصة بفرعون واستخباراته, التقطت أخبار خروج موسى مصطحبا قومه الى بلاد الشام وأنه خرج ليلا.



            ثار فرعون ثورة عارمة, وأمر أن يحشد جيش عظيم, من كل المملكة, وقال في سياق أوامره الثائرة الغاضبة أن موسى غاظه, فقال:{وانهم لنا لغائظون} الشعراء 55, لقد غاظني موسى, ولا بد من قتاله والقضاء عليه وعلى بني اسرائيل.. وأعلن ذلك صراحةأمام الناس.



            وفي وقت قصير جمع فرعون جيشا ضخما, جاء لمطاردة موسى والقضاء عليه, وخرج جيش فرعون مسرعا, كان المشهد مخيفا مهيبا لكثرة عدد الجند وكثافة السلاح الذي يحملونه في ذلك الوقت, بينما حمل بنو اسرائيل جزءا من متاعهم وخرجوا خائفين.



            بدأت المطاردة العنيفة, فجيش فرعون يجري بأقصى سرعة, ويطوي الطريق طيّا, في حين أن موسى وبني اسرائيل لم يكونوا بهذه السرعة, لكثرة ما حملوا على ظهورهم وأكتافهم من متاع أحبوا أن يحتفظوا بها لأنفسهم, واقترب جيش فرعون من موسى وقومه, وكلما نظر القوم خلفهم هالهم هذا الجيش الضخم.



            ومن بعيد.. ثار غبار يدل على أن جيش الفرعون يقترب, واقترب فعلا وظهرت أعلام الجيش, وامتلأ قوم موسى بالرعب.. لقد كان الموقف حرجا وخطيرا جدا, لقد وجدوا البحر أمامهم والعدو الظالم خلفهم يلاحقهم كي يقضي عليهم وليست أمامهم فرصة واحدة للدفاع عن أنفسهم, انهم مجموعة من النساء والأطفال والرجال غير المسلحين.



            لو لحق بهم فرعون فسيذبحهم جميعا, ولن يبقى منهم أحدا.



            بدأت الناس تبكي خوفا, ونادت أصوات تقول:



            سيدركنا يا موسى.. سيدركنا فرعون.



            فقال لهم موسى عليه السلام بهدوء واطمئنان شديد:



            كلا.. ان معي ربي سيهدين.



            لجأ موسى عليه السلام في هذه الللحظات الى ربه, اذ لا ملجأ الا اليه سبحانه عز وجل, فتلقى أمرا صريحا ووحيا كاملا بأن يضرب بعصاه البحر.



            جاء ذلك في القرآن الكريم فقال عز وجل:



            {فأتبعوهم مشرقين* فلما تراآ الجمعان قال أصحاب موسى انا لمدركون* قال كلا ان معي ربي سيهدين * فأوحينا الى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم}



            نفذ موسى عليه السلام أمر ربه, ضرب البحر بعصاه فانفلق البحر نصفين, وكانت معجزة هائلة من المعجزات التي منّ الله بها على موسى عليه السلام.



            انشق طريق صلب يابس في وسط البحر وأصبح الموج كالجبل الراسخ عن اليمين وعن اليسار, وتقدّم موسى وقومه في وسط هذه المعجزة المدهشة, التي كان يجب أن تتعظ بها جيوش الباطل التي تلاحقهم وتطاردهم.



            تقدّم موسى وسار بهم عبر البحر, كانت المعجزة هائلة بكل المقاييس. طريق يابس, وسط أمواج من البحر تموج عن يمين وتموج عن شمال ولا تغرق هذا الطريق الذي انشق في وسطها, والغريب أن جيش فرعون سوف يتابع المسير خلفهم دون النظر أو الدهشة أو التمعن والاعتبار, كل هذا لم يرد على عقول مغلقة, أغلقها الكفر, فخسرت نور الايمان.



            لقد كانت الأمواج تعلو وتهبط وتتصارع فيما بينها ولكنها ما ان تصل الى الطريق المشقوق

            وسط البحر حتى تبدو وكأن يدا خفيّة تمنعها من أن تغرق هذا الطريق أو حتى تبلله.



            وصل فرعون الى البحر, وشاهد هذه المعجزة, شاهد البحر وقد انشق نصفين, ووجد فيه طريقا يابسا. أحسّ في البداية بالخوف, ولكنه زاد في عناده ونسي كل تأمّل وعبرة, وأمر عربته أن تنطلق في هذا الطريق العجيب, فتقدمت عربته مسرعة تقطع الطريق, ولحقه جيشه القوي الجرّار في الطريق, واشتدّت المطاردة هنا وهناك, وأصبح الفريقان على مرمى البصر من بعضهما, ولكن موسى وقومه كانوا قد عبروا البحر, قبل فرعون, وعند خروج آخر فرد من بني اسرائيل من طريق البحر ووقوفه على الضفة الأخرى, التفت موسى عليه السلام الى البحر وأراد أن يضربه بعصاه ليعود كما كان, ولكن الله عز وجل أوحى الى موسى أن يترك البحر على حاله كما هو.



            كان موسى يريد أن يفصل البحر بينه وبين فرعون لينجو بقومه من بطش فرعون, مخافة أن يلحق بهم ويبطش بهم ويعذبهم, ولو أنه ضرب البحر ربما لتغيّرت أحوال لاندري ما هي ولكنّ الله عز وجل قال له: {واترك البحر رهوا انهم جند مغرقون} الدخان 24.



            هكذا شاءت ارادة الله, لقد أراد الله اغراق الفرعون, ولهذا أمرموسى أن يترك البحر على حاله.



            ووصل فرعون بجيشه الى منتصف البحر, وتجاوز منتصفه وكاد يصل الى الضفة الأخرى.. وأصدر الله عز وجل أمرا الى جبريل فحرّك الموج, فانطبقت الأمواج على فرعون وجيشه.



            وغرق الفرعون وجيشه, غرق مع كفره وعناده "لقد غرق الكفر ونجا الايمان", وعندما غرق فرعون رأى مقعده في النار وهو يغرق, لذلك أدرك وقد انكشف عنه الحجاب, أدرك أن موسى عليه السلام كان صادقا أمينا, ولم يكن ساحرا أو كاذبا كما ادّعى عليه أمام جموع الكفار من قومه, أدرك أنه عبد ذليل, ولن يكون في يوم من الأيام ربّا كما زعم أمام الناس.



            دخل فرعون في سكرات الموت, وأدرك أيضا أنه كان مخطئا عندما حارب موسى عليه السلام وطارده وعاداه وقرّر أن يؤمن في هذه اللحظة, جاءت هذه اللحظة في القرآن الكريم في الآية الكريمة التي تقول:



            { حتى اذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا اله الا الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المسلمين} يونس 90.



            هل قبلت توبة فرعون؟ لا لم تفبل توبته, لأنها جاءت بعد أن أدركه العذاب والموت, وقد قال له جبريل عليه السلام:{ آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} يونس 91.



            انتهى الوقت المحدد للتوبة, توبة فرعون, وانتهى الأمر ولا نجاة من الغرق والموت, سينجو جسدك وحده, ستموت وتقذف الأمواج جثتك الى الشاطئ, لتكون آية وعبرة لمن بعدك.



            قال عز وجل:{ فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية, وان كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون}. يونس 92.



            هذه معجزة البحر مع موسى عليه السلام, انها واحدة من المعجزات العظيمة التي أفاء الله بها على عبده موسى عليه السلام. وما أكثر المعجزات..
            إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
            نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
            جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

            تعليق


            • #7
              العصا والحيّة


              قال تعالى:



              { وما تلك بيمينك يا موسى * قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى* قال ألقها يا موسى* فألقاها فاذا هي حيّة تسعى* قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى}. طه 17-21.



              1. بداية المعجزات



              ازدحمت قصة موسى عليه السلام بالمعجزات, ولعل سبب كل هذا ما كان عليه اليهود من تعنّت وكبرياء, وقد بدأت المعجزات في قصة موسى عليه السلام مع بدء حياته وفي طفولته, فها هو فرعون قد اتخذ قرارا بقتل كل طفل ينجب من بني اسرائيل, ولكن ارادة الله انصرفت لنجاة موسى بل وأن ينمو ويترعرع في قصر فرعون ذاته.



              كان ذلك عندما خافت أم موسى على ولدها من الذبح اذا علم فرعون بوجوده, فألهمها الله أن تضع صندوقا وتلقيه في النهر أو في البحر, وظل الصندوق يحمل موسى وتتلاطمه الأمواج حتى وصل الى شاطئ تحت القصر لتراه آسيا زوجة فرعون وتطلب من زوجها أن يبقيه لهم يستمتعون بتربيته ليملأ عليهم دنياهم.



              واستمرّت المعجزة لتكمل مسيرة موسى عليه السلام, فها هي أم موسى خائفة والهة على ابنها فأراد الله أن يطمئن قلبها, فألهمها القوة والصبر حتى يجمعها بابنها الذي أصبح عائما في النهر, تراقبه أخته خوفا عليه, وقد كادت أن تصرخ أو تفقد تماسكها لولا مشيئة الله أن تكون قوية شجاعة في ذلك الموقف.



              فرحت آسيا بوصول هذا الطفل الجميل الى قصرها وموافقة زوجها فرعون على الابقاء عليه والعدول عن فكرة قتله شأنه شأن أطفال بني اسرائيل, وبقيت أم موسى حزينة باكية, فلم تكد ترمي موسى في نهر النيل حتى أحست أنها ترمي قلبها خلفه, وظلت تتابع الصندوق الذي يحمل وليدها حتى غاب عن عينها واختفت أخباره. طلع الصباح على أم موسى فاذا قلبها فارغ يذوب حزنا عليه, وكادت تفقد صوابها وتبدي ولهها على وليدها الفقيد, لولا أن الله عز وجل ربط على قلبها وملأ بالسلام نفسها, فهدأت واستكانت واطمأنت, وتركت أمر ابنها الى الله عز وجل, وأمرت ابنتها أن تذهب بهدوء الى جوار قصر فرعون وتحاول أن تعرف أخبار أخيها موسى عليه السلام, وحذرتها من أن يشعر أحد بأنها تتجسس عليهم.



              ورفض موسى كل المرضعات, وأوقف قبوله للرضاعة على ثدي أمه!! أليست هذه معجزة كبرى بدأ بها موسى حياته؟!



              وقد تحدث القرآن الكريم على طفولة موسى عليه السلام فقال عز وجل:



              { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا, ان كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين* وقالت لأخته قصّيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون* وحرّمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون}. القصص 10-12.



              وكان وعد الله حقا, وأصبحت أم موسى عليه السلام مرضعة لابنها دون أن يشعر فرعون أو أحد من قصره, وكانت تتردد كل يوم علىالقصر فتسعد نفسها ويهدأ فؤادها, وتقرّ عينها برؤية ابنها بعد ارضاعه والتمتع بلذة الأمومة, وقد وصف القرآن هذه المعجزة فقال عز وجل:



              { فرددناه الى أمه كي تقرّ عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكنّ أكثرهم لا يعلمون}. القصص 13.



              كان موسى عليه السلام موضع حب الجميع, فكان لا يراه أحد الا أحبّه وهذا من الله عز وجل اذ قال جلّ شأنه:



              { وألقيت عليك محبة من عندي ولتصنع على عيني}. طه 39.



              كبر موسى وترعرع, وأصبح فتيا شابا وتعلم علوما كثيرة, وعلم أنه ليس ابنا لفرعون, وكان يرى اضطهاد فرعون ورجاله وأتباعه لبني اسرائيل, ودخل المدينة على حين غفلة ذات يوم, فوجد رجلا من أتباع فرعون يقتتل مع رجل من بني اسرائيل, واستغاث به الرجل الضعيف فتدخل ووكز الرجل الظالم بيده فوقع قتيلا, فقد كان موسى قويا لدرجة أن اذا ضرب خصمه ضربة واحدة فانه يقتله. ولم يقصد موسى قتل ذلك الرجل, وكان موته مفاجأة مزعجة له لدرجة أنه قال:{ هذا من عمل الشيطان انه عدو مضل مبين} ودعا موسى ربه..قال:{ رب اني ظلمت نفسي فاغفر لي}.



              وغفر الله تعالى له, انه هو الغفور الرحيم.



              وبعد أيام قليلة جاء قريبه هذا الذي قتل من أجله أحد أقارب فرعون, جاء يستنجد به في معركة أخرى مع رجل آخر, فأدرك موسى أنه من هواة المشاجرات والمعارك, فصرخ به موسى قائلا:{ انك لغويّ مبين} واندفع نحوه فخاف الرجل منه واعتقد أنه سيبطش به كما بطش بعدوّه بالأمس فقال مسترحما موسى:{ يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ان تريد الا أن تكون جبّارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين}.



              بهذه الكلمات كشف الرجل المصري سرا كان يبحث عنه جنود فرعون, فلم يكن قد عرف بعد قاتل الرجل, وأصبح موسى خائفا يترقب خطرا قد يلحق به وهو في المدينة, وأرسل الله عز وجل لموسى رجلا مصريا عاقلا ينصحه ويحذره, وقد أطلعنا القرآن الكريم على ذلك في قوله تعالى:{ فلمّا أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال ياموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس, ان تريد الا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين } القصص 19.



              خرج موسى من المدينة ودعا ربّه:{ ربّ نجّني من القوم الظالمين}.



              سافر موسى الى مدين وجلس عند بئرها الرئيسي الضخم, وجاء الرجال الأقوياء يسقون أغنامهم. كان موسى متعبا من السفر, جائعا لم يأكل شيئا منذ فترة, أحسّ أنه فقير غريب, هارب من بطش فرعون وقومه بسبب ما أصابه في المدينة, دعا ربه وهو جالس تحت الشجرة بالقرب من البئر قائلا:{ ربّ اني لما أنزلت اليّ من خير فقير}. القصص 24.



              في هذا الوقت لاحظ موسى جماعة من الرعاة يسقون غنمهم, ووجد امرأتين تمنعان غنمهما أن تختلط بغنم القوم, فشعر موسى عليه السلام أن الفتاتين بحاجة الى المساعدة, تقدّم منهما وسأل ان كان يستطيع أن يساعدهما بشيء.. فقالت الفتاة الكبرى:



              نحن ننتظر حتى ينتهي الرعاة من سقي غنهم لنسقي.



              فقال موسى: ولماذ لا تسقيان معهم؟



              فقالت الصغرى: لا نستطيع أن نزاحم الرجال كما ترى!!



              نظر اليهما موسى في دهشة لأنهما ترعيان الغنم.. وهذه مهنة يجب أن يعمل بها الرجال, لأنها شاقة متعبة, وسأل موسى عليه السلام مرة أخرى: لماذا ترعيان الغنم؟



              فأجابت الصغرى أيضا قائلة: أبونا شيخ كبير لا تساعده صحته على الخروج معنا كل يوم.



              عندئذ تقدم موسى عليه السلام في شهامة الرجال وقال:



              سأسقي لكما.



              مشى موسى وخلفه الفتاتان وأمامه الغنم, حتى وصل الى بئر مدين وهناك عند البئر اكتشف أن الرعاة قد وضعوا على فم البئر صخرة ضخمة لا يستطيع أن بحرّكها الا عشرة رجال, وعلى الفور احتضن موسى الصخرة ورفعها من فم البئر, وسط دهشة الفتاتين اللتين شاهدتا عروق رقبته ويديه قد انتفخت بشدّة عند رفعه للصخرة الضخمة, لقد كان موسى رجلا قويا, منحه الله قوة هي بمقاييس عصره معجزة, وسقى عليه السلام الغنم وأعاد الصخرة مكانها وتركهما تمضيان الى حال سبيلهما ثم عاد الى الشجرة التي كان يجلس تحتها من قبل, ورفع يده بالدعاء المشهور عنه فقال مرّة أخرى:{ ربّ اني لما أنزلت اليّ من خير فقير}.



              عادت الفتاتن الى دارهما وحكتا لأبيهما شعيب قصة الشاب الكريم الذي سقى لهما وجعلهما تعودان الى الدار مسرعتين مبكرتين على غير عادتهما. وشرحتا له كيف سقى, وكيف نام متعبا, يبدو عليه أنه قادم من سفر بعيد, وجائع ومجهد.



              أرسل له الأب احداهما ليعطيه أجر ما سقى لهما, وجاءته على استحياء فجعلها تمشي خلفه وتنبهه هي الى الطريق.



              وهناك أكرمه الرجل وقدّم له الطعام وعرض عليه احدى ابنتيه ليتزوجها على أن يعمل في رعي الغنم عنده ثماني سنوات, فان أتمّ عشر سنوات, فله الحرية ان شاء.



              وافق موسى على هذا العرض السخي الذي كان بمشيئة الله خيرا لموسى.



              ومضت السنون واستكمل الله لنبيه موسى عليه السلام التأهل لكي يكون نبيا يتحمّل الأمانة وعظمها ومشاقها.



              وانتهت الفترة المحددة وبدأت مرحلة المعجزة الكبرى في حياة موسى, سنرى بداية المعجزة هناك تحت جبل الطور, وسنرى العلاقة بين العصا والحية.



              2. العصا



              كانت العصا معجزة من المعجزات التي انصرفت مشيئة الله تعالى أن تكون كما كانت, وأن تفعل ما فعلت ولكن أهميتها في نظر موسى عليه السلام كانت محصورة في شيئين هما على حد قوله:{ أتوكأ عليها}, { وأهش بها على غنمي}.



              ولكن لأن موسى نبي ولكلام الأنبياء جوامعا قد ينطقون بها, فتنصرف الأحداث بمشيئة الله لتفسيرها, قد قال بعد الأهميتين الاثنتين اللتين ذكرهما:{ ولي فيها مآرب أخرى}.



              وعصا موسى لها عدة أسماء ذكرها العلماء, فقيل أن اسمها "ماسا" وقيل اسمها "نفعة", واسمها "غياث", وقال آخرون: اسمها "عليق" وكان طولها عشرة أذرع على طول موسى عليه السلام. العرائس للثعلبي 156.



              وقد ورد عن عصا موسى عليه السلام قصص وحكايات قصيرة, ذكرها المؤرخون وأصحاب كتب السير, ومنها أنه: كان لعصا موسى شعبتان ومحجن في أسفل الشعبتين وسنان حديديان في أسفلها, وأن موسى عليه السلام اذا دخل مغارة أو سار في ليل شديد الظلام, كانت تظيء شعبتاها كالشمعتين من نار تنيران له مد البصر, وأنه كان اذا أعوزه الماء دلاها في البئر فتمتد على قدر ماء البئر ويصير في رأسها شبه الدلو فيستسقي بها.. الى آخر هذه الصفات التي لا نريد الخوض فيها كثيرا لأننا لا نعرف مدى صحتها.



              ومنها أن العصا كانت تضرب بها الأرض فتخرج طعاما يكفي ليوم موسى عليه السلام, وكان يضرب بها على الجبل الوعر الصعب المرتقى وعلى الحجر والشوك فتفرج له الطريق, وكان اذا أراد عبور نهر من الأنهار بلا سفينة ضرب بها عليه فانفلق وبدا له فيه طريق تنفرج..



              قضى موسى عليه السلام الأجل الذي حدده له شعيب, تزوّج خلاله ابنته "صفورا", وقرر الخروج من مدين فسار بأهله, منفصلا عن أرض مدين ببلاد الشام, وكان ذلك في فصل الشتاء حيث البرد والظلام الشديد, وكانت معه امرأته وأغنامه التي أعطاها له شعيب أجر ما فعل.



              وسار موسى عليه السلام في برّ الشام مبتعدا عن المدن وأماكن العمران مخافة الملوك الذي كانوا بالشام, وكان أكبر همّه عليه السلام يومئذ اخراج أخيه هارون من مصر ان استطاع الى ذلك سبيلا, فسار موسى في البريّة غير عارف بطرقها, فألجأه السير الى جانب الطور الأيمن الغربي في عشيّة شاتية شديدة البرد, وأظلم عليه الليل وأخذت السماء ترعد وتبرق وتمطر, وقد كانت زوجته حاملا في شهرها التاسع, ففاجأها الطلق والولادة. فأصابته حيرة شديدة خوفا على زوجته من البرد والظلام وهي في هذه الحالة, فبينما هو كذلك اذ آنس من جانب الطور نورا فحسبه نارا, فقال لأهله:{ امكثوا اني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى} يقصد أنه يتمنى أن يجد من يدله على الطريق التي أضلها, فلما أتى النار واقترب منها رأى نورا عظيما ممتدا من السماء الى شجرة عظيمة هناك, كان موسى قد دخل واديا يقال له طوى, لاحظ الصمت والسكون, والدفء والهدوء, واقترب موسى من النار, وما كاد يقترب منها حتى سمع صوتا يناديه:{ أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين} النمل 8.



              توقف موسى عن السير فجأة, وأصابته رعشة, شعر أن الصوت يأتي من كل مكان ولا يجيء من مكان محدد.



              نودي موسى من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة, ارتجت الأرض بالخشوع والرهبة والله عز وجل ينادي: { اني أنا ربك}. طه 12.



              وازداد خوف موسى وارتعاشه, فسمع الصوت يقول: { فاخلع نعليك انك بالوادي المقدّس طوى} طه 12.



              فلما سمع ذلك علم أنه ربه, خفق قلبه وكل لسانه وضعفت بنيته وصار حيا كأنه ميّت الا أن روح الحياة تدب فيه من غير حراك, وكان السبب في أمر الله له بأن تمس راحة قدميه الأرض الطيّبة فتناله بركتها لأنها مقدسة, وقال بعض العلماء أن السبب هو أن الحفوة , أي أن يمشي الانسان حافيا, في مكان مقدس أو طاهر تعدّ من أمارات التواضع والاحترام وتهذيب النفس.



              ثم تلقى موسى عليه السلام الوحي الاهي الذي بلغه بأنه نبي مختار من الله عز وجل فقال:



              { وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * انني أنا الله لا اله الا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري* انّ الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى * فلا يصدّنّك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردّى}. طه 13-16.



              وجاء درو العصا التي انصرفت مشيئة الله أن تكون معجزة من معجزات موسى عليه السلام, فقد سأل الرحمن الرحيم عبده موسى عليه السلام عن العصا فقال:{ وما تلك بيمينك يا موسى}. طه 17.



              أجاب موسى اجابة البشر الذين لهم حدود في المعرفة, فقال في حدود المعرفة, فقال في حدود علمه: { هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى} طه 18.



              الى هذا الحد توقف موسى عليه السلام عن الحديث فهذه حدوده كبشر, والمآرب الأخرى يعرفها موسى عليه السلام, فهو اذا ألقاها فيرى أنها انقلبت حية كأعظم ما يكون من الثعابين السوداء الضخمة تدب على الأرض, جاء في وصفها في كتاب العرائس ص 156: انها سوداء مدلهمة تدب على أربع قوائم فتصير شعبتاها فما مفتوحا وفيه اثنا عشر نابا وضرسا لها صريف وصرير يخرج منها كلهب النار, وعيناها تلمعان كما يلمع البرق.. وكانت تكون في عظم الثعبان وفي خفة الجان ولين الحية, وذلك موافق لنص القرآن الكريم حيث يقول الله تعالى في موضع:{ فاذا هي ثعبان مبين}.



              وفي موضع آخر:{ كأنها جانّ}.



              وفي موضع ثالث:{ فاذا حيّة تسعى}.



              نعود الى مشهد الحوار بين موسى عليه السلام ورب العزة عز وجل فبعد أن عرف موسى ما بيمينه وقال:{ هي عصاي} جاءه الأمر الالهي فجأة يقول:{ ألقها يا موسى}. طه 19.



              رمى موسى عليه السلام العصا من يده, وقد ازدادت دهشته, وفوجيء عليه السلام بما يرى أمامه, فالعصا قد تحوّلت الى ثعبان عظيم هائل الجسم, وراح الثعبان يتحرّك بسرعة مخيفة, ولم يستطع موسى أن يقاوم خوفه, وأحسّ أن بدنه يهتز بشدة ويرتعش بعنف, وانتابه شعور بزلزال من الخوف, فما كان منه الا أن استدار الى الخلف فزعا وانطلق يجري خطوات قليلة حتى ناداه ربه.. كي يثبّته ويطمئنه قائلا:{ يا موسى لا تخف اني لا يخاف لديّ المرسلون} النمل 10.



              { أقبل ولا تخف انك من الآمنين}. القصص 31.



              توقف موسى لحظات واستدار وعاد مكانه خائفا من الحية التي تتحرك أمامه. كيف يقف موسى عليه السلام أمام ثعبان ضخم بدأ يتحرّك أمامه ويرفع رأسه ويفتح فمه؟ وعاد صوت رب العزة يناديه قائلا:



              {خذها ولا تخف}. القصص 32.



              كيف يأخذها وهي تتحرّك؟! لم يسبق لموسى أن أمسك ثعبانا ضخما كهذا بين يديه, فهذا طريق الموت والهلاك بعينه, من يجرؤ على ذلك؟ ولكن جاء التأكيد من الله سبحانه وتعالى والوعد بالاطمئنان وعدم الخوف, قال عز وجلّ:{ خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى}.



              تردد موسى برهة, وخاف وتلعثم لحظة, وبدأ يقترب بحذر شديد, مدّ موسى يده التي كانت ترتعش, وكان على موسى جبة صوف فلفّ كمّه على يده وهو للثعبان هائب, فنودي أن أخرج يدك, فحسر كمّه عن يده ووضع تحت يده رأسها فلما أدخل يده ولمس الثعبان فاذا هي عصاه في يده ويده بين شعبتيها حيث كان يضعها.



              ثم جاء الأمر الالهي مرة أخرى لموسى عليه السلام فقال له:{ اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم اليك جناحك من الرهب}.القصص 32.



              وضع موسى يده في جيبه وأخرجها فاذا هي تتلألأ كالقمر, يعجز البصر عن النظر الى بريقها الجميل, وقد زاد ذلك انفعال موسى عليه السلام, فوضع يده على قلبه كما أمره ربه:{ واضمم اليك جناحك من الرهب}.



              وضع يده على قلبه كما أمره الله فذهب خوفه وشعر بالطمأنينة, وسكنت أطرافه عن الارتجاف والارتعاش, واستعاد توازنه وأصدر الله عز وجل أمرا بعد أن أراه هاتين المعجزتين بأن يذهب الى فرعون فيدعوه الى الله برفق ولين, فأبدى موسى عليه السلام خوفه وفزعه من فرعون وقال لربه أنه قتل نفسا منهم ويخاف أن يقتلوه. لم يدر موسى عليه السلام أن عصاه هي التي رأى منها المعجزات ستهز بقدرة الله أركان فرعون وملكه كله.



              ولذلك ولعدم دراية موسى عليه السلام بما في الغيب طلب من ربه أن يرسل معه أخاه هارون عليه السلام.



              طمأن الله نبيّه موسى عليه السلام وقال انه سيكون معهما يسمع ويرى, وأن فرعون رغم جبروته وسطوته لن يمسّهما بسوء, وعرّف موسى أنه هو الغالب. وقد روت الآيات الكريمة كل ما ذكرناه في هذا الموقف عن العصا.



              قال تعالى:{ هل أتاك حديث موسى * اذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا اني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى* فلما أتاها نودي أن ياموسى* اني أنا ربّك فاخلع نعليك انك بالوادي المقدّس طوى* وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى* انني أنا الله لا اله الا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري* ان الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى* فلا يصدّنّك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردّى* وما تلك بيمينك يا موسى * قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى* قال ألقها يا موسى* فألقاها فاذا هي حيّة تسعى* قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى* واضمم يدك الى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى} طه 9-22.



              3. في قصر فرعون



              مضى موسى عليه السلام الى مصر, ثم دخل على الطاغية فرعون, فحدّثه عن الله عز وجل وعن فضله ورحمته ورزقه, وحدّثه عن وجوب توحيده وعبادته, حاول أن يدعوه بطريق ليّنة, خاطب فيها وجدانه, ولكن فرعون تكبّر وتجبّر, وذكّر موسى بأن ربّاه وانتشله من النيل طفلا, وذكّره بمقتل القبطي, ثم سأله عن رب العالمين فقال: انه ربي وربك, وجادل فرعون جدالا كثيرا, والعصا في يد موسى عليه السلام, وبعد أن أنهى موسى كلامه والرد على فرعون, نظر اليه فرعون وقال في تهديد وعيد:{ لئن اتخذت الها غيري لأجعلنّك من المسجونين} الشعراء 29.



              عندئذ أدرك موسى أن الحجج لن تفلح والأمور العقلية لن تحرّك في هذا الفرعون المغرور المتكبّر ساكنا, فتحسس موسى عليه السلام العصا التي في يده, وأدرك أن وقت اظهار المعجزة قد جاء وآن أوانه فقال لفرعون:



              { أولو جئتك بشيء مبين} الشعراء 30.



              وكان في نبرة موسى عليه السلام تحدّ لفرعون, فقبل فرعون التحدي على الفور وقال: { فأت به ان كنت من الصادقين} الشعراء 31.



              عندئذ أمسك موسى بعصاه وألقاها في صالة القصر وسط ذهول فرعون والوزراء الجالسين حوله, الذين ظنوا أن العصا سقطت منه بسبب ارتباكه من طلب فرعون الدليل على صدقه. وفجأة تحوّلت العصا الى ثعبان مبين, ثعبان هائل يتحرّك بسرعة عظيمة, اتجه الثعبان على الفور الى فرعون, شحب وجه فرعون من الخوف وثبت مكانه في البداية, وخرج الناس مذعورين منفضين عن مجلسه, وذعر فرعون ثم وثب عن مكانه, وصاح مستنجدا بموسى عليه السلام.



              وقف الجميع على جوانب بوابات القصر ينظرون بذعر ويشهدون ما يفعله موسى, فهز موسى يده الى الثعبان فعاد في يده عصا كما كان.



              عاد موسى يكشف أمام الواقفين معجزته الثانية, أدخل يده في جيبه وأخرجها فاذا هي بيضاء كالقمر, فذهل الواقفون فرعون ووزراؤه.



              وهكذا استمرّت العصا معجزة من معجزات موسى, ولها مشاهد كثيرة لم تنته بعد.



              4. في يوم السحرة



              ظن فرعون بعد كل ما حدث معه وشهده بنفسه أن أمر موسى وهارون عليهما السلام ضرب من ضروب السحر, وقال لحاشيته: ان موسى ساحر يعرف علم السحر والسحرة, يريد أن يخرجكم به من أرضكم, فماذا تأمرون؟



              وقال العلماء قول ابن عباس وأورده الثعلبي في العرائس:



              قال فرعون أيضا لما رأى من سلطان الله تعالى في يد موسى وعصاه: انن أرى أننا لن نغلب موسى وننتصر عليه الا بمن هو مثله, فأخذنا غلمانا من بين اسرائيل يقال لهم "الغرقاء" يعلمونهم السحركما يعلمون الصغار في الكتّاب, فعلموهم سحرا كثيرا, ثم ان فرعون واعد موسى موعدا, وقال له: أنت ساحر يا موسى.. ولقد قررت أن أكشف أمرك أمام الناس جميعا, وبعد أيام قليلة يحضر السحرة.



              فقال موسى عليه السلام: ومتى ألتقي بالسحرة؟



              قال فرعون: موعدكم يوم الزينة, انه يوم من أيام الربيع يحتفل به الناس جميعا. وسوف يأتي الناس في ضحى هذا اليوم, هذا هو موعدك يا موسى.



              فقال موسى عليه السلام: سأخرج مبكرا من بيتي في هذا اليوم.



              وبعد هذا اللقاء خرج موسى عليه السلام من قصر فرعون, وركب عدد من الرجال مركباتهم وأسرعوا يتفرقون في مصر كلها: ان على جميع السحرة الماهرين التوجه الى قصر فرعون لأمر هام. واستدعى فرعون نبي الله موسى وحاول تهديده واخافته ولكن موسى ظل على حاله.



              وجاء يوم الزينة, واجتمع السحرة الى فرعون فوعدهم بأجر كبير لو غلبوا موسى عليه السلام.



              وخرج الناس جماعات جماعات, أطفالا ونسلاء, شبابا وشيوخا, جاؤوا ليشهدوا مباراة هي الأولى من نوعها: مباراة بين سحرة فكلهم يظنون أن موسى عليه السلام ساحرا!!



              بدأ الناس بأخذ أماكنهم في الاحتفال منذ الصباح الباكر, ولم يكن أحد في مصر لم يعرف قصة التحدي واللقاء بين هؤلاء السحرة, ولم يكن أحد يعرف بمعجزة موسى التي ستخرس كل الألسنة, وستجعل من فرعون وسحرته مثالا للكذب والتجني.



              كانت العصا في يد موسى عليه السلام, وتقدّم السحرة خمسة, عشرة, عشرون ساحرا, وموسى يقف وحيدا في ساحة المباراة أو قل ساحة الحرب والصراع بين الحق والباطل, بين الصدق والكذب, بين التواضع وبين الكبر والافتراء, انها معركة بين الكفر والايمان كفر فرعون وسحرته وايمان موسى عليه السلام ومعجزته.



              جلس فرعون تحت مظلة واقية من الشمس, ومن حوله جنوده وحاشيته وقادته وهو يرتدي أفخم الثياب المرصّعة بالجواهر, أما موسى عليه السلام فوقف صامتا يذكر الله في نفسه ولا ينظر لشيء حوله.



              وتقدّم السحرة الى موسى عليه السلام وسط الجمع الهائل الذين استجمعوا كل حواسهم لرؤية وسماع ما سيحدث.



              قال السحرة لموسى:{ امّا أن تلقي وامّا أن نكون أوّل من ألقى}.



              قال موسى عليه السلام: بل ألقوا.



              فقال السحرة: نحن الغالبون بعزة فرعون.



              فقال موسى: ويلكم, لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب أليم.



              في هذه اللحظة, التفت موسى فاذا جبريل على يمينه يقول له: يا موسى ترفق بأولياء الله, قال موسى لنفسه: هؤلاء سحرة جاؤوا ينصرون دين فرعون, عاد جبريل يقول: ترفّق بأولياء الله, هم من الساعة الى صلاة العصر عندك.., وبعد صلاة العصر في الجنة.



              وهؤلاء السحرة اختلف في عددهم فقال كعب: انهم كانوا اثني عشر ألفا. وقال عالم آخر: بضعة وثلاثين. وقال عكرمة: سبعين ألفا. وقد أجمعت الأقاويل على أن فرعون جمع السحرة وهم سبعون ألفا فاختار منهم سبعة آلاف ليس فيهم الا من هو ساحر ماهر, ثم اختار سبعمائة ثم اختار سبعين من كبارهم وعلمائهم, وكان رئيسهم يسمّى شمعون, وقيل يوحنّا وقيل ان أعلم السحرة كانا بأقصى الصعيد وكانا أخوين.



              نعود الى ساحة المباراة: لما قال لهم موسى عليه السلام:{ ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى} فتناجى السحرة فيما بينهم, فقال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر, فذلك قول الله تعالى:{ فتنازعوا أمرهم بينهم وأسرّوا النّجوى} فقال السحرة:{ فلنأتينّك بسحر مثله}.



              رمى السحرة بعصيّهم وحبالهم, فاذا المكان يمتلىء بالثعابين والحيّات التي تجري هنا وهناك فجأة لقد سحروا أعين الناس, واسترهبوهم وأخافوهم وجاؤوا بسحر عظيم, وهلّل المصريون مكان الاحتفال, وابتسم فرعون ابتسامة عريضة وظنّ أنه قضى على موسى عليه السلام.



              نظر موسى الى حبالهم وعصيّهم فشعر بالخوف, وكذلك هارون الواقف الى جواره, ولكنه سرعان ما سمع صوتا يقول له:{ لا تخف انك أنت الأعلى* وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا انما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى}.



              اطمأن نبي الله موسى حين سمع رب العالمين يطمئنه, ولم يعد يرتكب أو ترتعش يداه, ثم رفع عصاه وألقاها فجأة.



              ولم تكد عصا موسى عليه السلام تلامس الأرض حتى وقعت المعجزة, فقد تحوّلت الى ثعبان جبار سريع الحركة, وتقدّم هذا الثعبان فجأة نحو حبال السحرة وعصيّهم التي كانت تتحرّك وبدأ بأكلها واحدا بعد آخر.



              راحت عصا موسى عليه السلام تأكل حبال السحرة وعصيّهم بسرعة مخيفة.



              وفي دقائق معدودات خلت ساحة المباراة تماما من كل حبال السحرة وعصيّهم, لقد اختفت في بطن عصا موسى, ومشى الثعبان الضخم في أدب نحو موسى, ومدّ موسى يده فتحوّل الثعبان الى عصا.



              أدرك السحرة أن هذا ليس سحرا, لعلمهم بالسحر وعلومه.



              وكانت المفاجأة الكبرى: لقد سجد السحرة جميعا على الأرض وقالوا:{ آمنّا برب العالمين ربّ موسى وهارون}.



              انها المعجزة التي تولّد معها الايمان بالله عز وجل.. ولكن لم ينتهي دور العصا بعد.



              5. عند البحر



              استمر الصراع بين الحق والباطل, وبين موسى عليه السلام وفرعون الكافر, وقرر فرعون ومن معه من الناس قتل موسى وأتباعه, وعلم موسى بذلك فصحب أتباعه ليلا وسار بهم نحو البحر قاصدا بلاد الشام, وعلم فرعون بذلك فحشد جيشا ضخما, وتحرّك جيش فرعون في أبّهته وعظمته وسلاحه وخرج وراء موسى.



              ومضى الجيش مسرعا يثير غبارا شديدا وموسى ينظر خلفه فيرى غبار الجيش يطارده, فامتلأ قوم موسى رعبا, وكان الموقف حرجا وخطيرا, فالبحر أمامهم والعدو وراءهم ولا مكان للهرب, ولا توجد لديهم القدرة على القتال والحرب, وقالت النسوة وبعض الرجال: سيدركنا فرعون بجيشه.. سيهلكنا جميعا, ولكن موسى عليه السلام قال:كلا.. ان معي ربي سيهدين.



              تحسّس موسى عصاه مطمئنا.. طوّحها في الهواء وضرب بها البحر فانفلق الى جزئين, كل منهما كالطود العظيم, وتقدّم موسى في الطريق الجديد وسط البحر وتبعه فرعون.



              وانتهى موسى من عبور البحر, فنظر وراءه وأراد أن يضرب بعصاه ولكن الله أوحى اليه بأن يترك البحر على حاله وينتظر حتى يدخل كل جنود الكفر في الطريق وسط البحر:{ واترك البحر رهوا, انهم جند مغرقون}. الدخان 24.



              ولما أذن الله تعالى, ضرب موسى عليه السلام البحر بعصاه ثانية, فعاد البحر كسالف عهده, وانهالت الأمواج على فرعون وجنوده, ولما أدرك الغرق فرعون قال:{ آمنت أنه لا اله الا الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المسلمين}. يونس 90.



              ولكن الله لم يقبل توبته لأنها جاءت متأخرة, فقد عاث في الأرض فسادا وكبرا, فكان من المغرقين.
              إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
              نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
              جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

              تعليق


              • #8
                ابراهيم

                النار لا تحرق النبي



                قال تعالى:{ قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم ان كنتم فاعلين* قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على ابراهيم* وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين} الأنبياء 68-70.



                ابراهيم الخليل عليه السلام نبي الله, وهو خليل الرحمن, وأبو الأنبياء الأكبر من بعد نوح عليهما السلام, ولد ابراهيم عليه السلام في أور الكلدانيين في العراق, أما أبوه فهو "آزر" كما ورد في القرآن الكريم, وكان قوم ابراهيم عليه السلام الذين ولد فيهم يعبدون الكواكب السيّارة والأصنام, وقد دلت الآثار التي أكتشفت في العراق على صحة ما عرف في التاريخ من عبادتهم للأصنام الكثيرة, كما ورد في القرآن الكريم حتى كاد أن يكون لكل منهم صنم خاص به سواء الأغنياء أو الفقراء منهم في ذلك.



                وقد عاب ابراهيم عليه السلام على قومه في العراق شركهم بالله وعبادتهم الأصنام, وجادل أباه وقومه في ذلك, ثم أراد أن يلفت أنظارهم الى باطل ما هم عليه من عبادة غير الله بما جاء به من حجج مقنعة وقوية وقيامه بتكسيره أصامهم الا كبيرهم, ولكن لم يرجعوا عن كفرهم وضلالهم, وانما قرروا قتله بالقائه في النار.



                هذه السطور هي ملخص سريع لقصة سيدنا ابراهيم الى أن جاءت معجزة خروجه من النار ونجاته منها. ولنر هذا الصراع من البدء الى أن وصل الى نقظة القرار الشرير وهو السعي الى حرق ابراهيم عليه السلام بالنار والتخلص منه.



                1. حوار مع الأب



                بدأ ابراهيم عليه السلام حوارا مع أبيه بالدعوة الى الله فنهاه عن عبادة الأصنام وقد ذكر ذلك في القرآن الكريم.



                قال عز وجل:{واذ قال ابراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة اني أراك وقومك في ضلال مبين}. الأنعام 74.



                ولقد أنكر ابراهيم عليه السلام على أبيه عبادة الأصنام, وقال له: اني أراك وقومك تسلكون مسلك الضلال, فأنتم لا تهتدون الى الطريق الصحيح, انكم تائهون لا تهتدون الى أين تذهبون, ان ضلالكم هذ واضح لا شبهة فيه لأن الأصنام والأوثان التي تعبدونها, والتي اتخذتموها آلهة لكم, لا تصلح أن تكون آلهة في أنفسها.



                قد آمن ابراهيم عليه السلام وأيقن أن الله واحد لا شريك له صاحب معجزات تفوق كل هذا الكون آمن بذلك وبدأ يضرب الأمثال لقد أراه ربه الدلالة على وحدانيّته, فلما رأى كوكبا قال لقومه هذا ربي على زعمكم, لأنهم كانوا يعبدون الكواكب والشمس والنجوم والقمر, وكذلك قال ابراهيم لقومه عن القمر فقال: انه ربي على زعم أنكم تقولون أنه اله ورب وكذلك عن الشمس, فلما غابت وأفلت, وقد رأى أفول الشمس قال للناس مبرّئا نفسه من الكفر والشرك: اني بريء من شرككم بالله تعالى. واني بريء أيضا من هذه الأصنام والكواكب والمعبودات التي جعلتموها آلهة مع الله, وقال ابراهيم عليه السلام:{ قال يا قوم اني بريء مما تشركون}. الأنعام 78.



                ثم أضاف ابراهيم عليه السلام مبلّغا قومه رسالته ودينه وربّه الذي آمن به, فقال:



                { اني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا, وما أنا من المشركين} الأنعام 79.



                وهنا يقصد ابراهيم عليه السلام أنه قصد بعبادته وتوحيده لله عز وجلّ, وبذلك يكون ابراهيم عليه السلام حنيفا,اي مائلا للحق ومنحازا له, وقال ابراهيم عليه السلام نافيا عن نفسه الشرك:{ وما أنا من المشركين} ولن أشرك بعبادة ربي أبدا فهو الذي خلقني ورزقني ومنّ عليّ بكل هذه النعم التي لا تحصى ولا تعد.



                ولكن القوم لم يقتنعوا بكل هذه الحجج القويّة والدعوة الواضحة.



                2. حوار مع قومه



                جادل القوم الكفار ابراهيم عليه السلام فيما يقوله وفيما توصّل اليه من الحق بشأن معبوداتهم الباطلة, لم يقنعهم قول الحق الذي قاله ابراهيم عليه السلام فقال لهم: أتجادلونني في أمر الله الذي لا اله الا هو, وقد بصّرني وهداني الى الحق, فكيف ألتفت الى أقوالكم الفاسدة, وانني لا أخاف من آلهتكم ولا أبالي بها ولا أقيم لها وزنا أبدا فان كانت حقا آلهة وكان لها ضرر أو كيد فكيدوني بها ولا تمهلوني, فالذي ينفع ويضر هو الله وحده أفلا تعتبرون وتعقلون وتتذكرون ما بيّنته لكم لتعلموا أن هذه الأصنام باطلة فتبتعدوا عن عبادتها, كيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله ولا تخافون أنتم من الله الذي أشركتم به.



                فأي الطائفتين يا قوم أحق بالأمن والطمأنينة والنجاة من عذاب الله يوم القيامة. هل هو الفريق الذي يعبد أصناما خرساء صمّاء لا تنفع ولا تضرّ, ولا تنطق ولا تعقل, أو من يعبد الله الذي بيده الضرر والنفع, وخالق كل هذه النعم, وكل هذا الكون بما فيه الكواكب والشمس والقمر والأحجار التي تعبدونها فهل تعقلون كل هذا؟ ان كنتم تعقلوه فاعبدوا الله وحده لا شريك له واتركوا عبادة الأصنام.



                أما الامنون المطمئنون فهم الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له, سبحانه عز وجلّ, ان هؤلاء المؤمنين هم الآمنون المهتدون في الدنيا.



                3. حوار مع الأب ثانية



                حرض ابراهيم كل الحرص على هداية أبيه وضمّه الى دعوة التوحيد وترك الشرك بالله عز وجل, فكان عليه السلام صريحا معه, يصارحه فيما هو عليه من الكفر, ويقول له ان هذا الكفر ان لم يقلع عنه ويتركه سيذهب الى النار, وسيعذب عذابا شديدا.



                لذلك فقد كان ابراهيم عليه السلام لطيفا ليّنا مع أبيه فهو يكرر دعوته له بغاية التلطف واللين معه, مستعملا في حديثه كلمة {يا أبت} يشعره بأنه ابنه البار الحريص على ما ينفع أباه. وقد جاء حديثه في القرآن الكريم مع أبيه لطيفا ليّنا فقال له:



                {واذكر في الكتاب ابراهيم, انه كان صدّيقا نبيّا* اذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} مريم 41-42.



                لقد سلك ابراهيم عليه السلام في دعوته لأبيه مسلكا عظيما, ومنهجا حسنا, واحتج عليه أبدع احتجاج كل ذلك بحسن أدب وخلق جميل, حتى لا تأخذه عزة نفسه فيرتكب ذنبا ويستمر في شركه وكفره.



                لقد طلب ابراهيم من أبيه معرفة السبب في عبادته لما لا ينفع ولا يضر ولا يستحق العبادة أصلا, كيف يترك عبادة الله الخالق الرازق النافع الضار الذي يحيي ويميت؟! وهل يستسيغ ذلك عاقل؟!



                وابتعد ابراهيم عليه السلام عن وصف أبيه بالجهل فقال:{ يا أبت اني قد جاءني من العلم ما لم يأتك}. مريم 43.



                كان ابراهيم عليه السلام في حديثه وسطا, فلم يصف أباه بالجهل المطلق, ولم يصف نفسه بالعلم الفائق, ولكنه قال عليه السلام لأبيه: ان معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك, وذلك علم الدلالة على الحق والطريق الصحيح, وهي دلالات وحجج واضحة قوية حاسمة لا لبس ولا شكّ فيها, فلا تستكثر يا أبت عليّ النصح وأقبل قولي. فلك أن تتصوّر أنني أسير معك في طريق وعندي معرفة بالطريق ومسالكه, فمن مصلحتك أن تتبعني حتى تنجو من الضلال والتيه.



                وحذر ابراهيم عليه السلام أباه من عبادة الشيطان, فقال له:



                { يا أبت لا تعبد الشيطان, ان الشيطان كان للرحمن عصيّا} مريم 44.



                أي أن عبادتك لغير الله من أصنام وأوثان هي عبادة للشيطان, لأن الشيطان هو الذي يأمر بذلك وهو المؤول عنها, ولا ينبغي لك أن تطيع من يعصي الله الذي خلقك وأنعم عليك.



                ثم قال ابراهيم لأبيه في تلطف: يا أبت اني أخاف ان عصيت الله وواليت عدوّه أن يقطع رحمته عنك كما قطعها عن الشيطان, فتكون كالشيطان يصيبك عذاب شديد.



                وقد كان كل هذا التحذير والتخويف واضحا, ولكنه حمل أدبا وحسن خلق من ابراهيم حين قال:{ أخاف أن يمسّك عذاب} مريم 45.



                فذكر ابراهيم عليه السلام خوفه عليه حتى من مس العذاب.



                هكذا كان ابراهيم عليه السلام لطيفا مع أبيه, حسن الخلق ينصحه ويدعوه لطاعة الله, فيبدأ كل نصيحة من نصائحه الأربع بقوله { يا أبت} على سبيل التوسل اليه والاستعطاف, ونيل رضاه, بذلك ضرب ابراهيم عليه السلام مثلا عظيما في حسن الخلق والتأدب مع أقرب الناس اليه وهو أبوه آزر, ولكن هل كان رد الأب ايجابيا؟



                للأسف, لم يكن كذلك, فقد أصرّ على عناده وكفره وقال لابراهيم: أمعرض أنت يا ابراهيم ومنصرف عن آلهتي؟ لئن لم تمتنع عن الطعن والاساءة لآلهتي وان لم تبتعد عن نصحك لي بترك عبادتها لأررجمنّك بالحجارة, هيا اهجرني وابعد عني ولا تعد تأتيني أبدا.



                سمع ابراهيم عليه السلام ردّ أبيه, ولم يعارضه بسوء الرد ولم يستمر معه في الجدال, وانما قال له:



                { سلام عليك سأستغفر لك ربي انه كان بي حفيّا}. مريم 47.



                لن أصيبك بمكروه يا أبي, ولكن سأدعو ربي أن يغفر لك انه كان بي حفيا أي مبالغا في اللطف بي. القرطبي ج1 ص111-113.



                وقال ابراهيم عليه السلام: سأجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله, وأعبد ربي وحده لا شريك له عسى أن لا أكون بدعائه خائبا ضائع الجهد والسعي. ومضى ابراهيم عليه السلام لشأنه.



                4. حوار قبل تحطيم الأصنام



                عاد ابراهيم عليه السلام ليحاور قومه, عسى أن يعودوا عن عنادهم وكفرهم, وسألهم قائلا: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} الأنبياء 52.



                فأجابوا على الفور:{ قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} الأنبياء 53.



                أي أنهم يعبدونها تقليدا لأسلافهم وأجدادهم, وحجتهم أمام ابراهيم هي تقليد آبائهم الذين ضلوا الطريق.



                فقال لهم ابراهيم عليه السلام وعلى الفور وفي جرأة شديدة:



                { لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين} الأنبياء 54.



                عند ذلك اتهموا ابراهيم عليه السلام باللعب بالألفاظ وقالوا له:



                { قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين}. الأنبياء 55.



                أي: أجئتنا بالجد في دعوتك ورسالتك ونسبتنا الى الكفر والضلال, أم أنت من اللاعبين المازحين في كلامهم, اننا لم نسمع من قبل كلاما كالذي تقوله يا ابراهيم.



                فقال ابراهيم عليه السلام: لست بلاعب, بل أدعوكم الى الله ربكم خالق السموات والأرض الذي خلقهن وأبدعهن انه هو الذي يجب أن يعبد وليس هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع وأنا على ذلكم من الشاهدين, قوي الحجة, فهذه حجتي التي لا ينكرها أحد, وأنتم تحتجون بحجة باطلة وهي أنكم وجدتم آباءكم يعبدونها.



                5. ابراهيم يحطم الأصنام



                بعد انتهاء هذا الجدال بين ابراهيم عليه السلام وقومه أراد ابراهيم عليه السلام أن يلفت أنظارهم, فعزم على تكسير أصنامهم وتحطيمها, لقد أقسم ابراهيم قائلا:{ وتالله لأكيدنّ أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين} الأنبياء 57.



                وانتظر ابراهيم انصرافهم وخروجهم من عيدهم وتجمعهم, وحمل فأسا ومضى الى حيث توجد الأصنام وجعل يحطم ويكسر الأصنام, حتى جعلها جميعا قطعا متناثرة هنا وهناك وأبقى على صنمهم الأكبر, أكبر صنم فيهم وعلّق في عنقه الفأس التي كسر بها بقيّة الأصنام, لعلهم يرجعون الى ابرهيم عليه السلام ودينه ويتعظون بهذه الموعظة.



                6. بدء المعجزة



                عاد الكفار الى الأصنام وهالهم وروّعهم ما شاهدوه.. لقد كسرت أصنامهم جميعها وعلّق الفأس في عنق الصنم الأكبر فقالوا: من الظالم الذي فعل هذا بآلهتنا؟ انه جريء في ظلمه هذا.



                كان بعض الناس من الكفار قد سمعوا ابراهيم عليه السلام ويقول:{ لأكيدنّ أصنامكم} فقالوا: سمعنا فتى يذكر أصناما بمكروه منه اسمه ابراهيم.



                فقرروا أن يشكّلوا له محكمة يحاكمونه فيها أمام حشد كبير من الناس وهذ ما يريده ابراهيم عليه السلام, حتى يبيّن لأكبر عدد من الناس وأمام أكبر عدد منهم أنهم جاهلون, وأغبياء عندما عبدوا هذه الأصنام التي لا تدفع عنهم الضرر ولا تدفع حتى عن نفسها الضرر, ولا تملك لنفسها ضرّا نصرا عندما تتعرّض لسوء وهذا أمر ماثل وواضح أمامكم.



                واحتشد الناس وجيء بابراهيم أمام حشد هائل من الناس وطرح عليه السؤال:{ أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا ابراهيم} الأنبياء 62.



                أجابهم بما يريد من اثبات بطلان حجتهم, وغباء تفكيرهم قال:{ بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم ان كانوا ينطقون}!! حتى يتبيّن لهم أن هذه الأصنام لا تنطق ولا تعقل فهي جماد, وبهذا قصد ابراهيم تقريعهم وتوبيخهم على عبادة هذه الأصنام, فراجعوا عقولهم, ورجع بعضهم الى بعض لضعف حجتهم وعجزهم عن الرد, وقال بعضهم لبعض: أنتم الظالمون بعبادة من لا ينطق بلفظة ولا يملك لنفسه شيئا, فكيف بنفع من يعبده ويدفع عنه الضرر وقد فشلوا في منع الفأس من تكسيرهم وتحطيمهم.



                ولكن الكفار عادوا الى جهلهم وعنادهم وقالوا لابراهيم: لقد علمت أنهم لا ينطقون يا ابراهيم فكيف تقول لنا اسألوهم ان كانوا ينطقون, وأنت تعلم أنها لا تنطق؟



                عند ذلك بدأ ابراهيم عليه السلام في استثمار هذا الموقف بعد أن وضعهم في أوّل طريق الحجة السليمة الصحيحة فقال لهم:



                اذا كانت لا تنطق ولا تنفع ولا تضر فلم تعبدونها من دون الله؟, ثم تضجّر ابراهيم وتأفف منهم وقال لهم:{ أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون} الأنبياء 67.



                ورغم كل ذلك فقد صدر الأمر, أمر العاجز عن الاقناع بالحجة صدر الأمر بقتل ابراهيم عليه السلام, وأن يكون هذا القتل بطريقة بشعة, انه الحرق بالنار حتى الموت.



                قالوا: { حرّقوه وانصروا آلهتكم ان كنتم فاعلين} الأنبياء 68.



                وجاء قولهم أو حكمهم في موضع آخر من الآيات الكريمة:{ قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم* فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين*} الصافات 97-98.



                لقد عدلوا عن الجدال والمناظرة لما انقطعت حجتهم وغلبهم ابراهيم عليه السلام بالحق, ولم تبق لهم حجة ولا شبهة الا استعمال قوتهم وسلطانهم, لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم, فكادهم الله جل جلاله, وأملى كلمته ودينه وبرهانه.



                7. بدء المعجزة



                ذهب الكفار الى رجل من الأكراد يقال له "هيزن" وطلبوا منه أن يصنع منجنيقا ليضعوا فيه ابراهيم عليه السلام ويلقوه في النار.



                وشرعوا على الفور في جمع الحطب من جميع الأماكن والشعاب هنا وهناك, فمكثوا مدة طويلة حتى أن المرأة منهم كانت اذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطبا لحرق ابراهيم عليه السلام, وحفروا حفرة ضخمة فوضعوا فيها كل الحطب الذي جمعوه, وأشعلوا النار, فاضطرمت وتأججت والتهبت علاها شرر لم ير مثله قط.



                ثم أخذوا يقيّدون ابراهيم ويكتنفونه ويربطونه بالحبال وهو يقول:" لا اله الا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك, لا شريك لك" رواه ابن عسكر في تاريخه 2\147.



                فلما حملوه ووضعوه في كفة المنجنيق مقيّدا مكشوفا وأطلقوه الى النار بالمنجنيق, لقيه جبريل في الهواء فقال له: يا ابراهيم ألك حاجة؟



                فقال: أما اليك فلا! قصص الأنبياء لابن كثير ص 121.



                وجاء أمر الله فوريّا وسريعا للنار فقال عز وجل:{ يا نار كوني بردا وسلاما على ابراهيم}



                حتى قيل أنه لولا أن الله قال:{ وسلاما على ابراهيم} لآذى بردها ابراهيم عليه السلام.



                وقيل انه لم يصب ابراهيم عليه السلام منها الا العرق على وجهه كان يمسحه جبريل عليه السلام.



                ولما ألقي ابراهيم عليه السلام في النار كان يقول:



                اللهم انك في السماء واحد, وأنا في الأرض واحد أعبدك.



                وكان معه في النار ملك الظل, وصار ابراهيم عليه السلام من ميل الحفرة حوله نار وهو في روضة خضراء, والناس ينظرون اليه لا يقدرون على الوصول, ولا هو يخرج اليهم.



                ومكث ابراهيم في النار أربعين يوما أو خمسين يوما كانت أطيب عيشا وأكثر بردا وسعادة.



                ولم تحرق النار منه سوى وثاقه وحبله الذي ربطوه به فقط وكانت النار بردا وسلاما على ابراهيم, خرج منها بمعجزة عظيمة منّ الله بها عليه, وأبت النار أن تحرق الا الكفار, فانها لا تحرق الأنبياء بأمر الله, وهذه معجزة من معجزات ابراهيم عليه السلام التي منّ الله بها عليه.
                إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                تعليق


                • #9
                  معجزة الكبش العظيم



                  قال تعالى: { فلما أسلما وتلّه للجبين* وناديناه أن يا ابراهيم* قد صدّقت الرؤيا, انا كذلك نجزي المحسنين* ان هذا لهو البلاء المبين* وفديناه بذبح عظيم} الصافات 103-107.



                  كان ابراهيم عليه السلام قد كبر ونالت منه الشيخوخة منالها ولم ينجب أبناء, وكان يدعو ربه دائما أن يرزقه الولد فأحست سارة برغبته هذه فقالت له: يا ابراهيم, اني عاقر, وأحب أن يرزقك الله بولد ولذلك فانني سأهب لك جاريتي هاجر لكي تتزوّجها, فقد يرزقك الله بل ويرزقنا جميعا منها ولدا تقرّ به أعيننا!! صمت ابراهيم قليلا وحذر سارة من الغيرة اذا أتمّ هذا الأمر,فقالت سارة في ثقة واطمئنان تعودان الى عاطفة وحنان متدفقين منها وهي أنثى شأنها شأن حواء على وجه الأرض, تحكم الأمور وتغلبها على الأرحج بعاطفتها, قالت: لا تخف يا ابراهيم, لا تخف.



                  تزوّج ابراهيم عليه السلام من هاجر التي وهبتها له سارة ومرّت أيام جميلة سعيدة فحملت هاجر وولدت لابراهيم عليه السلام ولدا جميلا وضيئا أسمّاه اسماعيل.



                  وجاء اسماعيل بفرحة كبيرة دخلت على نفس ابراهيم عليه السلام فأحب ابراهيم عليه السلام اسماعيل حبا كثيرا, فكم من مرّة حمله وداعبه, وأحبه حبا كثيرا.



                  واستمرّت الأحوال في البيت النبوي الكبير هانئة سعيدة بوليدهم الصغير, فأبو الأنبياء سعيد غاية السعادة يشكر ربه ليل نهار ويسبّح بحمده على ما أفاء عليه من نعمة الولد وهو في هذا السن المتقدم.



                  وفجأة دوت في البيت النبوي الكبير مفاجأة كان مصدرها السيّدة سارة, فقد خرجت الأنوثة لطبيعتها تعبّر عما يجيش في صدرها دون تكلف, دبّت الغيرة في نفس الأنثى سارة وهي شأنه شأن بنات جنسها لا تستطيع أن تكتم ما في نفسها ولا أن تغيّر فطرة النساء وبنات حوّاء, جاهدت نفسها وكظمت غيظها, وحاولت أن تفعل شيئا, كانت تعلم أن هذا الأمر سيزعج ابراهيم عليه السلام ولكن نفسها لم تقاوم جبروت الغيرة, اقتربت من ابراهيم قليلا وتهاوت الدموع من عينيها قطرات وقالت في صوت متهدج: يا ابراهيم؛ اني لا أستطيع أن أساكن هاجر وابنها بعد اليوم, فانظر لنفسك ولها أمرا.



                  صمتت سارة وقد انتابها حزن شديد من أجل خليل الله الذي شاركها الصمت أيضا, نعم لا تستطيع سارة أن تكبح جماح الغيرة, وهذا ما كان يخشاه ابراهيم.



                  ظنّ ابراهيم عليه السلام في البداية أن الأمر بضع خطوات وينتهي الأمر بمسكن جديد قريب لهاجر وابنها, ولكن سارة ذهبت مذهبا بعيدا, قالت: انني لا أريد أن تسكن هاجر بلدا أسكنه..



                  هكذا لم تستطع الصبر على مجرد وجودهما بالقرب من ابراهيم فيراهما بين الحين والآخر عن قرب.



                  انصرفت مشيئة الله أن يكون هذا قول سارة, وحاول ابراهيم أن يترضى سارة على هاجر وولدها اسماعيل, ولكنها أبت وأصرّت, فوجد أن لا مناص من أن يباعد بينهما.



                  اصطحب ابراهيم هاجر وولده اسماعيل, وخرج بهما قاصدا مكانا يؤويهما فيه, وسار ما شاء الله له أن يسير, فترك فلسطين, وقصد جهة الجنوب, ضاربا في صحراء الحجاز, كان ذلك على ما يبدو بوحي خفي, فكان يمشي طوال النهار ولا يستقر في مكان الا اذا أحس بتعب واحتاج للراحة أو أحس بجوع أو عطش, ثم يستأنف المسير بهاجر وولده الطفل الصغير, وظلّ على هذه الحال الى أن استقرّ به المقام بوادي مكة, ومكان ملتقى الطرق للقادم والذاهب من الشام الى اليمن وبالعكس, وفي هذا الوادي أقام ابراهيم لاسرته الصغيرة الأم ووليدها خيمة, يأويان اليها اذا جنّ عليهما الليل ويضعان فيها ما معهما من زاد ومتاع.



                  التفتت هاجر يمينا ونظرت يسارا, وكان ما تراه لا يوحي بشيء مريح, فهو مكان مجدب مقفر, فلم تقع عيناها على زرع ولا ضرع, ولا ماء, ولا حتى بشر يؤنسون وحدتها.



                  ساد الصمت برهة من الزمن هاجر تنظر هنا وهناك, وقد أصابتها حيرة ودهشة, فكيف اختار ابراهيم هذا المكان المقفر الموحش مستقرّا لاسرته, لا بد وأنه موحى اليه أو مأمور بذلك, وخطر ببالها أن تسأله حتى تجد تأكيد لخواطره وشكوكها, فرفعت رأسها وقالت في شغف: أأمرك ربك أن تتركنا هنا يا ابراهيم؟!.



                  قال ابراهيم: نعم.



                  قالت هاجر المؤمنة بربها على الفور: اذن توكل على الله, فقد وكلتنا الى من لايضيع عنده الرجاء.



                  وفي وداع يحمل هيبة الايمان وجبروت المشاعر, ترك ابراهيم عليه السلام هاجر ووليدها الطفل الصغير اسماعيل ومضى وأحسب أن الدموع قد احتبست في حدقات هؤلاء البشر منها دموع طفل أنهكه السفر, وأقلقه أم ّ تضطرب أمام تجربة لم تعهدها من قبل.



                  ومضى ابراهيم منصرفا عن زوجته وابنه, فلما صار على مرمى النظر منهما, رفع رأسه وابتهل في دعاء خاشع فقال:



                  { ربنا اني أسكنت من ذريّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} ابراهيم 37.



                  وكانت نظرة الوداع من ابراهيم بعد هذا الدعاء المبارك, الذي يعد دعاء لبزمان, ومضى ابراهيم عليه السلام عائدا الى بلاد الشام.



                  مرّت الايام وعطش اسماعيل وبكى وهرولت هاجر من وادي المروة الى جبل الصفا وكررت, وتفجّر بئر زمزم, وشرب اسماعيل من عين عذبة خصصت لضيوف الرحمن, ولم تخف هاجر الضيعة فهنا سيبني خليل الله بيت الله.



                  وكانت عين زمزم التي تفجر ماؤها خير شيء في هذا المكان رغبة المارّة, فنزلوا بها, وأقاموا أوقاتا الى جوارها للاستراحة والاستسقاء.



                  وراق لاحدى قبائل العرب أن تنزل بجوار وادي مكة, وهي قبيلة جرهم, فاستأذنوا هاجر, فأذنت لهم, فوجدت الى جوارها من تستأنس به, وتطمئن الى جواره. وعمرت مكة بهذه القبيلة وأصبح الوادي عامرا بالناس والابل والماشية والطيور, وتحققت دعوة ابراهيم عليه السلام عندما دعا لها وهو مغادر هذا الوادي قاصدا بلاد الشام وفلسطين التي تسكنها سارة حين دعا ربه قائلا: { فاجعل أفئدة من الناس تهوى اليهم وارزقهم من الثمرات}.



                  وفي بلاد الشام شعر ابراهيم عليه السلام بحنين لرؤية ابنه اسماعيل وزوجته هاجر, وجاء خليل الله ابراهيم ليرى ما فعل الله بوديعته, فوجد عمرانا وناسا وخياما, وحياة تدب في كل مكان, حتى ظن أنه قد ضلّ عن وادي مكة الذي ترك فيه اسماعيل وهاجر بأمر ربه, فقد كان واديا غير ذي زرع, حتى أنه سأل:



                  أهذا وادي مكة, أهنا تسكن هاجر واسماعيل؟



                  عرف ابراهيم عليه السلام أنه وادي مكة.



                  ومضى خليل الرحمن يبحث عن خيمة هاجر وابنه اسماعيل بلهفة ما بعدها لهفة, وشوق ما بعده شوق, لقد كثرت الخيام وتعددت, ولكن خيمة هاجر شهيرة, معروفة لدى العامة في مكة. فأرشده الناس اليها.



                  نظر ابراهيم الخليل عليه السلام في وجه طفله المشرق, فسرّه سرورا كثيرا, وفرح به فرحا وفرحت هاجر بلقاء زوجها وشكرا الله على ما أولاهما من نعم, وعلى ما حباهما من عطف.



                  وظلّ هذا حال ابراهيم عليه السلام يأتي الى أسرته الصغيرة الجميلة بين الحين والحين لرؤية اسماعيل وأمه.



                  وفي كل مرّة كان ابراهيم يصلي ويسجد شكرا لله عز وجل الذي أقر عينه بجمال طفله وهو في هذه السن البعيدة والعمر المتأخر, ولم تكن هذه نعمة الله الوحيدة على ابراهيم الخليل عليه السلام, ولكن الله أفاء عليه بالكثير الكثير من النعم والعطايا. وأكبرها نعمة الايمان.



                  1. المعجزة الكبرى



                  كانت هذه المعجزة اختبارا عظيما, بكل المقاييس, ولكنه اختبار من الله لرجل هو خليله وهو عبده وهو نبي من الصالحين, أي نوع من أنواع الاختبار يا ترى سيجري على ابراهيم الخليل عليه السلام.



                  نحن أمام نبي يعدّ أبا الأنبياء, وخليل الرحمن, وصفه ربه بالحلم, ونحن أيضا أمام نبي قلبه أرحم قلب على وجه الأرض, فاتسع هذا القلب الكبير لحب الله عز وجل, وحب مخلوقاته, وهذا القلب الرحيم, يمتحن في دقاته دقة دقة ونبضاته نبضة نبضة, لقد كان اسماعيل دقات قلبه, وحبه الكبير, جاءه على كبر من السن, جاءه وهو طاعن في السن ولا أمل هناك في أن ينجب ثم يأتيه الاختبار الصعب في هذا الابن والذي هو قرّة عينه ونبضة قلبه.



                  ويجيء الأمر والاختبار أثناء النوم, لم يكن وحيا مباشرا فما ان استسلم ابراهيم عليه السلام للنوم حتى رأى في المنام أنه يذبح ابنه وبكره ووحيده الذي لم ينجب غيره.



                  ترى ماذا حدث في هذه الرؤيا؟ لقد رأى ابراهيم عليه السلام في نومه هاتفا يهتف قائلا:



                  يا ابراهيم؛ اذبح ابنك في سبيل الله.



                  ترى ماذا فعل ابراهيم عليه السلام بعدما سمع هذا الهاتف؟ لقد هبّ عليه السلام من نومه مذعورا, واستعاذ بالله من مكر الشيطان, ثم عاود نومه مرة أخرى, فعاوده الهاتف أيضا يهتف قائلا:



                  يا ابراهيم اذبح ابنك في سبيل الله.



                  فهبّ ابراهيم عليه السلام قائما, وقد صحّ عنده أن الهاتف من عند الله عز وجل, وتحقق أن الله يأمره بذبح ابنه الحبيب اسماعيل.



                  من الخطأ أن يظن الانسان أن صراعا من نفس ابراهيم لم ينشأ بعد هذه الرؤيا, فهذا بلاء مبين, لا بدّ أن ينشأ في النفس من أجله صراع طويل, نشب هذا الصراع في نفس ابراهيم عليه السلام, صراع الأبوّة الحانية والقلب الذي حمل أكبر قدر من الرحمة والحلم, فكّر ابراهيم في الأمر وتدبّر, وتراجع كل شيء الا شيء واحد وهو الايمان بالله, فهكذا أراه الله في المنام, وبهذه الرؤيا يكون الأمر بالتنفيذ من الله, ورؤيا الأنبياء حق, فلينفذ ابراهيم عليه السلام أمر ربه, فكله خير, فاذا كان التفكير يقتصر على اسماعيل الابن ومخاطبة قلب ابراهيم لنفسه, فان هذا الأمر لا بد وأن يتراجع الى الخلف.



                  أزاح ابراهيم كل هذا من تفكيره, وصوّب فكره لاتجاه واحد يقول: نفذ أمر حبيبك يا ابراهيم..



                  كل ما فكر فيه ابراهيم عليه السلام, كيف يفاتح ابنه في الأمر وماذا يقول عنه اذا أرقده الأرض ليذبحه.



                  من الأفض أن يقول لولده ليكون ذلك أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قهرا ويذبحه قهرا.

                  وصل ابراهيم الى هذه القناعة, لا بد أن يكون صريحا وواضحا مع ابنه.

                  جاء ابراهيم الى ابنه, فقال له: يا بنيّ خذ الحبل والسكين وانطلق بنا الى هذه الهضبة لنجمع الحطب.

                  أطاع ابراهيم عليه السلام, وفعل ما أمره به أبوه, وتبعه الى الهضبة التي أشار اليها والده, كان اسماعيل غلاما مطيعا لا يعصي أباه أبدا, مضى الى هناك حيث أمره ووقف ابراهيم أمام ابنه اسماعيل عليهما السلام وقد أصبح الاثنان في خلوة لا يراهما أحد الا الله سبحانه عز وجل, عندئذ قال ابراهيم لابنه اسماعيل:



                  { يا بنيّ اني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى, قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين}. الصافات 102.



                  انظر الى تلطف ابراهيم في ابلاغ ولده هذا الأمر, وتركه للأمر لينظر فيه الابن بالطاعة, ان الأمر مقضي في نظر ابراهيم لأنه وحي من ربه.. فماذا يرى الابن الكريم في ذلك؟ وجاءت اجابة اسماعيل بنفس جواب ابراهيم عليه السلام هذا أمر يا أبي, انه أمر الله, فبادر بتنفيذه, وجاء الرد في القرآن على لسان اسماعيل يقول:



                  { يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين}.



                  انظر الى هذا الشق من المعجزة, انه ردّ الابن, انسان يعرف أنه سيذبح فيمتثل للأمر الالهي ويقدم المشيئة ويطمئن والده أنه سيجده.. ان شاء الله.. منا الصابرين.



                  فلما تناول ابراهيم عليه السلام من اسماعيل الحبل ليوثقه والسكين في يده ليذبحه, قال اسماعيل له:



                  يا أبتاه, اذا أردت ذبحي فاشدد وثاقي لئلا يصيبك شيء من دمي فينقص أجري, ان الموت لشديد, ولا آمن أن أضطرب عند الذبح اذا أحسست مس السكين, واشحذ شفرتك حتى تجهز عليّ سريعا, فاذا أنت أضجعتني لتذبحني, فاكببني على وجهي, ولا تضجعني لجنبي, فاني أخشى ان أنت نظرت الى وجهي أن تدركك رقة, فتحول بينك وبين تنفيذ أمر ربّك فيّ, وان أردت أن تردّ قميصي على أمي فافعل, فعسى أن يكون هذا أسلى لها.



                  فقال ابراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله.



                  ثم شحذ ابراهيم شفرته, وأحكم وثاق ابنه, وكبّه على وجهه اعلا جبينه الى الأرض متحاشيا النظر الى وجهه, وبسمل واستشهد ثم همّ بذبحه, ولم يكد يسحب السكين على قفا ابنه ليذبحه, حتى سمع مناديا ينادي, ماذا يقول المنادي اذن؟ انه يبشر بالمعجزة الكبرى.



                  قال المنادي يا ابراهيم؛ قد صدقت الرؤيا, فافتد ابنك بذبح عظيم..!!



                  نظر ابراهيم عليه السلام الى حيث سمع المنادي, فوجد بجانبه كبشا أبيض أعين أقرن, فعرف أن الله سبحانه عز وجل قد أرسل هذا الكبش فداء لابنه اسماعيل, وقيل ان هذا الكبش رعى في الجنة أربعين خريفا الطبري في الريخه 1\277, وكان يرتفع في الجنة حتى تشقق, وكان له ثغاء, وقيل انه الكبش الذي قرّبه هابيل ابن آدم فتقبّل منه, تاريخ الطبري.



                  أخلى ابراهيم ابنه من وثاقه, وهو يقبّله باكيا من شدة الفرح ويقول: يا بنيّ؛ لقد وهبت لي اليوم من جديد.



                  ثم أوشق الكبش جيدا, وذبحه شاكرا ربه, وكان هذا البلاء العظيم الذي ابتلى الله به ابراهيم واسماعيل عليهما السلام هو اختبار عظيم, ومعجزة بكل المقاييس من المعجزات التي ساقتها ارادة الله عز وجلّ لهما, وقد ضرب ابراهيم واسماعيل عليهما السلام المثل العظيم في الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره, والطاعة الخاشعة المؤمنة لأمر الله, فوهبهما الله هذه المعجزة الكريمة, والأضحية المباركة. وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه المعجزة في لحظتها الحاسمة فقال عز وجل:



                  { فلما أسلما وتلّه للجبين} الصافات 103.



                  قيل: أسلما:أي استسلما لأمر الله وعزم على ذلك فما ان ألقاه الى وجهه:



                  { وناديناه أن يا ابراهيم* قد صدّقت الرؤيا, انا كذلك نجزي المحسنين* ان هذا لهو البلاء المبين* وفديناه بذبح عظيم}. الصافات 104-108.



                  هذا هو الاسلام الحقيقي, الذي ضرب فيه ابراهيم واسماعيل ابنه المثل العظيم, فكان جزاء الله لهما عظيما, لأنهم أحسنوا عبادة الله, وأحسنوا طاعة الله, ونجحوا في اختبار صعب شمل المصاعب التي تهزم قوى الانسان وتجعله يخرّ صريعا أمامها, ولكن بقدر ما كان للأب من ايمان مدهش وصبر عظيم وتسليك قانع راض بهذا القدر كان للابن الغلام الصغير.



                  ان ابراهيم عليه السلام كان معجزة ايمانيّة سلوكيّة, واسماعيل ضرب مثلا في الطاعة فكان مدهشا في رباطة جأشه ووصوله الى مدى بعيد الطاعة.



                  ان الموقف كله معجزة, ولم يكن الكبش وحده هو المعجزة, الأب, الابن, الكبش, مشيئة الله, كل هذه الأطراف صنعت معجزة هائلة لن تنساها البشريّة.
                  إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                  نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                  جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                  تعليق


                  • #10
                    عزير

                    الحياة بعد الموت



                    قال تعالى:{ أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنّى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم, قال بل لبثت مائة عام فانظر الى طعامك لم يتسنّه وانظر الى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر الى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما, فلمّا تبيّن له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} البقرة 259.



                    1. أما قبل


                    فحديثنا عن معجزة عزير عليه السلام, يحتاج الى تعريف مختصر يسير, بمن هو عزير,, حتى نجعل لكل أوّل آخر, ونربط المعجزات بالمصائر.



                    وعزير عليه السلام صبي من نسل نبي الله هارون عليه السلام, وفي وقت معجزته هذه كان يقيم مع قومه من بني اسرائيل في بابل, الذين كثروا بها وتناسلوا بعد أن أخرجهم بختنصر, وأخذ معظم الأسرى الى بابل وكان بختنصر هو أول من جاس في ديارهم, بعد أن أفسدوا في الأرض, ولذلك فقد حقت عليهم كلمة الله عز وجل:{ وقضينا الى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرّتين ولتعلنّ علوّا كبيرا* فاذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار, وكان وعد الله مفعول}. الاسراء 4-5.



                    كان عزير عليه السلام صبيا نابها كارها لحياة الذل في أرض بابل, يملأ قلبه الأسى والحزن لما يلقاه بنو قومه من الذل والعبودية والهوان, وكان عزير عابدا صالحا يقرأ التوراة, ولم يكن في بني اسرائيل آنذاك من يحفظ التوراة عن ظهر قلب سوى عزير, وكان أبوه وجدّه يحفظانها من قبل.



                    وكان عزير عليه السلام يقرأ التوراة ويعمل بها, ويعظ الناس, فأحبّه الاسرائيليون والبابليون على حد سواء, لخلقه, واستقامته, وحسن سيرته وسلوكه بينهم, وصدق نصائحه وتوجيهاته ومواعظه, وكان عزير مستجاب الدعاء, فما يدعو لأحد بخير الا استجاب الله لدعائه المبارك.



                    وقد تزوّج عزير عليه السلام وأنجب ابنين, ولما بلغ الأربعين من عمره أوحى الله اليه أنه سيخرج من هذه الأرض, أرض بابل, التي أسره فيها بختنصر وأن بني اسرائيل سيخرجون أيضا, ويعيدون عمارة بلادهم.



                    ولما كان العزير عاقلا هادئا حكيما, فانه لم يبح لأحد بما أوحي اليه لا لبني اسرائيل ولا لغيرهم, وكان كتمانه هذا حرصا وخوفا على بني اسرائيل من أن ينزل بهم شر من أي جانب أو جهة.



                    ومرّت الأيام وعزير عليه السلام يجد في داخله حافزا الى الخروج من بابل حيث الذل والمهانة الى حيث وعده ربه بعمارة الأرض المقدسة, وتزايدت في داخل عزير تلك الحوافز يوما بعد يوم, ومر شهر وحنين عزير يشتد أكثر وأكثر, وأصبح لا يطيق البقاء في بابل وأقرّ في نفسه أنه لا مفرّ من الخروج.



                    فكّر عزير عليه السلام قليلا فيما سيواجهه من مشاكل من جراء خروجه من بابل, فماذا سيصنع بزوجته وأبنائه, وخادمته التي طالما كانت وفيّة أمينة مطيعة له على مدى سنوات مضت.



                    وسأل نفسه: كيف يصطحب كل هؤلاء معه؟ وفي ظل حراسة مشددة, وهل يغفل هؤلاء الحراس, الذين وضعهم الملك في كل مكان من بابل؟



                    كانت هذه المشكلة التي تؤرق عزير عليه السلام وأحس أنها ستعطل خروجه من بابل, ولكنه فكر في الأمر مليّا, وجمع زوجته وبنيه, وخادمته الأمينة في ليلة من الليالي, وفي مكان أمين, وقد سكن الليل, وأوى الناس الى مضاجعهم, وقال لهم:



                    لقد قررت الرحيل.



                    فقالت الزوجة: الى أين؟



                    فقال عزبر: الى الأرض المقدسة.



                    قالت الزوجة: ان هذا الأمر غاية في الصعوبة, ونحن نحاط بهذا الكم من حراس بختنصر.



                    ولكن عزير الذي أوحي اليه أصرّ أن يخرج مهما كان الثمن, ذلك لأنه رأى في الخروج تنفيذا لأمر الله عز وجل.



                    عندما أباح عزير بالسر وهو أن خروجه بوحي من الله عز وجل, وأن الوحي بشّر بعمارة بني اسرائيل لأرضهم, وزوال ذل وهوان بختنصر عنهم, فرحت الزوجة والأبناء والخادمة, وعرفوا أن عزيرا أصبح نبيّا من أنبياء بني اسرائيل.



                    فقال لهم عزير عليه السلام: لقد أوحي الي منذ ثلاثة أشهر, وها هي التوراة في قلبي أحفظها, فهي كلام الله, تنير لي الطريق ان شاء الله.



                    طلبت الزوجة عندئذ من زوجها عزير أن يعلم بني اسرائيل بما أوحي اليه من الله عز وجل, حتى يستبشروا وتقوى عزائمهم ويتخلصوا من الذل الذي اعتادوا عليه منذ أن اجتاحهم بختنصر بجيوشه القاسية الفتاكة.



                    وقالت الزوجة والأبناء: ان خروجك وحيدا لن يعمّر الأرض فانك لن تجد هناك من يعينك على ذلك, ولن تجد أيضا هناك من تعلمه التوراة, وبقاؤك معنا سيفيدنا لأننا سنتعلمها منك.



                    قال عزير: هذا أمر الله, وأنا جبلت على طاعته ولن أعصي له أمرا, وقد أوحى الله أمرا واقعا في المستقبل لا نعرف نحن عنه شيئا, ولكن مشيئة الله نافذة, وبعد وقت قليل سيلحق بي بنو اسرائيل وستلحقون بي أنتم جميعا, فاصبروا, ولا تجزعوا فانه أمر الله, ولا رادّ لأمره, سنلتقي هناك في الأرض المقدسة, وسنجتمع كلنا في الغد القريب.



                    ثم أكّد عزير على سريّة خروجه, فقال لهم: اذا أصبحتم فاكتموا أمري, فاذا سأل عني سائل فقولوا له: خرج ولا ندري متى يعود..!



                    فلما تأثرت الزوجة والأبناء أكّد عزير عليه السلام قائلا: تصبّروا, فاننا سنلتقي ان شاء الله, فهكذا أوحى الله اليّ.. كفوا عن البكاء والحزن, واحبسوا أصواتكم حتى لا يشعر بنا أحد..



                    والآن أستودعكم الله.



                    سألت الزوجة: وماذا أعددت لركوبك؟



                    قال: لقد اشتريت حمارا جلدا قويا منذ أيام لهذا الغرض.



                    فقالت: وأين هو؟



                    قال: تركته عند صديقي, وواعدته أن يلقاني به الليلة, خارج أسوار المدينة.



                    قالت: وهل علم صديقك بنبأ رحيلك؟



                    فقال عزير: نعم, علم بكل شيء, وكان أول من آمن بنبوّتي, وسيكتم أمري كله ان شاء الله.



                    كان الفراق صعبا بالنسبة للزوجة والأولاد والخادمة, وكان وداعا هامسا, حارا, هادئا.. وخرج عزير.



                    2. بدء المعجزة


                    مضى عزير عليه السلام في رحلة طويلة شاقة, بعد لحظات خوف وترقب أثناء خروجه من بابل وقد أحاطها الحراس والجنود في كل مكان.



                    وبعد طول مسير وكثير عناء, وجد العزير نفسه في الأرض المقدسة التي طالما تاقت نفسه لرؤيتها, فلما دخل وجد شيئا عجيبا, لم يجد آثارا للعمران, بل وجد الخراب جاثما عليها منذ ثلاثين سنة مضت, منذ أن خرّبتها جيوش بختنصر الذي كان قد اقتحم دمشق, وسار منها الى بيت المقدس, وتذكّر عزير ملك بني اسرائيل الذي خرج اليه, وقدّم له الطاعة وطلب منه الصلح, وأعطاه من الأموال والجواهر والأشياء النفيسة ما أرضاه, ويومها طلب بختنصر بعض أعيان بني اسرائيل ليكونو رهائن عنده ضمانا لاستمرار الصلح, وعدم التمرّد. تاريخ الطبري.



                    وتذكّر أن أهله بني اسرائيل لما نزل بختنصر فزعوا, وتفرّقوا, وأغلقوا دورهم عليهم, فلما صالحه الملك وأعطاه الرهائن وجلا عن البلاد بجيشه, خرجوا من جحورهم غاضبين يلومون ملكهم على الصلح, ويعلنون أنهم كانوا قادرين على قتال عدوّهم, وانزال الهزيمة به, وثاروا على ملكهم وقتلوه, ونقضوا الصلح مع بختنصر.



                    وتذكّر كذلك لما رأى الخراب أن بختنصر لما علم بما حدث منهم عاد الى بيت المقدس, فتحصنوا بداخلها, فحاصروها حصارا شديدا, ثم قام بدك أسوارها بما يقذفه عليها من مدمّرات, حتى تهدّمت, فاندفع جيشه وخرّب المدينة, وقتل النساء والأطفال, وخربوا الدور والزروع والقرى وقتلوا وأسروا كل من وصلت اليه أيديهم.. حتى خرّبت الديار, وكثرت الدماء, وتناثرت الأشياء وهرب من هرب وأسر من أسر, وهرب منهم كم هرب الى مصر,والى مكة والى يثرب وجهات أخرى, وبقي بختنصر ليأتي على البقيّة الباقية من هدم للبيع والمعابد واحراق كل ما وقع له من نسخ التوراة, وقتل الشباب من الأسرى القادرين على حمل السلاح, واستبقى النساء والأطفال عبيدا عنده وخدما, وغادر البلاد بعد تركها خرابا.



                    كل هذا تذكره عزير عليه السلام لما رأى الخراب والدمار حوله في كل مكان؛ فقد وجد أشجار الفاكهة قائمة بغير عناية, فلم تحصد منذ سنين ولم تقطف ثمارها, فهي محمّلة بالثمار الحديثة والقديمة, والأعشاب وبعض الزروع وقد تفرّقت هنا وهناك بغير انتظام, وقد كست الأرض, فتطول في مكان وتقصر في الآخر.



                    وسمع عزير عليه السلام عواء الذئاب بعيدا, وأصوات السباع, وبحث عن أي أثر لأي انسان فلم يجد, وظل العزير يمشي ويمشي حتى بلغ مدينة القدس ووجد بهاآثارا لمذبحة بختنصر. فعظام القتلى بقايا بالية مبعثرة, والدماء على الجدران جافة سوداء, وعشرات الألوف من الجماجم الآدميّة تدل على هول ما أنزل بختنصر ببني اسرائيل من هلاك, ورأى عزير البيوت وقد تهدمت وطمرت بالأنقاض, أما المساجد والمعابد فقد أصبحت خاوية على عروشها, مهجورة وقد ملأها التراب...



                    هال عزيرا عليه السلام ما شهده من مشاهد, وقد جرت أحداث بختنصر هذه وهو صبي لم يتجاوز العاشرة من عمره, ولكنه سمع فيما بعد بهذه المذابح والمعارك من الآباء لكن ما شهده كان أكبر مم تصوّره, لم يكن يعرف أن هذه المعارك كانت عاتية فادحة الخسائر الى هذا الحد, الذي يشهده بعينيه وهو يمر بين الأنقاض والديار المهدّمة.



                    طاف عزير عليه السلام مدينة الأشباح, وقد شغله هذا الماضي المفجع المحزن والحاضر وما سيكون عليه المستقبل, سأل نفسه عدة أسئلة:



                    أتصبح هذه الأرض القفراء عامرة؟



                    أتصير هذه يوما من الأيام, معمورة الأسواق والندوات والمجالس, آهلة بالسكان والأطفال والنساء والبيوت؟



                    وقد أوحى الله اليه أنه سبحانه عز وجل سيعيدها سيرتها الأولى فتدب فيها الحياة, وتنشط الحركة وتقوم التجارة, ويزدهر نشاط الناس بالزراعة والصناعة.. صمت عزير عليه السلام قليلا وتساءل في عجب{ أنّى يحي هذه الله بعد موتها} البقرة 259.



                    أحس عزير عليه السلام بوحدة قاتلة, ووحشيّة مميتة من هذا الصمت الذي يطوف حوله, صمت المدينة, والأشجار, وكل شيء حوله صامت لا يتحرك, وأحزنته مشاهد الدمار التي ما زالت متناثرة في الشوارع والطرقات على شكل عظام ودماء, وبقايا حياة كانت مليئة بالحيوية والبهجة, ولم يسمع عزير حوله سوى صوت الرياح تهمس في أذنيه مرة عاصفة وأخرى عليلة هادئة النسمات.



                    من كل هذا الجو الموحش آثر عزير أن يتخذ لنفسه مغارة في أحد الجبال المحيطة بالقدس ليقيم فيها, وحث حماره فمشى, وعند أحد البساتين توقف عزير عليه السلام وصنع لنفسه سلة ملأها عنبا وتينا, وعصر بعض العنب, وجعله معه في اناء من الجلد ليشربه.



                    وفي ضحى هذا اليوم دخل عزير عليه السلام مغارته الواسعة العتيدة فربط بها حماره, ووضع سلته وشرابه الى جانبه واستلقى على ظهره ليريح نفسه من العناء والتعب, وقد شغل فكره بواحدة من الأفكار تقول: كيف تعود الى الحياة ثانية الى هذه القرية؟!



                    وعزير عليه السلام على علم من وحي الله أن الحياة ستعود مرة ثانية الى هذه القرية ولكنه انسان, ومازال رغم كل ذلك يقول ويردد:{ أنّى يحي هذه الله بعد موتها}.



                    من هذا التساؤل العجيب, ومن هذا الاستطلاع وحبه المعروف عند البشر, تكون المعجزة في طريقها الى عزير عليه السلام بأمر الله عز وجل.



                    وظل عزير عليه السلام يقول: كيف تعود الحياة الى سائر بني اسرائيل وها هي صامتة صمت الزمن أيامي؟!



                    ظل عزير عليه السلام على هذه الحال, حتى أسلمه التعب والتساؤل والرغبة في المعرفة الى نوم عميق عمق الزمن الذي طال, ثقيل ثقل السنين التي مضت ولم يشعر بها عزير أبدا.



                    وفي نومه العميق أو في نومته الصغرى, نام نومة كبرى, لقد قبض الله روحه, ولم يعد عزير يشعر بشيء مما حوله فهو في يد العناية الالهية, تنصرف الى ما تشاء ولا رادّ لمشيئة الله لا في الأرض ولا في السماء.



                    3. العودة


                    مضت السنون سريعة خاطفة عاما وراء عام, ومضى على عزير عليه السلام من بابل عشرة أعوام, انتظرت فيها زوجته وبنوه مشيئة الله عز وجل التي تتيح لهم الخروج من بابل حتى يلحقوا به في الأرض المقدسة, ولكن طال انتظارهم, ولم يحدث شيء, وتلاحقت الأعوام حتى بلغت أربعين عاما, ولم يخرج بنو اسرائيل ولم تأت أخبار عن عزيرا, ويئسوا من العودة الى الأرض المقدسة.



                    أربعون عاما كانت كافية لتغيير أشياء كثيرة, فتغيّرت أجيال واندثرت أجيال. وفي خضم هذا الأمن والطمأنينة, نشأت في بني اسرائيل فتاة جميلة بارعة الجمال, تتسم بالذكاء حتى تفوقت على بنات جيلها جمالا وذكاء, فكان أن رآها ملك بابل فطلب الزواج منها, فتزوجها وهام بها حبا, وأصبحت ذات مكانة رفيعة لدى زوجها, ومنزلة عظيمة ومنّ الله عليها بمولود جميل, مما زاد حبها رسوخا في نفس زوجها الملك, ملك بابل, وأصبحت الزوجة ذات مكانة عظيمة في أوساط زوجها والقصر وكل من حولها, وكان لها عظيم الأثر في نفس زوجها الملك مما جعله يحسن معاملة بني اسرائيل, فصار الأحبار يدخلون القصر ويعلمون ابنها التوراة, فأصبح محبا لأهل أمه, مما جعل الأحبار يشعرون ببركة هذا الزواج, فأصبحوا يتمتعون بمعاملة كريمة واحترام كبير واكرام ما بعده اكرام, وأصبح لهم نفوذ كبير في القصر, فهم بمنزلة وزراء الملك وأعلى الناس في حاشيته ومستشاريه.



                    ومرّت السنون والأحوال تزداد تحسنا بالنسبة لبني اسرائيل, وجاء اليوم الذي مات فيه الملك, فخلفه ابنه الذي رضع حبا لأخواله بني اسرائيل, وحفظ منهم التوراة وعلومها, وأحبهم حبا شديدا, وجاء اليوم أيضا الذي جلست فيه الأم لابنها الملك لتحدثه عن أرض بني اسرائيل التي ما زالت خاوية خربة وتحتاج لأبنائها كي يعمروها, ويزرعوا ارضها.



                    وفي هذا اليوم المشهود لبني اسرائيل والذي جاء بعد مضي سبعين سنة على خروج عزير عليه السلام من بابل في هذا اليوم خرج المنادي ينادي في شوارع بابل: من أحبّ أن يخرج من بني اسرائيل الى بلاده فليخرج ولا حرج عليه في ذلك.



                    فخرج بنو اسرائيل مهاجرين الى بلادهم, وهناك هالهم ما رأوه من خراب ودمار, ولكنهم شمّروا عن ساعد الجد, فغرسوا وزرعوا, ودبّت الحركة في المدينة التي أصبحت أكثر نظافة ونظاما عما قبل, وعادت الحياة تدب من جديد في أرجائها, وخرجوا الى القرى المحيطة بها فعمروها, وبدأ التجار عملهم, فاستؤنفت التجارة بين القرى, وبدأ أرباب الصناعة في تشغيل صناعاتهم وظهرت المساكن الجديدة هنا وهناك, وامتدت الأيادي للبناء, وكان الجميع في سعادة وهم يبنون ويعمّرون ويشعرون بالحريّة, ولم يعد الذل يطاردهم كما كان في بابل . ومضت ثلاثون عاما أصبحت فيها البلاد عامرة, وقد أثمرت صناعاتهم وعمّرت قراهم, وانحسرت آثار الكارثة التي مرت بهم تماما ولم يعد لها أثر يذكر.



                    4. ظهور المعجزة


                    كانت زوجة عزير عليه السلام قد كبرت وأخذ منها الزمان ما أخذ, وكذلك خادمته الصغيرة, وقد بحثوا جميعا في أول مجيئهم مع بني اسرائيل عن عزير في كل مكان بالمدينة, فلم يجدوا له أثرا, وأرسلوا الى المدن والقرى للبحث عن عزير ولكن دون جدوى.



                    وأثناء سؤالهم هذا صرفهم الله عز وجل عن المغارة التي سكنها عزير ومات فيها, وانصرفت مشيئة الله أن لا يقترب بشر من هذه المغارة, لأمر عنده كان مفعولا, واكتملت مائة عام على وفاة عزير, فتحرّك الجسد الذي أصبح ترابا, وأحياه ربه بعد مائة عام, ردّ فيه الحياة, فاجتمعت عظام جسمه ونبض قلبه من جديد فاعتدل جالسا, ونظر حوله هنا وهناك فوجد الى جواره اناء العصير, وطعامه لم يحدث له شيء وسمع مناديا ينادي { كم لبثت} كم من الوقت قضيت في النوم.؟



                    نظر عزير عليه السلام حوله فوجد الشمس قد بدأت تعلو من المشرق, فأجاب على الفور { لبثت يوما أو بعض يوم} أي نمت يوما أو أقل من يوم, فوجد الصوت الذي ناداه يقول{ بل لبثت مائة عام..}.



                    دهش عزير عليه السلام وفزع مما سمع, وردّد في ذهول: مائة عام؟! وأعاد النظر الى سلة الفاكهة, فوجد العنب طازجا كأنه مقطوف لتوه وكذلك التين, والعصير في الانء الجلدي كما هو لم يتغيّر ولم تصدر عنه رائحة غير مقبولة, ولم يتبخر ولم يتجمّد, ولم يدركه أي تحول في الطعم أو اللون.



                    تذكر عزير شيئا ونظر هنا وهناك بسرعة, وتطلع الى الأفق هناك خلف الأشجار, وكأنه يبحث عن شيء, لقد تذكّر حماره, أين هو؟.. لا بد أنه هرب, ووقعت عيناه على عظام بالية في المكان الذي ربطه فيه, وربما تساءل في نفسه, ولم الحمار, لقد أصبح عظاما نخرة بعد أن أفناه الدهر؟



                    وقف عزير عليه السلام بين فاكهته وطعامه الذي لم يتغيّر وبين حماره الذي فني وأصبح عظاما لطول ما مرّ به من السنين, وبدأ يردد: انها مائة عام, حقا انها مائة عام, كانت كافية بافناء جلد الحمار وعظامه, ولحمه, لقد بليت حوافره وزالت وأصبح مكان عينيه حفرتان في عظام الرأس المجوّفة.



                    رأى عزير عليه السلام آيات ربه: فطعامه لم يتغير وحماره أصابه الفناء.. سبحان الله, انها بلا شك آية من آيات الله العلي القدير, ونعمة من نعمه العظيمة, ثم زاد مستدركا: بل انها آية, وكرّر: انها آية من آيات الله.



                    وانصرف عزير عليه السلام للتسبيح والصلوات حتى سمع قول الله عز وجلّ:{ ولنجعلك آية للناس} البقرة 259.



                    لم تكن الآية في الطعام والشراب الذي لم يتغيّر بل أصبحت في عزير عليه السلام نفسه, وهذا ما جعله يفكّر فيما سيأتي من بعد ذلك. ما الذي سيحدث بحيث يصبح عزير آية تدعو الى العجب والدهشة ومعجزة يتحدّث عنها الناس جميعا؟!



                    ولكن ما هي الآية؟ وعمّ ستكون المعجزة؟!



                    فجأة سمع عزير عليه السلام نداء خفيّا, يقطع عليه تفكيره, ويصرفه عن هذا التفكّر والتأمّل, جاء النداء يقول آمرا عزير:{ وانظر الى العظام} البقرة 259.



                    نظر عزير عليه السلام الى العظام, ثم أكمل الصوت أو النداء:{ كيف ننشزها ثم نكسوها لحما} البقرة 259.



                    أعاد النظر عزير عليه السلام فاذا به يجد عظام الحمار تتحرك قائمة بقدرة الله ومشيئته, كل عضو يتحرك الى مكانه المعروف من الجسم, حتى اكتمل هيكل الحمار العظمي ثم يكسو الله بقدرته ومشيئته هيكل العظام هذا باللحم, حتى يعود حمار العزير خلقا كاملا سويا كما كان.



                    أخذت الدهشة عزيرا عليه السلام لكنه تمالك نفسه, ولما رأى ذلك بعينه سلّم وآمن بقدرة الله عز وجل, واطمأن يقينه, فقل في خشوع:{ أعلم أن الله على كل شيء قدير} البقرة 259.



                    لقد كان عزير عليه السلام في زمن سبق موته يعجب لقدرة الله كيف تعيد الحياة الى هذه البلاد بعد أن رآها مقفرة موحشة, وها هو اليوم يرى أعجب وأعظم مما كان يتصوّر, انها قدرة الله سبحانه عز وجل.



                    وخرج عزير عليه السلام ينظر الى الطريق العام فوجد الناس تأتيه من بعيد وهم يتكلمون رائحين وغادين, ورأى المدينة قد عمّرت, ورأى في المدينة أنوارا خافتة تظهر مع طلائع الظلام التي أقبلت مع الغروب, مما جعل العزير يشعر بالفرح والسرور ويشكر الله على نعمته, ويتيقن كما كان أن الله على كل شيء قدير.



                    مضى العزير الى المدينة يتطلع الى أخبارها وكيف أصبحت بعد مائة عام, وماذا يفعل الناس: أهم سعداء أم بهم همّ وما هي أخبار أسرته؟ هل هناك أحد منهم على قيد الحياة؟



                    دخل عزير المدينة وفي رأسه مئات الأسئلة يريد اجابة عليها, فاذا به يرى مبان جديدة, رائعة التقسيم والبنيان على غير ما كان يرى منذ مائة عام, وشوارع وخططا غير التي كان بعهدها في القديم, وأخذ ينظر هنا وهناك, ويتنقل في طرقاتها وشوارعها بحثا عن منزله القديم الذي تركه منذ أكثر من مائة وعشرين سنة, ولما وجد نفسه في مكان جديد عليه وقد تغيّر تماما عما عهده قبل مائة عام, هداه فكره الى أن يسأل الناس المارّة في الشوارع.



                    تحدّث عزير عليه السلام وقال لأحدهم: أين دار العزير؟ فأجابه الرجل:لا نعرف دارا للعزير, ولكن يوجد هنا ديار أبناء العزير! انظر الى هذه الدور المترصّة, انها دور أبناء العزير.



                    مضى العزير الى المكان حتى جاء الى دور أبنائه, وعند أوّل باب من أبوابها طرق الباب طرقا خفيفا, فسمع صوتا من الداخل يقول: من الطارق؟ من بالباب؟ فأجاب على الفور: انا العزير!!



                    فقال الفتى الذي ردّ عليه: ماذا تقول؟ العزير! اتسخر منا يا رجل؟



                    فقال العزير: افتح الباب يا بني وستعرف أنني لا أكذب عليك ولا أسخر منك.



                    ففتح الفتى الباب, ونظر الى الرجل في دهشة واستغراب, ثم قال: لقد فقدنا العزير منذ مائة عام على ما سمعت من أبي, وكان سنه يومئذ أربعين سنة, فلو كان حيا لوجب أن تكون سنه الآن مائة وأربعين سنة, وأنا أراك الآن في سن الأربعين, انّك أصغر من أحفاده, فكيف يمكنني التصديق بأنك أنت العزير؟!



                    سمع الناس الحوار بين العزير وأحد أحفاده فتجمّعوا حوله وأمطروه بالأسئلة, وكان يجيب بثقة ولسان صدق ويقول لهم: لقد أماتني الله مائة عام ثم بعثني, ورأيت بنفسي طعامي لم يتغيّر لونه ولا طعمه وشرابي لم يتبخر ولم يتغيّر وحماري الذي رأيت عظامه تتحرك وتأتي كل واحدة مكانها حتى اكتمل, فكساه الله لحما وعلا صوته ونهق نهيقا شديدا, كل هذا بعد مائة عام وقد ظننتها يوما أو بعض يوم, ولكنّ الله عز وجل أعلمني أنها مائة عام, بعثت بعدها بمشيئة الله, أليس الله على كل شيء قدير؟!



                    في هذه الأثناء ظهرت عجوز لا ترى أمامها تتوكأ بصعوبة على الحائط مقعدة, ونادت قائلة: أدخلوه الى داخل الدار, فانني أعرف علامة في العزير فان كان هو عرفته بها, فدخل العزير عليه السلام عليها فاذا هي عجوز عمياء قد أهلكها الدهر, فقالت له: أتقول أنك أنت العزير يا هذا؟



                    قال: نعم.



                    قالت لقد كان لدى العزير خادمة, وقد تركها وسنها عشرون عاما, أتعرف اسمها؟





                    قال: نعم اسمها "أشتر" قصص الأنبياء لابن كثير, وقد تركتها وسنها عشرون عاما, فاذا كانت على قيد الحياة فسنّها الآن مائة وعشرون عاما.



                    فقالت العجوز: أتعرف أنني أنا "اشتر" خادمة العزير؟ وكان في العزير علامة, فقد كان مستجاب الدعوة فينا, فكان لا يسأل الله شيئا الا استجاب له, فان كنت العزير حقا, فادع الله لي أن يردّ عليّ بصري, وأن يشفي قدمي, فقد صرت مقعدة لا أستطيع المشي والنهوض من شدة الآلام فيهما.



                    وفي لحظات دعا العزير ربه, ومسح بيده على عينيها, وأخذ بيدها لينهضها وهي مقعدة فاذا بها تنهض على ساقيها, وتبصر أحسن ما يكون الابصار, وتأملت في وجه وقالت: أشهد أنك عزير, اني أراك الآن كما رأيتك آخر مرة شاهدتك فيها منذ مائة عام..



                    وجاءت عجوز أخرى يقرب عمرها من مائة وأربعين عاما وقالت: وأنا أتعرفني يا عزير؟ فقال: أنت زوجتي ولن أجهلك أبدا.



                    وكان عند خروجه قد أعطاها خاتمه وقال: لعلك تذكرينني به, وكذلك هي فقد أعطته خاتمها كي يذكرها به, فقالت له: أتذكر ماذا تبادلنا ليلة خروجك؟



                    قال: تبادلنا خاتمي وخاتمك, فقد أعطيتك خاتمي وقلت لك: لعلك تذكرينني به.. وأعطيتني خاتمك وقلت لي: لعلك تذكرني به.. وها هو ذا خاتمك, وخلعه من اصبعه, وقدّمه لها.



                    فرحت العجوز زوجة عزير وقالت: وها هو ذا خاتمك يا عزير ولطالما ذكرتك به.



                    وتجمّع الناس على هذه الأحداث العجيبة التي جرت أمامهم فتكاثروا وجاء غيرهم, حتى ضاقت دار عزير, فوقفوا أمامها يعجبون لهذا الأمر العظيم, وهذه الآية الكبرى التي توالت أمامهم كالحلم, فكلما همّوا بتكذيب كلمة جاء تصديقها بشاهد وموثق, لأن مشيئة الله عز وجل انصرفت كي يكون عزير آية للناس, وذلك لقول الله عز وجل :{ولنجعلك آية للناس}.



                    في هذه الأثناء خرجت خادمته التي أبصرت واستعادة عافيتها وانصرفت عنها آلام قدميها, مسرعة الى مكان هي تعرف ارتباطه بهذا الأمر وهذه الآية, التي انصرفت مشيئة الله أن يكون عزير بطلها, لقد خرجت الى بني اسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم, وأخبرتهم بخبر وصوله, وكان على رأس المجلس شيخ وقور أخذ منه الدهر ما أخذ, انه ابن العزير الذي بلغ من العمر عتيّا. لقد بلغ مائة سنة وثماني عشرة, وجلس شيخا في مجلسهم..



                    وجاءت تصرخ وتقول: هذا عزير قد جاءكم.



                    فقال ابن العزير الأكبر وقد رفع وجهه وفحص ببصره الضعيف هذه الفتاة: من هذه الجارية؟



                    فقالت: أنا جارية أبيك عزير.. أنا خادمته " أشتر", لقد جاء أبوك ودعا لي ربه بالشفاء وردّ بصري عليّ فاستجاب الله له كما عرفناه منذ مائة عام, أتدري أن الله أماته مائة عام ثم أحياه وبعثه من جديد!



                    صمت الشيوخ جميعا وساد المجلس لحظات من الهول والصمت, وهم يسمعون كلاما يظنون أنه لا يصدق, ولكن ها هي جارية عزير ماثلة أمامهم وقد قصّت عليهم حقائق, فهي " اشتر" وهو اسمها, وعزير كان مستجاب الدعاء كما علموا وتعلموا من الآباء والأجداد, انها حقائق لا تكذب, وعزير خرج من بينهم منذ مائة عام كما تقول أيضا, وهي الآن تدعوهم لرؤيته رؤيا العين, كل هذا دعاهم الى الوقوف فردا فردا والتوجه الى خارج مجلسهم كي يرون بأعينهم ما سمعته آذانهم, وان لم يروه شكّوا في الأمر كله, فلن يصدّق أحد منهم ما سمعه من أشتر تصديقا كاملا الا اذا مضى في طريقه الى دار العزير ورأى بنفسه العزير ماثلا أمامه بهيئته التي فقدت خيالها وملامحها ذاكرتهم, مضى القوم في الطريق الى دار العزير, ولم يتوقف أحد منهم ولم يتحدث أحد منهم الى أحد.



                    تقدّم ابن العزير الجميع وهو يتكئ على عصاه وقد أهلكته الشيخوخة ولم يسعفه الكبر كي يسرع الخطى أكثر من هذا, لقد بلغ مائة وعشرين عاما, و"أشتر" تقول أن أباه هناك في سن الصبا وهو في سن الأربعين, يا له من أمر يعجب له الانسان المحدود بفكره وقدرته.



                    وعلى مشارف المنزل وعلى مقربة منه تمعّن ابن العزير ومسح عينيه كي ينقشع عنهما بعض ما تركه الزمن من غمامة, فرأى شابا في الأربعين قد وقف شامخا شديدا عظيم البنية وقد أضاء وجهه نور الايمان وتقوى القلب.



                    حيّا ابن العزير أباه وهو يتفحّص وجهه وقال في هدوء شديد موجها حديثه الى أبيه العزير: ان لي في أبي علامة.



                    فقال العزير: وما هي؟



                    قال الابن الشيخ: شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه.



                    صمت الابن الشيخ وساد الصمت المكان لحظات, والجميع يتطلع بعينه الى العزير, وظنوا أن الأمر فيه من الكذب, فالأب شاب واقف في شموخ والأبن عجوز لا تكاد رجلاه تحملانه.



                    صمت عزير عليه السلام قليلا ثم حرّك يديه وكشف لابنه عن كتفه فنظر الابن الى كتف أبيه فوجد الشامة السوداء مثل الهلال على كتفه..



                    هلل الابن الشيخ وقبّل أباه ورحّب به وقال: انه حقا أبي وأشهد أنه ابي.. وهلل معه بنو اسرائيل جميعا وفرحوا بمجيء العزبر ووجوده بينهم.



                    لكن أحد الأحبار قطع هذا الترحيب بدليل جديد يريد أن يتأكد من خلاله أن هذا الشاب الماثل أمامه الذي مات مائة عام وكان له من العمر أربعين قبلها هو عزير حقا.



                    قال الحبر: ان لنا نحن بنو اسرائيل في العزير علامة, غير التي شهدها ابنك وشهد أنك أباه.



                    قال: لم يكن فينا أحد يحفظ التوراة عن ظهر قلب كما حفظها عزير.



                    فقال العزير في ثقة واعتزاز, وصدق وكبرياء لهؤلاء الناس: وأنا أحفظ التوراة عن ظهر قلب.



                    قام بعض شيوخ بني اسرائيل وانسحبوا من المجلس وجاؤوا بنسخة من التوراة قديمة كان أحدهم قد خبأها خوفا من بختنصر الذي كان يحرق التوراة أو يريد حرقها, وقالوا لعزير: اقرأ علينا التوراة, ونحن نراجع ان كنت تحفظها أم غير ذلك.



                    جلس عزير عليه السلام شابا وسط القوم وشرع يقرأ التوراة عن ظهر قلب وهم يراجعون عليه في صحف التوراة, وظل يقرأ ويقرأ وهم يزدادون خشوعا حتى انتهى منها دون أن يخطئ في حرف واحد من حروفها, أو يتردد في آية واحدة من آياتها أو كلماتها.



                    شهد الجميع بأنه العزير, وفرحوا به, ونظر بعضهم في المجلس فوجد آية عظيمة من آيات الله, لقد جلس العزير في هذا المجلس وفيه بنوه وبنو بنيه وهم شيوخ وقد شاب شعرهم وشابت لحاهم, وقوّست السنون ظهورهم وأحنتها بشدة, بينما يجلس عزير شابا في الأربعين أسود الشعر, قوي البنية, منتصب القامة, فكانت آية عظيمة, وكان عزير عليه السلام آية بما حدث له وحدث معه من مشاهد اختصه الله بها حينما قال له:{ ولنجعلك آية للناس}.



                    حقا انه آية في موته وهو في سن الأربعين وآية في بعثه بعد مائة سنة, وروؤيته مشهد اعادة خلق حماره من جديد والعظام تتحرّك أمامه واللحم يكسو جسم الحمار من جديد, وطعامه لم يتغيّر, ولم تجففه الشمس ولا الهواء بل ظل طازجا, وقد جاءت قصة عزير في القرآن الكريم تحكي عن الآية التي جعلت فيه, وأخذت منه درسا وعظة لكي يعلم من لا يعلم أن الله على كل شيء قدير وأنه سبحانه عز وجل قادر على أن يحيي الموتى فهو الذي خلقها, وأماتها, وأنشأها مرّة أخرى, وهو خالق الطعام وقادر على ابقائه مائة عام دون أن يتبخر أو يتخثر أو تفوح رائحته كما يحصل خلال أيام قليلة بين يدي البشر, وهو القادر على خلق حمار عزير بعد أن أماته مائة عام وهو الذي صوّره أمام عبده عزير كي يؤمن الذين في قلوبهم تردد بأن الله على كل شيء قدير, فالخلق خلقه والكون كونه سبحانه وتعالى عز وجل, ليس كمثله شيء, واحد أحد فرد صمد.



                    ونقرأ قصة العزير في سورة البقرة. قال تعالى:

                    { أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت, قال لبثت يوما أو بعض يوم, قال بل لبثت مائة عام فانظر الى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر الى حمارك ولنجعلك آية للناس, وانظر الى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما, فلمّا تبيّن له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} البقرة 259.
                    إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                    نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                    جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                    تعليق


                    • #11
                      سليمان

                      معجزات عن الجن والنملة والعرش



                      قال تعالى: {ولسليمان الرياح غدوّها شهر ورواحها شهر وأرسلنا له عين القطر, ومن الجن من يعمل بين يديه باذن ربه, ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير} سبأ 12.



                      1. الجن



                      خرج سليمان عليه السلام كعادته الى بيت المقدس, وكانت العاصفة شديدة, وبقي هناك في محرابه, يعبد الله حتى انتصف الليل, فلما همّ للعودة, تجلى له نور الله عز وجل, وشعر كأن روحه تهيم في تلك الأشعة النورانية, فانطلق لسانه وتحرّكت شفتاه فقال:{ وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي انك أنت الوهاب} ص 35.



                      شعر سليمان عليه السلام كأنه في حلم لم يستيقظ منه الا في الصباح فعاد الى قصره وجلس على عرشه يفكر فيما رآه من محرابه, وفيما دعا به ربه. فسمع هاتفا يهتف به ويقول له: لقد استجاب الله دعاءك, وسخر لك في ملكه ما لم يسخره لغيرك.



                      سخر الله سبحانه عز وجل الرياح لسليمان تجري بأمره حيث يشاء فتسقط الأمطار, وتسوق السفن.



                      وسخر له الجن والشياطين, يعملون له ما يريد من بناء المساكن والقصور, واصلاح الأرض للزراعة, وحفر الآبار لريّها.



                      وأخضع الله سبحانه وتعالى لسليمان الطير والحيوان, فكان هؤلاء وهؤلاء من رعاياه المخلصين.



                      وكان سليمان عليه السلام عبدا شكورا, يحمد الله وكان من عباد الله المخلصين. فقال عليه السلام:



                      رب, بما أنعمت عليّ وعلى والديّ, سأهب نفسي لطاعتك والجهاد في سبيلك, فوفقني الى طريقك المستقيم.



                      سأحارب الفقر الذي يذل عبادك المخلصين.

                      سأعلن الحرب على الظلم الذي فتن عبيدك الأولين.

                      سأجاهد ما حييت المشركين بك, الخارجين عن طاعتك.



                      عند ذلك سمع الملائكة تقول آمين. فسجد لله القوي العزيز.



                      وحرص سليمان عليه السلام أن لا يفتنه الشيطان بالملك الواسع الذي وهبه الله له والقوى الخارقة التي لم يهبها الله لأحد من قبله ولا لأحد من بعده.



                      سخر سليمان عليه السلام كل هذه النعم التي أنعم الله بها عليه للاصلاح والتعمير, فخرجت السفن تدفعها ريح سليمان, وعادت تحمل المتاجر من البلاد النائية والجزية من ملوك الأرض والأقطار الواسعة, وقامت شياطين الجن بحفر الآبار وبنائها في الصحراء, واصلاح الأراضي المحيطة بها, وقطع الأحجار من الجبال, وبناء المدن والأمصار بشوارعها الممهدة, وميادينها الفسيحة, وجعلت في وسط كل ميدان قدرا كبيرا من الحجر المنحوت, يشبه وعاء الطعام, ولكنه عظيم الاتساع, وتأتي السحب بعد ذلك فتملؤه بمياه الأمطار, فاذا هي كبيرة عظيمة الاتساع, تكسب الميادين بهجة وجمالا فاذا أخذت المدينة زخرفها وازينت أقبل الناس على سكناها وبذر البذور في الوادي المحيط بها, وريّها بمياه الأمطار والآبار فتخضرّ الأرض, ويعم الخير, ويعيش الناس في رخاء يعبدون الله الواهب الرزاق.



                      وكثرت عمارة المدن, وزراعة الصحارى, وعاش بنو اسرائيل في نعيم ما رأوا مثيله في غابر الأيام والأزمان.



                      وكان قصر سليمان قصرا رائعا, بل يعدّ من أروع ما تمّ تشييده في هذا الوقت, فأحجاره من الرخام المرمر, وجدرانه وسقفه مموّهة بالذهب الخالص, وبالقرب من مساكن الجند وحظائر الخيل, وتحت القصر خزائن الملك في جوف الأرض, يهبطون اليها في سراديب ممتدّة بين قاعاتها, وفي نهايتها أبواب ضخمة, وقف على كل منها ماردان من عفاريت الجان.



                      ومن المعجزات التي أنعم الله بها على سليمان, أن الشياطين كانت تخرج كل يوم الى الجبال: بعضهم ينبشونها ويستخرجون دفائنها من الذهب والماس, وآخرون يغوصون في البحار يصيدون حبّات اللؤلؤ الثمينة, ويعود هؤلاء وهؤلاء في المساء, فيضعون ما جمعوا في خزائن سليمان, ثم يغلقون أبواب الخزائن كلها, ويخرجون من سراديبها الى بهو القصر العظيم, فتغلق البوابة الكبرى, ويقف لحراستها ماردان من أشراف الجان, لا تغمض لهما عين.



                      كانوا يخرجون في كل يوم ويعودون, حتى امتلأت خزائن الأرض بالمعادن النفيسة, والأحجار الكريمة التي لا يجرؤ على الدنو منها والاقتراب منها انس ولا جان.



                      وكان سليمان عليه السلام يعاقب من يخالفه من الشياطين عقابا صارما, فيحبسه في قارورة من زجاج فلا يستطيع الفرار منها طول حياته, وفي يوم جيء له بأحد الشياطين مقيدا بالأغلال, فلما سأل عن ذنبه قيل له: انه قد أضاع لؤلؤة كبيرة خرج بها من البحر, ولم يودعها خزائن الملك.



                      قال سليمان: أين خبأتها أيها العفريت؟



                      قال الشيطان: لقد غصت مع الغائصين, وخرجت بلؤلؤة في حجم رأس الانسان, ما رأى أحد مثلها في جمالها, وروعة بريقها, وظننت أنني بهذه اللؤلؤة سأحظى برضاك عني طول حياتي, ولكنني عند العودة فوجئت بمارد جبّار قد انقض علي من السماء, وخطفها مني ثم انطلق في الجو نحو الجنوب, واختفى بين طيّات السحاب, فما استطعت اللحاق به.



                      قال سليمان: اذا كان حقا ما تقول فاني سأعرض الجن عليك لتخرجه من بينهم.



                      قال الشيطان: لو كان هذا الجني من مملكتك لما استطاع أن يفرّ مني, ولكنه جنيّ من نوع آخر يعيش في مملكة أخرى.



                      عندئذ أمر سليمان عليه السلام بسجنه حتى يرى مبلغ صدقه, ودعا وزيره "آصف" وكان وزيرا حكيما, وعالما, فرآى الوزير أن الجني صادق فيما يقوله, فقال لسليمان: يا نبي الله؛ ان الشياطين لا تهتم بجمع اللآلىء بنفسها, ولا بد أنها مسخرة لملك من الانس, ولقد ساق الله اليك هذا الحادث ليذكرك بما أخذته على نفسك وهو الجهاد في سبيل الله بما وهب لك من القرى, فشغلك جمع النفائس عن الوفاء بوعدك, وأرى أن تجدّ في البحث وراء هذا المارد حتى تهتدي الى الملك الذي أرسله وربما وجدته من المجوس الذين يتخذون لهم أربابا من دون الله عز وجل.



                      أمر سليمان باطلاق سراح الجني الذي صاد اللؤلؤة, ومكث بعد ذلك ساعة مطرقا يفكر في كلام وزيره, ثم ذهب الى محرابه في بيت المقدس حتى منتصف الليل, وفي الصباح أمر أن يتهيأ الجيش للزحف نحو الجنوب.



                      2. حديث النملة



                      خرج سليمان يوما على صهوة جواد أشهب وعن يمينه فرسان الانس على خيول حمر, وعن يساره فرسان الجن على خيول سود, وخلفه المشاة الذين لا يحصى عددهم من الانس ومردة الجن, وانتشرت الطيور جماعات في السماء, تحجب أشعة الشمس المحرقة عن هذا الجيش العظيم الذي لم ير الناس مثله.



                      تحرّك الجيش الى الجنوب وظل أيام يضرب في مجاهل الصحراء حتى أشرف على وادي النمل فقالت نملة:



                      { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون} النمل 18.



                      سمع سليمان عليه السلام قولها, وفهم حديثها, فتبسّم ضاحكا من قولها وقال:



                      { ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه}. النمل 19.



                      أحسّ سليمان بالمعجزة التي أنعم الله بها عليه وهي أنه يسمع قول نملة في باطن الأرض لا ترى بالعين المجرّدة ويفهم لغتها, ذلك أمر لا يؤتى لأحد غير سليمان عليه السلام وبمشيئة الله وقدرته عز وجل.



                      أمر سليمان عليه السلام فضربت الخيام, واستراح الجيش أمام وادي النمل يوما وليلة, ولمّا تهيأ الجيش بعد ذلك للرحيل, جمع فتات الطعام, فاتخذ النمل طريقه اليه ينقله الى بيوته, وتحوّل جيش سليمان عليه السلام الى طريق آخر في الصحراء, فظلوا سائرين فيها ليالي وأيّاما, ولم يصادفوا واحة ينزلون بها, أو عينا يشربون منها حتى نفذ ما كان معهم من الماء, وأقبل السقاؤون على سليمان يخبرونه حقيقة الأمر.



                      واستخدم سليمان عليه السلام ما أتاه الله من فضل, بل نقول أنه استخدم المعجزة التي حباه الله اياها وهي تسخير الجن له فأصدر سليمان أمره الى شياطين الجن بحفر الآبار واخراج الماء من باطن الأرض, فحفروا ولكنهم لم يجدوا ماء فأعادوا الحفر في أكثر من جهة, فما خرج الماء في واحدة منها, وعادوا الى سليمان بخيبة الأمل.



                      قيل لسليمان عليه السلام: ان الهدهد وحده هو الذي يعرف بفطرته أماكن الماء في طبقات الأرض, وهو الذي يستطيع أن يخبرنا عن ماء قريب من السطح.



                      قال سليمان لحاجبه: عليّ بالهدهد.



                      خرج الحاجب وعاد ليقول: ان الهدهد ليس موجودا يا مولاي.



                      غضب سليمان عليه السلام, وخرج يتفقد الطير, فوجد مكان الهدهد خاليا فقال:



                      { ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين} النمل 20.



                      قال الغراب: لقد رأيته ينطلق نحو الجنوب في صحبة هدهد آخر من طيور هذه الأرض.



                      قال سليمان: لأعذبنه عذابا شديدا, أو لأذبحنّه, أو ليأتيني بدليل قوي يبرر به سبب عصيانه أمري ومخالفته تعليماتي.



                      فقال "آصف" وزير سليمان عليه السلام: ان هذه أول مخالفة تصدر من طير ضعيف, كان مثالا للطاعة والولاء, ولا بد أن في الأمر سرّا.



                      قال سليمان: أي سر يختفي وراء غياب الهدهد؟!.



                      قال آصف: أخشى أن قد اقتربنا من وادي الجان, واستعملت أبالستهم السحر والخداع فأضلتنا عن مكان الماء وأسرت الهدهد حتى لا يكتشف لنا ينابيعه.



                      وقد أخبرني أحد الشياطين أنه سمع في جوف الجبل عزيف الجن, وحاول أن يتفقد أثرهم فما عرف طريقهم, ولا مكانهم, وأبدى خوفه من أن نكون قد وقعنا في أسر مارد جبار من شياطين الجن.



                      تبسّم سليمان عليه السلام لهذا الخبر العجيب, وقال: الحمد لله الذي هدانا اليهم, وان النصر لقريب.



                      كان أمر الماء يشغل سليمان, لأن جنوده يشعرون بالعطش وفي هذا الأمر خطر على حياتهم, فخرج عليه السلام من خيمته وأمر الريح العاصف بحمل السحب الماطرة اليه. فهبت الرياح من الشمال والجنوب, وساقت أمامها السحب ونزل المطر غزيرا من السماء, فملئت القدور والقرب والمواعين وشرب الجيش ماء عذبا, وحمدوا الله جميعا على رحمته, وجليل نعمته, وهذه معجزة من معجزات نبي الله سليمان عليه السلام.



                      نعود الى الهدهد الذي ترك مكانه بين الطيور, بدون اذن من سليمان عليه السلام فانه نظر الى مواعين الماء فوجدها فارغة, فخاف أن يكوت جيش سيده من العطش, فترك مكانه وأسرع الى الأمام يجدّ في البحث عن الماء, فوج طبقات الأرض كلها صخور صمّاء, ليس بها عين من عيون الماء, وصادفه في طريقه هدهد آخر مقبل من الجنوب, فتعارفا وتطوّع هدهد الجنوب, وأرشده الى ينبوع عظيم.



                      انطلق الهدهدان حتى أتيا واديا خصيبا, ثم وقفا يستريحان على شجرة في بستان كبير مملوء بالأشجار والورود والأزاهير وفي وسطه بحيرة واسعة, يخرج الماء اليها من عيون الأرض. فينساب في الجداول بين نبات الأرض وأشجارها.



                      فرح هدهد سليمان, واستأذن صديقه هدهد الجنوب أن يعود الى سيّده ليخبره بما رأى, ولكن هدهد الجنوب استوقفه وقال له: أنت لم تر الا شيئا صغيرا, فتعال معي لتشاهد عزا وملكا كبيرا خلف هذا الوادي, حتى اذا عدت الى سيّدك أخبرته بكل ما رأيت, فيكون لخبرك أثر عظيم في نفسه.



                      قال هدهد سليمان: وماذا تريني بعد؟



                      قال هدهد الجنوب: انطلق معي لتشاهد بعينيك.



                      طار الهدهدان وتخطيا جبلا عاليا, ثم هبطا على واد أخضر به زرع نضير, وقصور فخمة, ثم اتجها نحو قصر بديع فوق ربوة عالية, فدهش هدهد الشمال بما رأى من مناظر العز والجاه, ومظاهر الملك والسلطان, فقال لصاحبه: عجبا ما رأيت مثل هذا الا في ملك سليمان في الشمال.



                      قال هدهد الجنوب: وما ملك سليمان هذه بجانب ملك "بلقيس" في الجنوب, اهبط معي من هذه الفتحة لتشاهد هذه المملكة الرائعة وقومها وهم يعبدون الشمس.



                      هبط الهدهدان, ورأى هدهد سليمان القوم يسجدون للشمس من دون الله, فراغه ذلك, ثم ذهب به هدهد الجنوب الى قصر "بلقيس" وأراه عرشها العظيم, ثم قال له: انظر الى هذه اللؤلؤة الكبيرة, هل عند سيّدك مثلها؟



                      قال هدهد سليمان: كيف وصلت اليها هذه اللؤلؤة؟



                      قال هدهد الجنوب: جاء بها عفريت من الجن منذ شهر.



                      قال هدهد سليمان: اذن هذه لؤلؤة سليمان التي خطفها عفريتكم من يد الجني الذي صادها والويل لكم من سليمان.



                      قال هدهد الجنوب: ليس الأمر كما تظن ف "بلقيس" تملك الجن كما تملك الانس, وأخشى على ملكك أن يغترّ بقوته, ويقدم على محاربتها, فيذوق ذل الأسر والهوان على يد جنودها.



                      ورغم أن هدهد الجنوب بالغ في القول على علاقة الجن ببلقيس لأن هذا الأمر لم يعطى الا لسليمان عليه السلام, فقد سمع هدهد سليمان كل هذا, ورأى ما رأى, ثم عاد مسرعا الى سليمان, فوجد سحبا كثيرة تسقط الأمطار والقوم يشربون.



                      وصل الهدهد, هدهد سليمان, الى مقرّه, وتقدّم في ذلة وخضوع الى الملك سليمان فوجده ساخطا عليه, وخاف على نفسه سوء العاقبة.



                      قال سليمان: أين كنت أيها الهدهد؟ وما سبب مخالفتك أمري؛ وتركك مكانك بدون اذني؟!



                      قصّ الهدهد على سليمان قصته كلها.



                      ابتسم سليمان وقال: { سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين* اذهب بكتابي هذا فألقه اليهم ثم تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون} النمل 27-28.



                      حمل الهدهد رسالة سليمان الى بلقيس وطار بها الى قصرها فوجدها جالسة على عرشها, وأمامها حاشيتها ووزراؤها فأسقط الخطاب في حجرها واختفى وراء ستار النافذة.



                      كانت بلقيس قد عقدت مجلس الشورى للنظر في الأخبار التي جاء بها الجن عن سليمان وجيوشه, فلما وقعت الرسالة في حجرها عجبت لذلك, ثم قرأتها على الحاضرين, جاء في الرسالة:{ انه من سليمان وانه بسم الله الرحمن الرحيم* ألا تعلو عليّ وأتوني مسلمين} النمل 30-31.



                      فقالت لهم بلقيس:{ أفتوني في أمري}.



                      قالوا:{ نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر اليك فانظري ماذا تأمرين}.



                      قالت بلقيس:{ ان الملوك اذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة} ولقد سمعت بسليمان من قبل, ولا أرغب في حرب أخشى منها الهوان لقومي.



                      واني مرسلة الى سليمان بهدية, فان كان من طلاب الدنيا قنع بها ورجع عنها, وان رفضها فهو صاحب مبدأ, لا ينثني عنه, وعند ذلك نذهب اليه مسلمين قبل أن يأخذنا أسرى مقيّدين.



                      ذهب رسول بلقيس الى سليمان وقدّم بين يديه صندوقا مملوءا بالذهب والأحجار الكريمة.



                      قال سليمان: من أين هذا؟



                      قال: هدية من ملكتنا "بلقيس" الى الملك سليمان.



                      قال سليمان: { أتمدونن بمال فما آتان الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون} النمل 36.



                      {ارجع اليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجهم منها أذلة وهم صاغرون} النمل 37.



                      عاد الرسول الى بلقيس, وأخبرها بما سمع, فأمرت قومها أن يحملوا راية بيضاء, وخرجت بهم الى سليمان عليه السلام في موكب عظيم, ولكن سليمان سيستبق وصول هذا الموكب بمعجزة تدهش لها بلقيس, ترى ما هذه المعجزة, وماذا ستكون؟



                      3. العرش ومعجزة الاتيان به



                      علم الهدهد من خلال طيرانه ورحلاته أن بلقيس خرجت, فعاد الى سليمان وأخبره بخروجها, فأمر الجن أن يعدوا لها بنيانا تنزل فيه, فبنوا صرحا من قوارير خضر, وجعلوا له طوابق من قوارير بيض, فصار كأنه الماء, وجعلوا تحت الطوابق صور دواب البحر من السمك وغيره, فأصبح الذي ينظر الى أرضه الزجاجية يظن أنها بحيرة بمائه وأسماكها.



                      ولما ظهر ركب " بلقيس" في الأفق البعيد, جمع سليمان أهل الرأي من الانس والجان, وقال لهم: { أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين}.



                      فوقف عفريت من الجن وقال:{ أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك} أي قبل أن تنتهي من مجلسك.



                      قال سليمان:{ سوف لا ينتهي مجلسي قبل حضورها.



                      قال وزيره "آصف" وكان رجلا عنده علم من الله سبحانه وتعالى:{ أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك}.





                      رفع سليمان عليه السلام نظره الى السماء, وسجد "آصف" ودعا ربه سبحانه وتعالى, فاذا العرش أمامهم, فلما نظر سليمان الى الأرض, ورأى العرش سرّ سرورا كثيرا, وأمر بوضعه أمامه مقلوبا.



                      أقبلت "بلقيس" فرأت عرشها مقلوبا أمام سليمان, وعجبت كثيرا لأنها تركته بقصرها في حراسة شديدة, ثم نظرت الى قومها فوجدتهم جميعا في ذهول.



                      قال سليمان: أهكذا عرشك؟



                      قالت: كأنه هو, ولقد أتيتك بقومي مسلمين.



                      قال سليمان: الآن أنت وقومك, في أمان, وستظلين مليكة قومك تصرّفين أمورهم, وتحكمينهم بما أمر الله.



                      طلبت "بلقيس" السماح لها بالعودة الى قومها لتبشرهم بالدين الجديد, فعرض عليها سليمان أن تستريح من عناء السفر قبل العودة فقبلت دعوته, وخرجت لتغير ملابسها في خيمتها, وذهب سليمان الى الصرح فجلس على كرسي وانتظر قدومها.



                      أقبلت "بلقيس" في زينتها الى مدخل الصرح, ووجدت سليمان في نهاية البهو يرحب بمقدمها, فلما نظرت الى أرضه حسبتها حوضا مملوءا بالماء, وخشيت أن تبتل ملابسها, فكشفت عن ساقيها لتخوض الماء.



                      قال سليمان: {انه صرح ممرّد} من قوارير زجاجية.



                      فخجلت من جهلها, وأقرّت لسليمان بالنبوّة, ولربه بالعظمة والقوّة,وقالت في حماسة ويقين:



                      ربّ, اني ظلمت نفسي بعبادة الشمس, وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.



                      ورجعت الى قومها مؤمنة, وصارت ترسل الجزية في كل عام الى سليمان.



                      4. معجزة عند الموت



                      قضى سليمان سنواته الباقية من حياته يقود رعيته بالعدل, ويتقرّب الى ربه بالعبادة, وقد اختار لعبادته مكانا ببيت المقدس,لا يجرؤ أحد على الدنو منه ما دام هو قائم يصلي في المحراب.



                      فلما علم أنه حان حينه, وانتهى أجله, توكأ على عصاه, وخرج الى المسجد الأقصى, فدخل المحراب, واتجه الى الله مرتكزا على عصاه, فقبضه ملك الموت, وظل جثمانه واقفا تسنده العصا أياما, والناس والجن لا يدرون بموته, ولا يجرؤون على الاقتراب منه في محرابه, حتى تآكلت العصا, لقد أكلتها حشرة الأرض, فانكسرت العصا, ووقع الجثمان على الأرض فشاع الخبر, وشيّعته بنو اسرائيل الى مثواه, وعادوا من قبره يرددون: سبحانك اللهم! تؤتي الملك من تشاء, وتنزع الملك ممك تشاء.



                      هكذا كانت معجزات سليمان عليه السلام فهو يكلم النمل والطير والحيوان, ويسخر الرياح والجن بأمر ربه, وعندما يموت يموت هكذا, انها معجزات عظيمة وملك لم يؤت لأحد من بعد سليمان عليه السلام.
                      إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                      نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                      جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                      تعليق


                      • #12
                        يوسف

                        الطيور المخيفة



                        قال تعالى:{ ودخل معه السجن فتيان, قال أحدهما اني أراني أعصر خمرا, وقال الآخر اني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه, نبئنا بتأويله, انا نراك من المحسنين}



                        1. في البدء كلمة



                        الأنبياء عباد الله, خصّهم ربّهم بمكانة عظيمة, ومنزلة رفيعة, فزيّن لهم فعل الخيرات, لأنهم كانوا من عباده المخلصين, وجعل الله لكل نبي معجزة أو معجزات لا تكون لبشر غيرهم, ومنهم يوسف عليه السلام الذي أصابه اضطهاد اخوانه وأشقائه فحاولوا التخلص منه, ولكن الله كان له خير حافظ والله أرحم الراحمين.



                        وقد اختص الله عز وجل يوسف بالرؤيا الصادقة التي تحدثت عن أحداث كثيرة قبل وقوعها, فكانت رؤياه وحلمه وهو نائم معجزة,وكان تفسيره للأحلام معجزة كبيرة تدل على ما اختصه ربه به من معجزات عظيمة ما زلنا نسمعها وتصيبنا بالدهشة فنسبح بحمد الله القادر على كل شيء لأنه سبحانه عز وجل ليس كمثله شيء.



                        2. يوسف في السجن



                        منذ أن خرج يوسف من البئر ومضى مع بعض الناس الذين باعوه لوزير من وزراء مصر اسمه العزيز ومنذ هذا اليوم ويوسف يعيش عيشة هانئة راضية يحبه أهل هذا البيت, فهو في دار العزيز أحد وجهاء مصر وامرأته "زليخة" بنت أخت الملك الريان بن الوليد ملك مصر.



                        نشأ يوسف نشأة عظيمة وأصبح شابا جميلا, بديع الجمال والبهاء مما جعل النساء ينظرن الى جماله وبهائه, وكان ممن نظر اليه زليخة امرأة العزيز, وحاولت أن تجعله خائنا لسيّده العزيز ولكن يوسف نبي من سلالة الأنبياء, عصمه ربه وحماه من الفاحشة, ومن مكر النساء, فهو سيّد النجباء, والسبعة الأتقياء الذين قال عنهم الرسول محمد خاتم الأنبياء:



                        "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل الاه ظله:

                        امام عادل

                        ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عينينه

                        ورجل قلبه معلق بالمساجد اذا خرج منه حتى يعود اليه

                        ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه

                        ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقته يمينه

                        وشاب نشأ في عبادة الله

                        ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال اني أخاف الله.

                        رواه البخاري في صحيحه10\36\660, ومسلم والترمذي والنسائي ومالك وأحمد.



                        لما كان يوسف أحد هؤلاء السبعة الذين تحدث عنهم رسول الله فقد رفض خيانة سيده العزيز, وعصى أمر زوجته "زليخة" وقال لها منكرا ما تريد:{ معاذ الله انه ربي} يقصد زوجها صاحب المنزل, ثم استكمل يوسف حديثه فقال: انه أحسن الي وأكرم مقامي عنده وفي فعلي هذا الذي تدعينني له ظلم,{ انه ربي أحسن مثواي لكنه لا يفلح الظالمون}.



                        حاولت امرأة العزيز أن تجعل من يوسف الطاهر الطيّب, فاحشا خائنا ولكنها فشلت, وخرج يوسف من دارها هاربا مسرعا, ولما عاد صاحب الدار وهو زوجها اشتكت له مرّ الشكوى ووصفت يوسف بأنه خائن فاحش, زورا وبهتانا, واتهمته بالباطل, ولكن الرجل لم يصدق هذا الاتهام وحقق مع يوسف, وثبتت براءته, ولكنها لم توقف كيدها ليوسف عليه السلام, وخاصة أن نساء المدينة تحدثوا عنها وعن يوسف فأصابها غيظ شديد, وخاصة أنهن نساء الأمراء والكبراء, فقد طعنوا فيها وعابوا عليها, وشنعوا بها.



                        علمت بمكرهن وسمعت به, فأرادت أن تثبت لهن عذرها وأنهن لو شاهدن يوسف وما عليه من جمال لفعلوا مثل ما فعلت, ففكرت في حيلة تثبت من خلالها صدق ما فعلت, كي يعذرها النسوة, لأنها متأكدة من أن ما عليه هذا النبي الكريم يجعل الفتنة في قلوب النساء, فأرسلت لهن دعوة للغداء جامعة في منزلها, وأعدّت لهن مجلسا مريحا جميلا, وضيافة رائعة, وأحضرت من جملة ما أحضرت من الطعام وأدواته سكاكين يقطعن بها فاكهة وطعاما, وآتت كل واحدة منهم سكينا, وهيأت يوسف عليه السلام وألبسته أحسن الثياب, وكان في ريعان شبابه مليئا بكل تقاسيم الجمال, وأمرته ان يخرج عليهن وهو بكامل زينته وجماله فخرج عليهن وهو بدر في جماله, وروعة في ثيابه وشبابه.



                        فلما رأته النساء وهن في مجلس زليخا أعظمنه وأجللنه, وأخذتهن الهيبة والدهشة من فرط جماله وحسنه, وجعلت النسوة يقطعن أيديهن بالسكاكين ولا يشعرن بالجراح الاتي أصابتهن من يوسف وقد وصف القرآن الكريم هذا المشهد فجاءت الآيات تقول:

                        {فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشى له ما هذا بشر ان هذا الا ملك كريم}.



                        وقالت زليخا للنساء:{ فذلكن الذي لمتنني فيه} فعذرت النساء زليخا التي مدحت يوسف ووصفته بالطهارة والعفة, ولكن يوسف لم يستمع الى حديثهن ودعوتهن له الى طاعة سيدته, وقد هددته زليخا بادخاله السجن ان لم يكن لها من الطائعين, وقالت:{ لئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين}.



                        استجار يوسف بربه ودعاه دعاء خالصا, بأن يخلصه من بين أيدي النساء, وقال في هذا الدعاء:{ قال رب السجن أحب الي مما يدعونني اليه والا تصرف عني كيدهن أصب اليهن وأكن من الجاهلين}. يوسف 33.



                        قال مناجيا ربه: يا رب ان تركتني لنفسي, فليس لي من نفسي الا العجز والضعف, ولا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا الا ما شاء الله, فأنا ضعيف الا ما قويتني وعصمتني وحفظتني بحولك وقوتك.



                        عند ذلك استجاب الله عز وجل لدعاء نبيه يوسف عليه السلام فقد فضل السجن على المعصية, معصية الله عز وجل, ولقد اعتبر يوسف عليه السلام أن السجن رحمة من الله عز وجل, وطريق يسلكه الى الطاعة ويعصم نفسه بدخول السجن من المعصية.



                        ودخل يوسف السجن رغم ثبوت براءته عند العزيز, الا أن العزيز وامرأته بدا لهم من الرأي أن دخول يوسف السجن ولو لوقت قصير يقلل من كلام الناس حولهم, وحكي أن يوسف عليه السلام لما دعا ربه قائلا:{ السجن أحب الي} أوحى الله اليه:" يا يوسف! أنت حبست نفسك حيث قلت السجن أحب اليّ, ولو قلت العافية أحب اليّ لعوفيت. القرطبي ج9 الآيتان 33-34 ص 121 .



                        اقتاد الناس يوسف الى السجن مظلوما, فحمل مقيدا على ظهر حمار, وطيف به وقد قال بعضهم: "هذا جزاء من يعصي سيدته" أما يوسف فكان يقول: هذا السجن أيسر وأهون من مقطعات النيران, وسرابيل القطران, وشراب الحميم في جهنم, والأكل من شجرة الزقوم في جهنم والعياذ بالله, فلما وصل يوسف السجن وجد قوما قد انقطع رجاؤهم, واشتد بلاؤهم, فيومهم عمل شاق, ومذلة وتعذيب فقدوا من خلاله كرامتهم وعزتهم, واكتوت ظهورهم بسياط السجانين وظلمهم, واختلط فيهم المظلوم بالظالم والجاني بالبريء.



                        رأى يوسف حالتهم هذه, فتقدم اليهم وقال لهم: اصبروا وأبشروا تؤجروا, فقالوا له: يا فتى! ما أحسن حديثك! لقد بورك لنا في جوارك, من أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف ابن صفي الله وحبيبه يعقوب, ابن نبي الله اسحاق, ابن خليل الله ابراهيم عليه السلام.



                        أصبح يوسف في السجن وقد رأى الناس على حال يرثى لها فمنهم الحزين ومنهم المريض والجريح, فكان يعزي فيه الحزين, فلا يتركه حتى يذهب عنه الحزن والبأس, وكان يعود المريض, فيخفف عنه آلامه, ويداوي الجريح حتى يشفى من جراحه, وكان يوسف عليه السلام يصلي الليل كله قائما خاشعا لله عز وجل الذي أنعم عليه ونجاه من فتنة النساء.



                        وكان يقف بين يدي ربه باكيا حتى تبكي معه جدر البيوت وسقفها والأبواب من شدة خشوعه وخوفه من الله عز وجل, حتى طهر به السجن, واستأنس به أهل السجن, فكان اذا خرج الرجل من السجن رجع حتى يجلس في السجن مع يوسف!



                        وقد نشأت علاقة ود شديدة وحب صادق بين يوسف وقائد السجن وصاحبه فوسّع عليه فيه, وأكمل له سبل الراحة, وقال له ذات يوم:



                        يا يوسف! لقد أحببتك حبا لم أحب شيئا مثل حبك!!



                        قال يوسف: أعوذ بالله من حبك.



                        قال قائد السجن: ولم تقول ذلك يا يوسف؟ وظن الرجل أن يوسف يرفض منه هذا الشعور الطيّب والود الخالص ولكن يوسف استدرك قائلا:" أحبني أبي ففعل بي اخوتي ما فعلوه".



                        يقصد أن اخوته ثارت غيرتهم عليه لما أحبه أبوه واستدرجوه الى البئر وألقوه فيه, وقالوا لأبيهم ان يوسف أكله الذئب وتبع ذلك بيعه للعزيز بعد اخراجه من البئر.



                        ثم قال يوسف: وأحبتني سيدتي فنزل بي ما ترى.



                        تبسّم صاحب السجن ولكن حديث يوسف عليه السلام لم ينقص الود بينهما فكانا يلتقيان دوما ويسمران, وأصبحت شخصية يوسف دواء يشفي جراح المساجين, ويهون كروبهم وهمومهم, فاذا أصبح أهل السجن بحثوا عن يوسف ليستبشروا به, وشاوروه في آمالهم وأحلامهم, وحكّموه في خصامهم, وقبلوا حكمه بروح طيبة ونفس عالية, وأصبح السجن ليوسف ومن معه روضة جميلة, واسعة اتساع الحرية, هنيئة هناء الطاعة والعبادة, وانصرفت مشيئة الله الا يكون سجن يوسف سجنا بل رحمة وحرية الى الطاعة, وذلك أرحم من سجن المعصية, فالذنب الذي يرتكبه الانسان يسجنه طوال عمره فيه أما الحرية فهي في عفة النفس اللسان واحترامها, فليست الجدران وحدها هي السجن, وانما السجن هو سجن النفس المذنبة الذليلة.



                        3. صاحبي السجن



                        قال تعالى: { ودخل معه السجن فتيان} يوسف 36.



                        ظل يوسف في حبسه وسجنه راضي النفس قانعا بقضاء الله والذي هو خير له, ولما طالت أيام السجن أصبح ليوسف صحبة أصحاب, ومن أصحابه الذين كانوا يلازمونه فتيان أحدهما اسمه "مجلب" والآخر " نبوا" كان يوسف يودهما كما يود أصحابه في السجن ويحبهما كما يحب أهل السجن جميعا مما زاد في التصاقهما به, ودوام مجالسته والتحدث اليه في كل أمر يخطر ببالهما. لم يكن يعلم يوسف سبب سجنهما, ومع دورة الأيام والزمن علم السبب فقد كان الملك الوليد بن الريان ملك مصر طويل العمر والملك, وأمضى زمنا طويلا في ملكه ما جعل الناس يملون ملكه فكادوا له, وبدأ الكيد من جماعة من مصر فأرادوا المكر بالملك واغتياله فدسوا الى هذين الغلامين وأرسلوا لهما من يفاوضهما في الأمر, فقد كان "مجلب" صاحب الطعام وخباز الملك وطباخه الذي يقدم له الطعام كل يوم ويطعمه, أما "نبوا" فقد كان ساقيه يقدم له الشراب بأنواعه, ولا يأمن الوليد لغيرهما في تقديم الطعام والشراب له سواء أكان وحيدا أو مع حاشيته وضيوفه. جاءهما جماعة من مصر وعرضوا عليهما مالا كثيرا وبساتين ومزارع جميلة اذا هما دسا السم في طعام الوليد, وضمنا لهما السلامة من أي خطر قد يتعرضان له, طالت المفاوضات, وبعدها وافق "مجلب" سريعا وتردد "نبوا" كثيرا, وفي النهاية وافقا على طلب هؤلاء الناس وحصلا على بعض المال منهم.



                        جاء موعد غداء الملك في اليوم التالي, فدس مجلب السم في الطعام وعمل بما اتفق عليه مع المصريين المعارضين للملك الوليد بن الريان والراغبين في اغتياله ليخلو لهم حكم مصر, أما نبوا فقد حفظ عشرة سيده ورغب ألا يخون الأمانة, فلم يضع سما في شراب الملك.



                        حمل كل منهما ما يخصه من الطعام والشراب فتقدم مجلب بمائدة طعام الملك وحمل نبوا أواني الشرب ودخل على مليكه, وامتدت يد الواليد بن الريان للطعام فصرخ نبوا قائلا:" لا تأكل يا مولاي ففي الطعام سم وضعه مجلب"!! تراجع الملك ورفع يده فورا عن الطعام بعد أن امسك به, ونظر الى مجلب في دهشة, وتنقل بصره بين مجلب ونبوا, وقال موجها حديثه لنبوا وقد وقف مجلب يرتعد من شدة الخوف, قال: ما تقول يا نبوا؟!



                        قال نبوا: أقول يا مولاي ان الطعام الذي أمامك مسموم فقد دس مجلب السم فيه.



                        فقال الملك: وأنت ماذا فعلت يا بنوا؟ أوضعت السم في الشراب؟



                        فقال نبوا: حاشا لله يا مولاي, فأنت ولي نعمتي, ومليكي الذي أرتع في قصوره, وأسعد بجواره, وأكرّم نفسي من أمواله, هل يعقل أن أخون كل هذا يا مولاي؟



                        فقال الملك وهو ينظر الى مجلب نظرة قاسية:



                        اذن.. تناول الشراب واشربه يا نبوا!!



                        شرب نبوا كأس الملك وأتبعه بكأس آخر, ووقف هادئا سليما لم يصبه شيء من الأذى لأن الشراب كان خاليا من السم وطازجا.



                        اعتدل الملك في جلسته, ونادى مجلب كي يقترب منه قليلا, وقال له: كل من هذا الطعام يا مجلب.



                        قال مجلب وهو يرتعش وقد تصبب عرقا: لا أستطيع أيها الملك لا أستطيع, اعفني من هذه المهمة.



                        صرخ الملك في مجلب قائلا:



                        أيها الخائن, أنت تعرف أن الطعام مسموم, أتخاف من الموت الآن, وقد أردت أن تقتلني, قل لي من وضع السم في هذا الطعام؟



                        تأتأ مجلب وارتبك وقال في تردد وخوف: لا..لا أدري.



                        نادى الملك جميع حراسه, وقال: اقبضوا على هؤلاء وأحضروا لي حيوانا أو دابة تأكل من هذا الطعام.



                        أحضر الحراس حصانا كبير السن وجعلوه يأكل من الخبز المسموم والطعام. فجاؤوا به, ولما أكل صهل بصوت عال صهلة وسقط على الأرض ميتا, عندئذ تأكد الملك من صدق نبوا وقبض على مجلب ومعه نبوا وأجريت معهما التحقيقات التي أدانتهما ادانة شديدة, مجلب وضع الطعام مسموما أمام الملك ولم يحفظ الأمانة التي ائتمنه عليها الملك وهي حياته, فمن يأمن لانسان أن يقدم له طعامه, فانه يأمنه على حياته وعمره, ونبوا اتهم أيضا بأنه كان على علم بالمؤامرة وتأخر في الابلاغ عنها حتى اللحظات الأخيرة.



                        وسيق الاثنان الى السجن ليقضيا عقوبة رادعة, بعد أن نجيا من حكم الاعدام, وهناك في السجن أصبحا مع يوسف عليه السلام في كل مكان يجلس فيه صباحا ومساءا.



                        وذات يوم جلس الفتيان الى جوار يوسف وقد أهمهما أمر وشغلهما, وساد فيهم صمت لوقت قصير قطعه نبوا بقوله:



                        ما علمك الذي تعلمه يا يوسف؟



                        فقال يوسف: اني أعبّر الرؤيا وأفسرها تفسيرا كاملا بأمر الله.



                        عاد الجميع الى صمتهم الأول ونظر يوسف في وجه نبوا ومجلب فوجدهما مكروبين مهمومين, كأن بهما كربا أو أصابتهما صائبة أو مصيبة, عندئذ بادرهما يوسف عليه السلام بقوله: ما لي أراكما مكروبين؟ القرطبي ج 9 ص 36-38.



                        قالا: انا رأينا في المنام ما كرهنا أن نراه.



                        قال يوسف: وما هو؟ قصا عليّ ما رأيتما.



                        تردد الفتيان لحظة في الحديث ثم استهل مجلب الخباز حديثه قائلا:



                        أتنبئنا يا يوسف بتأويل وتفسير ما رأينا؟



                        قال يوسف: نعم لقد قلت لكما أنني أسطيع أن أنبئكما به ان شاء الله تعالى..



                        قال مجلب على الفور:



                        رأيت كأنني اختبزت وصنعت خبزا في ثلاثة تنانير أو ثلاثة أفران لصناعة الخبز وجعلت الخبز في ثلاث سلال, فوضعته على رأسي فجاء الطير تأكل منه.



                        وقال نبوا ليوسف:



                        رأيت كأني أخذت ثلاثة عناقيد من عنب أبيض, فعصرتهن في ثلاث أوان, ثم صفيته فسقيت الملك كعادتي فيما مضى, صمت يوسف قليلا وقد اشرأبت أعناق صاحبيه ينتظران على شوق تفسير حلميهما العجيبين, ثم تغيّر لونه لما عرفه من تفسير الرؤيا, عندئذ أعاد نبوا رؤياه بصيغة أخرى فقال ليوسف: أيها العالم رأيت كأني في بستان فاذا أنا أقف تحت كرمة عنب عليه ثلاث عناقيد فجنيتها, وكان كأس الملك بيدي فعصرتها وسقيت الملك شربة. عرائس المجالس للثعلبي ص 108.



                        نظر اليه يوسف عليه السلام, عرف أنه يستعجل التفسير, ونظر باشفاق الى مجلب الذي لم يشأ ان يكرر سرد رؤياه عليه مثل ما فعل نبوا.



                        كره يوسف عليه السلام أن يعبر ويفسر لهما ما سألاه عن الرؤيا لما علم في ذلك من المكروه الذي سيقع على أحدهما وهو مجلب, فقد كان تفسير رؤياه مشقة عليه لا يبشر بخير, لهذا السبب أعرض يوسف عليه السلام وامتنع عن تفسير الرؤيا وبدأ يتحدث في أمر آخر فيه اعراض عن الخوض في تفسير الرؤيا, وفيه دعوة لاسلام أهل السجن وهو كفار.



                        رتب يوسف عليه السلام أفكاره, وجعل همه الأول هو الدعوة لله عز وجل لأن ما عنده من علم هو من الله عز وجل لا يستطيع أن يدعي أو أن يقول ان ما عندي من تفسير للرؤيا هو من علمي الذي جاء من أفكاري, وليجعل في قلوب هؤلاء الأصحاب الذين يعيشون معه في السجن شيئا من الايمان والتقوى, تستقيم معه شروط صدق الرؤيا, فايمان الانسان وصدقه يجعل رؤياه صادقة, فلن تجد رؤيا صادقة لانسان كاذب أو عاص لله عز وجل, الرؤيا الصادقة نعمة من الله, والمعصية تحرم الانسان من هذه النعمة, فالمعاصي تزيل النعم وتقضي عليها, والطاعات تجلب الخير والبشر والسعادة للناس جميعا, لهذ اتجه يوسف اتجاها مغايرا في حديثه قبل أن يفسر الرؤيا.



                        بيّن يوسف لصاحبي السجن أن الله خصه بعلم عظيم, ومن هذا العلم قال يوسف:{ لا يأتيكما طعام ترزقانه الا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما}.



                        يعني لا يجيئكما غدا طعام من منزلكما الا أخبرتكما به الآن قبل أن يأتي.



                        فقالا له: هذا من فعل العرّافين والكهنة.



                        فقال يوسف: ما أنا بكاهن, وانما ذلك مما علمنيه ربي, اني لا أخبركما به تكهنا وتنجيما, بل هو بوحي من الله عز وجل. تفسير القرطبي ج9 ص 127.



                        وبيّن لهم يوسف عليه السلام دينه ومذهبه, وقال لهما: اني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت دين وملة آبائي ابراهيم واسحاق ويعقوب وكلهم أنبياء مؤمنون موحدون لله عز وجل وما ينبغي لي ولا لآبائي أن نشرك بالله من شيء, وهذا الايمان فضل من الله علينا أن عصمنا من الشرّ كله, وزيّن لنا فعل الخيرات للناس, ومن فضل الله علينا أن جعلنا أنبياء صالحين, وفضله سبحانه عز وجل على الناس وهم عباده الصالحين, ولكن أكثر الناس لا يشكرون الله على ما أتاهم من نعمة وفضل تحيط بهم ولا يشعرون بها.



                        استمع الفتيان لحديث يوسف عليه السلام وقد تشوّقا لتأويل الرؤيا, ولكن يوسف لم ينه دعوته ورسالته لهما بعد بل مضى يقول:



                        { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} بأي صفة تحبون أن يكون لكم رب تعبدونه؟ أتحبون أن تعبدوا آلهة متفرقة في العدد والسن؟ انها اصنام تلك التي تعبدونها لا تضر ولا تنفع, أهذه الأصنام خير لكم أم الله الواحد القهار الذي قهر كل شيء, ان الآلهة المتفرقة تتفرّق في الارادة, ولو كانوا كذلك لعلا اله على اله, ولتصارعت كل واحدة مع الأخرى.



                        ان ما تعبدونه من أصنام يا صاحبي السجن من دون الله عز وجل ليست من الأوهية في شيء, وما هي الا أسماء سميتموها أنتم, لانها جماد لا يتكلم ولا يعقل.



                        تحدث يوسف عن الايمان والعقيدة والربوبية والطاعة فهذه رسالته في الدنيا شأنه شأن أي نبي, يدعو الناس لعبادة الله الواحد القهار, ويدعوهم للتوحيد والطاعة, والايمان بأن الربوبية لله, ولا يعبد الناس الا الله من خلال هذا الدين القيّم.



                        4. تفسير الرؤيا



                        قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام:{ يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا, وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه, قضي الأمر الذي فيه تستفتيان}. يوسف 41.



                        بعد أن دعاهما دعوة الايمان, وبيّن لهما فطنته ودرايته, وميز لهما بين تلك الأصنام التي لا تنفع ولا تضر, وبين الله الواحد القهار الذي لا اله سواه ولا شريك له في الملك, وهو على كل شيء قدير. بعد كل هذا بدأ يوسف عليه السلام في تفسير الرؤيا فقال موجها حديثه للساقي: انك ترد الى عملك الذي كنت فيه وهو سقاية الملك بعد ثلاثة أيام.



                        وقال للآخر: أما أنت فتدعى بعد ثلاثة أيام فتصلب فتأكل الطير من رأسك.



                        نظر مجلب ونبوا في يوسف وتفحصا بعضهما بعضا من المفاجأة.



                        وارتعد نبوا خوفا وقال: والله ما رأيت شيئا وان هذه الرؤيا كذبنا بها عليك لنعرف مدى فراستك في تفسير الأحلام.



                        وقال الثاني: ما رأينا شيئا انما كنا نلعب ونجرّب عملك هذا.



                        فقال يوسف عليه السلام في حزم شديد.



                        { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان}.



                        أي انتهى الأمر ولا جدال مرّة أخرى.



                        وقال يوسف في سلام لنبوا وهو الساقي الذي ظن أنه سينجو من الموت ويعود الى حالته الأولى مع الملك الوليد بن الريان, فيدخل قصره ويكون ساقيه مرة أخرى, قال له يوسف:



                        { اذكرني عند ربك} أي تحدث عني عند سيدك, واذكر له ما رأيته من حالي, وما أنا عليه من تفسير الرؤيا, وأخبره أني محبوس بلا ذنب, وقد كان لهذا الطلب من يوسف عتاب شديد اذ استعان وهو في محنته ببشر ولم يستعن بالله عز وجل. وقد ذكر العلماء أن يوسف ظل في السجن بضع سنين وجاء ذلك في الآية الكريمة:



                        { فلبث في السجن بضع سنين}.



                        وذكر المفسرون أن جبريل عليه السلام, دخل على يوسف عليه السلام في السجن, فعرفه يوسف, فقال جبريل: يا أخا المنذرين! ما لي أراك من الخاطئين؟! وقال جبريل أيضا: يا طاهر ابن الطاهرين! يقرئك السلام رب العالمين ويقول: أما استحييت اذ استغثت بالآدميين؟! وعزتي وجلالي! لألبثنك في السجن بضع سنين.



                        فقال يوسف: يا جبريل أهو عني راض؟



                        قال جبريل: نعم!



                        فقال يوسف: لا أبالي الساعة. تفسير القرطبي الجزء الاتسع ص 128.



                        وروي أن جبريل عليه السلام جاءه فعاتبه عن الله تعالى في ذلك, وطوّل سجنه, وقال له: يا يوسف من خلصك من القتل من أيدي اخوتك؟!



                        قال الله تعالى.

                        فقال له: من أخرجك من البئر؟

                        قال يوسف: الله تعالى.

                        قال جبريل: فمن عصمك من الفاحشة؟

                        قال يوسف: الله تعالى.

                        قال جبريل: يا يوسف فمن صرف عنك كيد النساء؟

                        قال يوسف: الله تعالى.

                        فقال جبريل: فكيف وثقت بمخلوق وتركت ربك فلم تسأله؟!. تفسير القرطبي ج9 ص 129.

                        قال يوسف: " يا رب كلمة زلت مني".



                        وجعل يوسف عليه السلام يتوسل الى ربه ويدعوه ويقول: أسألك يا اله ابراهيم واسحق والشيخ يعقوب عليهم السلام أن ترحمني.



                        فقال له جبريل: فان عقوبتك يا يوسف أن تظل في السجن بضع سنين.



                        وقد قال رسول الله صلى الله عليه الصلاة والسلام:" رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قال:{ واذكرني عند ربك} ما لبث في السجن بضع سنين".



                        لهذا ظل يوسف في السجن سبع سنين, وكان يمكن أن يخرج قبل هذا لولا كلمته للساقي بأن يذكره عند الملك, ليعلم ما وقع عليه من ظلم, وما أوتي من علم في تفسير الرؤيا وتعبيرها تعبيرا صحيحا بفضل الله وارادته عز وجل.



                        ظل يوسف ينتظر الفرج, فرج الله عز وجل كي يخرج من السجن بعد هذه التجربة الكبيرة, وقد كان السجن له في البداية رحمة وتفضيلا فضله يوسف على كيد النساء عندما اختار قائلا:



                        { رب السجن أحب اليّ مما يدعونني اليه}.



                        5. رؤيا الملك وخروج يوسف من السجن



                        انصرفت مشيئة الله أن يخرج يوسف من السجن, ودنا فرج الله على يوسف, فقد رأى الملك الوليد بن الريان رؤياه التي تسببت في خروج يوسف من السجن, فنزل جبريل فسلم على يوسف وبشره بالفرج, وأن ارادة الله قد انصرفت كي يخرج من السجن.



                        وقال جبريل: ان الله مخرجك من سجنك, وممكن لك في الأرض, يذل لك ملوكها, ويطيعك جبابرتها, ومعطيك الكلمة العليا على اخوتك وذلك بسبب رؤيا رآها الملك.



                        والرؤيا تقول أن الملك الأكبر الريان بن الوليد رأى في نومه كأنه خرج من نهر يابس سبع بقرات سمان, كبيرات الحجم, يكاد اللحم يسقط من جوانب كل واحدة من كثرة السمنة, وهذ البقرات السبع تطاردهن سبع عجاف هزيلات ضعيفات لا يظهر منهن سوى الهيكل العظمي, وظلت تطاردهن حتى أمسكت كل بقرة من البقرات الضعاف الهزيلات ببقرة من السمان في آذانها وأكلتها فلم تبق منها الا القرنين, ورأى الملك سبع سنبلات قمح خضراء قد أقبل عليهن سبع سنبلات يابسات فأكلتهن حتى أتين عليهن فلم يبق منهن شيء وهن يابسات, وكذلك البقرات السبع كن عجافا ضعافا هزيلات حتى بعد أن أكلن البقرات السمان.



                        استيقظ الملك الريان من نومه فزعا خائفا فقد هالته الرؤيا وأخافته, فكيف يرى الانسان بقرة ضعيفة هزيلة تأكل بقرة سمينة ضخمة مكتنزة باللحم, ترك الملك فراشه على الفور وارتدى ملابسه مسرعا وغادر غرفة نومه الى ديوانه ومجلسه, حتى رآه وزراؤه على هذه الحالة وحاشيته, ولما أخذ مجلسه نظر الى الحضور في قلق وبدأ يقصّ رؤياه على الحاضرين فقال:

                        {اني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات, يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي ان كنتم للرؤيا تعبرون}. يوسف 43.



                        كان مجلسه جامعا, فقد أرسل الى الناس وأهل العلم منهم والعرّافة والكهانة والنجامة والسحرة, وأشراف قومه. فلما توجه اليهم بالأمر وطلب أن يفسروا رؤياه وقال:

                        {يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي ان كنتم للرؤيا تعبرون}.



                        أجابوا جميعا اجابة واحدة قالوا فيها انها مجرد أحلام خاطئة وهي أشياء مختلطة عليك أيها الملك وأنت نائم, وما نحن بتفسير الأحلام بعالمين, أي لا نعرف تفسير الأحلام لأنها مجرّد أشياء وأحداث مختلطة يتخيلها النائم في نومه.



                        قطع كل هذه الأصوات صوت نبوا ساقي الملك الذي خرج من السجن منذ فترة وجيزة وقال في صوت واثق حازم بعد أن تذكر حاجة يوسف التى نسيها سنوات عديدة عندما قال له يوسف:{ أذكرني عند ربك} أي عند ملكك.



                        قال: أنا انبئكم بتأويل هذه الرؤيا وتفسيرها, وأعرف من يفسرها لك أيها الملك بدقة. فوافق الملك على طلب الساقي.



                        فقال الساقي: أرسلني الى السجن بعيدا عن المدينة, فبعثوه فأتى بيوسف فقال له: أيها الصديق الصادق في تفسير وتأويل الرؤيا أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف, وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع الى الناس لعلهم يعلمون.



                        فقال يوسف عليه السلام: تزرعون سبع سنين, فالسبع بقرات سبع سنين تزرعون فيهن فيأتي المحصول عاليا, وتكون هذه السنوات السبع الأولى سنوات خير, وعليكم بترك ما يزيد عن حاجتكم في سنبله حتى لا يفسد عند تخزينه فترة زمنية طويلة, لأن السبع سنوات التالية لها ستكون شديدة لا زرع ولا محصول فيها. فتأكلون ما تم تخزينه من السبع الأولى, فاذا حبستم بذور القمح في سنابلها ستجدونه سليما, تصنعون منه طعامكم ولا تحدث بينكم مجاعة أو هلاك. وأضاف يوسف لرؤيا الملك شيئا من عنده يدل على ما أتاه الله من علم للغيب يتجاوز حتى رؤيا الملك التي فسرها تفسيرا صادقا تؤكده الأيام والسنون.



                        أضاف يوسف قائلا:{ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}.



                        يغاث فيه الناس بالمطر والخير الكثير الوافر حتى أنهم في هذا العام يعصرون العنب خمرا والسمسم دهنا, والزيتون زيتا, وتحلب الألبان لكثرتها في ضروع الماشية, ويدل ذلك على كثرة النبات وعلى كثرة ووفرة الغيث, ونجاة الناس مما كانوا فيه من حاجة.



                        وبهذا العام الذي أضافه يوسف عليه السلام لرؤيا الملك الذي تحدث فيه عن سبع وسبع أي أربعة عشر عاما أضاف يوسف عليه السلام عامه اظهارا لفضله, واعلاما لمكانته العلمية وبمعرفته لعلم الغيب الذي خصه به ربه كما خص عيسى بن مريم أيضا.



                        عاد الساقي الى الملك الريان, وقص عليه تأويل يوسف لرؤياه والسنةالتي أضافها لرؤياه مما يدل على صدق ما فسر يوسف وأنه واقع بأمر الله لا محالة من ذلك. مما جعل الملك يشعربمكانة هذا الرجل الصالح والنبي الطاهر يوسف الصديق عليه السلام.



                        6. خروج من السجن وبراءة عظيمة



                        عرف الملك أن الذي قاله يوسف لا بد وأنه واقع لا محالة, فقال لساقيه نبوا وحرسه وأصحاب السجن القائمين عليه:

                        {ائتوني به} اذهبوا وأحضروه فورا.



                        خرج نبوا مسرعا من المدينة قاصدا السجن وقد عرف أنه تأخر على يوسف ولم يذكره الا بعد بضع سنين. ولما وصل السجن دخل الى يوسف مهللا فرحا سعيدا بخروجه من السجن ولكن يوسف عليه السلام فاجأ صاحبه وقال: لن أذهب معك الآن واشترط لخروجه شرطا من الساقي أن يبلغ للملك, فقال يوسف:

                        {ارجع الى ربك فسئله ما بال النسوة التي قطعن أيديهن ان ربي بكيدهن عليم}. يوسف 50.



                        رفض يوسف عليه السلام الخروج حتى تصح براءته عند الملك مما قذف به واتهم به, ودخل من أجله السجن وهو بريء منه.



                        رفض يوسف عليه السلام أن يخرج من السجن بعطف الملك, ويرميه الناس بعدها ويقولون: ذا الذي رواد امرأة مولاه. فأراد يوسف أن يبين براءته, ويحقق منزلته ومكانته من العفة والطهارة والخير.



                        فلهذا قال لنبوا ساقي الملك: ارجع الى الملك وقل له واسأله:{ ما بال النسوة التي قطعن أيديهن, ان ربي بكيدهن عليم}.



                        فرجع رسول الملك نبوا من عند يوسف حاملا رسالته هذه, فلما سمع الملك كلام يوسف, دعا النسوة اللاتي قطعن أيديهن ومعهن امرأة العزيز, وقال لهن: ما شأنكن, وذلك أن كل واحدة منكن كلمت يوسف في حق نفسها, فأجبن جميعا اجابة واحدة وقلن: حاشا لله ما علمنا على يوسف من سوء فهو شاب طاهر عفيف النفس حسن الخلق.



                        ونهضت امرأة العزيز من وسط النسوة وقالت:{ الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه} وان يوسف صادق ولم يكذب, فلما سمع يوسف هذا الكلام وهذه البراءة من امرأة العزيز قال:ليعلم سيدي العزيز أني لم أخنه بالغيب كما قيل عني واتهمني الناس.



                        فلما تبين للملك عذر يوسف عليه السلام وبراءته, عرف أمانته وكفايته وديانته وعلمه وعقله, وقال: {ائتوني به أستخلصه لنفسي} فلما جاء نبوا الساقي ورسول الملك الى يوسف قال له: أجب الملك الآن.



                        خرج يوسف من السجن ودعا لأهل السجن بدعاء مشهور قال فيه:

                        "اللهم عطف قلوب الأخيار, ولا تعم عنهم الأخبار" فهم أعلم الناس بالأخبار الى اليوم في كل بلدة.



                        ولما خرج من السجن كتب على بابه:

                        "هذا قبر الأحياء, وبيت الأحزان, وتجربة الأصدقاء, وشماتة الأعداء" العرائس للثعلبي ص 111.



                        ثم اغتسل يوسف وتنظف وتطهر من درن السجن, ولبس ثيابا جديدة رائعة, وقصد الى قصر الملك الريان, فلما وقف باب الملك قال: حسبي ربي من دنياي وحسبي ربي من خلقه عز جاهه وجل ثناؤه ولا اله غيره.



                        فلما دخل على الملك قال: اللهم اني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بك من شره وشر غيره.



                        فلما نظر اليه الملك سلم عليه يوسف بالعربية, فقال له الملك: ما هذا اللسان؟ وما هذه اللغة؟



                        قال يوسف: لسان عمي اسماعيل, ثم دعا له بالعبرانية.



                        فقال له الملك: ما هذا اللسان؟



                        قال يوسف: هذا لسان أبي يعقوب.



                        أعجب الملك بفصاحة يوسف ولغاته كما أعجب بأخلاقه وعفته وكان يوسف قد بلغ الثلاثين عاما, وأجلسه الى جواره وقال: اني أحب أن أسمع رؤياي منك مشافهة.



                        فقال يوسف: نعم أيها الملك," لقد رأيت سبع بقرات سمان شهب حسان غير عجاف كشف لك عنهن نهر النيل, فطلعن عليك من شاطئه, ينزل اللبن من ضروعهن, فبينما أنت كذلك تنظر اليهن وقد أعجبك حسنهن اذ نضب النيل, وغار ماؤه, وأصبح قليلا, وظهر قاعه, فخرج من طينه ووحله, سبع بقرات عجاف بطونهن لا تظهر, ليس لهن ضروع من شدة الضعف, ولهن أنياب وأسنان مخيفة, وأضراس وأكف كأكف الكلاب, وخراطيم كخراطيم السباع, فاختلطن بالبقرات السمان وهجمن عليهن وفترسهن افتراس السباع, وأكلن لحمهن, ومزقن جلودهن وحطمن عظامهن, فبينما أنت تنظر وتتعجب كيف غلبنهن وهن مهازيل ضعاف ثم لم يظهر فيهن سمنة مما أكلن اذا بسبع سنبلات خضر وسبع أخر سود يابسات في منبت واحد جذورهن في التراب والماء, وبينما تقول في نفسك ما هذا؟ هؤلاء خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات في المنبت واحد وأصولهن في الماء اذ هبت فردت أوراق السنبلات السود اليابسات على الخضر المثمرات فأشعلت فيهن النار فأحرقتهن وصرن سوادا متغيرات فهذا آخر ما رأيت من الرؤيا, ثم انتبهت مذعورا" العرائس للثعلبي 111-112 .



                        فقال له الملك: فما ترى في رؤياي أيها الصديق؟



                        فقال يوسف: أرى أيها الملك أن تجمع الطعام وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين الخصبة وتبني الأهرام والخزائن وتجعل القمح فيها بسنبله وقصبه ليكون أبقى ولا يفسد وقصبة القمح تصبح علفا للدواب. وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمر فيكفيك ما جمعته من طعام لأهل مصر ومن حولها. ثم يأتيك الناس من كل مكان ليأخذوا مما كنزت لهم من هذا الطعام, فيجتمع عندك من الكنوز ما لا يجتمع لأحد من قبلك.



                        تبسّم الريّان ونظر ليوسف نظرة اكبار واجلال وقال له: ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه لي ويكفيني الشغل فيه؟



                        فقال يوسف:{ اجعلني على خزائن الأرض اني حفيظ عليم} أي أعلم بسني المجاعة وكاتب حاسب لهذا كله.



                        فقال الملك: ومن أحق منك؟ وولاه خزائن الأرض وقال له:{ انك اليوم لدينا مكين أمين}.



                        وهلك العزيز الذي كان على هذه الخزائن قبل يوسف, وزوّج الملك يوسف بامرأة العزيز, وأنجب منها رجلين هما أفراييم بن يوسف, ومنشه بن يوسف, القرطبي ج 9 ص 140, وأصبح يوسف من يومها مكينا أمينا, بعد أن خصه الله بمعجزات كثيرة لا تحص ولا تعد, ولعل أشهرها تأويله للرؤيا, رؤيا صاحبي السجن ورؤيا الملك الوليد.
                        إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                        نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                        جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                        تعليق


                        • #13
                          أيوب

                          المغتسل البارد



                          قال تعالى: {واذكر عبدنا أيوب اذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب* اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} ص 41,42.



                          1. المغتسل البارد



                          ذكر المؤرخون روايات كثيرة عن أيوب, وذكر المفسرون كذلك.. وأيوب هو نبي الله من نسل ابراهيم عليه السلام, وقد تزوج من ذرية يوسف بن يعقوب فتاة أسمها رحمة كانت مثله صلاحا وتقوى, جازت زوجها في عبادته لله عز وجل, وفي حمده وشكره له , وفي تقربه اليه.



                          وقد اشتهر أيوب بين الناس بالصبر, وقصته مشهورة, ولنبدأ مع أيوب الغني, فقد كان رجلا غنيا, ذا مال كثير, بسط الله له الرزق, وافسح له طريق الثراء, حتى كان يملك قرية كاملة في دمشق تسمى "البثنية" وهي قرية تقع بين دمشق وأذرعات, ويملك ما فيها من مزارع خضراء منبسطة فسيحة, وله فيها بساتين مزهرة, وله بها منشآت وديار.



                          كانت الأبقار والشياه الحلوب, ترتع في مزارعه, وتنيخ في مرابضه الابل الخفاف, والنياق الولود, وتسرح بأرضه الخيل والبغال والحمير.



                          ولقد أفاض الله برزقه على عبده الصالح أيوب ففوق ما رزقه من نعمة المال, رزقه نعمة أخرى جزيلة محبوبة, تلك نعمة الأولاد كم البنات والبنين.



                          فقد كمل له بذلك ما تمنّاه كل امرئ لنفسه من متع الدنيا ورفاهية الحياة, ولذاذة العيش, ونضرة النعيم.



                          فهل كان أيوب بما أعطاه الله من نعم الدنيا وبهجة الحياة منعما مرفها, ينعم بجاه المال ويهنأ بخلف من البنين والبنات, ونسى كل ما عداه؟ والحق يقال عكس ذلك, فلم يكن أيوب كذلك, فلم يبخل على نفسه وعياله, وكان لا يحب كنز المال.



                          كان أيوب ذا مال, ولكن كانت أمواله لمن حوله قبل ان تكون لنفسه, وكان منها زكاة وهبات وعطايا كان برا بكل من حوله! يرعى غلمانه وخدمه قبل أن يرعى أهله, فلكل رجل من أتباعه زوجة ودار ومتاع, ولكل غلام مدّخر من المال.



                          وكان لا يطعم طعاما وهو يعلم بمكان جائع يشتهي الطعام!



                          وكان لسانه لا يكف عن ذكر الله والحمد والتسبيح لربه ولا يفتر جنانه عن التفكير في الله عز وجل.



                          وتحدث الناس عن أيوب, ولهجت ألسنتهم بالدعاء له والثناء عليه, وعمرت قلوبهم بحبه والاخلاص له! وكذلك أهل السماء من الملائكة ذكروا أيوب ذكرا حسنا.



                          كل هذا أغاظ ابليس, كثرة ذكر أيوب والثناء عليه, وابليس أقسم أن يغوي البشر أجمعين, وبسبب ذلك طرده ربه من الجنة جزاء عصيانه, فقال كلمته المعروفة: رب, بما أغويتني وطردتني بسبب آدم لأزينن لذريته في الأرض, ولأغوينهم أجمعين.



                          واستطرد ابليس قائلا: الا عبادك المخلصين.



                          وكان أيوب عليه السلام من عباده المخلصين.



                          وكانت محنة أيوب وقصة مرضه المشهورة هي محنته, ولعل أشهر ما ذكر عن هذه المحنة كانت هذه القصة التي جاء فيها:



                          تحدّث الملائكة,ملائكة الأرض فيما بينهم عن الخلق وعبادتهم, قال قائل منهم:



                          ما على الأرض اليوم خير من أيوب, هو أعظم المؤمنين ايمانا, وأكثرهم عبادة لله, وشكرا لنعمته ودعوة له.



                          وسمع الشيطان ما يقال... فساءه ذلك, وطار الى أيوب محاولا اغواءه, ولكن أيوب بقي, قلبه هو الصفاء لله والحب لله.



                          وقد كان أيوب عليه السلام محصنا بايمانه ضد وسوسة الشيطان, فما استطاع ابليس أن يغريه بشيء مما يغري به الأغنياء! وما قدر على أن يدفع به الى ما كان يدفع اليه أمثاله من الأثرياء!!



                          حاول ابليس عن طريق شياطين البشر أن يحرّض أيوب على ارتكاب المعاصي, فأتاه بشرذمة من الناس يزيّنون له اللهو والمجون والمتعة المحرّمة, ويدعونه الى ترك التقشف, والى التهاون في العبادة لينعم نفسه بمباهج الدنيا, ويمتعها بما أوتي من نعم وجاه ومال.



                          ولكن قلب أيوب كان تقيّا نقيّا, فلم يستجب لما زيّن له؛ وكانت نفسه مؤمنة ورعة, فلم تسمع ما دعيت اليه.



                          كانت متعة أيوب عليه السلام تكمن في أشياء كثيرة, كانت متعته في أن يكفل أيتاما مات عنهم عائلهم, وكانت بهجته في أن يساعد بماله أرملة ذهب عنها رجلها, أو فقير أضرّ به فقره, أو عاجزا أقعده عجزه, فيشعر بالسعادة لسعادتهم ويهنأ لهنائهم, ويشكر الله على أن هيأ له كل هذه السعادة وكل هذا الهناء.



                          وطال الأمد بابليس دون أن يستطيع الوصول الى غايته من استمالة أيوب ببلاء لم يكن منتظرا, سرّ له ابليس وفرح فعاود مع أيوب نشاطه من جديد, ونعود الى أشهر رواية عن أيوب ومحنته فنقول:



                          حين يئس الشيطان من اغواء أيوب, قال لله تعالى:



                          يا رب ان عبدك أيوب الذي يعبدك ويقدسك لا يعبدك حبا, وانما يعبدك لأغراض.



                          يعبدك ثمنا لما منحته من مال وبنين, وما أعطيته من ثروة وعقار, وهو يطمع أن تحفظ عليه ماله وثراءه وأولاده, وكأن النعم العديدة التي منحتها له هي السر في عبادته, انه يخاف أن يمسها الفناء أو تزول.. وعلى ذلك فعبادته مشوبة بالرغبة والرهبة, يشيع فيها الخوف والطمع.. وليست عبادة خالصة ولا حبا خالصا.



                          وقد ذكرت الرواية أن الله تعالى قال لابليس:



                          ان أيوب عبد مؤمن خالص الايمان.. وليكون أيوب قبسا من الايمان ومثالا عاليا في الصبر.. قد أبحتك ماله وعقاره.. افعل ما تريد, ثم انظر الى ما تنتهي.



                          وهكذا انطلقت الشياطين فأتت على أرض أيوب وأملاكه وزروعه ونعمه ودمّرتها جميعا.. وانحدر أيوب من قمة الثراء الى حضيض الفقر فجأة.. وانتظر الشيطان أيوب.. وقال أيوب عليه السلام عن المال:



                          عارية لله استردها.. ووديعة كانت عندنا فأخذها, نعمنا بها دهرا, فالحمد لله على ما أنعم, وسلبنا اياها اليوم, فله الحمد معطيا وسالبا, راضيا وساخطا, نافعا وضارا, وهو الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء, ويضر من يشاء, ويذل من يشاء, ثم خرّ أيوب عليه السلام ساجدا وترك ابليس وسط دهشته المخزية.



                          وعاد الشيطان يقول لله تعالى:



                          يا رب.. اذا كان أيوب لم يقابل النعمة الا بالحمد, والمصيبة الا بالصبر, فليس ذلك الا اعتدادا بما لديه من أولاد.. انه يطمع أن يشتدّ بهم ظهره ويسترد بهم ثروته.



                          وتستطرد الرواية فتقول: ان الله أباح للشيطان أولاد أيوب.. فزلزل عليهم البيت الذي يسكنون فيه فقتلهم جميعا. أنبياء الله لأحمد بهجت ص 171.



                          وهنا قال أيوب داعيا ربه:



                          الله أعطى.. والله أخذ.. فله الحمد معطيا وسالبا, ساخطا وراضيا, نافعا وضارا.



                          ثم خرّ أيوب عليه السلام ساجدا وترك ابليس وسط دهشته المخزية.



                          وعاد ابليس يدعو الله, أن أيوب لم يزل صابرا لأنه معافى في بدنه, ولو أنك سلطتني يا رب على بدنه.. فسوف تكف عن صبره.



                          وتقول الرواية أن الله أباح جسد أيوب للشيطان يتصرف فيه كيف يشاء.. فضرب الشيطان جسد أيوب من رأسه حتى قدميه, فمرض أيوب مرضا جلديا راح لحمه يتساقط ويتقيّح.. حتى هجره الأهل والأصحاب.. ولم يعد معه الا زوجته..



                          ومرت الأيام, وتتابعت الشهور, وأيوب تزداد حالته سوءا,حتى لم يعد يستطيع أحد أن يقترب منه لعفن قروحه, ونتن رائحتها, فبرم الناس به, ونفروا منه, وانقطعوا عن زيارته, وتذمّر أهله من جيرته وظلت زوجته هي الوحيدة التي تخدمه, وتقضي له حاجاته.



                          ومرت السنون وأهل أيوب لا يستطيعون على جيرته صبرا, ولا يحتملون له قربا, وجهروا باستيائهم, وأظهروا تذمّرهم بالأقوال والأفعال, فلم تجد رحمة بدا من أن تعرش لزوجها عريشا في ظاهر المدينة وتنقله اليه.



                          وانتقل أيوب عليه السلام الذي كان يملك الضياع, ويسكن القصور الى عريش من القش على قارعة الطريق, ورغم ذلك لم يتركه الناس لحاله, بل كانوا اذا مرّوا عليه أظهروا تذمرهم, وأبدوا تأففهم. وقالوا: لو كان رب هذا له حاجة فيه لما فعل به ذلك.



                          وهكذا ظل أيوب تمر عليه السنة تلو السنة وهو جسد ملقى في عريشه لا يصدر عنه حركة الا حركة لسانه في فمه بذكر الله, ولا يسمع منه الا صوت يردد اسم الله.



                          كانت رحمة زوجة أيوب تقوم بخدمة الناس لتكسب لها ولأيوب من طعامهما, وما يقوم بأودهما. ثم تعود اليه في نهاية اليوم بما تيسر لها الحصول عليه من طعام تطعمه وتسقيه, وتقضي الليل بجانبه؛ فاذا أصبح الصباح عاودت ما فعلته بالأمس.



                          ولكن هذ الحالة لم تدم لاشمئزاز الناس الذين كانت تقوم بخدمتهم, لعلمهم أنها تقوم على خدمة أيوب المبتلى, وعلى غسل جروحه وتضميد قروحه, فأظهروا لها الامتعاض من خدمتها لهم, ثم طردوها من خدمتهم.



                          فأصبحت "رحمة" بلا عمل وسدّت منافذ الكسب في وجه رحمة!



                          وفكرت رحمة وهداها تفكيرها الى أن تذهب مع الصباح الى سوق في ظاهر المدينة, ويدها قابضة على حزمة ملفوف بها شيء يبدو أنها تحرص عليه, وتعول من ورائه على خير كثير.



                          وبلغت رحمة السوق, واتجهت الى الجانب الذي تعرض فيه حاجات النساء من زينة وعطر وملبس, وفتحت لفافتها بيد مرتعشة, وجلست مع البائعات, وكانت بضاعتها ضفيرة من الخيوط الذهبية الطويلة الناعمة, كانت بالأمس نصف شعرها, فباعتها الى أحد النساء وأخذت ثمنها.



                          وابتاعت رحمة بثمن شعرها طعاما وشرابا, وعادت الى زوجها تطعمه وتسقيه, فقد كانت برّة وفية بزوجها.



                          وبعد أن نفد ثمن شعرها ما بقي لها شيء تبيعه.



                          ولكن أيوب كان على صلابته وقوته, ويئس الشيطان فكر في رحمة فذهب اليها وملأ قلبها باليأس حتى ذهبت الى أيوب تقول له :



                          حتى متى يعذبك الله, أن المال والعيال والصديق والرفيق, أين شبابك الذاهب وعزك القديم؟



                          وأجاب أيوب امرأته: لقد سوّل لك الشيطان أمرا.. أتراك تبكين على غرفات وولد مات؟



                          قالت: لماذا لا تدعو الله أن يزيح بلواك ويشفيك ويكشف حزنك؟



                          قال أيوب: كم مكثنا في الرخاء؟!!



                          قال رحمة: ثمانين سنة.



                          قال أيوب: كم لبثنا في البلاء والمرض؟



                          قالت سبع سنين.



                          قال: أستحي أن أطلب من الله رفع بلائي, وما قضيت فيه مدّة رخائي.



                          لقد بدأ ايمانك يضعف يا رحمة, وضاق بقضاء الله قلبك.. لئن برئت وعادت اليّ القوة لأضربنّك مئة عصا.. وحرام بعد اليوم أن آكل طعاما من يديك أو أشرب شرابا أو أكلفك أمرا.. فاذهبي عني.



                          وذهبت عنه زوجته وبقي أيوب جسدا صابرا وحيدا, يحتمل ما لا تحتمله الجبال.. وأخيرا فزع أيوب الى الله داعيا متحننا لا متبرما, ودعا الله أن يشفيه.



                          2. المعجزة



                          ماذا قال أيوب في دعائه يا ترى؟ لقد قال القرآن الكريم أن أيوب نادى ربه فقال:

                          {أني مسني الضرّ وأنت أرحم الراحمين} الأنبياء 83.



                          وجاءت الاستجابة سريعة من الله عز وجل, ونزل وحي الله على أيوب:{ اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب}. 42.



                          وضرب أيوب الأرض برجله الضعيفة كما أمره الله, فانفجرت عيون من ماء عذب زلال بارد وصاف, فاغتسل أيوب بماء احدى هذه العيون التي فجرها له الله سبحانه عز وجل, فاذا بجلده الدامي المتقرّح يصبح سليما نظيفا جميلا, وشرب أيوب من ماء عين أخرى, فاذا به سليم معافى, قد سرت في جسمه القوّة, ودبّ النشاط..!!



                          وكانت احدى معجزات الله القادر على كل شيء الذي يقول للشيء كن فيكون.



                          وجلس أيوب وقد استردّ صحته, وعافيته, ورونقه وجماله, في حلة قشيبة من عند الله, فشكر الله على ما ابتلاه, وعلى ما أنعم به عليه.



                          وكان قد أقسم أن يضرب امرأته مائة ضربة بالعصا عندما يشفى, وها هو قد شفي, وكان الله سبحانه وتعالى يعرف أنه لا يقصد ضرب امرأته, ولكي لا يرجع عن يمينه أو يكذب فيها أمره الله أن يجمع حزمة من أعواد الريحان عددها مائة, ويضرب بها امرأته ضربة واحدة, وبذلك يكون برّ في قسمه ولم يكذب.



                          رحم الله أيوب العبد الصابر.



                          { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث, انا وجدناه صابرا, نعم العبد انه أوّاب} ص 44.
                          إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                          نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                          جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                          تعليق


                          • #14
                            عيسى

                            الطفل ينطق مرّتين



                            قال تعالى:{ فناداها من تحتها الا تحزني قد جعل ربك تحتك سريّا} مريم 24.



                            قال تعالى:{ فأشارت اليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيا} مريم 29.



                            1. معجزة الحمل والميلاد


                            تأخرت مريم ابنة عمران عن صاحباتها يوما, فلما ذهبت تملأ جرّتها من الينبوع وجدت نفسها وحيدة, وأحست وحشة ورهبة, واضطرب جسمها فجأة, فشعرت بالخوف, وأقبلت على الماء مسرعة تردد أدعية الصلاة, واذا شاب قوي, وسيم الطلعة, جميل الهيئة, ينظر اليها كأنما خرج من الأرض.



                            خافت مريم, وأصابها الذعر, وتوقعت شرا ينزل بها فقالت:{ اني أعود بالرحمن منك ان كنت تقيّا}. مريم 18.



                            ذلك الشاب الجميل كان جبريل عليه السلام, فلما رأى جبريل عليه السلام انزعاجها قال لها:



                            {انما أنا رسول ربك اليك لأهب لك غلاما زكيا}. مريم 19.



                            احتارت مريم في أمره, وخافت أن يكون بشرا أراد بها سوءا, وأرادت الهرب, فهبط عليها الهام من من الله عز وجل, واذا هي واقفة بثبات واطمئنان, ثم رأت صفا من الملائكة عن يمينها, وصفا عن شمالها, فهدأت نفسها, وذهب خوفها.



                            قالت الملائكة:{ يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين} آل عمران 45.



                            قالت مريم متوجهة الى الله عز وجل:



                            { رب أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر} آل عمران47.



                            قال جبريل عليه السلام:



                            { كذلك الله يخلق ما يشاء, اذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون}.



                            تلقت مريم هذا النبأ العظيم بخوف وفرح, ان الملائكة تبشرها بولد يكون نورا وهدى للناس, ورسولا الى بني اسرائيل, يا له من شرف عظيم.



                            رفعت مريم رضوان الله عليها رأسها أمام جبريل عليه السلام وقالت: هأنذا أمة الله. ليكن ما يريد الله.



                            تقدّم جبريل عليه السلام, ونفخ في جيبها, ثم اختفى عنها مع الملائكة بعد أن وهبها وديعة القدّوس الأعلى.



                            أحيطت مريم العذراء بسر هائل, لم تعهده امرأة سواها من قبل فالجنين يتحرّك في بطنها, وأمرها صائر الى الفضيحة, وهي العذراء الصالحة التي عاشت عمرها طاهرة نقيّة.



                            لم تطق مريم البقاء بحالتها هذه في الناصرة, فأسرعت بالعودة الى جبال حبرون, لتكشف سرّها الى مثلها, تثق فيها, وتطمئن اليها, وتلاقت مريم مع خالتها "أليصابات" فألقت اليها بسرّها الرهيب و"أليصابات" خالة مريم وامرأة زكريا عليه السلام.



                            كانت أليصابات زوجة زكريا قد حملت هي أيضا, بعد أن استجاب الله لدعاء زوجها, فروت كل منهما قصتها وتحدّثتا بغرابة حملهما, وكانت "أليصابات" العجوز قد حملت بيحيى عليه السلام, ومكثت مريم وخالتها أليصابات معا ثلاثة أشهر في هذا البيت الهادئ على سفح الجبل وقد سمعت مريم وأليصابات وهما نائمتان على سرير واحد نداء سماويا ألهمهما أن الطفل عيسى ويحيى سيشتركان معا في اتمام القصد الالهي, ونزل هذا الخبر على قلبيهما بردا وسلاما.



                            وعادت العذراء المباركة الى الناصرة, وهي الفتاة الباسمة المشرقة, فقد أصبحت تعيش في عالم جديد أكثر اتصالا بالله, تفكر طويلا بفرح ممزوج بالخوف.



                            انتفخ بطنها, وبدأت تفطن الى الريبة التي تخامر قلوب المحيطين بها, فكانت تفكر في ذلك طويلا, وأخيرا استقرّ عزمها على أن تكشف سرّها الى ابن عمّها يوسف النجار, وكان أشد الناس برّا بها وحرصا عليها, فأرسلت له وألقت اليه بسرها الذي كان حملا ثقيلا عليها.



                            وقع هذا الخبر على يوسف, وقوع الصاعقة, فشك في أمرها, وهو أعلم الناس بعفتها وطهارتها, وعاد الى منزله, وأوى الى فراشه شارد الفكر مضطرب الفؤاد, فطار النوم من عينيه, وعصر الحزن قلبه.



                            وفي هدوء الليل هبط الوحي الالهي على ذلك الرجل المعذب والقلب الجريح, وأنبأه الحقيقة العظمى, فقام من نومه, وقد آمن بحقيقة مريم العذراء, وأسرع اليها في منزل عمتها ليعتذر لها عن ريبته وشكه فيها, ثم عرض عليها أن يضمها في بيته ليستر أمرها, ويحظى بشرف رعايتها كما يرعى الزوج زوجته.



                            أذعنت مريم لالحاح عمتها فقبلت هذا العرض وذهبت الى بيت يوسف, فأتمّت فيه مدّة الحمل.



                            لما صارت في الشهر التاسع, ورأى يوسف سوء حالتها, أشفق عليها, وبذل المستحيل ليخفي أمرها, ويمنع سوء القالة عنها, فقرّر السفر بها لتضع مولودها, بعيدة عن الناصرة وأهلها.





                            2. الطريق الى بيت لحم



                            أمر القيصر, وهو ملك بلاد الشام في ذلك الوقت, أمر بحصر عدد السكان, وكتابة أسمائهم في سجلات, وهدّد كل من يتخلف عن تدوين اسمه, وأسماء عائلته بالعقاب الشديد.



                            فسافر الناس من الشمال والجنوب الى القدس, لتدوين أسمائهم, فكنت ترى الطريق مزدحمة بالمسافرين.



                            مالت الشمس الى الغرب, واذا وقعت العين على ركب المسافرين, الذين جاؤوا من بلاد الجليل في الشمال وقد بدا عليهم أثر التعب, وأضناهم السفر الطويل تجد من بين هؤلاء المسافرين فتاة قروية هي مريم العذراء على دابة وقد أمسك بمقودها رجل هو يوسف النجار الذي كان يبدي اهتماما عظيما بها.



                            جاءا معا الى القدس, ليقيّدا اسميهما في سجلات المحاكم, ولعلهما أرادا الاختفاء عن قومها خشية الفضيحة, وقت الولادة.



                            اقترب الركب المبارك من "بيت لحم" وهي مدينة فلسطينية, وشعرت مريم بمقدمات الوضع, فمال يوسف النجار بها الى بيت لحم, وأنزلها بالقرب من كهف كبير, وقد استعمله الرعاة من قديم الزمان مربطا للماشية والأغنام, فجلست مريم بجوار جذع نخلة, وذهب ابن عمها الى القدس, ليستأجر لها مكانا خاليا, وما كان هناك مكان يصلح لراحة حبلى في شهرها الأخير, لكثرة الوافدين على المدينة في هذا الوقت.



                            فما كان منه الا أن أخذها الى مكان خال بجوار نخلة يمر من تحتها جدول صغير من الماء.



                            3. الميلاد والمعجزة


                            كانت مريم العذراء وحيدة هناك بجوار النخلة, انها نخلة معمّرة, وأمامها جدول صغير من الماء العذب يسري ماؤه, فقاست مريم حرارة الوحدة وقت الولادة, وأجاءها المخاض الى جذع النخلة, فوضعت ابنها البكر, وقامت الى الجدول وغسلته وقمّطته, ثم اتجهت به الى الكهف, وفي هذا المكان الهادئ نام المسيح نومته الأولى, ودخل الى العالم بهذه الصورة المتواضعة كما يدخل أي مولود عادي من عامة الناس, وقد استقبلته السماء بمظاهر الترحيب والبشر, فشع نور على مهد هذا الوليد المبارك, وكانت أمه بعد هذا المجهود الشاق قد استسلمت لضعف ألمّ بها, فرأت مظاهر الحفاوة والتكريم لهذا المولود, وسمعت ترتيل الملائكة الذين جاؤوا يحفون بالمولود الجديد, يسبّحون ويهللون ويهتفون بالتحية لمولده, وشاهدت هذا النور الذي انبثق من السماء الى الأرض, يعلن لملايين البشر فجر الخلاص من الظلم والاستبداد, وظلام الجهل والضلال.



                            أفاقت مريم من ضعفها, وعاد اليها نشاطها, فاذا طفلها ينظر اليها نظرة العطف والتساؤل, واذا قلبها مفعم بالذكريات الأليمة, والصور البشعة, واذا هي نهب للتفكير في ساعة لقاء أهلها وذويها.



                            كيف ترد على التهم التي ستنهال عليها؟! ظلت تفكّر في ذلك كثيرا, فانتابها موجة من الضيق, ونكست رأسها تحاول ابعاد هذه الوساوس عنها. قالت:{ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيّا} يا الهي؛ أنت عليم بحالي فألهمني الرشاد, وخلصني مما أقاسيه.



                            كانت مريم حقا في حيرة شديدة, لا تستطيع البقاء بمولودها في هذا المكان بدون طعام, ولا تستطيع أن تعود به الى ذويها في الناصرة, ولا الى أقربائها في بيت لحم, فيرموها بالسوء, ويقذفوها بالتهم أشكالا وألوانا.



                            أظلمت الدنيا في عينها, وساءت الحياة أمامهما, وبينما هي في غمرة من ذلك سمعت صوتا يناديها:



                            يا مريم, لاتحزني!! قد جعل ربك تحتك ماء سريّا وهزي اليك بجزع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي من الرطب, واشربي من الماء, وتوكلي بعد ذلك على الله فهو نعم المولى, ونعم النصير.



                            سمعا مريم هذا النداء السماوي يتردد على أذنها, فكان بردا وسلاما على قلبها, أعاد اليها الأمن والثقة, وأذهب عنها الخوف والاضطراب فقامت مريم الى الجدول وشربت, وهزت بجذع النخلة وجمعت ما وقع منها من رطب, ثم أقبلت على الطفل وأشرق وجهها بمحياه, فانزاح عنها الكابوس الثقيل, وكانت قد سمعت حديث الناس حول ظهور النجم الأكبر, وتساؤلهم عن آيات ظهور المسيح المنتظر الذي بشرت به التوراة.



                            وبينما هي كذلك جاء يوسف النجار اليها في لهفة وحسرة, فوجدها في أتم صحة, تغسل الخرق, وتنشرها على أشعة الشمس, وقد حماها الله من كل سوء, فلما نظر اليها يستفسر عن حالها أشارت الى المولود, فأسرع يوسف اليه, ووقف برهة يتأمل ذلك الوجه المشرق الجميل, ونحن نتصور ما يجول في رأس هذا الرجل المؤمن من الأفكار, بعدما رأى من آيات الله, وما سمع من حديث القوم, فنعرف السر فيما فعله بعد ذلك, حينما وهب كل وقته,وبذل كل جهده لرعاية هذا الوليد الخارق لناموس الحياة وأمه السيّدة العذراء.



                            ونتصوره أيضا يعود الى مريم, وقد نكّس رأسه هيبة واجلالا ليسألها عملا يؤديه, أو خدمة يقدمها.



                            حقا!؟ ان يوسف النجار كان رجلاصالحا تقيا نبيلا, كشف الله عن بصيرته, وألهمه الحقيقة والصواب.



                            ونحن نتصور مريم تقضي مدة النفاس في هذا المكان الخلائي الهادئ, فنجدها هانئة به, وقد راضت نفسها على الاقامة فيه, وكان يوسف النجار يذرع الأرض كل يوم ويقطع طريقها بين الكهف الذي ولد فيه المسيح وبين القدس, حيث يقضي حوائجها, ويشتري لها الخبز والطعام, فاذا عاد من المدينة وجد تمرا كثيرا, جاءت به هذه النخلة التي شبّ عمرها, واخضرّت أوراقها, بعد أن أصابها الكبر ونخرها السوس.



                            انتهت مدة نفاس مريم العذراء, وحان موعد الرحيل الى المدينة, فعاود مريم القلق, وانتابها الوسواس من جديد.



                            كان يوسف يحزم الأمتعة استعدادا للرحيل, ومريم غارقة في همومها ودعائها تطلب العون من الله, فسمعت هاتفا يهتف بها:



                            يا مريم؛ صومي اليوم عن الكلام, فلا تكلمي أحد من الناس, والله يتولاك برعايته.



                            كان الهاتف بهذا الأمر هو جبريل عليه السلام, فصدعت للأمر, ونذرت الصوم قالت:



                            {اني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم انسيّا}, مريم 26.



                            ولما فرغ يوسف النجار من حزم الأمتعة, حملها على دابته ثم نظر الى مريم, ودعاها للركوب, فركبت دون أن تحرك شفتيها بكلمة واحدة.



                            اتجهت مريم بالطفل الى جبال حبرون, وجاءت به الى قومها تحمله, قالوا:



                            يا مريم؛ لقد جئت شيئا فريّا, وأمرا منكرا!؟



                            سكتت مريم ولم تقل شيئا للدفاع عن نفسها, فأيقنوا أنها ارتكبت خطيئة, وقالوا:



                            { يا أخت هارون ما كان ابوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيّا} مريم 28.



                            تكلمي يا مريم ودافعي عن نفسك. كيف جئت بهذا الغلام؟!



                            كانت مريم صائمة لا تستطيع الكلام, فلما ألحوا عليها وكثر كلامهم وسؤالهم لها, اتخذت قرارا صامتا أصابهم الدهشة الشديدة!!



                            كانت مريم صائمة عن الكلام, لا تستطيع الكلام, فلما ألحوا عليها وكثر سؤالهم لها: أشارت الى الطفل ليكلموه, انه أمر عجيب, كيف تطلب مريم شيئا خارقا لم نعتد عليه, انها تطلب معجزة, تريد أن يتكلم هذا الطفل الملفوف في قطعة من القماش.



                            قالوا في دهشة واستغراب:{ كيف نكلم من كان في المهد صبيا}.



                            كيف نكلم هذا الطفل الذي يكفينا سماع صوت بكائه بصعوبة شديدة من ضعفه وطفولته المبكرة.



                            لقد ولد منذ أيام قليلة, فهل يعقل انسان هذا الذي تريده مريم, انها تريد المستحيل.



                            ولكن مريم كانت بحاجة الى معجزة كي يصدقها الناس, اذ كيف يصدق الناس أن طفلا أنجب بغير أب, وفي هذا الأمر اتهام للعرض والشرف, حتى أنهم قالوا ان أمها كانت طاهرة شريفة وأبوها لم يكن يوما من الأيام سيء الخلق حتى تأتي هي بهذا الفعل المشين.



                            انصرفت مشيئة الله أن يكون الرد معجزة, لأن الاقناع في مثل هذه المواقف يحتاج الى معجزات ومعجزات, والمعجزة والشيء الخارق هنا أن يعتدل الطفل في فراشه ويعرف الناس بنفسه ويدافع عن أمه وما أثير حولها من عبارات الشك والطعن في شرفها وعرضها.



                            تكلم عيسى المسيح عليه السلام, بعد أن قالوا:{ كيف نكلم من كان في المهد صبيا}.



                            قال عيسى وهو ملفوف في رباط الأطفال وملفوف بخرق الفراش.. قال:



                            { اني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا* وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا* وبرّا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيّا* والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا* ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون} مريم 30-34.



                            وكان حديثه في المهد معجزة عظيمة.
                            إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                            نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                            جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                            تعليق


                            • #15
                              النبي محمد صلى الله عليه وسلم

                              معجزات مع النبات والحيوان والجماد





                              1. انشقاق القمر



                              قال تعالى:{ اقتربت الساعة وانشق القمر* وان يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر* وكذبوا واتبعوا أهواءهم, وكل أمر مستقر*} القمر 1-3.



                              كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعلى الأنبياء جميعا, أن يتحملوا تبعات رسالاتهم, ومن تبعات هذه الرسالات ومسؤولياتها الشاقة هو جدل الكفار وطرحهم أسئلة تحتاج الى اعجاز من الله سبحانه عز وجل, وكم أعطى الله عز وجل لأنبيائه من المعجزات والآيات, ومنهم موسى عليه السلام, فقد شق له البحر, وجعل عصاه ثعبانا ضخما يبطل سحر السحرة, ويزعج فرعون ومن معه, وجعل له الجبل يطير في الهواء.. وصالح الذي أتاه الناقة.. وغير ذلك.. وهنا نجد أن القرآن قد أورد كل هذه المعجزات في قصصه.



                              ومما روي أن أهل مكة شأنهم شأن غيرهم من الأمم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية أو معجزة, فأراهم عليه السلام القمر شقين!!



                              قال رجل اسمه مطعم من أهل مكة: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين أو جزئين جزء على هذا الجبل, وجزء على هذا الجبل.



                              ترى ماذا قال الكفار عن هذه المعجزة العظيمة؟ أجعلتهم يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, أم يصرّون على كفرهم؟ لم يصروا على كفرهم فقط بل انهم اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا حجتهم الواهية, قالوا: ان محمدا قد سحرنا!! ظنوا أن هذا سحر, ورفضت عقولهم الايمان فنزل قول الله عز وجل:{ اقتربت الساعة وانشق القمر}.



                              2.الدعاء ونزول المطر



                              كانت مكة بيئة صحراوية لا ماء فيها ولا أنهار وتعتمد اعتمادا كبيراعلى المطر, وكذلك كانت المدينة الا أن المدينة كان بها بعض الآبار لكنها لم تكن تكفي الا لشرب الناس فقط, ومن هذه الآبار "بئر حاء" الذي اشتراه أبو طلحة الأنصاري وأعطاه هديّة للمسلمين, وذلك عندما نزلت الآية الكريمة التي تقول:{ لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون}.



                              ومرت بالمدينة أيام أصاب المسلمين قحط شديد, بسبب قلة المطر, فدخل رجل المسجد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر يخطب في الناس, فظل الرجل يمشي حتى جاء في مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم, وقال للرسول: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل, فادع لنا الله يغيثنا.



                              لقد طلب الرجل من رسول الله صلى الله عليه وسلم الغوث بالدعاء الى أن ينزل الله المطر عليهم.



                              رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال:



                              "اللهم اسقنا, اللهم اسقنا, اللهم اسقنا". رواه البخاري.



                              كان أنس بن مالك في المسجد, مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة, فقال أنس:( والله ما في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيء, وما بيننا جبل سلع, وهو جبل داخل المدينة, فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس, فلما توسطت السماء انتشرت, ثم أمطرت, والله ما رأينا الشمس ستة أيام) ومرت الأيام الستة وفي يوم الجمعة التالي دخل رجل آخر من الباب نفسه الذي دخل منه الرجل في الجمعة السابقة, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في الناس وفقال الرجل للرسول:



                              يا رسول الله هلكت الأموال, وانقطعت السبل ادع الله أن يمسكها.



                              أي أن الأمطار, من شدتها, قطعت الطرق, وبدأت تؤذي الماشية والزرع, فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال:" اللهم حوالينا ولا علينا, اللهم على الآكام والجبال, ومنابت الشجر" تاريخ الطبري ج3 ص 71, سيرة ابن هشام ج3 ص 355, السيرة الحلبية ج3 ص 10.



                              والآكام التي يقصدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث هي التلال الصغيرة المرتفعة. وما ان انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الدعاء المبارك حتى انقطع المطر وخرج الناس يمشون في الشمس.



                              وكانت هذه معجزة نزول المطر بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.



                              3.الماء ينبع من أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم



                              ومن معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم الكثيرة الذي يدل على صدق نبوته ورسالته, فالانسان يعرف دائما ويعقل أن الماء له منابع منها الآبار والأنهار, وفي هذه المعجزة يروي أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ان الماء كان ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال أنس رضي الله عنه:( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد حانت صلاة العصر, والتمس الناس الماء للوضوء, فلم يجدوه, وكان عددهم قرابة ثلاثمئة رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأتي رسول الله بماء للوضوء في اناء, فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في ذلك الاناء, وأمر الناس أن يتوضؤوا).



                              يقول أنس:(فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه, فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم) فسأل رجل أنسا راوي القصة فقال: كم كنتم يا أنس؟



                              قال أنس زهاء ثلاثمئة رجل.



                              هذه معجزة ظاهرة, لا يستطيع بشر أن يأتي بها, وقد اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهي معجزة تدل على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم, اذ شهدها الناس في مكان عام وبعدد كبير بلغ الثلاثمئة رجل تقريبا.



                              1. بئر الحديبية وفيضان الماء


                              خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدا مكة لزيارة بيت الله الحرام, وكان ذلك في السنة السادسة من الهجرة, وكان رسول الله لا يبغي حربا ولا قتالا ولكنه دعا المسلمين للنصرة والنجدة ودعا من حوله من قبائل الأعراب خشية أن تعترضه قريش بحرب, أو يصدوه عن البيت , فتثاقل عنه الأعراب وقبائلهم, فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار, ومن لحق به من العرب ليس معهم من السلاح الا السيوف في أغمادها وساق معه الهدي, وهو الماشية التي أراد اهداءها لمكة من النعم وأحرم بنيّة العمرة وهي الطواف والسعي بين الصفا والمروة فقط.



                              والفرق بين الحج والعمرة أن العمرة تجوز للانسان في السنة كلها, بينما الحج له وقت معروف من السنة, مع زيادة بعض الأعمال.



                              وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بأقصى الحديبية, وهي مكان أو موضع بينه وبين مكة مسافة قريبة, سميّت مرحلة واحدة من السير.



                              ولما علمت قريش اعترضت على دخوله صلى الله عليه وسلم مكة ومنعته من ذلك وجاءت الأخبار تقول أن كفار قريش قتلوا الرجال الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستئذان في دخول مكة ومن بين هؤلاء عثمان بن عفان, فبايع المسلمون الرسول صلى الله عليه وسلم, عندما نادى المنادي قائلا: أيها الناس, البيعة البيعة! فثاروا الى رسول الله, وهو تحت الشجرة فبايعوه على القتال حتى النصر, ولذلك فقد أطلق عليهم أهل بيعة الرضوان وأنزل الله فيهم قوله تعالى:{ لقد رضي الله عن المؤمنين اذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} الفتح 18.



                              وفي هذا اليوم العظيم يوم الحديبية, حدثت معجزة عظيمة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم, فقد كان بالحديبية بئر ماء استطاع أصحاب أهل بيعة الرضوان وكان عددهم ألفا وأربعمائة رجل, استطاعوا أن ينزحوا الماء من البئر حتى لم يبق فيها ما يملأ كأس ماء واحدة, ولذلك فقد خاف الناس العطش من قلة الماء, فشكوا ذلك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاء عليه السلام, وجلس على حافة البئر, فطلب قليلا من الماء فجيء به الى الرسول صلى الله عليه وسلم فتمضمض منه, ومجّ ما تمضمض به في البئر وأصحابه ينظرون.



                              وما هي الا لحظات حتى بدأ البئر يضخ الماء فيعلو ويعلو فأخذ الناس يسقون الابل والماشية ويشربون هم ويملؤون أوانيهم بالماء, وأدوات حمل الماء عندهم, ونحن نعرف أن عددهم كان ألأفا وأربعمائة رجل, وهم من الصالحين ومن الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه عندما أطاعوا رسوله الكريم وبايعوه على التضحية بأرواحهم في سبيل دينهم ودعوة محمد صلى الله عليه وسلم.



                              وكانت هذه معجزة وآية نبوية صادقة تدل على مكانة رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه عند ربه, لأنه رسول الله حقا وصدقا..



                              2. انقياد الشجر له عليه السلام


                              جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام الأنصاري صحابي مشهور يعرفه المسلمون جيدا, كان صادقا وفيا لدينه ولرسوله صلى الله عليه وسلم وها نحن نسمع هذه المعجزة التي رواها جابر بن عبدالله في صحيح البخاري ومسند أحمد, ترى ماذا قال جابر بن عبدالله رضي الله عنه؟



                              قال: سرنا مع النبي صلى اله عليه وسلم حتى نزلنا واديا واسعا رحبا, فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته, فسرت خلفه, واتتبعته باداوة فيها ماء, أو اناء فيه ماء, فنظر عليه السلام فلم ير شيئا يستتر به واذا شجرتان بشاطئ الوادي, فانطلق عليه الصلاة والسلام الى أحدهما فأخذ ببعض أغصانها وقال:"انقادي عليّ باذن الله" فانقادت معه كالبعير المخشوش ( أي الملجم بعود في عظم الأنف لينقاد به البعير) الذي يصانع قائده حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بعضا من أغصانها وقال:" انقادي عليّ باذن الله" فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده حتى اذا كان بالمنتصف فيما بينهما لاءم بينهما, وجمع بينهما أي جمعهما, وقال عليه الصلاة والسلام:"التئما عليّ باذن الله" فالتأمتا.



                              قال جابر: فخرجت أعدو بشدّة مخافة أن يحس بقربي فيبعد, فجلست أحدث نفسي فحانت مني التفاتة, فاذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل واذا الشجرتان افترقتا, وقامت كل واحدة منهما على ساق...



                              هده هي احدى معجزات النبي الخارقة للعادة التي لا تكون الا لنبي من الأنبياء عليهم السلام. فالشجرة استجابت وأطاعت أمر رسول الله, انه أمر خارق للعادة.



                              3. حنين الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم


                              كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اعتاد حين يخطب في المسلمين أن يخطب على جذع نخلة.. وذات يوم جاءت امرأة من الأنصار وكان لها غلام يعمل نجارا.



                              فقالت يا رسول الله ان لي غلاما نجارا افأمره أن يتخذ لك منبرا تخطب عليه؟



                              قال: بلى.



                              فصنع له الغلام منبرا, فلما كان يوم الجمعة وقف رسول الله يخطب على المنبر الجديد المصنوع من الخشب فسمع عليه السلام جذع النخلة يئن كما يئن الصبي, فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" ان هذا بكى لما فقد من الذكر".



                              وجاءت رواية أخرى لهذه القصة في صحيح البخاري تقول: فصاحت النخلة (جذع النخلة) صياح الصبي ثم نزل صلى الله عليه وسلم فضمه اليه يئن أنين الصبي الذي يسكن.



                              قال صلى الله عليه وسلم:" كانت تبكي (النخلة) على ما كانت تسمع من الذكر عندها".

                              اذن فحنين الجذع شوقا الى سماع الذكر وتألما لفراق الحبيب الذي كان يخطب اليه واقفا عليه وهو جماد لا روح له ولا عقل في ظاهر الأمر.



                              هذه معجزة بكل المقاييس تخالف ما اتفق عليه أن الجماد لا يتحرّك ولا يشعر, وفي الحقيقة فانها كائنات تسبّح بحمد الله عز وجل, وهي من الكائنات التي لا نسمع تسبيحها. بل سمعها الأنبياء بمعجزة وآية من الله عز وجل.



                              واذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء بمعجزة كهذه لا يقدر عليها بشر مثله, ولم تؤت لأحد من البشر الذين هو منهم, فان ذلك دليل على صدق وعظم نبوته عليه السلام.



                              4. سلام الشجر وتسبيح الحصى في يديه


                              انحصرت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي بكر الصديق رضي الله عنه, والفاروق عمر رضي الله عنه وعثمان ذي النورين رضي الله عنه.



                              وفي هذه القصة المعجزة التي رواها الحافظ أبي بكر البيهقي رواه أحمد رضي الله تعالى عنهما عن سويد بن يزيد السلمي قال: سمعت أبا ذر الغفاري رضي الله عنه يقول: لا أذكر عثمان الا بخير بعد شيء رأيته, وبيّن ذلك الخبر الذي رآه فقال:



                              كنت رجلا أتبع خلوات رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرأيته يوما جالسا وحده فاغتنمت خلوته فجئت حتى جلست اليه, فجاء أبو بكر فسلم عليه ثم جلس عن يمين رسول الله, فجاء عمر وجلس عن يمين أبي بكر, ثم جاء عثمان فجلس عن يمين عمر, وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع حصيات فأخذهن في كفه فسبّحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين جذع النخل, ثم وضعهن فخرسن أي سكتن, ثم أخذهن فوضعهن في كف أبي بكر فسبّحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النخل, ثم وضعهن فخرسن, ثم تناولهن فوضعهن في يد عمر فسبّحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين جذع النخل, ثم وضعهن فخرسن, ثم تناولهن فوضعهن في يد عثمان فسبّحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النخل, ثم وضعهن فخرسن, فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" هذه خلافة النبوة".



                              فهذه معجزة عظيمة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ذات شقين أولهما: أن الحصى يسبّح في أيدي الخلفاء الراشدين. والثاني أن الخلافة فعلا انحصرت في أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وذي النورين عثمان ووصلت الى علي رضي الله عنهم.



                              5. شكوى البعير للرسول صلى الله عليه وسلم


                              كان الأنصار في المدينة يستخرجون الماء من البئر بواسطة الابل فانظر الى هذه القصة التي يرويها أنس بن مالك رضي الله عنه فقال:



                              كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يستخرجون الماء من البئر عليه, انه استصعب عليهم فمنعهم من استخدامه أي منعهم من استخدامه في هذا العمل.



                              فجاء الأنصار الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: انه كان لنا جمل نستخرج عليه الماء من البئر, وانه استصعب علينا وعصانا ومنعنا أن نكلفه بهذا العمل وقد عطش الزرع والنخيل.



                              فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"قوموا" فقاموا فدخل البستان الذي فيه البعير أو المكان المحاط بالجدران الذي يأوي اليه البعير في وقت راحته, وكان الجمل في ناحية, فمشى النبي صلى الله عليه وسلم نحوه, فقال الأنصار: انه صار مثل الذي به داء الكلب, أي أنه مسعور, وانا نخاف صولته عليك يا رسول الله.



                              فقال عليه الصلاة والسلام:"ليس عليّ منه بأس" أي اني لا أخاف منه, فلما نظر الجمل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم, أقبل نحوه حتى خرّ ساجدا بين يديه, فأخذ رسول الله بناصيته أذل ما كانت قط حتى أدخله في العمل.



                              فقال له أصحابه: يا رسول الله هذه بهيمة لا تعقل, تسجد لك ونحن أحق أن نسجد لك فقال صلى الله عليه وسلم:" لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها".



                              وجاءت قصة أخرى في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوما مع بعض أصحابه حائطا من حيطان الأنصار, فاذا جمل قد أتاه فجرجر وذرفت عيناه, فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم سراته وذفراه فسكن وهدأ.



                              فقال صلى الله عليه وسلم:" من صاحب الجمل؟"



                              فجاء فتى من الأنصار قال: هو لي يا رسول الله.



                              فقال له عليه الصلاة والسلام:" أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملّكها الله لك؟ انه شكا اليّ أنك تجيعه وتدئبه".



                              أي أنك تواصل عليه العمل ليل نهار دون انقطاع.



                              هكذا كانت معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم, انها آية من آيات النبوة ومعجزة من عظيم معجزاتها التي تثبت كل يوم وفي كل زمان أن رسالة محمد حق وأنه رسول الله صدقا وحقا.
                              إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
                              نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
                              جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

                              تعليق

                              يعمل...
                              X