رياض الجنة : قُبِلَ المَهْرُ وَزُفَّت العروس
ذكر ابن النحاس في كتابه مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق أنه كان في البصرة نساء عابدات، وكان منهن أم إبراهيم الهاشمية، فأغار العدو على ثغر من ثغور المسلمين، فانتدب الناس للجهاد، فقام عبد الواحد بن زيد في الناس خطيباً فحضهم على الجهاد، وكانت أم إبراهيم حاضرة في مجلسه، فتمادى عبد الواحد في كلامه، ثم ذكر ما أعده الله عز وجل لمن قتل في سبيله في الجنة من النعيم المقيم، ثم تمادى في وصف الحور العين وذكر ما قيل فيهن فأنشد في صفة الحوراء:
غادةٌ ذاتُ دلالٍ وَمَرَحْ == يجدُ الناعِتُ فيها مَا اقْتَرَحْ
خُلِقَتْ من كل شيءٍ حسنٍ == طَيِّبٍ ياليتَ فيها مُطَّرَحْ
زانها اللهُ بوجهٍ جُمِعَتْ == فيهِ أوصافٌ غريباتُ المُلَحْ
وبعينٍ كُحْلُها من غَنْجِها == وبِخَدٍّ مِسْكُهُ فيهِ رَشَحْ
فماج الناس وفرحوا وأخذوا يتحادثون فيما بينهم فاضطرب المجلس، فوثبت أم إبراهيم في وسط النساء وقالت لعبد الواحد: يا أبا عبيد، ألست تعرف ولدي إبراهيم ورؤوس أهل البصرة يخطبونه لبناتهم وأنا أضن به عليهم، فقد والله أعجبتني هذه الجارية، وأنا أرضاها عروساً لولدي، فكرر ما قلت من حسنها وجمالها، فأخذ عبد الواحد في وصف الحوراء ثم أنشد:
تولَّدَ نورُ النُّورِ مِنْ نورِ وَجهِهَا == فمازَجَ طيبَ الطّيبِ من خالِصِ العِطْرِ
فَلوْ وَطَأَتْ بالنَّعلِ منْها على الحَصَى == لأَعشَبَتِ الأقْطارُ من غيرِ مَا قَطْرِ
ولو شئتَ عَقْدَ الخَصْرِ منها عَقَدْتَهُ == كَغُصْنٍ من الرَّيْحانِ ذي وَرَقٍ خُضْرِ
ولو تـَـفَلتْ في البحرِ شَهْدَ رِضَابِها == لطَابَ لأهْلِ البَرِّ شِربٌ من البَحْرِ
فاضطرب الناس أكثر، فوثبت أم إبراهيم وقالت لعبد الواحد: يا أبا عبيد، والله قد أعجبتني هذه الجارية وأنا أرضاها عروساً لولدي فهل لك أن تزوجها منه وتأخذ مني مهرها عشرة آلاف دينار؟ ويخرج معك في هذه الغزوة، فلعل الله أن يرزقه الشهادة فيكون شفيعاً لي ولأبيه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
فقال لها عبد الواحد: لئن فعلت لتفوزن فوزاً عظيماً، أنت وأبوك وولدك. فنادت ولدها: يا إبراهيم، فوثب من وسط الناس وقال لها: لبيك يا أماه، قالت: أي بني، أرضيت بهذه الجارية زوجة لك، ببذل مهجتك في سبيل الله وترك العَوْدِ في الذنوب؟ قال الفتى: أي والله، أي والله يا أماه، رضيتها وأي رضا، قالت: اللهم إني أشهدك أني زوجت ولدي هذا من هذه الجارية، ببذل مهجته في سبيلك وترك العَود في الذنوب، فتقبله مني يا أرحم الراحمين، ثم انصرفت فجاءت بعشرة آلاف دينار، وقالت: أبا عبيد، قال: لبيك، قالت: هذا مهر الجارية، تجهز به وجهز الغزاة في سبيل الله، وانصرفت فاشترت لولدها فرساً جيدةً واستجادت له سلاحاً، فلما خرج عبد الواحد خرج إبراهيم يعدو وهو يقرأ ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾، فلما أرادت أم إبراهيم فراق ولدها، دفعت إليه كفناً وحنوطاً، وقالت له: أي بني، إن أردت لقاء العدو فتكفن بهذا الكفن وتحنط بهذا الحنوط وإياك أن يراك الله مقصراً في سبيله، ثم ضمت ولدها فلذة كبدها إلى صدرها وقبلت بين عينيه وقالت: يا بني، لا جمع الله بيني وبينك إلا بين يديه في عرصات القيامة.
قال عبد الواحد: فلما بلغنا العدو وبرز الناس للقتال، برز إبراهيم في المقدمة فقتل من العدو خلقاً كثيراً، ثم اجتمعوا عليه فقتلوه، فلما أراد الرجوع إلى البصرة قال لأصحابه: لا تخبروا أم إبراهيم بخبر ولدها حتى ألقاها بحسن العزاء لئلا تجزع فيذهب أجرها، قال: فلما وصلنا البصرة خرج الناس يتلقَوننا وخرجت أم إبراهيم فيمن خرج، فلما أبصرتني قالت: يا أبا عبيد، هل قُبِلت مني هديتي فأهنأ، أم ردت علي فأعزى، فقلت لها: قد قبلت والله هديتك، إن إبراهيم حي مع الشهداء إن شاء الله، فخرت ساجدةً لله وقالت: الحمد لله الذي لم يخيب ظني، وتقبل نسكي مني، وانصرفت إلى بيتها ونامت وهي قريرة العين، لأن ابنها قد قتل في سبيل الله عز وجل، فلما كان من الغد أتت إلى المسجد وعلى وجهها البشر والسرور وقالت: السلام عليك يا أبا عبيد، بشراك بشراك، فقال: لازلت مبشرة بخير، فقالت: يا أبا عبيد، رأيت البارحة ولدي إبراهيم في روضة حسناء وعليه قبة خضراء، وهو على سرير من اللؤلؤ وعلى رأسه تاج وإكليل، وهو يقول: يا أماه، يا أماه، أبشري فقد قُبِلَ المَهرُ وزُفَّتِ العروس.
ذكر ابن النحاس في كتابه مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق أنه كان في البصرة نساء عابدات، وكان منهن أم إبراهيم الهاشمية، فأغار العدو على ثغر من ثغور المسلمين، فانتدب الناس للجهاد، فقام عبد الواحد بن زيد في الناس خطيباً فحضهم على الجهاد، وكانت أم إبراهيم حاضرة في مجلسه، فتمادى عبد الواحد في كلامه، ثم ذكر ما أعده الله عز وجل لمن قتل في سبيله في الجنة من النعيم المقيم، ثم تمادى في وصف الحور العين وذكر ما قيل فيهن فأنشد في صفة الحوراء:
غادةٌ ذاتُ دلالٍ وَمَرَحْ == يجدُ الناعِتُ فيها مَا اقْتَرَحْ
خُلِقَتْ من كل شيءٍ حسنٍ == طَيِّبٍ ياليتَ فيها مُطَّرَحْ
زانها اللهُ بوجهٍ جُمِعَتْ == فيهِ أوصافٌ غريباتُ المُلَحْ
وبعينٍ كُحْلُها من غَنْجِها == وبِخَدٍّ مِسْكُهُ فيهِ رَشَحْ
فماج الناس وفرحوا وأخذوا يتحادثون فيما بينهم فاضطرب المجلس، فوثبت أم إبراهيم في وسط النساء وقالت لعبد الواحد: يا أبا عبيد، ألست تعرف ولدي إبراهيم ورؤوس أهل البصرة يخطبونه لبناتهم وأنا أضن به عليهم، فقد والله أعجبتني هذه الجارية، وأنا أرضاها عروساً لولدي، فكرر ما قلت من حسنها وجمالها، فأخذ عبد الواحد في وصف الحوراء ثم أنشد:
تولَّدَ نورُ النُّورِ مِنْ نورِ وَجهِهَا == فمازَجَ طيبَ الطّيبِ من خالِصِ العِطْرِ
فَلوْ وَطَأَتْ بالنَّعلِ منْها على الحَصَى == لأَعشَبَتِ الأقْطارُ من غيرِ مَا قَطْرِ
ولو شئتَ عَقْدَ الخَصْرِ منها عَقَدْتَهُ == كَغُصْنٍ من الرَّيْحانِ ذي وَرَقٍ خُضْرِ
ولو تـَـفَلتْ في البحرِ شَهْدَ رِضَابِها == لطَابَ لأهْلِ البَرِّ شِربٌ من البَحْرِ
فاضطرب الناس أكثر، فوثبت أم إبراهيم وقالت لعبد الواحد: يا أبا عبيد، والله قد أعجبتني هذه الجارية وأنا أرضاها عروساً لولدي فهل لك أن تزوجها منه وتأخذ مني مهرها عشرة آلاف دينار؟ ويخرج معك في هذه الغزوة، فلعل الله أن يرزقه الشهادة فيكون شفيعاً لي ولأبيه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
فقال لها عبد الواحد: لئن فعلت لتفوزن فوزاً عظيماً، أنت وأبوك وولدك. فنادت ولدها: يا إبراهيم، فوثب من وسط الناس وقال لها: لبيك يا أماه، قالت: أي بني، أرضيت بهذه الجارية زوجة لك، ببذل مهجتك في سبيل الله وترك العَوْدِ في الذنوب؟ قال الفتى: أي والله، أي والله يا أماه، رضيتها وأي رضا، قالت: اللهم إني أشهدك أني زوجت ولدي هذا من هذه الجارية، ببذل مهجته في سبيلك وترك العَود في الذنوب، فتقبله مني يا أرحم الراحمين، ثم انصرفت فجاءت بعشرة آلاف دينار، وقالت: أبا عبيد، قال: لبيك، قالت: هذا مهر الجارية، تجهز به وجهز الغزاة في سبيل الله، وانصرفت فاشترت لولدها فرساً جيدةً واستجادت له سلاحاً، فلما خرج عبد الواحد خرج إبراهيم يعدو وهو يقرأ ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾، فلما أرادت أم إبراهيم فراق ولدها، دفعت إليه كفناً وحنوطاً، وقالت له: أي بني، إن أردت لقاء العدو فتكفن بهذا الكفن وتحنط بهذا الحنوط وإياك أن يراك الله مقصراً في سبيله، ثم ضمت ولدها فلذة كبدها إلى صدرها وقبلت بين عينيه وقالت: يا بني، لا جمع الله بيني وبينك إلا بين يديه في عرصات القيامة.
قال عبد الواحد: فلما بلغنا العدو وبرز الناس للقتال، برز إبراهيم في المقدمة فقتل من العدو خلقاً كثيراً، ثم اجتمعوا عليه فقتلوه، فلما أراد الرجوع إلى البصرة قال لأصحابه: لا تخبروا أم إبراهيم بخبر ولدها حتى ألقاها بحسن العزاء لئلا تجزع فيذهب أجرها، قال: فلما وصلنا البصرة خرج الناس يتلقَوننا وخرجت أم إبراهيم فيمن خرج، فلما أبصرتني قالت: يا أبا عبيد، هل قُبِلت مني هديتي فأهنأ، أم ردت علي فأعزى، فقلت لها: قد قبلت والله هديتك، إن إبراهيم حي مع الشهداء إن شاء الله، فخرت ساجدةً لله وقالت: الحمد لله الذي لم يخيب ظني، وتقبل نسكي مني، وانصرفت إلى بيتها ونامت وهي قريرة العين، لأن ابنها قد قتل في سبيل الله عز وجل، فلما كان من الغد أتت إلى المسجد وعلى وجهها البشر والسرور وقالت: السلام عليك يا أبا عبيد، بشراك بشراك، فقال: لازلت مبشرة بخير، فقالت: يا أبا عبيد، رأيت البارحة ولدي إبراهيم في روضة حسناء وعليه قبة خضراء، وهو على سرير من اللؤلؤ وعلى رأسه تاج وإكليل، وهو يقول: يا أماه، يا أماه، أبشري فقد قُبِلَ المَهرُ وزُفَّتِ العروس.
تعليق