إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تحذير الموحدين من المبتدئين في الطلب والمتعالمين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تحذير الموحدين من المبتدئين في الطلب والمتعالمين

    تَحْذِيرُ المُوَحدينَ مِنْ المُبْتَدِئينَ فِيْ الطَلَّبِ والمُتَعَالِمِينَ.

    --------------------------------------------------------------------------------
    تَحْذِيرُ المُوَحدينَ مِنْ المُبْتَدِئينَ فِيْ الطَلَّبِ والمُتَعَالِمِينَ.
    أَوْ

    رَدْعُ الْمُتَصَدِّرَ قَبْلَ الْتَّأَهُّلِ، المُتَزَبِّبُ قَبْلَ الْتَحَصْرُمِ.



    الحمد لله الذي جعل في كلِّ زمان فترة من الرُّسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍّ تائه قد هدوه، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين،(1) فللَّه ما أحسن أثرهم على النَّاس، ولكنْ ما أسوأ أثر المخذِّلين عليهم.
    وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم آله وأصحابه ومن تبع سنَّته وحفظ الدِّين وبلَّغه ونافح عنه إلى يوم الدِّين... آمين.

    أمَّا بعد:(2)
    فكم رأينا نِزالاً في حلائب العلم، من رائم للبروز قبل أن ينضج، فراش قبل أن يبري، وتَزبَّبَ قبل أن يتَحصْرمَ، وقد قيل "البداية مزلة"، وقيل "من البلية تشيُّخ الصَّحفية"، ويُؤثَر عن الإمام عليّ بن أبي طالب –رضي الله عنهقوله: (العلم نقطة كثرها الجاهلون). وهي بمعنى ما ساقه ابن عبد البرِّ في "جامعه"، والغزاليُّ في "الإحياء": (لَوْ سَكَتَ مَنْ لَاْ يَعْلَمُ لَسَقَطَ الخِلَاْفُ). وما يراد بهم هنا إلاَّ "المتعالمون"، الذين ناموا عن العلم فما استيقظوا، وبَالغوا قبل أن يبلُغوا، فركبوا مطايا الخير للشَّرِّ، والذين عناهم الإمام الشافعيّ –رحمه الله تعالى- بقوله: (فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا، وقد تكلَّم فيالعلمِ من لو أمسكَ عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساكُ أولى به، وأقربَمن السلامة له إن شاء الله).
    وشكى حالهم الحافظ ابن القيِّم –رحمه الله تعالى- فقال:

    هذا وإني بعد ممتحن بأر....بعة وكلهم ذوو أضغان
    فظٌّ، غليظٌ، جاهلٌ متمعلمٌ....ضخم العمامة، واسع الأردان
    مُتَفَيْهِقٌ، مُتَضَلِّعٌ بالجهل، ذو....ضلع، وذو جلح من العرفان
    مزجى البضاعة في العلوم وإنه....زاج من الإيهام والهذيان
    يشكو إلى الله الحقوق تظلُّما....من جهله كشكاية الأبدان
    من جاهل متطبِّب يفتي الورى....ويحيل ذاك على قضا الرَّحمن

    ورصيفه الحافظ الذهبي –رحمه الله تعالى-، شكى الحال من وجه آخر، فقال: (فوالله لأن يعيش المسلمُ أخرس، أبكم، خيرٌ له من أن يعيش...).
    وحفيدهما بالتَّلمذة، الحافظ ابن حجر العسقلاني –رحمه الله تعالى- يقول: (إذا تكلم المرءُ في غيرِ فنِّه، أتى بهذه العجائب).(3)
    إن مما يؤذي الإنسان السويِّ، وصاحب العلم الرباني، أن يرى بعض من أخذ طرفاً من العلم، يفتى في النفوس والفروج، ويتصدر للفتاوى والدروس، وكالطاووس يشرئب برأسه فوق الرؤوس، ويختال على عباد رب العالَمِين، وتنتفخ أوداجه إن خالفه المتعلِّمين، ويحمرُّ وجهه ويتمعرّ، إن غلبه في مناظرة مُحتَقر.
    وقد كَثُرَ في سوق العلم من ليس بأهلٍ له، وبَاع فيه من هو مزجيِّ البضاعة، وطار فرحاً بأن ثمة جهلة رعاعًا له يصفِّقون، وعلى حوضه يلتفّون، ونسي أنه على الرحمن منشور، وعلى صراط النار محشور.
    فيا ليت شعري كيف به إذا سُئل!

    وإني عزمت بفضل الله الأحد، على أن أبيّن حال هؤلاء المتعالمين، وأكشف زيفهم، وأفضح أمرهم، وأزيل سترهم، وأكشف عن قباحة وجههم.
    فإنِّي قد أحزنني انتشار هذه الدعوة المقيتة، بين أنصار المجاهدين، وواجهة الجهاد العالمي، ويزداد حزني إن أصرَّ المدَّعون على دعواهم، ولم يتواضعوا لله العظيم، ولم يسمعوا إلى قول الله ورسوله فيطيعون، ولا إلى أهل الرسوخ في العلوم فيسلِّمون، بل ازدادوا جُرْماً إلى جرمهم، وأصرّوا على غيّهم.
    وتَعُظمُ المصيبة إن قال أنه للسلف الصالح متَّبِع، وعن الخلف الطالح منخلع، بل على عكس القول هو سائر، وعلى مسلخ الخلف صائر، فما عرفنا في سلفنا إلا الورع، وودَّ كلُّ واحد منهم لو أن أخاه كفاه أمره!
    ولذلك أردت أن أثير غبار هذه المسألة المهمّة، وانثر الدرَّ المطيّب في نصيحة ملمَّة، ليس لي فيها إلّا الجمع والترتيب، وأزفها إلى الإخوان الأحباب للتقريب.
    وجعلتها فصولاً حتى يتحصّل منها المطلوب، ويُحصد منها كل مرغوب، واللهَ أسألُ أن يعين ويسدِّد.
    الفصل الأول: ما هو التعالم.
    الفصل الثاني: المؤلفات في التعالم.
    الفصل الثالث: ظواهر التعالم.
    الفصل الرابع: أسباب التعالم.
    الفصل الخامس: نتائج التعالم.
    الفصل السادس: نصائح مهمة.
    الفصل السابع: علاج التعالم.
    الفصل الثامن: خاتمة.
    والله الموفق.



    الفصل الأول: ما هو التعالم.

    التعالم: على وزن "تفاعل" من العلم، وتأتي على معنى إدعاء الشيء، كالقول المنسوب للنبي صلى الله عليه وسلم "ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا"[رواه ابن ماجه وضعّفه الألباني]، فتباكى على وزن "تفاعل" من البكاء.
    وفي تعريف التعالم قال الشيخ بكْر أبو زيد –رحمه الله- "من يدَّعي العلم وليس بعالم"، وهو تعريف قليل الكلمات كثير المعاني والمقاصد والغايات، ولم أرَ تعريفاً خاصاً بالتعالم.
    فأرى أن التعالم هو: إدعاء العلم والتظاهر به، والتصدر لتدريسه والتأليف والتصنيف فيه، والنقاش في مسائله، لمن لم يتأهل لذلك. وهو بمثابة تبسيط لتعريف الشيخ بكر. ولعله تعريف مانع للتعالم، والله الموفق.
    وقد ذمَّ العلماء التعالم لأنه ثوب زور، والمتعالم لابسه [فـ"المتعالم": فجُّ الدَّعوى، قال الحكيم التِّرمذيُّ في صفة عموم الخلق: (ضعفٌ ظاهرٌ،ودعوى عريضةٌ)](4)
    قال بعض الأندلسيين:

    نعوذ بالله من أناس....تشيَّخوا قبل أن يَشِيخُوا

    فإذا رأيت الحَدَثَ علا كرسيّ العلماء، وراح يخطب في الناس البلهاء، وأخذ يتكلم في العلم والفتوى، وما صدَّه عن ذلك ورع ولا تقوى، فاعلم أنه التعالم المقيت، والتصدر قبل التأهل، قال قتادة -رحمه الله- "من حدَّث قبل حِينِهِ، افْتَضَحَ في حِينهِ"(5)، ومَثَلُهم كما قال الشاعر:

    في شَجرِ السَّروِ لهم شبه .... له رواء وما له ثَمَر!

    وإن رأيت عنق أحدهم اشرأبت لسؤال مستفتي، وأخذ يَخُضُّ في المسألة يميناً وشمالاً، ويلوكها شرقاً وغرباً، فإنه التعالم المُصَاحبُ بالتَنَمُّر، فإذا أتيته بسؤال آخر فتراه يريد الهروب كالأفعى البالعة، أو الشرود كضأنٍ من لبؤة جائعة، فاعلم أنه التعالم المهلك!
    وما درى أولئك الذين ضلًَّ سعيهم في الحياة الدنيا، أن طالب العلم عندما يتصدر لدرس أو فتوى، تكون قد حفيت قدماه، ونحف جسده، وشاب شعره، ويكون له من المشايخ ما لو أراد كتابة أسمائهم لكتب مجلداً فيهم، ويكون قد قرأ من الكتب ما لو أراد أن يحصي أسماءها لكتب في ذلك مجلداً آخر!
    فهذا الإمام النووي الشافعي –رحمه الله- كان يَحضُر في اليوم اثني عشردرساً(6)، وقال الحر بن عبد الرحمن "طلبت إعراب القرآن خمساً وأربعين سنة، أو أربعين سنة"، وقال أبو العباس ثعلب "ما فقدته في مجلس نحوٍ ولا لغة نحواً من خمسين سنة-أي إبراهيم الحربي-"(7) وهذا نعيم المجمر –رحمه الله- تلميذ أبي هريرة –رضي الله عنه-: جالس الصحابي الجليل أبا هريرة رضي الله عنه عشرين سنة متوالية، فأصبح من أخص تلاميذه. وجالس عبد الله بن نافع الإمام مالك خمساً وثلاثين سنة.(8)
    وأما الزهري –رحمه الله- فإنه قال "مسَّت ركبتي ركبة سعيد بن المسيب ثماني سنين"(9)، وقال –رحمه الله- "اختلفت من الحجاز إلى الشام خمساً وأربعين سنة، فما استطرفت حديثاً واحداً، ولا وجدت من يطرفني حديثاً".
    وأما أمير المؤمنين في الحديث سفيان الثوري –رحمه الله-، فقد قال الذهبي –رحمه الله- عنه "يقال إن عدد شيوخه ستمائة شيخ".(10)
    وهذا أبو حنيفة النعمان –رحمه الله- يتكلم عن طلبه للعلم فقال "قدمت البصرة فظننت أني لا أُسأَلُ عن شيء إلا أجبت فيه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب، فجعلت على نفسي ألَّا أُفارق حمّاداً –يعني ابن أبي سليمان- حتى يموت؛ فصحبته ثماني عشرة سنة".(11)
    وإمام دار الهجرة مالك –رحمه الله- يقول "ما أجبت في الفتوى حتى سألت مَن هو أعلم مني: هل تراني موضعاً لذلك؟ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد؛ فأمراني بذلك"(12)، وقال -رحمه الله- "كان الرجل يختلف إلى الرجل ثلاثين سنة يتعلَّم منه"(13)
    قال أبو الفرج ابن الجوزي –رحمه الله- متحدثاً عن قراءته للكتب "وإني أخبر عن حالي، ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتاباً لم أره، فكأني وقعت على كنز. ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية، فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد، وفي ثبت كتب أبي حنيفة، وكتب الحميدي، وكتب شيخنا عبد الوهاب وابن ناصر وكتب أبي محمد بن الخشاب وكانت أحمالاً، وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه .
    و لو قلت أني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر و أنا بعد في الطلب"(14)
    ومن كان له حظٌّ في جَرْدِ المطوّلات، وفي سَبْرِ كتب السير والتراجم، رأى أضعاف هذا.
    وبعد:
    فإن الناظر إلى الحوارات في منتدى الحوارات، يجد ضَربَاً مما سبق ذكره، ولو أن الأمر وقف على التعالم لكان أهون قليلاً، ولكنه تعدى إلى التطاول على بعض المُسلَّمات الشرعية، وما يعرفه كل طالب علم!
    وهذه نصيحة لنفسي قبل غير، فلا أحد محاسب بدلي عنها:

    وما أبرئ نفسي إننا بشرٌ .... نعشوا إلى الله أحياناً وننساه(15)

    بأن نتقي الله عز وجل في ديننا ودنيانا، وأن لا نتصدّر قبل أن نتأهل، وأن نثني ركبنا عند العلماء، ونكثر من الأخذ عنهم، فإنهم مفاتيح العلم، وأن نكثر من قراءة المؤلفات المنهجية، وهذا لا يعني أن نَطِير لكل سؤال، أو نجيب على كل فتوى!
    فالعلم أشبار ثلاث: من دخل في الشِّبر الأول؛ تكبَّر، ومن دخل في الشِّبر الثاني؛ تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث؛ علم أنه ما يَعْلَمُ.(16)
    وكذلك لو أنعمنا النظر في حال أصحابنا هؤلاء، لوجدنا أكثرهم ليس له شيخ-أي درس عليه-، وما كان بضاعته من قراءة الكتب إلا خمسون كتاباً –مع المبالغة-.
    وقد يكون بعضهم يسير على منهجية علمية، وهذا شيء طيّب ولا ريب، ولكن معظم المناهج التي وضعها العلماء لا تؤهل طالب العلم، وإنما تعرف الطالب على العلم الشرعي!
    أو هي بمثابة تمهيد للعلم الشرعي، كما مقدمة الكتاب للكتاب، ولكن هناك بعض المناهج العلميّة التي تؤهل صاحبها إلى التصدر، منها "المنهج العلمي لطلاب العلم الشرعي" للشيخ ذياب الغامدي –وفقه الله- حيث قال فيه "فإنَّني أهْمِسُ وأُهَمْهِمُ فِي أُذُنِ طَالَبِ العِلْمِ (إسْرَارًا لا جِهَارًا): أنَّ طَالِبَ العِلْمِ إذا أتْقَنَ مَرَاحِلَ (المَنْهَجِ العِلْمِيِّ) الأرْبَعِ، مَعَ مَا هُنَالِكَ مِنْ التَّنَابِيْهِ، والفَوَائِدِ، والعَزَائِمِ المَرْقُوْمَةِ فِي مَثَانِي (المَنْهَجِ العِلْمِيِّ)؛ فَهُو أهْلٌ للفَتْوَى، والتَّصَدُّرِ للدَّرْسِ والتَّعْلِيْمِ، وإنَّي عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِيْنِ، واللهُ خَيْرُ شَاهِدًا وحَافِظًا!".
    والله الموفق.

    يتبع إن شاء الله...

    (1) الرد على الجهميَّة والزنادقة لابن حنبل / 55.
    (2) الردود - الرد على المخالف من أصول الإسلام / 7.
    (3) المجموعة العلمية - التعالم وأثره على الفكر والكتاب / 7-8
    (4) التعالم - المجموعة العلمية / 9.
    (5) المصدر السابق / 11.
    (6) معالم في طريق طلب العلم / 83.
    (7) المصدر السابق / 86.
    (8) المصدرالسابق / 89.
    (9) صلاح الأمة في علوّ الهمّة 1/185.
    (10) سير أعلام النبلاء 7/229.
    (11) سير أعلام النبلاء 6/398.
    (12) صلاح الأمة 1/195.
    (13) سير أعلام النبلاء 8/108.
    (14) صيد الخاطر / 448-449.
    (15) نايف الشمري - صيد الفوائد.
    (16) حلية طالب العلم - المجموعة العلمية / 198.الفصل الثاني: المؤلفات في التعالم.


    للعلماء مصنفات في التعالم على ضربين، الأول: التأليف الخاص بهذه القضية، كـ"التعالم وأثره على الفكر والكتاب" للشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله-.
    الثاني: التأليف في آداب الطلب ومناهجه وغوائله، والتطرق لهذه القضية، كـ"معالم في طريق طلب العلم" لعبد العزيز السدحان.
    وعزمت في هذا الفصل أن أنقل "فصل المؤلفات" من كتاب "التعالم" للشيخ بكر كاملاً، مع إضافة ما وقع لي خلال تصفحي لبعض الكتب. والله الموفق.
    قال الشيخ بكر -رحمه الله-: "في كُتُب آداب المفتي، وكُتب آداب الحسبة، بُحوثٌ حافلةٌ، لا سيما في كِتَاب "مُعِيدِ النعمِ، ومبيد النِّقَمِ" للسُّبكي -رحمه الله تعالى- وفي هذا الكتاب شرور لا تخفى.
    وانظر في كتاب "تلبيس إبليس" لابن الجوزيِّ -رحمه الله-.
    وفي كتاب "فضل علمِ السَّلف على الخلف" للحافظ ابن رَجَب -رحمه الله تعالى- أبان عن مُثل في هذا، لا سيما كثرة التَّزيد في الكلامِ من المتأخِّرين، وأن الحال كما قال شيخهُ ابن القيِّم -رحمه الله تعالى-: (كلام المتقدمين قليلٌ كثير البركة، وكلام المتأخِّرين كثيرٌ قليل البركة).
    وللأديب علي بن يزيد البيهقي المتوفَّى سنة 565هـ -رحمه الله تعالى- رسالة باسم "تنبيه العلماء على تمويه المتشبِّهين بالعلماء".
    ومضى في المقدمة ذكر رِسَالَتَي النَّابلسي، والجزائري(1)، وللزياني المغربي المتوفَّى سنة 1249هـ رسالة باسم "تحفة النبهاء في التفرقة بين الفقهاء والسفهاء".
    وللشَّوكانيِّ –رحمه الله تعالى- "آداب الطَّلب ومنتهى الأرب".
    ولابن فكُّون الجزائري –رحمه الله تعالى- رسالة باسم "منشور الهداية في كشف حال من ادَّعى العلم والولاية".
    وللشَّيخِ محمد عبده منير أغا الدمشقي كتابه الحَفِيلُ "نموذجٌ من الأعمال الخيريَّة". كشف فيه عن عبث الورَّاقين، والكتبين، والمصحِّحين، في ثروة الأمة على حساب تعالمهم.
    ولمحمد بدر الدِّين الحلبيِّ –رحمه الله تعالى- كتابه النَّافع "التَّعليم والإرشاد" في مجلَّدين طبع عام 1324هـ بمطبعة السَّعادة بمصر، ولم أقفْ إلا على الأول منه. وهذا الكتاب مهمٌّ في بَابَيْه، ولو كان منتشراً لكفى، لكن لا بد من همسة في أذن المعاصرين من واقع الحياة المعاصرة، وفيها صدرت رسالة باسم "زجر السُّفهاء عن تتبُّع رخص الفقهاء" للأستاذ/ جاسم الدوسري.
    وفي "مجلة العرب" حلقات متتابعة في أعدادٍ منها بعنوان "الدَّكاترة وعبثهم في التراث" للأستاذ حمد الجاسر. انظرها تجد عجباً ممن وصلوا النِّهاية سكلياً لكنهم في الحقيقة خواء."(2)
    كتاب "التعالم" للشيخ بكر –رحمه الله تعالى-، ولعله من أخصِّ الكتاب في هذه القضية.
    ولشيخنا أبي حفص عمر بن حدوش الحدوشي –فرَّج الله كربته- كتاب اسمه "إتحاف الطالب بمنازل الطلب".
    وللدكتور عبد العزيز السدحان كتاب "معالم في طريق طلب العلم" من تقديم شيخنا/ عبد الله بن جبرين –رحمه الله-.
    وللإمام ابن الجوزيِّ –رحمه الله تعالى- فصول في كتابه "صيد الخاطر"، تكلم فيها عن هذه الآفة المهلكة.
    وقد ابتدأ الشيخ سليمان العلوان –فرَّجَ الله كربته- "إجابته المختصرة في التنبيه على حفظ المتون المختصرة" بالكلام على هذه المسألة المهمة.
    والله الموفق.

    يتبع إن شاء الله...

    (1) تُراجع المجموعة العلمية - التعالم / 7.
    (2) المجموعة العلمية - التعالم/15-16.

  • #2
    رد: تحذير الموحدين من المبتدئين في الطلب والمتعالمين

    الفصل الثالث: ظَوَاهِرُ التَّعَالُمِ(1).
    اعلمْ رَحمَكَ اللهُ تعالى أنَّه مَا منْ مُصيبةٍ وَلَا حتّى مَزيَّةٍ؛ إلّا ولها مَظاهرٌ وظَواهِر، والتَّعالمُ مِن جُملةِ المَصائبِ التّي بُليت بِها الْأمّة، فَركِبَهُ كلُّ ذِي دَعوى، وتَجنّبه كُلّ ذِي تَقوى، وَإنِّي أسوقُ مِن ظَواهِر التَّعالمِ مَا وَجدتُّهُ فِي مَواضِيعِ وَردودِ بَعضِ المُتعالمِينَ فِي الشَّبكةِ العَنكبوتيّةِ عُموماً، والمُنتدياتِ الجِهاديِّةِ خُصوصاً، مِمَّا وَضَّحَهُ العُلماءُ لِطلبةِ العِلمِ، وبَيّنوهُ لِرامِ النُّبوغِ وَالفَهمِ، وَأسألُهُ سُبحَانَهُ أنْ يُوفِّقَ وَيُعيْنَ.
    أوّلَاً: التَّعالمُ فِيْ الفُتْيَا؛ حَيثُ أنّهُ ظَاهِرٌ لكلِّ ذِيْ لُبِّ وجَنان، ولَا يَخفى إِلّا عَلى مَنْ كَانَ لَهُ مِنْهُ نَصيبٌ أَوْ وَسنان، فإنَّ [الفَتوى جَمرةٌ تَضطرمُ]، يَظهرُ للنّاسِ وَهَجُهَا وهِيْ إِلى رَمادٍ، [فَاسمَع مَا شِئتَ مِن فَتَاوى مُضّجعةٍ، محلولةِ العِقال؛ مبنيّةٍ على التَّجرِّي لَا التَّحرِّي، تُعنِتُ الخَلْقَ وَتُشجِيْ الحَلقَ، لَا تَقومُ على قَدمَيّ الحَقِّ، بَل ولَا عَلى قَدمَيّ بَاطِلٍ وحَقٍّ]، خَالِيةٌ عَلى عُروشِها مِن النَّفَسِ العِلمِيْ، والتَّأصِيْلِ الشَّرعِيْ، تَراهَا أقرَبُ إِلى مَهَزولِ الْإنشَاءِ الْأدَبيِّ مِنهَا إِلى الحُكمِ الشَّرعِيِّ، أَو تَراهَا ضَربَاً مِنْ الخَيالِ، يَسبحَ فِيهِ هَذَا المُتَعالمُ وَهُيَ فِي الحُدوثِ مُحال، أَو تَراهَا ذَاتُ عُجمَةٍ فِيْ كَلماتِهَا، مُترامِيةُ الْأطرافِ في ألفَاظِهَا، حَتَّى تَكاد تَجزِمُ بِأعجَميِّةِ المُتَكلِّمِ، لَولَا أنَّهُ عَربِيٌّ وِراثَةً هَذَا المُتَجَرِّمِ، أَو تَرَاهَا مُسَارعَةٌ وَالزَّمانِ فِي إِطلَاقِ الْأحكَام، وَيُفتِي فِي مَسائلَ لَو عُرِضت عَلى فَاروقِ الْأمّةِ لَجَمعَ لَهَا أَهلَ بَدِر، أَو تَرَاهَا خَبالَاً فِي خَبالٍ، لَا تَمّسُ لِلعِلمِ بِصِلةٍ، بَل إنَّ العِلمَ بَريءٌ مِنهَا بَراءةُ الذِئبِ مِنْ دَمِ يُوسُفَ –عَلِيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، فَتَراهُ يُخالفُ أَحكَامَ القُرآنِ، وَيُنَاقِضُ سُنَّةَ رَسولِ رَبِّ الْأنَامِ –صَلّى اللهُ عَلِيهِ وسَلّمَ-، وَيُضادُّ صَريحَ إِجمَاعِ أَهلِ الْإيمَانِ، [وَبَعضَهم فِي انتِظَارِ تَصرُّفِ وَلِيَّ أَمرِهِ لِتَبْرِيرِهِ عَلَى ضَوْءِ الشَّرعِ المُطَهَّرِ حَتَّى هَزَأَ بِهم كِبَارُ الْأُجَرَاءِ وَقَالُوا "فُتيَاً بِفَرخَةٍ!"].
    وَإنْ رُوجِعَ أَحدَهُمْ؛ لَمَا وَجدتَ إِلّا سُوءَ فَهمٍ وَضَعفُ دِيانَةِ وإيمَان، مُتجرِّئ عَلى الكَريمِ الرَحمَن، أَو إنْ بَيّنتَ لَهُ فَهمَ خَيرِ قَرِنٍ وَزَمَان، لَقَالَ هُم رِجَالٌ وهَا نَحنُ رِجَال! أَلَا بِئستِ الذُّكًورُ أنتُمُ، جَمعتُم الجَهلَ وَسُوءَ الفَهمِ مَعَ قِلَّةِ الْأدَبِ وَضعَفَ الهِمَمِ، أَو إنْ أوضَحتَ أنَّ فَتوَاهُ لَا تَعْرِفُ دِينَ اللهِ تَعالى أبَداً، فَهِيْ غَريْبةُ الدِّيارِ عَجِيبةُ الْإِسفَارِ، لَأرَغى وأزبَدَ، ثَمّ ثَغَى وَأرعَد، وَرَمَى أَهلَ الحَقِّ بِالجِهلِ والتَّعالمِ –وَهُوَ أَحرَى!-، وَقَذَفَهم بِعَدَمِ النُّضجِ فِي العُلُومِ وسُوءِ التّفَاهُم –وَهُو أَولَى!-.
    كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَجلِ [أَنَفةٍ عَنْ التَّجَاسُر عَلى صَرِفِ المُستَفتِي بِلَا جَوَابٍ]، فَتَجاسَر عَلى التَّوقِيعِ عَن رَبِّ الْأربَابِ، فَكَأنِّي بِهِ تَنَاسَى يَومَ يَقُومُ النَّاسُ لِلعَرضِ وَالحِسابِ، بَل –مِنْ فَرطِ تَعَالمِهِ- [قَدْ يَشرعُ فِي الجَوابِ قَبلَ استِكمَالِ السُّؤالِ، فَيُفتِيْ فِي وَقتٍ أَضيَقُ مِن بَيَاضِ المِيمِ، أَو مِن صَدرِ اللَّئِيمِ، بِمَا يَتَوّقَفُ فِيهِ شُيوخُ الْإسلامِ، وَأئمَّتُهُ الْأعلَامِ].
    وَمنْ مُستَلمحِ الشِّعرِ فِي وَصفِ هَؤلَاءِ النَّفر، [مَا قَالَهُ مَنصورٌ الفَقِيه:
    وَقَال الطَّانِزُونَ لَهُ فَقِيْهٌ
    ....................فَصَعَّدَ حَاجِبَيْهِ بِهِ وَتَاهَا
    وَأطرَقَ لِلمَسائِلِ أَيْ: بِأَنِّيْ
    ...................... وَلَا يَدرِي لَعَمرُكَ مَا طَحَاهَا!]
    وَمِثْلُهُ قَوْلُ أَبِيْ الْحَسَنِ عَلِيّ الفَالِي:
    تَصَدَّرَ لِلتَّدرِيسِ كُلّ مَهوَسٍ
    ....................... بَلِيدٌ تَسَمَّى بِالفَقِيهِ المُدَرِّسِ
    فَحُقَّ لِأَهلِ العِلمِ أَنْ يَتَمَثَّلُوا
    ...................... بِبَيْتٍ قَدِيمٍ شَاعَ فِيْ كُلِّ مَجلِسِ
    لَقَدْ هَزُلَتْ حَتَّى بَدَا مِنْ هَزْلِهَا
    ..........................كِلَاهَا وَحَتَّى سَامَهَا كُلُّ مُفْلِسِ
    قَالَ الْإمَامُ ابنُ القَيِّمِ –رَحِمَهُ اللهُ تَعالى- (قَالَ بَعضُ العُلمَاءِ: قَلَّ مَن حَرِصَ عَلى الفُتْيَا، وَسَابَقَ إِليهَا، وَثَابَرَ عَلِيهَا؛ إِلَّا قَلَّ تَوفِيقُهُ، وَاضَطرَبَ فِي أَمرِهِ)(2). وَذَكَرَ أَبُو عُمَر عَنْ مَالِكٍ: أَخبَرنِي رَجُلٌ أَنَّهُ دَخَلَ عَلى رَبِيعةَ فَوَجَدَهُ يَبكِي، فَقَالَ: مَا يُبكِيكَ؟ أمُصِيبةٌ دَخَلت عَلِيكَ؟ وَارتَاعَ لِبُكَائِهِ، فَقَالَ: لَا، وَلَكِن اسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ، وَظَهَرَ فِيْ الْإِسْلَامِ أَمرٌ عَظِيمٌ. قَالَ رَبِيعِة: وَلَبعَضُ مَن يُفتِي هَا هُنَا أَحَقُّ بِالحَبسِ مِنَ السُّرَّاقِ!
    قَالَ بَعضُ العُلَماء: فَكَيْفَ لَو رَأى رَبِيعةُ زَمَاننَا، وَإِقدَامَ مَن لَا عِلمَ عِنْدَهُ عَلى الفُتْيَا، وَتَوَثُّبهُ عَلِيْهَا، وَمَدَّ بَاعِ التَّكَلُّفِ إِلِيهَا، وَتَسَلُّقُهُ بِالجَهلِ وَالجُرأةِ عَلِيهَا، مَعَ قِلَّةِ الخِبرةِ وَسُوءِ السِّيرةِ، وَشؤمِ السَّرِيرةِ، وَهُوَ مِن بَينِ أهَلِ العِلمِ مُنكَرٌ أَوْ غَرِيبٌ؛ فَلِيسَ لَهُ فِي مَعرِفةِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارَ السَّلَفِ نَصِيبٌ، وَلَا يُبدِيْ جَوابَاً بِإحِسانٍ:
    يَمدُّونَ لِلْإِفتَاءِ بَاعَاً قَصِيرةً
    .......................وَأكثَرُهُم عِندَ الفَتَاوِيْ يُكَذْلِكُ(3).
    قُلتُ: رَحِمَ اللهُ رَبِيعةَ الرَّأي وَعُلمَاءنَا لَوْ أَدرَكَوا زَمَاننَا، لَمَاذَا قَالُوا! فَإِلى اللهِ المُشتَكى وَهُوَ خَيْرِ مُرتَجى.
    قَالَ الشَّيخُ بَكرٍ أَبُو زَيد –رَحِمَهُ اللهُ وغَفَرَ لَهُ- عَنْ ابنِ القَيِّمِ –رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- (وَهَذَا الضَّربُ إِنَّمَا يُسْتَفْتَوْنَ بِالشَّكلِ لَا بِالفَضْلِ، وَبِالمَنَاصِبِ لَا بِالْأَهلِيَّةِ، قَد غَرَّهُم عُكُوفُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ عَلِيهم، وَمُسَارَعَةُ أَجهَلُ مِنْهُم إِلَيهِم، تَعُجُّ مِنْهُم الحُقُوقُ إِلى اللهِ عَجِيْجَاً، وَتَضجُّ مِنْهُم الْأَحَكَامُ إِلَى مَنْ أَنْزَلَهَا ضَجِيْجَاً، فَمَنْ أَقَدمَ بِالجُرأةِ عَلى مَا لَيْسَ لَهُ بِأهلٍ مِنْ فُتْيَا أَوْ قَضَاءٍ أَوْ تَدرِيْسٍ؛ اِستَحَقَّ اِسمَ الذَّمِّ، وَلَمْ يَحِل قَبُول فُتْيَاهُ، وَلَا قَضَائِهِ، هَذَا حُكُمُ دِيْنِ الْإسلَامِ:
    وَإِنْ رَغِمَتْ أُنُوفٌ مِنْ أُنَاسٍ
    ........................ فَقُلْ يَا رَبِّ لَا تَرغُمْ سِوَاهَا)(4).
    وَعَنْ عُمَرَ الفَارُوق –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَد عَلِمتُ مَنْ يُهلِكُ النَّاسَ، إِذَا جَاءَ الفِقهُ مِنْ قِبَل الصَّغِير استَعصَى عَلِيهِ الكَبِير، وَإِذَا جَاءَ الفِقهُ مِنْ قِبَلِ الكَبِير تَابَعَهُ الصَّغِير فَاهتَدَيَا!
    وَقَالَ اِبنُ مَسعُودٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيرٍ مَا أَخَذُوا العِلمَ مِن أَكَابِرهم، فَإِذَا أَخَذوهُ عِنْ أَصَاغِرهم وَشِرَارَهُم هَلَكُوا.
    وَاختَلفَ العُلمَاءُ فِيمَا أَرَادَ عُمَر بِالصِّغَار؛ فَقَالَ اِبنُ المُبَاركِ: هُمْ أَهلُ البِدَعِ، وَهُوَ مُوَافَق؛ لَأنَّ أَهَلَ البِدَعِ أصَاغِر فِي العِلمِ. وَقَالَ البَاجِيّ: يُحتَمَلُ أنْ يَكونَ الْأصَاغِرُ مَنْ لَا عِلمَ عِنْدَهُ، قَالَ: وَقَدْ كَانَ عُمَر يَستَشِيرُ الصِّغَار –أَيْ صِغَارَ السِّن-، وَكَانَ القُرَّاءُ أهَلَ مَشُاورَتِهِ كُهُولَاً وَشُبَّانَاً. قَالَ: وَيُحتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِالْأصَاغِرِ مَنْ لَا قَدرَ لَهُ وَلَا حَال، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِنَبْذِ الدِّينِ وَالمُرُوءَةِ.(5).
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحمَد فِي رِوَايَةٍ المَروَزِيْ: لَيْسَ كُلُّ شَيءٍ يَنبَغِي أَنْ يُتَكَلَّمَ فِيْهِ، وَذَكَرَ أَحَادِيثَ النَّبِيِّ –صَلى اللهُ عَلِيهِ وَسلَّمَ- كَانَ يُسألُ فَيَقولُ: لَا أَدرِيْ، حَتَّى أسأَل جِبرِيل.
    وَقَالَ المَروَزِي: قُلتُ لِأبِي عَبدِ اللهِ –أَي اِبنُ حَنْبَل-: العَالِمُ يَظُنُّونَهُ عِنْدَهُ عِلمُ كُلِّ شَيءٍ! فَقَالَ: قَالَ اِبنُ مَسعُودٍ –رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: إِنَّ الذَّي يُفتِي النَّاسَ فِيْ كُلِّ مَا يَسْتَفْتُوْنَهُ لَمَجْنُون.
    وَقَالَ القَاسِمُ وَاِبنُ سِيرِينَ: لَأنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ جَاهِلَاً؛ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعلَم.
    وَقَالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيرٍ: وَيلٌ لِمَنْ يَقولُ لِمَا لَا يَعلَمُ: إِنِّيْ أَعلَمُ.(6).
    وَقَالَ الفريَابِيّ: كَانَ سُفيَان الثَّورِي إِذَا رأى هَؤلَاءِ النَّبطِ يَكتُبُونَ العِلمَ، تَغَيَّرَ وَجهُهُ، فَقلتُ: يَا أَبَا عَبدِ اللهِ! أَرَاكَ إِذَا رَأيتَ هَؤلَاءِ يَكتُبُونَ العِلمَ يَشتَدُّ عَلِيكَ، قَالَ: كَانَ العِلمُ فِي العَرَبِ وَفِيْ سَادَاتِ النَّاسِ، وَإِذَا خَرَجَ عَنهُمُ وَصَارَ إِلى هَؤلَاءِ النَّبَطِ وَالسَّفَلةِ غُيِّرَ الدِّينُ!
    وَعَنْ عَبدِ الرَّحمَنِ بنُ أَبِي لَيلَى –رَحِمَهُ اللهُ تَعالى- قَالَ: أَدرَكتُ عِشرِينَ وَمِائة مِنْ أَصَحابِ النَّبِيِّ –صَلَى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ- مِنْ الْأَنصَار، إِذَا سُئلَ أَحَدَهُم عَنْ الشَّيءِ أَحَبَّ أَنْ يَكفِيهِ صَاحِبهُ.
    وَعَنْ سُفيَانِ الثَّورِيّ –رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى- قَالَ: أَدرَكتُ الفُقَهَاءَ وَهُمْ يَكرَهُونَ أَنْ يُجِيبُوا فِي المَسَائِل وَالفُتْيَا، وَلَا يَفتُونَ حَتَّى لَا يَجِدُوا مِنْ أَنْ يُفتُوا.(7).
    وقَالَ اِبنُ مِفلِحٍ الحَنبَلِيّ: فَصلٌ فِي قَولِ العَالِمِ: لَا أَدرِي، وَاتِّقَاءِ التَّهجُّمِ عَلى الفَتوَى!
    وَمِمَّا يَجدُرُ الْإِشَارَةُ إِلَيهِ؛ أَنَّ [وَقَائعَ التَّارِيخ تُفِيدُ وَقْفَ الفُتْيَا عَلَى مَنْ أُذِنَ لَهُ دُوْنَ غَيْرِهِ، وَقَصْرَهَا عَلى أَقوَامٍ دُوْنَ آخَرِينَ]
    مِنْ هَذِهِ الوَقَائع: [مَا رَوَاهُ اِبنُ سِيْرِين أَنَّ عُمَرَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ لِابنِ مَسعُودٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- (نُبِّئْتُ أَنَّكَ تُفتِي النَّاسَ، وَلَستَ بِأَمِيْرٍ فَوَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا) قَال الذَّهَبِيُّ –رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بَعدَهُ: يَدُّلُ عَلى أَنَّ مَذْهَبَ عُمَرَ أنْ يَمْنَعَ الْإِمَامُ مَنْ أَفْتَى بِلَا إِذْنٍ].
    وَليُعلَمُ أَنَّ البُعدَ عَنْ التَّعالمِ فِي الفُتْيَا هُوَ الْأخُ الشَّقِيقُ لِمَقُولةِ "لَا أدرِي"، فَمَن تَرَكَ لَا أَدرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ –كَمَا قَالَ اِبنُ عَبَّاسٍ وَغَيرِهِ-.
    وَهَذا غَيْضٌ مِن فَيضٍ، وَإِلَّا فَظَاهِرَةٌ التَّعالمِ فِي الفُتِيَا عَمَّتِ الْأرجَاءَ، وطَمَّتِ الْأنحَاءَ، وَمَا لَمْ نُشِرْ لَهُ أَضعَافُ مَا أَشَرنَا لَهُ، وَاللهُ المُستَعانُ.
    مَلَاحَظَةٌ/ التَّعَالُمُ فِيْ الفُتْيَا هُوَ أُسُّ التَعَالُمِ فِيْ بَاقِيْ المَجَالَاتِ، وَلِذَلِكَ سَأختَصِرُ الكَلَامَ فِيْ بَاقِيْ الظَّواهِر.
    ثَانِيَاً: التَّعَالمُ فِيْ التّألِيفِ وَالتَّصنِيفِ؛ فَفِيْ هَذَا الزَّمَانِ الذَّيْ فَسِدَ أَهُلهُ، وَغُرِّبَت أَقمَارُهُ، وَرُمِسَت نُجُومُه، مَعَ اِنتِشَارِ التُّكنولوجيَا والْآلَاتِ الْإلكترُونيّةِ، وَالْإنفِتَاحِ المَعلُومَاتِيِّ الضَّخمِ؛ حَتَّى أَضحَى العَالمُ –كَمَا يَقُولُونَ:- قَريَةً صَغِيرةً، وَبَعْدَ أنْ صَارَتْ المُؤلَّفَاتُ عَلى كَثرتِهَا، وتَعَدُدِ فُنُونِهَا، سَهلَةَ الْاِقتِنَاءِ، يَسِيرةِ الحُصولِ، خَاصَّةً كُتُبُ أهَلِ العِلمِ الشَّرعِيِّ، مِنْ عُلومِ آلَةٍ وَعُلُومِ غَايَةٍ، وَتَوَافُرِ أُمَّاتِ الكُتُبِ العَرَبِيِّةِ وَالمَرَاجِعِ العِلمِيِّةِ وَالمَصَادِرِ الشّرعِيّةِ، مَعَ التَّحَقِيْقِ لِأكثَرِ هَذِهِ الكُتُبِ التِّي تَتضَمَّنُ التَّعلِيقَاتِ المُهِمِّة، وَالحَوَاشِي المُلِمَّة، وَالشُّرُوحَاتِ المُبَيِّنَة.
    مِمَّا يُسَهِّلُ لِلبَاحِثِ البَحثَ، وَيُيَسِّرُ لِلعَالِمِ مُرَاجَعةَ المَسائِلِ وَالمَبَاحِثِ، وَيُذَّلِلُ لِطَالِبِ العِلمَ الشّرعِيّ –وَغَيرَهُ- الوُصُولَ إِلَى مَا يَحتَاجُهُ مِنْ مُتُونٍ وَحَوَاشٍ وَتَعَالِيقَ وَشُرُوحٍ، فَيأخُذُ مِنهَا مَا لَذَّ وَطَابَ، وَيَجني مِنْهَا عَنَاقِيدَ الْإِفَادَةِ ومَا استَطَاب.
    وَهَذَا الْإنفِتَاحُ يَشتَرِكُ فِيْهِ العَالِمُ وَالجَاهِلُ، وَطَالبُ العِلمِ وَالرِّعَاعُ مِنْ النَّاس، وَالذَّكَرُ وَالْأُنثَى، وَالصَّغِيرُ وَالكَبِيرُ، وَالصَّبِيُّ وَالكَهلُ ... إِلخْ!
    فَلَا غَروَ حِيْنَئِذٍ مِنْ نَابِتةِ السُّوءِ أَنْ تُصَنِّفَ وَتُألِّفَ، وَتُصَحِّحَ وَتُخَطِّئ، وَتَتَعَالمُ بِحَشوٍ فِيمَا يَكتُبونَ، وفَرَاغٍ بِمَا يُسطِّرونَ، وَإنَّ كَتَبَةَ رَبِّيْ لَدَيهِم يَحفَظون!
    فَهَا هِيْ المَكتَبَاتُ مُكتَضَّةٌ مِنْ غَثِّ مَا يُسطِّرُ هَؤلَاءِ، مُزدَحِمةٌ مِنْ التَّآلِيفِ المَكرُورَةُ التِّيْ أَكَثرُهَا سَرِقَاتُ جُهُودِ الْآخَرِينَ، مِنْ عُلَمَاءٍ وَطَلَبةُ عِلمٍ وَمُصلِحيْن.
    قَالَ الشَّيخُ بَكرٍ أَبُو زَيدٍ: وَمِنْ سَمَاجَتِهِم؛ البِدَارُ إِلِى التَّألِيفِ فِي أَوَائِلِ الطَّلَبِ، ثُمَّ هُوَ يَرسُمُ عَلى طُرَّتِهِ: تَصنِيفُ أَبِي فُلَانٍ ... سَامَحَهُ اللهُ وَغَفَر لَهُ وَلِوَالِدَيهِ وَلِمشَايخِهِ، وَأعرِفُ مِنهُمْ مَنْ لَم يَدْرُس عَلى شَيْخٍ، وَلَكِنَّ هَذَا مِنْ شِدَّةِ التِّيه، وَالبَأْو وَالتَّمَشيُخ.(8).
    وَمَا أحَسَنَ قَولُ الْإمَامَ الْأوزَاعِيِّ –رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى- وَالذِّي نَقَلَهُ الشَّيخُ بَكر -بَعدَ كَلَامِهِ الْآنِف- عَن سِيَرِ الذَّهَبِيِّ –رَحِمَهُ اللهُ-، قَالَ (كَانَ هَذَا العِلمُ كَرِيمًا بِمُلَاقَاةِ الرِّجَالِ، فَلمَّا صَارَ فِيْ الكُتُبِ، صِرْتَ تَجِدَهُ عِنْدَ العَبْدِ وَالْأَعرَابِيّ)، أَوْ قَالَ –رِوَايَةُ أُخرَى-(كَانَ هَذَا العِلمُ شَيِئًا شَرِيفًا، إِذْ كَانَ مِنْ أَفوَاهِ الرِّجَالِ يَتَلَاقَونَهُ وَيَتَذَاكرُونَهُ، فَلَمَّا صَارَ فِي الكُتُبِ ذَهَبَ نُورُهُ، وَصَارَ إِلَى غَيرِ أَهلِهِ).(9).
    وَعَنْ أَبِيْ نَضرَة قَالَ: قِيلَ لِأبِي سَعِيدٍ –رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: لَوْ أَكْتَبتَنَا الحَدِيثَ، فَقَالَ: (لَا نُكْتبَكُم، خُذُوا عَنَّا كَمَا أَخَذنَا عَنْ نَبِيَّنَا صَلى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ)(10).
    وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكُ –رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى- (لَم يَكُنْ مَعَ اِبنِ شِهَابٍ –أَظُنُّه الزُّهرِيّ- كِتَاب! إِلَّا كِتَابٌ فِيهِ نَسبُ قَومِهِ)، قَالَ (وَلَم يَكُن القَومُ يَكتُبُونَ، إِنَّمَا يَحفَظُونَ، فِمَن كَتَبَ مِنهُمُ الشَّيءَ؛ فَإِنَّمَا كَانَ يَكتُبُهُ لِيحفَظَهُ، فَإِذَا حَفِظَهُ مَحَاهُ).
    وَعَن اِبنِ عَبَّاسٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ (إِنَّا لَا نَكتُبُ العِلمَ وَلَا نُكتِبَهُ-وَبِنَحوِهِ قَالَ أَبُو هُرَيرَة-)، وَكَانَ اِبنُ عَبَّاس يَنهَى عَنْ كِتَابةِ العِلمِ وَيَقُولُ: إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبلَكُم بِالكُتُبِ.
    وَصحَّ عَن اِبنِ مَسعُودٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَا ذَكَرهُ اِبنُ أَبِي شَيْبةَ عَنْ سُلَيمِ بنُ أَسوَدٍ قَالَ: كَانَ اِبنُ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَكرَهُ كِتَابةَ العِلم!
    وَعَنِ الشَّعبِيِّ قَالَ (مَا كَتَبتُ سَودَاءَ فِي بَيْضَاءَ قَط).
    وَعَنْ إِبرَاهِيمَ النَّخعِيّ قَالَ (لَا تَكتُبُوا فَتَتّكِلُوا)، وَقَالَ –رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى- (قَلَّ مَا كَتَبَ رَجُلٌ كِتَابَاً إِلَّا اِتَّكَلَ عَلِيهِ).
    فَائدَةٌ = قَالَهَا أَبُو عُمَر اِبنُ عَبدِ البَّرِّ المَالِكِيِّ: مَن كَرِهَ كِتَابَةَ العِلمِ إِنَّمَا كَرِهَهُ لِوَجهَين:
    أَحَدَهُمَا: أَنْ لَا يُتَّخَذ مَعَ القُرآنِ كِتَابٌ يُضَاهَى بِهِ.
    ثَانِيهُمَا: وَلِئَلَّا يَتَّكِلَ الكَاتِبُ عَلى مَا كَتَبَ، فَلَا يَحَفظُ فَيَقِلُّ الحِفْظُ!
    كَمَا قَالَ الخَلِيلُ –رَحِمَهُ اللهُ تَعالى-:
    لَيسَ بِعِلمٍ مَا حَوَى القِمَطْرُ
    ...................... مَا الِعلمُ إِلَّا مَا حَوَاهُ الصَّدرُ
    وَعَنْ اِبنِ بُشَيرٍ قَولَهُ:
    إِذَا لَم تَكُنْ حَافِظَاً وَاعِيَاً
    .................... فَجَمعُكَ لِلكُتُبِ لَا يَنفَعُ
    أَأحَضرُ بِالجَهلِ فِي مَجلِسٍ
    ...................... وَعِلمِيْ فِي الكُتُبِ مُستَودَعُ!
    وَعَنْ يُونُسِ بنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلَاً يُنشِدُ:
    اِستَودَعَ العِلمَ قِرطَاسَاً فَضَيَّعَهُ
    ............................ وَبِئسَ مُستَودِعَ العِلمَ القَرَاطِيسِ(11).
    فَيَا لَيتَ هَؤلَاءِ المُتَعَالِمينَ كَتَبُوا مَا نَهى عَنهُ أُولِئكَ العُلمَاءِ والْأئِمَّة، فَذَاكَ العِلمُ الْأصِيلُ، حَدِيثُ نَبَويّ، وَبَيَانٌ مِنْ صَحَابِيّ، وتِبيَانٌ مِنْ تَابِعيّ، هُم خَيرُ القُرونِ كَمَا أَخبَرَ الصَّادِقُ صَلى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ.
    وَلَكِن كَتَبُوا فِي عِلمِ الشَّرِيعةِ مَعَ مَا رَضَعُوهُ خَمسَاً مِنْ لِبَانِ الفِكِر الْأُورُوبِيِّ، فَخَلَطُواً عَمَلَاً صَالِحَاً وَآخَرَ سَيّئاً، وَأَخَذُوا هَذَا الصَّالِحَ فَتَكَلَّفُوا فِيهِ، وَعَجَنُوهُ بِمَنطِقِ أَرِسطُو، وَفَلسَفَةِ أَفَلَاطُون، فَغَدَا مُشَوَّهًا تَعَافُهُ النُّفُوسُ السَّويّة، وَتُجَافِيهِ العُقولُ العَبقَرِيّة ..
    فَمِنْ أَحَادِيثِ المَلَاحِمِ مِن حَدِيثِ اِبنِ مَسعود –رَضِيَ اللهُ عَنهُ- مَرفُوعًا (أنَّ مِنْ أشرَاطِ السَّاعةِ أَنْ يَظهَرَ القَلمُ) رواه أَحمدُ والبَزَّارُ وَغَيرِهِمَا، وَقَد فَشَى القَلَمُ وَارْتَشَى، وَهَذَا مِنْ مُعجِزَاتِ النُّبُوَّةِ.(12).
    قَالَ الشَّيخُ ذِيَابٌ الغَامِديّ –وَفََّقَهُ اللهُ تَعَالى- (فَعِنْدَ ذَلِكَ؛ كَانَ مِنَ الخَطأ البَيِّنِ رَصْفُ تِلْكَ العَنَاوِيْنِ الرَّابِضَةِ فَوْقَ بَعْضِ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ، والأطَارِيْحِ الجَامِعِيَّةِ كَقَوْلِهِم : العِلْمُ والإيْمَانُ، العِلْمُ والإسْلامُ، الإيْمَانُ مِحْرَابُ الطِّبِّ، الدِّيْنُ والعِلْمُ التَّجْرِيْبِيُّ، القُرْآنُ والإعْجَازُ العِلْمِيُّ ... وغَيْرُها مِمَّا هُوَ مِنْ زَبَدِ العُلُوْمِ الدَّخِيْلَةِ، والانْهِزَامِ الجَاثِمِ عَلَى عُقُوْلِ وأقْلامِ كَثِيْرٍ مِنَ كُتَّابِ المُسْلِمِيْنَ هَذِه الأيَّامَ! ومَا ذَاكَ الخَطَأُ الدَّارِجُ هُنَا وهُنَاكَ إلاَّ لِكَوْنِ القَوْمِ قَدْ ظَنُّوا بأنَّ العِلْمَ شَيْءٌ، والدِّيْنَ شَيْءٌ آخَرَ! لِذَا نَجِدُهُم يُفَرِّقُوْنَ بَيْنَ الدِّيْنِ والعِلْمِ، ومَا عَلِمُوا أنَّ الدِّيْنَ الإسْلامِيَّ هُوَ العِلْمُ، والعِلْمَ دِيْنٌ؛ فانْظُرُوا عَمَّنْ تَأخُذُوْنَ دِيْنَكُم!)(13).
    ثُمَّ قَالَ (ومِنْ آخِرِ نَحِسَاتِ أدْعِيَاءِ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ هَذِه الأيَّام، أنَّ نَابِتَةً مِنْهُم لَمْ تَزَلْ تَنْفُخُ فِي رَوْعِ شَبَابِ المُسْلِمِيْنَ بَعْضَ العُلُوْمِ التَّجْرِيْبِيَّةِ، الوَافِدَةِ مِنْ مُسْتَنْقَعَاتِ الفِكْرِ الغَرْبِي = الكَافِرِ، ضَارِبِيْنَ بِعُلُوْمِ وكُتُبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ عُرْضَ الحَائِطِ، مُزَاحِمِيْنَ مَا كَانَ عَلَيه المُسْلِمُوْنَ مِنْ الأمْرِ الأوَّلِ: إنَّها العُلُوْمُ الإدَارِيَّةُ، والنَّفْسِيَّةُ -البَرْمَجَةُ العَصَبِيَّةُ اللُّغَوِيَّةُ-، وغَيْرُها!
    فَلَيْتَ شِعْرِي؛ هَلْ نَسِيَ هُؤلاءِ –المُنْهَزِمُوْنَ- أنَّ الأمَّةَ الإسْلامِيَّةَ هَذِه الأيَّامَ فِي حَالٍ لا يُنَادَى وَلِيْدُها؟ مِنْ جَهْلٍ بِدِيْنِهِم، وتَفَرُّقٍ بَيْنَهُم، وضَعْفٍ لَدَيْهِم...؟!، فإنْ كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِهَذا؛ فلِمَاذا هَذِه العُلُوْمُ الدَّخِيْلَةُ الَّتِي تُرَوَّجُ وتُسَوَّقُ بَيْنَ شَبَابِ المُسْلِمِيْنَ؛ حتَّى أخَذَتْ -للأسَفِ!- أخَادِيْدَ فِي قُلُوْبِ بَعْضِ طُلابِ العِلْمِ!!)(14).
    قَالَ الشَّيخُ بَكر أَبُو زَيْد –رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى- (فَانظُر مِئَاتِ الرَّسَائلِ الجَّامِعيّةِ، وَالكُتُب الحُرّة بِمُقَارنَاتِهَا التِّي يَظهَرُ فِي العَدِيدِ مِنهَا: ضَعْفُ مَوقِفِ الكَاتِبِ = لِقُصُورِهِ مِن بَيَانِ ظُهُورِ حُكمِ الْإِسلَامِ فِي مَسَألةٍ مَا عَلى الدِّينِ كُلِّهِ)(15).
    وَيُرَاجَعُ لِزَامًا مَا قَالَهُ الشَّيخُ بَكر –رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى- فِي المَجمُوعَةِ العِلمِيِّةِ مِنْ صَفحَةِ [75] إِلَى صَفَحةِ [81]، فَفِيهَا تِريَاقُ السُّمُومِ، وَإِزَاحَةِ الهُمُومِ، وَكَشفِ الغُيُومِ!
    وقَالَ الشَّيخُ بَكر –رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى- مُنَبِّهًا طَالِبَ العِلمِ وَمُحَذِّرًا لَهُ: (كَمَا يَكُونُ الحَذَرُ مِن التَّألِيفِ الخَالِيْ مِن الْإِبدَاعِ فِيْ مَقَاصِدِ التَّألِيفِ الثَّمَانِيةِ، وَالذَّي نِهَايتُهُ "تَحَبِيرُ الكَاغَدِ"، فَالحَذَرُ مِن الْاشتِغَالِ بِالتَّصنِيفِ قَبلَ اِستكمَالِ أدَوَاتِهِ، وَاِكتِمَالِ أَهلِيّتكَ، وَالنُّضُوجُ عَلى يَدِ أشيَاخِكَ؛ فَإِنَّكَ تُسَجِّلُ بِهِ عَارًا، وَتُبدِي بِهِ شَنَارًا!)(16).
    قَالَ عَمرُو عَبدُ المُنعِمِ فِي تَعلِيقِهِ عَلى شَرحِ الحِليَة (كَثِيرٌ مِن المُصَنَّفَاتِ اليَومَ خَالِيةٌ مِن الْإِبدَاعِ وَالتَّجدِيدِ، وَالغَوصِ عَلى مَكنُونِ الفَوَائد وَالفَرَائد، لَا سِيَّمَا مَعَ تَفَشِّي التَّقلِيد، أَو النَّقَل بِلَا عَزوٍ عَنْ الْآخَرِينَ الذِّي هُوَ أُخَيِّ السَّرِقةِ العِلميِّة، وَكَم مِنْ رَسَائلَ وَأُطرُوحَاتٍ لِنَيلِ الدَّرجَاتِ العِلمِيِّة لَيسَتْ إِلَّا حِبرًا عَلى وَرَقٍ، لَمْ يأتِ فِيهَا صَاحِبهَا بِجَديدٍ، بَل هُو نَقلٌ مَحضٌ، وَأمَّا التَّجدِيدُ فِي التَّصنِيفِ فَهُو عُملةٌ نَادِرةٌ!)(17).
    وَقَالَ عَبدُ اللهُ العُتَيّق (و لَقَدْ بُلِيْنَا في هذا الزمان بِقِلَّة المُطَّلِعِيْن على الكُتُبِ، بل بُلِيْنَا بِكثْرَةِ الكُتُبِ التي تَتَّسِمُ بـ"الغُثُوْثَة"، ولأجلِ ذا كان الانصرافُ عن المُطَالَعة)(18).
    قَالَ الشَّيخُ أَحمَد الحَازِمِيّ –وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالى- مُستَهزِئًا بِأصحَابِ شَهَادَاتِ الزُّورِ الجَامِعيِّة (اِبنُ حَجَرٍ مِثَالٌ مُعتَبَرٌ لِلمُتَأخِّرِينَ, فَلَو نَظَرتَ إِلى الفَتحِ, تَجِدُ كُلَّ العُلُومِ. وَالمَسَاكِينُ فِي الجَامِعَاتِ, تَجِدُ رِسَالةَ: "الْأَحَادِيثُ التَّي سَكَتَ عَنهَا اِبنُ حَجَر"، "القَوَاعِدُ الْأُصُولِيَّةُ فِي فَتْحِ البَارِي"، "القَوَاعِدُ الفِقهِيِّةُ فِي فَتحِ البَارِي"، "أَقوَالُ التَّفسِيرِ لِابنِ حَجَر فِيْ فَتحِ البَارِي"، "لُغَةُ اِبنُ حَجَر فِي فَتحِ البَارِي"، عَشَرَاتُ الرَّسَائِلِ فِي فَتحِ البَارِي!)(19).
    فَاللهُ المُستَعانُ عَلى مَا نَجِدُ مِنْ تَرَفٍ فِكِرِيٍّ، وَنَزِيفٍ عَقلَانِيٍّ، فِي كَثِيرٍ مِنْ مَا بَيْنَ دَفَّتَيّ كِتَابَاتِ هَذَا العَصْرِ، إِلَّا مَا وَمنْ رَحِمَ رَبُّ العِالَمِينَ، فَيكفِيكَ أَنْ تَنظُرَ فِيْ فَهَارِسِ بَعضِ المِكَتَباتِ المُهتَمَّةِ بِفِهَرَسَةِ الكُتُبِ، لِتَرَى الهَالةَ الوَرَقِيِّة التِّي تَعلُو رُفُوفَ المَكَتَبَاتِ، وَيَعلُوهَا الْأَترِبَةُ وَالْأَغبِرة! وَإِنَّ بَعضَ الكِتَابَاتِ؛ لَلحِبِرِ الذِّي كُتِبَت بِهِ أَثمَنُ مِنهَا وَأَغَلى، حَيثُ سَقَمُ العِبَارةِ، وَقَرضُ النُّقُولِ وَاجتِزَائِهَا، وَسَرِقَةُ الْأفَكَارِ وَالتَّفرِيعَاتِ، وَوَاهِي الْاستِدلَالِ وَالتَّقرِيرَاتِ، وَالتَّجَرُؤ عَلى أَسَاطِينِ العُلمَاءِ سَالِفًا وَحَاضِراً، وإِلَى بَارِي البَرِيِّةِ المُشتَكَى مِنْ هَؤلِاءِ، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}!
    ثَالِثًا: التَّعَالُمُ فِي التَّدرِيسِ وَالتَّنظِيرِ وَالْإِفتَاءِ؛ حَيْثُ بَلِيِّةِ الزَّمَانِ وَمُصِيبتُهُ، وَآيَةُ اِقتِرابِ السَّاعِةِ وعَلَامَتُهُ، فَذَهَابُ العُلَمَاءِ، وَفَسَادُ الْأُمَرَاءِ، وَكَثرَةُ الرِّعَاعِ وَالْجُرَجَاءِ، وَتَصِييرُ أَهلِ العِلمِ سُجَنَاءِ، وَتَكمِيمُ أهَلِ الحَلِّ وَالعَقدِ مِنْ الفُضَلَاءِ، كَانَ ذَلِكَ فَتحُ مَجَالِ الدَّرسِ لِمَنْ هَبَّ وَدَبَّ، يُوَقِّعُ عَنْ اللهِ تَعَالَى بِمَا اِشتَهَى، وَمَا وَافَقَ النَّفسَ وَالهَوَى، وَمَا حِيلَةُ عَوَامِ النَّاسِ إِلَّا إِتِّبَاعَ كُلِّ نَاعِقٍ، يَقُولُ مِنْ قَولِ خَيْرِ البَّريِّةِ –وَإِنْ كَانَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُم!-، فَأَكثَرُ النَّاسِ يَصِحُّ أَنْ يَوصَفُونَ بِأَنَّهُم إِمَّعَاتٌ، مَنْ أَفتَى بِشيءٍ تَبِعُوهُ وَلَوْ خَالفَ بِهِ الشَّرعَ وَالعَقَلَ،
    رَوَى البُّخَارِيّ وَمُسلِمٌ –رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى- عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرُو –رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقَ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِعِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.
    وَعِندَ مُسلمٍ –رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى- مِن حَدِيثِ أَنَس بنِ مَالِكٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَلِيهِ وَسلَّم: مِنْ أَشرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرفَعَ العِلمُ، وَيَثبُتَ الجَهلُ. الحَدِيث!
    قَالَ اِبنُ حَجَر فِي فَتحِ البَارِي (وَفِي هَذَا الْحَدِيث الْحَثّ عَلَى حِفْظ الْعِلْم، وَالتَّحْذِير مِنْ تَرْئِيس الْجَهَلَة، وَفِيهِ أَنَّ الْفَتْوَى هِيَ الرِّيَاسَة الْحَقِيقِيَّة، وَذَمَّ مَنْيُقْدِم عَلَيْهَا بِغَيْرِ عِلْم، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُور عَلَى الْقَوْلبِخُلُوِّ الزَّمَان عَنْ مُجْتَهِد وَلِلَّهِ الْأَمْر يَفْعَل مَا يَشَاء)(20).
    وَقَالَ –رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى- (وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامةَ مِنْ الفَائِدةِ الزَّائِدةِ: أَنَّ بَقاءَ الكُتُب بَعدَ رَفعِ العِلمِ بِمَوتِ العِلمَاءِ لَا يُغنِي مَن لَيسَ بِعَالِمٍ شَيئًا؛ فَإِنَّ فِي بَقِيّتِهِ: "فَسَأَلهُ أَعرَابِيّ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَيفَ يُرفَعُ العِلمُ مِنَّا وَبَينَ أظهُرِنَا المَصَاحِفُ، وَقَدْ تَعَلَّمنَا مَا فِيهَا وَعلَّمنَاهَا أَبنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَخَدَمَنَا؟ فَرَفَعَ إِلِيهِ رَأسَهُ وَهُوَ مُغضَبٌ فَقَالَ: وَهَذِهِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى بَينَ أَظهُرِهُمُ المَصَاحِفُ، لَمْ يَتَعَلَّقُوا مِنهَا بِحَرفٍ فِيمَا جَاءَهُم بِهِ أَنبِيَاؤهُم")(21).
    ثُمَّ قَالَ (لَكِنْ لِغَلَبَةِ الجَهلِ يُقَدِّمُ أَهلَ الجَهلِ أَمثَالَهُم، وَإِلِيهِ الْإِشَارةُ بِقَولِهِ "اِتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا"، وَهَذَا لَا يَنفِي تَرِئيسَ بَعضِ مَنْ لَم يَتَّصِفُ بِالجَهلِ التَّامِّ. –قَالَ:- وَقَد أَخرَجَ اِبنُ عَبدِ البَّرِّ فِي كِتَابِ العِلمِ مِنْ طَرِيقِ عَبدُ اللهِ بنِ وَهبٍ –وَسَاقَ السَّندَ- حَدَّثَنَا درَاج أَبُو السَّمح يَقُولُ: "يَأتِي عَلى النَّاسِ زَمَانٌ يُسَمِّنُ الرَّجُلَ رَاحِلتَهُ حَتَّى يَسِيرُ عَلِيهَا فِي الْأمصَارِ يَلتَمِسُ مَنْ يُفتِيهِ بِسُنَّةٍ قَدْ عَمَلَ بِهَا! فَلَا يَجِدُ إِلَّا مَنْ يُفتِيهِ بِالظَنِّ")(22).
    وَقَالَ –عَلِيهِ رَحمَةُ اللهِ تَعَالَى- (وَفِي الحَدِيثِ: الزَّجرُ عَن تَرئِيسِ الجَاهِلَ لِمَا يَتَرتَّبُ عَلِيهِ مِن المُفسَدةِ، وَقَدْ يَتَمسَّكُ بِهِ مَنْ لَا يُجِيزُ تَولِيةَ الجَاهِلَ بِالحُكمِ، وَلَو كَانَ عَاقِلًا عَفِيفًا...إلخ)(23).
    وَقَالَ السَّخَاويُّ –رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- نَقَلًا عَن بَعضِ أَئمَّةِ الحَدِيثِ (وَأمَّا إِذَا كَانَ عَلى رَأسِهِ طَيْلَسَانُ، وَفِي رِجْلَيْهِ نَبْلَان، وَصَحِبَ أَمِيرًا مِن أُمَرَاءِ الزَّمَانِ، أَو مَنْ تَحلَّى بِلؤلُؤٍ وَمَرجَانٍ، أَو بِثِيابٍ ذَاتِ أَلوَان، فَحَصل تَدْرِيسَ حَدِيثٍ بِالْإِفكِ وَالبُهتَانِ، وَجَعَلَ نَفسَهُ لُعبَةً لِلصِّبيَانِ، لَا يَفهَمُ مَا يُقْرَأ عَلِيهِ مِن جُزِءٍ وَلَا دِيوَانٍ، فَهَذَا لَا يُطْلَقُ عَلِيهِ اِسمُ مُحَدِّثٍ بَل وَلَا إِنسَانٍ، وَإِنَّهُ مَعَ الجَهَالَةِ آكِلُ حَرَام، فَإِنْ استَحَلَّهُ خَرَجَ مِنْ دِينِ الْإِسَلَامِ!)(24).
    قَالَ الشَّيخُ بَكر –رَحِمَهُ اللهُ تعَالَى- (وَمِنْهَا: أفَاعِيلُ أُغَيْلِمَةٍ أَخَذوا يُقَهْقِهُونَ عَلى كَرَاسِي التَّعلِيمِ بِغَرَائِبَ يُبدُونَهَا أَو يَبتدؤنَ اِخترَاعَهَا، فَشَغَلُوا أهلَ العِلمِ بِصدِّهَا وَافتِرَاعِهَا. اِمتَطَوا بِيدَاءَ الكَذِبِ، وَهِيَ قَاعٌ صَفْصَفٌ لَا تَنتَهِي أطرَافُهَا، وَسَالِكُهَا لَا يَبرَحُ مَكَانَهُ، ظَنَّ المِسكِينُ أَنَّهُ قَدْ رَكِبَ نَفسَهُ فَسَارتْ بِهِ إِلى سَاحةِ العِلمِ وَرِيَاضِهِ، لَكِنَّ وَاقِعَ حَالِهِ أنَّ نَفسَهُ قَدْ رَكِبَتْهُ وَنَازَعَتْهُ، فَكُلَّمَا أرَادَ أنْ يَسِيرَ إِلَى الْأَمَامِ خُطوةً جَرَّتْهُ إِلَى الوَرَاءِ خُطُوَاتٍ، فَأضحَى فِيْ رَابِعةِ النَّهَارِ عُرْيًا عَن الفَضَائِلِ، وَاضْمَحَلَّ بَينَ المَلَا كَضَرطَةِ عِيْرٍ فِيْ العَرَاءِ!)(25).
    وَقَالَ فِي حِليةِ طَالِبِ العِلمِ عِنْدِ ذِكْرِ الْمَحَاذِيرِ (اِحذَرِ التَّصَدُّرَ قَبلَ التَّأهُلِ؛ فَهُوَ آفَّةٌ فِي العِلْمِ وَالعَمَلِ. وَقَدْ قِيلَ: مَنْ تَصدَّرَ قَبْلَ أَوَانِهِ؛ فَقَد تَصدَّى لِهَوَانِهِ)(26).
    قَالَ الشَّيخُ مُحَمَّد الصَّالحِ العُثَيمِين –رَحِمَهُ اللهُ وَغَفَرَ لَهُ- شَارِحًا قَوْلَ الشَّيخ بَكر (الثَّالِثُ: إِنَّهُ إِذَا تَصَدَّرَ قَبْلَ أنْ يَتَأهَلَّ، لَزِمَهُ أنْ يَقُولَ عَلى اللهِ مَا لَا يَعلَم! لِأَنَّ غَالِبَ مَنْ كَانَ هَذَا قَصدُهُ = الغَالِبُ أَنَّهُ لَا يُبَالِي أنْ يُحَطِّمَ العِلمَ تَحطِيمًا وَأنْ يُجِيبَ عَنْ كُلِّ مَا سُئِلَ عَنْهُ.
    الرَّابِعُ: أَنَّ الْإِنسَانَ إِذَا تَصَدَّرَ فَإِنَّهُ فِيْ الغَالِبِ لَا يَقبَلُ الحَقَّ؛ لِأنَّهُ يَظُنُّ بِسَفَهِهِ أَنَّهُ خَضَعَ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ الحَقَّ كَانَ هَذَا دَلِيْلًا عَلى أَنَّهُ لَيسَ بِأهلٍ فِي العِلمِ)(27).
    عَلَّقَ عَمْرُو عَبدِ المُنْعِمِ عَلى قَوْلِ الشَّيخِ اِبنِ عُثَيْمِيْنَ (التَّصَدُّرُ قَبْلَ التَّأهُلِ آفَّةُ الغَالِبِ مِنْ طُلَّابِ العِلمِ اليَوَمَ –إِلَا مَنْ رَحِمَ رَبِّي-، وَهَذَا يُورِثُ الحَدَثَ التَّسرّعَ فِي الفُتيَا، وَالجُرأةَ عَلِيهَا، وَالخُروجُ بِالشَّاذِّ مِنْ الْأَقوَالِ التِّي لَمْ يَقُل بِهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، بَلْ لَرُبَّمَا دَفَعَهُ ذَلِكَ إِلى الْاِحتِيَالِ فِيْ دِينِ اللهِ، وَالعِيَاذُ بِاللهِ)(28).
    وَقَالَ أَحمَد الحَازِمِيِّ –وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى- (فِيْ الزَّمَنِ الحَادِثِ يَقُولُ –أَي طَالِبُ العِلمِ- "أُرِيدُ التَّخَصُّصَ فِي الفِقهِ لِأَنِّي أُحِبُّهُ"، هُوَ مَا رَأَى الفِقْهَ لَكِنَّهُ يُحِبُّهُ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، أَو َيَقُولُ "أُحِبُّ عِلمَ الحَدِيثِ" وَقَد لَا يَسْتَطِيْعُ عَدّ عَشْرَةَ رِجَالٍ مِنْ أَئِمِّةِ أَهلِ الحَدِيثِ أَوْ عَدِّ عَشْرَةِ كُتُبٍ لٍأًهلِ الحَدِيثِ, هُنَا تَأتِي البَلِيِّةُ, فَقَدْ يَسْتَمِرُّ فِي هَذَا العِلمِ, وَيَتَمَكَّنُ مِن بَعْضِ مَسَائِل! فَيَظُنُّ أَنَّهُ مِن أَهلِ العِلمِ فَيُفْتِي وَيُدَرِّسُ, ثُمَّ تَأتِي المَصَائِبُ تَأتِي الشُّذُوذَاتُ, وَسَبَبُهُ التَّخَصُّصُ وَهُوَ بِدْعَةٌ فِيْ هَذَا المَفْهُومِ، وَتَرَى الفَوْضَى كَمَا فِي الفَضَائِيِّاتِ!)(29).
    فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ يَجِدُونَ أَنفُسَهُم هَؤلَاءِ عِنْدَ مَلِيكِهِم، وَكَيْفَ بِهِم إِذَا جَاؤوا حَوْضَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ-، وَكَيْفَ بِهِم إِذَا عُرِضُوا عَلَى رِبِّهم، وَكَيْفَ تَجِدَهُم إِذَا جِيءَ بِجَهَنَّم لَهَا تَغَيّظًا وَزَفِيرًا، بَل كَيْفَ بِهِم إِذَا ضُرِبَ الصِّراط! فَاللهمُ سَلِّم سَلِّم ..
    صَدَقَ أَبُوْ الْحَسَنِ عَلِيّ الفَالِي حِينَ قَالَ:
    تَصَدَّرَ لِلتَّدرِيسِ كُلّ مَهوَسٍ
    ........................ بَلِيدٌ تَسَمَّى بِالفَقِيهِ المُدَرِّسِ
    فَحُقَّ لِأَهلِ العِلمِ أَنْ يَتَمَثَّلُوا
    ....................... بِبَيْتٍ قَدِيمٍ شَاعَ فِيْ كُلِّ مَجلِسِ
    لَقَدْ هَزُلَتْ حَتَّى بَدَا مِنْ هَزْلِهَا
    ......................... كِلَاهَا وَحَتَّى سَامَهَا كُلُّ مُفْلِسِ(30)


    رَابِعًا: التَّعَالُمُ فِي الرُّدُودِ؛ هَذَا وَإِنْ كَانَ أَقَلُّ مِنْ غَيْرِهِ، فَهُوَ كَذَلِكَ يَنْدَرِجُ فِيْمَا سَبَقَ مِنْ مَبَاحِثِ ظَوَاهِرِ التَّعالُمِ، وَكَثِيرٍ مَا هُوَ فِيْ كِتَابَاتِ أَهلِ البِدَعِ وَالْأَهَواءِ، كَمَا تَجِدُوهُ فِيْ رَدِّ حَسَنِ الحَلَبِيّ عَلَى فَتوَى اللَّجنَةِ الدَّائِمةَ! وَهَذَا مُجَرَّدُ ضَرِبٍ لِلمِثَالِ، فَثَمَّ كَثِيْرٌ مِمَّا يَضِيقُ عَنْهُ الحَال!
    وَبَعضَهُ مَا هُوَ فِيْ مُتَعَالِمِي أَهلِ السُّنَّةِ، مِنْ مَنْ اِستَهوَتهُ الشَّيَاطِينُ عَنْ رِيَاضِ الجِنَانِ، حِلَقُ ذِكِرِ الرّحِيمِ الرَّحمَنِ، وَمُدَارَسةَ حَدِيثِ النَّبِيِّ العَدنَانِ، وَشَرحِ مَا غَمُضَ مِن أَقوَالِ أهَلِ الذِّكِرِ وَالْإِيمَانِ.
    فَمِنْ ظُلُمَاتِ التَّعَالُمِ فِيْ الرُّدُودِ أَنَّ بَعْضَهُمُ يَأتِيْ لِيَرُدَّ عَلِى أَحَدِهِم، وَيَكُونُ مَعَهُ الحَقُّ؛ فَتَجِدَهُ يَهرِفُ بِمَا لَا يَعرِفُ، وَيُشِّرقُ وَيُغَرِّبُ، فَيَخُوضُ فِيمَا لَا يُحسِنُ، فَيُضَيّعُ الحَقَّ الذَّي مَعَهُ، وَيُقَوِّي حُجَّةَ المُبطِل!
    وَقَدْ يَأتِي بَعضَهُم بِنُقولٍ هِيْ فِي صَالحِ مَنْ يَرُدُّ عَلِيهِ، وَبَعْضُهُم لَا يُجِيدُ فَنَّ الجِدَالِ وَالمُنَاظَرةِ، فَيَفِلُّهُ المُبطِلُ ذُو اللِّسانِ، فَيَفتِنَهُ عَنْ الحَقِّ بَعدَ أَنْ كَانَ عَلِيْهِ!
    فَإِلى اللهِ شَكوَى أهَلَ هَذَا الشَّأنِ، فَمَا أَكَثرَهم لَا كَثَّرهُمُ اللهُ، وَمَا أَسرَعَ قَولَهُم أَبطَأهُمُ اللهُ.
    وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ!
    خَامِسًا: التَّعَالُمُ فِي المُنَاظَرةِ؛ وَهَذَا قَلِيلٌ مِنْ قَلِيلٍ، وَلَكنَّهُ مَوجُودٌ، وَلَا يُنكَرُ، فَكُمْ مِنْ مُنَاظِرٍ لِأهلِ الْأديَانِ تَنَصَّرَ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَتَعلّم دِينَهُ، وَلَمْ يَعرِف عَقِيدَتُه، وَلمِ يَتَعرَّف عَلى فِقهِ شَرِعَتِهِ، فَأَكَبَّ عَلى مَا لَا يُحسِنُ، فَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَمَا بَعدَ الهُدَّى إِلَّا الضَّلَال!
    وَكَمْ مِنْ مُنَاظِرٍ صَارَ مِنْ أهَلِ الْأهَواءِ وَالبِدعِ، بَعدَ أنْ كَانَ مِنْ أهَلِ السَّنِّةِ وَمُتَابعَةَ الشَّرع، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ قِلِّةِ عِلمِهِ وَجُرأتِهِ –نَسَألُ اللهَ السَّلَامةَ!-، وَقَدْ سَمِعتُ الشِّيخَ أَبَا اِسحَاقٍ الحُوِينِيِّ فِيْ أَحَدِ أشرِطَتِهِ يَتَحدَّثُ عَنْ حَالِ أُولَئِكَ النَّفر، وَكَمْ جَاؤوا يَسألونَهُ فِيْ أَسَهَلِ مَسائِلِ الدِّينِ وَأيسَرَهَا، وَكَيفِيَّةَ الرَّدِّ عَلى الشُّبَهِ التِّي أثَارَهَا أهلُ الكِتَابِ وَأهلُ الْأَهوَاءِ عَلِيهِ!
    واللهُ المُستَعانُ وَعَلِيه –سُبحَانَهُ- التُّكَلَانُ.
    يتبع ...!
    (1) عُمدَةُ هَذَا الفصلِ هُوَ كِتَابِ التَّعالمِ لِلشَّيخِ بَكر أَبُو زَيْد –رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، وَسَتِجِدُ خِلَالَ النَّصِّ هَذِهِ الْإِشَارة [ ] وَهِيَ تَدُّلُ عَلى أَنَّهَا مُقتَبَسةُ مِن كِتَابِ التَّعَالمِ.
    (2) بَدَائعُ الفَوَائدُ 3/277 = عَنْ حَاشِيةِ كِتَابِ التَّعَالُمِ.
    (3) المَجمُوعةُ العِلمِيِّةُ لِبَكرٍ أَبُو زَيْدٍ 40-41.
    (4) السَّابِقُ 41.
    (5) السَّابِقُ 43-44.
    (6) الْآدَابُ الشَّرعِيّةُ 2/64-69 = عَنْ كِتَابِ مَعَالمُ فِي طَلَبِ العِلْمِ لِلسَّدحَانِ.
    (7) التَّعلِيقُ الثَّمِينُ عَلى شَرِحِ اِبنُ عُثِيْمِيْنَ عَلى حِليَةِ طَالِبِ العِلمِ لِعَمْرُو عَبْدِ المُنْعِم 86.
    (8) المَجمُوعةُ العِلمِيّةُ 58.
    (9) جَامِعُ بَيَانِ العِلمِ وَفَضْلِهِ لِأَبِيْ عُمَرَ المَالِكِيِّ 290.
    (10) السَّابِقُ 272.
    (11) السَّابِقُ 294 وَمَا قَبْلَهُ.
    (12) المَجمُوعةُ العِلمِيِّةُ 27.
    (13) المَنْهَجُ العِلْمِيّ –نُسخَةُ مِنْ مَوقِعِ الشَّيخِ- 70.
    (14) السَّابِقُ 72.
    (15) المَجمُوعَةُ العِلْمِيَّةُ 73.
    (16) السَّابِقُ عَنْ حِلْيَةِ طَالِبِ العِلْمِ 199.
    (17) التَّعلِيقُ الثَّمِينُ 388-389.
    (18) النَّقَائصُ العِلميِّةُ –نُسخَةٌ إِلكترُونِيّة- 13.
    (19) المِنْهَجِيِّةُ فِي طَلَبِ العِلْمِ / مَادَّةٌ صَوتِيِّةٌ.
    (20) فَتْحُ البَارِيْ لِلحَافِظِ اِبْنِ حَجَر العَسْقَلَانِيّ 1/343.
    (21) السَّابِقُ 17/188.
    (22) السَّابِقُ 17/189.
    (23) السَّابِقُ 17/190.
    (24) المَجمُوعةُ العِلْمِيَّةُ نَقْلًا عَنْ فَتْحِ المُغِيْثِ 66.
    (25) السَّابِقُ 67.
    (26) السَّابِقُ عَنْ حِليَةِ طَالِبِ العِلْمِ 198.
    (27) التَّعْلِيقُ الثَّمِيْنُ 385.
    (28) السَّابِقُ 385-386.
    (29) المِنْهَجِيِّةُ فِي طَلَبِ العِلْمِ / مَادَّةٌ صَوتِيِّةٌ.
    (30) عَنْ إِجَابَةِ الشَّيخِ العَلوَانِ المُخْتَصَرةِ.

    تعليق


    • #3
      رد: تحذير الموحدين من المبتدئين في الطلب والمتعالمين

      بارك الله فيك

      لنا عودة للمتابعة
      أيها العضو الصديق لا بأس أن تؤيد رأيك بالحجة و البرهان .....

      كما لا بأس أن تنقض أدلتي ، وتزييف مما تعتقد أنك مبطل له
      .....

      لكن هناك أمر لا أرضاه لك أبدا ما حييت ، ولا أعتقد أنه ينفعك
      ؟

      الشتم و السباب

      تعليق

      يعمل...
      X