جيل قرآني فريد
سيّد قطب
سيّد قطب
هنالك ظاهرة تاريخية ينبغي أن يقف أمامها أصحاب الدعوة الإسلامية في كل أرض وفي كل زمان، وأن يقفوا أمامها طويلا، ذلك أنها ذات أثر حاسم في منهج الدعوة واتجاهها.
لقد خرجت هذه الدعوة جيلا من الناس - جيل الصحابة رضوان الله عليهم - جيلا مميزا في تاريخ الإسلام كله وفى تاريخ البشرية جميعه، ثم لم تعد تخرج هذا الطراز مرة أخرى. نعم وجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ، ولكن لم يحدث قط أن تجمع مثل ذلك العدد الضخم، في مكان واحد، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة.
هذه ظاهرة واضحة واقعة، ذات مدلول ينبغي الوقوف أمامه طويلا، لعلنا نهتدي إلى سره.
إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه العملي، وسيرته الكريمة، كلها بين أيدينا كذلك، كما كانت بين أبدي ذلك الجبل الأول، الذي لم يتكرر في التاريخ. ولم يغب إلا شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل هذا هو السر؟ لو كان وجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حتميا لقيام هذه الدعوة، وإيتائها ثمراتها، ما جعلها الله دعوة للناس كافة، وما جعلها آخر رسالة، وما وكل إليها أمر الناس في هذه الأرض، إلى آخر الزمان. ولكن الله سبحانه تكفل بحفظ الذكر، و علم أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمكن أن تؤتي ثمارها، فاختاره إلى جواره بعد ثلاثة وعشرين عاما من الرسالة، وأبقى هذا الدين من بعده إلى آخر الزمان. وإذن فإن غيبة شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفسر تلك الظاهرة ولا تعللها.
فلنبحث إذن وراء سبب آخر، لننظر في النبع الذي كان يستقي منه هذا الجيل الأول، فلعل شيئا قد تغير فيه، ولننظر في المنهج الذي تخرجوا عليه، فلعل شيئا قد تغير فيه كذلك.
كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن، ألقرآن وحده، فما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه إلا أثرا من آثار ذلك النبع، فعندما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: "كان خلقه القرآن"
كان القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه، ويتكيفون به، ويتخرجون عليه، ولم يكن ذلك كذلك لأنه لم يكن للبشرية يومها حضارة، ولا ثقافة، ولا علم، ولا مؤلفات، ولا دراسات... كلا! فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه، أو على امتداده، وكانت هناك مخلفات الحضارة الإغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها، وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم، وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك، وحضارات أخرى قاصية ودانية: حضارة الهند وحضارة الصين... الخ، وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحفان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها، كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة... فلم يكن إذن عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقصر ذلك الجيل على كتاب الله وحده... في فترة تكونه... وإنما كان ذلك عن "تصميم" مرسوم، ونهج مقصود، يدل على هذا القصد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى في يد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صحيفة من التوراة، وقوله: "إنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني"].
وإذن فقد كان هناك قصد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقصر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل... في فترة التكون الأولى... على كتاب الله وحده، لتخلص نفوسهم له وحده، ويستقيم عودهم على منهجه وحده، ومن ثم غضب أن رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستقي من نبع آخر.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد صنع جيل خالص القلب، خالص العقل، خالص التصور، خالص الشعور، خالص التكوين من أى مؤثر آخر غير المنهج الإلهي، الذي يتضمنه القرآن الكريم.
ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده، فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد... ثم ما الذي حدث، اختلطت الينابيع! صبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم، وأساطير الفرس وتصوراتهم، وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات، واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم، وعلم الكلام، كما اختلط بالفقه والأصول أيضا، وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل، فلم يتكرر ذلك الجيل أبدا.
وما من شك أن اختلاط النبع الأول كان عاملا أساسيا من عوامل ذلك الاختلاف البين بين الأجيال كلها وذلك الجيل المميز الفريد.
هناك عامل أساسي آخر غير اختلاف طبيعة النبع، ذلك هو اختلاف منهج التلقي عما كان عليه في ذلك الجيل الفريد...
إنهم - في الجيل الأول - لم يكونوا يقرءون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع، ولا بقصد التذوق والمتاع، لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولا يملأ به جعبته، أنما كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته، يتلقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه، كما يتلقى الجندي في الميدان " الأمر اليومي " ليعمل به فور تلقيه! ومن ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة، لأنه كان يحس أنه إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه، فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله
عنه. هذا الشعور. شعور التلقي للتنفيذ. كان يفتح لهم من القرآن آفاقا من المتاع وآفاقا من المعرفة، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والاطلاع، وكان ييسر لهم العمل، ويخفف عنهم ثقل التكاليف، ويخلط القرآن بذواتهم، ويحوله في نفوسهم وفي حياتهم إلى منهج واقعي، وإلى ثقافة متحركة لا تبقى داخل الأذهان ولا في بطون الصحائف، إنما تتحول آثارا وأحداثا تحول خط سير الحياة.
إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يقبل عليه بهذه الروح: روح المعرفة المنشئة للعمل، أنه لم يجيء ليكون كتاب متاع عقلي، ولا كتاب أدب وفن، ولا كتاب قصة وتاريخ - وإن كان هذا كله من محتوياته - إنما جاء ليكون منهاح حياة، منهاجا إلهيا خالصا، وكان الله سبحانه يأخذهم بهذا المنهج مفرقا، يتلو بعضه بعضا: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} [الإسراء: 106].
لم ينزل هذا القرآن جملة، إنما نزل وفق الحاجات المتجددة، ووفق النمو المطرد في الأفكار والتصورات، والنمو المطرد في المجتمع والحياة، ووفق المشكلات العملية التي تواجهها الجماعة المسلمة في حياتها الواقعية، وكانت الآية أو الآيات تنزل في الحالة الخاصة والحادثة المعينة تحدث الناس عما في نفوسهم، وتصور لهم ما هم فيه من الأمر، وترسم لهم منهج العمل في الموقف، وتصحح لهم أخطاء الشعور والسلوك، وتربطهم في هذا كله بالله ربهم، وتعرفه لهم بصفاته المؤثرة في الكون، فيحسون حينئذ أنهم يعيشون مع الملأ الأعلى، تحت عين الله، في رحاب القدرة، ومن ثم يتكيفون في واقع حياتهم، وفق ذلك المنهج الإلهي القويم.
إن منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الأول، ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خرج الأجيال التي تليه، وما من شك أن هذا العامل الثاني كان عاملا أساسيا كذلك في اختلاف الأجيال كلها عن ذلك الجيل المميز الفريد.
هناك عامل ثالث جدير بالانتباه والتسجيل.
لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية، كان يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام أنه يبدأ عهدا جديدا، منفصلا كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية، وكان يقف من كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك الحذر المتخوف، الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام! وبهذا الإحساس كان يتلقى هدي الإسلام الجديد، فإذا غلبته نفسه مرة، وإذا اجتذبته عاداته مرة، وإذا ضعف عن تكاليف الإسلام مرة... شعر في الحال بالإثم والخطيئة، وأدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى التطهر مما وقع فيه، وعاد يحاول من جديد أن يكون على وفق الهدي القرآني.
كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية، فهو قد انفصل نهائيا من بيئته الجاهلية واتصل نهائيا ببيئته الإسلامية، حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي، فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر.
وكان هناك انخلاع من البيئة الجاهلية، وعرفها وتصورها، وعاداتها وروابطها، ينشأ عن الانخلاع من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام عن الحياة والوجود، وينشأ من الانضمام إلى التجمع الإسلامي الجديد، بقيادته الجديدة، ومنح هذا المجتمع وهذه القيادة كل ولائه وكل طاعته وكل تبعيته. وكان هذا مفرق الطريق، وكان بدء السير في الطريق الجديد، السير الطليق مع التخفف من كل ضغط للتقاليد التي يتواضع عليها المجتمع الجاهلي، ومن كل التصورات والقيم السائدة فيه، ولم يكن هناك إلا ما يلقاه المسلم من أذى وفتنة، ولكنه هو في ذات نفسه قد عزم وانتهى، ولم يعد لضغط التصور الجاهلي، ولا لتقاليد المجتمع الجاهلي عليه من سبيل..
نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية... تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرا إسلاميا... هو كذلك من صنع هذه الجاهلية!
لذلك لا تستقيم قيم الإسلام في نفوسنا، ولا يتضح تصور الإسلام في عقولنا، ولا ينشأ فينا جيل ضخم من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه الإسلام أول مرة.
فلا بد إذن - في منهج الحركة الإسلامية - أن نتجرد في فترة الحضانة والتكوين من كل مؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها ونستمد منها، لا بد أن نرجع ابتداء إلى النبع الخالص الذي استمد منه أولئك الرجال، النبع المضمون أنه لم يختلط ولم تشبه شائبة، نرجع إليه نستمد منه تصورنا لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني ولكافة الارتباطات بين هذين الوجودين وبين الوجود الكامل الحق، وجود الله سبحانه... ومن ثم نستمد تصوراتنا للحياة، وقيمنا وأخلاقنا، ومناهجنا للحكم والسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة.
ولا بد أن نرجع إليه - حين نرجع - بشعور التلقي للتنفيذ والعمل، لا بشعور الدراسة والمتاع، نرجع إليه لنعرف ماذا يطلب منا أن نكون، لنكون، وفي الطريق سنلتقي بالجمال الفني في القرآن وبالقصص الرائع في القرآن، وبمشاهد القيامة في القرآن... وبالمنطق الوجداني في القرآن... وبسائر ما يطلبه أصحاب الدراسة والمتاع، ولكننا سنلتقي بهذا كله دون أن يكون هو هدفنا الأول، أن هدفنا الأول أن نعرف: ماذا يريد منا القرآن أن نعمل؟ ما هو التصور الكلي الذي يريد منا أن نتصور؟ كيف يريد القرآن أن يكون شعورنا بالله؟ كيف يريد أن تكون أخلاقنا وأوضاعنا ونظامنا الواقعي في الحياة؟
ثم لا بد لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي والتصورات الجاهلية والتقاليد الجاهلية والقيادة الجاهلية... في خاصة نفوسنا... ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي ولا أن ندين بالولاء له، فهو بهذه الصفة... صفة الجاهلية... غير قابل لأن نصطلح معه، أن مهمتنا أن نغير من أنفسنا أولا لنغير هذا المجتمع أخيرا.
إن مهمتنا الأولى هي تغيير واقع هذا المجتمع، مهمتنا هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه، هذا الواقع الذي يصطدم اصطداما أساسيا بالمنهج الإسلامي، وبالتصور الإسلامي، والذي يحرمنا بالقهر والضغط أن نعيش كما يريد لنا المنهج الإلهي أن نعيش.
إن أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته، وألا نعدل نحن في قيمنا وتصوراتنا قليلا أو كثيرا لنلتقي معه في منتصف الطريق، كلا! إننا وإياه على مفرق الطريق، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق!
وسنلقى في هذا عنتا ومشقة، وستفرض علينا تضحيات باهظة، ولكننا لسنا مخيرين إذا نحن شئنا أن نسلك طريق الجيل الأول الذي أقر الله به منهجه الإلهي، ونصره على منهج الجاهلية.
وإنه لمن الخير أن ندرك دائما طبيعة منهجنا، وطبيعة موقفنا، وطبيعة الطريق الذي لا بد أن نسلكه للخروج من الجاهلية كما خرج ذلك الجيل المميز الفريد.
لقد خرجت هذه الدعوة جيلا من الناس - جيل الصحابة رضوان الله عليهم - جيلا مميزا في تاريخ الإسلام كله وفى تاريخ البشرية جميعه، ثم لم تعد تخرج هذا الطراز مرة أخرى. نعم وجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ، ولكن لم يحدث قط أن تجمع مثل ذلك العدد الضخم، في مكان واحد، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة.
هذه ظاهرة واضحة واقعة، ذات مدلول ينبغي الوقوف أمامه طويلا، لعلنا نهتدي إلى سره.
إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه العملي، وسيرته الكريمة، كلها بين أيدينا كذلك، كما كانت بين أبدي ذلك الجبل الأول، الذي لم يتكرر في التاريخ. ولم يغب إلا شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل هذا هو السر؟ لو كان وجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حتميا لقيام هذه الدعوة، وإيتائها ثمراتها، ما جعلها الله دعوة للناس كافة، وما جعلها آخر رسالة، وما وكل إليها أمر الناس في هذه الأرض، إلى آخر الزمان. ولكن الله سبحانه تكفل بحفظ الذكر، و علم أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمكن أن تؤتي ثمارها، فاختاره إلى جواره بعد ثلاثة وعشرين عاما من الرسالة، وأبقى هذا الدين من بعده إلى آخر الزمان. وإذن فإن غيبة شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفسر تلك الظاهرة ولا تعللها.
فلنبحث إذن وراء سبب آخر، لننظر في النبع الذي كان يستقي منه هذا الجيل الأول، فلعل شيئا قد تغير فيه، ولننظر في المنهج الذي تخرجوا عليه، فلعل شيئا قد تغير فيه كذلك.
كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن، ألقرآن وحده، فما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه إلا أثرا من آثار ذلك النبع، فعندما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: "كان خلقه القرآن"
كان القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه، ويتكيفون به، ويتخرجون عليه، ولم يكن ذلك كذلك لأنه لم يكن للبشرية يومها حضارة، ولا ثقافة، ولا علم، ولا مؤلفات، ولا دراسات... كلا! فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه، أو على امتداده، وكانت هناك مخلفات الحضارة الإغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها، وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم، وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك، وحضارات أخرى قاصية ودانية: حضارة الهند وحضارة الصين... الخ، وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحفان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها، كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة... فلم يكن إذن عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقصر ذلك الجيل على كتاب الله وحده... في فترة تكونه... وإنما كان ذلك عن "تصميم" مرسوم، ونهج مقصود، يدل على هذا القصد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى في يد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صحيفة من التوراة، وقوله: "إنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني"].
وإذن فقد كان هناك قصد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقصر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل... في فترة التكون الأولى... على كتاب الله وحده، لتخلص نفوسهم له وحده، ويستقيم عودهم على منهجه وحده، ومن ثم غضب أن رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستقي من نبع آخر.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد صنع جيل خالص القلب، خالص العقل، خالص التصور، خالص الشعور، خالص التكوين من أى مؤثر آخر غير المنهج الإلهي، الذي يتضمنه القرآن الكريم.
ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده، فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد... ثم ما الذي حدث، اختلطت الينابيع! صبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم، وأساطير الفرس وتصوراتهم، وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات، واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم، وعلم الكلام، كما اختلط بالفقه والأصول أيضا، وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل، فلم يتكرر ذلك الجيل أبدا.
وما من شك أن اختلاط النبع الأول كان عاملا أساسيا من عوامل ذلك الاختلاف البين بين الأجيال كلها وذلك الجيل المميز الفريد.
هناك عامل أساسي آخر غير اختلاف طبيعة النبع، ذلك هو اختلاف منهج التلقي عما كان عليه في ذلك الجيل الفريد...
إنهم - في الجيل الأول - لم يكونوا يقرءون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع، ولا بقصد التذوق والمتاع، لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولا يملأ به جعبته، أنما كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته، يتلقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه، كما يتلقى الجندي في الميدان " الأمر اليومي " ليعمل به فور تلقيه! ومن ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة، لأنه كان يحس أنه إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه، فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله
عنه. هذا الشعور. شعور التلقي للتنفيذ. كان يفتح لهم من القرآن آفاقا من المتاع وآفاقا من المعرفة، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والاطلاع، وكان ييسر لهم العمل، ويخفف عنهم ثقل التكاليف، ويخلط القرآن بذواتهم، ويحوله في نفوسهم وفي حياتهم إلى منهج واقعي، وإلى ثقافة متحركة لا تبقى داخل الأذهان ولا في بطون الصحائف، إنما تتحول آثارا وأحداثا تحول خط سير الحياة.
إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يقبل عليه بهذه الروح: روح المعرفة المنشئة للعمل، أنه لم يجيء ليكون كتاب متاع عقلي، ولا كتاب أدب وفن، ولا كتاب قصة وتاريخ - وإن كان هذا كله من محتوياته - إنما جاء ليكون منهاح حياة، منهاجا إلهيا خالصا، وكان الله سبحانه يأخذهم بهذا المنهج مفرقا، يتلو بعضه بعضا: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} [الإسراء: 106].
لم ينزل هذا القرآن جملة، إنما نزل وفق الحاجات المتجددة، ووفق النمو المطرد في الأفكار والتصورات، والنمو المطرد في المجتمع والحياة، ووفق المشكلات العملية التي تواجهها الجماعة المسلمة في حياتها الواقعية، وكانت الآية أو الآيات تنزل في الحالة الخاصة والحادثة المعينة تحدث الناس عما في نفوسهم، وتصور لهم ما هم فيه من الأمر، وترسم لهم منهج العمل في الموقف، وتصحح لهم أخطاء الشعور والسلوك، وتربطهم في هذا كله بالله ربهم، وتعرفه لهم بصفاته المؤثرة في الكون، فيحسون حينئذ أنهم يعيشون مع الملأ الأعلى، تحت عين الله، في رحاب القدرة، ومن ثم يتكيفون في واقع حياتهم، وفق ذلك المنهج الإلهي القويم.
إن منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الأول، ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خرج الأجيال التي تليه، وما من شك أن هذا العامل الثاني كان عاملا أساسيا كذلك في اختلاف الأجيال كلها عن ذلك الجيل المميز الفريد.
هناك عامل ثالث جدير بالانتباه والتسجيل.
لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية، كان يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام أنه يبدأ عهدا جديدا، منفصلا كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية، وكان يقف من كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك الحذر المتخوف، الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام! وبهذا الإحساس كان يتلقى هدي الإسلام الجديد، فإذا غلبته نفسه مرة، وإذا اجتذبته عاداته مرة، وإذا ضعف عن تكاليف الإسلام مرة... شعر في الحال بالإثم والخطيئة، وأدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى التطهر مما وقع فيه، وعاد يحاول من جديد أن يكون على وفق الهدي القرآني.
كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية، فهو قد انفصل نهائيا من بيئته الجاهلية واتصل نهائيا ببيئته الإسلامية، حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي، فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر.
وكان هناك انخلاع من البيئة الجاهلية، وعرفها وتصورها، وعاداتها وروابطها، ينشأ عن الانخلاع من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام عن الحياة والوجود، وينشأ من الانضمام إلى التجمع الإسلامي الجديد، بقيادته الجديدة، ومنح هذا المجتمع وهذه القيادة كل ولائه وكل طاعته وكل تبعيته. وكان هذا مفرق الطريق، وكان بدء السير في الطريق الجديد، السير الطليق مع التخفف من كل ضغط للتقاليد التي يتواضع عليها المجتمع الجاهلي، ومن كل التصورات والقيم السائدة فيه، ولم يكن هناك إلا ما يلقاه المسلم من أذى وفتنة، ولكنه هو في ذات نفسه قد عزم وانتهى، ولم يعد لضغط التصور الجاهلي، ولا لتقاليد المجتمع الجاهلي عليه من سبيل..
نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية... تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرا إسلاميا... هو كذلك من صنع هذه الجاهلية!
لذلك لا تستقيم قيم الإسلام في نفوسنا، ولا يتضح تصور الإسلام في عقولنا، ولا ينشأ فينا جيل ضخم من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه الإسلام أول مرة.
فلا بد إذن - في منهج الحركة الإسلامية - أن نتجرد في فترة الحضانة والتكوين من كل مؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها ونستمد منها، لا بد أن نرجع ابتداء إلى النبع الخالص الذي استمد منه أولئك الرجال، النبع المضمون أنه لم يختلط ولم تشبه شائبة، نرجع إليه نستمد منه تصورنا لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني ولكافة الارتباطات بين هذين الوجودين وبين الوجود الكامل الحق، وجود الله سبحانه... ومن ثم نستمد تصوراتنا للحياة، وقيمنا وأخلاقنا، ومناهجنا للحكم والسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة.
ولا بد أن نرجع إليه - حين نرجع - بشعور التلقي للتنفيذ والعمل، لا بشعور الدراسة والمتاع، نرجع إليه لنعرف ماذا يطلب منا أن نكون، لنكون، وفي الطريق سنلتقي بالجمال الفني في القرآن وبالقصص الرائع في القرآن، وبمشاهد القيامة في القرآن... وبالمنطق الوجداني في القرآن... وبسائر ما يطلبه أصحاب الدراسة والمتاع، ولكننا سنلتقي بهذا كله دون أن يكون هو هدفنا الأول، أن هدفنا الأول أن نعرف: ماذا يريد منا القرآن أن نعمل؟ ما هو التصور الكلي الذي يريد منا أن نتصور؟ كيف يريد القرآن أن يكون شعورنا بالله؟ كيف يريد أن تكون أخلاقنا وأوضاعنا ونظامنا الواقعي في الحياة؟
ثم لا بد لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي والتصورات الجاهلية والتقاليد الجاهلية والقيادة الجاهلية... في خاصة نفوسنا... ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي ولا أن ندين بالولاء له، فهو بهذه الصفة... صفة الجاهلية... غير قابل لأن نصطلح معه، أن مهمتنا أن نغير من أنفسنا أولا لنغير هذا المجتمع أخيرا.
إن مهمتنا الأولى هي تغيير واقع هذا المجتمع، مهمتنا هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه، هذا الواقع الذي يصطدم اصطداما أساسيا بالمنهج الإسلامي، وبالتصور الإسلامي، والذي يحرمنا بالقهر والضغط أن نعيش كما يريد لنا المنهج الإلهي أن نعيش.
إن أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته، وألا نعدل نحن في قيمنا وتصوراتنا قليلا أو كثيرا لنلتقي معه في منتصف الطريق، كلا! إننا وإياه على مفرق الطريق، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق!
وسنلقى في هذا عنتا ومشقة، وستفرض علينا تضحيات باهظة، ولكننا لسنا مخيرين إذا نحن شئنا أن نسلك طريق الجيل الأول الذي أقر الله به منهجه الإلهي، ونصره على منهج الجاهلية.
وإنه لمن الخير أن ندرك دائما طبيعة منهجنا، وطبيعة موقفنا، وطبيعة الطريق الذي لا بد أن نسلكه للخروج من الجاهلية كما خرج ذلك الجيل المميز الفريد.
تعليق