بسم الله الرحمن الرحيم
الورطة الاقتصادية الأمريكية
الورطة الاقتصادية الأمريكية
كثيرة تلك المقالات والدراسات التي حامت حول سبب هذه النكبة الاقتصادية في الدولة الأمريكية ، وكثيرة تلك النظريات التي عرضها الخبراء والمحللون في الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية وشاشات الفضائيات ، ورغم كثرة هذه التحليلات والآراء والأفكار ، إلا أننا لم نجد من تطرّق لأصل المشكلة ولبها الذي بسببه طرأت هذه المشكلة الاقتصادية منذ قرابة التسعة أشهر !!
إن سبب المشكلة المباشر ليس بضعة شركات عقارية ، ولا بضعة بنوك استثمارية ، ولا بضعة قوانين ربوية ، فهذه أعراض ظهرت بعد تراكم آثار المشكلة الحقيقية التي اتفق المحللون على تغييبها لأسباب عدة ، ليس هذا مجال بيانها ، وكل له سببه ، فالحقيقة لا تخفى على من له أدنى اطلاع على أبجديات علم الإقتصاد ..
ما هي الحقيقة !!
عندما تكون رب بيت ولا تنفق على أهل بيتك أو تقلل من نفقاتهم فإن أهل البيت لا بد متضررون ، وعندما تكون مالكاً لتجارة فلا بد من إعادة الإستثمار فيها وإلا فإنها تبور ، وعندما تكون حاكم دولة وتخرج أموالها خارجها دون مقابل لما أخرجته فلا بد أن تتضرر الدولة ، وهذه هي مشكلة أمريكا اليوم ..
لقد أنفقت الحكومة الأمريكية قرابة الـ (560) مليار دولار كنفقات معلنة مباشرة في حرب العراق ، أما النفقات المباشرة في الحرب الصليبية على الإسلام ككل فقد بلغت أكثر من (ألف ألف ألف ألف) أي أكثر من "تريليون" دولار ، وهذا المبلغ سُحب من الإقتصاد الأمريكي ليُنفق خارجها فتعطّلت عجلة الإقتصاد فيها ، هذا عدا النفقات الغير مباشرة والغير مُعلنة ..
لعل من لم تكن عنده معلومات عن مبادئ التجارة والإقتصاد أن يعي معنى هذا الكلام من خلال هذا المثال البسيط :
لنفرض أن الحكومة الأمريكية – بدلاً من خوض الحرب على العراق – بنت مدرسة ابتداية في مدينة صغيرة في إحدى الولايات ، هذه المدرسة تحتاج إلى : طابوق وأسمنت وحديد وخشب وزجاج وتراب وحصباء وأصباغ وأسلاك ومعدات كهربائية وأطقم دورات مياه وأطقم صفوف ومكاتب إدارية ، ثم تحتاج إلى حفارات وخلاطات ومكائن ومعدات بناء ، وتحتاج إلى عمال حاذقين لجميع هذه المواد ، وتحتاج المدرسة إلى مدرسين وإداريين وعمال نظافة وغيرهم ، وتحتاج إلى تصريحات من دوائر الكهرباء والبلدية وغيرها من الدوائر الحكومية ، وتحتاج إلى مراقبة وتعاهد من جهات حكومية أخرى ، وتحتاج إلى أجهزة حاسب آلي وأجهزة مختبرات وكتب وأقلام وغيرها من المستلزمات المدرسية ..
للقارئ أن يتصور حجم التداخل في بناء هذه المدرسة ، فلكل مادة من مواد البناء مصنع فيه عمال ، ولكل نوع من أنواع المعدات شركات خاصة ، ولكل نوع من أنواع الأطقم شركات أخرى ، والدوائر الحكومية بها موظفون مسؤولون عن التصريحات والمراقبة ، هذا فضلاً عن مراقبة وزارة التربية الأمريكية ومراكز تطوير الدراسات والمناهج وغيرها ..
لا شك أن الأطفال في المدرسة يحتاجون إلى الطعام ، وهذا مصدر آخر غير ما ذكرنا ، ولا شك انهم يحتاجون إلى أدوات ترفيهية ، وهذا اختصاص آخر له مصانعه وعماله ، ولو قلنا بأن هذه المدرسة الوحيدة في المنطقة فإن ولاة أمر الطلبة سيوفرون مبالغ لا بأس بها جراء عدم نقلهم أبنائهم إلى مدارس أخرى بعيدة ، وهذا يجعلهم يدخرون أموال الوقود ، وبذلك تزيد قوتهم الشرائية ، وكذلك فإن العمال المشتغلون في المدرسة سيحتاجون إلى خدمات كالمطاعم والمستوصفات وأماكن الترفيه وغيرها ، ولو جلسنا نحصي جميع ما يتداخل في بناء وإقامة هذه المدرسة الإبتدائية فإن الأمر يطول ، وما ذكرناه هنا شيء يسير ..
يتضح من المثال السابق حجم الخسارة الأمريكية من جراء عدم بناء مدرسة ابتدائية واحدة ، فهذه المصانع قلّت مواردها ، وهؤلاء العمال قل دخلهم وربما استغنت المصانع والشركات عن كثير منهم بسبب نقص الموارد الذي سببه نقص الطلب على منتجاتهم ، وهذا في كل مادة خام وفي كل منتج ، وهؤلاء العمال سيكونون عالة على المجتمع ، وربما اتجه كثير منهم إلى الإجرام لتوفير دخل لهم ولأهليهم ، وهذا يحدث كثيراً في أمريكا ، وبذلك تكتظ السجون وتتحمل الحكومة نفقات بقائهم فيها بدلاً من استثمار الأموال في أمور أخرى تعود بالفائدة على الإقتصاد ، واستقصاء مثل هذا يطول ..
لو قلنا بأن قيمة بناء المدرسة الواحدة تساوي ثلاثة ملايين دولار ، فإن القيمة المعلنة للحرب على العراق كانت كفيلة ببناء (186000) مدرسة ، وللقارئ أن يتخيل حجم هذا الإستثمار ومدى فاعليته في فتح المصانع الجديدة وتشغيل العمال ، وقل هذا عن بناء الجامعات والمعاهد العلمية أو الشوارع والجسور أو غيرها من البنى التحتية أو مراكز الأبحاث وغيرها من الإستثمارات الداخلية الكثيرة المتنوعة ..
الإقتصاديون يدركون بأن للوحدة النقدية دورات في الإقتصاد ، معنى هذا أنك لو أدخلت دولاراً في اقتصاد ما فإن هذا الدولار يتعدى قيمته ليصبح أكبر من حجمه بكثير بسبب دورته ، فأنت حينما تبني مدرسة فإنك لا تشتري الطابوق فقط ، بل تشتري جميع ما ذكرنا سابقاً وتُنفق على جميع المصانع والعمال ومن يخدمهم ومن يوفر لهم المواد الخام ومن يستفيد من خدماتهم ، فهذا الدولار ليس طابوقاً في جدار المدرسة ، بل هو سلسلة من العمليات والإستثمارت المتشابكة في الدورة الإقتصادية للمدينة ..
إن المصيبة التي أحلها بوش بالإقتصاد الأمريكي هو سحبه لهذه المبالغ الضخمة من الإقتصاد في بلاده بدون مقابل ، وهذه كارثة اقتصادية يعرف نتيجتها طلاب سنة أولى اقتصاد !!
لعل البعض يتسائل : لماذا رضي الكونجرس ومجلس الشيوخ وخبراء البيت الأبيض بهذه المغامرة الكبيرة المعروفة المآل !!
الحقيقة أن الإدارة الأمريكية لم تُقدم على هذه الخطوة إلا بعد دراسة وحسابات بعيدة ، وهذه المبالغ الضخمة التي أُنفقت على الحرب لم يخطط لها أن تكون على حساب الإدارة الأمريكية بهذا الشكل ، فالإدارة الأمريكية حسبت حساباتها قبل بدئ هذه المغامرة ، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في تقدير أمر أعماها الله عنه ..
كانت خطة أمريكا أن تدخل أفغانستان وتطيح بالإمارة الإسلامية وتنشئ خط أنابيب للنفط يشق أفغانستان إلى البحر عن طريق باكستان أو إيران ، ثم تحتل العراق وتبني قواعد عسكرية دائمة فيها لتحتل بعدها إيران والخليج العربي فتسيطر على مخزون النفط العالمي وتستعيد ما أنفقته على الحرب من عوائد النفط ويكون العالم كله تحت رحمتها .. هذا ما أرادته أمريكا من الناحية الإقتصادية والسياسية ..
لم تكن أمريكا تتوقع هذه المقاومة الجهادية في أفغانستان ، وظنّت أن الإمارة الإسلامية ذهبت إلى غير رجعة وأن "قاعدة الجهاد" انتهت ، وهذا ما شجعها على اتخاذ الخطوة الثانية : غزو العراق ، وبينا هي في نشوة النصر والغرور إذا بقدر الله يتحقق ، وعلَم الجهاد يُرفع في العراق وأفغانستان في ظروف خيالية لم يتوقعها أكثر المحللون الأمريكيون تشائماً !!
سبع سنوات عجاف مرّت على الحكومة الأمريكية والشعب الأمريكي : استُنزِفت فيها الأموال ، وسُكبت فيها الدماء ، وحُملت الأشلاء سراً لتُقبر في أمريكا ، ومعتوه البيت الأبيض يمني شعبه النصر على "الإرهاب" !!
في هذه السنوات الطوال على الشعب الأمريكي ، كان بوش يُنفق أكثر من 40% من ضريبة الفرد الأمريكي على جيشه المهزوم ، وهذه كارثة اقتصادية بكل المقاييس ، ولكن إدارة بوش كانت تأمل بتعويض هذه الأموال من نفط بحر قزوين والخليج والعراق وإيران ، والله سبحانه وتعالى خيّب أملها ورجائها بالمجاهدين ..
إن سبب سقوط أمريكا في هذه الأزمة الإقتصادية ليس الربا والسوق العقاري والبنوك والشركات ، وإنما السبب الرئيس لهذه الورطة الكبيرة للدولة الأمريكية هو مكر الله بها أن أوجد من باع نفسه ابتغاء مرضاته فحمل روحه على كفة وجال به في ساح الوغى ليدمّر الله به حلم الإمبراطورية الأمريكية التوسعية ..
لقد أوقف المجاهدون الزحف الأمريكي على البلاد الإسلامية ، وخلطوا أوراق الإدارة الأمريكية ، وبدّدوا حلمها ، وجعلهم الله سبباً في جعل تدبير الحكومة الأمريكية تدميراً لدولتها ، وها هي أمريكا تحاول الآن استدراك الأمر بضخ أموال في اقتصادها لتعود إليه الحياة من جديد ، وهذا الضخ مصداق لما قلنا – وبيّنا - من أن الإستثمار الداخلي في الدولة هو سبب انتعاش اقتصادها ، فالحكومة الأمريكية لم تستثمر داخلياً في السنوات الماضية طمعاً في الغنيمة المرجوة من احتلال البلاد الإسلامية ، وما تسرقه من نفط العراق لا يكفي لسد العجز في الإقتصاد الأمريكي ، فرجعت أمريكا تدفع من جيبها ثمن غبائها ، ولو بقيت الإدارة الأمريكية على حالها فإن هذه الأموال لن تنفع اقتصادهم ، فهذه الإدارة لها سوابق في السرقات وسوء التصرف بالأموال العامة ، فلو ذهبت هذه الأموال في جيوب كبار القوم فإن الإقتصاد لا بد ينهار ..
إنه مكر الله واستدراجه للكفار المتغطرسين العُمي الذين لا يعقلون ..
إنه الجهاد وبركته ..
إنه النصر الذي وعد الله عباده ..
إنها المعية الإلهية ..
إنه مآل من عادى أولياء الله ..
إن هذا المكر لم يكن بالأمريكان خاصة ، وإنما بجميع حكومات الدول التي تآمرت على الجهاد وعادت المجاهدين ، فأوروبا واليابان وكثير من الدول اليوم تدفع ضريبة الوقوف مع أمريكا في وجه الإسلام ..
لقد أراد هؤلاء الكفار سرقة أموال المسلمين فدمر الله اقتصادهم ، وأرادوا أن يُذلّوا المسلمين فأرغم الله أنوفهم ، وأرادوا أن يُضعفوا المجاهدين فكان نقيض إرادتهم {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} (النمل : 50) ، فها هي الجموع المجاهدة تزداد قوة في العراق وأفغانستان ، بينما تقل معنويات الجيوش الكافرة ويكثر في أفرادها الإنتحار والأمراض النفسية والهروب من المعركة {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة : 20-21) ..
نعم ، لقد مكر أكابر مجرمي الأرض في أمريكا وأوروبا بالمسلمين الموحدين ، فكان مكرهم وبالاً عليهم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام : 123) ، فها هي أموالهم تضيع أمامهم ولا يستطيعون إلا إنفاق مزيد من الأموال للتغطية على الإخفاق الذي أوصلهم إليه المجاهدون بفضل من الله ومنّة ، فكانت خسارة الكفار في أعز شيء عندهم (المال) {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (الأعراف : 99) : خسروا الأموال ، وخسروا الوجاهة الكاذبة ، وخسروا ماء الوجه ، وخسروا المعركة واندحروا وانهزموا أمام الثلّة المؤمنة ..
لقد جمع بوش زعماء العالم وأعلن - بعد دخول قواته أفغانستان وقتله النساء والأطفال - على الملأ "أنا قطب العالم الأوحد" كما فعل أخوه فرعون من قبل {فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات : 23-24) !!
وقال بوش وعملائه بأن أهل الجهاد مفسدون في الأرض كما قال عملاء فرعون من قبل {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ ...} {الأعراف : 127) !!
وقال بوش للناس بأنه يريد لهم الخير والديمقراطية ، كما قال أخوه بالأمس {... قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر : 29) !!
لقد استخف بوش ببعض الفسقة والمرتدين فاتبعوه كما فعل إخوانهم مع فرعون الأول {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (الزخرف : 54) ، فماذا حصل لفرعون مصر ولأتباعه {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} (الزخرف : 55) ومعنى آسفونا : أغضبونا ، فلما أغضبوا الله انتقم الله منهم فأغرقهم جميعاً ، وقال تعالى عن فرعون {فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} (النازعات : 25-26) ، لكن فرعون اليوم لم يعتبر بأخيه ، فما كان إلا أن ضرب الله بأهل الجهاد الأرض لينفلق بحر اقتصاد دولة الكفر فيغرق القوم في ديونهم وركودهم ليعاملهم ربنا بنقيض قصدهم : ففرعون الأمس أراد الأرواح فأخذ الله روحه ، وفرعون اليوم أراد الأموال فجعل الله الفقر في داره ..
إننا ننتظر سنة الله فيهم {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} (النحل : 26) ، لقد اجتمعت في أمريكا جميع الآفات والأمراض والطوام التي كانت الأمم السابقة الكافرة ، تلك الأمم التي دمرها الله بالرياح والأعاصير والمسخ والزلازل والطوفان ، وقد رأينا ما فعل آخر إعصار بهم ، ولا زالت مراصدهم تتوقع أعاصير أخرى قريبة ، فنسأل الله أن يجعلها القاضية القاصمة فيحق عليها القول فيدمرها تدميرا {... وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} (فاطر : 43) ..
نسأل الله أن يعجّل على الكفار العذاب ويرينا فيهم ما يشفي الصدور ..
كما نسأله تعالى أن يبارك في أهل الجهاد وأن يرزقهم الثبات على الطريق ، فليس مصادفة أن يقول الله تعالى في كتابه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران : 200) ، وحاشا لله أن يصدف ، وإنما هذه حكمة بليغة تختبر إيمان الصادقين وتربط الصبر بالتقوى والفلاح وبعمل المجاهدين من الرباط حتى لا يستعجل المؤمنون ثمار الأعمال ولا يشغلوا أنفسهم بغير النزال ، وإنما النصر من عند الواحد الأحد ، والمجاهدون أسباب ، ولم يشترط الله عليهم النتائج ، فعلى أهل الجهاد أن يجعلوا هذه الآية نصب أعينهم والله يتكفل بهم وينصرهم من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون ..
إن من ترك الصبر والمصابرة والرباط والجهاد وهجَر السلاح فإن الله قضى في محكم تنزيله {إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التوبة : 39) ، وهذا الخطاب ليس موجهاً للمافقين ، بل هو موجه لأهل الإيمان ، فقد قال الله تعالى في الآية التي قبلها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (التوبة : 38) قال البغوي في تفسيره "نزلت في الحث على غزوة تبوك ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم ، وكان ذلك في زمان عسرة من الناس ، وشدة من الحر ، حين طابت الثمار والظلال ، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة ، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ، ومفاوز هائلة ، وعدواً كثيرا ، فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فشق عليهم الخروج وتثاقلوا فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم} أي : قال لكم رسول الله : {انفروا} اخرجوا في سبيل الله {اثاقلتم إلى الأرض} أي : لزمتم أرضكم ومساكنكم ، {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} ، أي : بخفض الدنيا ودعتها من نعيم الآخرة {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} ..." (انتهى) .
فالله سبحانه وتعالى يخاطب المؤمنين ، بل يخاطب الصحابة ويتوعدهم بالعذاب والإستبدال إن هم تركوا الجهاد ، وليس أحد أكرم عند الله بعدهم منهم ، فمن ترك الجهاد وتثاقل عنه ورضي بالقعود ورضي بالدنيا وأراد أن يداهن الأعداء ويعقد معهم اتفاقيات استسلام ويخلد إلى الأرض ويلقي السلاح ويستبدله بما يسمى بالعمل السياسي وطاولات المفاوضات فإن الله لا بد مستبدله بمن يحمل لواء الجهاد ويقاتل في سبيله ، هذا بعد أن يصيب أهل التقاعس والتخاذل والتثاقل العذاب الأليم ..
لقد جاء في تفسير قوله تعالى {ويستبدل قوما غيركم} : "خيرا منكم وأطوع ، قال سعيد بن جبير : هم أبناء فارس . وقيل : هم أهل اليمن" (تفسير البغوي) ، فلما ترك العرب الجهاد في العقود الماضية أقام الله علَمه على أيدي أبناء خراسان والشيشان وكشمير والفلبين والصين وطاجيكستان ونزاع بعض القبائل العربية ، ولا عزة اليوم لبشر في هذه الأرض إلا لهذه الثلة المجاهدة ، وكل من سواهم عبيد لأهوائهم أو أهواء أسيادهم ، وهذا الذل من أعظم العذاب وأشده لمن كان له قلب ..
لعقد علمتنا تجارب القرون الماضية بأن الأعداء لم يلتزموا بعهد أو اتفاقية عقدوها مع المسلمين ، وقد أخبرنا الله تعالى بذلك في كتابه فقال سبحانه {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (البقرة : 100) ، فمن العبث الجلوس على طاولات المفاوضات مع قوم هذا شأنهم وديدنهم ، والتفاوض معهم من مخادعة النفس ومخادعة المسلمين ، ولم يحدث في تاريخ الأمة أن استرجعت حق لها بغير الجهاد في سبيل الله ، وهذه سنة الله في هذه الأمة ، والله لا يغير سنته لجماعة أو حزب أو شخص ، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم "ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب" (حسنه ابن النحاس في مشارع الأشواق والمنذري في الترغيب) ، فهذا خير البشر (النبي صلى الله عليه وسلم) قاد خير جيش على وجه الأرض (الصحابة رضي الله عنهم) ليدخل بلده التي هي خير بقعة على وجه الأرض ، فكيف يريد من هو دونه من أمته أن يستعيد حقه بغير قتال !!
إن ترك الجهاد خرق لسفينة الإسلام ، ويجب على العقلاء الأخذ على أيدي من أراد خرق السفينة ، فقد جاء في الحديث الصحيح "مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها ، مثل قوم استهموا سفينة ، فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها ، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها ، فتأذوا به ، فأخذ فأسا ، فجعل ينقر أسفل السفينة ، فأتوه فقالوا : ما لك ، قال : تأذيتم بي ولا بد لي من الماء ، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم ، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم" (البخاري) . و"المدهن" : المحابي التارك للأمر بالمعروف ، و"الواقع فيها" أي : الواقع في المعصية التي هي ترك التحاكم لشرع الله ، وحكم التارك والمدهن واحد ، فيجب على العقلاء أن يأخذوا على يد من أراد خرق سفينة الأمة بترك الجهاد ، فإن في تركه تعميم العذاب على الأمة ، وبهذا يبطل قول من قال بأن مسألة الجهاد في قطر معين هو مسألة داخلية لذلك القطر ، فالجهاد شأن الأمة كلها ، وخاصة أهل الحل والعقد ، وهم في زماننا : قادة وأمراء الجهاد والعلماء الصادعين بالحق العاملين به ، فجهاد العراق من شأن الأمة كلها ، وجهاد أفغانستان من شأن الأمة كلها ، وجهاد فلسطين من شأن الأمة كلها ، وجهاد الفلبين والصين وكشمير وتايلاند والشام والجزيرة والمغرب والصومال وكل بقعة يرتفع فيها راية الجهاد هو شأن الأمة كلها ، ولا يجوز لأحد أن يستأثر براية وينفرد بها عن سائر الأمة ويقول بأنه شأن داخلي ، فهذا ليس لأحد ، لأن الأمة كلها معنية ، ولذلك نقول ببطلان أي معاهدة أو اتفاقية يبرمها أي شخص باسم الأمة في أي بقعة من بقاع الإسلام يتنازل فيها عن حق الأمة ، لأنه تنازل من لا يملك لمن لا يستحق ، ونحن لسنا أمة تنازلات ، وإنما أمة جهاد ، وليس لعدونا منا إلا السيف ، أو نهلك دون حقوقنا ..
إن الذي يحمل راية الجهاد في هذا الزمان ما خرج إلا لنيل الشهادة ، فالتي يكرهها البعض هي التي خرج لطلبها المجاهدون ، وأهل الجهاد بين إحدى الحسنيين : إما نصر في الدنيا أو شهادة في الآخرة ، والآخرة خير وأبقى ، فكيف يساوم المجاهد على آخرته الباقية بدنيا الناس فانية !! إن من يفعل ذلك لم يكن يقاتل في سبيل الله ، بل كان يقاتل في سبيل دنياه ، ولما ظن أنه ينال بعضاً منها وضع سلاحه وجلس ليستريح - بزعمه - ويقطف ثمار نضاله !! أما أهل الصدق فلا يضعون السلاح حتى يقاتل آخرهم الدجال ، ولا راحة لهم إلا بعد نيل الشهادة أو لقاء الله سبحانه ، فثمرة جهادهم : إيمان في القلب ويقين بالوعد .. وشتان بين الفريقين !!
والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
كتبه
حسين بن محمود
4 شوال 1429هـ
حسين بن محمود
4 شوال 1429هـ
تعليق