محنة الإمام أبي حنيفة
كتبه : شريف عبد العزيز
من أهم الصفات والشمائل التي يجب أن يتحلى بها العلماء الربانيون في هذه الأمة، هي صفة الإخلاص في طلب العلم وتعليمه ونشره بين الناس، وهي الصفة التي تجعل العالم لا يطلب بعلمه شيئًا من أمور الدنيا، ويبتغي وجه الله عز وجل في كل كبيرة وصغيرة من علمه وأقواله، وبالمقابل فإن من أبرز صفات علماء السوء، هي طلبهم الدنيا بالدين، ففي ظل غياب الإخلاص عن قلب العالم، نجد ممن ينتسب إلى العلم منغمسًا في الدنيا وشهواتها وملذاتها، نجده يسترزق بعلمه، ويطلب به المناصب والضياع والأموال ويتحصل من الدنيا بعلمه على أكبر نصيب، بل هو لم يسلك طريق العلم أصلاً إلا لينال به من متاع الدنيا، وهذا في شأنه قال خير البرية عليه الصلاة والسلام: ((من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا،لم يجد عرف الجنة يقوم القيامة)) صحيح البخاري (6159).
وصاحبنا هذه المرة من الصنف الأول، من العلماء الربانيين الذين كانوا من أزهد الناس وأتقاهم وأورعهم، من العلماء العاملين الذين فروا من زخارف الدنيا وفروا من المناصب، وكانت الدنيا تتزين لهم فيرفضوها، وتتعرض لهم فيطردوها، وتلاحقهم فيفروا منها كما يفر الواحد من الأسد، صاحبنا هذه المرة رفض الدنيا ومناصبها وأبى أن يضع نفسه موضع الفتن والشبهات، وأبت عليه نفسه أن يكون مطية للسلاطين والحكام، وأصر على ذلك، حتى راح ضحية ثباته وإصراره على رفض المناصب والزخارف، فصار إمامًا من أعظم أئمة الإسلام. صاحبنا هو الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه ورحمه الله.
التعريف به:
هو الإمام المقدم وفقيه الإسلام وعالم العراق وأستاذ مدرسة الرأي، العلم العلامة والبحر الفهامة أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى التيمي الكوفي، ولم يكن أصلاً من العرب بل من أبناء الفرس، ومن موالي بني تيم الله بن ثعلبة.
ولد أبو حنيفة سنة 80هـ بالكوفة أي في حياة صغار الصحابة، ولكن لم يثبت له أي رواية ولا حرف واحد عن أحد منهم، طلب العلم صغيرًا ولزم حلقة حماد بن أبي سليمان ثماني عشرة سنة، وقد آلى على نفسه ألا يفارق حمادًا حتى يموت أو يستوفي منه كل علمه، ومع شدة ملازمته لحماد بن أبي سليمان، جلس لغيره من أئمة الزمان الأعلام مثل عطاء بن أبي رباح عالم مكة وفقيهها، والشعبي عالم العراق، وعبد الرحمن بن هرمز عالم المدينة، ونافع مولى ابن عمر، وعلقمة والزهري محدث الزمان، ومحمد بن المنكدر، وهشام بن عروة، وغيرهم كثير، ولم يكن يأنف أن يروي أو يطلب العلم من أحد حتى ولو كان أصغر منه، حتى إنه قد روى عن شيبان النحوي وهو أصغر منه، وعن مالك بن أنس وهو كذلك، وهكذا شأن كل من طلب المعالي وسلك سبيل الربانيين.
ولما مات حماد بن أبي سليمان سنة 120هـ جلس أبو حنيفة مكانه في حلقة الدرس بجامع الكوفة وكان وقتها في الأربعين من عمره، وقد بلغ حد الكمال العلمي والذهني، فتصدر وهو كهل وكان تاجرًا يعمل في بيع الخز، فإذا قضى حاجته من التجارة جلس للعلم والتدريس والإفتاء حتى فاق أهل زمانه جميعًا وصار علمًا في الفقه وغيره، وقد أرسى دعائم مدرسة الرأي في الفقه الإسلامي وصار أستاذ القياس الأول بلا منازع.
خصاله:
لم يكن الإخلاص وحده أو الإعراض عن الدنيا ومناصبها وزخارفها هو أهم ما يميز الإمام أبا حنيفة، بل كان من رجالات الكمال في العلم والعمل، موصوفًا بكل فضل، فلقد كان عالمًا عاملاً، جمع بين العلم والعبادة، فكان يصلي العشاء والصبح بوضوء واحد أغلب حياته، يطيل الصلاة جدًا مع الخشوع والسكينة، حتى لقب بالوتد لطول صلاته، وكان ممن قرأ القرآن كله في ركعة كما فعل ذلك من قبل عثمان رضي الله عنه، وكان يحيي ليله كله تضرعًا وصلاة ودعاءً، وقد تواتر هذا الأمر عنه عند أهل زمانه جميعًا. أما عن مجالسه فلقد كان حليمًا وقورًا، هيوبًا، لا يتكلم إلا جوابًا ولا يخوض رحمه الله فيما لا يعنيه، كافًا لسانه عن النيل من خصومه الذين كانوا يطيلون الكلام فيه بسبب الرأي، معرضًا عن زلات الآخرين، لا يجاري أحدًا فيما لا ينفع ولا يعني، وقد جعل على نفسه إن حلف بالله صادقًا أن يتصدق بدينار، وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها، يكثر من الإنفاق على إخوانه وتلاميذه، بل وأهالي تلاميذه. وكان أبو حنيفة ورعًا تقيًا متحرزًا من مواطن الشبهة والظنة، ولعل هذا الورع هو الذي أورثه محنته التي قضى فيها رحمه الله، ولقد قال له رجل يومًا: اتق الله، فانتفض واصفرَّ وأطرق، وقال: جزاك الله خيرًا ما أحوج الناس في كل وقت إلى من يقول لهم مثل هذا.
ثناء الناس عليه:
يعتبر أبو حنيفة الإمام الأول في ترتيب الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبوعة والتي ظلت قائمة حتى وقتنا الحاضر، وإلى أن يشاء الله عز وجل، لذلك لقبوه بالإمام الأكبر أو الأعظم، ورغم وجود علماء فطاحل في زمانه وقبله، ربما يفوقونه علمًا ورواية إلا إنه قد استطاع أن يرسي دعائم مدرسة الرأي في الفقه الإسلامي ويكون مذهبًا معروفًا له أصوله وضوابطه وأحكامه وتلاميذه، وإن كان الفضل في انتشار مذهبه يرجع إلى مجهودات تلميذه الأول القاضي أبي يوسف، أما عن ثناء الناس عليه، فكثير يخرج عن حد الحصر، وهذه طائفة من كلامهم:
قال ابن المبارك: لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان كنت كسائر الناس، وما رأيت رجلاً أوقر في مجلسه ولا أحسن سمتًا ولا حلمًا من أبي حنيفة.
قال الشافعي: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة.
قال الإمام مالك: رأيت رجلاً ـ يعني أبا حنيفة ـ لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا لقام بحجته.
قيل للقاسم بن معن: ترضى أن تكون من غلمان أبي حنيفة؟ قال: ما جلس الناس إلى أحد أنفع من مجالسة أبي حنيفة.
قال تلميذه أبو يوسف: كان أبو حنيفة ربعة، من أحسن الناس صورة وأبلغهم نطقًا وأعذبهم نغمة وأبينهم عما في نفسه.
قال شريك: كان أبو حنيفة طويل الصمت، كثير العقل.
قال يزيد بن هارون: ما رأيت أحدًا أحلم من أبي حنيفة.
قال أبو معاوية الضرير: حب أبي حنيفة من السنة.
قال الذهبي: الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام "يعني أبا حنيفة".
قال يحيى بن سعيد القطان: لا نكذب الله، ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة وقد أخذنا بأكثر أقواله.
قال علي بن عاصم: لو وزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح عليهم.
قال حفص بن غياث: كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشعر ولا يعيبه إلا جاهل.
سئل ابن المبارك يومًا: مالك أفقه أو أبو حنيفة؟ قال: أبو حنيفة أفقه الناس.
وسئل الأعمش عن مسألة فقال: إنما يحسن هذا النعمان بن ثابت الخزاز وأظنه بورك له في علمه.
والآثار الواردة في فضله ومكانته العلمية وثناء الناس عليه كثيرة جدًا لا يتسع المقام هنا لسردها واكتفينا بما ذكرناه للتدليل على مكانة الإمام.
محنته:
الإمام أبو حنيفة عاصر عهد مختلفين ومتتابعين في حياة الأمة الإسلامية، العهد الأول هو عهد الدولة الأموية المجاهدة وفيه وُلد الإمام ونشأ وترعرع وتعلم ودرس وطاف البلاد وجالس العلماء الكبار، وفيه أيضًا بلغ حد الإمامة والتصدر وصار له تلاميذ وأتباع، وأصبح من جملة علماء الأمة الكبار والمعروفين، والذين يرجع إلى رأيهم ويفزع إلى علمهم وقت النوازل والمحن.
أما العهد الثاني فهو عهد الدولة العباسية التي قامت على أشلاء الدولة الأموية، والتي سفكت الكثير والكثير من الدماء من أجل إزاحة الأمويين، وكشأن أي دولة تقوم قسرًا على أنقاض سابقتها، شهدت الدولة العباسية في بداية عهدها العديد من الثورات الكبيرة ضدها من أولياء الدولة السابقة أو من الناقمين على أسلوب وطريقة قيام وحكم الدولة الجديدة.
وفي هذا الجو المتوتر والمليء بالفتن والاضطرابات تجد الشائعات البيئة الخصبة للرواج والانتشار، ويجد الوشاة والحاقدون والحاسدون الآذان المصغية لأكاذيبهم وافتراءاتهم، ومن هنا كانت محنة الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
فعندما اندلعت ثورة النفس الزكية سنة 145هـ بقيادة أخوين من آل البيت وهما محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن، استطاعت هذه الحركة أن تسيطر على المدينة والبصرة والكوفة وأجزاء أخرى من الدولة العباسية، وكانت هذه الثورة من أشد وأقوى الثورات التي قامت على الدولة العباسية أيام الخليفة أبي جعفر المنصور والذي بذل مجهودات ضخمة من أجل القضاء عليها، خلال هذه الثورة راج بين الناس أن الإمام أبا حنيفة بالعراق والإمام مالك بالمدينة يؤيدان هذه الثورة، وكان الإمامان من أكبر علماء العصر وقتها، فلما انتهت الثورة انتهز الوشاة والحاقدون الأمر وأخذوا في تأليب الخليفة المنصور على العالمين الجليلين، وقد مر بنا أثناء الكلام على محنة الإمام مالك تفاصيل ما جرى له، أما ما جرى مع الإمام أبي حنيفة فكان أشد وأقسى جرمًا.
فلقد كان الإمام أبو حنيفة كما ذكرنا من قبل عازفًا عن المناصب الدنيوية وخاصة المناصب التي يكون صاحبها قريبًا من السلطة الحاكمة وخاضعًا لتأثيراتها وضغوطها، لما يعلمه من حجم المخالفات التي سيقع فيها صاحب المنصب من أجل إرضاء السلطة الحاكمة إما رهبة وإما رغبة، لذلك لما عرض ابن هبيرة والي العراق في أيام الخليفة الأموي يزيد بن الوليد الملقب بالناقص على الإمام أبي حنيفة منصب القضاء بالكوفة رفض أبو حنيفة بشدة فهدده ابن هبيرة بالضرب والحبس، ومع ذلك أصر أبو حنيفة على الرفض، فما كان من ابن هبيرة إلا أن ضربه وجلده فلم يزد ذلك الضرب أبا حنيفة إلا إصرارًا على الرفض، وعندها تركه ابن هبيرة وعين آخر مكانه، وقد أدت هذه الحادثة لارتفاع مكانة أبي حنيفة بين الناس وعلا شأنه بين علماء الزمان.
ولما انتهى الخليفة أبو جعفر المنصور من ثورة النفس الزكية، وفعل ما فعله مع الإمام مالك في المدينة، التفت لمن حامت عليهم الشائعات ودارت حولهم الأقاويل في اشتراكهم في ثورة النفس الزكية أو حتى تأييدهم لها، وعلى رأس هؤلاء الإمام أبو حنيفة، فطلبه إلى بغداد، فحمل الإمام إلى هناك، وفي مجلس الخليفة المنصور، دعا المنصور أبا حنيفة إلى منصب القضاء وهو يعلم علم اليقين أن الإمام سيرفض تمامًا كما فعل من قبل مع الأمويين وواليهم ابن هبيرة، وإنما أراد المنصور بهذا العرض أن يختبر مدى طاعة وولاء أبي حنيفة للدولة العباسية، وفي مجلس المنصور دار هذا الحوار الفريد بين الخليفة المستبد والإمام الكبير، فعن مغيث بن بديل قال: دعا المنصور أبا حنيفة إلى القضاء فامتنع، فقال المنصور: أترغب عما نحن فيه؟ [أي يشكك في طاعة الإمام للدولة].
فقال أبو حنيفة: لا أصلح.
فقال المنصور وقد احتد: كذبت.
فقال أبو حنيفة: فقد حكم أمير المؤمنين علي أني لا أصلح، ثم استخدم أبو حنيفة مهارته الفائقة في الإقناع والقياس فقال: فإن كنت كاذبًا فلا أصلح [يعني لكذبه]، وإن كنت صادقًا فقد أخبرتكم أني لا أصلح، وعندها غضب أبو جعفر المنصور بشدة وأقسم بأغلظ الأيمان ليليَّن الإمام منصب القضاء، وكان من الطبيعي أمام هذا الغضب وهذه الأيمان المغلظة وسطوة الخلافة أن يرضخ أبو حنيفة لكل هذه الضغوط ويوافق، ولكن أبا حنيفة العالم الرباني الذي لا يبالي إلا بسخط الله عز وجل وحده وغضبه، والذي يعلم عواقب أمثال هذه المناصب المشروطة يرد على الخليفة المنصور وقسمه بقسم أغلظ ويمين أوكد، ويقسم أبو حنيفة ألا يلي هذا المنصب الخطير، ومع قوة رد الإمام لم يستطع الخليفة المنصور أن يرد، وعندها يتدخل الربيع حاجب الخليفة المنصور في الحوار لعله أن يستطيع إثناء أبي حنيفة عن رأيه، ويقول للإمام أبي حنيفة مهددًا: ترى أمير المؤمنين يحلف وأنت تحلف؟ فرد أبو حنيفة بهدوئه ووقاره وفطنته المعهودة: أمير المؤمنين على كفارة يمينه أقدر مني، وهو بذلك يؤكد على إصراره ورفضه لمنصب القضاء، وأنه مهما كانت الضغوط ومهما كانت شخصية صاحب هذه الضغوط وسطوته فلن يرضخ الإمام.
عندها قرر الخليفة المنصور أن يصعد ضغوطه على الإمام فخيره بين قبول القضاء أو السجن، وكأنا بالخليفة المنصور قد تأكدت عنده الشائعات التي راجت حول دعم أبي حنيفة لثورة النفس الزكية، وأراد أن ينكل بالإمام ويؤدبه بشدة كما حدث مع الإمام مالك، فأصر أبو حنيفة على الرفض ولسان حاله يقول: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، فأمر المنصور بضربه أولاً ثم حملوه في القيود إلى سجن بغداد.
وفي السجن المظلم عانى الإمام أبو حنيفة من التضييق والتشديد وأيضًا من التهديد بالقتل يومًا بعد يوم، وقد أمر الخليفة المنصور بالتشديد على الإمام وكان وقتها على مشارف السبعين وقد وهن جسده وحطمته دروس العلم وسؤالات الناس، ومع ذلك لم يتراجع أبو حنيفة عن قراره ولم تلن عزيمته قدر أنملة، ولكن إن صمد قلبه وروحه وعزيمته وإيمانه أمام كل هذه الضغوط، فإن الجسد الواهن لم يصمد كثيرًا، فتوفي الإمام أبو حنيفة في سجنه في رجب سنة 150هـ، وصعدت روحه إلى بارئها وهي في قيود السلطان لتخاصمه يوم القيامة أمام المحكمة الإلهية يوم لا ينفع مال ولا بنون، وقد قيل إن المنصور قد دس على الإمام أبي حنيفة من وضع له السم في السجن، وإن صح الكلام فلقد توفي الرجل شهيدًا صابرًا محتسبًا والله أعلم بما كان وسيكون.
العجيب في هذه المحنة التي تعرض لها الإمام أنها كانت بسبب فرار الإمام من الدنيا ومن المناصب، وإننا لنعجب من حال هذا الإمام الرباني الذي أقبلت عليه الدنيا بزخارفها، والمناصب تعرض عليه ويهدد بكل وسيلة من أجل أن يكون من أصحاب المناصب العليا ولكنه يرفض ويؤثر الضرب والسجن ثم الموت على أن يكون من الدنيا وأهلها، ونحن الآن نرى من ينتسب للعلم يتهافت على الدنيا والمناصب ويلهث وراء الدنيا ولا يبالي بأي شيء من أجلها، وهؤلاء عادة ما يكونون مطية للسلاطين والحكام وهم بذلك أسوأ مثال للعلم والعلماء، وهذا هو الفرق بين العلماء الربانيين والعلماء الدنيويين.
الملتقي الجنة
أنا لا الين ولا تهد عزيمتي بالقتل بالتعذيب بالإبعاد
أنا مبدأي أن الهوان لغيرنا والعز لي ولأمتي وبلادي
لاأستسيغ الذل أو أرد الردى فالموت في زمن الهوان مرادي
تعليق