لم دفن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في بيته؟!
u فصل: لم دفن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في بيته؟!
المشهور علي ألسنة طلبة العلم أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إنما دفن في بيته، لأن الصحابة إنما تخوفوا أن يتخذ الجهال قبره مسجداَ:
v كما أخرجه البخاري بإسانيد صحاح، في غاية الصحة، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال في مرضه الذي مات فيه: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، قالت: (ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أني أخشى أن يتخذ مسجداً)، وأخرج مثله مسلم، وأبو عوانة، وأحمد، والسراج في «مسنده». وجاءت روايات لتعقيب عائشة بلفظ: (فلوا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً).
ولكن ليس في تعقيب عائشة، رضي الله عنها، ذكر أنها كانت حاضرة في شيء من الائتمار والمشاورة حول دفن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكنها فقط ذكرت القرار النهائي الذي اتخذه الصحابة، ودوافعهم حسب معتقدها، وسيأتي تفصيل ذلك قريباً.
وعقب الألباني في كتيبه المسمَّى: «تحذير الساجد» قائلاً: [ومثل قول عائشة هذا ما روي عن أبيها رضي الله عنهما، فأخرج ابن زنجويه عن عمر مولى غفرة قال: لما ائتمروا في دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قائل: ندفنه حيث كان يصلي في مقامه! وقال أبو بكر: معاذ الله أن نجعله وثناً يعبد، وقال الآخرون: ندفنه في البقيع حيث دفن إخوانه المهاجرون، قال أبو بكر: إنا نكره أن يخرج قبر رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى البقيع، فيعوذ به من الناس لله عليه حق، وحق الله فوق حق رسول الله، فإن أخرجناه (الأصل: أخرناه) ضيعنا حق الله، وإن أخفرناه(!) أخفرنا قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قالوا: فما ترى أنت يا أبا بكر؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما قبض الله نبياً قط إلا دفن حيث قبض روحه»، قالوا: فأنت والله رضي مقنع، ثم خطوا حول الفراش خطاً، ثم احتمله علي والعباس وأهله ووقع القوم في الحفر يحفرون حيث كان الفراش]،
هذا هو نص الألباني بعينه، بما في ذلك علامات التنقيط، والظاهر منه أن الألباني لم يفهم النص، فاستبدل لفظة: (أخرناه) التي كانت في الأصل، بلفظة: (أخرجناه)، ظناً منه أن نذلك يجعل المعنى مستقيماً، فلم يوفق، بل الواجب هو استبدالها بلفظة: (أجرناه)، وبذلك تزول علامة التعجب التي كتبها الألباني بعد لفظة أخفرناه، كما أن هناك سقط في جملة: (فيعوذ به من الناس لله عليه حق)، والواجب أن تكون: (فيعوذ به من الناس «من» لله عليه حق):
v فنص رواية عمر مولى غفرة ينبغي أن يكون: [لما ائتمروا في دفن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال قائل: (ندفنه حيث كان يصلي في مقامه!)، وقال أبو بكر: (معاذ الله أن نجعله وثناً يعبد)، وقال الآخرون: (ندفنه في البقيع حيث دفن إخوانه المهاجرون)، قال أبو بكر: (إنا نكره أن يخرج قبر رسول الله، صلي الله عليه وسلم، إلى البقيع، فيعوذ به من الناس من لله عليه حق، وحق الله فوق حق رسول الله، فإن أجرناه، ضيعنا حق الله، وإن أخفرناه، أخفرنا قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم)، قالوا: (فما ترى أنت يا أبا بكر؟)، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «ما قبض الله نبياً قط إلا دفن حيث قبض روحه»)، قالوا: (فأنت والله رضي مقنع)، ثم خطوا حول الفراش خطاً، ثم احتمله علي والعباس وأهله، ووقع القوم في الحفر، يحفرون حيث كان الفراش].
ولكن هذا منقطع، لا تقوم به الحجة أصلاً، مع كون عمر مولى غفرة ضعيف كالمتفق على ضعفه لكثرة إرساله، فليس هو في ذاته بالساقط، ولا هو بالحافظ الحجة أيضاً. وبعض المتن مع هذا مخالف لصحاح الروايات. ولكن العجب هو من قول الألباني: (ومثل قول عائشة هذا ما روي عن أبيها)، فأين قول عائشة: (فلوا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً)، من القول المنسوب إلى أبيها: (إنا نكره أن يخرج قبر رسول الله، صلي الله عليه وسلم، إلى البقيع، فيعوذ به من الناس من لله عليه حق، وحق الله فوق حق رسول الله، فإن أجرناه، ضيعنا حق الله، وإن أخفرناه، أخفرنا قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم)، وهل بين القولين أدنى مشابهة؟! وليس هناك خوف من أن يتخذ مسجداً، وإنما هي الخشية أن يعوذ به من عليه حد أو حق لله، فيقع المسلمون في الحرج. ثم كان القرار النهائي بناءً على القول المنسوب إلى النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما قبض الله نبياً قط إلا دفن حيث قبض روحه»، وهذا أيضاً خلاف ما ظنته عائشة، رضي الله عنها، الدافع الرئيس لدفنه في بيته.
v وسبق ذكر قول الألباني في كتيبه المسمَّى: «تحذير الساجد»: [عن أمهات المؤمنين أن أصحاب رسول الله، صلي الله عليه وسلم، قالوا: كيف نبني قبر رسول الله، صلي الله عليه وسلم؟! أنجعله مسجداً؟! فقال أبو بكر الصديق: سمعت رسول الله، صلي الله عليه وسلم، يقول: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد] ، ثم همَّش قائلاً: [رواه ابن زنجويه في «فضائل الصديق» كما في «الجامع الكبير» (3/147/1)]، ولم يتكلم الألباني عن الإسناد، ولا عقب بتصحيح أو تضعيف. وليس فيه إلا أنهم فكروا أولاً في جعله مسجداً، وليس فيه ذكر إبراز القبر، أو دفنه في بيته.
v وجاء في «مسند إسحاق بن راهويه»: [أخبرنا وهب بن جرير أخبرنا أبي قال سمعت الحسن يقول كان المسلمون اختلفوا في دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يدفن فقالت طائفة منهم يدفن في البقيع حيث اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لولده وللمسلمين، قال فقالوا أتبرزون قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما أحدث أحد حدثا عاذ به، قال وقال طائفة ندفنه في المسجد فقالت عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غشي عليه فلما أفاق قال قاتل الله أقواما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فعرفوا أن ذلك نهيا منه، فقالوا يدفن حيث اختار الله أن يقبض روحه فيه فحفر له في بيت عائشة]،
v وأخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى»، (ج: 2 ص: 241): [أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء قال أخبرنا عوف عن الحسن بنحوه مختصراً]
قلت: هذا الإسناد، كما هو في «مسند إسحاق بن راهويه»، على شرط مسلم، وهو في غاية الصحة إلى الحسن، ولكن مراسيل الحسن معروفة بالضعف والسقوط. والمعنى يشبه رواية ابن زنجويه، غير أن المعترض ها هنا عائشة، وليس أبو بكر. وهذا أبعد عن منطوق الحديث الصحيح حيث تقول عائشة: (فلوا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً)، ولا ذكر ها هنا أنها حاضرة في شيء من الائتمار والمشاورة، أو أنها أعلمت الحاضرين ببعض مسموعاتها عن النبي، صلي الله عليه وعلى آله وسلم، ولكنها فقط ذكرت القرار النهائي، ودوافعه حسب معتقدها.
وجاءت روايات ضعيفة تزعم أنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، قال: ««ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض»، أونحو ذلك، ومنها:
v ما جاء في «سنن ابن ماجه»: [حدثنا نصر بن علي الجهضمي أنبأنا وهب بن جرير حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة عن بن عباس قال لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوا إلى أبي عبيدة بن الجراح وكان يضرح كضريح أهل مكة وبعثوا إلى أبي طلحة وكان هو الذي يحفر لأهل المدينة وكان يلحد فبعثوا إليهما رسولين فقالوا اللهم خر لرسولك فوجدوا أبا طلحة فجيء به ولم يوجد أبو عبيدة فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال فلما فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا يصلون عليه حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء حتى إذا فرغوا أدخلوا الصبيان ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد. لقد اختلف المسلمون في المكان الذي يحفر له، فقال قائلون: (يدفن في مسجده)، وقال قائلون: (يدفن مع أصحابه)، فقال أبو بكر: (إني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض»)، قال فرفعوا فراش رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي توفي عليه فحفروا له ثم دفن صلى الله عليه وسلم وسط الليل من ليلة الأربعاء ونزل في حفرته علي بن أبي طالب والفضل بن العباس وقثم أخوه وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أوس بن خولى وهو أبو ليلى لعلي بن أبي طالب أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له علي انزل وكان شقران مولاه أخذ قطيفة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها فدفنها في القبر وقال والله لا يلبسها أحد بعدك أبدا فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم]، وقال الألباني: (ضعيف، لكن قصة الشقاق واللحد ثابتة)، قلت: أصاب الألباني ها هنا لأن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ضعيف متروك، متفق على ضعفه.
v وجاء في «مسند أبي يعلى»: [حدثنا جعفر بن مهران السباك حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي عن محمد بن إسحاق قال حدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة عن بن عباس بنحوه إلى قوله (ليلة الأربعاء)]، وآفة هذا الإسناد هي حسين بن عبد الله المذكور آنفاً.
v وجاد في «سنن الترمذي»: [حدثنا أبو كريب حدثنا أبو معاوية عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبي مليكة عن عائشة قالت لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ما نسيته قال: «ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه»، ادفنوه في موضع فراشه]، وقال الإمام أبو عيسى الترمذي: (هذا حديث غريب، وعبد الرحمن بن أبي بكر المليكي يضعف من حفظه، وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه فرواه بن عباس عن أبي بكر الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا)، قلت: أصاب الإمام الترمذي لأن عبد الرحمن بن أبي بكر ضعيف، لا شك في ضعفه، ومع ذلك قال الألباني: (صحيح)، فلا أدري علي أي أساس صححه؟! فلعله للحديث السابق، ولكن الطريقين المستقلتين إنما تبين أن له أصلاً صحيحاً، أما ما هو الأصل فليس ببين من الطريقين لضعفهما، ولكن سنعرفه قريباً إن شاء الله!
ولكن الحجة القاطعة هي:
v في ما جاء في «السنن الكبرى» للإمام النسائي: [أنبأ قتيبة بن سعيد قال حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن سلمة بن نبيط عن نعيم عن نبيط عن سالم بن عبيد قال، وكان من أصحاب الصفة، قال أغمي على النبي، صلى الله عليه وسلم، في مرضه فأفاق فقال: «أحضرت الصلاة؟!»، قالوا: (نعم )، قال: «مروا بلال فليؤذن ومروا أبا بكر فليصل بالناس»، ثم أغمي عليه فأفاق فقال: «أحضرت الصلاة؟!»، فقلن: (نعم)، فقال: «مروا بلالا فليؤذن، ومروا أبا بكر فليصل بالناس!»، قالت عائشة: (إن أبي رجل أسيف!)، فقال: «إنكن صواحبات يوسف: مروا بلالا فليؤذن، ومروا أبا بكر فليصل بالناس!»، فأمرن بلالا أن يؤذن، وأمرن أبا بكر أن يصلي بالناس، فلما أقيمت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيمت الصلاة؟!»، قلن: (نعم)، قال: «ادعوا لي إنسانا أعتمد عليه»، فجاءت بريرة وآخر معها فاعتمد عليها، فجاء أبو بكر فصلى، فجلس إلى جنبه فذهب أبو بكر يتأخر، فحبسه حتى فرغ من الصلاة. فلما توفي النبي، صلى الله عليه وسلم، قال عمر: (لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا!)، فسكتوا، وكانوا قوما أميين، لم يكن فيهم نبي قبله، قالوا: (يا سالم: اذهب إلى صاحب النبي، صلى الله عليه وسلم، فادعه!)، قال: فخرجت فوجدت أبا بكر قائما في المسجد، قال أبو بكر: (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!)، قلت: إن عمر يقول: (لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا!)، فوضع يده على ساعدي، ثم أقبل يمشي ،حتى دخل، قال فوسعوا له، حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأكب عليه حتى كاد أن يمس وجهه وجه النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى استبان له أنه قد مات فقال أبو بكر: (إنك ميت وإنهم ميتون)، قالوا: (يا صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أمات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!)، قال: (نعم)، قال فعلموا أنه كما قال قالوا: (يا صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: هل يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم؟!)، قال: (نعم)، قالوا: (وكيف يصلى عليه؟!)، قال: (يدخل قوم فيكبرون، ويدعون، ويجيء آخرون!)، قالوا: (يا صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: هل يدفن النبي صلى الله عليه وسلم؟!)، قال: (نعم)، قالوا: (وأين يدفن؟!)، قال: (في المكان التي قبض الله فيها روحه فإنه لم يقبض روحه إلا في مكان طيبة)، قال فعلموا أنه كما قال، ثم قال أبو بكر: (عندكم صاحبكم!)، وخرج أبو بكر واجتمع المهاجرون فجعلوا يتشاورون بينهم ثم قالوا: (انطلقو إلى إخواننا من الأنصار، فإن لهم من هذا الحق نصيبا!)، فأتوا الأنصار فقال الأنصار: (منا أمير، ومنكم أمير!)، فقال عمر: (سيفان في غمد واحد؟! إذا لا يصلحان!)، ثم أخذ بيد أبي بكر فقال: (من له هذه الثلاث: إذ يقول لصاحبه من صاحبه؟! إذ هما في الغار من هما؟! لا تحزن إن الله معنا مع من؟!)، ثم بايعه، ثم قال: (بايعوا!)، فبايع الناس أحسن بيعة وأجملها]
هذا إسناد في غاية الصحة، وهو متصل مجود، كما برهنا عليه في الملحق، والمتن هو أتم المتون أو من أتمها، لذا أخترنا هذه الرواية وقدمناها علي غيرها.
v وجاء في «المعجم الكبير»: [حدثنا معاذ بن المثنى حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود حدثنا سلمة بن نبيط عن نعيم بن أبي هند عن نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد به بنحوه مع اختلاف طفيف في الألفاظ كما هو بطوله في الملحق]، وهذا إسناد في غاية الصحة أيضاً.
v وجاء في «مسند عبد بن حميد»: [حدثني محمد بن الفضل حدثنا عبد الله بن داود قال ذكر سلمة بن نبيط عن نعيم بن أبي هند عن نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد به بنحوه مع اختلاف طفيف في الألفاظ كما هو بطوله في الملحق]، وهذا إسناد في غاية الصحة، وهو متصل مجود أيضاً.
v وهو في «الآحاد والمثاني»: [قال أبو عمرو نصر بن علي الحداني أخبرنا عبد الله بن داود قال سلمة بن نبيط أخبرنا عن نعيم بن أبي هند عن نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد، رضي الله تعالى عنه، بنحوه مع اختلاف طفيف في الألفاظ كما هو بطوله في الملحق]، وهذا إسناد في غاية الصحة، وهو متصل مجود أيضاً.
v وأخرج الإمام ابن ماجه صدر رواية «الآحاد والمثاني»، فقال: [حدثنا نصر بن علي الجهضمي أنبأنا عبد الله بن داود من كتابه في بيته قال سلمة بن نبيط أنبأنا عن نعيم بن أبي هند عن نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد به إلى قوله: ثم إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبض].
v وجاء بعضه في «سنن البيهقي الكبرى» من طريق ثالثة إلي سلمة بن نبيط: [أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي حدثنا يونس بن بكير عن سلمة بن نبيط عن أبيه نبيط بن شريط الأشجعي عن سالم بن عبيد، وكان من أصحاب الصفة، قال: دخل أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين مات، ثم خرج، فقيل له: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!)، فقال: (نعم)، فعلموا أنه كما قال قيل: (ويصلى عليه، وكيف يصلى عليه؟!)، قال: (يجيئون عصبا عصبا فيصلون)، فعلموا أنه كما قال، فقالوا: (هل يدفن، وأين؟!)، فقال: (حيث قبض الله روحه فإنه لم يقبض الله روحه إلا في مكان طيب!)، فعلموا أنه كما قال]
v وجاء بعضه في «سنن البيهقي الكبرى» من طريق رابعة إلي سلمة بن نبيط: [أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنبأ أبو أحمد حمزة بن العباس بن الفضل بن الحارث العقبي حدثنا عبد الله بن روح المدايني حدثنا سوادة بن سلمة بن نبيط عن أبيه سلمة بن نبيط عن نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد الأشجعي قال لما مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان من أجزع الناس كلهم عليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فذكر الحديث إلى أن قال فقالوا يعني لأبي بكر رضي الله تعالى عنه يا صاحب رسول الله أمات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من يغسله قال رجال أهل بيته الأدنى فالأدنى قالوا يا صاحب رسول الله فأين تدفنه قال ادفنوه في البقعة التي قبضه الله فيها لم يقبضه إلا في أحب البقاع إليه]
هذه الروايات الصحيحة تحسم الموضوع وتبين أن دفنه في منزله كان باجتهاد من أبي بكر بأن يدفن (في المكان التي قبض الله فيها روحه، فإنه لم يقبض روحه إلا في مكان طيبة). وسالم بن عبيد، رضي الله عنه، وهو من أهل الصفة، كان شاهد عيان للواقعة، وحكى جوهر أحداثها. فمن المعقول جداً أن يكون هناك حوار ومشاورة بين الصحابة في شتى نواحي الموضوع. ومن المستبعد جداً أن لا يكونوا قد تشاوروا في موضوع مكان الدفن، حتى حسم أبو بكر الموضوع بمقالته آنفة الذكر. وبلغ بعض الكلام إلى أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، فظنت أنهم لم يبرزوا قبره فقط خشية أن يتخذ مسجداً، وغابت عنها الاعتبارات الأخرى. وبلغت مقولة أبي بكر بعض ضعفاء الرواة فظن أن لها أصلاً مرفوعاً إلى النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فورد من قبلهم اللفظ: «ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض»، وما شاكله.
فدفن نبي الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، في بيته كان في المقام الأول لاعتقاد أبي بكر أنها أطيب بقاع الأرض، وأولاها بأن تضم الجسد الطاهر النبيل، لأن روحه الشريفة قبضت فيها، وربما كانت هناك اعتبارات ثانوية أخرى، مثل:
(1) خافوا أن يبرزوه في البقيع، أو غيره، فيتخذه الجهلة مسجداً،
(2) خافوا أن يبرزوه في البقيع، أو غيره، فيعوذ به من لله عليه حق، فيقع المسلمون في حرج شديد،
(3) فكروا بدفنه في المسجد، ولكنهم ذكروا بالنهي عن ذلك،
(4) فكروا في دفنه في المحراب، ولكن خشوا أن يظهر كأنه وثن يعبد، وربما عبد فعلاً مع تطاول الأزمنة،
وقد يكون التشاور شمل غير هذا، والله أعلم وأحكم.
كتاب التوحيد (أصل الإسلام وحقيقة التوحيد)
باب حرمة اتخاذ القبور مساجد
أ.د: محمد بن عبد الله المسعري
u فصل: لم دفن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في بيته؟!
المشهور علي ألسنة طلبة العلم أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إنما دفن في بيته، لأن الصحابة إنما تخوفوا أن يتخذ الجهال قبره مسجداَ:
v كما أخرجه البخاري بإسانيد صحاح، في غاية الصحة، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال في مرضه الذي مات فيه: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، قالت: (ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أني أخشى أن يتخذ مسجداً)، وأخرج مثله مسلم، وأبو عوانة، وأحمد، والسراج في «مسنده». وجاءت روايات لتعقيب عائشة بلفظ: (فلوا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً).
ولكن ليس في تعقيب عائشة، رضي الله عنها، ذكر أنها كانت حاضرة في شيء من الائتمار والمشاورة حول دفن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكنها فقط ذكرت القرار النهائي الذي اتخذه الصحابة، ودوافعهم حسب معتقدها، وسيأتي تفصيل ذلك قريباً.
وعقب الألباني في كتيبه المسمَّى: «تحذير الساجد» قائلاً: [ومثل قول عائشة هذا ما روي عن أبيها رضي الله عنهما، فأخرج ابن زنجويه عن عمر مولى غفرة قال: لما ائتمروا في دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قائل: ندفنه حيث كان يصلي في مقامه! وقال أبو بكر: معاذ الله أن نجعله وثناً يعبد، وقال الآخرون: ندفنه في البقيع حيث دفن إخوانه المهاجرون، قال أبو بكر: إنا نكره أن يخرج قبر رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى البقيع، فيعوذ به من الناس لله عليه حق، وحق الله فوق حق رسول الله، فإن أخرجناه (الأصل: أخرناه) ضيعنا حق الله، وإن أخفرناه(!) أخفرنا قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قالوا: فما ترى أنت يا أبا بكر؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما قبض الله نبياً قط إلا دفن حيث قبض روحه»، قالوا: فأنت والله رضي مقنع، ثم خطوا حول الفراش خطاً، ثم احتمله علي والعباس وأهله ووقع القوم في الحفر يحفرون حيث كان الفراش]،
هذا هو نص الألباني بعينه، بما في ذلك علامات التنقيط، والظاهر منه أن الألباني لم يفهم النص، فاستبدل لفظة: (أخرناه) التي كانت في الأصل، بلفظة: (أخرجناه)، ظناً منه أن نذلك يجعل المعنى مستقيماً، فلم يوفق، بل الواجب هو استبدالها بلفظة: (أجرناه)، وبذلك تزول علامة التعجب التي كتبها الألباني بعد لفظة أخفرناه، كما أن هناك سقط في جملة: (فيعوذ به من الناس لله عليه حق)، والواجب أن تكون: (فيعوذ به من الناس «من» لله عليه حق):
v فنص رواية عمر مولى غفرة ينبغي أن يكون: [لما ائتمروا في دفن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال قائل: (ندفنه حيث كان يصلي في مقامه!)، وقال أبو بكر: (معاذ الله أن نجعله وثناً يعبد)، وقال الآخرون: (ندفنه في البقيع حيث دفن إخوانه المهاجرون)، قال أبو بكر: (إنا نكره أن يخرج قبر رسول الله، صلي الله عليه وسلم، إلى البقيع، فيعوذ به من الناس من لله عليه حق، وحق الله فوق حق رسول الله، فإن أجرناه، ضيعنا حق الله، وإن أخفرناه، أخفرنا قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم)، قالوا: (فما ترى أنت يا أبا بكر؟)، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «ما قبض الله نبياً قط إلا دفن حيث قبض روحه»)، قالوا: (فأنت والله رضي مقنع)، ثم خطوا حول الفراش خطاً، ثم احتمله علي والعباس وأهله، ووقع القوم في الحفر، يحفرون حيث كان الفراش].
ولكن هذا منقطع، لا تقوم به الحجة أصلاً، مع كون عمر مولى غفرة ضعيف كالمتفق على ضعفه لكثرة إرساله، فليس هو في ذاته بالساقط، ولا هو بالحافظ الحجة أيضاً. وبعض المتن مع هذا مخالف لصحاح الروايات. ولكن العجب هو من قول الألباني: (ومثل قول عائشة هذا ما روي عن أبيها)، فأين قول عائشة: (فلوا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً)، من القول المنسوب إلى أبيها: (إنا نكره أن يخرج قبر رسول الله، صلي الله عليه وسلم، إلى البقيع، فيعوذ به من الناس من لله عليه حق، وحق الله فوق حق رسول الله، فإن أجرناه، ضيعنا حق الله، وإن أخفرناه، أخفرنا قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم)، وهل بين القولين أدنى مشابهة؟! وليس هناك خوف من أن يتخذ مسجداً، وإنما هي الخشية أن يعوذ به من عليه حد أو حق لله، فيقع المسلمون في الحرج. ثم كان القرار النهائي بناءً على القول المنسوب إلى النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما قبض الله نبياً قط إلا دفن حيث قبض روحه»، وهذا أيضاً خلاف ما ظنته عائشة، رضي الله عنها، الدافع الرئيس لدفنه في بيته.
v وسبق ذكر قول الألباني في كتيبه المسمَّى: «تحذير الساجد»: [عن أمهات المؤمنين أن أصحاب رسول الله، صلي الله عليه وسلم، قالوا: كيف نبني قبر رسول الله، صلي الله عليه وسلم؟! أنجعله مسجداً؟! فقال أبو بكر الصديق: سمعت رسول الله، صلي الله عليه وسلم، يقول: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد] ، ثم همَّش قائلاً: [رواه ابن زنجويه في «فضائل الصديق» كما في «الجامع الكبير» (3/147/1)]، ولم يتكلم الألباني عن الإسناد، ولا عقب بتصحيح أو تضعيف. وليس فيه إلا أنهم فكروا أولاً في جعله مسجداً، وليس فيه ذكر إبراز القبر، أو دفنه في بيته.
v وجاء في «مسند إسحاق بن راهويه»: [أخبرنا وهب بن جرير أخبرنا أبي قال سمعت الحسن يقول كان المسلمون اختلفوا في دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يدفن فقالت طائفة منهم يدفن في البقيع حيث اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لولده وللمسلمين، قال فقالوا أتبرزون قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما أحدث أحد حدثا عاذ به، قال وقال طائفة ندفنه في المسجد فقالت عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غشي عليه فلما أفاق قال قاتل الله أقواما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فعرفوا أن ذلك نهيا منه، فقالوا يدفن حيث اختار الله أن يقبض روحه فيه فحفر له في بيت عائشة]،
v وأخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى»، (ج: 2 ص: 241): [أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء قال أخبرنا عوف عن الحسن بنحوه مختصراً]
قلت: هذا الإسناد، كما هو في «مسند إسحاق بن راهويه»، على شرط مسلم، وهو في غاية الصحة إلى الحسن، ولكن مراسيل الحسن معروفة بالضعف والسقوط. والمعنى يشبه رواية ابن زنجويه، غير أن المعترض ها هنا عائشة، وليس أبو بكر. وهذا أبعد عن منطوق الحديث الصحيح حيث تقول عائشة: (فلوا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً)، ولا ذكر ها هنا أنها حاضرة في شيء من الائتمار والمشاورة، أو أنها أعلمت الحاضرين ببعض مسموعاتها عن النبي، صلي الله عليه وعلى آله وسلم، ولكنها فقط ذكرت القرار النهائي، ودوافعه حسب معتقدها.
وجاءت روايات ضعيفة تزعم أنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، قال: ««ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض»، أونحو ذلك، ومنها:
v ما جاء في «سنن ابن ماجه»: [حدثنا نصر بن علي الجهضمي أنبأنا وهب بن جرير حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة عن بن عباس قال لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوا إلى أبي عبيدة بن الجراح وكان يضرح كضريح أهل مكة وبعثوا إلى أبي طلحة وكان هو الذي يحفر لأهل المدينة وكان يلحد فبعثوا إليهما رسولين فقالوا اللهم خر لرسولك فوجدوا أبا طلحة فجيء به ولم يوجد أبو عبيدة فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال فلما فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا يصلون عليه حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء حتى إذا فرغوا أدخلوا الصبيان ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد. لقد اختلف المسلمون في المكان الذي يحفر له، فقال قائلون: (يدفن في مسجده)، وقال قائلون: (يدفن مع أصحابه)، فقال أبو بكر: (إني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض»)، قال فرفعوا فراش رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي توفي عليه فحفروا له ثم دفن صلى الله عليه وسلم وسط الليل من ليلة الأربعاء ونزل في حفرته علي بن أبي طالب والفضل بن العباس وقثم أخوه وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أوس بن خولى وهو أبو ليلى لعلي بن أبي طالب أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له علي انزل وكان شقران مولاه أخذ قطيفة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها فدفنها في القبر وقال والله لا يلبسها أحد بعدك أبدا فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم]، وقال الألباني: (ضعيف، لكن قصة الشقاق واللحد ثابتة)، قلت: أصاب الألباني ها هنا لأن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ضعيف متروك، متفق على ضعفه.
v وجاء في «مسند أبي يعلى»: [حدثنا جعفر بن مهران السباك حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي عن محمد بن إسحاق قال حدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة عن بن عباس بنحوه إلى قوله (ليلة الأربعاء)]، وآفة هذا الإسناد هي حسين بن عبد الله المذكور آنفاً.
v وجاد في «سنن الترمذي»: [حدثنا أبو كريب حدثنا أبو معاوية عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبي مليكة عن عائشة قالت لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ما نسيته قال: «ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه»، ادفنوه في موضع فراشه]، وقال الإمام أبو عيسى الترمذي: (هذا حديث غريب، وعبد الرحمن بن أبي بكر المليكي يضعف من حفظه، وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه فرواه بن عباس عن أبي بكر الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا)، قلت: أصاب الإمام الترمذي لأن عبد الرحمن بن أبي بكر ضعيف، لا شك في ضعفه، ومع ذلك قال الألباني: (صحيح)، فلا أدري علي أي أساس صححه؟! فلعله للحديث السابق، ولكن الطريقين المستقلتين إنما تبين أن له أصلاً صحيحاً، أما ما هو الأصل فليس ببين من الطريقين لضعفهما، ولكن سنعرفه قريباً إن شاء الله!
ولكن الحجة القاطعة هي:
v في ما جاء في «السنن الكبرى» للإمام النسائي: [أنبأ قتيبة بن سعيد قال حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن سلمة بن نبيط عن نعيم عن نبيط عن سالم بن عبيد قال، وكان من أصحاب الصفة، قال أغمي على النبي، صلى الله عليه وسلم، في مرضه فأفاق فقال: «أحضرت الصلاة؟!»، قالوا: (نعم )، قال: «مروا بلال فليؤذن ومروا أبا بكر فليصل بالناس»، ثم أغمي عليه فأفاق فقال: «أحضرت الصلاة؟!»، فقلن: (نعم)، فقال: «مروا بلالا فليؤذن، ومروا أبا بكر فليصل بالناس!»، قالت عائشة: (إن أبي رجل أسيف!)، فقال: «إنكن صواحبات يوسف: مروا بلالا فليؤذن، ومروا أبا بكر فليصل بالناس!»، فأمرن بلالا أن يؤذن، وأمرن أبا بكر أن يصلي بالناس، فلما أقيمت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيمت الصلاة؟!»، قلن: (نعم)، قال: «ادعوا لي إنسانا أعتمد عليه»، فجاءت بريرة وآخر معها فاعتمد عليها، فجاء أبو بكر فصلى، فجلس إلى جنبه فذهب أبو بكر يتأخر، فحبسه حتى فرغ من الصلاة. فلما توفي النبي، صلى الله عليه وسلم، قال عمر: (لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا!)، فسكتوا، وكانوا قوما أميين، لم يكن فيهم نبي قبله، قالوا: (يا سالم: اذهب إلى صاحب النبي، صلى الله عليه وسلم، فادعه!)، قال: فخرجت فوجدت أبا بكر قائما في المسجد، قال أبو بكر: (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!)، قلت: إن عمر يقول: (لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا!)، فوضع يده على ساعدي، ثم أقبل يمشي ،حتى دخل، قال فوسعوا له، حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأكب عليه حتى كاد أن يمس وجهه وجه النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى استبان له أنه قد مات فقال أبو بكر: (إنك ميت وإنهم ميتون)، قالوا: (يا صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أمات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!)، قال: (نعم)، قال فعلموا أنه كما قال قالوا: (يا صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: هل يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم؟!)، قال: (نعم)، قالوا: (وكيف يصلى عليه؟!)، قال: (يدخل قوم فيكبرون، ويدعون، ويجيء آخرون!)، قالوا: (يا صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: هل يدفن النبي صلى الله عليه وسلم؟!)، قال: (نعم)، قالوا: (وأين يدفن؟!)، قال: (في المكان التي قبض الله فيها روحه فإنه لم يقبض روحه إلا في مكان طيبة)، قال فعلموا أنه كما قال، ثم قال أبو بكر: (عندكم صاحبكم!)، وخرج أبو بكر واجتمع المهاجرون فجعلوا يتشاورون بينهم ثم قالوا: (انطلقو إلى إخواننا من الأنصار، فإن لهم من هذا الحق نصيبا!)، فأتوا الأنصار فقال الأنصار: (منا أمير، ومنكم أمير!)، فقال عمر: (سيفان في غمد واحد؟! إذا لا يصلحان!)، ثم أخذ بيد أبي بكر فقال: (من له هذه الثلاث: إذ يقول لصاحبه من صاحبه؟! إذ هما في الغار من هما؟! لا تحزن إن الله معنا مع من؟!)، ثم بايعه، ثم قال: (بايعوا!)، فبايع الناس أحسن بيعة وأجملها]
هذا إسناد في غاية الصحة، وهو متصل مجود، كما برهنا عليه في الملحق، والمتن هو أتم المتون أو من أتمها، لذا أخترنا هذه الرواية وقدمناها علي غيرها.
v وجاء في «المعجم الكبير»: [حدثنا معاذ بن المثنى حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود حدثنا سلمة بن نبيط عن نعيم بن أبي هند عن نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد به بنحوه مع اختلاف طفيف في الألفاظ كما هو بطوله في الملحق]، وهذا إسناد في غاية الصحة أيضاً.
v وجاء في «مسند عبد بن حميد»: [حدثني محمد بن الفضل حدثنا عبد الله بن داود قال ذكر سلمة بن نبيط عن نعيم بن أبي هند عن نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد به بنحوه مع اختلاف طفيف في الألفاظ كما هو بطوله في الملحق]، وهذا إسناد في غاية الصحة، وهو متصل مجود أيضاً.
v وهو في «الآحاد والمثاني»: [قال أبو عمرو نصر بن علي الحداني أخبرنا عبد الله بن داود قال سلمة بن نبيط أخبرنا عن نعيم بن أبي هند عن نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد، رضي الله تعالى عنه، بنحوه مع اختلاف طفيف في الألفاظ كما هو بطوله في الملحق]، وهذا إسناد في غاية الصحة، وهو متصل مجود أيضاً.
v وأخرج الإمام ابن ماجه صدر رواية «الآحاد والمثاني»، فقال: [حدثنا نصر بن علي الجهضمي أنبأنا عبد الله بن داود من كتابه في بيته قال سلمة بن نبيط أنبأنا عن نعيم بن أبي هند عن نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد به إلى قوله: ثم إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبض].
v وجاء بعضه في «سنن البيهقي الكبرى» من طريق ثالثة إلي سلمة بن نبيط: [أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي حدثنا يونس بن بكير عن سلمة بن نبيط عن أبيه نبيط بن شريط الأشجعي عن سالم بن عبيد، وكان من أصحاب الصفة، قال: دخل أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين مات، ثم خرج، فقيل له: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!)، فقال: (نعم)، فعلموا أنه كما قال قيل: (ويصلى عليه، وكيف يصلى عليه؟!)، قال: (يجيئون عصبا عصبا فيصلون)، فعلموا أنه كما قال، فقالوا: (هل يدفن، وأين؟!)، فقال: (حيث قبض الله روحه فإنه لم يقبض الله روحه إلا في مكان طيب!)، فعلموا أنه كما قال]
v وجاء بعضه في «سنن البيهقي الكبرى» من طريق رابعة إلي سلمة بن نبيط: [أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنبأ أبو أحمد حمزة بن العباس بن الفضل بن الحارث العقبي حدثنا عبد الله بن روح المدايني حدثنا سوادة بن سلمة بن نبيط عن أبيه سلمة بن نبيط عن نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد الأشجعي قال لما مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان من أجزع الناس كلهم عليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فذكر الحديث إلى أن قال فقالوا يعني لأبي بكر رضي الله تعالى عنه يا صاحب رسول الله أمات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من يغسله قال رجال أهل بيته الأدنى فالأدنى قالوا يا صاحب رسول الله فأين تدفنه قال ادفنوه في البقعة التي قبضه الله فيها لم يقبضه إلا في أحب البقاع إليه]
هذه الروايات الصحيحة تحسم الموضوع وتبين أن دفنه في منزله كان باجتهاد من أبي بكر بأن يدفن (في المكان التي قبض الله فيها روحه، فإنه لم يقبض روحه إلا في مكان طيبة). وسالم بن عبيد، رضي الله عنه، وهو من أهل الصفة، كان شاهد عيان للواقعة، وحكى جوهر أحداثها. فمن المعقول جداً أن يكون هناك حوار ومشاورة بين الصحابة في شتى نواحي الموضوع. ومن المستبعد جداً أن لا يكونوا قد تشاوروا في موضوع مكان الدفن، حتى حسم أبو بكر الموضوع بمقالته آنفة الذكر. وبلغ بعض الكلام إلى أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، فظنت أنهم لم يبرزوا قبره فقط خشية أن يتخذ مسجداً، وغابت عنها الاعتبارات الأخرى. وبلغت مقولة أبي بكر بعض ضعفاء الرواة فظن أن لها أصلاً مرفوعاً إلى النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فورد من قبلهم اللفظ: «ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض»، وما شاكله.
فدفن نبي الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، في بيته كان في المقام الأول لاعتقاد أبي بكر أنها أطيب بقاع الأرض، وأولاها بأن تضم الجسد الطاهر النبيل، لأن روحه الشريفة قبضت فيها، وربما كانت هناك اعتبارات ثانوية أخرى، مثل:
(1) خافوا أن يبرزوه في البقيع، أو غيره، فيتخذه الجهلة مسجداً،
(2) خافوا أن يبرزوه في البقيع، أو غيره، فيعوذ به من لله عليه حق، فيقع المسلمون في حرج شديد،
(3) فكروا بدفنه في المسجد، ولكنهم ذكروا بالنهي عن ذلك،
(4) فكروا في دفنه في المحراب، ولكن خشوا أن يظهر كأنه وثن يعبد، وربما عبد فعلاً مع تطاول الأزمنة،
وقد يكون التشاور شمل غير هذا، والله أعلم وأحكم.
كتاب التوحيد (أصل الإسلام وحقيقة التوحيد)
باب حرمة اتخاذ القبور مساجد
أ.د: محمد بن عبد الله المسعري
تعليق